الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 401
المشاهدات: 80810
تحميل: 7042


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80810 / تحميل: 7042
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 6

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و قد ذكر تعالى صريح عفوه عن هؤلاء، و إجابته إلى مسألته موسىعليه‌السلام بإعادة الحياة إليهم و قد اُهلكوا و ردّهم إلى الدنيا بقوله:( وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى‏ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) البقرة: ٥٦ و يقرب من ذلك ما في سورة النساء.

و قد استعملعليه‌السلام من الأدب في كلامه حيث قال:( تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ ) لم يذكر أنّ ذلك من سوء اختيار هؤلاء الضالّين لينزّهه تعالى لفظاً كما كان ينزّهه قلباً فيكون على حدّ قوله تعالى:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦ لأنّ المقام كان يصرفه عن التعرّض إلّا لكونه تعالى وليّاً على الإطلاق ينتهي إليه كلّ التدبير لا غير.

و لم يورد في الذكر أيضاً عمدة ما في نفسه من المسألة و هو أن يحييهم الله سبحانه بعد الإهلاك لأنّ الموقف على ما كان فيه من هول و خطر كان يصرفه عن الاسترسال، و إنّما أشار إليه إشارة بقوله:( رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ ) ، إلخ.

و من دعائهعليه‌السلام ما دعا به حين رجع إلى قومه من الميقات فوجدهم قد عبدوا العجل من بعده، و قد كان الله سبحانه أخبره بذلك قال تعالى( وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) الأعراف: ١٥٠ فعند ذلك رقّ له و دعا له و لنفسه ليمتازا بذلك من القوم الظالمين:( قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) الأعراف: ١٥١.

و لم يكن يريد التميّز منهم و أن يدخلهما الله في رحمته إلّا لما كان يعلم أنّ الغضب الإلهيّ سينال القوم بظلمهم كما ذكره الله بقوله بعد ذلك:( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) الأعراف: ١٥٢ و يعرف بما تقدّم وجوه من الأدب في كلامه.

و من دعائهعليه‌السلام - و هو في معنى الدعاء على قومه إذ قالوا له حين أمرهم بدخول الأرض المقدّسة:( يا مُوسى‏ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا ههُنا

٣٠١

قاعِدُونَ ) المائدة: ٢٤ - ما حكاه الله تعالى بقوله:( قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) المائدة: ٢٥.

و قد أخذعليه‌السلام بالأدب الجميل حيث كنّى عن الإمساك عن أمرهم و تبليغهم أمر ربّهم ثانياً بعد ما جبّهوا أمره الأوّل بأقبح الردّ و أشنع القول بقوله:( رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي ) أي لا يطيعني فيما أمرته إلّا نفسي و أخي أي إنّهم ردّوا عليّ بما لا مطمع فيهم بعده، فها أنا أكفّ عن أمرهم بأمرك و إرشادهم إلى ما فيه صلاح جماعتهم.

و إنّما نسب ملك نفسه و أخيه إلى نفسه لأنّ مراده من الملك بقرينة المقام ملك الطاعة و لو كان هو الملك التكوينيّ لم ينسبه إلى نفسه إلّا مع بيان أنّ حقيقته لله سبحانه، و إنّما له من الملك ما ملّكه الله إيّاه، و لما عرض لربّه من نفسه الإمساك و اليأس عن إجابتهم إليه أحال الحكم في ذلك فقال:( فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) .

و من ذلك ما دعا به شعيبعليه‌السلام على قومه إذ قال:( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ ) الأعراف: ٨٩.

و هذا استنجاز منه للوعد الإلهيّ بعد ما يئس من نجاح دعوته فيهم، و مسألة للقضاء بينه و بينهم بالحقّ على ما قاله الله تعالى:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) يونس: ٤٨.

و إنّما قال:( بَيْنَنا ) لأنّه ضمّ المؤمنين به إلى نفسه، و قد كان الكافرون من قومه هدّدوا إيّاه و المؤمنين به جميعاً إذ قالوا:( لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) الأعراف: ٨٨ فضمّهم إلى نفسه و هاجر قومه في عملهم و سار بهم إلى ربّه و قال:( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا ) ، إلخ.

و قد استمسك في دعائه باسمه الكريم:( خَيْرُ الْفاتِحِينَ ) لما مرّ أنّ التمسّك بالصفة المناسبة لمتن الدعاء تأييد بالغ بمنزلة الإقسام، و هذا بخلاف قول موسىعليه‌السلام :( رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) المنقول آنفاً لما تقدّم أنّ لفظهعليه‌السلام ليس بدعاء حقيقة بل هو كناية عن الإمساك عن الدعوة و إرجاع للأمر إلى الله فلا مقتضى للإقسام بخلاف قول شعيب.

٣٠٢

و من ذلك ما حكاه الله من ثناء داود و سليمانعليهما‌السلام قال تعالى:( وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى‏ كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) النمل: ١٥.

وجه الأدب في حمدهما و شكرهما و نسبة ما عندهما من فضيلة العلم إلى الله سبحانه ظاهر، فلم يقولا مثل ما حكى عن غيرهما كقول قارون لقومه إذ وعظوه أن لا يستكبر في الأرض بماله:( إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ عِنْدِي ) القصص: ٧٨ و كما حكى الله عن قوم آخرين:( فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) المؤمن: ٨٣.

و لا ضير في الحمد على تفضيل الله إيّاهما على كثير من المؤمنين فإنّه من ذكر خصوص النعمة و بيان الواقع، و ليس ذلك من التكبّر على عباد الله حتّى يلحق به ذمّ، و قد ذكر الله عن طائفة من المؤمنين سؤال التفضيل و مدحهم على علوّ طبعهم و سموّ همّتهم حيث قال:( وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا - إلى أن قال -وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً ) الفرقان: ٧٤.

و من ذلك ما حكاه عن سليمانعليه‌السلام في قصّة النملة بقوله:( حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى‏ وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ، فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى‏ والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ ) النمل: ١٩.

ذكّرته النملة بما قالته ما له من الملك العظيم الّذي شيّدت أركانه بتسخير الريح تجري بأمره، و الجنّ يعملون له ما يشاء و العلم بمنطق الطير و غيره غير أنّ هذا الملك لم يقع في ذكرهعليه‌السلام في صورة أجلى اُمنيّة يبلغها الإنسان كما فينا و لم ينسه عبوديّته و مسكنته بل إنّما وقع في نفسه في صورة نعمة أنعمها عليه ربّه فذكر ربّه و نعمته أنعمها عليه و على والديه بما خصّهم به، و هو من مثلهعليه‌السلام و الحال هذا الحال أفضل الأدب مع ربّه.

و قد ذكر نعمة ربّه، و هي و إن كانت كثيرة في حقّه غير أنّ مورد نظرهعليه‌السلام - و المقام ذاك المقام - هو الملك العظيم و السلطة القاهرة، و لذلك ذكر العمل الصالح و سأل

٣٠٣

ربّه أن يوزعه ليعمل صالحاً لأنّ العمل الصالح و السيرة الحسنة هو المطلوب ممّن استوى على عرش الملك.

فلذلك كلّه سأل ربّه أوّلاً أن يوزعه على شكر نعمته، و ثانياً أن يعمل صالحاً، و لم يرض بسؤال العمل الصالح دون أن قيّده بقوله:( تَرْضاهُ ) فإنّه عبد لا شغل له بغير ربّه و لا يريد الصالح من العمل إلّا لأنّ ربّه يرضاه، ثمّ تمّم مسألة التوفيق لصلاح العمل بمسألة صلاح الذات فقال:( وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ ) .

و من ذلك ما حكاه الله عن يونسعليه‌السلام و قد دعا به و هو في بطن الحوت الّذي التقمه قال تعالى:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى‏ فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) الأنبياء: ٨٧.

كانعليه‌السلام على ما يقصّه القرآن - قد سأل ربّه أن ينزل على قومه العذاب فأجابه إلى ذلك فأخبرهم به فلمّا أشرف عليهم العذاب بالنزول تابوا إلى ربّهم فرفع عنهم العذاب، و لما شاهد يونس ذلك ترك قومه، و ذهب لوجهه حتّى ركب السفينة فاعترضها حوت فساهمهم في أن يدفعوا الحوت بإلقاء رجل منهم إليه ليلتقمه و ينصرف عن الباقين، فخرجت القرعة باسمه فاُلقي في البحر فالتقمه الحوت فكان يسبّح الله في بطنه إلى أن أمره الله أن يلقيه إلى ساحل البحر، و لم يكن ذلك إلّا تأديباً إلهيّاً يؤدّب به أنبياءه على حسب ما يقتضيه مختلف أحوالهم، و قد قال تعالى:( فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) الصافّات: ١٤٤ فكان حاله في تركه العود إلى قومه و ذهابه لوجهه يمثّل حال عبد أنكر على ربّه بعض عمله فغضب عليه فأبق منه و ترك خدمته و ما هو وظيفة عبوديّته فلم يرتض الله له ذلك فأدّبه فابتلاه و قبض عليه في سجن لا يقدر فيه أن يتوسّع قدر أنملة في ظلمات بعضها فوق بعض فنادى في الظلمات أن لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين.

و لم يكن ذلك كلّه إلّا لأن يتمثّل له على خلاف ما كان يمثّله حاله أنّ الله سبحانه قادر على أن يقبض عليه و يحبسه حيث شاء، و أن يصنع به ما شاء فلا مهرب من الله سبحانه إلّا إليه، و لذلك لقّنه الحال الّذي تمثّل له و هو في سجنه من بطن الحوت

٣٠٤

أن يقرّ لله بأنّه هو المعبود الّذي لا معبود غيره، و لا مهرب عن عبوديّته فقال:( لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ ) و لم يناده تعالى بالربوبيّة، و هذا أوحد دعاء من أدعية الأنبياءعليهم‌السلام لم يصدّر باسم الربّ.

ثمّ ذكر ما جرى عليه الحال من تركه قومه إثر عدم إهلاكه تعالى إيّاهم بما أنزل عليهم من العذاب فأثبت الظلم لنفسه و نزّه الله سبحانه عن كلّ ما فيه شائبة الظلم و النقص فقال:( سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) .

و لم يذكر مسألته - و هي الرجوع إلى مقامه العبوديّ السابق - عدّاً لنفسه دون لياقة الاستعطاء و استحقاق العطاء استغراقاً في الحياء و الخجل، و الدليل على مسألته قوله تعالى بعد الآية السابقة:( فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ ) الأنبياء: ٨٨.

و الدليل على أنّ مسألته كانت هي الرجوع إلى سابق مقامه قوله تعالى:( فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ، وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، وَ أَرْسَلْناهُ إِلى‏ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى‏ حِينٍ ) الصافّات: ١٤٨.

و من ذلك ما ذكره الله تعالى عن أيوبعليه‌السلام بعد ما أزمنه المرض و هلك عنه ماله و ولده حيث قال:( وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى‏ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) الأنبياء: ٨٣.

وجوه التأدّب فيه ظاهرة ممّا تقدّم بيانه، و لم يذكرعليه‌السلام حاجته صريحاً على حدّ ما تقدّم من أدعية آدم و نوح و موسى و يونسعليهم‌السلام هضماً لنفسه و استحقاراً لأمره، و أدعية الأنبياء كما تقدّم و يأتي خالية عن التصريح بالحاجة إذا كان ممّا يرجع إلى اُمور الدنيا و إن كانوا لا يريدون شيئاً من ذلك اتّباعاً لهوى أنفسهم.

و بوجه آخر ذكره السبب الباعث إلى المسألة كمسّ الضرّ و الصفة الموجودة في المسؤل المطمعة للسائل في المسألة ككونه تعالى أرحم الراحمين، و السكوت عن ذكر نفس الحاجة، أبلغ كناية عن أنّ الحاجة لا تحتاج إلى ذكر فإنّ ذكرها يوهم أنّ الأسباب المذكورة ليست بكافية في إثارة رحمة من هو أرحم الراحمين بل يحتاج إلى تأييد بالذكر و تفهيم باللفظ.

٣٠٥

و من ذلك ما حكاه عن زكريّاعليه‌السلام : حيث قال:( ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا، إِذْ نادى‏ رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا، قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) مريم: ٦.

إنّما حثّه على هذا الدعاء و رغّبه في أن يستوهب ولداً من ربّه ما شاهده من أمر مريم ابنة عمران في زهدها و عبادتها، و ما أكرمها الله سبحانه به من أدب العبوديّة، و خصّها به من كرامة الرزق من عنده على ما يقصّه الله تعالى في سورة آل عمران قال تعالى:( وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ ) آل عمران: ٣٨.

فغشيه شوق شديد إلى ولد طيّب صالح يرثه و يعبد ربّه عبادة مرضيّة كما ورثت مريم عمران و بلغت جهدها في عبادة ربّها و نالت منه الكرامة غير أنّه وجد نفسه و قد نال منه الشيب، و انهدّت منه القوى، و كذلك امرأته و قد كانت عاقرة في سني ولادتها فأدركته من حسرة الحرمان من نعمة الولد الطيّب الرضيّ ما الله أعلم به، لكن لم يملك نفسه ممّا هاج فيه من الغيرة الإلهيّة و الاعتزاز بربّه دون أن رجع إلى ربّه و ذكر له ما يثور به الرحمة و الحنان من حاله أنّه لم يزل عالقاً على باب العبوديّة و المسألة منذ حداثة سنّه حتّى وهن عظمه و اشتعل رأسه شيباً، و لم يكن بدعائه شقيّاً، و قد وجده سبحانه سميع الدعاء فليسمع دعاءه و ليهب له وارثاً رضيّاً.

و الدليل على ما ذكرنا أنّه إنّما سأل ما سأل بما ملك نفسه من هيجان الوجد و الحزن ما حكاه الله تعالى عنه بعد ما أوحي إليه بالاستجابة بقوله:( قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا، قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً ) مريم: ٩ فإنّه ظاهر في أنّهعليه‌السلام لما سمع الاستجابة صحا عن حاله و أخذ يتعجّب من غرابة المسألة و الإجابة حتّى سأل ربّه عن ذلك في صورة الاستبعاد و سأل لنفسه عليه آية فاُجيب إليها أيضاً.

٣٠٦

و كيف كان فالّذي استعملهعليه‌السلام في دعائه من الأدب هو ما ساقه إليه حال الوجد و الحزن الّذي ملكه، و لذلك قدّم على دعائه بيان ما بلغ به الحال في سبيل ربّه فقد صرف دهره في سلوك سبيل الإنابة و المسألة حتّى وقف موقفاً يرقّ له قلب كلّ ناظر رحيم ثمّ سأل الولد و علّله بأنّ ربّه سميع الدعاء.

فهذا معنى ما ذكره مقدّمة لمسألته لا أنّه كان يمتنّ بطول عبوديّته على ربّه - حاشا مقام النبوّة - فمعنى قوله على ما في سورة آل عمران:( رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ ) أنّي أسألك ما أسألك لا لأنّ لطول عبوديّتي - و هو دعاؤه المديد - قدراً عندك أو فيه منّة عليك بل لأنّي أسألك، و قد وجدتك سميعاً لدعاء عبادك و مجيباً لدعوة السائلين المضطرّين، و قد اضطرّني خوف الموالي من ورائي، و الحثّ الشديد لذرّيّة طيّبة يعبدك أن أسألك.

و قد تقدّم أنّ من الأدب الّذي استعمله في دعائه أن ألحق تخوّف الموالي قوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) و الرضيّ و إن كان طبعه يدلّ بهيئته على ثبوت الرضا لموصوفه، و الرضا يشمل بإطلاقه رضى الله و رضى زكريّا و رضى يحيى لكنّ قوله في آية آل عمران:( ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) يدلّ على أنّ المراد بكونه رضيّاً كونه مرضيّاً عند زكريّا لأنّ الذرّيّة إنّما تكون طيّبة لصاحبها لا غير.

و من ذلك ما حكاه الله سبحانه عن المسيح حين سأل المائدة بقوله:( قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) المائدة: ١١٤.

القصّة المذكورة في كلامه تعالى في سؤال الحواريّين عيسىعليه‌السلام نزول مائدة من السماء عليهم تدلّ بسياقه أنّ هذه المسألة كانت من الأسئلة الشاقّة على عيسىعليه‌السلام لأنّ ما حكي عنهم من قولهم له:( يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ) كان أوّلاً مشتملاً بظاهره على الاستفهام عن قدرة الله سبحانه، و لا يوافق ذلك أدب العبوديّة و إن كان حاقّ مرادهم السؤال عن المصلحة دون أصل القدرة فإنّ حزازة اللفظ على حالها.

٣٠٧

و كان ثانياً متضمّناً لاقتراح آية جديدة مع أنّ آياتهعليه‌السلام الباهرة كانت قد أحاطت بهم من كلّ جهة فكانت نفسه الشريفة آية، و تكلّمه في المهد آية، و إحياؤه الموتى و خلقه الطير و إبراؤه الأكمه و الأبرص و إخباره عن المغيّبات و علمه بالتوراة و الإنجيل و الكتاب و الحكمة آيات إلهيّة لا تدع لشاكّ شكّاً و لا لمرتاب ريباً فاختيارهم آية لأنفسهم و سؤالهم إيّاه كان بظاهره كالعبث بآيات الله و اللعب بجانبه، و لذلك وبّخهم بقوله:( اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

لكنّهم أصرّوا على ذلك و وجّهوا مسألتهم بقولهم:( نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ ) و ألجاوه إلى السؤال فسأل.

أصلحعليه‌السلام بأدبه الموهوب من جانب الله سبحانه ما اقترحوه من السؤال بما يصلح به أن يقدّم إلى حضرة العزّة و الكبرياء فعنونه أوّلاً بعنوان أن يكون عيداً لهم يختصّون هو و اُمتّه به فإنّها آية اقتراحيّة عديمة النظير بين آيات الأنبياءعليهم‌السلام حيث كانت آياتهم إنّما تنزل لإتمام الحجّة أو لحاجة الاُمّة إلى نزولها، و هذه الآية لم تكن على شي‏ء من هاتين الصفتين.

ثمّ أجمل ثانياً ما فصّله الحواريّون من فوائد نزولها من اطمئنان قلوبهم بها و علمهم بصدقهعليه‌السلام و شهادتهم عليها، في قوله:( وَ آيَةً مِنْكَ ) .

ثمّ ذكر ثالثاً ما ذكروه من عرض الأكل و أخّره و إن كانوا قدّموه في قولهم:( نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها ) ، إلخ و ألبسه لباساً آخر أوفق بأدب الحضور فقال:( وَ ارْزُقْنا ) ثمّ ذيله بقوله:( وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ليكون تأييداً للسؤال بوجه، و ثناءً له تعالى من وجه آخر.

و قد صدّر مسألته بندائه تعالى:( اللهُمَّ رَبَّنا ) فزاد على ما يوجد في سائر أدعية الأنبياءعليهم‌السلام من قولهم( ربّ ) أو( ربّنا ) لأنّ الموقف صعب كما تقدّم بيانه.

و منه مشافهتهعليه‌السلام ربّه المحكيّة بقوله تعالى:( وَ إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ

٣٠٨

أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) المائدة: ١١٨.

تأدّبعليه‌السلام في كلامه أوّلاً بأن صدّره بتنزيهه تعالى عمّا لا يليق بقدس ساحته كما جرى عليه كلامه تعالى قال:( وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ ) الأنبياء: ٢٦.

و ثانياً بأن أخذ نفسه أدون و أخفض من أن يتوهّم في حقّه أن يقول مثل هذا القول حتّى يحتاج إلى أن ينفيه، و لذلك لم يقل من أوّل مقالته إلى آخرها:( ما قلت) أو( ما فعلت) و إنّما نفى ذلك مرّة بعد مرّة على طريق الكناية و تحت الستر فقال:( ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ) فنفاه بنفي سببه أي لم يكن لي حقّ في ذلك حتّى يسعني أن أتفوّه بمثل ذاك القول العظيم، ثمّ قال:( إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ) ، إلخ فنفاه بنفي لازمه أي إن كنت قلته كان لازم ذلك أن تعلمه لأنّ علمك أحاط بي و بجميع الغيوب.

ثمّ قال:( ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ ) فنفاه بإيراد ما يناقضه مورده على طريق الحصر بما و إلّا أي إنّي قلت لهم قولاً و لكنّه هو الّذي أمرتني به و هو أن اعبدوا الله ربّي و ربّكم، و كيف يمكن أن أقول لهم مع ذلك أن اتّخذوني و اُمّي إلهين من دون الله؟.

ثمّ قال:( وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) و هو نفي منهعليه‌السلام لذلك كالمتمّم لقوله:( ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ ) إلخ و ذلك لأنّ معناه: ما قلت لهم شيئاً ممّا ينسب إلي و الّذي قلت لهم إنّما قلته عن أمر منك، و هو( أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ ) و لم يتوجّه إلىّ أمر فيما سوى ذلك، و لا مساس بهم إلّا الشهادة و الرقوب لأعمالهم ما دمت، فلمّا توفّيتني انقطعت عنهم، و كنت أنت الرقيب عليهم بشهادتك الدائم العامّ قبل أن توفّيتني و بعده و عليهم و على كلّ شي‏ء غيرهم.

و إذ قد بلغ الكلام هذا المبلغ توجّه لهعليه‌السلام أن ينفي ذلك القول عن نفسه بوجه آخر متمّم للوجوه الّتي ذكرها، و به يحصل تمام النفي فقال:( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ

٣٠٩

عِبادُكَ ) ، إلخ يقول - على ما يؤيّده السياق - و إذا كان الأمر على ما ذكرت فأنا بمعزل منهم و هم بمعزل منّي فأنت و عبادك هؤلاء إن تعذّبهم فإنّهم عبادك، و للسيّد الربّ أن يعذّب عبيده بمخالفتهم و إشراكهم به و هم مستحقّون للعذاب، و إن تغفر لهم فلا عتب عليك لأنّك عزيز غير مغلوب و حكيم لا يفعل الفعل السفهيّ اللغو، و إنّما يفعل ما هو الأصلح.

و بما بيّنّا يظهر وجوه لطيفة من أدب العبوديّة في كلامهعليه‌السلام و لم يورد جملة في كلامه إلّا و قد مزجها بأحسن الثناء بأبلغ بيان و أصدق لسان.

و من ذلك ما حكاه الله تعالى عن نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قد ألحق به في ذلك المؤمنين من اُمتّه فقال تعالى:( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) البقرة: ٢٨٦.

كلامه تعالى - كما ترى - يحكي إيمان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرآن الكريم فيما اشتمل عليه من اُصول المعارف، و فيما اشتمل عليه من الأحكام الإلهيّة جميعاً، ثمّ يلحق بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المؤمنين من اُمتّه دون المعاصرين الحاضرين عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم فحسب، بل المؤمنين من جميع الاُمّة على ما هو ظاهر السياق.

و لازم ذلك أن يكون ما ذكر فيه من إقرار أو ثناء أو دعاء بالنسبة إلى بعضهم محكيّاً عن لسان حالهم، و إن أمكن أن يكون ذلك ممّا قاله آخرون بلسان قالهم، أو يكون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو القائل ذلك مشافهاً ربّه عن نفسه الشريفة و عن المؤمنين لأنّهم بإيمانهم من فروع شجرة نفسه الطيّبة المباركة.

و الآيتان تشتملان على ما هو كالمقايسة و الموازنة بين أهل الكتاب و بين مؤمني هذه الاُمّة من حيث تلقّيهم ما اُنزل إليهم في كتاب، الله و إن شئت قلت: من حيث تأدّبهم بأدب

٣١٠

العبوديّة تجاه الكتاب النازل إليهم، فإنّه ظاهر ما أثنى الله سبحانه على هؤلاء و خفّف الله عنهم في الآيتين بعين ما وبّخ اُولئك عليه و عيّرهم به في الآيات السابقة من سورة البقرة فقد ذمّ أهل الكتاب بالتفريق بين ملائكة الله فأبغضوا جبريل و أحبّوا غيره، و بين كتب الله المنزلة فكفروا بالقرآن و آمنوا بغيره، و بين رسل الله فآمنوا بموسى أو به و بعيسى و كفروا بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و بين أحكامه فآمنوا ببعض ما في كتاب الله و كفروا ببعض، و المؤمنون من هذه الاُمّة آمنوا بالله و ملائكته و كتبه و رسله لا نفرّق بين أحد من رسله.

فقد تأدّبوا مع ربّهم بالتسليم لما أحقّه الله من المعارف الملقاة إليهم ثمّ تأدّبوا بالتلبية لما ندب الله إليه من أحكامه إذ قالوا:( سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ) لا كقول اليهود:( سَمِعْنا وَ عَصَيْنا ) ثمّ تأدّبوا فعدّوا أنفسهم عباداً مملوكين لربّهم لا يملكون منه شيئاً و لا يمتنّون عليه بإيمانهم و طاعتهم فقالوا:( غُفْرانَكَ رَبَّنا ) لا كما قالت اليهود:( سَيُغْفَرُ لَنا ) و قالت:( إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ ) و قالت:( لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ) إلى غير ذلك من هفواتهم.

ثمّ قال الله سبحانه:( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) فإنّ التكليف الإلهيّ يتبع بحسب طبعه الفطرة الّتي فطر الناس عليها، و من المعلوم أنّ الفطرة الّتي هي نوع الخلقة لا تدعو إلّا إلى ما جهّزت به، و في ذلك سعادة الحياة البتّة.

نعم لو كان الأمر على ضرب من الأهمّيّة القاضية بزيادة الاهتمام به، أو خرج العبد المأمور عن حكم الفطرة و زيّ العبوديّة جاز بحكم آخر من قبل الفطرة أن يوجّه المولى أو كلّ من بيده الأمر إليه من الحكم ما هو خارج عن سعته المعتادة كأن يأمره بالاحتياط بمجرّد الشكّ، و اجتناب النسيان و الخطأ إذا اشتدّ الاهتمام بالأمر، نظير وجوب الاحتياط في الدماء و الفروج و الأموال في الشرع الإسلاميّ، أو يحمل عليه الكلفة و يزيد في التضييق عليه كلّما زاد في اللجاج و ألحّ في المسألة كما أخبر الله بنظائر ذلك في بني إسرائيل.

و كيف كان فقوله:( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً ) إمّا ذيل كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنون، و إنّما قالوه

٣١١

تقدمة لقولهم:( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا ) ، إلخ ليجري مجرى الثناء عليه تعالى و دفعاً لما يتوهّم أنّ الله سبحانه يؤاخذ بما فوق الطاقة و يكلّف بالحرجيّ من الحكم فيندفع بأنّ الله لا يكلّف نفساً إلّا وسعها و أنّ الذي سألوه بقولهم:( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا ) ، إلخ إنّما هو الأحكام بعناوين ثانويّة ناشئة من قبل الحكم أو من قبل المكلّفين بالعناد لا من قبله تعالى.

و إمّا كلام له تعالى موضوع بين فقرتين من دعائم المحكيّ في كلامه أعني قولهم:( غُفْرانَكَ رَبَّنا ) إلخ و قولهم:( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا ) ، إلخ ليفيد ما مرّ من الفائدة و يكون تأديباً و تعليماً لهم منه تعالى فيكون جارياً مجرى كلامهم لأنّهم مؤمنون بما أنزل الله، و هو منه، و على أيّ حال فهو ممّا يعتمد عليه كلامهم، و يتّكئ عليه دعاؤهم.

ثمّ ذكر بقيّة دعائهم و إن شئت فقل: طائفة اُخرى من مسائلهم:( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا ) إلخ( رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً ) إلخ( رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا ) و كأنّ مرادهم به العفو عمّا صدر منهم من النسيان و الخطأ و سائر موجبات الحرج( وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا ) في سائر ذنوبنا و خطيئاتنا و لا يلزم من ذكر المغفرة ههنا التكرار بالنظر إلى قولهم سابقاً:( غُفْرانَكَ رَبَّنا ) لأنّها كلمة حكيت عنهم لفائدة قياس حالهم و أدبهم مع ربّهم على أهل الكتاب في معاملتهم مع ربّهم و بالنسبة إلى كتابهم المنزل إليهم، على أنّ مقام الدعاء لا يمانع التكرار كسائر المقامات.

و اشتمال هذا الدعاء على أدب العبوديّة في التمسّك بذيل الربوبيّة مرّة بعد مرّة و الاعتراف بالمملوكيّة و الولاية، و الوقوف موقف الذلّة و مسكنة العبوديّة قبال ربّ العزّة ممّا لا يحتاج إلى بيان.

و في القرآن الكريم تأديبات إلهيّة و تعليمات عالية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأقسام من الثناء يثني بها على ربّه أو المسألة الّتي يسأله بها كما في قوله تعالى:( قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ ) إلى آخر الآيتين: آل عمران: ٢٦ و قوله تعالى:( قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ ) الزمر: ٤٦ و قوله تعالى:( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ سَلامٌ عَلى‏ عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) النمل: ٥٩

٣١٢

و قوله تعالى:( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ ) الخ، الأنعام: ١٦٢، و قوله تعالى:( وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) طه: ١١٤ و قوله:( وَ قُلْ ربّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ) الخ، المؤمنون: ٩٧ إلى غير ذلك من الآيات و هي كثيرة جدّاً.

و يجمعها جميعاً أنّها تشتمل على أدب بارع أدّب الله به رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ندب هو إليه اُمّته.

٧- أدبهم مع ربّهم بين الناس: رعايتهم الأدب عن ربّهم فيما حاوروا قومهم، و هذا أيضاً باب واسع و هو ملحق بالأدب في الثناء على الله سبحانه، و هو من جهة اُخرى من أبواب التبليغ العمليّ الّذي لا يقصر أو يزيد أثراً على التبليغ القوليّ.

و في القرآن من ذلك شي‏ء كثير قال تعالى في محاورة جرت بين نوح و قومه:( قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ، وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) هود: ٣٤ ينفيعليه‌السلام عن نفسه ما نسبوا إليه من إتيان الآية ليعجزوه به، و ينسبه إلى ربّه و يبالغ في الأدب بقوله:( إِنْ شاءَ ) ثمّ بقوله:( وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) أي لله، و لذلك نسبه إليه تعالى بلفظ( اللهُ ) دون لفظ( ربّي ) لأنّ الله هو الّذي ينتهي إليه كلّ جمال و جلال، و لم يكتف بنفي القدرة على إتيان الآية عن نفسه و إثباته حتّى ثنّاه بنفي نفع نصحه لهم إن لم يرد الله أن ينتفعوا به فأكمل بذلك نفي القدرة عن نفسه و إثباته لربّه، و علّل ذلك بقوله:( هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

فهذه محاورة غاصّة بالأدب الجميل في جنب الله سبحانه حاور بها نوحعليه‌السلام الطغاة من قومه محاجّاً لهم، و هو أوّل نبيّ من الأنبياءعليهم‌السلام فتح باب الاحتجاج في الدعوة إلى التوحيد، و انتهض على الوثنيّة على ما يذكره القرآن الشريف.

و هذا أوسع هذه الأبواب مسرحاً لنظر الباحث في أدب الأنبياءعليهم‌السلام يعثر على لطائف من سيرتهم المملوءة أدباً و كمالاً فإنّ جميع أقوالهم و أفعالهم و حركاتهم و سكناتهم مبنيّة على أساس المراقبة و الحضور العبوديّ، و إن كانت صورتها صورة عمل من غاب عن ربّه و غاب عنه ربّه سبحانه قال تعالى:( وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ،

٣١٣

يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ) الأنبياء: ٢٠.

و قد حكى الله تعالى في كلامه محاورات كثيرة عن هود و صالح و إبراهيم و موسى و شعيب و يوسف و سليمان و عيسى و محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و غيرهم من الأنبياءعليهم‌السلام في حالات لهم مختلفة كالشدّة و الرخاء و الحرب و السلم و الإعلان و الإسرار و التبشير و الإنذار و غير ذلك.

تدبّر في قوله تعالى:( فَرَجَعَ مُوسى‏ إِلى‏ قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ) طه: ٨٦ يذكر موسىعليه‌السلام إذ رجع إلى قومه و قد امتلأ غيظاً و حنقاً لا يصرفه ذلك عن رعاية الأدب في ذكر ربّه.

و قوله تعالى:( وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) يوسف: ٢٣ و قوله تعالى:( قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ، قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) يوسف: ٩٢ يذكر يوسف في خلإ المراودة الّذي يملك من الإنسان كلّ عقل و يبطل عنده كلّ حزم لا يشغله ذلك عن التقوى ثمّ عن رعاية الأدب في ذكر ربّه و مع غيره.

و قوله تعالى:( فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) النمل: ٤٠ و هذا سليمانعليه‌السلام و قد اُوتي من عظيم الملك و نافذ الأمر و عجيب القدرة أن أمر بإحضار عرش ملكة سبأ من سبأ إلى فلسطين فاُحضر في أقلّ من طرفة عين فلم يأخذه كبر النفس و خيلاؤها، و لم ينس ربّه و لم يمكث دون أن أثنى على ربّه في ملائه بأحسن الثناء.

و ليقس ذلك إلى ما ذكره الله من قصّة نمرود مع إبراهيمعليه‌السلام إذ قال:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ ) البقرة: ٢٥٨ و قد قال ذلك إذ أحضر رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما و إطلاق الآخر.

٣١٤

أو إلى ما ذكره فرعون مصر إذ قال كما حكاه الله:( يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ، فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ) الزخرف: ٥٣ يباهي بملك مصر و أنهاره و مقدار من الذهب كان يملكه هو و ملاؤه و لا يلبث دون أن يقول كما حكى الله:( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) و هو الّذي كانت تستذلّه آيات موسى يوماً بعد يوم من طوفان و جراد و قمّل و ضفادع و غير ذلك.

و قوله تعالى:( إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا ) التوبة: ٤٠ و قوله:( وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى‏ بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً - إلى أن قال -فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ) التحريم: ٣ فلم يهزهزهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شدّة الأمر و الهول و الفزع في يوم الخوف أن يذكر أنّ ربّه معه و لم تنجذب نفسه الشريفة إلى ما كان يهدّده من الأمر، و كذا ما أسرّ به إلى بعض أزواجه في الخلوة في اشتماله على رعاية الأدب في ذكر ربّه.

و على وتيرة هذه النماذج المنقولة تجري سائر ما وقع في قصصهمعليهم‌السلام في القرآن الكريم من الأدب الرائع و السنن الشريفة، و لو لا أنّ الكلام قد طال بنا في هذه الأبحاث لاستقصينا قصصهم و أشبعنا فيها البحث.

٨- أدب الأنبياء مع الناس: أدب الأنبياءعليهم‌السلام مع الناس في معاشرتهم و محاورتهم، مظاهر هذا القسم هي الاحتجاجات المنقولة عنهم في القرآن مع الكفّار، و المحاورات الّتي حاوروا بها المؤمنين منهم، ثمّ شي‏ء يسير من سيرتهم المنقولة.

أمّا الأدب في القول فإنّك لا تجد فيما حكي من شذرات أقوالهم مع العتاة و الجهلة أن يخاطبوهم بشي‏ء ممّا يسوؤهم أو شتم أو إهانة و إزراء و قد نال منهم المخالفون بالشتم و الطعن و الاستهزاء و السخريّة كلّ منال فلم يجيبوهم إلّا بأحسن القول و أنصح الوعظ معرضين عنهم بسلام و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً.

قال تعالى:( فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ - يعني قوم نوح -ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى‏ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ

٣١٥

نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ، قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ ) هود: ٢٨.

و قال تعالى حكاية عن عاد قوم هود:( إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَ اشْهَدُوا أَنِّي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ ) هود: ٥٥ يريدون باعتراء بعض آلهتهم إيّاه بسوء ابتلائهعليه‌السلام بمثل جنون أو سفاهة و نحو ذلك.

و قال تعالى حكاية عن آزر:( قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا، قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ) مريم: ٤٧.

و قال تعالى حكاية عن قوم شعيبعليه‌السلام :( قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ، قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ ) الأعراف: ٦٨.

و قال تعالى:( قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ، قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا - إلى أن قال -قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) الشعراء: ٢٨.

و قال تعالى حكاية عن قوم مريم:( قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا، يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا ) الخ، مريم: ٣٠.

و قال تعالى يسلّي نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رموه به من الكهانة و الجنون و الشعر:( فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ، أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ) الطور: ٣١.

و قال:( وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً، انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ) الفرقان: ٩.

٣١٦

إلى غير ذلك من أنواع الشتم و الرمي و الإهانة الّتي حكي عنهم في القرآن، و لم ينقل عن الأنبياءعليهم‌السلام أن يقابلوهم بخشونة أو بذاء بل بالقول الصواب و المنطق الحسن الليّن اتّباعاً للتعليم الإلهيّ الّذي لقّنهم خير القول و جميل الأدب قال تعالى خطاباً لموسى و هارونعليهما‌السلام :( اذْهَبا إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‏، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) طه: ٤٤ و قال لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً ) الإسراء: ٢٨.

و من أدبهم في المحاورة و الخطاب أنّهم كانوا ينزّلون أنفسهم منزلة الناس فيكلّمون كلّ طبقة من طبقاتهم على قدر منزلته من الفهم، و هذا ظاهر بالتدبّر فيما حكي من محاوراتهم الناس على اختلافهم المنقولة عن نوح فمن بعده، و قد روى الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنا معاشر الأنبياء اُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم‏) .

و ليعلم أنّ البعثة بالنبوّة إنّما بنيت على أساس الهداية إلى الحقّ و بيانه و الانتصار له فعليهم أن يتجهّزوا بالحقّ في دعوتهم، و ينخلعوا عن الباطل و يتّقوا شبكات الضلال أيّاً ما كانت سواء وافق ذلك رضى الناس أو سخطهم، و استعقب طوعهم أو كرههم و لقد ورد منه تعالى أشدّ النهي في ذلك لأنبيائه و أبلغ التحذير حتّى عن اتّباع الباطل قولاً و فعلاً بغرض نصرة الحقّ فإنّ الباطل باطل سواء وقع في طريق الحقّ أو لم يقع، و الدعوة إلى الحقّ لا يجامع تجويز الباطل و لو في طريق الحقّ و الحقّ الّذي يهدي إليه الباطل و ينتجه ليس بحقّ من جميع جهاته.

و لذلك قال تعالى:( وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) الكهف: ٥١ و قال:( وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا، إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) الإسراء: ٧٥ فلا مساهلة و لا ملابسة و لا مداهنة في حقّ و لا حرمة لباطل.

و لذلك جهّز الله سبحانه رجال دعوته و أولياء دينه و هم الأنبياءعليهم‌السلام بما يسهّل لهم الطريق إلى اتّباع الحقّ و نصرته، قال تعالى:( ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً، الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ

٣١٧

وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَ كَفى‏ بِاللهِ حَسِيباً ) الأحزاب: ٣٩ فأخبر أنّهم لا يتحرّجون فيما فرض الله لهم و يخشونه و لا يخشون أحداً غيره فليس أيّ مانع من إظهارهم الحقّ و لو بلغ بهم أيّ مبلغ و أوردهم أيّ مورد.

ثمّ وعدهم النصر فيما انتهضوا له فقال:( وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ ) الصافّات: ١٧٣ و قال:( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا ) المؤمن: ٥١.

و لذلك نجدهم فيما حكي عنهم لا يبالون شيئاً في إظهار الحقّ و قول الصدق و إن لم يرتضه الناس و استمرّوه في مذاقهم، قال تعالى حاكياً عن نوح يخاطب قومه:( وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ) هود: ٢٩ و قال عن قول هود:( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ) هود: ٥٠ و قوله لقومه:( قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ أَ تُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) الأعراف: ٧١، و قال تعالى يحكي عن لوط:( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) الأعراف: ٨١ و حكى عن إبراهيم من قوله لقومه:( أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) الأنبياء: ٦٧ و حكى عن موسى في جواب قول فرعون له:( إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى‏ مَسْحُوراً، قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ) الإسراء: ١٠٢ أي ممنوعاً من الإيمان بالحقّ مطروداً هالكاً، إلى غير ذلك من الموارد.

فهذه كلّها من رعاية الأدب في جنب الحقّ و اتّباعه، و لا مطلوب أعزّ منه و لا بغية أشرف منه و أغلى، و إن كان في بعضها ما ينافي الأدب الدائر بين الناس لابتناء حياتهم على اتّباع جانب الهوى و السلوك إلى أمتعة الحياة بمداهنة المبطلين و الخضوع و التملّق إلى المفسدين و المترفين سياسة في العمل.

و جملة الأمر أنّ الأدب كما تقدّم في أوّل هذه المباحث إنّما يتأتّى في القول السائغ و العمل الصالح، و يختلف حينئذ باختلاف مسالك الحياة في المجتمعات و الآراء و العقائد الّتي تتمكّن فيها و تتشكّل هي عنها، و الدعوة الإلهيّة الّتي تستند إليها المجتمع الدينيّ إنّما تتّبع الحقّ في الاعتقاد و العمل، و الحقّ لا يخالط الباطل و لا يمازجه و لا يستند إليه

٣١٨

و لا يعتضد به فلا محيص عن إظهاره و اتّباعه، و الأدب الّذي يتأتّى فيه أن يسلك في طريق الحقّ أحسن المسالك و يتزيّى فيه بأظرف الأزياء كاختيار لين القول إذا صحّ أن يتكلّم بلينة و خشونة، و اختيار الاستعجال في الخبر إذا أمكن فيه كلّ من المسارعة و التبطّي.

و هذا هو الّذي يأمر به في قوله تعالى:( وَ كَتَبْنا لَهُ أي لموسى فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها ) الأعراف: ١٤٥ و بشّر عباده الآخذين به في قوله:( فَبَشِّرْ عِبادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) الزمر: ١٨ فلا أدب في باطل و لا أدب في ممزوج من حقّ و باطل فإنّ الخارج من صريح الحقّ ضلال لا يرتضيه وليّ الحقّ و قد قال:( فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ ) يونس: ٣٢.

و هذا هو الّذي دعا أنبياء الحقّ إلى صراحة القول و صدق اللهجة و إن كان ذلك في بعض الموارد ممّا لا يرتضيه سنّة المداهنة و التساهل و الأدب الكاذب الدائر في المجتمعات غير الدينيّة.

و من أدبهم مع الناس في معاشرتهم و سيرتهم فيهم احترام الضعفاء و الأقوياء على حدّ سواء و الإكثار و المبالغة في حقّ أهل العلم و التقوى منهم فإنّهم لما بنوا على أساس العبوديّة و تربية النفس الإنسانيّة تفرّع عليه تسوية الحكم في الغنيّ و الفقير و الصغير و الكبير و الرجل و المرأة و المولى و العبد و الحاكم و المحكوم و الأمير و المأمور و السلطان و الرعيّة، و عند ذلك لغي تمايز الصفات، و اختصاص الأقوياء بمزايا اجتماعيّة، و بطل تقسّم الوجدان و الفقدان و الحرمان و التنعّم و السعادة و الشقاء بين صفتي الغنى و الفقر و القوّة و الضعف، و أنّ للقويّ و الغنيّ من كلّ مكانة أعلاها، و من كلّ عيشة أنعمها، و من كلّ مجاهدة أروحها و أسهلها، و من كلّ وظيفة أخفّها بل كان الناس في ذلك شرعاً سواءً، قال:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣ و تبدّل استكبار الأقوياء بقوّتهم و مباهاة الأغنياء بغنيتهم تواضعاً للحقّ و مسارعة إلى المغفرة و الرحمة، و تسابقاً في الخيرات و جهاداً في سبيل الله و ابتغاءً لمرضاته.

٣١٩

و احترم حينئذ للفقراء كما للأغنياء، و تؤدّب مع الضعفاء كما مع الأغنياء بل اختصّ هؤلاء بمزيد شفقة و رأفة و رحمة، قال تعالى يؤدّب نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) الكهف: ٢٨ و قال تعالى:( وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) الأنعام: ٥٢، و قال:( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) الحجر: ٨٩.

و يشتمل على هذا الأدب الجميل ما حكاه الله من محاورة بين نوحعليه‌السلام و قومه إذ قال:( فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى‏ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ، قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ، وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ‏ - أي في تحقيركم أمر الفقير الضعيف -وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ، وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ - أي لا أدّعي شيئاً يميّزني منكم بمزيّة إلّا أنّي رسول إليكم -وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ - أي من الخير و السعادة اللّذين يرجيان منهم -إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) هود: ٣١.

و نظيره في نفي التميّز قول شعيب لقومه على ما حكاه الله:( وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى‏ ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ ) هود: ٨٨، و قال الله تعالى يعرّف رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للناس:( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) التوبة: ١٢٨ و قال أيضاً:( وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ

٣٢٠