الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 401
المشاهدات: 80775
تحميل: 7042


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80775 / تحميل: 7042
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 6

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و قد زيّن الجزويت في بيروت العدد التاسع من السنة السابعة لمجلّتهم( المشرق) بصورتها و بالنقوش الملوّنة إذ جعلوه تذكاراً لمرور خمسين سنة على إعلان البابا بيوس التاسع: أنّ مريم البتول حبل بها بلا دنس الخطيّة) و أثبتوا في هذا العدد عبادة الكنائس الشرقيّة لمريم كالكنائس الغربيّة.

و منه قول الأب( لويس شيخو) في مقالة له فيه عن الكنائس الشرقيّة:( إنّ تعبّد الكنيسة الأرمنيّة للبتول الطاهرة اُمّ الله لأمر مشهور) و قوله:( قد امتازت الكنيسة القبطيّة بعبادتها للبتولة المغبوطة اُمّ الله) انتهى كلامه.

و نقل أيضاً بعض مقالة للأب( إنستاس الكرمليّ) نشرت في العدد الرابع عشر من السنة الخامسة من مجلّة المشرق الكاثوليكيّة البيروتيّة قال تحت عنوان( قدم التعبّد للعذراء) بعد ذكر عبارة سفر التكوين في عداوة الحيّة للمرأة و نسلها و تفسير المرأة بالعذراء:( أ لا ترى أنّك لا ترى من هذا النصّ شيئاً ينوّه بالعذراء تنويهاً جليّاً إلى أن جاء ذلك النبيّ العظيم( إيليا) الحيّ فأبرز عبادة العذراء من حيّز الرمز و الإبهام إلى عالم الصراحة و التبيان) .

ثمّ فسّر هذه الصراحة و التبيان بما في سفر الملوك الثالث (بحسب تقسيم الكاثوليك) من أنّ إيليا حين كان مع غلامه في رأس الكرمل أمره سبع مرّات أن يتطلّع نحو البحر فأخبره الغلام بعد تطلّعه المرّة السابعة: أنّه رأى سحابة قدر راحة الرجل طالعة من البحر.

قال صاحب المقالة: فمن ذلك النشئ (أوّل ما ينشأ من السحاب)(١) قلت: إن هو إلّا صورة مريم على ما أحقّه المفسّرون بل و صورة الحبل بلا دنس أصليّ، ثمّ قال: هذا أصل عبادة العذراء في الشرق العزيز، و هو يرتقي إلى المائة العاشرة قبل المسيح، و الفضل في ذلك عائد إلى هذا النبيّ إيليا العظيم، ثمّ قال: و لذلك كان أجداد الكرمليّين أوّل من آمن أيضاً بالإله يسوع بعد الرسل و التلامذة، و أوّل من أقام للعذراء معبداً بعد

____________________

(١) يشير به إلى السحابة الّتي شاهدها الغلام ناشئة من البحر.

٢٦١

انتقالها إلى السماء بالنفس و الجسد، انتهى.(١)

قوله تعالى: ( قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ) إلى آخر الآية هذه الآية و الّتي تتلوها جواب المسيح عيسى بن مريمعليه‌السلام عمّا سئل عنه و قد أتىعليه‌السلام فيه بأدب عجيب:

فبدأ بتسبيحه تعالى لما فاجأه أن سمع ذكر ما لا يليق نسبته إلى ساحة الجلال و العظمة و هو اتّخاذ الناس إلهين من دون الله شريكين له سبحانه فمن أدب العبوديّة أن يسبّح العبد ربّه إذا سمع ما لا ينبغي أن يسمع فيه تعالى أو ما يخطر بالبال تصوّر ذلك، و عليه جرى التأديب الإلهيّ في كلامه كقوله:( وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ ) الأنبياء: ٢٦ و قوله:( وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ ) النحل: ٥٧.

ثمّ عاد إلى نفي ما استفهم عن انتسابه إليه، و هو أن يكون قد قال للناس اتّخذوني و اُمّي إلهين من دون الله، و لم ينفه بنفسه بل بنفي سببه مبالغة في التنزيه فلو قال:( لم أقل ذلك أو لم أفعل) لكان فيه إيماء إلى إمكان وقوعه منه لكنّه لم يفعل، لكن إذا نفاه بنفي سببه فقال:( ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ) كان ذلك نفياً لما يتوقّف عليه ذلك القول، و هو أن يكون له أن يقول ذلك حقّاً فنفي هذا الحقّ نفي ما يتفرّع عليه بنحو أبلغ نظير ما إذ قال المولى لعبده: لم فعلت ما لم آمرك أن تفعله؟ فإن أجاب العبد بقوله:( لم أفعل) كان نفياً لما هو في مظنّة الوقوع، و إن‏ قال:( أنا أعجز من ذلك) كان نفياً بنفي السبب و هو القدرة، و إنكاراً لأصل إمكانه فضلاً عن الوقوع.

و قوله:( ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ) إن كان لفظ( يَكُونُ ) ناقصّة فاسمها قوله:( أَنْ أَقُولَ ) و خبرها قوله:( لِي ) و اللّام للملك، و المعنى: ما أملك ما لم اُملّكه و ليس من حقّي القول بغير حقّ، و إن كانت تامّة فلفظ( لِي ) متعلّق بها و قوله:( أَنْ أَقُولَ ) ، إلخ فاعلها، و المعنى: ما يقع لي القول بغير حقّ، و الأوّل من الوجهين أقرب، و على أيّ حال يفيد الكلام نفي الفعل بنفي سببه.

____________________

(١) و إنّما نقلنا ما نقلناه بطوله لأنّ فيه ما يطلع به الباحث المتأمّل على نوع منطقهم في إثبات العبادة لها و يشاهد بعض مجازفاتهم في الدين.

٢٦٢

و قولهعليه‌السلام :( إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ) نفي آخر للقول المستفهم عنه لا نفياً لنفسه بنفسه بل بنفي لازمه فإنّ لازم وقوع هذا القول أن يعلم به الله لأنّه الّذي لا يخفى عليه شي‏ء في الأرض و لا في السماء و هو القائم على كلّ نفس بما كسبت، المحيط بكلّ شي‏ء.

و هذا الكلام منهعليه‌السلام يتضمّن أوّلاً فائدة إلقاء القول مع الدليل من غير أن يكتفي بالدعوى المجرّدة و ثانياً الإشعار بأنّ الّذي كان يعتبره في أفعاله و أقواله هو علم الله سبحانه من غير أن يعبأ بغيره من خلقه علموا أو جهلوا، فلا شأن له معهم.

و بلفظ آخر السؤال إنّما يصحّ طبعاً في ما كان مظنّة الجهل فيراد به نفي الجهل و إفادة العلم، إمّا لنفس السائل إذا كان هو الجاهل بواقع الأمر، أو لغيره إذا كان السائل عالماً و أراد أن يعلم غيره بما يعلم هو من واقع الأمر كما يحمل عليه نوع السؤال الواقع في كلامه تعالى، و قولهعليه‌السلام في الجواب في مثل المقام:( إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ) إرجاع للأمر إلى علمه تعالى و إشعار أنّه لا يعتبر شيئاً في أفعاله و أقواله غير علمه تعالى.

ثمّ أشار بقوله:( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) ليكون تنزيهاً لعلمه تعالى عن مخالطة الجهل إيّاه و هو و إن كان ثناءً أيضاً في نفسه لكنّه غير مقصود لأنّ المقام ليس بمقام الثناء بل مقام التبرّي عن انتساب ما نسب إليه.

فقولهعليه‌السلام :( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ) توضيح لنفوذ العلم الّذي ذكره في قوله:( إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ) و بيان أنّ علمه تعالى بأعمالنا و هو الملك الحقّ يومئذ ليس من قبيل علم الملوك منّا بأحوال رعيّته بارتفاع أخبار المملكة إليه ليعلم بشي‏ء و يجهل بشي‏ء، و يستحضر حال بعض و يغفل عن حال بعض، بل هو سبحانه لطيف خبير بكلّ شي‏ء و منها نفس عيسى بن مريم بخصوصه.

و مع ذلك لم يستوف حقّ البيان في وصف علمه تعالى فإنّه سبحانه يعلم كلّ شي‏ء، لا كعلم أحدنا بحال الآخر و علم الآخر بحاله، بل يعلم ما يعلم بالإحاطة به من غير أن يحيط به شي‏ء و لا يحيطون به علماً فهو تعالى إله غير محدود و كلّ من سواه محدود مقدّر لا يتعدّى طور نفسه المحدود، و لذلك ضمّعليه‌السلام إلى الجملة جملة اُخرى فقال:( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ) .

٢٦٣

أمّا قوله:( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) ففيه بيان العلّة لقوله:( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ) إلخ، و فيه استيفاء حقّ البيان من جهة اُخرى و هو رفع توهّم أنّ حكم العلم في قوله:( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ) مقصور بما بينه و بين ربّه لا يطّرد في كلّ شي‏ء فبيّن بقوله:( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) أنّ العلم التامّ بجميع الغيوب منحصر فيه فما كان عند شي‏ء من الأشياء و هو غيب عن غيره فهو معلوم لله سبحانه و هو محيط به.

و لازم ذلك أن لا يعلم شي‏ء من الأشياء بغيبه تعالى و لا بغيب غيره الّذي هو تعالى عالم به لأنّه مخلوق محدود لا يتعدّى طور نفسه فهو علّام جميع الغيوب، و لا يعلم شي‏ء غيره تعالى بشي‏ء من الغيوب لا الكلّ و لا البعض.

على أنّه لو اُحيط من غيبه تعالى بشي‏ء فإن أحاط تعالى به لم يكن هذا المحيط محيطاً حقيقة بل محاطاً له تعالى ملّكه الله بمشيئته أن يحيط بشي‏ء من ملكه من غير أن يخرج بذلك من ملكه كما قال تعالى:( وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ ) البقرة: ٢٥٥.

و إن لم يحط سبحانه تعالى بما أحاط به كان مضروباً بحدّ فكان مخلوقاً تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

قوله تعالى: ( ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ ) لما نفىعليه‌السلام القول المسؤل عنه عن نفسه بنفي سببه أوّلاً نفاه ببيان وظيفته الّتي لم يتعدّها ثانياً فقال:( ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ ) إلخ، و أتى فيه بالحصر بطريق النفي و الإثبات ليدلّ على الجواب بنفي ما سئل عنه و هو القول:( اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

و فسّر ما أمره به ربّه من القول بقوله:( أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ) ثمّ وصف الله سبحانه بقوله:( رَبِّي وَ رَبَّكُمْ ) لئلّا يبقى أدنى شائبة من الوهم في أنّه عبد رسول يدعو إلى الله ربّه و ربّ جميع الناس وحده لا شريك له.

و على هذه الصراحة كان يسلك عيسى بن مريمعليه‌السلام في دعوته ما دعاهم إلى التوحيد على ما يحكي عنه القرآن الشريف، قال تعالى حكاية عنه:( إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ

٢٦٤

هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) الزخرف: ٦٤ و قال:( وَ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) مريم: ٣٦.

قوله تعالى: ( وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ) ثمّ ذكرعليه‌السلام وظيفته الثانية من جانب الله سبحانه و هو الشهادة على أعمال اُمّته كما قال تعالى:( وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) النساء: ١٥٩.

يقولعليه‌السلام ما كان لي من الوظيفة فيهم إلّا الرسالة إليهم و الشهادة على أعمالهم: أمّا الرسالة فقد أدّيتها على أصرح ما يمكن، و أمّا الشهادة فقد كنت عليها ما دمت فيهم، و لم أتعدّ ما رسمت لي من الوظيفة فأنا براء من أن أكون اُلقي إليهم أن اتّخذوني و اُمّي إلهين من دون الله.

و قوله:( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) الرقوب و الرقابة هو الحفظ، و المراد به في المقام بدلالة السياق هو الحفظ على الأعمال، و كأنّه اُبدل الشهيد من الرقيب احترازاً عن تكرّر اللفظ بالنظر إلى قوله بعد:( وَ أَنْتَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ) ، و لا نكتة تستدعي الإتيان بلفظ( الشهيد) ثانياً بالخصوص.

و اللفظ أعني قوله:( كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) يدلّ على الحصر، و لازمه أنّه تعالى كان شهيداً ما دام عيسىعليه‌السلام شهيداً و شهيداً بعده فشهادتهعليه‌السلام كانت وساطة في الشهادة لا شهادة مستقلّة على حدّ سائر التدبيرات الإلهيّة الّتي وكّل عليها بعض عباده ثمّ هو على كلّ شي‏ء وكيل كالرزق و الإحياء و الإماتة و الحفظ و الدعوة و الهداية و غيرها، و الآيات الشريفة في ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها.

و لذلك عقّبعليه‌السلام قوله:( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) بقوله:( وَ أَنْتَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ) ليدل بذلك على أنّ الشهادة على أعمال اُمّته الّتي كان يتصدّاها ما دام فيهم كانت حصّة يسيرة من الشهادة العامّة المطلقة الّتي هي شهادة الله سبحانه على شي‏ء فإنّه تعالى شهيد على أعيان الأشياء و على أفعالها الّتي منها أعمال عباده، الّتي منها أعمال اُمّة عيسى ما دام فيهم و بعد توفّيه، و هو تعالى شهيد مع الشهداء و شهيد بدونهم.

٢٦٥

و من هنا يظهر أنّ الحصر صادق في حقّه تعالى مع قيام الشهداء على شهادتهم فإنّهعليه‌السلام حصر الشهادة بعد توفّيه في الله سبحانه مع أنّ لله بعده شهداء من عباده و رسله و هوعليه‌السلام يعلم ذلك.

و من الدليل على ذلك بشارتهعليه‌السلام بمجي‏ء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما يحكيه القرآن بقوله:( يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) الصفّ: ٦ و قد نصّ القرآن على كون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الشهداء قال تعالى:( وَ جِئْنا بِكَ عَلى‏ هؤُلاءِ شَهِيداً ) النساء: ٤١.

على أنّ الله سبحانه حكى عنه هذا الحصر:( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) و لم يردّه بالإبطال فالله سبحانه هو الشهيد لا غير مع وجود كلّ شهيد أي إنّ حقيقة الشهادة هي لله سبحانه كما أنّ حقيقة كلّ كمال و خير هو لله سبحانه، و أنّ ما يملكه غيره من كمال أو خير أو حسن فإنّما هو بتمليكه تعالى من غير أن يستلزم هذا التمليك انعزاله تعالى عن الملك و لا زوال ملكه و بطلانه، و عليك بالتدبّر في أطراف ما ذكرناه.

فبان بما أورده من بيان حاله المحكيّ عنه في الآيتين أنّه بري‏ء ممّا قاله الناس في حقّه و أن لا عهدة عليه فيما فعلوه، و لذلك ختمعليه‌السلام كلامه بقوله:( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ) إلى آخر الآية.

قوله تعالى: ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) لما اتّضح بما أقامعليه‌السلام من الحجّة أن لم يكن له من الوظيفة بالنسبة إلى الناس إلّا أداء الرسالة و القيام بأمر الشهادة، و أنّه لم يشتغل فيهم إلّا بذلك و لم يتعدّه إلى ما ليس له بحقّ فهو غير مسؤل عمّا تفوّهوا به من كلمة الكفر، بان أنّهعليه‌السلام بمعزل عن الحكم الإلهيّ المتعلّق بهم فيما بينهم و بين ربّهم، و لذلك استأنف الكلام ثانياً فقال من غير وصل و تفريع:( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ ) ، إلخ.

فالآية كالصالحة لأن يوضع موضع البيان السابق، و مفادها أنّه لا عهدة عليّ فيما وقعوا فيه من الشرك الشنيع، و لم اُداخل أمرهم في شي‏ء حتّى اُشاركهم فيما بينك و بينهم من الحكم عليهم بما شئت فهم و حكمك في حقّهم بما أردت، و هم و صنعك فيهم بما صنعت،

٢٦٦

إن تعذّبهم بما حكمت فيمن أشرك بك بدخول النار فإنّهم عبادك، و إليك تدبير أمرهم، و لك أن تسخط عليهم به لأنّك المولى الحقّ و إلى المولى أمر عباده، و إن تغفر لهم بإمحاء أثر هذا الظلم العظيم فإنّك أنت العزيز الحكيم لك حقّ العزّة و الحكمة، و للعزيز (و هو الّذي له من الجدة و القدرة ما ليس لغيره) و لا سيّما إذا كان حكيماً (لا يقدم على أمر إلّا إذا كان ممّا ينبغي أن يقدم عليه) أن يغفر الظلم العظيم فإنّ العزّة و الحكمة إذا اعتنقتا في فاعل لم تدعا قدرة تقوم عليه و لا مغمضة في ما قضى به من أمر.

و بما تقدّم من البيان ظهر أوّلاً: أنّ قوله:( فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ) بمنزلة أن يقال:( فإنّك مولاهم الحقّ) على ما هو دأب القرآن من ذكر أسماء الله بعد ذكر أفعاله كما في آخر الآية.

و ثانياً: أنّ قوله:( فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ليس مسوقا للحصر بل الإتيان بضمير الفصل و إدخال اللّام في الخبر للتأكيد، و يؤول معناه إلى أنّ عزّتك و حكمتك ممّا لا يداخله ريب فلا مجال للاعتراض عليك إن غفرت لهم.

و ثالثاً: أنّ المقام (مقام المشافهة بين عيسى بن مريمعليه‌السلام و ربّه) لما كان مقام ظهور العظمة الإلهيّة الّتي لا يقوم لها شي‏ء كان مقتضاه أن يراعي فيه جانب ذلّة العبوديّة للغاية بالتحرّز عن الدلال و الاسترسال و التجنّب عن مداخلة في الأمر بدعاء أو سؤال، و لذلك قالعليه‌السلام :( وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) و لم يقل( فإنّك غفور رحيم) لأنّ سطوع آية العظمة و السطوة الإلهيّة القاهرة الغالبة على كلّ شي‏ء لا يدع للعبد إلّا أن يلتجئ إليه بما له من ذلّة العبوديّة و مسكنة الرقيّة و المملوكيّة المطلقة، و الاسترسال عند ذلك ذنب عظيم.

و أمّا قول إبراهيمعليه‌السلام لربّه:( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) إبراهيم: ٣٦ فإنّه من مقام الدعاء و للعبد أن يثير فيه ناشئة الرحمة الإلهيّة بما استطاع.

قوله تعالى: ( قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ) تقرير لصدق عيسى بن مريمعليه‌السلام على طريق التكنية فإنّه لم يصرّح بشخصه و إنّما المقام هو الّذي يفيد ذلك.

٢٦٧

و المراد بهذا الصدق من الصادقين صدقهم في الدنيا فإنّه تعالى يعقّب هذه الجملة بقوله:( لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) ، إلخ و من البيّن أنّه بيان لجزاء صدقهم عند الله سبحانه فهو النفع الّذي يعود إليهم من جهة الصدق، و الأعمال و الأحوال الاُخرويّة - و منها صدق أهل الآخرة - لا يترتّب عليها أثر النفع بمعنى الجزاء و بلفظ آخر: الأعمال و الأحوال الاُخرويّة لا يترتّب عليها جزاء كما يترتّب على الأعمال و الأحوال الدنيويّة إذ لا تكليف في الآخرة، و الجزاء من فروع التكليف، و إنّما الآخرة دار حساب و جزاء كما أنّ الدنيا دار عمل و تكليف، قال تعالى:( يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ ) إبراهيم: ٤١ و قال:( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) الجاثية: ٢٨ و قال تعالى:( إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ ) المؤمن: ٣٩.

و الّذي ذكره عيسىعليه‌السلام من حاله في الدنيا مشتمل على قول و فعل و قد قرّره الله على الصدق فالصدق الّذي ذكر في الآية يشمل الصدق في الفعل كما يشمل الصدق في القول فالصادقون في الدنيا في قولهم و فعلهم ينتفعون يوم القيامة بصدقهم، لهم الجنّات الموعودة و هم الراضون المرضيّون الفائزون بعظيم الفوز.

على أنّ الصدق في القول يستلزم الصدق في الفعل - بمعنى الصراحة و تنزّه العمل عن سمة النفاق - و ينتهي به إلى الصلاح، و قد روي أنّ رجلاً من أهل البدو استوصى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوصّاه أن لا يكذب ثمّ ذكر الرجل أنّ رعاية ما وصّى به كفّه عن عامّة المعاصي إذ ما من معصية عرضت إلّا ذكر أنّه لو اقترحها ثمّ سئل عنها وجب عليه أن يعترف بها على نفسه و يخبر بها الناس فلم يقترفها مخافة ذلك.

قوله تعالى: ( لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) رضي الله عنهم بما قدّموا إليه من الصدق، و رضوا عن الله بما آتاهم من الثواب.

و قد علّق رضاه بهم أنفسهم لا بأعمالهم كما في قوله تعالى:( وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا ) طه: ١٠٩ و قوله:( وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) الزمر: ٧ و بين القسمين من الرضى فرق فإنّ رضاك عن شي‏ء هو أن لا تدفعه بكراهة و من الممكن أن يأتي عدوّك بفعل ترضاه و أنت تسخط

٢٦٨

على نفسه، و أن يأتي صديقك الّذي تحبّه بفعل لا ترضاه.

فقوله:( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ) يدلّ على أنّ الله يرضى عن أنفسهم، و من المعلوم أنّ الرضى لا يتعلّق بأنفسهم ما لم يحصل غرضه جلّ ذكره من خلقهم، و قد قال تعالى:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات: ٥٦، فالعبوديّة هو الغرض الإلهيّ من خلق الإنسان فالله سبحانه إنّما يرضى عن نفس عبده إذا كان مثالاً للعبوديّة أي أن يكون نفسه نفس عبد لله الّذي هو ربّ كلّ شي‏ء فلا يرى نفسه و لا شيئاً غيره إلّا مملوكاً لله خاضعاً لربوبيّته لا يؤوب إلّا إلى ربّه و لا يرجع إلّا إليه كما قال تعالى في سليمان و أيّوب:( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) ص: ٤٤ و هذا هو الرضى عنه.

و هذا من مقامات العبوديّة، و لازمه طهارة النفس عن الكفر بمراتبه و عن الاتّصاف بالفسق كما قال تعالى:( وَ لا يَرْضى‏ لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ) الزمر: ٧ و قال تعالى:( فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى‏ عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) التوبة: ٩٦.

و من آثار هذا المقام أنّ العبوديّة إذا تمكّنت من نفس العبد و رأى ما يقع عليه بصره و تبلغه بصيرته مملوكاً لله خاضعاً لأمره فإنّه يرضى عن الله فإنّه يجد أنّ كلّ ما آتاه الله فإنّما آتاه من فضله من غير أن يتحتّم عليه فهو جود و نعمة، و أنّ ما منعه فإنّما منعه عن حكمة.

على أنّ الله سبحانه يذكر عنهم و هم في الجنّة بقوله:( لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ ) النحل: ٣١، الفرقان: ١٦، و من المعلوم أنّ الإنسان إذا وجد كلّ ما يشاؤه لم يكن له إلّا أن يرضى.

و هذا غاية السعادة الإنسانيّة بما هو عبد، و لذلك ختم الكلام بقوله:( ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

قوله تعالى: ( لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَّ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) ، الملك - بالكسر - سلطة خاصّة على رقبة الأشياء و أثره نفوذ الإرادة فيما يقدر عليه المالك من التصرّف فيها، و الملك - بالضمّ - سلطة خاصّة على النظام الموجود بين الأشياء و أثره نفوذ الإرادة فيما يقدر عليه، و بعبارة ساذجة: الملك - بالكسر - متعلّق بالفرد، و الملك

٢٦٩

- بالضم - متعلّق بالجماعة.

و حيث كان الملك في نفوذ الإرادة بالفعل مقيّداً أو متقوّماً بالقدرة فإذا تمّت القدرة و اُطلقت كان الملك ملكاً مطلقاً غير مقيّد بشي‏ء دون شي‏ء و حال دون حال، و لبيان هذه النكتة عقّب تعالى قوله:( لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَّ ) بقوله:( وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) .

و اختتمت السورة بهذه الآية الدالّة على الملك المطلق، و المناسبة ظاهرة، فإنّ غرض السورة هو حثّ العباد و ترغيبهم على الوفاء بالعهود و المواثيق المأخوذة عليهم من جانب ربّهم، و هو الملك على الإطلاق فلا يبقى لهم إلّا أنّهم عباد مملوكون على الإطلاق ليس لهم فيما يأمرهم به و ينهاهم عنه إلّا السمع و الطاعة، و لا فيما يأخذ منهم من العهود و المواثيق إلّا الوفاء بها من غير نقض.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قول الله تبارك و تعالى لعيسى:( أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) قال: لم يقله و سيقوله، إنّ الله إذا علم أنّ شيئاً كائن أخبر عنه خبر ما قد كان.

أقول: و فيه، أيضاً عن سليمان بن خالد عن أبي عبداللهعليه‌السلام : مثله‏، و حاصله أنّ الإتيان بصيغة الماضي في الأمر المستقبل للعلم بتحقّق وقوعه، و هو شائع في اللغة.

و فيه، عن جابر الجعفيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام : في تفسير هذه الآية:( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) ، قال: إنّ اسم الله الأكبر ثلاثة و سبعون حرفاً فاحتجب الربّ تبارك و تعالى منها بحرف فمن ثمّ لا يعلم أحد ما في نفسه عزّوجلّ.

أعطى آدم اثنين و سبعين حرفاً فتوارثها الأنبياء حتّى صار إلى عيسىعليه‌السلام فذلك قول عيسى:( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ) يعني اثنين و سبعين حرفاً من الاسم الأكبر يقول: أنت علّمتنيها

٢٧٠

فأنت تعلمها:( وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) يقول: لأنّك احتجبت بذلك الحرف فلا يعلم أحد ما في نفسك.

أقول: سيجي‏ء البحث المبسوط عن أسماء الله الحسنى و اسمه الأعظم الأكبر في تفسير قوله تعالى:( وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ فَادْعُوهُ بِها ) الآية: الأعراف: ١٨٠ و يتبيّن هناك أنّ الاسم الأكبر أو الاسم الأعظم ليس من نوع اللفظ حتّى يتألّف من حروف الهجاء و إنّما المراد بالاسم في أمثال هذه الموارد هو المحكيّ عنه بالاسم اللفظيّ و هو الذات مأخوذاً بصفة من صفاته و وجه من وجوهه و يعود الاسم اللفظيّ حينئذ اسم الاسم على ما سيتّضح بعد.

و على هذا فقولهعليه‌السلام :( إنّ الاسم الأكبر مؤلّف من ثلاثة و سبعين حرفاً) و نظيره ما ورد في روايات كثيرة في هذا الباب من أنّ الاسم الأعظم مؤلّف من كذا حرفاً، و أنّها متفرّقة مبثوثة في كذا سورة أو أنّه في كذا آية كلّ ذلك بيانات مبنيّة على الرمز، و أمثال مضروبة لتفهيم ما يسع تفهيمه من الحقائق فما كلّ حقيقة ميسوراً بيانها بالصراحة من غير كناية و بالعين دون المثل.

و الّذي يتّضح به معنى الحديث بعض الاتّضاح هو أن يقال: إنّه لا شكّ أنّ أسماء الله تعالى الحسنى وسائط لظهور الكون بأعيانه و حدوث حوادثه الّتي لا تحصى، فإنّا لا نشكّ في أنّ الله سبحانه خلق خلقه لأنّه خالق جواد مبدئ مثلاً لا لأنّه منتقم شديد البطش، و أنّه إنّما يرزق من يرزق لأنّه رازق معط مثلاً لا لأنّه قابض مانع، و أنّه إنّما يفيض الحياة للأحياء لأنّه الحيّ المحيي لا لأنّه مميت معيد، و الآيات القرآنيّة أصدق شاهد على هذه الحقيقة، فإنّا نرى المعارف المبيّنة في متون الآيات معلّلة بالأسماء المناسبة لمعانيها في ذيلها فربّما اختتمت الآية لبيان ما تضمّنه من المعنى باسم، و ربّما اختتمت باسمين يفيدان بمجموعهما المعنى المذكور فيها.

و من هنا يظهر أنّ الواحد منّا لو رزق علم الأسماء و علم الروابط الّتي بينها و بين الأشياء و ما تقضيه أسماؤه تعالى مفردة و مؤلّفة علم النظام الكونيّ بما جرى و بما يجري عليه عن قوانين كليّة منطبقة على جزئيّاتها واحداً بعد واحد.

٢٧١

و قد بيّن القرآن الشريف على ما يفهم من ظواهره قوانين عامّة كثيرة في المبدإ و المعاد و ما رتّبه الله تعالى من أمر السعادة و الشقاوة ثمّ خاطب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:( وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) .

لكنّها جميعاً قوانين كلّيّة ضروريّة إلّا أنّها ضروريّة لا في أنفسها و باقتضاء من ذواتها بل بما أفاده الله سبحانه عليها من الضرورة و اللزوم، و إذا كانت هذه الحكومة العقليّة القطعيّة من جهته تعالى و بأمره و إرادته فمن البيّن أنّ فعله تعالى لا يجبره تعالى على مؤدّى نفسه، و لا يغلبه في ذاته فهو سبحانه القاهر الغالب فكيف يغلبه ما ينتهي إليه تعالى من كلّ جهة و يفتقر إليه في عينه و أثره، فافهم ذلك.

فمن المحال أن يكون العقل الّذي يحكم بما يحكم بإفاضة الله ذلك عليه أو تكون الحقائق الّتي إنّما وجدت أحكامها و آثارها به تعالى، حاكمة عليه تعالى مقتضية فيه بالحكم و الاقتضاء اللذين هو المبقي لهما القاهر الغالب عليهما، و بعبارة اُخرى: ما في الأشياء من اقتضاء و حكم إنّما هو أثر التمليك الّذي ملّكه الله إيّاها، و لا معنى لأن يملك شي‏ء بالملك الّذي ملّكه الله بعينه منه تعالى شيئاً فهو تعالى مالك على الإطلاق غير مملوك بوجه من الوجوه أصلاً.

فلو أثاب الله المجرم أو عاقب المثيب أو فعل أيّ فعل أراد لم يكن عليه ضير، و لا منعه مانع من عقل أو خارج إلّا أنّه تعالى وعدنا و أوعدنا بالسعادة و الشقاء و حسن الجزاء و سوء الجزاء، و أخبرنا أنّه لا يخلف الميعاد و أخبرنا من طريق الوحي أو العقل باُمور ثمّ ذكر أنّه لا يقول إلّا الحقّ فسكنت نفوسنا به و اطمأنّت قلوبنا إليه بما لا طريق للريب إليه، قال تعالى:( إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ) آل عمران: ٩، الرعد: ٣١ و قال تعالى:( وَ الْحَقَّ أَقُولُ ) ص: ٨٤ و في معناهما الضرورة العقليّة في أحكامها.

و هذا الّذي بيّنه هو مقتضى أسمائه تعالى فيما علمنا بتعليمه منها لكن من وراء ذلك أنّه تعالى هو المالك على الإطلاق له أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، قال تعالى:( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ ) الأنبياء: ٢٣، و هذا المعنى بعينه اسم من أسمائه تعالى مجهول الكنه لا طريق إلى تعلّق العلم به لأحد من خلقه فإنّ كلّ ما نعلمه من أسمائه فهو ممّا

٢٧٢

يحكيه مفهوم من المفاهيم ثمّ نشخّص بنسبته آثاره في الوجود و أمّا الآثار الّتي لا طريق إلى تشخيصها في الوجود فهي لا محالة آثار لاسم لا طريق إلى الحصول على معناها و إن شئت فقل: إنّه اسم لا يصطاد بمفهوم، و إنّما يشير إليه صفة ملكه المطلق نوعاً من الإشارة.

فقد تبيّن أنّ من أسمائه تعالى ما لا سبيل إليه لأحد من خلقه و هو الّذي احتجب تعالى به فافهم ذلك.

( كلام في معنى الأدب)

نبحث فيه عن الأدب الّذي أدّب به أنبياءه و رسلهعليهم‌السلام في عدّة فصول:

١- معنى الأدب: الأدب - على ما يتحصّل من معناه - هو الهيئة الحسنة الّتي ينبغي أن يقع عليه الفعل المشروع إمّا في الدين أو عند العقلاء في مجتمعهم كآداب الدعاء و آداب ملاقاة الأصدقاء و إن شئت قلت: ظرافة الفعل.

و لا يكون إلّا في الاُمور المشروعة غير الممنوعة فلا أدب في الظلم و الخيانة و الكذب و لا أدب في الأعمال الشنيعة و القبيحة، و لا يتحقّق أيضاً إلّا في الأفعال الاختياريّة الّتي لها هيئات مختلفة فوق الواحدة حتّى يكون بعضها متلبّساً بالأدب دون بعض كأدب الأكل مثلاً في الإسلام، و هو أن يبدأ فيه باسم الله و يختم بحمد الله و يؤكل دون الشبع إلى غير ذلك، و أدب الجلوس في الصلاة و هو التورّك على طمأنينة و وضع الكفّين على الوركين فوق الركبتين و النظر إلى حجره و نحو ذلك.

و إذ كان الأدب هو الهيئة الحسنة في الأفعال الاختياريّة و الحسن و إن كان بحسب أصل معناه و هو الموافقة لغرض الحياة ممّا لا يختلف فيه أنظار المجتمعات لكنّه بحسب مصاديقه ممّا يقع فيه أشدّ الخلاف، و بحسب اختلاف الأقوام و الاُمم و الأديان و المذاهب و حتّى المجتمعات الصغيرة المنزليّة و غيرها في تشخيص الحسن و القبح يقع الاختلاف بينهم في آداب الأفعال.

فربّما كان عند قوم من الآداب ما لا يعرفه آخرون، و ربّما كان بعض الآداب

٢٧٣

المستحسنة عند قوم شنيعة مذمومة عند آخرين كتحيّة أوّل اللقاء فإنّه في الإسلام بالتسليم تحيّة من عند الله مباركة طيّبة، و عند قوم برفع القلانس، و عند بعض برفع اليد حيال الرأس، و عند آخرين بسجدة أو ركوع أو انحناء بطأطأة الرأس، و كما أنّ في آداب ملاقاة النساء عند الغربيّين اُموراً يستشنعها الإسلام و يذمّها، إلى غير ذلك.

غير أنّ هذه الاختلافات جميعاً إنّما نشأت في مرحلة تشخيص المصداق و أمّا أصل معنى الأدب، و هو الهيأة الحسنة الّتي ينبغي أن يكون عليها الفعل فهو ممّا أطبق عليه العقلاء من الإنسان و أطبقوا أيضاً على تحسينه فلا يختلف فيه اثنان.

٢- اختلاف الآداب: لما كان الحسن من مقوّمات معنى الأدب على ما ذكر في الفصل السابق، و كان مختلفاً بحسب المقاصد الخاصّة في المجتمعات المختلفة أنتج ذلك ضرورة اختلاف الآداب الاجتماعيّة الإنسانيّة فالأدب في كلّ مجتمع كالمرآة يحاكي خصوصيّات أخلاق ذلك المجتمع العامّة الّتي رتّبها فيهم مقاصدهم في الحياة، و ركزتها في نفوسهم عوامل اجتماعهم و عوامل مختلفة اُخر طبيعيّة أو اتّفاقيّة.

و ليست الآداب هي الأخلاق لما أنّ الأخلاق هي الملكات الراسخة الروحيّة الّتي تتلبّس بها النفوس، و لكنّ الآداب هيئات حسنة مختلفة تتلبّس بها الأعمال الصادرة عن الإنسان عن صفات مختلفة نفسيّة، و بين الأمرين بون بعيد.

فالآداب من منشئات الأخلاق و الأخلاق من مقتضيات الاجتماع بخصوصه بحسب غايته الخاصّة فالغاية المطلوبة للإنسان في حياته هي الّتي تشخّص أدبه في أعماله، و ترسم لنفسه خطّاً لا يتعدّاه إذا أتى بعمل في مسير حياته و التقرّب من غايته.

٣- معنى الأدب الإلهيّ‏: و إذ كان الأدب يتبع في خصوصيّته الغاية المطلوبة في الحياة فالأدب الإلهيّ الّذي أدّب الله سبحانه به أنبياءه و رسلهعليهم‌السلام هو الهيئة الحسنة في الأعمال الدينيّة الّتي تحاكي غرض الدين و غايته، و هو العبوديّة على اختلاف الأديان الحقّة بحسب كثرة موادّها و قلّتها و بحسب مراتبها في الكمال و الرقيّ.

و الإسلام لما كان من شأنه التعرّض لجميع جهات الحياة الإنسانيّة بحيث لا يشذّ عنه شي‏ء من شؤونها يسير أو خطير دقيق أو جليل فلذلك وسع الحياة أدباً، و رسم في كلّ

٢٧٤

عمل هيئة حسنة تحاكي غايته.

و ليس له غايّة عامّة إلّا توحيد الله سبحانه في مرحلتي الاعتقاد و العمل جميعاً أي أن يعتقد الإنسان أنّ له إلهاً هو الّذي منه بدئ كلّ شي‏ء و إليه يعود كلّ شي‏ء له الأسماء الحسنى و الأمثال العليا، ثمّ يجري في الحياة و يعيش بأعمال تحاكي بنفسها عبوديّته و عبوديّة كلّ شي‏ء عنده لله الحقّ عزّ اسمه، و بذلك يسري التوحيد في باطنه و ظاهره، و تظهر العبوديّة المحضة من أقواله و أفعاله و سائر جهات وجوده ظهوراً لا ستر عليه و لا حجاب يغطّيه.

فالأدب الإلهيّ - أو أدب النبوّة - هي هيئة التوحيد في الفعل.

٤- الأدب إنّما ينتج مع العمل‏: من المعلوم بالقياس و يؤيّده التجربة القطعيّة أنّ العلوم العمليّة - و هي الّتي تتعلّم ليعمل بها - لا تنجح كلّ النجاح و لا تؤثّر أثرها الجميل دون أن تلقى إلى المتعلّم في ضمن العمل، لأنّ الكلّيّات العلميّة ما لم تنطبق على جزئيّاتها و مصاديقها تتثاقل النفس في تصديقها و الإيمان بصحّتها لاشتغال نفوسنا طول الحياة بالجزئيّات الحسّيّة و كلالها بحسب الطبع الثانويّ من مشاهدة الكلّيّات العقليّة الخارجة عن الحسّ فالّذي صدّق حسن الشجاعة في نفسها بحسب النظر الخالي عن العمل ثمّ صادف موقفاً من المواقف الهائلة الّتي تطير فيها القلوب أدّى به ذلك إلى النزاع بين عقله الحاكم بحسن الشجاعة و وهمه الجاذب إلى لذّة الاحتراز من تعرّض الهلكة الجسمانيّة و زوال الحياة المادّيّة الناعمة فلا تزال النفس تتذبذب بين هذا و ذاك، و تتحيّر في تأييد الواحد من الطرفين المتخاصمين، و القوّة في جانب الوهم لأنّ الحسّ معه.

فمن الواجب عند التعليم أن تتلقّى المتعلّم الحقائق العلميّة مشفوعة بالعمل حتّى يتدرّب بالعمل و يتمرّن عليه لتزول بذلك الاعتقادات المخالفة الكائنة في زوايا نفسه و يرسخ التصديق بما تعلّمه في النفس، لأنّ الوقوع أحسن شاهد على الإمكان.

و لذلك نرى أنّ العمل الّذي لم تعهد النفس وقوعه في الخارج يصعب انقيادها له فإذا وقع لأوّل مرّة بدا كأنّه انقلب من امتناع إلى إمكان و عظم أمر وقوعه و أورث في النفس قلقاً و اضطراباً، ثمّ إذا وقع ثانياً و ثالثاً هان أمره و انكسر سورته و التحق بالعاديّات الّتي

٢٧٥

لا يعبأ بأمرها، و إنّ الخير عادة كما أنّ الشرّ عادة.

و رعاية هذا الاُسلوب في التعليمات الدينيّة و خاصّة في التعليم الدينيّ الإسلاميّ من أوضح الاُمور فلم يأخذ شارع الدين في تعليم مؤمنيه بالكلّيّات العقليّة و القوانين العامّة قطّ بل بدأ بالعمل و شفّعه بالقول و البيان اللّفظيّ فإذا استكمل أحدهم تعلّم معارف الدين و شرائعه استكمله و هو مجهّز بالعمل الصالح مزوّد بزاد التقوى.

كما أنّ من الواجب أن يكون المعلّم المربّي عاملاً بعلمه فلا تأثير في العلم إذا لم يقرن بالعمل لأنّ للفعل دلالة كما أنّ للقول دلالة فالفعل المخالف للقول يدلّ على ثبوت هيئة مخالفة في النفس يكذّب القول فيدلّ على أنّ القول مكيدة و نوع حيلة يحتال بها قائله لغرور الناس و اصطيادهم.

و لذلك نرى الناس لا تلين قلوبهم و لا تنقاد نفوسهم للعظة و النصيحة إذا وجدوا الواعظ به أو الناصح بإبلاغه غير متلبّس بالعمل متجافياً عن الصبر و الثبات في طريقه، و ربّما قالوا:( لو كان ما يقوله حقّاً لعمل به) إلّا أنّهم ربّما اشتبه عليهم الأمر في استنتاج منه فإنّ النتيجة أنّ القول ليس بحقّ عند القائل إذ لو كان حقّاً عنده لعمل به، و ليس ينتج أنّ القول ليس بحقّ مطلقاً كما ربّما يستنتجونه.

فمن شرائط التربية الصالحة أن يكون المعلّم المربّي نفسه متّصفاً بما يصفه للمتعلّم متلبّساً بما يريد أن يلبّسه، فمن المحال العاديّ أن يربّي المربّي الجبان شجاعاً باسلاً، أو يتخرّج عالم حرّ في آرائه و أنظاره من مدرسة التعصّب و اللجاج و هكذا.

قال تعالى:( أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى‏ فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) يونس: ٣٥ و قال:( أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) البقرة: ٤٤ و قال حكاية عن قول شعيب لقومه:( وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى‏ ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) هود: ٨٨ إلى غير ذلك من الآيات.

فلذلك كلّه كان من الواجب أن يكون المعلّم المربّي ذا إيمان بموادّ تعليمه و تربيته.

على أنّ الإنسان الخالي عن الإيمان بما يقوله حتّى المنافق المتستّر بالأعمال

٢٧٦

الصالحة المتظاهر بالإيمان الصريح الخالص لا يتربّى بيده إلّا من يمثّله في نفسه الخبيثة فإنّ اللسان و إن أمكن إلقاء المغايرة بينه و بين الجنان بالتكلّم بما لا ترضى به النفس و لا يوافقه السرّ إلّا أنّ الكلام من جهة اُخرى فعل و الفعل من آثار النفس و رشحاتها، و كيف يمكن مخالفة الفعل لطبيعة فاعله؟.

فالكلام من غير جهة الدلالة اللفظيّة الوضعيّة حامل لطبيعة نفس المتكلّم من إيمان أو كفر أو غير ذلك، و واضعها و موصلها إلى نفس المتعلّم البسيطة الساذجة فلا يميّز جهة صلاحه - و هو جهة دلالته الوضعيّة - من جهة فساده - و هو سائر جهاته - إلّا من كان على بصيرة من الأمر، قال تعالى في وصف المنافقين لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) سورة محمّد: ٣٠ فالتربية المستعقبة للأثر الصالح هو ما كان المعلّم المربّي فيها ذا إيمان بما يلقيه إلى تلامذته مشفوعاً بالعمل الصالح الموافق لعلمه، و أمّا غير المؤمن بما يقوله أو غير العامل على طبق علمه فلا يرجى منه خير.

و لهذه الحقيقة مصاديق كثيرة و أمثلة غير محصاة في سلوكنا معاشر الشرقيّين و الإسلاميّين خاصّة في التعليم و التربية في معاهدنا الرسميّة و غير الرسميّة فلا يكاد تدبير ينفع و لا سعي ينجح.

و إلى هذا الباب يرجع ما نرى أنّ كلامه تعالى يشتمل على حكاية فصول من الأدب الإلهيّ المتجلّي من أعمال الأنبياء و الرسلعليهم‌السلام ممّا يرجع إلى الله سبحانه من أقسام عباداتهم و أدعيتهم و أسئلتهم أو يرجع إلى الناس في معاشراتهم و مخاطباتهم فإنّ إيراد الأمثلة في التعليم نوع من التعليم العمليّ بإشهاد العمل.

٥- أدب النبوّة العامّ إجمالاً: قال الله تعالى بعد ذكر قصّة إبراهيم في التوحيد مع قومه:( وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى‏ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ، وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى‏ وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى‏ وَ عِيسى‏ وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ، وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ لَوْ

٢٧٧

أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ، أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ، أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) الأنعام: ٩٠، يذكر تعالى أنبياءه الكرامعليهم‌السلام ذكراً جامعاً ثمّ يذكر أنّه أكرمهم بالهداية الإلهيّة و هي الهداية إلى التوحيد فحسب و الدليل عليه قوله:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ) ، فلم يذكر منافياً لما حباهم به من الهداية إلّا الشرك فلم يهدهم إلّا إلى التوحيد.

غير أنّ التوحيد حكمه سار إلى أعمالهم متمكّن فيها و الدليل عليه قوله:( لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) فلو لا أنّ الشرك جار في الأعمال متسرّب فيها لم يستوجب حبطها فالتوحيد المنافي له كذلك.

و معنى سراية التوحيد في الأعمال كون صورها تمثّل التوحيد و تحاكيه محاكاة المرآة لمرئيّها بحيث لو فرض أنّ التوحيد تصوّر لكان هو تلك الأعمال بعينها، و لو أنّ تلك الأعمال تجرّدت اعتقاداً محضاً لكانت هي هو بعينه.

و هذا المعنى كثير المصداق في الصفات الروحيّة فإنّك ترى أعمال المتكبّر يمثّل ما في نفسه من صفة الكبر و الخيلاء، و كذلك البائس المسكين يحاكي جميع حركاته و سكناته ما في سرّه من الذلّة و الاستكانة و هكذا.

ثمّ أدّب تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمره أن يقتدي بهداية من سبقه من الأنبياءعليهم‌السلام لا بهم، و الاقتداء إنّما يكون في العمل دون الاعتقاد فإنّه غير اختياريّ بحسب نفسه أي أن يختار أعمالهم الصالحة المبنيّة على التوحيد الصادرة عنهم عن تأديب عمليّ إلهيّ.

و نعني بهذا التأديب العمليّ ما يشير إليه قوله تعالى:( وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ ) الأنبياء: ٣٧ فإنّ إضافة المصدر في قوله( فِعْلَ الْخَيْراتِ ) إلخ، تدلّ على أنّ المراد به الفعل الصادر منهم من خيرات فعلوها و صلاة أقاموها و زكاة آتوها دون مجرّد الفعل المفروض فهذا الوحي المتعلّق بالأفعال في مرحلة صدورها منهم وحي تسديد و تأديب، و ليس هو وحي النبوّة و التشريع، و لو كان المراد به وحي النبوّة لقيل:( و أوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة) كما في قوله تعالى:( ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ ) النحل: ١٢٣

٢٧٨

و قوله:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ مُوسى‏ وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) يونس: ٨٧ إلى غير ذلك من الآيات، و معنى وحي التسديد أن يخصّ الله عبداً من عباده بروح قدسيّ يسدّده في أعمال الخير و التحرّز عن السيّئة كما يسدّدنا الروح الإنسانيّ في التفكّر في الخير و الشرّ، و الروح الحيوانيّ في اختيار ما نشتهيه من الجذب و الدفع بالإرادة، و سيجي‏ء الكلام المبسوط في ذلك إن شاء الله.

و بالجملة فقوله:( فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) تأديب إلهيّ إجماليّ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأدب التوحيد المنبسط على أعمال الأنبياءعليه‌السلام المنزّهة من الشرك.

ثمّ قال تعالى - بعد ما ذكر عدّة من أنبيائهعليهم‌السلام - في سورة مريم:( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً ) مريم: ٦٠.

فذكر تعالى أدبهم العامّ في حياتهم أنّهم يعيشون على الخضوع عملاً و على الخشوع قلباً لله عزّ اسمه فإنّ سجودهم عند ذكر آيات الله تعالى مثال الخضوع و بكاءهم و هو لرقّة القلب و تذلّل النفس آية الخشوع و هما معاً كناية عن استيلاء صفة العبوديّة على نفوسهم بحيث كلّما ذكّروا بآية من آيات الله بان أثره في ظاهرهم كما استولت الصفة على باطنهم فهم على أدبهم الإلهيّ و هو سمة العبوديّة إذا خلوا مع ربّهم و إذا خلوا للناس، فهم يعيشون على أدب إلهيّ مع ربّهم و مع الناس جميعاً.

و من الدليل على أنّ المراد به الأدب العامّ قوله تعالى في الآية الثانية:( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ ) فإنّ الصلاة و هي التوجّه إلى الله هي حالهم مع ربّهم و اتّباع الشهوات حالهم مع غيرهم من الناس، و حيث قوبل اُولئك بهؤلاء أفاد الكلام أنّ أدب الأنبياء العامّ أن يراجعوا ربّهم بسمة العبوديّة و أن يسيروا بين الناس بسمة العبوديّة أي تكون بنية حياتهم مبنيّة على أساس أنّ لهم ربّاً يملكهم و يدبّر أمرهم، منه بدؤهم و إليه مرجعهم فهذا هو الأصل في جميع أحوالهم و أعمالهم.

٢٧٩

و الّذي ذكره تعالى من استثناء التائبين منهم أدب آخر إلهيّ بدأ فيه بآدمعليه‌السلام أوّل الأنبياء حيث قال:( وَ عَصى‏ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‏ ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى) طه: ١٣٢ و سيجي‏ء بعض القول فيه إن شاء الله تعالى.

و قال تعالى:( ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَ كَفى‏ بِاللهِ حَسِيباً ) الأحزاب: ٣٩.

أدب عامّ أدّب الله سبحانه به أنبياءهعليهم‌السلام و سنّة جارية له فيهم أن لا يتحرّجوا في ما قسم لهم من الحياة و لا يتكلّفوا في أمر من الاُمور إذ كانوا على الفطرة و الفطرة لا تهدي إلّا إلى ما جهّزها الله بما يلائمها في نيله، و لا تتكلّف الاستواء على ما لم يسهّل الله لها الارتقاء على مستواه، قال تعالى حكاية عن نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) ص: ٨٦ و قال تعالى:( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) البقرة: ٢٨٦ و قال تعالى:( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها ) الطلاق: ٧ و إذ كان التكلّف خروجاً عن الفطرة فهو من اتّباع الشهوة و الأنبياء في مأمن منه.

و قال تعالى و هو أيضاً من التأديب بأدب جامع:( يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) المؤمنون: ٥٢ أدّبهم تعالى أن يأكلوا من الطيّبات أي أن يتصرّفوا في الطيّبات من موادّ الحياة و لا يتعدّوها إلى الخبائث الّتي تتنفّر منها الفطرة السليمة و أن يأتوا من الأعمال بالصالح منها و هو الّذي يصلح للإنسان أن يأتي به ممّا تميل إليه الفطرة بحسب ما جهّزها الله من أسباب تحفظ بعملها بقائه إلى حين، أو أن يأتوا بالعمل الّذي يصلح أن يقدّم إلى حضرة الربوبيّة، و المعنيان متقاربان، فهذا أدب يتعلّق بالإنسان الفرد.

ثمّ وصله تعالى بأدب اجتماعيّ فذكر لهم أنّ الناس ليسوا إلّا اُمّة واحدة: المرسلون و المرسل إليهم، و ليس لهم إلّا ربّ واحد فليجتمعوا على تقواه، و يقطعوا بذلك دابر الاختلافات و التحزّبات، فإذا التقى الأمران أعني الأدب الفرديّ و الاجتماعيّ تشكّل مجتمع واحد بشرىّ مصون عن الاختلاف يعبد ربّاً واحداً، و يجري الآحاد منه على الأدب

٢٨٠