الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 401
المشاهدات: 80815
تحميل: 7042


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80815 / تحميل: 7042
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 6

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإلهيّ فاتّقوا خبائث الأفعال و سيّئات الأعمال فقد استووا على أريكة السعادة.

و هذا ما جمعته آية اُخرى و هي قوله تعالى:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) الشورى: ١٣.

و قد فرق الله الأدبين في موضع آخر فقال:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) الأنبياء: ٢٥ فأدّبهم بتوحيده و بناء العبادة عليه، و هذا هو أدبهم بالنسبة إلى ربّهم، و قال:( وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً، أَوْ يُلْقى‏ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها - إلى أن قال -وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ ) الفرقان: ٢٠ فذكر أنّ سيرة الأنبياء جميعاً و هو أدبهم الإلهيّ هو الاختلاط بالناس و رفض التحجّب و الاختصاص و التميّز من بين الناس فكلّ ذلك ممّا تدفعه الفطرة، و هذا أدبهم في الناس.

٦- أدب الأنبياء المحكي في القرآن تفصيلاً: من أدب الأنبياءعليه‌السلام في توجيههم الوجوه إلى ربّهم و دعائهم إيّاه ما حكاه الله تعالى من قول آدمعليه‌السلام و زوجته:( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) الأعراف: ٢٣ كلمة قالاها بعد ما أكلا من الشجرة الّتي نهاهما الله أن يقربا منها، و إنّما كان نهي إرشاد ليس بالمولويّ، و لم يعصياه عصيان تكليف بل كان ذلك منهما مخالفة نصيحة في رعايتها صلاح حالهما، و سعادة حياتهما في الجنّة الآمنة من كلّ شقاء و عناء، و قد قال لهما ربّهما في تحذيرهما عن متابعة إبليس:( فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى‏، إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى‏، وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى) طه: ١١٩.

فلمّا وقعا في المحنة و شملتهما البليّة، و أخذت سعادة الحياة يوادعهما وداع ارتحال لم يشتغلاً بأنفسهما اشتغال اليائس البائس، و لم يقطع القنوط ما بينهما و بين ربّهما من السبب الموصول بل بادرا إلى الالتجاء بالله الّذي إليه أمرهما، و بيده كلّ خير يأملانه لأنفسهما فأخذاً و تعلّقاً بصفة ربوبيّته المشتملة على كلّ ما يدفع به الشرّ و يجلب به الخير، فالربوبيّة

٢٨١

هي الصفة الكريمة يربط العبد بالله سبحانه.

ثمّ ذكرا الشرّ الّذي يهدّدهما بظهور آياته و هو الخسران - كأنّهما اشتريا لذّة الأكل بطاعة الإرشاد الإلهيّ فبان لهما أنّ سعادتهما قد أشرفت بذلك على الزوال - في الحياة، و ذكرا حاجتهما إلى ما يدفع هذا الشرّ عنهما فقالا:( وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) أي إنّ خسران الحياة يهدّدنا و قد أطلّ بنا و ما له من دافع إلّا مغفرتك للذنب الصادر عنّا و غشيانك إيّانا بعد ذلك برحمتك و هي السعادة لما أنّ الإنسان بل كلّ موجود مصنوع يشعر بفطرته المغروزة أنّ من شأن الأشياء الواقعة في منزل الوجود و مسير البقاء أن تستتمّ ما يعرضها من النقص و العيب، و أنّ السبب الجابر لهذا الكسر هو الله سبحانه وحده فهو من عادة الربوبيّة.

و لذلك كان يكفي مجرّد إظهار الحال، و إبراز ما نزل على العبد من مسكنة الحاجة فلا حاجة إلى السؤال بلفظ بل في بدوّ الحاجة أبلغ السؤال و أفصح الاقتراح.

و لذلك لم يصرّحا بما يسألانه و لم يقولا:( فاغفر لنا و ارحمنا) و لأنّهما - و هو العمدة - أوقفا أنفسهما بما صدر عنهما من المخالفة موقف الذلّة و المسكنة الّتي لا وجه معها و لا كرامة، فنتجت لهما التسليم المحض لما يصدر في ذلك من ساحة العزّة و من الحكم فكفّا عن كلّ مسألة و اقتراح غير أنّهما ذكرا أنّه ربّهما فأشارا إلى ما يطمعان فيه منه مع اعترافهما بالظلم.

فكان معنى قولهما:( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) أسأنا فيما ظلمنا أنفسنا فأشرفنا بذلك على الخسران المهدّد لعامّة سعادتنا في الحياة فهو ذا الذلّة و المسكنة أحاطت بنا، و الحاجة إلى إمحاء وسمة الظلم و شمول الرحمة شملتنا، و لم يدع ذلك لنا وجهة و لا كرامة نسألك بها، فها نحن مسلّمون لحكمك أيّها الملك العزيز فلك الأمر و لك الحكم غير أنّك ربّنا و نحن مربوبان لك نأمل منك ما يأمله مربوب من ربّه.

و من أدبهم ما حكاه الله تعالى من دعوة نوحعليه‌السلام في ابنه:( وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَ نادى‏ نُوحٌ ابْنَهُ وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ، قالَ سَآوِي

٢٨٢

إِلى‏ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ - إلى أن قال -وَ نادى‏ نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ، قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ ) هود: ٤٧.

لا ريب أنّ الظاهر من قول نوحعليه‌السلام أنّه كان يريد الدعاء لابنه بالنجاة غير أنّ التدبّر في آيات القصّة يكشف الغطاء عن حقيقة الأمر بنحو آخر:

فمن جانب أمره الله بركوب السفينة هو و أهله و المؤمنون بقوله:( احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ ) هود: ٤٠ فوعده بإنجاء أهله و استثنى منهم من سبق عليه القول، و قد كانت امرأته كافرة كما ذكرها الله في قوله:( ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ ) التحريم: ١٠ و أمّا ابنه فلم يظهر منه كفر بدعوة نوح، و الّذي ذكره الله من أمره مع أبيه و هو في معزل إنّما هو معصية بمخالفة أمرهعليه‌السلام و ليس بالكفر الصريح فمن الجائز أن يظنّ في حقّه أنّه من الناجين لظهور كونه من أبنائه و ليس من الكافرين فيشمله الوعد الإلهيّ بالنجاة.

و من جانب قد أوحى الله تعالى إلى نوحعليه‌السلام حكمه المحتوم في أمر الناس كما قال:( وَ أُوحِيَ إِلى‏ نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ، وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ) هود: ٣٧ فهل المراد بالّذين ظلموا الكافرون بالدعوة أو يشمل كلّ ظلم أو هو مبهم مجمل يحتاج إلى تفسير من لدن قائله تعالى؟.

فكان هذه الاُمور رابتهعليه‌السلام في أمر ابنه و لم يكن نوحعليه‌السلام بالّذي يغفل من مقام ربّه و هو أحد الخمسة اُولي العزم سادات الأنبياء، و لم يكن لينسى وحي ربّه:( وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ) و لا ليرضى بنجاة ابنه و لو كان كافراً ماحضاً في كفره، و هوعليه‌السلام القائل فيما دعا على قومه:( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ) نوح: ٢٦ و لو رضي في ابنه بذلك لرضي بمثله في امرأته.

٢٨٣

و لذلك لم يجترئعليه‌السلام على مسألة قاطعة بل ألقى مسألته كالعارض المستفسر لعدم إحاطته بالعوامل المجتمعة واقعاً على أمر ابنه، بل بدأ بالنداء باسم الربّ لأنّه مفتاح دعاء المربوب المحتاج السائل ثمّ قال:( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) كأنّه يقول و هذا يقضي بنجاة ابني( وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ ) لا خطأ في أمرك و لا مغمض في حكمك فما أدري إلى مَ انجرّ أمره؟.

و هذا هو الأدب الإلهيّ أن يقف العبد على ما يعلمه، و لا يبادر إلى مسألة ما لا يدري وجه المصلحة فيه.

فألقى نوحعليه‌السلام القول على وجد منه كما يدلّ عليه لفظ النداء في قوله:( وَ نادى‏ نُوحٌ رَبَّهُ ) فذكر الوعد الإلهيّ و لما يزد عليه شيئاً و لا سأل أمراً.

فأدركته العصمة الإلهيّة و قطعت عليه الكلام، و فسّر الله سبحانه له معنى قوله في الوعد:( وَ أَهْلَكَ ) أنّ المراد به الأهل الصالحون و ليس الابن بصالح، و قد قال تعالى من قبل:( وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ) و قد أخذ نوحعليه‌السلام بظاهر الأهل و أنّ المستثنى منهم هو امرأته الكافرة فقط، ثمّ فرّع عليه النهي عن السؤال فيما ليس له به علم، و هو سؤال نجاة ابنه على ما كان يلوّح إليه كلامه أنّه سيسألها.

فانقطع عنه السؤال بهذا التأديب الإلهيّ، و استأنفعليه‌السلام بكلام آخر صورته صورة التوبة و حقيقته الشكر لما أنعم الله بهذا الأدب الّذي هو من النعمة فقال:( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) فاستعاذ إلى ربّه ممّا كان من طبع كلامه أن يسوقه إليه و هو سؤال نجاة ابنه و لا علم له بحقيقة حاله.

و من الدليل على أنّه لم يقع منه سؤال بعد هو قوله:( أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ) إلخ و لم يقل:( أعوذ بك من سؤال ما ليس لي به علم) لتدلّ إضافة المصدر إلى فاعله وقوع الفعل منه.

( فَلا تَسْئَلْنِ ) إلخ، و لو كان سأله لكان من حقّ الكلام أن يقابل بالردّ الصريح أو يقال مثلاً:( لا تعد إلى مثله) كما وقع نظيره في موارد من كلامه تعالى كقوله:( قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي ) الأعراف: ١٤٣، و قوله:( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ

٢٨٤

بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ - إلى أن قال -يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً ) النور: ١٧.

و من دعاء نوحعليه‌السلام ما حكاه الله تعالى بقوله:( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً ) نوح: ٢٨ حكاه الله تعالى عنه في آخر سورة نوح بعد آيات كثيرة أوردها في حكاية شكواهعليه‌السلام الّذي بثّه لربّه فيما جاهد به من دعوة قومه ليلاً و نهاراً فيما يقرب من ألف سنة من مدى حياته، و ما قاساه من شدّتهم و كابده من المحنة في جنب الله سبحانه، و بذل من نفسه مبلغ جهدها، و صرف منها في سبيل هدايتهم منتهى طوقها فلم ينفعهم دعاؤه إلّا فراراً، و لم يزدهم نصحه إلّا استكباراً.

و لم يزل بعد ما بثّه فيهم من النصيحة و الموعظة الحسنة و قرعه أسماعهم من الحقّ و الحقيقة، و يشكو إلى ربّه ما واجهوه به من العناد و الإصرار على الخطيئة، و قابلوه به من المكر و الخديعة حتّى هاج به الوجد و الأسف و أخذته الغيرة الإلهيّة فدعا عليهم فقال:( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ) نوح: ٢٧.

و ما ذكره من إضلالهم عباد الله إن تركهم الله على الأرض هو الّذي ذكره عنهم في ضمن كلامه السابق المحكي عنه:( وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً ) و قد أضلّوا كثيراً من المؤمنين به فخاف إضلالهم الباقين منهم، و قوله:( وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ) إخبار ببطلان استعداد أصلابهم و أرحامهم أن يخرج منها مؤمن ذكره - و هو من أخبار الغيب - عن تفرّس نبويّ و وحي إلهيّ.

و إذا دعا على الكافرين لغيرة إلهيّة أخذته، و هو النبيّ الكريم أوّل من جاء بكتاب و شريعة، و انتهض لإنقاذ الدنيا من غمرة الوثنيّة و لم يلبّه من المجتمع البشريّ إلّا قليل - و هو قريب من ثمانين نسمة على ما في الأخبار - فكان من أدب هذا الموقف أن لا ينسى المؤمنين بربّه الآخذين بدعوته، و يدعو لهم إلى يوم القيامة بالخير.

فقال:( رَبِّ اغْفِرْ لِي ) فبدأ بنفسه لأنّ الكلام في معنى طلب المغفرة لمن يسلك سبيله فهو إمامهم و أمامهم( وَ لِوالِدَيَّ ) و فيه دليل على إيمانهما( وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً ) و هم المؤمنون

٢٨٥

به من أهل عصره( وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ) و هم جميع المؤمنين أهل التوحيد فإنّ قاطبتهم اُمّته، و رهن منّته إلى يوم القيامة، و هو أوّل من أقام الدعوة الدينيّة في الدنيا بكتاب و شريعة، و رفع أعلام التوحيد بين الناس، و لذلك حيّاة الله سبحانه بأفضل تحيّته إذ قال:( سَلامٌ عَلى‏ نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ) الصافّات: ٧٩ فعليه السلام من نبيّ كريم كلّما آمن بالله مؤمن، أو عمل له بعمل صالح، و كلّما ذكر لله عزّ اسمه اسم، و كلّما كان في الناس من الخير و السعادة رسم فذلك كلّه من بركة دعوته، و ذنابة نهضته، صلّى الله عليه و على سائر الأنبياء و المرسلين أجمعين.

و من ذلك ما حكاه الله تعالى عن إبراهيمعليه‌السلام في محاجّته قومه:( قالَ أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ، وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ، رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ، وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) الشعراء: ٨٧.

دعاء يدعوعليه‌السلام به لنفسه، و لأبيه عن موعدة وعدها إيّاه، و قد كان هذا أوّل أمره و لم ييأس بعد من إيمان أبيه فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ لله تبرّأ منه.

و قد بدأ فيه بالثناء على ربّه ثناء جميلاً على ما هو أدب العبوديّة و هذا أوّل ثناء مفصّل حكاه الله سبحانه عنهعليه‌السلام ، و ما حكى عنه قبل ذلك ليس بهذا النحو كقوله:( يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ) الأنعام: ٧٩ و قوله لأبيه:( سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ) مريم: ٤٧.

و قد استعملعليه‌السلام من الأدب في ثنائه أن أتى بثناء جامع أدرج فيه عناية ربّه به من بدء خلقه إلى أن يعود إلى ربّه، و أقام فيه نفسه مقام الفقر و الحاجة كلّها، و لم يذكر لربّه إلّا الغنى و الجود المحض، و مثّل نفسه عبداً داخراً لا يقدر على شي‏ء و تقلّبه المقدرة الإلهيّة حالاً إلى حال من خلق ثمّ إطعام و سقي و شفاء عن مرض

٢٨٦

ثمّ أماته ثمّ إحياء ثمّ إشخاص إلى جزاء يوم الجزاء، و ليس له إلّا الطاعة المحضة و الطمع في غفران الخطيئة.

و من الأدب المراعي في بيانه نسبة المرض إلى نفسه في قوله:( وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) لما أنّ نسبته إليه تعالى في مثل المقام و هو مقام الثناء لا يخلو عن شي‏ء، و المرض و إن كان من جملة الحوادث و هي لا تخلو عن نسبة إليه تعالى، لكنّ الكلام ليس مسوقاً لبيان حدوثه حتّى ينسب إليه تعالى بل لبيان أنّ الشفاء من المرض من رحمته و عنايته تعالى، و لذلك نسب المرض إلى نفسه و الشفاء إلى ربّه بدعوى أنّه لا يصدر منه إلّا الجميل.

ثمّ أخذ في الدعاء و استعمل فيه من الأدب البارع أن ابتدأ باسم الربّ و قصر مسألته على النعم الحقيقيّة الباقية من غير أن يلتفت إلى زخارف الدنيا الفانية، و اختار ممّا اختاره ما هو أعظم و أفخم فسأل الحكم و هو الشريعة و اللحوق بالصالحين و سأل لسان صدق في الآخرين و هو أن يبعث الله بعده زماناً بعد زمان، و حيناً بعد حين من يقوم بدعوته، و يروّج شريعته، و هو في الحقيقة سؤال أن يخصّه بشريعة باقية إلى يوم القيامة ثمّ سأل وراثة الجنّة و مغفرة أبيه و عدم الخزي يوم القيامة.

و قد أجابه الله تعالى إلى جميع ما سأله عنه على ما ينبئ به كلامه تعالى إلّا دعاءه لأبيه و حاشا ربّ العالمين أن يذكر دعاء عبد من عباده المكرمين ممّا ذهب سدى لم يستجبه، قال تعالى:( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ) الحجّ: ٧٨ و قال:( وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) الزخرف: ٢٨ و قال:( لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) البقرة: ١٣٠ و حيّاه بسلام عامّ إذ قال:( سَلامٌ عَلى‏ إِبْراهِيمَ ) الصافّات: ١٠٩.

و سير التاريخ بعدهعليه‌السلام يصدّق جميع ما ذكره القرآن الشريف من محامده و أثنى فيه عليه فإنّهعليه‌السلام هو النبيّ الكريم قام وحده بدين التوحيد و إحياء ملّة الفطرة و انتهض لهدم أركان الوثنيّة، و كسر الأصنام على حين اندرست فيه آيات التوحيد، و عفت الأيّام فيها رسوم النبوّة و نسيت الدنيا اسم نوح و الكرام من أنبياء الله، فأقام دين الفطرة على ساق، و بثّ دعوة التوحيد بين الناس و دين التوحيد حتّى اليوم و قد مضى من

٢٨٧

زمنه ما يقرب من أربعة آلاف سنة حيّ باسمه باق في عقبه فإنّ الّذي تعرفه الدنيا من دين التوحيد هو دين اليهود و نبيّهم موسى، و دين النصارى و نبيهم عيسى، و هما من آل إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيمعليهم‌السلام ، و دين الإسلام الّذي بعث به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو من ذرّيّة إسماعيل بن إبراهيمعليهما‌السلام .

و ممّا ذكره الله من دعائه قوله:( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) الصافّات: ١٠٠ يسأل الله فيه ولداً صالحاً، و فيه اعتصام بربّه، و إصلاح لمسألته الّذي هي بوجه دنيويّة بوصف الصلاح ليعود إلى جهة الله و ارتضائه.

و ممّا ذكره تعالى من دعائه ما دعا به حين قدم إلى أرض مكّة و قد أسكن إسماعيل و اُمّه بها، قال تعالى:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى‏ عَذابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ ) البقرة: ١٢٦.

يسأل ربّه أن يتّخذ أرض مكّة - و هي يومئذ أرض قفرة و واد غير ذي زرع - حرماً لنفسه ليجمع بذلك شمل الدين، و يكون ذلك رابطة أرضيّة جسمانيّة بين الناس و بين ربّهم يقصدونه لعبادة ربّهم، و يتوجّهون إليه في مناسكهم، و يراعون حرمته فيما بينهم فيكون ذلك آية باقية خالدة لله في الأرض يذكر الله كلّ من ذكره، و يقصده كلّ من قصده، و تتشخّص به الوجهة، و تتّحد به الكلمة.

و الدليل على أنّهعليه‌السلام يريد بالأمن الأمن التشريعيّ الّذي هو معنى اتّخاذه حرماً دون الأمن الخارجيّ من وقوع المقاتلات و الحروب و سائر الحوادث المفسدة للأمن المخلّة بالرفاهيّة قوله تعالى:( أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى‏ إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) القصص: ٥٧ فإنّ في الآية امتناناً عليهم بأمن الحرم و هو المكان الّذي احترمه الله لنفسه فاتّصف بالأمن من جهة ما احترمه الناس لا من جهة عامل تكوينيّ يقيه من الفساد و القتل، و الآية نزلت و قد شاهدت مكّة حروباً مبيدة بين قريش و جرهم فيها، و كذا من القتل و الجور و الفساد ما لا يحصى، و كذا قوله تعالى:( أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ

٢٨٨

النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ) العنكبوت: ٦٧ أي لا يتخطّفون من الحرم لاحترام الناس إيّاه لمكان الحرمة الّتي جعلناها.

و بالجملة كان مطلوبهعليه‌السلام هو أن يكون لله في الأرض حرم تسكنه ذرّيّته، و كان لا يحصل ذلك إلّا ببناء بلد يقصده الناس من كلّ جانب فيكون مجمعاً دينيّاً يؤمّونه بالسكونة و اللواذ و الزيارة إلى يوم القيامة فلذلك سأل أن يجعله بلداً آمناً، و قد كان غير ذي زرع فسأل أن يرزقهم من الثمرات حتّى يعمّر بسكّانه و لا يتفرّقوا منه.

ثمّ لما أحسّ أنّ دعاءه بهذا التشريف يشمل المؤمن و الكافر قيّد مسألته بإيمان المدعوّ لهم بالله و اليوم الآخر فقال:( مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ) و أمّا أنّ ذلك كيف يمكن في بلد لو اتّفق أن يسكن فيه المؤمنون و الكفّار معاً و اختلفوا، أو إذا قطن فيه الكفّار فقط؟ و كيف يرزقون من الثمرات و الأرض بطحاء غير ذي زرع؟ فلم يتعرّض له في مسألته.

و هذا من أدبهعليه‌السلام في مقام الدعاء فإنّ من فضول القول أن يعلّم الداعي ربّه كيف يقضي حاجته؟ و ما هو الطريق إلى إجابة مسألته؟ و هو ربّ عليم حكيم قدير إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.

لكنّ الله سبحانه إذ كان يريد أن يقضي حاجته على السنّة الجارية في الأسباب العاديّة و لا يفرّق فيها بين المؤمن و الكافر تمّم دعاءهعليه‌السلام بما قيّد به كلامه من قوله:( وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى‏ عَذابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

و هذا الدعاء الّذي أدّى إلى تشريع الحرم الإلهيّ و بناء الكعبة المقدّسة الّتي هي أوّل بيت وضع للناس ببكّة مباركاً و هدىً للعالمين هو إحدى ثمرات همّته العالية المقدّسة الّتي امتنّ به على من بعده من المسلمين إلى يوم القيامة.

و ممّا دعاعليه‌السلام دعاؤه في آخر عمره على ما حكاه الله تعالى بقوله:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ

٢٨٩

وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ، رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَ ما نُعْلِنُ وَ ما يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ ) إبراهيم: ٤١.

و هذا ممّا دعاعليه‌السلام به في أواخر عمره الشريف و قد بنيت بلدة مكّة، و الدليل عليه قول فيه:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ ) و قوله:( اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) و لم يقل كما في دعائه السابق:( و اجعل هذا بلداً آمناً) .

و ممّا استعمل فيه من الأدب تمسّكه بالربوبيّة في دعائه، و كلّما ذكر ما يختصّ بنفسه قال:( رَبِّ ) و كلّما ذكر ما يشاركه فيه غيره قال:( رَبَّنا ) .

و من الأدب المستعمل في دعائه أن كلّما ذكر حاجة من الحوائج يمكن أن يسأل لغرض مشروع أو غير مشروع ذكر غرضه الصحيح من حاجته، و فيه من إثارة الرحمة الإلهيّة ما لا يخفى فلمّا قال:( اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ ) إلخ، ذكر بعده قوله:( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ ) إلخ، و حيث قال:( رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ ) إلخ، قال بعده:( رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ) و إذ دعا بقوله:( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ ) ذيّله بقوله:( لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) .

و من أدبه فيه أنّه أردف كلّ حاجة ذكرها بما يناسب مضمونها من أسماء الله الحسنى كالغفور و الرحيم و سميع الدعاء، و كرّر اسم الربّ كلّما ذكر حاجة من حوائجه فإنّ الربوبيّة هي السبب الموصول بين العبد و بين الله تعالى، و هو المفتاح لباب كلّ دعاء.

و من أدبه فيه قوله:( وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) حيث لم يدع عليهم بشي‏ء يسوء غير أنّه ذكر مع ذكرهم اسمين من أسماء الله تعالى هما الواسطتان في شمول نعمة السعادة على كلّ إنسان أعني الغفور الرحيم حبّاً منه لنجاة اُمتّه و انبساط جود ربّه.

و من ذلك ما حكاه الله عنه و عن ابنه إسماعيل و قد اشتركا فيه، و هو قوله تعالى:( وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ

٢٩٠

الْعَلِيمُ، رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) البقرة: ١٢٩.

دعاء دعوا به عند بنائهما الكعبة، و فيه من الأدب الجميل ما في سابقه.

و من ذلك ما حكاه الله عن إسماعيلعليه‌السلام في قصّة الذبح قال تعالى:( فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى‏ فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى‏ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) الصافّات: ١٠٢.

و صدر كلامه و إن كان من أدبه مع أبيه إلّا أنّ الذيل فيما بينه و بين ربّه على أنّ التأدّب مع مثل إبراهيم خليل اللهعليه‌السلام تأدّب مع الله تعالى.

و بالجملة لما ذكر له أبوه ما رآه في المنام، و كان أمراً إلهيّاً بدليل قول إسماعيل:( افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ) أمره أن يرى فيه رأيه، و هو من أدبهعليه‌السلام مع ابنه فقال له إسماعيل:( يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ) ، إلخ و لم يذكر أنّه الرأي الّذي رآه هضماً لنفسه و تواضعاً لأبيه كأنّه لا رأي له قبال رأيه و لذلك صدّر القول بخطابه بالاُبوّة، و لم يقل: إن شئت فافعل ذلك ليكون مسألته القطعيّة تطييباً لنفس أبيه، و لأنّه ذكر في كلامه أنّه أمر اُمر به إبراهيم، و لا يتصوّر في حقّ مثله أن يتروّي أو يتردّد في فعل ما اُمر به دون أن يمتثل أمر ربّه.

ثمّ في قوله:( سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) تطييب آخر لنفس أبيه، و كلّ ذلك من أدبه مع أبيهعليهما‌السلام .

و قد تأدّب مع ربّه إذ لم يأت بما وعده إيّاه في صورة القطع و الجزم دون أن استثنى بمشيئة الله فإنّ في القطع من غير تعليق الأمر بمشيئة الله شائبة دعوى الاستقلال في السببيّة، و لتخلُ عنها ساحة النبوّة، و قد ذمّ الله لذلك قوماً إذ قطعوا أمراً و لم يعلّقوا كما قال في قصّة أصحاب الجنّة:( إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ، وَ لا يَسْتَثْنُونَ ) القلم: ١٨ و قد أدّب الله سبحانه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتابه بأن يستثني في قوله تأديباً بكناية عجيبة إذ قال:( وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ‏ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ )

٢٩١

الكهف: ٢٤.

و من ذلك ما حكاه الله عن يعقوبعليه‌السلام حين رجع بنوه من مصر و قد تركوا بنيامين و يهودا بها قال تعالى:( وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا أَسَفى‏ عَلى‏ يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ، قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ، قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) يوسف: ٨٦.

يقول لبنيه إنّ مداومتي على ذكر يوسف شكاية منّي سوء حالي إلى الله و لست بائس من رحمة ربّي أن يرجعه إليّ من حيث لا يحتسب، و ذلك أنّ من أدب الأنبياء مع ربّهم أن يتوجّهوا في جميع أحوالهم إلى ربّهم و يوردوا عامّة حركاتهم و سكناتهم في سبيله فإنّ الله سبحانه ينصّ على أنّه هداهم إليه صراطاً مستقيماً قال:( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ ) الأنعام: ٩٠ و قال في خصوص يعقوب:( وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا ) الأنعام: ٨٤ ثمّ ذكر أنّ اتّباع الهوى ضلال عن سبيل الله فقال تعالى:( وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) ص: ٢٦.

فالأنبياء و هم المهديّون بهداية الله لا يتّبعون الهوى البتّة فعواطفهم النفسانيّة و أميالهم الباطنيّة من شهوة أو غضب أو حبّ أو بغض أو سرور أو حزن ممّا يتعلّق بمظاهر الحياة من مال و بنين و نكاح و مأكل و ملبس و مسكن و غير ذلك كلّ ذلك واقعة في سبيل الله لا يقصدون به إلّا الله جلّت عظمته فإنّما هما سبيلان مسلوكان سبيل يتّبع فيه الحقّ و سبيل يتّبع فيه الهوى، و إن شئت قلت: سبيل ذكر الله و سبيل نسيانه.

و الأنبياءعليه‌السلام إذ كانوا مهديّين إلى الله لا يتّبعون الهوى كانوا على ذكر من ربّهم لا يقصدون بحركة أو سكون غيره تعالى، و لا يقرعون بحاجة من حوائج حياتهم باب غيره من الأسباب بمعنى أنّهم إذا تعلّقوا بسبب لم ينسهم ذلك ربّهم و أنّ الأمر إليه تعالى لا أنّهم ينفون الأسباب نفياً مطلقاً لا يبقى مع ذلك لها وجود في التصوّر مطلقاً فإنّ ذلك ممّا لا مطمع فيه، و لا أنّهم يرون ذوات الأشياء و ينفون عنها وصفة السببيّة فإنّ في ذلك خروجاً عن صراط الفطرة الإنسانيّة بل التعلّق به أن لا يرى لغيره استقلالاً، و يضع كلّ شي‏ء موضعه الّذي وضعه الله فيه.

٢٩٢

و إذ كان حالهمعليهم‌السلام ما ذكرنا من تعلّقهم بالله حقّ التعلّق تمكّن منهم هذا الأدب الإلهيّ أن يراقبوا مقام ربّهم و يراعوا جانب ربوبيّته فلا يقصدوا شيئاً إلّا لله، و لا يتركوا شيئاً إلّا لله، و لا يتعلّقوا بسبب إلّا و هم متعلّقون بربّهم قبله و معه و بعده، فهو غايتهم على كلّ حال.

فقولهعليه‌السلام :( إنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللهِ ) يريد به أنّ ذكري المستمرّ ليوسف و أسفي عليه ليس على حدّ ما يلغو أحدكم إذا أصابته مصيبة ففقد نعمة من نعم الله فيذكرها لمن لا يملك منه نفعاً و لا ضرّاً بجهل منه، و إنّما ذلك شكوىً منّي إلى الله فيما دخلني من فقد يوسف، و ليس ذلك مسألة منّي في أمر لا يكون فإنّي أ‏عْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ‏.

و من ذلك ما حكاه الله عن يوسف الصدّيق حين هدّدته امرأة العزيز بالسجن إن لم يفعل ما كانت تأمره به:( قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ) يوسف: ٣٣.

يذكرعليه‌السلام لربّه أنّ أمره يدور عندهنّ في موقفه ذاك بين السجن و بين إجابتهنّ إلى ما يسألنه، و أنّه بعلمه الّذي أكرمه الله به، و هو المحكيّ عنه في قوله تعالى:( وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً ) يوسف: ٢٢ يختار السجن على إجابتهنّ غير أنّ الأسباب منضودة على طبق ما يرجونه منه قويّة غالبة فهي تهدّده بالجهل بمقام ربّه و إبطال ما عنده من العلم بالله، و لا حكم في ذلك إلّا له تعالى كما قال لصاحبه في السجن:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) يوسف: ٤٠ و لذلك تأدّبعليه‌السلام و لم يذكر لنفسه حاجة لأنّه حكم بنحو، بل لوّح إلى تهديد الجهل إيّاه بإبطال نعمة العلم الّذي أكرمه بها ربّه، و ذكر أنّ نجاته من مهلكة الجهل و اندفاع كيدهنّ تتوقّف إلى صرفه تعالى فسلّم الأمر إليه و سكت.

فاستجاب له ربّه فصرف عنه كيدهنّ و هو الصبوة و إلّا فالسجن فتخلّص من السجن و الصبوة جميعاً، و منه يعلم أنّ مراده من كيدهنّ هو الصبوة و السجن جميعاً، و أمّا قولهعليه‌السلام :( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ ) ، إلخ فإنّما هو تمايل قلبيّ إلى السجن على تقدير

٢٩٣

تردّد الأمر و كناية عن النفرة و المباغضة للفحشاء و ليس بسؤال منه للسجن كماقالعليه‌السلام :

الموت أولى من ركوب العار

و العار أولى من دخول النار

لا كما ربّما يظنّ أنّه سأل بذلك السجن فقضي له به، و الدليل على ما ذكرناه قوله تعالى بعده:( ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ) يوسف: ٣٥ لظهور الآية أنّ سجنه كان عن رأي بدا لهم بعد ذلك، و قد كان الله سبحانه صرف عنه قبل ذلك كيدهنّ بالدعوة إلى أنفسهنّ و التهديد بالسجن.

و منه ما حكى الله سبحانه من ثنائه و دعائهعليه‌السلام حيث قال:( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ آوى‏ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ، وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) يوسف: ١٠١.

فليتدبّر الباحث فيما يعطيه الآيات من أدب النبوّة و ليمثّل عنده ما كان عليه يوسفعليه‌السلام من الملك و نفوذ الأمر و ما كان عليه أبواه من توقان النفس إلى لقائه، و ما كان عليه إخوته من التواضع و هم جميعاً على ذكر من تاريخ حياته من حين فقدوه إلى حين وجدوه و هو عزيز مستو على عرش العزّة و الهيمنة.

لم يشقّعليه‌السلام فماً بكلام إلّا و لربّه فيه نصيب أو كلّ النصيب إلّا ما أصدره من الأمر بقوله:( ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ ) فأمرهم بالدخول و حكم لهم بالأمن، و لم يستتمّ الكلام حتّى استثنى فيه بمشيئة الله لئلّا يوهم الاستقلال في الحكم دون الله، و هوعليه‌السلام القائل:( إن الحكم إلّا لله) .

ثمّ شرع في الثناء على ربّه فيما جرى عليه منذ فارقهم إلى أن اجتمع بهم و بدأ في ذلك بقصّة رؤياه و تحقّق تأويلها و صدّق فيه أباه لا فيما عبّرها به فقط بل حتّى فيما

٢٩٤

ذكره في آخر كلامه من علم الله و حكمته توغّلاً منه في الثناء على ربّه حيث قال له أبوه:( وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ - إلى أن قال -إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) يوسف: ٦ و قال له يوسف ههنا بعد ما صدّقه فيما عبّر به رؤياه:( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) يوسف: ١٠٠.

ثمّ أشار إلى إجمال ما جرى عليه ما بين رؤياه و تأويلها فنسبها إلى ربّه و وصفها بالحسن و هو من الله إحسان، و من ألطف أدبه توصيفه ما لقي من إخوته حين ألقوه في غيابة الجبّ إلى أن شروه بثمن بخس دراهم معدودة، و اتّهموه بالسرقة بقوله:( نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي ) .

و لم يزل يذكر نعم ربّه و يثني عليه و يقول: ربّي و ربّي حتّى غشيه الوله و أخذته جذبة إلهيّة فاشتغل بربّه و تركهم كأنّه لا يعرفهم، و قال:( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) ، فأثنى على ربّه بحاضر نعمه عنده، و هو الملك و العلم بتأويل الأحاديث، ثمّ انتقلت نفسه الشريفة من ذكر النعم إلى أنّ ربّه الّذي أنعم عليه بما أنعم لأنّه فاطر السماوات و الأرض، و مخرج كلّ شي‏ء من العدم البحت إلى الوجود من غير أن يكون لشي‏ء من الأشياء جدة من نفسه يملك به ضرّاً أو نفعاً أو نعمة أو نقمة أو صلاحية أن يدبّر أمر نفسه في دنيا أو آخرة.

و إذ كان فاطر كلّ شي‏ء فهو وليّ كلّ شي‏ء، و لذلك ذكر بعد قوله:( فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أنّه عبد داخر لا يملك تدبير نفسه في دنيا و لا آخرة بل هو تحت ولاية الله سبحانه يختار له من الخير ما يشاء و يقيمه أيّ مقام أراد فقال:( أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ ) و عندئذ ذكر ما له من مسألة يحتاج فيها إلى ربّه و هو أن ينتقل من الدنيا إلى الآخرة و هو في حال الإسلام إلى ربّه على حدّ ما منحه الله آباءه إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب قال تعالى:( وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ و هو الاصطفاء قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى‏ لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) البقرة: ١٣٢.

و هو قوله:( تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) يسأل التوفّي على الإسلام ثمّ

٢٩٥

اللحوق بالصالحين، و هو الّذي سأله جدّه إبراهيمعليه‌السلام بقوله:( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) الشعراء: ٨٣ فاُجيب إليه كما في الآيات المذكورة آنفاً و هذا آخر ما ذكر الله من حديثه و ختم به قصّته، و أنّ إلى ربّك المنتهى، و هذا ممّا في السياقات القرآنيّة من عجيب اللطف.

و من ذلك ما حكاه الله سبحانه عن نبيّه موسىعليه‌السلام في أوائل نشوئه بمصر حين وكز القبطيّ فقضى عليه:( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) القصص: ١٦ و قوله حين فرّ من مصر فبلغ مدين و سقى لابنتي شعيب ثمّ تولّى إلى الظلّ فقال:( رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) القصص: ٢٤.

و قد استعملعليه‌السلام في مسألتيه من الأدب بعد الالتجاء بالله و التعلّق بربوبيّته أن صرّح في دعائه الأوّل بالطلب لأنّه كان متعلّقاً بالمغفرة و الله سبحانه يحبّ أن يستغفر كما قال:( وَ اسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) البقرة: ١٩٩ و هو الّذي دعا إليه نوح فمن بعده من الأنبياءعليهم‌السلام ، و لم يصرّح بحاجته بعينه في دعائه الثاني الّذي ظاهره بحسب دلالة المقام أنّه كان يريد رفع حوائج الحياة كالغذاء و المسكن مثلاً بل إنّما ذكر الحاجة ثمّ سكت، فما للدنيا عند الله من قدر.

و اعلم أنّ قولهعليه‌السلام :( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) يجري في الاعتراف بالظلم و طلب المغفرة مجرى قول آدم و زوجته:( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) بمعنى أنّ المراد بالظلم هو ظلمه على نفسه لاقترافه عملاً يخالف مصلحة حياته كما أنّ الأمر كان على هذا النحو في آدم و زوجته.

فإنّ موسىعليه‌السلام إنّما فعل ما فعل قبل أن يبعثه الله بشريعته الناهية عن القتل و إنّما قتل نفساً كافرة غير محترمة، و لا دليل على وجود النهي عن مثل هذا القتل قبل شريعته و كان الأمر في عصيان آدم و زوجته على هذه الوتيرة فقد ظلماً أنفسهما بالأكل من الشجرة قبل أن يشرّع الله شريعة بين النوع الإنسانيّ فإنّما أسّس الله الشرائع كائنة ما كانت بعد هبوطهما من الجنّة إلى الأرض.

و مجرّد النهي عن اقتراب الشجرة لا دليل على كونه مولويّاً مستلزماً لتحقّق

٢٩٦

المعصية المصطلحة بمخالفته، مع أنّ القرائن قائمة على كون النهي المتعلّق بهما إرشاديّاً كما في آيات سورة طه على ما بيّنّاه في تفسير قصّة جنّة آدم في الجزء الأوّل من الكتاب.

على أنّ الكتاب الإلهيّ نصّ في كون موسىعليه‌السلام مخلصاً، و أنّ إبليس لا سبيل له إلى إغواء المخلصين من عباد الله تعالى و من الضروريّ أن لا معصية بدون إغواء إبليس قال الله تعالى:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى‏ إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا ) مريم: ٥١ و قال تعالى:( قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) ص: ٨٣.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالمغفرة المسؤلة في دعائه كما في دعائهماعليهم‌السلام ليست هي إمحاء العقاب الّذي يكتبه الله على المجرمين كما في المعاصي المولويّة بل إمحاء الآثار السيّئة الّتي كان يستتبعها الظلم على النفس في مجرى الحياة فقد كان موسىعليه‌السلام يخاف أن يفشو أمره و يظهر ما هو ذنب له عندهم فسأله تعالى أن يستر عليه و يغفره، و المغفرة في عرف القرآن أعمّ من إمحاء العقاب بل هي إمحاء الأثر السيّئ كائناً ما كان، و لا ريب أنّ أمر الجميع بيد الله سبحانه.

و نظير هذا من وجه قول نوحعليه‌السلام فيما تقدّم من دعائه( وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي ) أي و إن لم تؤدّبني بأدبك، و لم تعصمني بعصمتك و وقايتك و ترحمني بذلك أكن من الخاسرين، فافهم ذلك.

و منه دعاؤهعليه‌السلام أوّل ما اُلقي إليه الوحي و بعث بالرسالة إلى قومه على ما حكاه الله قال تعالى:( قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً ) طه: ٣٥.

ينصحعليه‌السلام لما بعث لها من الدعوة الدينيّة و يذكر لربّه - على ما يفيده الكلام بإعانة من المقام - إنّك كنت بصيراً بحالي أنا و أخي أنّا منذ نشأنا نحبّ تسبيحك، و قد حملتني الليلة ثقل الرسالة و في نفسي من الحدّة و في لساني من العقدة ما أنت أعلم به و إنّي أخاف أن يكذّبوني إن دعوتهم إليك و بلّغتهم رسالتك فيضيق صدري و لا ينطلق لساني فاشرح لي صدري، و يسّر لي أمري، و هذا رفع التحرّج الّذي ذكره الله بقوله:( ما كانَ

٢٩٧

عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ) الأحزاب: ٣٨( وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي ) و أخي هارون أفصح منّي لساناً و هو من أهلي فأشركه في هذا الأمر و اجعله وزيراً لي كي نسبّحك - كما كنّا نحبّه - كثيراً و نذكرك عند ملإ الناس بالتعاضد كثيراً فهذا محصّل ما سألهعليه‌السلام ربّه من أسباب الدعوة و التبليغ، و الأدب الّذي استعمل فيه أن ذكر غايته و غرضه من أسئلته لئلّا يوهم كلامه أنّه يسأل ما يسأل لنفسه فقال:( كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً ) و استشهد على صدقه في دعواه بعلم الله نفسه بإلقاء أنفسهما بين يديه و عرضها عليه فقال:( إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً ) و عرض السائل المحتاج نفسه في حاجتها على المسؤل الغنيّ الجواد من أقوى ما يهيّج عاطفة الرحمة لأنّه يفيد إراءة نفس الحاجة فوق ما يفيده ذكر الحاجة باللسان الّذي لا يمتنع عليه أن يكذب.

و منه ما حكى الله عنه ممّا دعا به على فرعون و ملائه إذ قال:( وَ قالَ مُوسى‏ رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى‏ أَمْوالِهِمْ وَ اشْدُدْ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ، قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) يونس: ٨٩.

الدعاء لموسى و هارون و لذلك صدّر بكلمة( رَبَّنا ) و يدلّ عليه ما في الآية التالية:( قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما ) دعوا أوّلاً على أموالهم أن يطمس الله عليها ثمّ على أنفسهم أن يشدّ الله على قلوبهم فلا يؤمنوا حتّى يروا العذاب الأليم فلا يقبل إيمانهم كما قال تعالى:( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ) الأنعام: ١٥٨ أي انتقم منهم بتحريم الإيمان عليهم بمفاجاة العذاب كما حرّموه على عبادك بإضلالهم، و هذا أشدّ ما يمكن أن يدعى به على أحد فإنّه الدعاء بالشقوة الدائمة و لا شي‏ء شرّاً منه بالنسبة إلى إنسان.

و الدعاء بالشرّ غير الدعاء بالخير حكماً فإنّ الرحمة الإلهيّة سبقت غضبه و قد قال لموسى فيما أوحي إليه:( عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) الأعراف: ١٥٦ فسعة الرحمة الإلهيّة تقضي بكراهية إصابة الشرّ و الضرّ لعبد من عباده و إن كان

٢٩٨

ظالماً، و يشهد بذلك ما يفيض الله سبحانه من نعمه عليهم و سترهم بكرمه و أمره عباده بالحلم و التصبّر عند جهالتهم و خرقهم اللّهمّ إلّا في إقامة حقّ لازم، أو عند اضطرار في مظلمة إذا كانوا على علم بأنّ مصلحة ملزمة كمصلحة الدين أو أهل الدين تقتضي ذلك.

على أنّ جهات الخير و السعادة كلّما كانت أرقّ لطافةً و أدقّ رتبةً كانت أوقع عند النفوس بالفطرة الّتي فطر الله الناس عليها بخلاف جهات الشرّ و الشقاء فإنّ الإنسان بحسب طبعه يفرّ من الوقوف عليها، و يحتال أن لا يلتفت إلى أصلها فضلاً عن تفاصيل خصوصيّاتها، و هذا المعنى يوجب اختلاف الدعاءين أعني الدعاء بالخير و الدعاء بالشرّ من حيث الآداب.

فمن أدب الدعاء بالشرّ أن تذكر الاُمور الّتي بعثت إلى الدعاء بالتكنية و خاصّة في الاُمور الشنيعة الفظيعة بخلاف الدعاء بالخير فإنّ التصريح بعوامل الدعاء فيه هو المطلوب، و قد راعاهعليه‌السلام في دعائه حيث قال:( لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ) و لم يأت بتفاصيل ما كانت تأتي به آل فرعون من الفظائع.

و من أدبه الإكثار من الاستغاثة و التضرّع و قد راعاه فيما يقول:( رَبَّنا ) و تكرّره مرّات في دعائه على قصره.

و من أدبه أن لا يقدم عليه إلّا مع العلم بأنّه على مصلحة الحقّ من دين أو أهله من دون أن يجري على ظنّ أو تهمة، و قد كانعليه‌السلام على علم منه و قد قال الله فيه:( وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَ أَبى‏ ) طه: ٥٦ و كأنّه لذلك أمره الله سبحانه و أخاه عند ما أخبرهما بالاستجابة بقوله:( فَاسْتَقِيما وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) و الله أعلم.

و من دعاء موسى ما حكاه الله عنه في قوله:( وَ اخْتارَ مُوسى‏ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ، وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ‏ ) الأعراف: ١٥٦.

يبتدئ الدعاء من قوله:( فَاغْفِرْ لَنا ) ، إلخ غير أنّ الموقف لما كان موقفاً صعباً قد

٢٩٩

أخذهم الغضب الإلهيّ و البطش الّذي لا يقوم له شي‏ء، و ما مسألة المغفرة و الرحمة من سيّد ساخط قد هتكت حرمته و اُهين على سؤدده كمسألة من هو في حال سويّ فلذلك قدّمعليه‌السلام ما تسكن به فورة الغضب الإلهيّ حتّى يتخلّص إلى طلب المغفرة و الرحمة.

فقال:( رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ ) يريدعليه‌السلام - كما تدلّ عليه قرينة المقام - ربّ إنّ نفسي و نفوسهم جميعاً قبض قدرتك، و طوع مشيئتك، لو شئت أهلكتهم و أنا فيهم قبل اليوم كما أهلكتهم اليوم و أبقيتني فما ذا أقول لقومي إذا رجعت إليهم و اتّهموني بأنّي قتلتهم، و حالهم ما أنت أعلم به؟ و هذا يبطل دعوتي و يحبط عملي.

ثمّ عدّعليه‌السلام إهلاك السبعين إهلاكاً له و لقومه فذكر أنّهم سفهاء من قومه لا يعباً بفعلهم فأخذ ربّه برحمته حيث لم يكن من عادته تعالى أن يهلك قوماً بفعل السفهاء منهم، و ليس ذلك إلّا مورداً من موارد الامتحان العامّ الّذي لا يزال جارياً على الإنسان فيضلّ به كثير، و يهتدي به كثير، و لم تقابلها إلّا بالصفح و الستر.

و إذ كان بيدك أمر نفسي و نفوسنا تقدر على إهلاكنا متى شئت، و كانت هذه الواقعة غير بدع في مسير امتحانك العامّ الّذي يعقّب ضلال قوم و هداية آخرين، و لا ينتهي إلّا إلى مشيئتك فأنت وليّنا الّذي يقوم بأمرك و مشيئتك تدبير اُمورنا، و لا صنع لنا فيها فاقض فينا بالمغفرة و الرحمة فإنّ من جملة صفاتك أنّك خير الغافرين، و اكتب لنا في هذه الدنيا عيشة آمنة من العذاب و هي الّتي يستحسنها من أحاط به غمر السخط الإلهيّ، و في الآخرة حسنة بالمغفرة و الجنّة.

و هذا ما ساقهعليه‌السلام في مسألته، و قد أخذتهم الرجفة و شملتهم البليّة فانظر كيف استعمل جميل أدب العبوديّة و استرحم ربّه، و لم يزل يستوهب الرحمة، و يسكّن بثنائه فورة السخط الإلهيّ حتّى اُجيب إلى ما لم يذكره من الحاجة بين ما ذكره، و هو إعادة حياتهم إليهم بعد الإهلاك، و أوحي إليه بما حكاه الله تعالى:( قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ ) الأعراف: ١٥٦ فما ظنّك به تعالى بعد ما قال لموسىعليه‌السلام جواباً لمسألته:( وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) .

٣٠٠