الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84320 / تحميل: 7605
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

و عنه قال: أخبرنا أحمد بن محمّد بن طاوان قال: أخبرنا أبوأحمد عمر بن عبدالله بن شوذب قال: حدّثنا محمّد بن العسكريّ الدقّاق قال: حدّثنا محمّد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدّثنا عبادة قال: حدّثنا عمر بن ثابت عن محمّد بن السائب عن أبي صالح، عن ابن عبّاس قال: كان عليّ راكعاً فجاءه مسكين فأعطاه خاتمه فقال رسول الله: من أعطاك هذا؟ فقال: أعطاني هذا الراكع فأنزل الله هذه الآية:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) (إلى آخر الآية).

و عنه قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن طاوان إذناً: أنّ أبا أحمد عمر بن عبدالله بن شوذب أخبرهم قال: حدّثنا محمّد بن جعفر بن محمّد العسكريّ قال: حدّثنا محمّد بن عثمان قال: حدّثنا إبراهيم بن محمّد بن ميمون قال: حدّثنا عليّ بن عابس قال: دخلت أنا و أبومريم على عبدالله بن عطاء، قال أبومريم: حدث عليّاً بالحديث الّذي حدّثتني عن أبي جعفر، قال: كنت عند أبي جعفر جالساً إذ مرّ عليه ابن عبدالله بن سلام قلت: جعلني الله فداك، هذا ابن الّذي عنده علم الكتاب؟ قال: لا و لكنّه صاحبكم عليّ بن أبي طالب الّذي اُنزلت فيه آيات من كتاب الله عزّوجلّ:( وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ، أَ فَمَنْ كانَ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ، إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) (الآية).

و عن الخطيب الخوارزميّ في جواب مكاتبة معاوية إلى عمرو بن العاص قال عمرو بن العاص: لقد علمت يا معاوية ما أنزل في كتابه من الآيات المتلوّات في فضائله الّتي لا يشركه فيها أحد كقوله تعالى:( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ، إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ، أَ فَمَنْ كانَ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ ) ، و قد قال الله تعالى:( رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ ) ، و قد قال الله تعالى لرسوله:( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)

و عنه بإسناده إلى أبي صالح عن ابن عبّاس قال: أقبل عبدالله بن سلام و معه نفر من قومه ممّن قد آمن بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا رسول الله إنّ منازلنا بعيدة، و ليس لنا مجلس و لا متحدّث دون هذا المجلس، و إنّ قومنا لما رأونا قد آمنّا بالله و رسوله

٢١

و قد صدّقناه رفضونا، و آلوا على أنفسهم أن لا يجالسونا و لا يناكحونا و لا يكلّمونا، و قد شقّ ذلك علينا فقال لهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) .

ثمّ إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج إلى المسجد و الناس بين قائم و راكع، و بصر بسائل، فقال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم خاتم من ذهب، فقال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أعطاكه؟ فقال: ذلك القائم - و أومأ بيده إلى عليّ بن أبي طالب - فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : على أيّ حال أعطاك؟ قال: أعطاني و هو راكع، فكبّر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قرأ:( وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَ رَسُولَهُ (وَ الَّذِينَ آمَنُوا) فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) فأنشأ حسّان بن ثابت يقول:

أبا حسن تفديك نفسي و مهجتي

و كلّ بطي‏ء في الهدى و مسارع

أ يذهب مدحي و المحبّين ضائعاً

و ما المدح في ذات الإله بضائع؟

فأنت الّذي أعطيت إذ كنت راكعاً

فدتك نفوس القوم يا خير راكع

بخاتمك الميـمون يا خير سيّد

و يا خير شار ثمّ يا خير بائع

فأنـزل فيك الله خير ولاية

و بيّنها في محكمات الشرائع

و عن الحموينيّ بإسناده إلى أبي هدبة إبراهيم بن هدبة قال: نبّأنا أنس بن مالك: أنّ سائلاً أتى المسجد و هو يقول: من يقرض المليّ الوفيّ؟ و عليّ راكع يقول بيده خلفه للسائل: أن اخلع الخاتم من يدي، قال: فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عمر وجبت، قال: بأبي و اُمّي يا رسول الله ما وجبت؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وجبت له الجنّة، و الله ما خلعه من يده حتّى خلعه من كلّ ذنب و من كلّ خطيئة.

و عنه بإسناده عن زيدبن عليّ بن الحسين عن أبيه عن جدّه قال: سمعت عمّار بن ياسر - رضي الله عنه - يقول: وقف لعليّ بن أبي طالب سائل و هو راكع في صلاة التطوّع فنزع خاتمه و أعطاه السائل، فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعلمه ذلك، فنزلت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) فقرأها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كنت مولاه فعليّ مولاه.

٢٢

و عن الحافظ أبي نعيم عن أبي الزبير عن جابر - رضي الله عنه - قال: جاء عبدالله بن سلام و أتى معه قوم يشكون مجانبة الناس إيّاهم منذ أسلموا فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبغوا إلي سائلاً فدخلنا المسجد فدنا سائل إليه فقال له: أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم مررت برجل راكع فأعطاني خاتمه، قال: فاذهب فأرني قال: فذهبنا فإذا عليّ قائم، فقال: هذا فنزلت:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ ) .

و عنه عن موسى بن قيس الحضرميّ عن سلمة بن كهيل قال: تصدّق عليّ بخاتمه و هو راكع فنزلت!( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ ) (الآية).

و عنه عن عوف بن عبيد بن أبي رافع عن أبيه عن جدّه قال: دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو نائم إذ يوحى إليه و إذا حيّة في جنب البيت فكرهت أنّ أدخلها و اُوقظه فاضطجعت بينه و بين الحيّة فإن كان شي‏ء فيّ دونه، فاستيقظ و هو يتلو هذه الآية:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ ) قال: الحمد لله فأتى إلى جانبي فقال: ما اضطجعت ههنا؟ قلت: لمكان هذه الحيّة قال: قم إليها فاقتلها فقتلتها.

ثمّ أخذ بيدي فقال: يا أبارافع سيكون بعدي قوم يقاتلون عليّاً حقّ على الله جهادهم، فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه، فمن لم يستطع بلسانه فبقلبه ليس وراء ذلك.

أقول: و الروايات في نزول الآيتين في قصّة التصدّق بالخاتم كثيرة أخرجنا عدّة منها من كتاب غاية المرام للبحرانيّ، و هي موجودة في الكتب المنقول عنها، و قد اقتصرنا على ما نقل عليه من اختلاف اللحن في سرد القصّة.

و قد اشترك في نقلها عدّة من الصحابة كأبي ذرّ و ابن عبّاس و أنس بن مالك و عمّار و جابر و سلمة بن كهيل و أبي رافع و عمرو بن العاص، و عليّ و الحسين و كذا السجاد و الباقر و الصادق و الهادي و غيرهم من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

و قد اتّفق على نقلها من غير ردّ أئمّة التفسير المأثور كأحمد و النسائيّ و الطبريّ و الطبرانيّ و عبد بن حميد و غيرهم من الحفّاظ و أئمّة الحديث و قد تسلّم ورود الرواية المتكلّمون، و أوردها الفقهاء في مسألة الفعل الكثير من بحث الصلاة، و في مسألة( هل

٢٣

تسمّى صدقة التطوّع زكاة) و لم يناقش في صحّة انطباق الآية على الرواية فحول الأدب من المفسّرين كالزمخشريّ في الكشّاف، و أبي حيّان في تفسيره، و لا الرواة النقلة و هم أهل اللسان.

فلا يعبأ بما ذكره بعضهم: أنّ حديث نزول الآية في قصّة الخاتم موضوع مختلق، و قد أفرط بعضهم كشيخ الإسلام ابن تيميّة فادّعى إجماع العلماء على كون الرواية موضوعة! و هي من عجيب الدعاوي، و قد عرفت ما هو الحقّ في المقام في البيان المتقدّم.

٢٤

( سورة المائدة الآيات ٥٧ - ٦٦)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتّخِذُوا الّذِينَ اتّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوا وَلَعِباً مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ( ٥٧) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصّلاَةِ اتّخَذُوهَا هُزُواًوَلَعِباً ذلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ( ٥٨) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا إِلّا أَنْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ( ٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُم بِشَرّ مِن ذلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطّاغُوتَ أُولئِكَ شَرّ مَكَاناً وَأَضَلّ عَن سَوَاءِ السّبِيلِ( ٦٠) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنّا وَقَد دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ( ٦١) وَتَرَى‏ كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ٦٢) لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرّبّانِيّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ( ٦٣) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنّ كَثِيراً مِنْهُم مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى‏ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الْمُفْسِدِينَ( ٦٤) وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتّقَوْا لَكَفّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنّاتِ النّعِيمِ( ٦٥) وَلَوْ أَنّهُمْ أَقَامُوا التّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِم مِن رَبّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ( ٦٦)

٢٥

( بيان)

الآيات تنهى عن اتّخاذ المستهزئين بالله و آياته من أهل الكتاب و الكفّار أولياء و تعدّ اُموراً من مساوي صفاتهم و نقضهم مواثيق الله و عهوده و ما يلحق بها بما يناسب غرض السورة (الحثّ على حفظ العهود و المواثيق و ذمّ نقضها).

و كأنّها ذات سياق متّصل واحد و إن كان من الجائز أن يكون لبعض أجزائها سبب مستقلّ من حيث النزول.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ ) إلخ قال الراغب: الهزؤ مزح في خفية، و قد يقال لما هو كالمزح (انتهى)، و قال: و لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصداً صحيحاً، يلعب لعباً، (انتهى)، و إنّما يتّخذ الشي‏ء هزؤاً و يستهزئ به إذا اتّخذ به على وصف لا يعتنى بأمره اعتناء جدّ لإظهار أنّه ممّا لا ينبغي أن يلتفت إليه، و كذا الشي‏ء يلعب به إذا كان ممّا لا يتّخذ لواحد من الأغراض الصحيحة العقلائيّة إلّا أن يتّخذ لبعض الشؤون غير الحقيقيّة فالهزؤ بالدين و اللعب به إنّما هما لإظهار أنّه لا يعدل إلّا بعض الأغراض الباطلة غير الصحيحة و غير الجدّيّة، و لو قدّروه ديناً حقّاً أو قدّروا أنّ مشرّعه و الداعي إليه و المؤمنين به ذووا أقدام جدّ و صدق، و احترموا له و لهم مكانهم لما وضعوه ذاك الموضع فاتّخاذهم الدين هزؤاً و لعباً قضاءٌ منهم بأن ليس له من الواقعيّة و المكانة الحقيقيّة شي‏ء إلّا أن يؤخذ به ليمزح به أو ليلعب به لعباً.

و من هنا يظهرأوّلاً: أنّ ذكر اتّخاذهم الدين هزؤاً و لعباً في وصف من نهي عن ولايتهم إنّما هو للإشارة إلى علّة النهي فإنّ الولاية الّتي من لوازمها الامتزاج الروحيّ و التصرّف في الشؤون النفسيّة و الاجتماعيّة لا يلائم استهزاء الوليّ و لعبة بما يقدّسه وليّه و يحترمه و يراه أعزّ من كلّ شي‏ء حتّى من نفسه فمن الواجب أن لا يتّخذ من هذا شأنه وليّاً، و لا يلقي أزمّة التصرّف في الروح و الجسم إليه.

٢٦

و ثانياً: ما في اتّخاذ وصف الإيمان في الخطاب في قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) من المناسبة لمقابلته بقوله:( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً ) و كذلك ما في إضافة الدين إليهم في قوله:( دِينَكُمْ ) .

و ثالثاً: أنّ قوله:( وَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) بمنزلة التأكيد لقوله:( لا تَتَّخِذُوا الّذينَ اتّخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً ) إلخ، بتكراره بلفظ أعمّ و أشمل فإنّ المؤمن و هو الآخذ بعروة الإيمان لا معنى لأن يرضى بالهزئ و اللّعب بما آمن به فهؤلاء إن كانوا متلبّسين بالإيمان - أي كان الدين لهم ديناً - لم يكن لهم بدّ من تقوى الله في أمرهم أي عدم اتّخاذهم أولياء.

و من المحتمل أن يكون قوله:( وَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) إشارة إلى ما ذكره تعالى من نحو قوله قبيل آيات:( وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) و المعنى: و اتّقوا الله في اتّخاذهم أولياء إن لم تكونوا منهم، و المعنى الأوّل لعلّه أظهر.

قوله تعالى: ( وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً ) إلخ تحقيق لما ذكر أنّهم يتّخذون دين الّذين آمنوا هزواً و لعباً، و المراد بالنداء إلى الصلاة الأذان المشروع في الإسلام قبل الصلوات المفروضة اليوميّة، و لم يذكر الأذان في القرآن الكريم إلّا في هذا الموضع - كما قيل -.

و الضمير في قوله:( اتَّخَذُوها ) راجع إلى الصلاة أو إلى المصدر المفهوم من قوله:( إِذا نادَيْتُمْ ) أعني المناداة، و يجوز في الضمير العائد إلى المصدر التذكير و التأنيث، و قوله:( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) تذييل يجري مجرى الجواب عن فعلهم و بيان أنّ صدور هذا الفعل أعني اتّخاذ الصلاة أو الأذان هزواً و لعباً منهم إنّما هو لكونهم قوماً لا يعقلون فلا يسعهم أن يتحقّقوا ما في هذه الأركان و الأعمال العباديّة الدينيّة من حقيقة العبوديّة و فوائد القرب من الله، و جماع سعادة الحياة في الدنيا و العقبى.

قوله تعالى: ( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ ) (إلى آخر الآية) قال الراغب في مفردات القرآن: نقمت الشي‏ء (بالكسر) و نقمته (بالفتح) إذا أنكرته إمّا باللسان و إمّا بالعقوبة، قال تعالى:( وَ ما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ، وَ ما

٢٧

نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ، هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا ) (الآية) و النقمة: العقوبة قال تعالى:( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ ) انتهى.

فمعنى قوله:( هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا ) إلخ هل تنكرون أو تكرهون منّا إلّا هذا الّذي تشاهدونه و هو أنّا آمنّا بالله و ما أنزله و أنّكم فاسقون؟ نظير قول القائل: هل تكره منّي إلّا أنّي عفيف و أنّك فاجر، و هل تنكر منّي إلّا أنّي غنيّ و أنّك فقير؟ إلى غير ذلك من موارد المقابلة و الازدواج فالمعنى: هل تنكرون منا إلّا أنّا مؤمنون و أنّ أكثركم فاسقون.

و ربّما قيل: إنّ قوله:( وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ ) بتقدير لام التعليل و المعنى: هل تنقمون منّا إلّا لأنّ أكثركم فاسقون؟.

و قوله:( أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ ) في معنى ما اُنزل إلينا و إليكم، و لم ينسبه إليهم تعريضاً بهم كأنّهم إذا لم يفوا بما عاهدوا الله عليه و لم يعملوا بما تأمرهم به كتبهم فكتبهم لم تنزل إليهم و ليسوا بأهلها.

و محصّل المعنى: أنّا لا نفرّق بين كتاب و كتاب ممّا أنزله الله على رسله فلا نفرّق بين رسله، و فيه تعريض لهم أنّهم يفرّقون بين رسل الله و يقولون:( نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ ) كما كانوا يقولون:( آمِنُوا بِالّذي أُنْزِلَ عَلَى الّذينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ ) ، قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ) النساء: ١٥١.

قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ ) (إلى آخر الآية) ذكروا أنّ هذا أمر منه تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخاطب اُولئك المستهزئين اللّاعبين بالدين على طريق التسليم أخذاً بالنصفة في التكليم ليلزمهم أنّهم إن نقموا من المؤمنين إيمانهم بالله و ما أنزله على رسله فعليهم أن ينقموا أنفسهم لأنّهم شرّ مكاناً و أضلّ عن سواء السبيل لابتلائهم باللعن الإلهيّ و المسخ بالقردة و الخنازير و عبادة الطاغوت فإذا لم ينقموا أنفسهم على ما فيهم من أسباب النقمة فليس لهم أن ينقموا من لم يبتل إلّا بما هو دونه في الشرّ، و هم المؤمنون في إيمانهم على تقدير تسليم أن يكون

٢٨

إيمانهم بالله و كتبه شرّاً، و لن يكون شرّاً.

فالمراد بالمثوبة مطلق الجزاء، و لعلّها استعيرت للعاقبة و الصفة اللازمة كما يستفاد من تقييد قوله:( بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً ) بقوله:( عِنْدَ اللهِ ) فإنّ الّذي عندالله هو أمر ثابت غير متغيّر و قد حكم به الله و أمر به، قال تعالى:( وَ ما عِنْدَ اللهِ باقٍ ) النحل: ٩٦، و قال تعالى:( لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) الرعد: ٤١، فهذه المثوبة مثوبة لازمة لكونها عندالله سبحانه.

و في الكلام شبه قلب، فإنّ مقتضى استواء الكلام أن يقال: إنّ اللعن و المسخ و عبادة الطاغوت شرّ من الإيمان بالله و كتبه و أشدّ ضلالاً، دون أن يقال: إنّ من لعنه الله و جعل منهم القردة و الخنازير و عبد الطاغوت شرّ مكاناً و أضلّ إلّا بوضع الموصوف مكان الوصف، و هو شائع في القرآن الكريم كقوله تعالى:( وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ) (الآية).

و بالجملة فمحصّل المعنى أنّ إيماننا بالله و ما أنزله على رسله إن كان شرّاً عندكم فأنا اُخبركم بشرّ من ذلك يجب عليكم أن تنقموه و هو النعت الّذي فيكم.

و ربّما قيل: إنّ الإشارة بقوله:( ذلِكَ ) إلى جمع المؤمنين المدلول عليه بقوله:( هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا ) و على هذا فالكلام على استوائه من غير قلب، و المعنى هل اُنبّئكم بمن هو شرّ من المؤمنين لتنقموهم؟ و هم أنتم أنفسكم، و قد ابتليتم باللعن و المسخ و عبادة الطاغوت.

و ربّما قيل: إنّ قوله:( مِنْ ذلِكَ ) إشارة إلى المصدر المدلول عليه بقوله:( هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا ) أي هل اُنبّئكم بشر من نقمتكم هذه مثوبة و جزاءً؟ هو ما ابتليتم به من اللعن و المسخ و غير ذلك.

قوله تعالى: ( وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ) (إلى آخر الآية) يشير تعالى إلى نفاق قلوبهم و إضمارهم ما لا يرتضيه الله سبحانه في لقائهم المؤمنين فقال: و إذا جاؤكم قالوا آمنّا أي أظهروا الإيمان و الحال أنّهم قد دخلوا عليكم مع الكفر و قد خرجوا من عندكم بالكفر أي هم على حالة واحدة عند

٢٩

الدخول و الخروج و هو الكفر لم يتغيّروا عنه و إنّما يظهرون الإيمان إظهاراً، و الحال أنّ الله يعلم ما كانوا يكتمونه سابقاً من الغدر و المكر.

فقوله:( وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ) في معنى قولنا: لم يتغيّر حالهم في الكفر، و الضمير في قوله:( هُمْ قَدْ خَرَجُوا ) جي‏ء به للتأكيد، و إفادة تمييزهم في الأمر و تثبيت الكفر فيهم.

و ربّما قيل: إنّ المعنى أنّهم متحوّلون في أحوال الكفر المختلفة.

قوله تعالى: ( وَ تَرى‏ كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) (إلى آخر الآية)، الظاهر أنّ المراد بالإثم هو الخوض في آيات الدين النازلة على المؤمنين و القول في معارف الدين بما يوجب الكفر و الفسوق على ما يشهد به ما في الآية التالية من قوله:( عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) .

و على هذا فالاُمور الثلاثة أعني الإثم و العدوان و أكل السحت تستوعب نماذج من فسوقهم في القول و الفعل، فهم يقترفون الذنب في القول و هو الإثم القوليّ، و الذنب في الفعل و هو إمّا فيما بينهم و بين المؤمنين و هو التعدّي عليهم، و إمّا عند أنفسهم كأكلهم السحت، و هو الربا و الرشوة و نحو ذلك ثمّ ذمّ ذلك منهم بقوله:( لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) ثمّ أتبعه بتوبيخ الربّانيّين و الأحبار في سكوتهم عنهم و عدم نهيهم عن ارتكاب هذه الموبقات من الآثام و المعاصي و هم عالمون بأنّها معاص و ذنوب فقال:( لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثمّ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ ) .

و ربّما أمكن أن يستفاد من قوله:( عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) عند تطبيقه على ما في الآية السابقة:( يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) حيث ترك العدوان في الآية الثانية أنّ الإثم و العدوان شي‏ء واحد، و هو تعدّي حدود الله سبحانه قولاً تجاه المعصية الفعليّة الّتي أنموذجها أكلهم السحت.

فيكون المراد بقوله:( يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) إراءة سيّئة قوليّة منهم و هي الإثم و العدوان، و سيّئة اُخرى فعليّة منهم و هي أكلهم السحت.

٣٠

و المسارعة مبالغة في معنى السرعة و هي ضدّ البطء، و الفرق بين السرعة و العجلة على ما يستفاد من موارد استعمال الكلمتين أنّ السرعة أمسّ بعمل الأعضاء و العجلة بعمل القلب، نظير الفرق بين الخضوع و الخشوع، و الخوف و الخشية، قال الراغب في المفردات: السرعة ضدّ البطء، و يستعمل في الأجسام و الأفعال، يقال: سرع (بضم الراء) فهو سريع و أسرع فهو مسرع، و أسرعوا صارت إبلهم سراعاً نحو أبلدوا، و سارعوا و تسارعوا، انتهى.

و ربّما قيل: إنّ المسارعة و العجلة بمعنى واحد غير أنّ المسارعة أكثر ما يستعمل في الخير، و أنّ استعمال المسارعة في المقام - و إن كان مقام الذمّ و كانت العجلة أدلّ على الذمّ منها - إنّما هو للإشارة إلى أنّهم يستعملونها كأنّهم محقّون فيها، انتهى و لا يخلو عن بعد.

قوله تعالى: ( وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) كانت اليهود لا ترى جواز النسخ في الأحكام الدينيّة، و لذا كانت لا تقبل بنسخ التوراة و تعيّر المسلمين بنسخ الأحكام، و كذا كانت لا ترى جواز البداء في القضايا التكوينيّة على ما يتراءى من خلال الآيات القرآنيّة كما تقدّم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى:( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) الآية البقرة: ١٠٦، في الجزء الأوّل من هذا الكتاب و في موارد اُخر.

و الآية أعني قوله تعالى:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) تقبل الانطباق على قولهم هذا غير أنّ ظاهر قوله تعالى جوابا عنهم:( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) يأبى عن ذلك، و يدلّ على أنّهم إنّما تكلّموا بهذه الكلمة الأثيمة في شي‏ء من أمر الرزق إمّا في خصوص المؤمنين لما في عامّتهم من الفقر الشامل و العسرة و ضيق المعيشة، و أنّهم إنّما قالوا هذا القول استهزاءً بالله سبحانه إيماءً إلى أنّه لا يقدر على إغناء عباده المؤمنين به و إنجائهم من الفقر و المذلّة، لكنّ هذا الوجه لا يناسب وقوع الآية في سورة المائدة إن كانت نازلة في مطاوي سائر آياتها فإنّ المسلمين كانوا يوم نزولها على خصب من العيش و سعة من الرزق و رفاهية من الحال.

٣١

و إمّا أنّهم إنّما قالوها لجدب أو غلاء أصابهم فضاقت بذلك معيشتهم، و نكدت حالهم، و اختلّ نظام حياتهم، كما ربّما يظهر من بعض ما ورد في أسباب النزول، و هذا الوجه أيضاً يأباه سياق الآيات فإنّ الظاهر أنّ الآيات إنّما تتعرّض لشتات أوصافهم فيما يعود إلى عدوانهم و مكرهم بالنسبة إلى المسلمين نقمة منهم لا ما صدر منهم من إثم القول عند أنفسهم.

و إمّا أنّهم إنّما تفوّهوا بذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى:( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) البقرة: ٢٤٥، و قوله تعالى:( وَ أَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) المزمل: ٢٠، فقالوا: يد الله مغلولة لا يقدر على تحصيل ما ينفق في حوائجه لترويج دينه و إحياء دعوته. و قد قالوا ذلك سخريّة و استهزاءً على ما يظهر من بعض آخر ممّا ورد في أسباب النزول، و هذا الوجه أقرب إلى النظر.

و كيف كان فهذه النسبة أعني نسبة غلّ اليد و المغلوبيّة عند بعض الحوادث ممّا لا يأباه تعليمهم الدينيّ و الآراء الموجودة في التوراة فالتوراة تجوّز أن يكون الاُمور معجزاً لله سبحانه و صادّاً مانعاً له من إنفاذ بعض ما يريده من مقاصده كالأقوياء من الإنسان، يشهد بذلك ما تقصّه من قصص الأنبياء كآدم و غيره.

فعندهم من وجوه الاعتقاد ما يبيح لهم أن ينسبوا إليه تعالى ما لا يناسب ساحة قدسه و كبرياء ذاته جلتّ عظمته و إن كانت الكلمة إنّما صدرت منهم استهزاءً فإنّ لكلّ فعل مبادئ في الاعتقاد ينبعث إليه الإنسان منها و يتجرّأ بها.

و أمّا قوله:( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا ) فهو دعاء عليهم بعذاب مشابه لما نسبوا إليه تعالى من النقص غير المناسب لساحة قدسه، و هو مغلوليّة اليد و انسلاب القدرة على ما يحبّه و يشاؤه، و على هذا فقوله:( وَ لُعِنُوا بِما قالُوا ) عطف تفسير على قوله:( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ) فإنّ مغلوليّة أيديهم مصداق لعنة الله عليهم إذ القول من الله سبحانه فعل، و لعنه تعالى أحداً إنّما هو تعذيبه بعذاب إمّا دنيويّ أو اُخرويّ فاللعن هو العذاب المساوي لغلّ أيديهم أو الأعمّ منه و من غيره.

و ربّما احتمل كون قوله:( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ) إلخ إخباراً عن وقوع كلمة العذاب

٣٢

و هو جزاء اجترائهم على الله سبحانه بقولهم:( يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) عليهم، و الوجه الأوّل أقرب من الفهم.

و أمّا قوله:( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) فهو جواب عن قولهم:( يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) مضروب في قالب الإضراب.

و الجملة أعني قوله:( يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) كناية عن ثبوت القدرة، و هو شائع في الاستعمال.

و إنّما قيل:( يَداهُ ) بصيغة التثنية مع كون اليهود إنّما أتوا في قولهم:( يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) بصيغة الإفراد ليدلّ على كمال القدرة كما ربّما يستفاد من نحو قوله تعالى:( قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ) ص: ٧٥ لما فيه من الإشعار أو الدلالة على إعمال كمال القدرة، و نحو قولهم:( لا يدين بها لك) فإنّ ذلك مبالغة في نفي كلّ قدرة و نعمة.

و ربّما ذكروا لليد معاني مختلفة في اللغة غير الجارحة كالقدرة و القوّة و النعمة و الملك و غير ذلك، لكنّ الحقّ أنّ اللفظة موضوعة في الأصل للجارحة، و إنّما استعملت في غيرها من المعاني على نحو الاستعارة لكونها من الشؤون المنتسبة إلى الجارحة نوعاً من الانتساب كانتساب الإنفاق و الجود إلى اليد من حيث بسطها، و انتساب الملك إليها من حيث التصرّف و الوضع و الرفع و غير ذلك.

فما يثبته الكتاب و السنّة لله سبحانه من اليد يختلف معناه باختلاف الموارد كقوله تعالى:( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) (الآية)، و قوله:( أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) ص: ٧٥ يراد به القدرة و كمالها، و قوله:( بِيَدِكَ الْخَيْرُ ) آل عمران: ٢٦، و قوله:( فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) يس: ٨٣، و قوله:( تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) الملك: ١، إلى غير ذلك يراد بها الملك و السلطة، و قوله:( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَ رَسُولِهِ ) الحجرات: ١ يراد بها الحضور و نحوه.

و أمّا قوله:( يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) فهو بيان لقوله:( يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) .

قوله تعالى: ( وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً )

٣٣

هذه الجملة و ما يتلوها إلى آخر الآية كلام مسرود لتوضيح قوله:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا ) على ما يعطيه السياق.

فأمّا قوله:( وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ) إلخ، فيشير إلى أنّ اجتراءهم على الله العظيم و تفوّههم بمثل قولهم:( يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) ليس من المستبعد منهم فإنّ القوم متلبّسون بالاعتداء و الكفر من قديم أيّامهم، و قد أورثهم ذلك البغي و الحسد، و لا يؤمن من هذه سجيّته إذا رأى أنّ الله فضّل غيره عليه بما لا يقدّر قدره من النعمة أن يزداد طغياناً و كفراً.

و اليهود كانت ترى لنفسها السيادة و التقدّم على الدنيا، و كانت تتسمّى بأهل الكتاب، و تتباهى بالربّانيّين و الأحبار، و تفتخر بالعلم و الحكمة، و تسمّي سائر الناس اُمّيّين، فإذا رأت قرآناً نازلاً على قوم كانت تتذلّل لعلمها و كتابها - كما كانت هي الحرمة المراعاة بينها و بين العرب في الجاهليّة - ثمّ أمعنت فيه فوجدته كتاباً إلهيّاً مهيمناً على ما تقدّم عليه من الكتب السماويّة، و مشتملاً على الحقّ الصريح و التعليم العالي و الهداية التامّة ثمّ أحسّت بما يتعقّبه من ذلّتها و استكانتها في نفس ما كانت تتعزّز و تتباهى به و هو العلم و الكتاب.

لا جرم تستيقظ من رقدتها، و تطغى عاديتها، و يزيد طغيانها و كفرها.

فنسبة زيادة طغيانهم و كفرهم إلى القرآن إنّما هي بعناية أنّ أنفسهم الباغية الحاسدة ثارت بالطغيان و الكفر بمشاهدة نزول القرآن و إدراك ما يتضمّنه من المعارف الحقّة و الدعوة الظاهرة.

على أنّ الله سبحانه ينسب الهداية و الإضلال في كتابه إلى نفسه كثيراً كقوله:( كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) الإسراء: ٢٠ و قال في خصوص القرآن:( وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ) الإسراء: ٨٢ و الإضلال أو ما يشبهه إنّما يعدّ مذموماً إذا كان إضلالاً ابتدائيّاً، و أمّا ما كان منه من قبيل الجزاء إثر فسق و معصية من الضالّ يوجب نزول السخط الإلهيّ عليه و يستدعي حلول ما هو أشدّ ممّا هو فيه من الضلال

٣٤

فلا ضير في الإضلال بهذا المعنى و لا ذمّ يلحقه كما يشير إليه قوله:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦، و قوله:( فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ) الصفّ: ٥.

و بالأخرة يعود معنى زيادة القرآن طغيانهم و كفرهم إلى سلب التوفيق و عدم تعلّق العناية الإلهيّة بردّهم ممّا هم فيه من الطغيان و الكفر بآيات الله إلى التسليم و الإيمان بإجابة الدعوة الحقّة، و قد تقدّم البحث عن هذا المعنى في تفسير قوله تعالى:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦ في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

و لنرجع إلى أوّل الكلام فقوله:( وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ) إلخ، كأنّه مسوق لرفع الاستبعاد و التعجّب الناشئ من اجتراء هؤلاء المتسمّين بأهل الكتاب، و المدّعين أنّهم أبناؤ الله و أحبّاؤه على ربّهم بمثل هذه الكلمة المهينة المزرية: (يد الله مغلولة).

و إنّ من المحتوم اللّازم لهم هذه الزيادة في الطغيان و الكفر الّتي هذه الكلمة من آثارها و سيتلوها آثار بعد آثار مشوهة، و هذا هو المستفاد من التأكيد المدلول عليه بلام القسم و نون التأكيد في قوله:( لَيَزِيدَنَّ ) .

و في تعقيب الطغيان بالكفر من غير عكس جرى على الترتيب الطبعيّ فإنّ الكفر من آثار الطغيان و تبعاته.

قوله تعالى: ( وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) ضمير بينهم راجع إلى اليهود على ما هو ظاهر وقوع الجملة في سياق الكلام على اليهود خاصّة و إن كانت الآيات بدأت الكلام في أهل الكتاب عامّة، و على هذا فالمراد بالعداوة و البغضاء بينهم ما يرجع إلى الاختلاف في المذاهب و الآراء، و قد أشار الله سبحانه إليه في مواضع من كلامه كقوله:( وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ - إلى أن قال -فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) الجاثية: ١٧ و غير ذلك من الآيات.

و العداوة كأنّ المراد بها البغض الّذي يستصحب التعدّي في العمل، و البغضاء هو مطلق ما في القلب من حالة النفار و إن لم يستعقب التعدّي في العمل فيفيد اجتماعهما معنى البغض الّذي يوجب الظلم على الغير و البغض الّذي يقصر عنه.

٣٥

و في قوله تعالى:( إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) ما لا يخفى من الدلالة على بقاء اُمّتهم إلى آخر الدنيا.

قوله تعالى: ( كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ ) إيقاد النار إشعالها، و إطفاؤها إخمادها، و المعنى واضح، و من المحتمل أن يكون قوله:( كُلَّما أَوْقَدُوا ) إلخ بياناً لقوله:( وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ ) إلخ فيعود المعنى إلى أنّه كلّما أثاروا حرباً على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين أطفأها الله بإلقاء الاختلاف بينهم.

و الآية على ما يدلّ عليه السياق تسجّل عليهم خيبة المسعى في إيقاد النيران الّتي يوقدونها على دين الله سبحانه، و على المسلمين بما أنّهم مؤمنون بالله و آياته، و أمّا الحروب الّتي ربّما أمكن أن يوقدوا نارها لا لأمر الدين الحقّ بل لسياسة أو تغلّب جنسيّ أو ملّيّ فهي خارجة عن مساق الآية.

قوله تعالى: ( وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَ اللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) السعي هو السير السريع، و قوله:( فَساداً ) مفعول له أي يجتهدون لإفساد الأرض، و الله لا يحبّ المفسدين فلا يخلّيهم و أن ينالوا ما أرادوه من فساد الأرض فيخيب سعيهم، و الله أعلم.

فهذا كلّه بيان لكونهم غلّت أيديهم و لعنوا بما قالوا، حيث إنّهم غير نائلين ما قصدوه من إثارة الحروب على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المسلمين، و ما اجتهدوا لأجله من فساد الأرض.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) إلخ عود إلى حال أهل الكتاب عامّة كما كان بدأ الكلام فيهم عامّة، و ختم الكلام بتخليص القول في ما فاتهم من نعمة السعادة في الآخرة و الدنيا، و هي جنّة النعيم و نعمة الحياة السعيدة.

و المراد بالتقوى بعد الإيمان التورّع عن محارم الله و اتّقاء الذنوب الّتي تحتم السخط الإلهيّ و عذاب النار، و هي الشرك بالله و سائر الكبائر الموبقة الّتي أوعد الله عليها النار، فيكون المراد بالسيّئات الّتي وعد الله سبحانه تكفيرها الصغائر من الذنوب، و ينطبق على قوله سبحانه:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً ) النساء: ٣١.

٣٦

قوله تعالى: ( وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) المراد بالتوراة و الإنجيل الكتابان السماويّان اللّذان يذكر القرآن أنّ الله أنزلهما على موسى و عيسىعليهما‌السلام دون ما بأيدي القوم من الكتب الّتي يذكر أنّه لعبت بها يد التحريف.

و الظاهر أنّ المراد بما اُنزل إليهم من ربّهم سائر الكتب المنسوبة إلى الأنبياء الموجودة عندهم كمزامير داود الّذي يسمّيه القرآن بالزبور، و غيره من الكتب.

و أمّا احتمال أن يكون المراد به القرآن فيبعّده أنّ القرآن نسخ بأحكامه شرائع التوراة و الإنجيل فلا وجه لعدّهما معه و تمنّي أن يكونوا أقاموهما مع القرآن الناسخ لهما، و القول بأنّ العمل بالقرآن عمل بهما أيضاً، كما أنّ العمل بالأحكام الناسخة في الإسلام عمل بمجموع شرائع الإسلام المتضمّنة للناسخ و المنسوخ جميعاً لكون دين الله واحداً لا يزاحم بعضه بعضاً، غاية الأمر أنّ بعض الأحكام مؤجّلة موقوتة من غير تناقض يدفعه أنّ الله سبحانه عبّر عن هذا العمل بالإقامة و هي حفظ الشي‏ء على ساق، و لا يلائم ذلك الأحكام المنسوخة بما هي منسوخة، فإقامة التوراة و الإنجيل إنّما يصحّ حين كانت الشريعتان لم تنسخا بشريعة اُخرى، و الإنجيل لم ينسخ شريعة التوراة إلّا في اُمور يسيرة.

على أنّ قوله تعالى:( وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ) يعدّهم منزلاً إليهم، و غير معهود من كلامه تعالى أن يذكر أنّ القرآن نزل إليهم.

فالظاهر أنّ المراد بما اُنزل إليهم من ربّهم بعد التوراة و الإنجيل سائر الكتب و أقسام الوحي المنزلة على أنبياء بني إسرائيل كزبور داود و غيره، و المراد بإقامة هذه الكتب حفظ العمل العامّ بما فيها من شرائع الله تعالى، و الاعتقاد بما بيّن الله تعالى فيها من معارف المبدأ و المعاد من غير أن يضرب عليها بحجب التحريف و الكتمان و الترك الصريح، فلو أقاموها هذه الإقامة لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم.

٣٧

و أمّا قوله تعالى:( لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) فالمراد بالأكل التنعّم مطلقاً سواء كان بالأكل كما في مورد الأغذية أو بغيره كما في غيره، و استعمال الأكل في مطلق التصرّف و التنعّم من غير مزاحم شائع في اللغة.

و المراد من فوقهم هو السماء، و من تحت أرجلهم هو الأرض، فالجملة كناية عن تنعّمهم بنعم السماء و الأرض و إحاطة بركاتهما عليهم نظير ما وقع في قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ، وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) الأعراف: ٩٦.

و الآية من الدليل على أنّ لإيمان هذا النوع أعني نوع الإنسان و أعماله الصالحة تأثيراً في صلاح النظام الكونيّ من حيث ارتباطه بالنوع الإنسانيّ فلو صلح هذا النوع صلح نظام الدنيا من حيث إيفائه باللّازم لحياة الإنسان السعيدة من اندفاع النقم و وفور النعم.

و يدلّ على ذلك آيات اُخرى كثيرة في القرآن بإطلاق لفظها كقوله تعالى:( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي البرّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الّذينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ) الروم: ٤٢ و قوله تعالى:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) الشورى: ٣٠ إلى غير ذلك و قد تقدّم بعض ما يتعلّق به من الكلام في البحث عن أحكام الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ( مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ ) الاقتصاد أخذ القصد و هو التوسّط في الاُمور فالاُمّة المقتصدة هي المعتدلة في أمر الدين و التسليم لأمر الله.

و الكلام مستأنف اُريد به بيان حال جميع ما نسب إليهم من التعدّي عن حدود الله و الكفر بآيات الله و نزول السخط و اللعن على جماعتهم أنّ ذلك كلّه إنّما تلبّس به أكثرهم و هو المصحّح لنسبة هذه الفظائع إليهم و أنّ منهم اُمّة معتدلة ليست على هذا النعت و هذا من نصفة الكلام الإلهيّ حيث لا يضيّع حقّاً من الحقوق و يراقب إحياء أمر الحقّ و إن كان قليلاً.

٣٨

و قد تعرّض لذلك أيضاً في مطاوي الآيات السابقة لكن لا بهذه المثابة من التصريح كقوله:( وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ ) و قوله:( وَ تَرى‏ كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ ) إلخ و قوله:( وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ ربّك طُغْياناً وَ كُفْراً ً ) .

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمنّا ) الآية قال: نزلت في عبدالله بن اُبيّ لما أظهر الإسلام و قد دخلوا بالكفر.

أقول: ظاهر السياق أنّها نازلة في أهل الكتاب لا في المنافقين إلّا أن تكون نزلت وحدها.

و فيه في قوله تعالى:( وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ) الآية قال: قال: قد خرجوا به من الإيمان.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن عمر بن رياح عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت له: بلغني أنّك تقول: من طلّق لغير السنّة أنّك لا ترى طلاقه شيئاً؟ فقال أبوجعفرعليه‌السلام : ما أقول بل الله عزّوجلّ يقوله، أمّا و الله لو كنّا نفتيكم بالجور لكنّا شرّاً منكم! إنّ الله يقول:( لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثمّ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ‏ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : إنّ عمر بن رياح زعم أنّك قلت: لا طلاق إلّا ببيّنة؟ قال: فقال: ما أنا قلته بل الله تبارك و تعالى يقول: أمّا و الله لو كنّا نفتيكم بالجور لكنّا أشرّ منكم! إنّ الله يقول:( لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ ) .

و في مجالس الشيخ، بإسناده عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله تعالى:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) فقال: كانوا يقولون: قد فرغ من الأمر.

٣٩

أقول: و روى هذا المعنى العيّاشيّ في تفسيره عن يعقوب بن شعيب و عن حمّاد عنهعليه‌السلام .

و في تفسير القمّيّ قال: قالوا: قد فرغ الله من الأمر لا يحدث غير ما قدّره في التقدير الأوّل، فردّ الله عليهم فقال:( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) أي يقدّم و يؤخّر، و يزيد و ينقص و له البداء و المشيّة.

أقول: و روى هذا المعنى الصدوق في المعاني، بإسناده عن إسحاق بن عمّار عمّن سمعه عن الصادقعليه‌السلام .

و في تفسير العيّاشيّ، عن هشام المشرقيّ عن أبي الحسن الخراسانيّعليه‌السلام قال: إنّ الله كما وصف نفسه أحد صمد نور، ثمّ قال:( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) فقلت له: أ فله يدان هكذا؟ - و أشرت بيدي إلى يده - فقال: لو كان هكذا كان مخلوقاً.

أقول: و رواه الصدوق في العيون، بإسناده عن المشرقيّ عنهعليه‌السلام .

و في المعاني، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: سألت جعفراًعليه‌السلام فقلت: قوله عزّوجلّ:( يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) ؟ قال: اليد في كلام العرب القوّة و النعمة قال:( وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ، وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ - أي بقوّة -وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ ) قال:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) قال: أي قوّاهم، و يقال: لفلان عندي يد بيضاء أي نعمة.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ ) (الآية): يعني اليهود و النصارى( لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) قال: قال: من فوقهم المطر، و من تحت أرجلهم النبات.

و في تفسير العيّاشيّ في قوله تعالى:( مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ ) (الآية) عن أبي الصهباء الكبرىّ قال: سمعت عليّ بن أبي طالب دعا رأس الجالوت و اُسقفّ النصارى فقال: إنّي سائلكما عن أمر و أنا أعلم به منكما فلا تكتما ثمّ دعا اُسقفّ النصارى فقال: اُنشدك بالله الّذي أنزل الإنجيل على عيسى، و جعل على رجله البركة، و كان يبرئ الأكمة و الأبرص، و أزال ألم العين، و أحيا الميّت، و صنع لكم من الطين طيوراً،

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

الرابع قد باع نصيبه أو كان واحد من الثلاثة حاضراً ، فإنّه إمّا أن يأخذ الجميع أو يترك الجميعَ ، وليس له أخذ نصيبه ؛ لما فيه من تضرّر المشتري.

فإن أخذ الجميعَ ثمّ قدم ثانٍ ، أخذ منه النصفَ ؛ لأنّه لا شفيع الآن غيرهما ، ووجدت المطالبة منهما دون الثالث ، فكانت الشفعة بينهما ، فإن قدم الثالث ، أخذ منهما الثلث ليكونوا سواء ، فإن عفا الثاني ، استقرّ على الأوّل ، وإن عفا الثالث ، استقرّ عليهما.

ولو كان للشقص غلّة حصلت في يد الأوّل ، لم يشاركه الثاني فيها ؛ لأنّه مَلَك الجميعَ بالأخذ ، وقد حصل النماء في ملكه ، فكانت كما لو انفصلت في يد المشتري قبل الأخذ بالشفعة.

وكذا إن أخذ الثاني وحصلت الغلّة في يده ، لم يشاركه الثالث فيها.

ولو خرج الشقص مستحقّاً ، قال أكثر الشافعيّة : إنّ العهدة على المشتري يرجع الثلاثة عليه ، ولا يرجع أحدهم على الآخَر ؛ لأنّ الشفعة [ ليست ](١) مستحقّة عليهم(٢) .

وقال بعض الشافعيّة : يرجع الثاني على الأوّل ، والثالث يرجع عليهما ، والأوّل يرجع على المشتري ، لأنّ الثاني أخذ من الأوّل ودفع الثمن إليه(٣) .

وقال بعض الشافعيّة : هذا الخلاف في الرجوع بالمغروم من اجرة ونقص قيمة الشقص ، فأمّا الثمن فكلّ يستردّ ما سلّمه ممّن سلّمه إليه‌

____________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة المعنى.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٥ - ١٨٦.

٣٤١

بلا خلاف(١) . وهو المعتمد.

مسالة ٨٠٣ : لو قال الأوّل : لا آخذ الجميعَ وإنّما أنتظر مجي‌ء الشركاء ليأخذوا أو يعفوا‌ ، فالأقرب : عدم سقوط شفعته بذلك ، لأنّ له غرضاً في الترك ، وهو أن لا يأخذ ما يؤخذ منه ويحتاج إلى ثمن كثير ربما لا يقدر عليه في تلك الحال ، ومع ذلك يؤدّي حاله إلى عدم التمكّن من العمارة على ما يريده ، وربما انتزع منه فيضيع تعبه ، وهو أحد قولي الشافعيّة.

والثاني : أنّه تسقط شفعته ؛ لأنّه يمكنه الأخذ فلم يفعل فبطلت(٢) .

وليس بجيّد ؛ لعدم تمكّنه من أخذ حقٍّ لا ينازعه فيه غيره.

ولو قال الثاني : لا آخذ النصف ، بل الثلث خاصّةً لئلّا يحضر الثالث فيأخذ منّي ، فله ذلك ؛ لأنّه يأخذ دون حقّه ، بخلاف الأوّل ؛ لأنّ أخذه لبعض الشقص تبعيض للشقص على المشتري ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(٣) .

ويُشكل بأنّه يريد أن يأخذ بعض ما يخصّه ، وليس لأحد الشفيعين أن يأخذ بعض ما يخصّه. فإن أخذ الثلث إمّا على هذا الوجه أو بالتراضي ، وهو سهمان من ستّة ، ثمّ قدم الثالث ، فله أن يأخذ من الأوّل نصف ما في يده ، فإن أخذه ، فلا كلام. وإن أراد أن يأخذ من الثاني ثلث ما في يده ، فله ذلك ؛ لأنّ حقّه ثابت في كلّ جزء.

ثمّ له أن يقول للأوّل : ضمّ ما معك إلى ما أخذته لنقسمه نصفين ؛

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٦.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ٢٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٣ ، روضة الطالبين ٤ :١٨٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٦.

٣٤٢

لأنّا متساويان.

وتصحّ المسألة من ثمانية عشر ؛ لأنّا نحتاج إلى عددٍ لثُلْثه ثُلْث ، وهو تسعة ، مع الثاني - منها - ثلاثة ، ومع الأوّل ستّة ، فيأخذ الثالث من الثاني(١) واحداً ويضمّه إلى ما مع الأوّل وهو ستّة ، فلا تنقسم ، فنضرب(٢) اثنين في تسعة تبلغ ثمانية عشر ، للثاني منها اثنان في اثنين أربعة ، تبقى أربعة عشر ، للأوّل والثالث نصفين ، وهذا المنقسم من ثمانية عشر ربع الدار ، فتكون جملتها اثنين وسبعين - قال بعض الشافعيّة : لمـّا ترك الثاني سدساً للأوّل صار عافياً عن بعض حقّه ، فيبطل جميع حقّه على الأصحّ ، كما سبق ، فينبغي أن يسقط حقّ الثاني كلّه ، ويكون الشقص بين الأوّل والثالث(٣) - فكأنّ الثالث يقول للأوّل : نحن سواء في الاستحقاق ، ولم يترك واحد منّا شيئا من حقّه ، فنجمع ما معنا ونقسمه ، بخلاف الثاني ، لأنّه ترك شيئا من حقّه. ولأنّه لمـّا قدم الثالث فله أن يأخذ من الثاني ثلث ما في يده ، وذلك ثلثا سهم ، ولا يسقط حقّه بما تركه في يد الأوّل ، ثمّ يضمّ ما معه إلى ما في يد الأوّل ، وهو أربعة أسهم ، فيكون أربعة أسهم وثلثي سهم يقتسمانها نصفين ، لأنّه يطالب الأوّل بثلث نصيبه ، وهو سهم من ثلاثة وثلث السهم الذي تركه الثاني ، لأنّه لو أخذه لأخذ ثلثه ، ويبقى ثلثا هذا السهم تركه الثاني ، وسقط حقّه عنه ، فيقتسمانه بينهما ، فيحصل له ذلك من أربع جهات ، فإن قدم الرابع أخذ من الثاني سهما ، وهو ربع ما بيده ، وضمّه إلى ما في يد الأوّل والثالث يصير خمسة عشر يقتسمونه أثلاثا لكلّ واحد‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فيأخذ الثاني من الثالث ». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « نضرب ». والأنسب ما أثبتناه.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٧.

٣٤٣

خمسة.

مسالة ٨٠٤ : لو أخذ الأوّل الشقص بالشفعة ثمّ وجد به عيباً فردّه ثمّ قدم الثاني ، كان له أخذ جميع الشقص - وبه قال الشافعي(١) - لأنّ الشفيع فسخ تملّكه ، ورجع إلى المشتري بالسبب الأوّل ، فكان للشفيع الآخَر أن يأخذه ، كما لو عفا.

وقال محمد بن الحسن الشيباني : إنّه لا يأخذ إلّا حصّته ؛ لأنّ الأوّل لم يعف عن الشفعة ، وإنّما ردّ ذلك لأجل العيب ، فلم يتوفّر نصيبه على الآخَر ، كما لو رجع إليه نصيب أحدهما بسببٍ آخَر(٢) .

والفرق بين صورة النزاع وبين عوده بسببٍ آخَر ثابت ؛ لأنّه عاد غير الملك الأوّل الذي تعلّقت به الشفعة.

مسالة ٨٠٥ : لو حضر اثنان وأخذا الشقص واقتسماه‌ ، كان للثالث بعد حضوره نقض القسمة ، والمطالبة بحصّته من الشفعة ، وله أن يأخذ من كلّ واحدٍ منهما ثلث ما في يده ، وتبقى القسمة بحالها إن رضي المتقاسمان بذلك ، وإلّا فلكلٍّ منهما الفسخ ؛ لأنّه إنّما رضي بأخذ الجميع ، والقسمة لم تقع فاسدةً في نفسها ، بل وقعت صحيحةً ، وتعقَّبها البطلان المتجدّد ، فإذا لم يسلم له جميع ما وصل إليه ، كان له الفسخ.

ولو قدم الثالث وأحد الشريكين كان غائباً ، فإن قضى له القاضي على الغائب ، أخذ من الحاضر الثلث ، ومن الغائب الثلث. وإن لم يقض ، أخذ من الحاضر الثلث ؛ لأنّه قدر ما يستحقّه ممّا في يده ، وهو أحد وجهي‌

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ٢٩٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٦.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٢٩٦.

٣٤٤

الشافعيّة ، والثاني : النصف ؛ لأنّ أحدهما إذا كان غائباً ، صار كأنّهما الشفيعان ، فيقتسمان بينهما بالسويّة(١) .

إذا ثبت هذا ، فإن حضر الغائب وغاب هذا الحاضر ، فإن كان أخذ من الحاضر ثلث ما في يده ، أخذ من الذي كان غائباً وحضر ثلثَ ما في يده أيضاً(٢) . وإن كان قد أخذ من الحاضر النصفَ ممّا في يده ، أخذ من هذا سدس ما في يده ، فيتمّ بذلك نصيبه ، ويكون ذلك من ثمانية وأربعين ، والمبيع اثنا عشر أخذ ستّةً.

مسالة ٨٠٦ : لو كانت الدار بين ثلاثة فباع اثنان من رجل شقصاً‌ ، فقال الشفيع : أنا آخذ ما باع فلان وأترك ما باع فلان الآخر ، كان له ذلك ؛ لأنّ العقد إذا كان في أحد طرفيه عاقدان كان بمنزلة العقدين ، وبه قال الشافعي(٣) ، خلافاً لأبي حنيفة(٤) ، وقد سلف(٥) .

ولو باع واحد من اثنين ، كان للشفيع أن يأخذ منهما أو من أحدهما ، دون الآخر - وبه قال الشافعي(٦) - لأنّهما مشتريان ، فجاز(٧) للشفيع أخذ نصيب أحدهما.

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ٢٩٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٧.

(٢) كلمة « أيضاً » لم ترد في « س » والطبعة الحجريّة.

(٣) مختصر المزني : ١٢١ ، الحاوي الكبير ٧ : ٢٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٧.

(٤) الحاوي الكبير ٧ : ٢٨٩ ، المغني ٥ : ٥٣٠.

(٥) راجع ص ٣٧ ، المسألة ٥٦٣.

(٦) مختصر المزني : ١٢١ ، الحاوي الكبير ٧ : ٢٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٧ ، المغني ٥ : ٥٣٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٩٨.

(٧) في الطبعة الحجريّة : « فكان » بدل « فجاز ».

٣٤٥

وقال أبو حنيفة : يجوز بعد القبض ، ولا يجوز قبله في إحدى الروايتين ، لأنّه قبل القبض يكون تبعيضاً للصفقة على البائع(١) ؛ بناءً على أصله في أنّه يأخذ المبيع منه.

وهو ممنوع ، على أنّ الباقي يأخذه المشتري والآخَر ، وليس تبعيضاً.

وكذا لو باع اثنان من واحد ، فإنّ للشفيع أن يأخذ الحصّتين أو حصّة أحدهما دون الآخَر ؛ لما تقدّم ، خلافاً لأبي حنيفة ولمالك(٢) .

ولو باع الشريكان من اثنين ، كان ذلك بمنزلة أربعة عقود ، وللشفيع أخذ الكلّ أو ما شاء منهما إمّا ثلاثة أرباعه ، وهو نصيب أحد المشتريين ونصف نصيب الآخَر ، أو يأخذ نصف الجملة إمّا بأن يأخذ نصيب أحدهما أو نصف نصيب كلّ واحد ، أو يأخذ ربع الجملة ، وهو نصف نصيب أحدهما.

مسالة ٨٠٧ : لو باع أحد الشريكين بعض(٣) نصيبه من رجل ثمّ باع منه الباقي ثمّ علم شريكه ، كان له أن يأخذ المبيع أوّلاً خاصّةً ، أو ثانياً خاصّةً ، أو هُما معاً بالشفعة ؛ لأنّ لكلّ واحدٍ من العقدين حكمَ نفسه ، فإن عفا عن الأوّل وأراد أخذ الثاني ، لم يشاركه المشتري بنصيبه الأوّل ؛ لأنّ ملكه على الأوّل لم يستقرّ ؛ لأنّ للشفيع أخذه ، فلا يستحقّ به شفعته ، كما لو ارتهن بعضه واشترى الباقي ، وبه قال الشافعي(٤) .

وقال أبو حنيفة : ليس له أن يأخذ النصيبين معاً ، وإنّما له أن يأخذ‌

____________________

(١) المغني ٥ : ٥٣٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٩٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٦.

(٢) المغني ٥ : ٥٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٦.

(٣) في الطبعة الحجريّة : « نصف » بدل « بعض ».

(٤) اُنظر : المغني ٥ : ٥٣٣.

٣٤٦

الأوّل ونصف الثاني - وبه قال بعض الشافعيّة - لأنّ ملكه ثبت له على الأوّل ، فإذا اشترى الثاني ، كان شريكاً له بالنصف(١) .

مسالة ٨٠٨ : إذا باع أحد الشريكين نصيبه من ثلاثة أنفس صفقةً واحدة‌ ، فإن عفا [ الشريك ](٢) عن أحدهم ، صحّ عفوه ، ولم يجز للمعفوّ عنه مشاركته في الشفعة على الآخَرَيْن ؛ لأنّ ملك المعفوّ عنه لم يسبق ملكهما ، وإنّما ملك الثلاثة دفعة واحدة ، وإنّما يستحقّ الشفعة بملكٍ سابق لملك المشتري.

فإن باع أحد الشريكين نصيبه من ثلاثة في ثلاثة عقود على الترتيب فعفا الشريك عن المشتري الأوّل ، وطلب من الآخرين ، كان للمشتري الأوّل مشاركته في شفعة الآخرَيْن ؛ لأنّ ملكه سابق لشرائهما.

وكذا إن عفا عن الأوّل والثاني ، شاركاه في حقّ الشفعة على الثالث.

ولو عفا عن الثاني خاصّةً ، كان له مشاركته في شفعة الثالث ، دون الأوّل.

ولو عفا عن الثالث خاصّة ، لم يكن له مشاركته في شفعة الأوّلين.

ولو عفا عن الثاني والثالث ، لم يشاركاه في شفعة الأوّل ، لأنّهما حين وجوب الشفعة لم يكن لهما ملك.

مسالة ٨٠٩ : لو وكّل أحد الشركاء الثلاثة ثانيَهم‌ ، فباع الوكيل نصيبه ونصيب مُوكِّله صفقةً واحدة ، كان للثالث الشفعةُ ، وليس للوكيل ولا للموكّل شفعة على الآخَر ؛ لعدم الأولويّة. ولأنّهما بائعان.

وهل للثالث أن يأخذ أحد النصيبين دون الآخَر؟ الأقوى ذلك ؛ لأنّ‌

____________________

(١) اُنظر : المغني ٥ : ٥٣٣.

(٢) زيادة يقتضيها السياق.

٣٤٧

المالك اثنان ، فهو كما لو تولّيا العقد ، وهو أحد قولي الشافعيّة. والثاني : ليس له ؛ لأنّ العاقد واحد في الطرفين اعتباراً بالوكيل(١) .

ولو كانت الدار لاثنين فوكّل أحدهما الآخَر ببيع نصف نصيبه ، وجوّز له أن يبيع نصيب نفسه إن شاء صفقةً واحدة ، فباع كذلك ، وأراد الموكّل أخذ نصيب الوكيل بالشفعة بحقّ النصف الباقي ، فله ذلك ؛ لأنّ الصفقة اشتملت على ما لا شفعة للموكّل فيه - وهو ملكه - وعلى ما فيه شفعة - وهو ملك الوكيل - فأشبه مَنْ باع شقصين من دارين صفقةً واحدة.

فإن كان الشفيع في إحداهما غير الشفيع في الاُخرى ، فلكلٍّ أن يأخذ ما هو شريك فيه ، سواء وافقه الآخَر في الأخذ أو لا. وإن كان شفيعهما واحداً ، جاز له أخذ الجميع ، وأخذ أيّتهما شاء ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(٢) .

مسالة ٨١٠ : لو كانت الدار لثلاثة نصفها لواحدٍ ولكلّ واحد من الآخَرَيْن الربع‌ ، فقارض أحد هذين الرجلين الآخَرَ على ألف ، فاشترى العامل منهما نصف نصيب صاحب النصف ، فلا شفعة هنا ؛ لأنّ البائع لا شفعة له فيما باع ، والشريك الآخَر ربّ المال ، والثالث هو العامل ، وربّ المال والعامل بمنزلة الشريكين في المبتاع ، فلا يستحقّ أحدهما على الآخَر شفعة فيما ابتاعه ، وهو أحد وجهي الشافعيّة(٣) .

فإن باع الذي كان صاحب النصف الربعَ الذي بقي له من أجنبيّ ،

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٣٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٨.

(٣) اُنظر : العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٥ ، وروضة الطالبين ٤ : ١٩٢ ، والمغني ٥ : ٤٩٩ ، والشرح الكبير ٥ : ٥٤٧.

٣٤٨

فالشقص للشفعة أثلاثاً ، الثلث بالربع الذي لربّ المال ، والثلث بالربع الذي للعامل ، والثلث لمال المضاربة وكان مال القراض بمنزلة شريكٍ آخَر ؛ لأنّ حكمه متميّز عن مال كلّ واحد منهما.

مسالة ٨١١ : لو اشترى بعيراً وشقصاً بعبد وجارية‌ ، وقيمة البعير والشقص مائتان كلّ واحد بمائة ، وكذا قيمة العبد مائة ، وقيمة الجارية مائة ، تثبت الشفعة في الشقص بنصف قيمة العبد والجارية.

فإن تلف البعير قبل القبض ، بطل فيه العقد ، ولا يبطل في الشقص ، وهو أحد قولي الشافعيّة(١) في طريق تفريق الصفقة ، فإن قلنا : يبطل ، بطل الكلّ وسقطت الشفعة. وإن قلنا : يصحّ في الشقص ، صحّ فيه بنصف العبد والجارية ، وأخذه الشفيع بقيمة ذلك.

وإن تلف العبد ، بطل العقد في نصف البعير ونصف الشقص ، وأخذ الشفيع نصف الشقص بنصف قيمة الجارية.

مسالة ٨١٢ : لو كانت الدار بين أربعة بالسويّة فاشترى اثنان منهم من واحد نصيبه وهو الربع ، استحقّ الذي لم يشتر عليهما الشفعة ، واستحقّ كلّ واحد من المشتريين ؛ لأنّه شريك ، فلا يسقط حقّه من الشفعة ، وتبسط الدار ثمانية وأربعين سهماً ، فالربع اثنا عشر ، وفيه أربع صُور :

أ - أن يطالب كلّ واحد بشفعة ، فيقتسمون المبيع أثلاثاً ، فيحصل لكلّ واحد أربعة.

ب - أن يعفو كلّ واحد من الشريكين عن صاحبه ، ويطالب الذي لم يشتر ، فإنّه يأخذ من كلّ واحد منهما نصف ما في يده ؛ لأنّه ممّا اشتراه‌

____________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه.

٣٤٩

كلّ واحد شريكه في الشفعة ؛ إذ لا شفعة فيه إلّا لهما ، فيحصل للّذي لم يشتر نصفُ السهم ستّة ، ولكلّ واحد من المشتريين ثلاثة أسهم.

ج - أن يعفو الذي لم يشتر خاصّة ، فكلّ واحد من المشتريين يأخذ من صاحبه ما في يده ، فيكون ذلك قدر ما اشتراه لكلّ واحد ستّة.

د - أن يعفو الذي لم يشتر عن أحدهما دون الآخَر ، فإنّه يأخذ ممّن لم يعف عنه سهمين ، وتبقى معه أربعة أسهم يأخذ منها المعفوّ عنه سهمين ، ويأخذ الذي لم يعف عنه من المعفوّ عنه ثلاثة أسهم نصف ما في يده ؛ لأنّه لا شفيع في هذا السهم سواهما ، فيحصل مع كلّ واحد منهما خمسة ، ومع العافي سهمان.

البحث الثامن : في الحِيَل المسقطة للشفعة.

مسالة ٨١٣ : يجوز استعمال الحِيَل بالمباح مطلقاً عندنا وعند جماعة من العامّة ، خلافاً لأحمد بن حنبل(١) .

فإذا أراد أن يشتري الشقص ولا تلزمه شفعة ، أمكنه أن يشتريه بثمن مشاهد لا يعلمان قدره ولا قيمته إذا لم يكن من المكيلات والموزونات ، ثمّ يخرجه عن ملكه بتلفٍ أو غيره بحيث لا يتمكّن من العلم به وقت المطالبة بالشفعة ، فإذا طُولب بالشفعة وتعذّر عليه معرفة الثمن ، سقطت الشفعة ، فإن ادّعى الشفيع أنّ الثمن كان معلوماً وذكر قدره فأنكر المشتري ، قُدّم قول المشتري مع اليمين.

ولو كان الثمن مكيلاً أو موزوناً ، فقال المشتري : إنّه كان جزافاً أو كان‌

____________________

(١) المغني ٥ : ٥١١.

٣٥٠

معلوماً وقد نسيته ، لم يُسمع منه في الجزاف عندنا ، وطُولب بجوابٍ صحيح ، فإن أجاب وإلّا جُعل ناكلاً.

ومَنْ قال : إنّه يجوز البيع به هل يكون الجواب به أو بالنسيان صحيحاً؟ الأقرب عندي ذلك - وهو قول أكثر الشافعيّة(١) - لأنّ نسيان المشتري ممكن ، وقد يكون الثمن جزافاً عند مجوّزيه ، فإذا أمكن ، حلف عليه.

وقال بعض الشافعيّة : إنّه لا يكون جواباً صحيحاً ، فيقال له : إمّا أن تجيب بجوابٍ صحيح ، وإلّا جعلناك ناكلاً ، ويحلف الشفيع ، كما لو ادّعى رجل على آخَر ألف درهم دَيْناً ، فقال : لا أعلم قدر دَيْنك ، لم يكن جواباً(٢) .

والفرق : أنّ المدّعي يدّعي عليه قدراً معيّناً ، وهو لا يجيب عنه لا بإقرارٍ ولا بإنكارٍ ، فلهذا جعلناه ناكلاً ، وفي مسألتنا قوله : « إنّ الثمن كان جزافاً ، أو : لا أذكره » إنكار للشفعة ؛ لأنّه إذا كان كذلك ، لا تجب الشفعة.

نعم ، لو قال : لا أدري لك شفعة أم لا ، كان كمسألة الدَّيْن.

ولأنّ الدَّيْن إن لم يعلمه مَنْ هو عليه يجوز أن يعلمه من هو له ، فيجعل القول قوله مع يمينه ، وهنا هذا هو العاقد ، وإذا كان جزافاً أو لا يعلم ، فلا طريق للشفيع إلى معرفته.

مسالة ٨١٤ : لو أتلف المشتري الثمن المعيّن قبل القبض وكان قد قبض الشقص وباعه ، سقطت الشفعة ، وصحّ تصرّف المشتري ، وكان عليه قيمة الشقص للبائع.

____________________

(١و٢) لم نعثر عليه في مظانّه.

٣٥١

ولو أراد المتبايعان التوصّل إلى رغبة الشفيع عن الشفعة ، اشتراه بألف إذا كان يساوي مائةً ثمّ يبيعه بالألف سلعة تساوي مائةً ، فإذا أراد الشفيع أن يأخذه ، وجب عليه دفع الألف. وكذا إذا باعه سلعة تساوي مائةً بألفٍ ثمّ اشترى الشقص المساوي مائةً بألف ، فإذا أراد الشفيع أن يأخذه ، أخذه بالألف.

وهذا يصحّ عندنا مطلقاً.

وعند الشافعي إنّما يصحّ إذا لم يشترط مشتري الشقص على بائعه أخذ السلعة بالثمن في العقد ، فإنّه متى شرط ذلك ، بطل العقد عنده ، ويحصل على المشتري بشراء ما يساوي مائة بألفٍ غررٌ(١) .

مسالة ٨١٥ : لو نُقل الشقص بهبةٍ أو صلح أو بجَعْله مالَ إجارة أو غيرها من العقود المغايرة للبيع ، فلا شفعة عندنا.

ووافقنا الشافعي(٢) في كلّ عقد لا يشتمل على المعاوضة ، وعلى أنّهما إذا اتّفقا على أن يهب أحدهما الشقص للآخَر ويهب الآخَر الثمن ، ويكون هذا الاتّفاق قبل عقد الهبة ويعقدانها مطلقةً ، فلا تجب الشفعة.

ولو اتّفقا على بيع الشقص بألف وهو يساوي مائةً ثمّ يُبرئه من تسعمائة بعد انبرام البيع فتعاقدا على ذلك ، رغب الشفيع عن أخذه ؛ لأنّه لو طلبه لزمه الألف.

مسالة ٨١٦ : ومن الحِيَل أن يبيعه جزءاً من الشقص بثمنه كلّه‌ ، ويهب له الباقي أو يهبه بعض الشقص ، أو يملّكه إيّاه بوجهٍ آخَر غير البيع ، ثمّ‌

____________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ٢٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٣.

٣٥٢

يبيعه الباقي ، فإنّه لا شفعة عند مَنْ يُبطلها مع الكثرة ، أو يبيعه بثمن حاضر مجهول القدر عند مَنْ يُجّوزه ، ويقبضه البائع ولا يزنه ، بل ينفقه أو يمزجه بمالٍ له مجهول ، فتندفع الشفعة على أصحّ قولي الشافعيّة(١) .

ولو باع بعض الشقص ثمّ باع الباقي ، لم يكن للشفيع أخذ جميع المبيع ثانياً على أحد الوجهين(٢) .

ولو وكّل البائع شريكه بالبيع فباع ، لم يكن له الشفعة على أحد الوجهين(٣) .

مسالة ٨١٧ : لا يكره دفع الشفعة بالحيلة‌ ؛ إذ ليس فيها دفع حقٍّ عن الغير ، فإنّ الشفعة إنّما تثبت بعد البيع مع عدم المعارض ، فإذا لم يوجد بيع أو وُجد مع معارض الشفعة ، فلا شفعة ؛ لعدم الثبوت ، وبه قال أبو يوسف(٤) .

وقال محمد بن الحسن : يكره(٥) .

وللشافعيّة وجهان ، أصحّهما عندهم : الثاني(٦) ، ولا يكره عندهم دفع شفعة الجار بالحيلة قطعاً(٧) .

ولو اشترى عُشْر الدار بتسعة أعشار الثمن ، فلا يرغب الشفيع ؛ لكثرة‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٥.

(٢و٣) الوجهان للشافعيّة أيضاً ، اُنظر : العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٤ ، وروضة الطالبين ٤ : ١٩٥.

(٤و٥) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٦.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٦.

(٧) روضة الطالبين ٤ : ١٩٦.

٣٥٣

الثمن ، ثمّ يشتري تسعة أعشاره بعُشْر الثمن ، فلا يتمكّن الجار من الشفعة ؛ لأنّ المشتري حالة الشراء شريك في الدار ، والشريك مقدّم على الجار ، أو يخطّ البائع على طرف ملكه خطّاً ممّا يلي دار جاره ، ويبيع ما وراء الخطّ ؛ لأنّ ما بين ملكه وبين المبيع فاصلاً ، ثمّ يهبه الفاصل.

البحث التاسع : في اللواحق.

مسالة ٨١٨ : لو مات المديون وله شقص يستوعبه الدَّيْن فبِيع شقصٌ في شركته‌ ، كان للورثة الشفعةُ ؛ لأنّ الدَّيْن لا يمنع انتقال الملك إلى الورثة على ما يأتي ، وبه قال الشافعي(١) ، خلافاً لأبي حنيفة(٢) وبعض الشافعيّة(٣) .

ولو كان للمديون دار فبِيع بعضها في الدّين ، لم يكن للورثة الشفعة ، لأنّ البيع يقع لهم ، فلا يستحقّون الشفعة على أنفسهم.

ولو كان الوارث شريك الموروث فبيع نصيب الموروث في دينه ، تثبت الشفعة للوارث بنصيبه الذي كان يملكه ؛ لأنّ البيع على الميّت إنّما كان بسبب دينه الذي ثبت عليه في حال الحياة ، فصار البيع كأنّه قد وقع في حال الحياة ، والوارث كان شريكه في حال الحياة ، فتثبت له الشفعة ، ولا يلزم إذا كانت الدار للموروث فبيع بعضها في دَيْنه ؛ لأنّا إذا جعلنا البيع كأنّه وقع في حال الحياة ، لم يكن الوارث شريكه في تلك الحال ، وهو قول بعض الشافعيّة(٤) .

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٤ ، المغني ٥ : ٥٣٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥١٧.

(٢) المغني ٥ : ٥٣٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥١٧.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٧ - ٥٤٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٥.

٣٥٤

وقال أكثرهم : لا شفعة ؛ لأنّ الدَّيْن لا يمنع انتقال الملك إلى الوارث ، فإذا بِيع فقد بِيع ملك الوارث عليه ، فلا يستحقّ الشفعة ، كما لو كان له على رجل دَيْنٌ وهو غائب فباع بعض داره ثمّ قدم ، لم تثبت له الشفعة ، كذا هنا(١) .

وما ذكره أوّلاً بعضهم فليس بشي‌ء ؛ لأنّه إنّما يلحق بحال الحياة إذا وجد سببه في حال الحياة وما لا يمكن(٢) ابتداؤه بعد الوفاة ، ولو كان كذلك ، لم يكن للوارث أن يقضي الدَّيْن من عنده ، ويمنع(٣) من البيع.

وهذا عندي هو المعتمد.

لا يقال : هذا الدَّيْن وجب على الميّت ، فلا يجوز أن يباع غيره فيه ، وإنّما يُجعل كأنّه بِيع عليه.

لأنّا نقول : مَنْ يقول : إنّ الملك ينتقل إلى الوارث قد لزمه ما اُلزم ؛ لأنّه يبطل ملك الوارث لأجل دَيْن الميّت ، على(٤) أنّ ذلك لا يمنع(٥) ؛ لأنّ هذا الدَّيْن يتعلّق(٦) بهذه العين ؛ لأنّها مُلكت من جهة السبب ، ألا ترى أنّ العبد إذا جنى ، تعلّقت الجناية برقبته ، وهي ملك لمولاه ، ويُباع فيها وإن لم يكن الدَّيْن على مولاه.

مسالة ٨١٩ : لو كان لأحد الثلاثة نصف الدار ولكلٍّ من الآخَرَيْن ربع‌ ، فاشترى صاحب النصف من أحد شريكيه ربعه ، والآخَر غائب ، ثمّ باع‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٥.

(٢) كذا ، والظاهر : « وما لم يكن ».

(٣) في الطبعة الحجريّة : « ويمتنع ».

(٤) في « ي » والطبعة الحجريّة : « وعلى ».

(٥) في « س ، ي » : « لا يمتنع ».

(٦) في « ي » : « تعلّق ».

٣٥٥

صاحب ثلاثة الأرباع ربعاً منها لرجل ، ثمّ قدم الشريك الغائب ، كان له أخذ ما يخصّه من المبيع الأوّل بالشفعة ، وهو ثُمْنٌ ، ويأخذ المبيع الثاني بأجمعه ؛ إذ لا شفيع غيره.

فإن أراد العفو عن الثاني والأخذ من الأوّل ، أخذ من المشتري الثاني سهماً من ستّة ، ومن الأوّل سهمين من ستّة ؛ لأنّا نفرض الدار أربعة وعشرين سهماً ؛ إذ لا تخرج صحيحةً من أقلّ.

وإنّما قلنا ذلك ؛ لأنّ صاحب النصف اشترى الربع ، فكان بينه وبين الغائب نصفين إن قلنا : إنّ للمشتري شفعةً وإنّ الشفعة على عدد الرؤوس فإذا باع الربع ممّا في يده وفي يده ثلاثة أرباع ، فقد باع ثلث ما في يده ، وهو ستّة ، وبقي في يده اثنا عشر ، وللغائب شفعة ثلاثة أسهم ، فإذا قدم ، أخذ من المشتري ثلث ما استحقّه ، وهو سهم واحد ، لأنّه حصل له ثلث ما كان في يد بائعه ، وأخذ من الأوّل سهمين.

وإن جعلنا الشفعة على قدر النصيب ، فالذي يستحقّ الغائب سهمان من الستّة ، لأنّ ملكه مثل نصف ملك المشتري حصل له في المبيع ثلثا سهم ، ويأخذ من المشتري الأوّل سهماً وثُلثاً ومن الثاني ثلثي سهم.

هذا إذا عفا عن الثاني ، وإن عفا عن الأوّل وأخذ من الثاني ، أخذ من المشتري ما اشتراه ، وهو ستّة أسهم ، لأنّ شريكه بائع ، فلا شفعة له.

وإن أراد أن يأخذ الشفعة بالعقدين ، أخذ ما في يد الثاني ، وأخذ من الأوّل سهمين إن جعلنا الشفعة على عدد الرؤوس ، وإن قلنا : على قدر النصيب ، يأخذ سهماً وثُلثاً.

مسالة ٨٢٠ : لو بِيع شقص وله شفيعان فعفا أحدهما ومات الآخَر وكان وارثه هو العافي‌ ، كان له أن يأخذ الشقص بما ورثه من الشفعة ،

٣٥٦

ولا يبطلها العفو السابق ؛ لأنّ العفو وقع عمّا يملكه بالأصالة لا بالميراث.

وكذا لو قذف رجل أباهما وهو ميّت فعفا أحدهما ، كان للآخَر استيفاء الحدّ كملاً ، فإن مات وكان العافي وارثَه ، كان له استيفاؤه بالنيابة عن مورّثه.

مسالة ٨٢١ : قد سلف(١) أنّ الإقالة لا توجب الشفعة ، خلافاً لأبي حنيفة(٢) . وكذا الردّ بالعيب وإن كان على سبيل التراضي ، وبه قال الشافعي(٣) .

وقال أبو حنيفة : تثبت الشفعة إن وقع الردّ بالتراضي ، لأنّه نقل الملك بالتراضي ، فأشبه البيع(٤) .

وهو خطأ ، لأنّه فسخ ، وليس بمعاوضة ، ولهذا يعتبر فيه العوض الأوّل ، فلم تثبت فيه الشفعة ، كالفسخ بالخيار.

ولو لم يقايله(٥) ، بل باعه المشتري من البائع بذلك الثمن أو غيره ، كان للشفيع الشفعة ، لأنّه عفا عمّا استحقّه بالعقد الأوّل ، وهذا عقد يستحقّ به الشفعة ، فوجبت له.

تذنيب : إذا كان الثمن معيّناً فتلف قبل القبض ، بطل البيع والشفعة ؛ لأنّه تعذّر التسليم ، فتعذّر إمضاء العقد ، بخلاف الإقالة والردّ بالعيب.

____________________

(١) في ص ٢٣٠ ، المسألة ٧٢٧.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٢٩٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩٨ ، المغني ٥ : ٤٧٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٦٥.

(٣) حلية العلماء ٥ : ٢٩٥ ، الوسيط ٤ : ٧٤ ، الوجيز ١ : ٢١٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٣.

(٤) حلية العلماء ٥ : ٢٩٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩٨.

(٥) في « ي » : « ولم يقابل ». وفي الطبعة الحجريّة : « ولم يقابله » بالباء. وفي « س » : « ولم يقايله » بالياء. والصحيح ما أثبتناه.

٣٥٧

ولو ظهر الثمن المعيّن مستحقّاً ، بطل البيع أيضاً والشفعة.

ولو كان المشتري قد باع الشقص قبل التلف ، صحّ بيعه ، وللشفيع أخذه بالشفعة ، وبطل البيع الأوّل.

أمّا لو باعه ثمّ ظهر استحقاق الثمن المعيّن ، بطل الثاني أيضاً ، ولا شفعة ؛ لأنّ المقتضي لبطلان البيع الاستحقاقُ لا ظهورُه.

آخَر : لو وجبت الشفعة وقضى له القاضي بها والشقص في يد البائع ودفع الثمن إلى المشتري فقال البائع للشفيع : أقلني ، فأقاله ، لم تصحّ الإقالة ؛ لأنّها إنّما تصحّ بين المتبايعين ، وليس للشفيع ملكٌ من جهة البائع ، فإن باعه منه ، كان حكمه حكم بيع ما لم يقبض.

مسالة ٨٢٢ : لو كان أحد الشريكين في الدار غائباً وله وكيل فيها‌ ، فقال الوكيل : قد اشتريته منه ، لم يكن للحاضر أخذه بالشفعة ؛ لأنّ إقرار الوكيل لا يقبل في حقّ موكّله. ولأنّه لو ثبتت الشفعة للحاضر بمجرّد دعوى الوكيل ، لثبت للوكيل جميع توابع الملك ، فكان لو مات(١) الموكّل ، لم يفتقر الوكيل في دعوى الشراء منه إلى بيّنة ، بل يكتب الحاكم إلى حاكم البلد الذي فيه الموكّل ، ويسأله عن ذلك ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : أنّ الحاضر يأخذه بالشفعة - وبه قال أبو حنيفة وأصحابه - لأنّه أقرّ بحقٍّ له فيما في يده(٢) .

ويذكر الحاكم ذلك في السجلّ ، فإن قدم الغائب وصدّقه ، فلا كلام.

وإن أنكر البيع فإن أقام مدّعيه البيّنةَ ، بطل إنكاره ، وإن لم يُقم بيّنةً ، حلف المنكر ، ثمّ يردّ النصف عليه واُجرة مثله وأرش نقصه إن كان ، وله أن‌

____________________

(١) كذا ، والظاهر : « فكان كما لو مات ».

(٢) المغني ٥ : ٥١٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٣٠ - ٥٣١.

٣٥٨

يرجع بذلك على مَنْ شاء ، فإن رجع على الوكيل ، رجع به على الشفيع ، وإن رجع على الشفيع ، لم يرجع به على الوكيل ؛ لأنّ التلف حصل في يده.

وفي وجهٍ للشافعيّة : أنّه يرجع عليه ؛ لأنّه غرَّه(١) .

مسالة ٨٢٣ : لو حكم حاكمُ شرعٍ باعتقاده أنّ الشفعة تثبت مع الكثرة‌ ، لم يعترض عليه مَنْ لا يعتقد ذلك من الحُكّام.

وكذا عند الشافعي إذا قضى الحنفي بشفعة الجوار ، لم يعترض عليه في الظاهر ، وفي الحكم باطناً عندهم خلاف(٢) .

أمّا نحن فإن كان الآخذ مقلّداً وقلّد مَنْ يجب تقليده ، كان مباحاً له في الباطن. وإن كان مجتهداً ، لم يجز له أن يأخذ على خلاف مذهبه.

مسالة ٨٢٤ : لو اشترى الشقص بكفٍّ من الدراهم لا يعلم(٣) وزنها‌ ، أو بصُبرة حنطة لا يعلم كيلها ، فعندنا يبطل البيع.

وعند مَنْ جوَّزه تُكال أو تُوزن ليأخذ الشفيع بذلك القدر(٤) .

فإن كان غائباً فتبرّع البائع بإحضاره أو أخبر عنه واعتُمد قوله ، فذاك ، وإلّا فليس للشفيع أن يكلّفه الإحضار والإخبار عنه.

ولو هلك وتعذّر الوقوف عليه ، تعذّر الأخذ بالشفعة.

وهذا يتأتّى مثله عندنا ، وهو أن يبيع بما لا مِثْل له ثمّ يتلف قبل العلم بقيمته.

ولو أنكر الشفيع الجهالة ، فإن عيّن قدراً وقال للمشتري : قد اشتريتَه‌

____________________

(١و٢) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٣) في الطبعة الحجريّة : « لم يعلم ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٥.

٣٥٩

بكذا ، وقال المشتري : لم يكن قدره معلوماً ، فأصحّ القولين عند الشافعيّة : أنّه يقنع منه بذلك ، ويحلف عليه(١) ، وهو المعتمد عندي في عدم العلم بالقيمة.

وقال ابن سريج : لا يُقبل منه ذلك ، ولا يحلف ، بل إن أصرّ على ذلك ، جُعل ناكلاً ، ورُدّت اليمين على الشفيع(٢) .

وكذا الخلاف لو قال : نسيت(٣) (٤) .

وإن لم يعيّن الشفيع قدراً لكن ادّعى على المشتري أنّه يعلمه وطالَبه بالبيان ، فللشافعيّة وجهان أصحّهما عندهم : لا تُسمع دعواه حتى يعيّن قدراً ، فيحلف المشتري حينئذٍ أنّه لا يعرف. والثاني : تُسمع ، ويحلف المشتري على ما يقوله ، فإن نكل ، حلف الشفيع على علم المشتري ، وحُبس المشتري حتى يُبيّن قدره.

فعلى الأوّل طريق الشفيع أن يعيّن قدراً ، فإن وافقه المشتري ، فذاك ، وإلّا حلّفه على نفيه ، فإن نكل ، استدلّ الشفيع بنكوله ، وحلف على ما عيّنه ، وإن حلف المشتري ، زاد وادّعى ثانياً ، وهكذا يفعل إلى أن ينكل المشتري ، فيستدلّ الشفيع بنكوله ويحلف ، وهذا(٥) لأنّ اليمين عندهم قد تستند إلى التخمين.

قالوا : ولهذا له أن يحلف على خطّ أبيه إذا سكنت نفسه إليه(٦) .

وهذا باطل ، وأنّ اليمين لا تصحّ إلّا مع العلم والقطع دون الظنّ‌

____________________

(١و٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٥.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « انسيت ». وما أثبتناه كما في المصدر.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٥.

(٥) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « وهكذا » بدل « وهذا ». وما أثبتناه كما في المصدر.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٦ - ٥١٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٥.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401