الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84130 / تحميل: 7581
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ثالثها: الخضوع للمخلوق والتذلل له بأمر من اللّه و إرشاده، كما في الخضوع للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لاَوصيائه الطاهرين عليهم السَّلام بل الخضوع لكلّموَمن ، أو كلّما له إضافة إلى اللّه توجب له المنزلة و الحرمة، كالمسجد الحرام، و القرآن والحجر الاَسود وما سواها من الشعائر الاِلهية. و هذا القسم من الخضوع محبوب للّه فقد قال تعالى:( فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُوَْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرينَ ) (المائدة|٥٤).

بل هو لدى الحقيقة خضوع للّه، و إظهار للعبودية له فمن اعتقد بالوحدانية الخالصة للّه، و اعتقد أنّ الاِحياء والاِماتة والخلق والرزق والقبض والبسط والمغفرة و العقوبة كلّها بيده، ثمّاعتقد بأنّالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أوصياءه الكرام عليهم السَّلام( عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَولِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (الاَنبياء|٢٦ـ٢٧) فعظّمهم و خضع لهم ، تجليلاً لشأنهم و تعظيماً لمقامهم، لم يخرج بذلك عن حدّالاِيمان، ولم يعبد غير اللّه.

ولقد علم كلّمسلم أنّرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقبّل الحجر الاَسود، و يستلمه بيده إجلالاً لشأنه و تعظيماًلاَمره.(١)

السوَال الرابع : دواعي العبادة للّه سبحانه

العبادة فعل اختياري للاِنسان لابدّ لصدوره من الاِنسان من داعٍ وباعثٍ فما هو الداعي الصحيح لها؟

الجواب: العبادة فعل اختياري للاِنسان لابدّ من وجود داع إليه و يمكن أن يكون الباعث أحد الاَُمور الثلاثة التالية:

١و٢ـ الطمع في إنعامه و الخوف من عقابه

وهذا هو الداعي العام في غالب الناس وقد أُشير إليهما في مجموعة منالآيات:

قال سبحانه:( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبُّهُمْ خَوفاً وَطَمعاً ) (السجدة|١٦) وقال عزّمن قائل:( وَادْعُوهُ خَوفاً وَطَمعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنينَ ) (الاَعراف|٥٦).

____________

(١) السيد الخوئي: البيان: ٤٦٨ـ ٤٦٩.

٦١

وقال عزّ من قائل:( أُولئِك الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً ) (الاِسراء|٥٧).

ومع هذه النصوص الرائعة الصريحة في تجويز عبادة اللّه بهذين الداعيين، نرى أنّ بعض المتكلّمين يرفضون هذا النوع من الداعي، و يُصرّون على لزوم خلوص العبادة من أيّ داع نفساني من غير فرق بين الطمع في رحمته، أو الخوف من ناره و يبطلون العبادة إذا كانت ناشئة عن هذين المبدئين.

لا شكّ أنّ العبادة لاَجل كمال المعبود وجماله من أفضل العبادات، و لكنّها غاية لا يصل إليها إلاّ من ارتاض في ميدان العبادة حتى ينسى نفسه ولا يرى إلاّمعبوده، و أين تلك الاَُمنية من متناول أغلبية الناس الذين تهمهم أنفسهم لاغير، و إن أطاعوه فلاَجل الخوف.

وإليك حديثين رائعين عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام :

قال أمير الموَمنينعليه‌السلام : إنّقوماً عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار، و إنّ قوماً عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد، و إنّ قوماً عبدوا اللّه شكراً فتلك عبادة الاَحرار.(١)

وقال الاِمام الصادقعليه‌السلام : العبادة ثلاثة، قوم عبدوا اللّه عزّو جلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا اللّه تبارك و تعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاَُجراء، و قوم عبدوا اللّه عزّ وجلّ حبّاً له فتلك عبادة الاَحرار، وهي أفضل العبادة.(٢)

٣ـ كونه سبحانه أهلاً للعبادة

أن يعبد اللّه بما أنّه أهل لاَن يُعبد، لكونه جامعاً لصفات الكمال و الجمال، و هذا النوع من الداعي يختص بالمخلصين من عباده الّذين لا يرون لاَنفسهم إنّية، و لا لذواتهم أمام خالقهم شخصية، إندكت أنفسهم في ذات اللّه فلا ينظرون إلى شيء إلاّ و يرون اللّه قبله و معه و بعده، فهم المخلَصون الّذين لا يطمع الشيطان في إغوائهم قال سبحانه حاكياً عن إبليس:( وَ لاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (الحجر|١٩ـ٤٠) قال سيد الموحدين عليعليه‌السلام :«ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك و لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتُك.(٣)

____________

(١) نهج البلاغة، قسم الحكم برقم ٢٣٧.

(٢) الحر العاملي: وسائل الشيعة ج١|٤٤، ب ٨ من أبواب المقدمة ، الحديث ٨.

(٣) المجلسي: مرآة العقول ، ج٨، ص٨٩: باب النيّة.

٦٢

خاتمة المطاف

الفوضى في التطبيق بين الاِمام و المأموم

لقد ترك الاِهمال في تفسير العبادة تفسيراً منطقياً، فوضى كبيرة في مقام التطبيق بين الاِمام و المأموم فنرى أنّإمام الحنابلة أحمد بن حنبل (١٦٤ـ ٢٤١هـ) صدر عن فطرة سليمة في تفسير العبادة ، وأفتى بجواز مسِّ منبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتبرّك به و بقبره و تقبيلهما عند ما سأله ولده عبد اللّه بن أحمد، و قال: سألته عن الرجل يمسُّ منبرَ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يتبرّك بمسِّه، و يُقَبّله، ويفعل بالقبر مثل ذلك، يريد بذلك التقرّب إلى اللّه عزّ وجلّ؟ فقال: «لا بأس بذلك».(١)

هذه هي فتوى الاِمام ـ الذي يفتخر بمنهجه أحمد بن تيمية، وبعده محمّد بن عبد الوهاب ـ و لم ير بأساً بذلك، لما عرفت من أنّ العبادة ليست مجرّد الخضوع، فلا يكون مجرّد التوجّه إلى الاَجسام و الجمادات عبادة، بل هي عبارة عن الخضوع نحو الشيء، باعتبار أنّه إله أو ربّ، أو بيده مصير الخاضع في عاجله و آجله، وأمّا مسّ المنبر أو القبر و تقبيلهما لغاية التكريم و التعظيم لنبيّ التوحيد، فلايوصف بالعبادة و لايتجاوز التبرّك به في المقام عن تبرّك يعقوب بقميص ابنه يوسف، و لم يخطر بخلد أحد من المسلمين إلى اليوم الذي جاء فيه ابن تيمية بالبدع الجديدة، أنّها عبادة لصاحب القميص و المنبر و القبر أو لنفس تلك الاَشياء.

و لمّا كانت فتوى الاِمام ثقيلة على محقّق الكتاب، أو من علق عليه لاَنّها تتناقض مع ما عليه الوهابية و تبطل أحلام ابن تيمية، و من لفَّ لفَّه، حاول ذلك الكاتب أن يوفّق بين جواب الاِمام و ما عليه الوهابية في العصر الحاضر، فقال: «أمّا مسّمنبر النبيّ فقد أثبت الاِمام ابن تيمية في الجواب الباهر (ص ٤١) فعله عن ابن عمر دون غيره من الصحابة، روى أبوبكر بن أبي شيبة في المصنف (٤|١٢١) عن زيد بن الحباب قال: حدّثني أبو مودود قال: حدّثني يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال: رأيت نفراً من أصحاب النبيّإذا خلا لهم المسجد قاموا إلى زمانة المنبر القرعاء فمسحوها، ودعوا قال: و رأيت يزيد يفعل ذلك.

____________

(١) أحمد بن حنبل، العلل و معرفة الرجال ٢: ٤٩٢، برقم :٣٢٤٣، تحقيق الدكتور وصي اللّه عباس، ط بيروت ١٤٠٨.

٦٣

وهذا لما كان منبره الذي لامس جسمه الشريف، أمّا الآن بعد ما تغيّر لايقال بمشروعية مسحه تبركاً به».

ويلاحظ على هذا الكلام: بعد وجود التناقض بين ما نقل عن ابن تيمية من تخصيص المسّ بمنبر النبيّبابن عمر، و ما نقله عن المصنف لابن أبي شيبة من مسح نفر من أصحاب النبيّ زمانة المنبر:

أوّلاً: لو كان جواز المسّ مختصّاً بالمنبر الذي لامسه جسم النبي الشريف دون ما لم يلامسه كان على الاِمام المفتي أن يذكر القيدَ، ولا يُطلق كلامَه، حتى ولو افترضنا أنّالمنبر الموجود في المسجد النبوي في عصره كان نفسَ المنبر الذي لامسَه جسمُ النبيّ الاَكرم، و هذا لا يغيب عن ذهن المفتي، إذ لو كان تقبيل أحد المنبرين نفس التوحيد، و تقبيل المنبر الآخر عينَ الشرك، لما جاز للمفتي أن يُغفل التقسيم و التصنيف.

وثانياً: أنّ ما يفسده هذا التحليل أكثر ممّا يصلحه، وذلك لاَنّ معناه أنّلجسمه الشريف تأثيراً على المنبر و من تبرّك به، و هذا يناقض التوحيد الربوبي من أنّه لا موَثّر في الكون إلاّاللّه سبحانه، فكيف يعترف الوهابي بأنّ لجمسه الشريف في الجسم الجامد تأثيراً و أنّه يجوز للمسلمين أن يتبرّكوا به عبر القرون.

ثمّ إنّ المعلّق استثنى مسح قبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتبرك به، ومنعهما و قال في وجهه:

«وأمّا جواز مسّ قبر النبيّ و التبرّك به فهذا القول غريب جدّاً لم أر أحداً نقله عن الاِمام، وقال ابن تيمية في الجواب الباهر لزوار المقابر (ص ٣١): اتّفق الاَئمّة على أنّه لا يمسّ قبر النبيّ و لا يقبله، وهذا كلّه محافظة على التوحيد، فإنّ من أُصول الشرك باللّه اتّخاذ القبور مساجد».(١)

لكن يلاحظ عليه: كيف يقول: لم أجد أحداً نقله عن الاِمام، أو ليس ولده أبو عبد اللّه راويةَ أبيه و وعاء علمه و هو يروي هذه الفتوى و ثقة عند الحنابلة.

____________

(١) تعليقة المحقّق، نفس الصفحة.

٦٤

وأمّا التفريق بين مسّ المنبر والقبر بجعل الاَوّل نفس التوحيد، و الثاني أساس الشرك، فمن غرائب الاَُمور، لاَنّ الاَمرين يشتركان في التوجّه إلى غير اللّه سبحانه، فلو كان هذا محور الشرك، فالموضوعان سيّان، و إن فرّق بينهما بأنّ الماسّ، ينتفع بالاَوّل دون الثاني لعدم مسّ جسده بالثاني فلازمه كون الاَوّل نافعاً والثاني أمراً باطلاً دون أن يكون شركاً على أنّ تجويز الاَوّل يرجع إلى القول بأنّ لبدنه تأثيراً فيما يقصد لاَجله التبرّك و هو عين الشرك عند القوم فما هذا التناقض في المنهج يا ترى. و لو رجع المحقّق إلى الصحاح و المسانيد وكتب السيرة والتاريخ، لوقف على أنّ التبرّك بالقبر و مسّه، كان أمراً رائجاً بين المسلمين في عصر الصحابة و التابعين، و لاَجل إيقاف القارىَ على صحّة ما نقول نذكر نموذجين من ذلك:

١ـ إنّ فاطمة الزهراءعليها‌السلام سيدة نساء العالمين بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حضرت عند قبر أبيها و أخذت قبضة من تراب القبر تشمّه و تبكي و تقول:

ما ذا على من شـمّتربة أحمد

ألاّيشـمّ مدى الزمان غوالـياً

صُبَّتْ عليَّ مصـائب لو أنّها

صُبَّتْ على الاَيّام صِرنَ ليالياً (١)

إنّ هذا التصرّف من السيدة الزهراء المعصومةعليها‌السلام يدل على جواز التبرّك بقبر رسول اللّه و تربته الطاهرة.

٢ـ إنّ بلالاً ـ موَّذّن رسول اللّه ـ أقام في الشام في عهد عمر بن الخطاب فرأى في منامه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو يقول: «ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آنَ لك أن تزورني يا بلال؟».

فانتبه حزيناً وَجِلاً خائفاً، فركب راحلته و قصد المدينة فأتى قبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يبكي عنده و يمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن و الحسينعليهما‌السلام فجعل يضمّهما و يقبّلهما... إلى آخر الخبر.(٢)

____________

(١) لقد ذكر هذه القضية جمع كثير من الموَرخين، منهم السمهودي في وفاء الوفا ٢:٤٤٤ ـ و الخالدي في صلح الاخوان: ٥٧، و غيرهما.

(٢) ابن ا لاَثير : أُسد الغابة١: ٢٨، و غيره من المصادر.

٦٥

والحقّ انّ الاِختلاف بين السلف الصالح، و الخلف!! غير مختص بهذا المورد بل هناك موارد كان السلف يراها نفس التوحيد، و يراها الوهابيون عين الشرك و إن كنت في شكّ فلاحظ ما يلي:

١ـ قال ابن حبّان : «في شأن الاِمام عليّ بن موسى الرضا عليمها السَّلام : «قد زرته مراراً ، و ماحلّت بي شدّة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات اللّه على جدّه و عليه، و دعوت اللّه ازالتها عني إلاّ استجيب و زالت عني تلك الشدة، و هذا شيء جرّبته مراراً فوجدته كذلك.(١)

٢ـ نقل ابن حجر العسقلاني عن الحاكم النيسابوري أنّه قال: «سمعت أبا بكر محمد بن الموَمل بن الحسن بن عيسى يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة، وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاكمتوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام بطوس قال: فرأيت من تعظيمه يعني ابن خزيمة لتلك البقعة تواضعه لها و تضرعه عندها ما تحيرنا». (٢)

٣ـ وقال أحمد بن يحيى ألونشريسى المتوفى بفاس عام٩١٤ في كتابه القيم: «المعيار المعرب» سئل سيدي قاسم العقباني عمّن جرت عادته بزيارة قبر الصالحين فيدعو هناك و يتوسل بالنبيّعليه‌السلام وبغيره من الاَنبياء صلوات اللّه على جميعهم، و يتوسل بالاَولياء والصالحين و يتوسل بفضل ذلك الولي الّذي يكون عند قبره على التعيين، فهل يسوغ له هذا و يتوسل إلى اللّه في حوائجه بالولي على التعيين؟ وهل يجوز التوسل بعمّ نبيّنا أم لا؟

____________

(١) ابن حبان: كتاب الثقات، ج٨، ص ٤٥٧.

(٢) ابن حجر: تهذيب التهذيب، ج٧| ٣٨٨.

٦٦

فأجاب يجوز التوسل إلى مولانا العظيم الكريم بأحبائه من النبيين و الصديقين والشهداء والصالحين. وقد توسل عمر بالعباس رضي اللّه عنهما، و كان ذلك بمشهد عظيم من الصحابة والتابعين، و قَبِلَ مولانا وسيلتهم و قضى حاجتهم و سقاهم. ومازال هذا يتكرر في الّذين يُقتدى بهم فلا ينكرونه، وما زالت تظهر العجائب في هذه التوسلات بهوَلاء السادات نفعنا اللّه بهم و أفاض علينا من بركاتهم. و ورد في بعض الاَخبار انّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علّم بعض الناس الدعاء فقال في أوّله قل: اللّهمّ انّي أُقسم عليك بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة. فقال الاِمام الاَوحد عزّ الدين بن عبد السّلام: هذا الخبر إن صحّ يحتمل أن يكون مقصوراً على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانّه سيّد ولد آدم، ولا يُقسم على اللّه تعالى بغيره من الاَنبياء والملائكة والاَولياء، لانّهم ليسوا في درجته ، وأن يكون هذا إنّما خصّ به نبيّنا على علوّ درجته و مرتبته انتهى.(١)

ترى انّ السلف الصالح يتلقى هذه الاَُمور، بفطرتهم السليمة أُموراً مشروعة، غيرمخالفة للتوحيد، بينما الوهابيين يدّعون انّهذه الاَُمور، تنافي التوحيد و تقارن الشرك، من دون أن يقيموا دليلاً على مخالفتها للتوحيد، إلاّ الاعتماد على أقوال ابن تيمية و آرائه مكان الاعتماد على الكتاب والسنّة و سيرة السلف الصالح، فهم مقلده أقوال الرجال، و قدسيطرت على عقولهم، مكان استنطاق الذكر الحكيم والسنة النبوية.

غيري جنى وأنا المعاقب فيكم

أنّ موقف الكاتب أبي الاَعلى المودودي من الوهابية موقف الدعم والتأييد و قد صب نزعاته في كتابه «المصطلحات الاَربعة» فقد ألف ذلك الكتاب لغاية دعم المبادىَ الوهابية تحت غطاء تفسير المصطلحات الاَربعة و مع ذلك كلّه فقد صدرت منه عن «لاوعى» كلمة حق لو كان سائراً على ضوئها لاصاب الحقيقة قال: «و صفوة القول أنّ التصور الذي لاَجله يدعو الاِنسان الاِله و يستغيثه و يتضرع إليه هو لا جرم تصور كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعية و للقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة».

____________

(١) المعيار المعرب عن فتاوى علماء افريقية والاَندلس والمغرب، ج١|٣١٧ـ ٣٢٢.

٦٧

هذا كلامه و هو تعبير عن عقائد الوثنيين الذين لايصدرون في توسلاتهم و استغاثاتهم إلاّ عن هذا المبدء و أين ذلك من توسل المسلمين الذي يتوسلون بالنبي و آله ، لاَجل أنّهم عباد صالحون« لا يعصون اللّه في ما أمرهم و هم بأمره يعملون» فالحافز على التوسل والاستغاثة ليس إلاّذلك لا انّهم أصحاب السلطة على قوانين الطبيعة مع الاعتراف بانّهم عباد لا يملكون لاَنفسهم موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

تصور خاطىَ:

انّ الكاتب مع أنّه نطق بالحقّ و الحقّ ينطق به المنصف والعنود، أراد اضفاء الشرك على التوسلات الدارجة بين المسلمين فذكر انّ السبب لها ليس إلاّاعتقاد المتوسل أنّللنبي مثلاً نوعاً من أنواع السلطة على نظام هذا العالم.

وكذلك من يخاف أحداً يرى انّ سخطه يجرّ عليه الضرر و مرضاته تجلب له المنفعة فلا يكون مصدر اعتقاده ذلك و عمله إلاّما يكون في ذهنه من تصوّر أنّ له نوعاً من السلطة على هذا الكون فلا يبعثه عليه إلاّاعتقاده فيه انّ له شركاً في ناحية من نواحي السلطة الاَُلوهية.(١)

أنّ ما ذكره من مبدأ التوسل و انّه الاعتقاد بأنّ للمتوسل به نوعاً من السلطة على هذا الكون، إنّما ينطبق على توسل المشركين بأصنامهم و أوثانهم فقد كانو معتقدين بمالكيتها لبعض الشوَون الاِلهية و لا أقلّسلطنتها على الغفران والشفاعة النافذة و أين ذلك من توسل المسلمين بأحباء اللّه بما انّهم عباده الصالحون لو دَعوا لاجيبوا بتفضل منه سبحانه لا الزاماً و ايجابا ـ والدليل على ذلك انّه سبحانه دعى في غير واحدة من الآيات إلى التوسل بالنّبي فقال سبحانه:( وَ لَو اَنّهم إذْ ظَلَموا أنفُسَهم جاوَُكَ فَاسْتغفَروا اللّهَ وَ اسْتَغفَرَ لَهُمُ الرَّسُول لَوَجَدوا اللّهَ تَواباً رَحِيماً ) (النساء|٦٤) حتى انّه سبحانه ذمّ المنافقين لاَجل اعراضهم عن النبي و عدم طلبهم استغفاره قال سبحانه:( وإذا قِيل لَهُمْ تَعالَوا يَسْتَغفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّه لَووا رُوَسهم وَ رأيتَهُمْ يَسُدّونَ و هُم مُسْتكبِرون ) (المنافقون|٥).

____________

(١) المودودي: المصطلحات الاَربعة|١٨ـ١٩.

٦٨

و من يتوسل من المسلمين بعد رحيل نبيهم الاَكرم فإنّما يتوسل بنفس ذلك الملاك الموجود في زمن حياته لا بملاك انّه مسيطر على العالم، و اختصاص الآية ـ على زعمهم ـ بحياة النبيّ لا يضر بالاستدلال، لانّالهدف هو انّالداعي للتوسل في كلتا الفترتين أمر و احد سواء اختصت الآية بفترة الحياة أم لا.

انّ الكاتب المودودي أخذ البرىء بجرم المعتدى فنسب عقيدة الوثنيّين إلى المسلمين و جعل الدعوتين من باب واحد و صادرتين من منشأ فارد و ليس هذا إلاّ قضاءً بالباطل و لا تزر وازرة وزر أُخرى.

الفصل الرابع : في حصر الاستعانة في اللّه

إنّ التوسل بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إن كان استعانة به لكنّه لاينافي حصر الاِستعانة باللّه تبارك وتعالى وذلك أنّ المسلمين في أقطار العالم يَحصرون الاستعانة في اللّه سبحانه و مع ذلك يستعينون بالاَسباب العادية، جرياً على القاعدة السائدة بين العقلاء، ولا يرونه مخالفاً للحصر، كما أنّ المتوسّلين بأرواح الاَنبياء يستعينون بهم في مشاهدهم و مزاراتهم ولايرونه معارضاً لحصر الاستعانة باللّه سبحانه، و ذلك لاَنّ الاستعانة بغير اللّه يمكن أن تتحقق بصورتين:

١ـ أن نستعين بعامل ـ سواء أكان طبيعياً أم غير طبيعي ـ مع الاعتقاد بأنّ عمله مستند إلى اللّه، بمعنى أنه قادر على أن يعين العباد و يزيل مشاكلهم بقدرته المكتسبة من اللّه و إذنه.

وهذا النوع من الاستعانة ـ في الحقيقة ـ لا ينفك في الواقع عن الاستعانة باللّه ذاته، لاَنّه ينطوي على الاعتراف بأنّه هو الذي منح تلك العوامل، ذلك الاَثر، وأذن لها، و إن شاء سلبها وجرّدها منه.

فإذا استعان الزارع بعوامل طبيعية كالشمس و الماء وحرث الاَرض، فقد استعان باللّه ـ في الحقيقة ـ لاَنّه تعالى هو الّذي منح هذه العوامل: القدرة على إنماء ما أودع في بطن الاَرض من بذر و من ثمّ إنباته و الوصول به إلى حدّ الكمال.

٢ـ أن يستعين بإنسان حىّ او ميّت أو عامل طبيعي مع الاعتقاد بأنّه مستقلّفي وجوده، أو في فعله عن اللّه، فلا شكّ أنّ ذلك الاعتقاد شرك و الاستعانة به عبادة.

٦٩

فإذا استعان زارع بالعوامل المذكورة و هو يعتقد بأنّها مستقلّة في تأثيرها أو أنّها مستقلّة في وجودها ومادتها كما في فعلها وقدرتها، فالاعتقاد شرك والطلب عبادة للمستعان به.

وبذلك يظهر أنّ الاستعانة المنحصرة في اللّه المنصوص عليها في قوله تعالى:"و إيّاكَ نَسْتَعينُ" هي الاستعانة بالمعونة المستقلّة النابعة من ذات المستعان به، غير المتوقّفة على شيء، فهذا هو المنحصر في اللّه تعالى، وأمّا الاستعانة بالاِنسان الذي لا يقوم بشيء إلاّ بحول اللّه و قوّته و إذنه و مشيئته، فهي غير منحصرة باللّه سبحانه، بل إنّ الحياة قائمة على هذا الاَساس ، فإنّالحياة البشرية مليئة بالاستعانة بالاَسباب التي توَثّر و تعمل بإذن اللّه تعالى.

وعلى ذلك لا مانع من حصر الاستعانة في اللّه سبحانه بمعنى، و تجويز الاِستعانة بغيره بمعنى آخر و كم له نظير في الكتاب العزيز.

و لاِيقاف القارىَ على هذه الحقيقة نلفت نظره إلى آيات تحصر جملة من الاَفعال الكونية في اللّه تارة، مع أنّها تنسب نفس الاَفعال في آيات أُخرى إلى غير اللّه أيضاً، و ما هذا إلاّ لعدم التنافي بين النسبتين لاختلاف نوعيّتهما فهي محصورة في اللّه سبحانه مع قيد الاستقلال، و تنسب إلى غير اللّه مع قيد التبعية و العرضية.

الآيات التي تنسب الظواهر الكونية إلى اللّه و إلى غيره:

١ـ يقول سبحانه:( و إذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (الشعراء|٨٠). بينما يقول سبحانه فيه (أي في العسل):( شِفاءٌ لِلنّاسِ ) (النحل|٦٩).

٢ـ يقول سبحانه:( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزّاقُ ) (الذاريات|٥٨) بينما يقول تعالى:( وَارْزُقُ وهُمْ فِيها ) (النساء|٥).

٣ـ يقول سبحانه:( ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ ) (الواقعة|٦٤). بينما يقول سبحانه:( يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغيظَ بِهِمُ الكُفّارَ ) (الفتح|٢٩).

٤ـ يقول تعالى:( وَ اللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ ) (النساء|٨١). بينما يقول سبحانه:( بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (الزخرف|٨٠).

٥ـ يقول تعالى:( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الاََمْرَ ) (يونس|٣). بينما يقول سبحانه:( فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً ) (النازعات|٥).

٧٠

٦ـ يقول سبحانه:( اللّهُ يَتَوفَّى الاََنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) (الزمر|٤٢). بينما يقول تعالى:( الَّذِينَ تَتَوفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبينَ ) (النحل|٣٢).

إلى غير ذلك من الآيات التي تنسب الظواهر الكونية تارة إلى اللّه تعالى، و أخرى إلى غيره.

والحل أن يقال: إنّالمحصور باللّه تعالى هو انتساب هذه الاَُمور على نحو الاستقلال، وأمّا المنسوب إلى غيره فهو على نحو التبعية، و بإذنه تعالى، ولا تعارض بين النسبتين ولا بين الاعتقاد بكليهما.

فمن اعتقد بأنّ هذه الظواهر الكونية مستندة إلى غير اللّه على وجه التبعية لا الاستقلال لم يكن مخطئاً ولا مشركاً، و كذا من استعان بالنبيّ أو الاِمام على هذا الوجه.

هذا مضافاً إلى أنّه تعالى الّذي يعلّمنا أن نستعين به فنقول:( إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعينُ ) و يحثُّنا في آية أُخرى على الاستعانة بالصبر والصلاة فيقول:( وَاسْتَعِينُوا بالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (البقرة|٤٥) و ليس الصبر والصلاة إلاّ فعل الاِنسان نفسه.

حصيلة البحث:

إنّ الآيات الواردة حول الاستعانة على صنفين:

الصنف الاَوّل: يحصر الاستعانة في اللّه فقط و يعتبره الناصر والمعين الوحيد دون سواه.

والصنف الثاني: يدعونا إلى سلسلة من الاَُمور المعيّنة (غير اللّه) و يعتبرها ناصرة و معينة، إلى جانب اللّه.

أقول: اتّضح من البيان السابق وجه الجمع بين هذين النوعين من الآيات، و تبيّن أنّه لا تعارض بين الصنفين مطلقاً، إلاّ أنّفريقاًنجدهم يتمسّكون بالصنف الاَوّل من الآيات فيخطِّئون أيّ نوع من الاستعانة بغير اللّه، ثم يضطرّون إلى إخراج (الاستعانة بالقدرة الاِنسانية و الاَسباب المادية) من عموم تلك الآيات الحاصرة للاستعانة باللّه بنحو التخصيص ، بمعنى أنّهم يقولون:

إنّ الاستعانة لا تجوز إلاّباللّه في الموارد التي أذن اللّه بها، وأجاز أن يستعان فيها بغيره، فتكون الاستعانة بالقدرة الاِنسانية والعوامل الطبيعية ـ مع أنّها استعانة بغير اللّه ـ جائزة و مشروعة على وجه التخصيص. و لكن هذا ممّا لايرتضيه الموحّد.

في حين أنّ هدف الآيات هو غير هذا تماماً، فإنّ مجموع الآيات يدعو إلى أمر واحد و هو : عدم جواز الاستعانة بغير اللّه مطلقاً، وأنّ الاستعانة بالعوامل الاَُخرى يجب أن تكون بنحو لا يتنافى مع حصر الاستعانة في اللّه بل تكون بحيث تعدّ استعانة باللّه لا استعانة بغيره.

٧١

وبتعبير آخر: إنّالآيات تريد أن تقول بأنّالمعين و الناصر الوحيد والذي يستمدّ منه كلّمعين و ناصر، قدرته و تأثيره، ليس إلاّاللّه سبحانه، و لكنّه ـ مع ذلك ـ أقام هذا الكون على سلسلة من الاَسباب و العلل التي تعمل بقدرته و أمر باستمداد الفرع من الاَصل، و لذلك تكون الاستعانة به كالاستعانة باللّه، ذلك لاَنّ الاستعانة بالفرع استعانة بالاَصل.

و إليك فيما يلي إشارة إلى بعض الآيات من الصنفين:

( وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزيزِ الْحَكيمِ ) (آل عمران|١٢٦).

( إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعينُ ) (الحمد|٥).

( وَ مَا النَّصْرُ إِلاّمِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكيمٌ ) (الاَنفال|١٠).

هذه الآيات نماذج من الصنف الاَوّل و إليك فيما يأتي نماذج من النصف الآخر الذي يدعونا إلى الاستعانة بغير اللّه من العوامل والاَسباب.

( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (البقرة|٤٥).

( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (المائدة|٢).

( ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعينُونِي بِقُوَّةٍ ) (الكهف|٩٥).

( وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ) (الاَنفال|٧٢).

و مفتاح حلّالتعارض بين هذين الصنفين من الآيات هو ما ذكرناه وملخّصه:

إنّ في الكون موَثراً تاماً، و مستقلاً واحداً، غير معتمد على غيره لا في وجوده و لا في فعله و هو اللّه سبحانه:

وأمّا العوامل الاَُخر فجميعها مفتقرة ـ في وجودها وفعلها ـ إليه و هي توَدي ما توَدي بإذنه و مشيئته و قدرته، ولو لم يعط سبحانه تلك العوامل ما أعطاها من القدرة و لم تجر مشيئته على الاستعانة بها لما، كانت لها أيّة قدرة على شيء.

٧٢

فالمعين الحقيقي في كلّالمراحل ـ على هذا النحو تماماً ـ هو اللّه فلا يمكن الاستعانة بأحد باعتباره معيناً مستقلاً. و لهذه الجهة حصر هنا الاستعانة في اللّه وحده، و لكن هذا لا يمنع بتاتاً من الاستعانة بغير اللّه باعتباره غير مستقلّ (أي باعتباره معيناً بالاعتماد على القدرة الاِلهية) و معلوم أنّ استعانة ـ كهذه ـ لا تنافي حصر الاستعانة في اللّه سبحانه لسببين:

أوّلاً: لاَنّ الاستعانة المخصوصة باللّه هي غير الاستعانة بالعوامل الاَُخرى، فالاستعانة المخصوصة باللّه هي: (ما تكون باعتقاد أنّه قادر على إعانتنا بالذات، و بدون الاعتماد على غيره، في حين أنّ الاستعانة بغير اللّه سبحانه على نحو آخر، أي مع الاعتقاد بأنّالمستعان قادر على الاِعانة مستنداً على القدرة الاِلهية، لا بالذات، و بنحو الاستقلال، فإذا كانت الاستعانة ـ على النحو الاَوّل ـ خاصّة باللّه تعالى فإنّ ذلك لا يدل على أنّالاستعانة بصورتها الثانية مخصوصة به أيضاً.

ثانياً: إنّاستعانة ـ كهذه ـ غير منفكّة عن الاستعانة باللّه بل هي عين الاستعانة به تعالى ، و ليس في نظر الموحّد (الذي يرى أنّ الكون كلّه مستند إليه و الكلّ قائم به) مناص من هذا.

وأخيراً نذكّر القارىَ الكريم بأنّموَلّف المنار حيث إنّه لم يتصوّر للاستعانة بالاَرواح إلاّصورة واحدة لذلك اعتبرها ملازمة للشرك فقال:

«ومن هنا تعلمون: إنّالذين يستعينون بأصحاب الاَضرحة و القبور على قضاء حوائجهم و تيسير أُمورهم و شفاء أمراضهم ونماء حرثهم و زرعهم، وهلاك أعدائهم وغير ذلك من المصالح هم عن صراط التوحيد ناكبون، و عن ذكر اللّه معرضون».(١)

يلاحظ عليه: بأنّ الاستعانة بغير اللّه (كالاستعانة بالعوامل الطبيعية) على صورتين:

إحداهما عين التوحيد، و الاَُخرى موجبة للشرك، إحداهما مذكّرة باللّه، و الاَُخرى مبعدة عن اللّه.

إنّ حدّ التوحيد والشرك ليس هو كون الاَسباب ظاهرية أو غير ظاهرية و إنّما هو استقلال المعين وعدم استقلاله، و بعبارة أُخرى المقياس، هو الغنى والفقر، و الاَصالة وعدم الاَصالة.

____________

(١) المنار ١:٥٩.

٧٣

إنّ الاستعانة بالعوامل غير المستقلّة المستندة إلى اللّه، التي لا تعمل و لاتوَثر إلاّبإذنه تعالى غير موجبة للغفلة عن اللّه، بل هي خير موجّه إلى اللّه، ومذكّربه، إذ معناها : انقطاع كلّالاَسباب وانتهاء كلّالعلل إليه.

و مع هذا كيف يقول صاحب المنار: «أُولئك عن ذكر اللّه معرضون» و لو كان هذا النوع من الاستعانة موجباً لنسيان اللّه والغفلة عنه للزم أن تكون الاستعانة بالاَسباب المادية الطبيعية هي أيضاً موجبة للغفلة عنه.

على أنّالاَعجب من ذلك رأي شيخ الاَزهر الشيخ محمود شلتوت الذي نقل ـ في هذا المجال ـ نصّكلمات عبده دون زيادة و نقصان، و ختم المسألة بذلك، وأخذ بالحصر في "إِيّاكَ نَسْتَعين " غافلاً عن حقيقة الآية و عن الآيات الاَُخرى المتعرّضة لمسألة الاستعانة.(١)

إجابة على سوَال

إذا كانت الاستعانة بالغير على النحو الذي بيّناه جائزة فهي تستلزم نداء أولياء اللّه و الاستغاثة بهم في الشدائد و المكاره، وهي غير جائزة و ذلك لاَنّ نداء غير اللّه في المصائب و الحوائج تشريك الغير مع اللّه، يقول سبحانه:( وَ أَنَّ الْمَساجِدَ للّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) (الجن|١٨) و يقول تعالى:( وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) (الاَعراف|١٩٧) و يقول عزّمن قائل :( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) (فاطر|١٣). إلى غير ذلك من الآيات التي تخص الدعاء باللّه و لاتسيغ دعوة غيره.

____________

(١) راجع تفسير شلتوت: ٣٦ـ٣٩.

٧٤

و قد طرح هذا السوَال الشيخ الصنعاني حيث قال: وقد سمّى اللّه الدعاء عبادة بقوله:( أُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي ) (غافر|٦٠)فمن هتف باسم نبيّ أو صالح بشيء فقد دعا النبي و الصالح، و الدعاء عبادة بل مخّها فقد عبد غير اللّه و صار مشركاً.(١)

الجواب:

إنّ النقطة الحاسمة في الموضوع تكمن في تفسير الدعاء وهل أنّ كلّ دعاء عبادة و النسبة بينهما هي التساوي؟ حتى يصح لنا أن نقول كلّ دعاء عبادة، وكلّ عبادة دعاء، أو أنّ الدعاء أعمّ من العبادة و أنّقسماً من الدعاء عبادة و قسماًمنه ليس كذلك؟ و الكتاب العزيز يوافق الثاني لا الاَوّل، وإليك التوضيح:

لقد استعمل القرآن لفظ الدعاء في مواضع عديدة ولا يصحّ وضع لفظ العبادة مكانه، يقول سبحانه حاكياً عن نوح:( رَبِّ إِنِّي دَعَوتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً ) (نوح|٥) وقال سبحانه حاكياً عن لسان إبليس في خطابه للمذنبين يوم القيامة:( وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّأَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) (إبراهيم|٢٢) إلى غيرهما من الآيات التي ورد فيها لفظ الدعاء، أفيصح القول بأنّنوحاً دعا قومه أي عبدهم، أو أنّ الشيطان دعا المذنبين أي عبدهم؟ كلّذلك يحفزنا إلى أن نقف في تفسير الدعاء وقفة تمعّن حتى نميّز الدعاء الذي هو عبادة عمّا ليس كذلك.

والاِمعان فيما تقدّم في تفسير العبادة يميِّز بين القسمين فلو كان الداعي و المستعين بالغير معتقداً بأُلوهية المستعان ولو أُلوهية صغيرة كان دعاوَه عبادة و لاَجل ذلك كان دعاء عبدة الاَصنام عبادة لاعتقادهم بأُلوهيتها، قال سبحانه:( فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الّتي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ ) (هود|١٠١).

____________

(١) الصنعاني، تنزيه الاعتقاد كما في كشف الارتياب:٢٨٤.

٧٥

و ما ورد من الآيات في السوَال كلّها من هذا القبيل فانّها وردت في حقّ المشركين القائلين بأُلوهية أصنامهم و أوثانهم باعتقاد استقلالهم في التصرف والشفاعة و تفويض الاَُمور إليهم و لو في بعض الشوَون. ففي هذا المجال يعود كلّدعاء عبادة، و يفسر الدعاء في الآيات الماضية والتالية بالعبادة، قال تعالى:

( إِنَّ الّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ) (الاَعراف|١٩٤).( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْويلاً * أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) (الاِسراء|٥٦ـ ٥٧).( وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لايَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ ) (يونس|١٠٦). "إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ) (فاطر|١٤). و ما ورد في الاَثر من أنّ الدعاء مُخّ العبادة، أُريد منه دعاء اللّه أو دعاء الآلهة لا مطلق الدعاء و إن كان المدعوّ غير إله لا حقيقة أو اعتقاداً.

وفي روايات أئمّة أهل البيت إلماع إلى ذلك، يقول الاِمام زين العابدين في ضمن دعائه:«...فسمّيت دعاءك عبادة و تركه استكباراً و توعّدت على تركه دخول جهنّم داخرين» (١) و هو يشير في كلامه هذا إلى قوله سبحانه:( وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الّذينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ ) (غافر٦٠)

هذا هو الدعاء المساوي للعبادة و هناك قسم آخر منه لا صلة بينه و بين العبادة و هو فيما إذا دعا شخصاًبما أنّه إنسان وعبد من عباد اللّه غير أنّه قادر على إنجاز طلبه بإقدار منه تعالى و إذن منه، فليس مثل هذه الدعوة عبادة بل سنّة من السنن الاِلهية في الكون، هذا هو ذو القرنين يواجه قوماً مضطهدين يطلبون منه أن يجعل بينهم و بين يأجوج و مأجوج سداً فعند ذلك يخاطبهم ذو القرنين بقوله:( ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعينُوني بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً ) (الكهف|٩٥) وها هو الذي كان من شيعة موسى يستغيث به ، يقول سبحانه:( فَاسْتَغاثَهُ الّذي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (القصص|١٥)

____________

(١) الصحيفة السجادية، دعاوَه برقم ٤٥.

٧٦

و هذا هو النبيّ الاَكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو قومه للذبّ عن الاِسلام في غزوة أُحد و قد تولّوا عنه، قال سبحانه:( إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخراكُمْ ) (آل عمران|١٥٣) فهذا النوع من الدعاء قامت عليه الحياة البشرية، فليس هو عبادة و إنّما هو توسل بالاَسباب، فإن كان السبب قادراًعلى إنجاز المطلوب كان الدعاء أمراً عقلائياًو إلاّ يكون لغواً وعبثاً.

ثمّ إنّ القائلين بأنّ دعاء الصالحين عبادة، عند مواجهتهم لهذا القسم من الآيات و ما تقتضيه الحياة الاجتماعية، يتشبثون بكلّطحلب حتى ينجيهم من الغرق و يقولون إنّ هذه الآيات تعود إلى الاَحياء و لا صلة لها بدعاء الاَموات، فكون القسم الاَوّل جائزاً و أنّه غير عبادة؛ لا يلازم جواز القسم الثاني و كونه غير عبادة.

ولكن عزب عن هوَلاء إنّ الحياة و الموت ليسا حدين للتوحيد و الشرك و لا ملاكين لهما، بل هما حدّان لكون الدعاء مفيداًأو لا، و بتعبير آخر ملاكان للجدوائية و عدمها.

فلو كان الصالح المدعو غير قادر لاَجل موته مثلاً تكون الدعوة أمراً غير مفيد لا عبادة له، و من الغريب أن يكون طلب شيء من الحيّ نفس التوحيد و من الميت نفس الشرك.

كلّ ذلك يوقفنا على أنّ القوم لم يدرسوا ملاكات التوحيد و الشرك بل لم يدرسوا الآيات الواردة في النهي عن دعاء غيره، فأخذوا بحرفية الآيات من دون تدبّر مع أنّه سبحانه يقول:( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الاََلْباب ) (ص ٢٩).

ثمّ إنّ الكلام في أنّدعاء الصالحين بعد انتقالهم إلى رحمة اللّه مفيد أو لا، يتطلب مجالاً آخراً و سوف نستوفي الكلام عنه في رسالة خاصة حول وجود الصلة بين الحياتين : المادّية و البرزخيّة بإذن منه سبحانه.

جعفر السبحاني

تحريراً في ٢٧ صفر المظفر ١٤١٦هـ

٧٧

الفهرست

الفصل الاَوّل : الاِله في اللغة و القرآن الكريم. ٤

الاِله في اللغة ٤

مفهوم الاِله في القرآن. ٨

الفصل الثاني : الربّ في اللغة و الذكر الحكيم. ١١

خاتمة المطاف.. ٢٠

الاَُولى: التوحيد في الذات.. ٢٠

الثانية: التوحيد في الخالقية ٢١

الثالثة: التوحيد في الربوبية و التدبير. ٢٢

الرابعة: التوحيد في التشريع و التقنين. ٢٢

الخامسة: التوحيد في الطاعة ٢٤

السادسة: التوحيد في الحاكمية ٢٤

السابعة: التوحيد في العبادة ٢٥

الفصل الثالث : في تحديد مفهوم العبادة ٢٦

العبادة في المعاجم و التفاسير. ٢٧

توجيه غير سديد. ٣٢

١ـ نظرية صاحب المنار في تفسير العبادة ٣٢

٢ـ نظرية الشيخ شلتوت، زعيم الاَزهر ٣٣

٣ـ تعريف ابن تيمية ٣٣

عبادة ٣٤

عقيدة المشركين في آلهتهم. ٣٦

حكم التاريخ في عقيدة المشركين. ٣٦

يقول الآلوسي عند البحث عن عبادة الشمس: ٣٨

قضاء الكتاب في عقيدة المشركين. ٣٩

٧٨

التعريف المنطقي لمفهوم العبادة ٤٢

الاَوّل: التمعن في عبادة الموحّدين و المشركين. ٤٣

الثانية: الاِمعان في الآيات الداعية إلى عبادة اللّه، الناهية عن عبادة الغير. ٤٤

التعاريف الثلاثة للعبادة ٤٧

ثمرات البحث.. ٤٧

١ـ التوسل بالاَنبياء والاَولياء في قضاء الحوائج. ٤٨

٢ـ طلب الشفاعة من الصالحين. ٤٨

٣ـ التعظيم لاَولياء اللّه و قبورهم و تخليد ذكرياتهم. ٤٩

٤ـ الاستعانة بالاَولياء: ٤٩

أسئلة و أجوبة ٥٠

السوَال الاَوّل : هل هناك من يفسّر العبادة على غرار ما مضى؟ ٥٠

السوَال الثاني : ما هوالمراد من العبادة في هذه الآيات؟ ٥٧

السوَال الثالث : ما هو حكم إطاعة غير اللّه و الخضوع له ؟ ٥٩

السوَال الرابع : دواعي العبادة للّه سبحانه ٦١

١و٢ـ الطمع في إنعامه و الخوف من عقابه ٦١

٣ـ كونه سبحانه أهلاً للعبادة ٦٢

الفوضى في التطبيق بين الاِمام و المأموم ٦٣

غيري جنى وأنا المعاقب فيكم. ٦٧

الفصل الرابع : في حصر الاستعانة في اللّه ٦٩

الآيات التي تنسب الظواهر الكونية إلى اللّه و إلى غيره: ٧٠

إنّ الآيات الواردة حول الاستعانة على صنفين: ٧١

إجابة على سوَال. ٧٤

٧٩

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

مُدْخَلًا كَرِيماً ) النساء: ٣١، و قد تكلّمنا في معنى الكبائر في ذيل الآية في الجزء الرابع من هذا الكتاب.

و على هذا المعنى جرى كلامه تعالى في قوله:( وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) النور: ٥.

و نظير الآية السابقة الشارطة للعدالة قوله تعالى:( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ) البقرة: ٢٨٢ فإنّ الرضا المأخوذ في الآية هو الرضا من المجتمع الدينيّ، و من المعلوم أنّ المجتمع الدينيّ بما هو دينيّ لا يرضى أحداً إلّا إذا كان على نوع من السلوك يوثق به في أمر الدين.

و هذا هو الّذي نسمّيه في فنّ الفقه بملكة العدالة و هي غير ملكة العدالة بحسب اصطلاح فنّ الأخلاق فإنّ العدالة الفقهيّة هي الهيئة النفسانيّة الرادعة عن ارتكاب الكبائر بحسب النظر العرفيّ و الّتي في فنّ الأخلاق هي الملكة الراسخة بحسب الحقيقة.

و الّذي استفدناه من معنى العدالة هو الّذي يستفاد من مذهب أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام على ما ورد من طرقهم:

ففي الفقيه، بإسناده عن ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتّى تقبل شهادته لهم و عليهم؟ فقال: أن تعرفوه(١) بالستر و العفاف و كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان، و يعرف باجتناب الكبائر الّتي أوعد الله تعالى عليها النار من شرب الخمر و الزنا و الربا و عقوق الوالدين و الفرار من الزحف و غير ذلك.

و الدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه حتّى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه، و يجب عليهم تزكيته و إظهار عدالته بين الناس، و يكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ و حفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين و أن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلّاهم إلّا من علّة.

فإذا كان كذلك لازماً لمصلّاه عند حضور الصلوات الخمس فإذا سئل عنه في

____________________

(١) أن يعرفوه خ‏

٢٢١

قبيلته و محلّته قالوا: ما رأينا منه إلّا خيراً، مواظباً على الصلوات، متعاهداً لأوقاتها في مصلّاه فإنّ ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين و ذلك أنّ الصلاة ستر و كفّارة للذنوب، و ليس يمكن الشهادة على الرجل بأنّه يصلّي إذا كان لا يحضر مصلّاه و لا يتعاهد جماعة المسلمين.

و إنّما جعل الجماعة و الاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلّي ممّن لا يصلّي و من يحفظ مواقيت الصلاة ممّن يضيع، و لو لا ذلك لم يكن لأحد أن يشهد على آخر بصلاح لأنّ من لا يصلّي لا صلاح له بين المسلمين فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم همّ بأن يحرق قوماً في منازلهم بتركهم الحضور لجماعة المسلمين و قد كان منهم من يصلّي في بيته فلم يقبل منه ذلك فكيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممّن جرى الحكم من الله عزّوجلّ و من رسوله فيه الحرق في جوف بيته بالنار؟ وقد كان يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد مع المسلمين إلّا من علّة.

أقول: و رواه في التهذيب، مع زيادة تركناها، و الستر و العفاف كلاهما بمعنى الترك على ما في الصحاح، و الرواية - كما ترى - تجعل أصل العدالة أمراً معروفاً بين المسلمين و تبيّن أنّ الأثر المترتّب عليه الدالّ على هذه الصفة النفسيّة هو ترك محارم الله و الكفّ عن الشهوات الممنوعة، و معرّف ذلك اجتناب الكبائر من المعاصي، ثمّ تجعل الدليل على ذلك كلّه حسن الظاهر بين المسلمين على ما بيّنهعليه‌السلام تفصيلاً.

و فيه، عن عبدالله بن المغيرة عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: من ولد على الفطرة و عرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته.

و فيه: روى سماعة عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : قال: لا بأس بشهادة الضعيف إذا كان عفيفاً صائناً.

و في الكافي، بإسناده عن عليّ بن مهزيار عن أبي عليّ بن راشد قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : إنّ مواليك قد اختلفوا فاُصلّي معهم جميعاً؟ فقال لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه.

أقول: دلالة الروايات على ما قدّمناه ظاهرة، و فيها أبحاث اُخر خارجة عن غرضنا في المقام.

٢٢٢

( كلام في اليمين)

حقيقة معنى قولك:( لعمري إنّ كذا و كذا، و حياتي إنّ الأمر على ما أخبرته) أنّك تعلّق ما أخبرت به من الخبر و تقيّده نوع تقييد في صدقه بعمرك و حياتك الّتي لها مكانة و احترام عندك بحيث يتلازمان في الوجود و العدم، و لو كنت كاذباً في خبرك أبطلت مكانة حياتك و احترامها عندك فسقطت بذلك عن مستوى الإنسانيّة الداعية إلى الاحترام لأمر الحياة.

و معنى قولك:( أقسمك بالله أن تفعل كذا أو تترك كذا) أنّك ربطت أمرك أو نهيك بالمكانة و العزّة الّتي لله عزّ اسمه عند المؤمنين بحيث تكون مخالفة الأمر أو معصية النهي استهانة بمقامه تعالى و إذهاباً لحرمة الإيمان به.

و كذا معنى قولك:( و الله لأفعلنّ كذا) وصل خاصّ بين عزيمتك على ما عزمت عليه من الأمر و بين ما لله سبحانه عندك من المكانة و الحرمة بحسب إيمانك به بحيث يكون فسخك عزيمتك و نقضك همّتك إبطالاً لما له سبحانه من المكانة عندك، و الغرض من ذلك أن تكون على رادع من فسخ العزيمة و نقض الهمّة فالقسم إيجاد ربط خاصّ بين شي‏ء من الخبر أو الإنشاء و بين شي‏ء آخر ذي مكانة و شرف بحيث يبطل المربوط إليه ببطلان المربوط بحسب الدعوى، و حيث كان المربوط إليه ذا مكانة و شرف عند الجاعل مثلاً لا يرضى بإذهاب مكانته و الإهانة بمقامه فهو صادق في خبره أو مطاع فيما يأمر به أو ينهى عنه، أو ماض في عزيمته من غير فسخ لا محالة، و نتيجته التأكيد البالغ.

و يوجد في اللغات نوع آخر من جعل الربط يقابل القسم و هو ربط الخبر مثلاً بما لا قيمة له و لا شرافة عند المخبر ليدلّ بذلك على الاستهانة بما يخبر به أو بلغه من الخبر و يعدّ نوعاً من الشتم و هو في اللغة العربيّة نادر جدّاً.

و الحلف و اليمين - فيما نعلم - من العادات الدائرة في ألسنة الناس الموروثة جيلاً بعد جيل، و لا يختصّ بلغة دون لغة، و هو الدليل على أنّه ليس من الشؤون اللغويّة

٢٢٣

اللفظيّة بل إنّما يهدي الإنسان إليه حياته الاجتماعيّة في موارد يتنبّه على وجوب الالتجاء إليه و الاستفادة منه.

و لم تزل اليمين دائراً بين الاُمم ربّما يبنى عليه و يركن إليه في موارد متفرّقة غير مضبوطة تحدث في مجتمعاتهم لأغراض متنوّعة لدفع التهمة و رفع الفرية و تطييب النفس و تأييد الخبر حتّى اعتنى بأمره القوانين المدنيّة و أعطتها وجهة قانونيّة في بعض من الموارد كحلف الرؤساء و أولياء الاُمور عند تقلّد المناصب الهامّة و إشغال المقامات العظيمة العالية و غير ذلك.

و قد اعتنى الإسلام بشأن اليمين اعتناءً تامّاً إذا وقع على الله سبحانه خاصّة، و ليس ذلك إلّا في ظلّ العناية برعاية حرمة المقام الربوبيّ و وقاية ساحته تعالى أن يواجه بما يأباه ناموس الربوبيّة و العبوديّة، و لذلك وضعت كفّارة خاصّة عند حنث اليمين، و كره الإكثار من الحلف بالله عزّ شأنه، قال تعالى:( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ،) الآية: المائدة: ٨٩ و قال تعالى:( وَ لا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ ) البقرة: ٢٢٤.

و اعتبر اليمين في موارد من القضاء خلت عن البيّنة، قال تعالى:( فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا ) الآية: المائدة: ١٠٧

و من كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر.

و حقيقة اعتبار اليمين الاكتفاء بدلالة نفس الإيمان فيما لا دليل سواه، و ذلك أنّ المجتمع الدينيّ مبنيّ على إيمان الأفراد بالله، و الإنسان المؤمن هو الجزء من هذا المركّب المؤلّف، و هو المنبع الّذي ينبع منه السنن المتّبعة و الأحكام الجارية، و بالجملة جميع الآثار البارزة في القوم الناشئة من حالتهم الدينيّة كما أنّ المجتمع غير الدينيّ مبنيّ على إيمان الأفراد بمقاصدهم القوميّة، و منها تنشأ السنن و القوانين المدنيّة و الآداب و الرسوم الدائرة بينهم.

فإذا كان كذلك و صحّ الاعتماد في جميع الشؤون الاجتماعيّة و الاتّكاء في عامّة لوازم الحياة على إيمان الأفراد بطرق مختلفة كان من الجائز أن يعتمد على إيمانهم في ما لا دليل

٢٢٤

آخر يعتمد عليه، و هو اليمين فيما لا بيّنة عليه بأن يربط المنكر ما ينكره من دعوى المدّعي و يقيّده بإيمانه بحيث يزول اعتبار إيمانه بالله ببطلان إنكاره و ظهور كذبه فيما أظهره و أخبر به.

فإيمانه بسبب ما عقده باليمين بمنزلة مال الرهن الّذي يجعل تحت تسلّط الدائن و يراعي في عوده إلى سلطة راهن صدق وعده و تأديته الدين إلى أجل و إلّا ذهب المال و بقي صفر اليد.

كذلك الحالف يعتبر مرهون الإيمان بما حلف عليه ما لم يظهر خلافه و إذا ظهر الخلاف عاد صفر الكفّ من الإيمان ساقطاً عن درجة الاعتبار محروماً من التمتّع بثمرة الإيمان و هي في المجتمع الدينيّ جميع المزايا الاجتماعيّة، و رجع مطروداً من المجتمع المتلائم الأجزاء لا سماء تظلّه و لا أرض تقلّه.

و يتأيّد هذا البيان بما يروى من تظاهر الناس على مقت المتخلّفين عن السنن الدينيّة كالصلاة مع الجماعة و الشخوص في الجهاد و نحوهما في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين كان تمام السلطة و الحكومة للدين على الأهواء.

و أمّا في أمثال هذه الأعصار الّتي ضعف فيها نفوذ الدين و تسرّب الهوى في القلوب و انعقد بيننا مجتمع مؤتلف من المقاصد الدينيّة على وهن في بنيتها و إعراض من الناس عنها و من مقاصد المدنيّة الحديثة و يجمعها الاسترسال في التمتّعات المادّيّة على شيد في أساسها و إقبال عامّ من عامّة الناس إليها ثمّ أخذ التنازع و التشاجر الشديد بين الدواعي الدينيّة و المدنيّة الطارقة و لا يزال يغلب هذا و ينهزم ذاك، و انثلمت وحدة النظام الواجب انبساطه على مستوى المجتمع، و بدا الهرج و المرج في الروحيّات فحينئذ لا يكاد ينفع اليمين و لا ما هو أقوى من ذلك و أحفظ لحقوق الناس، و زال الاعتماد لا على الأسباب الدينيّة الموجودة عند المجتمع فحسب بل عليها و على النواميس الحديثة جميعاً.

غير أنّ الله سبحانه لا ينسخ أحكامه و لا يغمض عن شرائعه بتولّي الناس عنها و سأمهم منها و إنّ الدين عند الله الإسلام و لا يرضى لعباده الكفر، و لو اتّبع الحقّ أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض، و إنّما الإسلام دين متعرّض لجميع شؤون الحياة الإنسانيّة شارح

٢٢٥

لها مبيّن لأحكامها ذو أجزاء متلائمة متناسبة متلازمة تعيش بروح التوحيد الواحد إذا اعتلّ بعض أجزائه اعتلّ الجميع، و إذا فسد بعضها أثّر ذلك في عمل الجميع كالواحد من الإنسان بعينه.

فإذا فسد بعض أجزائه أو اعتلّ كان من الواجب إبقاء السالم منها على سلامته و علاج المعتلّ و إصلاح الفاسد، و لم يكن من الجائز إبقاء المعتلّ على علّته و الفاسد على فساده، و الإعراض عن السالم.

و الإسلام و إن كان ملّة حنيفيّة سهلة سمحة ذات مراتب مختلفة وسيعة يقدّر تكاليفه على قدر ما يستطاع من إتيانها و إجرائها، يتمدّد حبلها الموصول من حالة اجتماعيّة آمنة تتضمّن شرائعها و قوانينها جمعاء من غير استثناء إلى حالة انفراديّة اضطراريّة تكتفى فيها من الصلاة بالإشارة لكنّ التنزّل من مرتبة من مراتبها إلى ما هي دونها مشروطة بالاضطرار النافي للتكليف و المبيح للتوسّع، قال تعالى:( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ - إلى أن قال -ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) النحل: ١١٠.

و أمّا بناء الحياة على التمتّع المادّيّ ثمّ التعلّل في رفض ما يناقضه من الموادّ الدينيّة بأنّه لا يوافق السنّة الجارية في الدنيا الحاضرة فإنّه جري على المنطق المادّيّ دون منطق الدين.

و من البحث المتعلّق بهذا الباب ما في قول بعض: (إنّ الحلف بغير الله من الشرك بالله) فينبغي أن يستفهم هذا القائل ما ذا يريد بهذا الشرك الذي ذكره؟.

فإن أراد به أنّ في اليمين بغير الله إعظاماً للمقسم به و إجلالاً لأمره لابتناء معنى القسم على ذلك ففيه نوع خضوع و عبادة له و هو الشرك فما كلّ إعظام شركاً إلّا إعطاء عظمة الربوبيّة المستقلّة التي يستغني بها عن غيره.

و قد أقسم الله تعالى بكثير من خلقه كالسماء و الأرض و الشمس و القمر و الكنّس الخنّس من الكواكب و بالنجم إذا هوى، و أقسم بالجبل و البحر و التين و الزيتون و الفرس

٢٢٦

و أقسم بالليل و النهار و الصبح و الشفق و العصر و الضحى و يوم القيامة، و أقسم بالنفس، و أقسم بالكتاب و القرآن العظيم و حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بالملائكة إلى غير ذلك في آيات كثيرة و لا يستقيم قسم إلّا عن إعظام.

فما المانع من أن نجري على ما جرى عليه كلامه تعالى من إعظامها بالعظمة الموهوبة و نقتصر على ذلك، و لو كان ذلك من الشرك لكان كلامه تعالى أولى بالتحرّز منه و أحرى برعايته.

و أيضا قد عظم الله تعالى اُموراً كثيرة في كلامه كالقرآن و العرش و خلق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال تعالى:( وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) الحجر: ٨٧، و قال:( وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) التوبة: ١٢٩، و قال:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ن: ٤، و جعل لأنبيائه و رسله و المؤمنين حقوقاً على نفسه و عظّمها و احترمها، قال تعالى:( وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ) الصافّات: ١٧٢، و قال:( وَ كانَ حقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم: ٤٧ فما المانع من أن نعظّمها و نجري على ما جرى عليه كلامه في مطلق القسم، و أن نقسمه تعالى بشي‏ء ممّا أقسم به أو بحقّ من الحقوق الّتي جعلها لأوليائه على نفسه؟ نعم اليمين الشرعيّ الّذي له آثار شرعيّة في باب اليمين أو القضاء لا ينعقد بغير الله سبحانه كما بيّن في الفقه و ليس كلامنا فيه.

و إن أراد به أنّ مطلق الإعظام كيفما كان لا يجوز في غير الله حتّى إعظامها بما عظّمها الله تعالى فهو ممّا لا دليل عليه بل القاطع من الدليل على خلافه.

و ربّما قيل: إنّ في الإقسام بحقّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و سائر الأولياء و التقرّب إليهم و الاستشفاع بهم بأيّ وجه كان عبادة و إعطاء سلطة غيبيّة لها. و الكلام فيه كالكلام في سابقه: فإن اُريد بهذه السلطة الغيبيّة السلطة المستقلّة الخاصّة بالله فلا يذعن بها مسلم مؤمن بكتاب الله في غيره تعالى، و إن اُريد بها مطلق السلطة غير المادّيّة و لو كان بإذن الله فما الدليل على امتناع أن يتّصف بها بعض عباد الله كأوليائه مثلاً بإذنه، و قد نصّ القرآن الشريف على كثير من السلطات الغيبيّة في الملائكة كما قال:( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) الأنعام: ٦١، و قال:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ) السجدة: ١١

٢٢٧

و قال:( وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً، وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً، وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) النازعات: ٥، و قال:( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) البقرة: ٩٧ و الآيات في هذا الباب كثيرة جدّاً.

و قال في إبليس و جنوده:( إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) الأعراف: ٢٧ و قد نزلت في شفاعة الأنبياء و غيرهم في الآخرة، و آياتهم المعجزة في الدنيا آيات كثيرة.

و ليت شعري ما الفرق بين الآثار المادّيّة الّتي يثبتها هؤلاء في الموضوعات من غير استنكاف و بين آثار غير المادّيّة الّتي يسمّونها بالسلطة الغيبيّة؟ فإن كان إثبات التأثير لغير الله ممنوعاً لم يكن فرق بين الأثر المادّيّ و غيره و إن كان جائزاً بإذن الله سبحانه كان الجميع فيه سواءً.

( بحث روائي)

في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم عن رجاله رفعه قال: خرج تميم الداريّ و ابن بندي و ابن أبي مارية في سفر، و كان تميم الداريّ مسلماً و ابن بندي و ابن أبي مارية نصرانيّين، و كان مع تميم الداريّ خرج له فيه متاع و آنية منقوشة بالذهب و قلادة أخرجها إلى بعض أسواق العرب للبيع.

فاعتلّ تميم الداريّ علّة شديدة فلمّا حضره الموت دفع ما كان معه إلى ابن بندي و ابن أبي مارية و أمرهما أن يوصلاه إلى ورثته فقدما المدينة، و قد أخذا من المتاع الآنية و القلادة، و أوصلا سائر ذلك إلى ورثته، فافتقد القوم الآنية و القلادة فقال أهل تميم لهما: هل مرض صاحبنا مرضاً طويلاً أنفق فيه نفقة كثيرة؟ فقالا: لا ما مرض إلّا أيّاماً قلائل، قالوا: فهل سرق منه شي‏ء في سفره هذا؟ قالا: لا، فقالوا: فهل اتّجر تجارة خسر فيها؟ قالا: لا، قالوا: فقد افتقدنا أفضل شي‏ء كان معه: آنية منقوشة بالذهب مكلّلة بالجواهر و قلادة، فقالا: ما دفعه إلينا فقد أدّيناه إليكم.

٢٢٨

فقدّموهما إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أوجب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهما اليمين فحلفا فخلّا عنهما، ثمّ ظهرت تلك الآنية و القلادة عليهما فجاء أولياء تميم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا رسول الله قد ظهر على ابن بندي و ابن أبي مارية ما ادّعيناه عليهما، فانتظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الله عزّوجلّ الحكم في ذلك.

فأنزل الله تبارك و تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ) فأطلق الله عزّوجلّ شهادة أهل الكتاب على الوصيّة فقط إذا كان في سفر و لم يجد المسلمين.

ثمّ قال:( فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى‏ وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ ) ، فهذه الشهادة الاُولى الّتي حلّفها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( فَإِنْ عُثِرَ عَلى‏ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً ) أي أنّهما حلفا على كذب( فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما ) يعني من أولياء المدّعي( مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ) الأوّلين( فَيُقْسِمانِ بِاللهِ ) أي يحلفان بالله أنّهما أحقّ بهذه الدعوى منهما و أنّهما قد كذبا فيما حلفا بالله( لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) .

فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولياء تميم الداريّ أن يحلفوا بالله على ما أمرهم به فحلفوا فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القلادة و الآنية من ابن بندي و ابن أبي مارية و ردّهما إلى أولياء تميم الداريّ( ذلِكَ أَدْنى‏ أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى‏ وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) .

أقول: و أورده القمّيّ في تفسيره مثله‏ و فيه بعد قوله:( تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ ) يعني صلاة العصر، و قوله ع( الأوّلين) الظاهر أنّه بصيغة التثنية و المراد بهما الشاهدان الأوّلان تفسيراً لقوله تعالى:( الْأَوْلَيانِ ) و ظاهره على قراءتهعليه‌السلام ( اسْتَحَقَّ ) بالبناء للفاعل كما نسبت إلى عليّعليه‌السلام ، و قد قدّمنا في البيان السابق أنّه أوضح المعاني المحتملة على هذه القراءة.

٢٢٩

و في الدرّ المنثور: أخرج الترمذيّ و ضعّفه و ابن جرير و ابن أبي حاتم و النحّاس في ناسخه و أبوالشيخ و ابن مردويه و أبو نعيم في المعرفة من طريق أبي النضر و هو الكلبيّ عن باذان مولى اُمّ هاني عن ابن عبّاس عن تميم الداريّ في هذه الآية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) قال: برى‏ء الناس منهما غيري و غير عدي ابن بداء، و كانا نصرانيّين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام فأتيا الشام لتجارتهما، و قدم عليهما مولى لبني سهم يقال له: بديل بن أبي مريم بتجارة، و معه جام من فضّة يريد به الملك و هو عظم تجارته، فمرض فأوصى إليهما و أمرهما أن يبلّغا ما ترك أهله.

قال تميم: فلمّا مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثمّ اقتسمناه أنا و عديّ بن بداء فلمّا قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا و فقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا: ما ترك غير هذا و ما دفع إلينا غيره.

قال تميم: فلمّا أسلمت بعد قدوم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة تأثّمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر و أدّيت إليهم خمسمائة درهم، و أخبرتهم أنّ عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألهم البيّنة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ - إلى قوله -أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) فقام عمرو بن العاص و رجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدّي بن بداء.

أقول: و الرواية على ضعفها لا تنطبق على الآية تمام الانطباق و هو ظاهر، و روي عن ابن عبّاس و عن عكرمة ما يقرب من رواية القمّيّ السابقة.

و فيه: أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و أبوعبيد و ابن جرير و ابن المنذر و أبوالشيخ عن عليّ بن أبي طالب: أنّه كان يقرأ:( مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ) بفتح التاء.

و فيه: أخرج ابن مردويه و الحاكم و صحّحه، عن عليّ بن أبي طالب: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ:( الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ) .

و فيه: أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال: هذه الآية منسوخة.

٢٣٠

أقول: و لا دليل على ما في الرواية من حديث النسخ.

و في الكافي، عن محمّد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان و عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن الحكم عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله تبارك و تعالى:( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) قال: إذا كان الرجل في بلد ليس فيه مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصيّة.

أقول: و معنى الرواية مستفاد من الآية.

و فيه، بإسناده عن يحيى بن محمّد قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) ؟ قال:( اللّذان منكم) مسلمان( و اللّذان من غيركم) من أهل الكتاب، فإن لم يجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنّ في المجوس سنّة أهل الكتاب في الجزية.

و ذلك إذا مات الرجل في أرض غربة فلم يجد مسلمين أشهد رجلين من أهل الكتاب يحبسان بعد العصر فيقسمان بالله عزّوجلّ( لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى‏ وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ ) قال: و ذلك إذا ارتاب وليّ الميّت في شهادتهما، فإن عثر على أنّهما شهدا بالباطل فليس له أن ينقض شهادتهما حتّى يجي‏ء بشاهدين فيقومان مقام الشاهدين الأوّلين( فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) فإذا فعل ذلك نقض شهادة الأوّلين، و جازت شهادة الآخرين يقول الله عزّوجلّ:( ذلِكَ أَدْنى‏ أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى‏ وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) .

أقول: و الرواية - كما ترى - توافق ما تقدّم من معنى الآية، و في معناها روايات اُخر في الكافي، و تفسير العيّاشيّ، عن أبي عبدالله و أبي الحسنعليهما‌السلام .

و في بعض الروايات تفسير قوله:( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) بالكافرين، و هو أعمّ من أهل الكتاب كما رواه في الكافي، عن أبي الصباح الكنانيّ عن أبي عبدالله. و في تفسير العيّاشيّ،

٢٣١

عن أبي اُسامة عنهعليه‌السلام أيضاً: في الآية: ما( آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) ؟ قال: هما كافران قلت:( ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) ؟ فقال: مسلمان‏، و الرواية السابقة المقيّدة بأهل الكتاب و إن لم تصلح لتقييد هذا الإطلاق بحسب صناعة الإطلاق و التقييد لكونهما متوافقين إيجابيّين لكن سياق الرواية الاُولى يصلح لتفسير إطلاق الثانية بما يوافق التقييد.

و في تفسير البرهان، عن الصدوق بإسناده إلى أبي زيد عيّاش بن يزيد بن الحسن عن أبيه يزيد بن الحسن قال: حدّثني موسى بن جعفرعليه‌السلام قال: قال الصادقعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا ) قال: يقولون لا علم لنا بسواك قال و قال: الصادقعليه‌السلام : القرآن كلّه تقريع و باطنه تقريب.

قال صاحب البرهان: قال ابن بابويه: يعني بذلك أنّه من وراء آيات التوبيخ و الوعيد آيات الرحمة و الغفران.

أقول: و ما نقله عن الصدوق رحمه الله في معنى قولهعليه‌السلام :( القرآن كلّه تقريع و باطنه تقريب) لا ينطبق عليه لا بالنظر إلى صدر الرواية فإنّ كون معنى قول الرسلعليهم‌السلام :( لا عِلْمَ لَنا ) أنّه لا علم لنا بسواك غير مرتبط بكون القرآن مشتملاً على نوعين من الآيات: آيات الوعد و آيات الوعيد.

و لا بالنظر إلى سياق نفس الجملة أعني قوله:( القرآن كلّه تقريع و باطنه تقريب) فإنّ الكلام ظاهر في أنّ القرآن كلّه تقريع و كلّه تقريب، و إنّما يختلف الأمر بحسب الباطن و الظاهر فباطنه تقريب و ظاهره تقريع، لا أنّ القرآن منقسم إلى قسمين فقسم منه آيات التقريع و وراءه القسم الآخر و هو آيات التقريب.

و التأمّل في كلامهعليه‌السلام مع ملاحظة صدر الرواية يعطي أنّ مرادهعليه‌السلام من التقريع بالنظر إلى مقابلة التقريب لازم معناه و هو التبعيد المقابل للتقريب، و القرآن كلّه معارف و حقائق فظاهره تبعيد الحقائق بعضها من بعض و تفصيل أجزائها، و باطنه تقريب البعض من البعض و إحكامها و توحيدها، و يعود محصّل المراد إلى أنّ القرآن بحسب ظاهره يعطي حقائق من المعارف مختلفة بعضها بائن منفصل من بعض لكنّها على كثرتها و

٢٣٢

بينونتها و ابتعاد بعضها من بعض بحسب الباطن يقترب بعضها من بعض و تلتئم شتّى معانيها حتّى تتّحد حقيقة واحدة كالروح الساري في الجميع، و ليست إلّا حقيقة التوحيد قال الله تعالى:( كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود: ١.

و يظهر حينئذ انطباقه على ما ذكرهعليه‌السلام في صدر الرواية أنّ معنى قول الرسل:( لا عِلْمَ لَنا ) أن لا علم لنا بسواك فإنّ الإنسان أو أيّ عالم فرض إنّما يعلم ما يعلم بالله بمعنى أنّ الله سبحانه هو المعلوم بذاته و غيره معلوم به، و بعبارة اُخرى إذا تعلّق العلم بشي‏ء فإنّما يتعلّق أوّلاً بالله سبحانه على ما يليق بساحة قدسه و كبريائه ثمّ يتعلّق من جهته بذلك الشي‏ء لما أنّ الله سبحانه عنده علم كلّ شي‏ء يرزق منه لمن يشاء من عباده على قدر ما يشاء كما قال تعالى:( وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ) البقرة: ٢٥٥ و قد تقدّم رواية عبدالأعلى مولى آل سام عن الصادقعليه‌السلام و غيره من الروايات في هذا المعنى.

و على هذا فمعنى قولهم:( لا عِلْمَ لَنا بسواك إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) على تفسيرهعليه‌السلام أنّه لا علم لنا بشي‏ء من دونك و إنّما نعلم ما نعلم من جهة علمنا بك لأنّ العلم كلّه لك و إذا كان كذلك فأنت أعلم به منّا لأنّ الّذي نعلمه من شي‏ء هو علمك الّذي أحطنا بشي‏ء منه بمشيئتك و رزقك.

و على هذا يتجلّى معنى آخر لقوله:( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) هو أرفع منالاً ممّا تقدّم من المعنى، و هو أنّ كلّ شي‏ء من الخليقة لما كان منفصل الوجود عن غيره كان في غيب منه لما أنّ وجوده محدود مقدّر لا يحيط إلّا بما شاء الله أن يحيط به، و الله سبحانه هو المحيط بكلّ شي‏ء، العالم بكلّ غيب لا يعلم شي‏ء شيئاً إلّا من جهته تعالى و تقدّس عن كلّ نقص.

و على هذا فتقسيم الاُمور إلى غيب و شهادة تقسيم بالحقيقة إلى غيب شاء الله إحاطتنا به و غيب مستور عنّا، و ربّما تؤيّد هذا المعنى بظاهر قوله تعالى:( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ ) الجنّ: ٢٧ بالنظر إلى ما تفيده إضافة الغيب إلى الضمير، و عليك بإجادة التأمّل في هذا المقام.

٢٣٣

و في تفسير العيّاشيّ، عن يزيد الكناسيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ ، الآية) قال: يقول: ما ذا اُجبتم في أوصيائكم الّذين خلّفتم على اُمتكم؟ قال: فيقولون: لا علم لنا بما فعلوا من بعدنا.

أقول: و رواه القمّيّ في تفسيره عن محمّد بن مسلم عنهعليه‌السلام .

و في الكافي، عن يزيد عن أبي عبداللهعليه‌السلام ما في معناه، و هو من الجري أو من قبيل الباطن.

٢٣٤

( سورة المائدة الآيات ١١٠ - ١١١)

إِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى‏ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيّدتّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونَ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى‏ بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيّنَاتِ فَقَالَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذَا إِلّا سِحْرٌ مُبِينٌ( ١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنّا وَاشْهَدْ بِأَنّنَا مُسْلِمُونَ( ١١١)

( بيان)

الآيتان و كذا الآيات التالية لها القاصّة قصّة نزول المائدة و التالية لها المخبرة عمّا سيسأل الله عيسى بن مريمعليهما‌السلام عن اتّخاذ الناس إيّاه و اُمّه إلهين من دون الله سبحانه و ما يجيب به عن ذلك، كلّها مرتبطة بغرض السورة الّذي افتتحت به، و هو الدعوة إلى الوفاء بالعهد و الشكر للنعمة و التحذير عن نقض العهود و كفران النعم الإلهيّة و بذلك يتمّ رجوع آخر السورة إلى أوّلها و تحفظ وحدة المعنى المراد.

قوله تعالى: ( إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - إلى قوله -وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى‏ بِإِذْنِي ) الآية تعدّ عدّة من الآيات الباهرة الظاهرة بيدهعليه‌السلام إلّا أنّها تمتنّ بها عليه و على اُمّه جميعاً، و هي مذكورة بهذا اللفظ تقريباً فيما يحكيه تعالى من تحديث الملائكة مريم عند بشارتها بعيسىعليهما‌السلام في سورة آل عمران، قال تعالى:( إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - إلى أن قال -وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا - إلى أن قال -وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ رَسُولًا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ، أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ

٢٣٥

فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى‏ بِإِذْنِ اللهِ ) (الآيات) آل عمران: ٤٥ - ٥٠.

و التأمّل في سياق الآيات يوضح الوجه في عدّ ما ذكره من الآيات المختصّة ظاهراً بالمسيح نعمة عليه و على والدته جميعاً كما تشعر به آيات آل عمران فإنّ البشارة إنّما تكون بنعمة، و الأمر على ذلك فإنّ ما اختصّ به المسيحعليه‌السلام من آية و موهبة كالولادة من غير أب و التأييد بروح القدس و خلق الطير و إبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى بإذن الله سبحانه فهي بعينها كرامة لمريم كما أنّها كرامة لعيسىعليه‌السلام فهما معاً منعّمان بالنعمة الإلهيّة كما قال تعالى:( نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى‏ والِدَتِكَ ) .

و إلى ذلك يشير تعالى بقوله:( وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) الأنبياء: ٩١ حيث عدّهما معاً آية واحدة لا آيتين.

و قوله:( إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ ) الظاهر أنّ التأييد بروح القدس هو السبب المهيّئ له لتكليم الناس في المهد، و لذلك وصل قوله( تُكَلِّمُ النَّاسَ ) من غير أن يفصله بالعطف إلى الجملة السابقة إشعاراً بأنّ التأييد و التكليم معاً أمر واحد مؤلّف من سبب و مسبّب، و اكتفى في موارد من كلامه بذكر أحد الأمرين عن الآخر كقوله في آيات آل عمران المنقولة آنفاً:( وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا ) ، و قوله:( وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة: ٢٥٣.

على أنّه لو كان المراد بتأييده بروح القدس مسألة الوحي بوساطة الروح لم يختصّ بعيسى بن مريمعليه‌السلام و شاركه فيها سائر الرسل مع أنّ الآية تأبى ذلك بسياقها.

و قوله:( وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ ) من الممكن أن يستفاد منه أنّهعليه‌السلام إنّما تلقّى علم ذلك كلّه بتلقّ واحد عن أمر إلهيّ واحد من غير تدريج و تعدّد كما أنّه أيضاً ظاهر جمع الجميع و تصديرها بإذ من غير تكرار لها.

و كذلك قوله:( إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ) ظاهر السياق من جهة عدم تكرار لفظة( إِذْ ) أنّ خلق الطير و إبراء الأكمه و الأبرص كانا متقارنين زماناً، و أنّ تذييل خلق الطير بذكر الإذن

٢٣٦

من غير أن يكتفي بالإذن المذكور في آخر الجملة إنّما هو لعظمة أمر الخلق بإفاضة الحياة فتعلّقت العناية به فاختصّ بذكر الإذن بعده من غير أن ينتظر فيه آخر الكلام صوناً لقلوب السامعين من أن يخطر فيها أنّ غيره تعالى يستقلّ دونه بإفاضة الحياة أو تلبث فيها هذه الخطرة و لو لحظات يسيرة، و الله أعلم.

و قوله:( وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى‏ بِإِذْنِي ) إخراج الموتى كناية عن إحيائها، و فيه عناية ظاهرة بأنّ الإحياء الّذي جرى على يديهعليه‌السلام كان إحياء لموتى مقبورين بإفاضة الحياة عليهم و إخراجهم من قبورهم إلى حياة دنيويّة، و في اللفظ دلالة على الكثرة، و قد تقدّم في الكلام على آيات آل عمران بقيّة ما يتعلّق بهذه الآيات من الكلام فراجع ذلك.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ ) إلى آخر الآية. فيه دلالة على أنّهم قصدوه بشرّ فكفّهم الله عن ذلك فينطبق على ما ذكره الله في سورة آل عمران في قصصهعليه‌السلام بقوله:( وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللهُ وَ اللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ ) الآية، الآية منطبقة على آيات سورة آل عمران بقوله:( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى‏ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران: ٥٢.

و من هنا يظهر أنّ هذا الإيمان الّذي ذكره في الآية بقوله:( وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا ) ، الآية غير إيمانهم الأوّل بهعليه‌السلام فإنّ ظاهر قوله في آية آل عمران:( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى‏ مِنْهُمُ الْكُفْرَ ) أنّه كان في أواخر أيّام دعوته و قد كان الحواريّون و هم السابقون الأوّلون في الإيمان به ملازمين له.

على أنّ ظاهر قوله في آية آل عمران:( قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) أنّ الدعوة إنّما سيقت لأخذ الميثاق على نصرة دين الله لا أصل الإيمان بالله، و لذلك ختم الآية بقولهم:( وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) و هو التسليم لأمر الله بإقامة دعوته و تحمّل الأذى في جنبه، و كلّ ذلك بعد أصل الإيمان بالله طبعاً.

فتبيّن أنّ المراد بقوله:( وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ ) ، إلخ قصّة أخذ الميثاق من الحواريّين، و في الآية أبحاث اُخر مرّت في تفسير سورة آل عمران.

٢٣٧

( بحث روائي)

في المعاني، بإسناده عن أبي يعقوب البغداديّ قال: قال ابن السكّيت لأبي الحسن الرضاعليه‌السلام : لما ذا بعث الله موسى بن عمران بيده البيضاء و العصا و آلة السحر، و بعث عيسى بآلة الطبّ، و بعث محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكلام و الخطب؟.

فقال أبوالحسنعليه‌السلام : إنّ الله تعالى لما بعث موسىعليه‌السلام كان الأغلب على أهل عصره السحر فأتاهم من عندالله تعالى بما لم يكن عند القوم و في وسعهم مثله، و بما أبطل به سحرهم، و أثبت به الحجّة عليهم و إنّ الله تعالى بعث عيسى في وقت ظهرت فيه الزمانات و احتاج الناس إلى الطبّ فأتاهم من عندالله تعالى بما لم يكن عندهم مثله، و بما أحيي لهم الموتى، و أبرأ الأكمه و الأبرص بإذن الله، و أثبت به الحجّة عليهم و إنّ الله تعالى بعث محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب و الكلام و الشعر فأتاهم من كتاب الله و الموعظة و الحكمة بما أبطل به قولهم، و أثبت به الحجّة عليهم.

قال ابن السكّيت ما رأيت مثلك اليوم قطّ فما الحجّة على الخلق اليوم؟ فقال: العقل يعرف به الصادق على الله فيصدّقه و الكاذب على الله فيكذّبه، قال ابن السكّيت: هذا و الله هو الجواب.

و في الكافي، عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن الحسن بن محبوب عن أبي جميلة عن أبان بن تغلب و غيره عن أبي عبداللهعليه‌السلام : أنّه سئل هل كان عيسى بن مريم أحيا أحداً بعد موته بأكل و رزق و مدّة و ولد؟ فقال: نعم إنّه كان له صديق مواخ له في الله تبارك و تعالى، و كان عيسىعليه‌السلام يمرّ به و ينزل عليه، و إنّ عيسى غاب عنه حيناً ثمّ مرّ به ليسلّم عليه فخرجت عليه اُمّه فسألها عنه فقالت له: مات يا رسول الله، فقال: أ تحبّين أن تراه؟ قالت: نعم. فقال: إذا كان غداً أتيتك حتّى اُحييه لك بإذن الله تعالى.

فلمّا كان من الغد أتاها فقال لها: انطلقي معي إلى قبره فانطلقا حتّى أتيا قبره فوقف عليه عيسىعليه‌السلام ثمّ دعا الله عزّوجلّ فانفرج القبر فخرج ابنها حيّاً فلمّا رأته اُمّه و رءاها بكيا فرحمهما عيسىعليه‌السلام فقال له عيسى: أ تحبّ أن تبقى مع اُمّك في الدنيا؟

٢٣٨

فقال: يا رسول الله بأكل و رزق و مدّة أم بغير أكل و رزق و مدّة؟ فقال له عيسىعليه‌السلام : بأكل و رزق و مدّة تعمّر عشرين سنة و تزوّج و يولد لك، قال: نعم إذاً.

قال: فدفعه عيسىعليه‌السلام إلى اُمّه فعاش عشرين سنة و ولد له.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن يوسف الصنعانيّ عن أبيه قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام ( إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ ) قال: اُلهموا.

أقول: و استعمال الوحي في مورد الإلهام جاء في القرآن في غير مورد كقوله تعالى:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى‏ أَنْ أَرْضِعِيهِ ) القصص: ٧، و قوله تعالى:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ) النحل: ٦٨ و قوله في الأرض:( بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى‏ لَها ) الزلزال: ٥.

٢٣٩

( سورة المائدة الآيات ١١٢ - ١١٥)

إِذْ قَالَ الْحَوارِيّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السّماءِ قَالَ اتّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ( ١١٢) قَالُوا نُرِيدُ أَن نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشّاهِدِينَ( ١١٣) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهُمّ رَبّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السّمَاءِ تَكُونَ لَنَا عِيداً لِأَوّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ( ١١٤) قَالَ اللّهُ إِنّي مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّي أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاَ أُعَذّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ( ١١٥)

( بيان)

الآيات تذكر قصّة نزول المائدة على المسيحعليه‌السلام و أصحابه، و هي و إن لم تصرّح بأنّ الله أنزلها عليهم غير أنّ الآية الأخيرة تتضمّن الوعد المنجز منه بإنزالها من غير تقييد و قد وصف تعالى نفسه بأنّه لا يخلف الميعاد.

و قول بعضهم: (إنّهم استقالوا عيسىعليه‌السلام بعد ما سمعوا الوعيد الشديد من الله تعالى لمن يكفر منهم بعد نزول المائدة) قول من غير دليل من كتاب أو حديث يعتمد عليه.

و قد نقل ذلك عن جمع من المفسّرين، و ممّن يذكر منهم: المجاهد و الحسن، و لا حجّة في قولهما و لا قول غيرهما و لو عدّ قولهما رواية كانت من الموقوفات الّتي لا حجّيّة لها لضعفها على أنّها معارضة بغيرها من الروايات الدالّة على نزولها، على أنّها لو صحّت لم تكن إلّا من الآحاد الّتي لا يعتمد عليها في غير الأحكام.

و ربّما يستدلّ على عدم نزولها بأنّ النصارى لا يعرفونها و كتبهم المقدّسة خالية عن حديثها، و لو كانت نازلة لتوفّرت الدواعي على ذكره في كتبهم و حفظه فيما بينهم بسيرة مستمرّة كما تحفّظوا على العشاء الربّانيّ لكن الخبير بتاريخ شيوع النصرانيّة و ظهور الأناجيل لا يعبأ بأمثال هذه الأقاويل فلا كتبهم مكتوبة محفوظة على التواتر إلى

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401