الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن19%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84115 / تحميل: 7581
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٦١

٦٢

٦٣

٦٤

٦٥

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه الاستعانة

نحمدك يا من أَطلع في فلك الهداية شمس النبوة ، وقمر الولاية ، ونصلي على قطب مداره وآله ، أهلّة سماء الإهتداء ، ونسلّم تسليماً كثيراً. وبعد :

فيقول أقل الخلائق محمد المشتهر بهاء الدين العاملي عامله الله بإحسانه : هذه الحديقة الثالثة والأربعون من كتابنا الموسوم بحدائق الصالحين في شرح صحيفة مولانا وإمامنا قبلة أهل الحق واليقين علي بن الحسين زين العابدين سلام الله عليه وعلى آبائه الطاهرين ، تتضمن شرح الدعاء الثالث والأربعين ، وهودعاؤهعليه‌السلام  عند الاستهلال أمليتها مع وفور الملال ، لتوزع البال ، واختلال الحال ، راجياً من الله تعالى أن يوفقني لإِكمال بقية الحدائق ، إنَّه مفيض الخير وملهم الحقائق.

وكان من دعائهعليه‌السلام  إذا نظر إلى الهلال :

سمّي هلالاً لجريان عادتهم برفع الأصوات عند رؤيته ، مأخوذ من الإهلال ، وهو رفع الصوت ، ومنه قولهم : أَهلّ المعتمر ، إذا رفع صوته بالتلبية ، واستهل الصبي إذا صاح عند الولادة.

وقد اضطربوا في تحديد الوقت الذي يسمّى فيه بهذا الاسم ، فقال في

٦٦

 « الصحاح » : الهلال أول ليلة ، والثانية والثالثة ، ثمّ هو قمر(١) .

وزاد صاحب القاموس فقال [٤ / أ] : الهلال غرة القمر ، أو إلى ليلتين ، أوإلى ثلاث ، أو إلى سبع ، ولليلتين من آخر الشهر ستّ وعشرين وسبع وعشرين ، وفي غيرذلك قمر(٢) . إنتهى.

قال الشيخ الجليل أبو علي الطبرسي(٣) نور الله مرقده ـ في تفسيره الموسوم بمجمع البيان عند قوله تعالى :( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ) (٤) ـ : اختلفوا في أنه إلى كم يسمّى هلالاً ، وإلى كم يسمى قمراً؟.

فقال بعضهم : يسمّى هلالاً لليلتين من الشهر ، ثمّ لا يسمّى هلالاً إلى ان يعود في الشهر الثاني.

و قال آخرون : يسمّى هلالاً ثلاث ليال ، ثمّ يسمّى قمراً.

و قال آخرون : يسمّى هلالاً حتى يحجّر ، وتحجيره أن يستدير بخيط دقيق ؛ وهذا قول الأصمعي(٥) .

________________________

(١) صحاح اللغة ٥ : ١٨٥١ مادة ( هلل ).

(٢) القاموس المحيط ٤ : ٧١ مادة ( هلل ).

(٣) الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي المشهدي ، أبو علي الطبرسي ، أمين الإِسلام ، عالم فاضل ، مفسر فقيه ، ثقة جليل القدر ، بيته بيت علم ومعرفة ، فولده مؤلف مكارم الأخلاق ، وسبطه صاحب المشكاة ، وهكذا سائر أقاربه. روى عن جمع منهم : أبو علي بن الشيخ الطوسي ، وعبد الجبار بن علي المقرىء. وممن عنه روى ابن شهر أشوب ، ومنتجب الدين ، والقطب الراوندي ، والدروستي. له مصنفات كثيرة منها : مجمع البيان ، جوامع الجامع ، اعلام الورى. مات سنة ٤٨ هـ = ١١٥٣ م في سبزوار ، وحمل جثمانه إلى المشهد الرضوي.

انظر : رياض العلماء ٤ : ٣٤٠ / روضات الجنات ٥ : ٣٥٧ ت٥٤٤ / الكنى والألقاب ٢ : ٤٤٤ / أعيان الشيعة ٨ : ٣٣٩٨ / تنقيح المقال ٢ : ٧ ت ٩٤٦١ / شهداء الفضيلة : ٤٥ / مجالس المؤمنين ١ : ٤٩٠ / مستدرك الوسائل ( الخاتمة ) ٣ : ٣٨٧ / معالم العلماء : ١٣٥ ت ٩٢٠ / المقابر : ١٠ / نقد الرجال : ٣٦٦.

(٤) البقرة ، مدنية ، ٢ : ١٨٩.

(٥) أبو سعيد ، عبد الملك بن قريب ـ بضم القاف ، وقيل عاصم ـ بن علي بن أصمع الباهلي

٦٧

وقال بعضهم : يسمّى هلالاً حتى يبهر ضوؤه سواد الليل ، ثم يقال قمراً ، وهذا يكون في الليلة السابعة(١). إنتهى كلامه زيد إكرامه.

ولا يخفى أن قوله ـ وهذا يكون إلى آخره ـ يخالف بظاهره(٢) قول صاحب القاموس « أو إلى سبع » ، ووجه التوفيق بينهما غيرخفّي(٣) .

قالوا : وإنّما يسمى بعد الهلال قمراً لبياضه ، فإن الأقمر هو الأبيض(٤) .

و قيل : لأنَّه يقمر الكواكب ، أي يغلبها بزيادة النور.

ويسمّى في الليلة الرابعة عشرة بدراً ، قال في الصحاح : سمّي بذلك لمبادرته الشمس في الطلوع كأنه يعجلها المغيب(٥) .

وقال بعضهم : سمي بدراً لكماله ، تشبيهاً له بالبدرة الكاملة وهي عشرة آلاف درهم(٦) .

________________________

البصري ، عالم لغوي ، راوية لشعر ألعرب ، لقب بشيطان الشعر ، يحفظ عشرة آلاف ارجوزة ، روى عن سليمان التميمي ، وأبي عمرو بن العلا ، ومسعر بن كدام ، وسلمة بن بلال ، وكثيرغيرهم ؛ وعنه حدث أبو عبيد ، ويحيى بن معين ، وإسحاق الموصلي ، وسلمة بن عاصم ، وأبوحاتم السجستاني ، وأبو العيناء ، وخلق كثير. كان قليل الرواية للحديث ، مكثر التأليف ، له : الإبل ، الأضداد ، خلق الانسان ، المترادف ، الفرق ، الشاء ، الوحوش وغيرها. مات سنة ٢١٦ هـ = ٨٣١ م.

انظر : تاريخ بغداد ١٠ : ٤١٠ ت ٥٥٧٦ / الأنساب : ٤٢ ، أ / وفيات الأعيان ٣ : ١٧٠ ت٣٧٩ / ميزان الاعتدال ٢ : ٦٦٢ ت ٥٢٤٠ / مرآة الجنان ٢ : ٦٤ / طبقات القراء ١ : ٤٧٠ ت ١٩٦٥ / تهذيب التهديب ٦ : ٣٦٨ ت ٧٧١ / بغية الوعاة ٢ : ١١٢ ت ١٥٧٣ / سيرأعلام النبلاء ١٠ : ١٧٥ت ٣٢ / أخبارأصفهان ٢ : ١٣٠.

(١) مجمع البيان ١ : ٢٨٣. وفي هامش الأصل : الإشارة إلى بهر ضوئه سواد الليل « منه » قدس سره.

(٢) إذ الظاهر خروج ما بعد ( حتى ) عمَّا قبلها ، ويؤيده أن بهر ضوئه سواد الليل يمتد ليالي كثيرة ليس هوفيها هلالاً ألبتة « منه ». هامش الأصل.

(٣) بجعل ما بعد ( حتى ) داخلاً فيما قبلها ، وإرادة البهر في الليلة الاُولى منه فقط ، أعني السابعة « منه ». قدس سره ، هامش المخطوطة.

(٤) أنظر : الصحاح ٢ : ٧٩٨ ـ ٧٩٩ ، القاموس المحيط : ٥٩٨ ، مادة ( قمر ) فيهما.

(٥) الصحاح ٢ : ٥٨٦ ، مادة ( بَدَرَ ).

(٦) أنظر : تاج العروس ٣ : ٣٤ ـ ٣٥.

٦٨

مقدمة :

لا ريب في استحباب الدعاء عند رؤية الهلال ، تأسياً بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد فعله أمير المؤمنينعليه‌السلام  ، والأئمة من ولده سلام الله عليهم(١) [٤ / ب]

و ذهب ابن أبي عقيل(٢) رحمه‌الله  إلى وجوب الدعاء عند رؤية هلال شهررمضان(٣) .

و هو قول نادر لا نعلم له فيه موافقاً ، وربما حمل قوله بالوجوب على إرادة تأكيد الاستحباب صوناً له عن مخالفة الجمهور.

والدعاء الذي أوجبه هو هذا :

« الحمد لله الذي خلقتي وخلقك ، وقدَّر منازلك ، وجعلك مواقيت للناس ؛ اللّهمّ أهلّه علينا إهلالاً مباركاً ؛ اللهم أدخله علينابالسلامة والإسلام ، واليقين والإيمان ، والبر والتقوى ، والتوفيق لما

________________________

(١) راجع : الكافي ٤ : ٧٠ ، باب ما يقال في مستقبل شهر رمضان ، الأحاديث ١ ـ ٨ / من لا يحضره الفقيه ٢ : ٦٢ باب ٢٩ ، القول عند رؤية هلال شهر رمضان ، ألأحاديث ٢٦٨ ـ ٢٧٠ / التهذيب ٤ : ١٩٦ باب ٥٠ ، الدعاء عند طلوع الهلال ، الأحاديث ٥٦٢ ـ ٥٦٤ / أمالي الصدوق : ٤٨حديث ١ / عيون أخبار الرضاعليه‌السلام  ٢ : ٧١ حديث ٣٢٩ / أمالي الشيخ الطوسي٢ : ١٠٩.

(٢) الحسن بن علي بن أبي عقيل العماني ، أبو محمد الحذاء ، فقيه متكلم ، جليل القدر ، من وجوه أصحابنا ، ثقة ، من أوائل من استعمل ألنظر ، وبحث الأصول والفروع عند ابتداء الغيبة الكبرى ، يعدّ من مشايخ جعفر بن قولويه ، يعبر عنه وابن الجنيد ، في كتب الفقه ، بالقديمين ، له : ألمتمسك بحبل آل الرسول ، والكر والفر في الإمامة. من أعيان المائة الرابعة ، ومن معاصري الشيخ الكليني ، انظر : رجال النجاشي : ٤٨ رقم ١٠٠ / الفهرس للشيخ : ٥٤ رقم ١٩٣ و ١٩٤ رقم ٨٨٦ / رياض العلماء ١ : ٢٠٣ ـ ٢٠٩ / أعيان الشيعة ٥ : ١٥٧ / أمل الآمل ٢ : ٦١ ، ٦٨ ، ٧٤ / السرائر : ٩٩ / تنقيح ألمقال ١ : ٢٩١ ، رقم ٢٥١٩ / روضات الجنّات ٢ : ٢٥٩ رقم ١٩٣ / المقابيس : ٧ / نقد الرجال : ٩٣ رقم ٩٢ ، معالم العلماء : ٣٧ رقم ٢٢٢ / الخلاصة : ٤٠رقم ٩.

(٣) حكاه عنه العلامة في المختلف : ٢٣٦.

٦٩

تحبّ وترضى ».

وكأنَّه ـ قدّس الله روحه ـ وجد الأمر بهذا الدعاء في بعض الروايات فحمله على الوجوب ، كما هو مقرر في الأُصول ، ولم يلتفت إلى تفرده بين الأصحاب رضوان الله عليهم بهذا الحكم.

وهذا كحكمه ـرحمه‌الله  ـ بعدم انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة ما لم يتغير(١) ، ولا يعرف به قائل ، من أصحابنا رضي الله عنهم ، سواه.

و حسن الظن به ـ أعلى الله قدره ـ يعطي أنه لم ينعقد في عصره إجماع على ما يخالف مذهبه في المسألتين ، أو أنَّه انعقد ولم يصل إليه ، والله أعلم بحقيقة الحال.

تتمّة :

يمتد وقت الدعاء بامتداد وقت التسمية هلالاً ، والأولى عدم تاخيره عن الاُولى ، عملاً بالمتيقن المتفق عليه لغة وعرفاً. فإن لم يتيسَّر فعن الثانية؟ لقول أكثر أهل اللغة بالامتداد إليها ؛ فإن فاتت فعن الثالثة ؛ لقول كثير منهم بانّها آخرلياليه.

و أما ما ذكره صاحب القاموس ، وشيخنا الشيخ أبو عليرحمه‌الله  ـ من إطلاق الهلال عليه إلى السابعة ـ(٢) فهو خلاف المشهور لغة وعرفاً ، وكأنَّه مجاز ، من قبيل إطلاقه عليه في الليلتين الأخيرتين ، والله أعلم.

________________________

(١) انفرد العمانيقدس‌سره بفتاوى نادرة ، أوردها الفقهاء وأغلب من ترجم له ، منها : قوله بعدم نجاسة الماء القليل بمجرد الملاقاة. ومنها : عدم نجاسة ماء البئر بمجرد الملاقاة. ومنها : جواز تفريق ألسورة من دون الحمد على ركعات السنن. وغيرها انظر : ذكرى الشيعة : ١٩٥ ، المسألة الخامسة / والمختلف : ١ ، ٤.

(٢) تقدم كلامهما في صحيفة : ٦٦.

٧٠

تبصرة :

حكم العلّامة(١) ـ أعلى الله مقامه ـ باستحباب الترائي للهلال ليلتي الثلاثين من شعبان وشهررمضان على الأعيان ، وبوجوبه فيهما على الكفاية.

واستدلَّ ـ طاب ثراه على الوجوب ـ بأن الصوم [٥ / ] واجب في أول شهررمضان ، وكذا الإفطار في العيد ، فيجب التوصل إلى معرفة وقتهما ، لأنَّ ما لايتم الواجب إلَّا به فهو واجب(٢) . هذا كلامه زيد إكرامه.

و أقول : للبحث فيه مجال ، لأنَّه إنَّما يجب صوم ما يعلم أو يظنّ أنّه من شهر رمضان ، لا ما يشك في كونه منه ، وهكذا إنما يجب إفطار ما يعلم أو يظنّ أنَّه العيد ، لا ما يشكّ في أنه هو(٣) ، كيف والأغلب في الشهر أن يكون تامّاً(٤) ، كما يشهد به التتبع؟!.

________________________

(١) الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي ، الشهير بالعلّامة ، حاله في الجلالة ، والفقاهة ، والوثاقة ، ووفور العلم في الفنون ، مشهود لها ، كفاه فخراً تلقيبه بالعلّامة ، أول من قسم الأخبار إلى أربعة اقسام. له مؤلفات منها : الخلاصة في الرجال ، منتهى ألمطلب ، تحرير الأحكام ، المختلف ، نهاية الوصول ، الألفين في الإمامة ، مختصر شرح نهج البلاغة ، القواعيد وغيرها. توفي سنة ٧٢٦ = ١٣٢٥ م ونقل جثمانه الشريف إلى النجف الأشرف ، ودفن عند المنارة اليسرى للداخل للحرم العلوي الشريف ومرقده الطاهر يزار ويتبرك به.

انظر : رجال العلامة : ٤٥ رقم ٥٢ / روضات الجنات ٢ : ٢٦٩ رقم ١٩٨ / تنقيح المقال ١ : ٣١٤رقم ٢٧٩٤ / الدرر الكامنة ٢ : ٤٩ رقم ١٥٧٨ وأيضاً ٢ : ٧١ رقم ١٦١٨ / لسان الميزان ٢ : ٣١٧رقم ١٢٩٥ / مرآة الجنان ٤ : ٢٧٦ رجال أبن داود : ٧٨ رقم ٤٦٦ / لؤلؤة البحرين : ٢١٠رقم ٨٢ / رجال بحر العلوم ٢ : ٢٥٧ / نقد الرجال : ٩٩ رقم ١٧٥ / امل الآمل : ١ / ٨١ رقم ٢٢٤ / رياض العلماء ١ : ٣٥٨ / جامع الرواة ١ : ٢٣٠ / مصفى المقال : ١٣١.

(٢) انظر : تذكرة الفقهاء ١ : ٢٦٨ في الفصل السابع من أقسام الصوم / منتهى المطلب ٢ : ٥٩٠.

(٣) وأيضاً فدليله لوتم لدل على الوجوب العيني ، فتامل ،( منه ). قدس سره ، هامش المخطرط.

(٤) وأما ما يوجد في بعض الروايات ، « من أنّ شعبان لا يتم أبداً ورمضان لا ينقص أبداً » فلم يقل به علماؤنا رضي الله عنهم ، وإنّما هو قول بعض الحشوية ، والقول به لا يجامع القول بوجوب الترائي للهلال ليلتي الثلاثين من الشهرين. فلا استحباب ،( منه ). قدس سره ، هامش الأصل.

٧١

هداية :

ا لأدعية المأثورة عند النظر إلى الهلال كثيرة ، فبعضها يعمّ كلّ الشهور ، وبعضها يختص بشهر رمضان.

فمن القسم الأول :

ما رواه الشيخ الصدوق ، عماد الإسلام ، محمد بن علي بن بابويه(١) رحمه‌الله  في كتاب من لا يحضره الفقيه ؛ ورواه أيضا شيخ الطائفة ، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي(٢) عطر الله تربته ، في كتاب تهذيب الأخبار ، ومصباح المتهجد ، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام  أنه قال : « إذا رأيت الهلال فلا تبرح ، وقل :

( اللهم إني أسألك خير هذا الشهر ، وفتحه ونوره ، ونصره ، وبركته ، وطهوره ورزقه ؛ وأسألك خير ما فيه وخير ما بعده ، وأعوذ

________________________

(١) أبو جعفر ، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ، رئيس المحدثين ، جليل القدر ، حافظ للحديث ، ثبت ، بصير بالرجال ، كفاه فخراً ولادته بدعاء الحجة عجّل الله فرجه ، نزل الري ، وورد بغداد سنة ٣٥٥ ، حدَّث بها ، وسمع منه جمع كثيرمن الفريقين ، له اكثرمن ٣٠٠ مصنفاً ، رحل إلى الأمصار لطلب الحديث ، حتى بلغ عدد شيوخه اكثر من ٢٥٠ شيخاً ، تخرجعليه جمع من أعيان الطائفة ووجوهها ، أمثال الشيخ المفيد ، والتلعكبري ، وابن القصار ، والنجاشي ، والمرتضى ، من كتبه : من لا يحضره الفقيه ، التوحيد ، كمال الدين ، الأمالي ، عيون الأخبار ، الخصال ، مات سنة ٣٨١ = ٩٩١ م.

انظر : الفهرست : ١٥٦ رقم ٦٩٥ / رجال النجاشي : ٣٨٩ رقم ١٠٤٩ / معالم العلماء : ١١١ رقم ٧٦٤ / رجال بن داود : ١٧٩ رقم ١٤٥٥ / رجال العلامة : ١٤٧ رقم / ٤٤ / روضات الجنات ٦ : ١٣٢ رقم ٥٧٤ / تنقيح المقال ٣ : ١٥٤ رقم ١١١٠٤ / أمل الآمل ٢ : ٢٨٣ / تاريخ بغداد ٣ : ٨٩ رقم ١٠٧٨ رجال بحر العلوم ٣ : ١٩٢ ، وغيرها كثير.

(٢) أبو جعفر الطوسي ، محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي ، نسبة إلى طوس خراسان ، شيخ الإمامية بلا منازع ، ووجههم ، جليل القدر ، عظيم المنزلة ، ثقة ، عين صدوق ، له اليد الطولى في الأخبار ، والرجال ، والفقه. له اكئر من ٤٠ مؤلفاً لا زالت تحتل المكانة السامية بين آلاف المؤلفات ، غرة ناصعة في جبين الدهر ، منها : كتاب الخلاف ، الأبواب في الرجال ، التهذيب ، الاستبصار ، التبيان في التفسير ، الاقتصاد وغيرها روى عن ابن الحاشر ، وابن الصلت الاهوازي ، وابن الغضائري ، وابن الجنيد ، وشيخ الأمة المفيد ، وغيرهم. أخذ عنه

٧٢

بك من شر ما فيه وشر ما بعده ؛ اللهم أدخله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام والبركة ، والتوفيق لما تحب وترضى ) » (١) .

و منه ما رواه الشيخ الصدوق أيضاً ، في كتاب عيون أخبار الرضاعليه‌السلام  ، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام  قال : « كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا رأى الهلال قال : «أيها الخلق المطيع ، الدائب السريع ، المتصرف في ملكوت الجبروت بالتقدير ، ربي وربك الله. أللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام والإحسان ، وكما بلَّغتنا أوله فبلّغنا آخره ، واجعله شهراً مباركاً ، تمحو فيه السيئات ، وتثبت لنا فيه الحسنات ، وترفع لنا فيه الدرجات ، يا عظيم الخيرات ) »(٢) .

و منه ما أورده السيد الجليل الطاهر ، ذو المناقب والمفاخر ، رضي الدين علي بن طاووس(٣) قدس الله نفسه ، ونوّر رمسه ، في كتاب الزوائد

________________________

جمع منهم ولده ، وابن شهر آشوب ، وابن البراج ، وحسكا ، وأبو الصلاح ، والطبري ، والآبي ، والطرابلسي ، توفي سنة ٤٦٠ هـ = ١٠٦٧ م ودفن بداره في النجف الأشرف.

انظر : البداية والنهاية ١٢ : ٩٧ / لسان الميزان ٥ : ١٣٥ رقم ٤٥٢ / الكامل ١٠ : ٢٤ / المنتظم ٨ : ١٧٣ / جامع الرواة ٢ : ٩٢ / مقابيس الأنوار : ٤ / معالم العلماء : ١١٤ رقم ٧٦٦ / تنقيح المقال ٣ : ١٠٤ رقم ٨٠٥٦٣ / الخلاصة : ١٤٨ رقم ٤٦ / رجال النجاشي : ٤٠٣ رقم ١٠٦٨ / الفهرست للطوسي : ١٥٩ رقم ٦٩٩.

(١) من لا يحضره الفقيه ٢ : ٦٢ حديث ٢٦٨ / التهذيب ٤ : ١٩٧ حديث ٥٦٤ / ومصباح المتهجد : ٤٨٦ وفيهما هكذا( والبركة والتقوى والتوفيق ).

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ : ٧١ حديث ٣٢٩.

(٣) رضي الدين ، علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس الحسني العلوي ، البيان والقلم أعجز من أن يذكره بشيء ، إذ جلالته وفضله ، وزهده وعبادته ، وعظم منزلته شيء لا يحاط به.كان كثير ألحفظ ، نقي الكلام ، شاعراً بليغاً ، له مصنفات كثيرة منها : فرج ألهموم ، رسالة في الإجازات ، مصباح الزائر ، فرحة ألناظر ، الطرائف ، الطرف ، غياث سلطان الورى لسكان الثرى ، وغيرها كثير ، مات سنة ٦٦٤ هـ = ١٢٦٥ م.

انظر : روضات الجنات ٤ : ٣٢٥رقم ٤٠٥ / عمدة الطالب : ٢١٩ / تنقيح المقال ٢ : ٣١٠ رقم ٨٥٢٩ / المقابيس : ١٢ / نقد الرجال : ٢٤٤ رقم ٢٤١ / جامع الرواة ٢ : ٦٠٣ / رياض العلماء ٤ : ١٦١ / لؤلؤة البحرين : ٢٣٥ رقم ٨٤ / خاتمة المستدرك ٣ : ٤٦٧ / معجم رجال الحديث

٧٣

والفوائد(١) . وهو أن يقول عند رؤيته [ ٦ / ] : «ربي وربك الله رب العالمين. اللهمَّ صلّ على محمد وآل محمد ، وأهله علينا وعلى أهل بيوتاتنا ، وأشياعنا بأمن وإيمان ، وسلامة وإسلام ، وبرّ وتقوى ، وعافية مجللة ، ورزق واسع حسن ، وفراغ من الشغل ، واكفنا بالقليل من النوم ، ووفقنا للمسارعة فيما تحب وترضى وثبتنا عليه ؛ اللهم بارك لنا في شهرناهذا ، وارزقنا بركته وخيره ، وعونه وغُنمه ، ونُوره ويُمنه ، ورحمته ومغفرته ، واصرف عنَّا شره وضره ، وبلاءه وفتنته ؛ اللهمّ ما قسمت فيه من رزق أو خير أو عافية أو فضل ، أو مغفرة أو رحمة فأجعل نصيبنا منه الاكثر ، وحظّنا فيه الأوفر » (٢) .

ومنه ما أورده أيضاً في الكتاب المذكور وهو أن يقول عند رؤيته :

« الله أكبر ـ ثلاثا ـ ربي وربك الله لا إله إلَّا هو رب العالمين ،

________________________

١٢ : ١٨٨ / الأعلام ٥ : ٢٦ / معجم المؤلفين ٧ : ٢٤٨ وغيرها.

(١) اختلفت الآراء في مؤلف الكتاب( الزوائد والفوائد ) ، وكذا في اسمه ، حيث ورد تارة : الزوائدوالفوائد ، وأخرى : زوائد الفوائد.

وأما المؤلف فقد نسبه العلامة المجلسي في البحار ١ : ١٣ ، وصاحب الروضات ٤ : ٣٣٨ ، وشيخ الذريعة ١٢ : ٥٩ ، الى رضي الدين علي بن علي بن طاووس ، اي « الابن ». واليه مال السيد المشكاة كما حكى عن مقدمته للصحيفة السجادية.

ونسبه الشيخ البهائي لرضي الدين علي بن طاووس « الأب » كما هنا وفي موضع آخر وهو واضح.

ثم إن ما نسبه صاحب الروضات الى الشيخ البهائي من نسبته الكتاب الى الابن في الحديقة الهلالية فهو كما ترى. ولا أعلم كيف استفاد ذلك من هذه العبارة الصريحة.

والحق موقوف على الحصول على نسخة كاملة للكتاب لمعرفة المؤلف إذ النسخة ألموجودة في جامعة طهران ـ على ما جاء وصفها في فهرستها للمخطوطات ١ : ١٢٧ ـ ناقصة الأول والآخر ، والكاتب امي والنسخة مغلوطة جدا ، ومع هذه الصفات لا يمكن الركون والاعتماد في النسبة عليها.

هذا كلّه اضافة إلى ما كرره في الإقبال من النقل عن كتاب الزوائد والفوائد صريحاً.

ومع اعتراف شيخ الذريعة قدس سره بذلك لا أعرف وجها لحمله كلام ابن طاووس على إرادة المعنى اللغوي الوصفي وصرفه عن ظاهره حيث يقول السيد في عمل ذي الحجة ما لفظه : [ وقد ذكرنا في كتاب الزوائد والفوائد في عمل ] تلاحظ.

(٢) الزوائد والفوائد : مخطوط ، ألإقبال : ١٨.

٧٤

ا لحمد لله الذي خلقني وخلقك ، وقدّرك منازل ، وجعلك اية للعالمين ، يباهي الله بك الملائكة ؛ الّلهم أهله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، والغبطة والسرور ، والبهجة والحبور ، وثبتنا على طاعتك ، والمسلارعة فيما يرضيك ؛ اللهم بارك لنا في شهرناهذا ، وارزقنا خيره وبركته ، ويمنه وعونه وقوته ، واصرف عناشره وبلاءه وفتنته ، برحمتك يا أرحم الراحمين » (١) .

و من القسم الثاني :

ما رواه ركن الملة ، ثقة الإسلام ، محمد بن يعقوب الكليني(٢) ـ سقى الله ضريحه صوب الرضوان ـ في كتاب الكافي ؛ ورواه آية الله العلَّآمة طاب ثراه في التذكرة ، ومنتهى المطلب ؛ عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقرعليه‌السلام  قال : « كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أهل شهررمضاناستقبل القبلة ورفع يديه فقال: ( الّلهمّ أهلّه علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام والعافية المجللة ، والرّزق الواسع ، ودفع الأسقام ؛ اللهمّ ارزقنا صيامه وقيامه وتلاوة القرآن فيه ، وسلّمه لنا ،

________________________

(١) الزوائد والفوائد : مخطوط ، الإقبال : ١٩.

(٢) أبو جعفر الرازي ، محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني ، المشهور بثقة الإسلام ، شيخ الطائفة ووجههم في الري ، القلم عاجز عن بيان فضله ، وجلالة قدره ، وورعه وعلو منزلته ، هو اشهر.

من أن يحيط به بيان ، له كتب منها الكافي اشهرها ، أحد الاصول الحديثية المعتمدة لدى الطائفة ، صنفه في عشرين سنة ، يعد من مجددي المذهب على رأس المائة الثالثة ، توفي والصيمري آخر السفراء في سنة واحدة ، وسميت بسنة تناثر النجوم.

مات ببغداد سنة ٣٢٨ = ٩٣٩ م ودفن في بقعة على يسار العابر من الرصافة.

انظر : تنقيح المقال ٣ : ٢٠١ رقم ١١٥٤٠ / رجال بحر العلوم ٣ : ٣٢٥ / رجال الشيخ : ٤٩٥ رقم ٢٧ / الفهرست : ١٣٥ رقم ٥٩١ / رجال النجاشي : ٣٧٧ / ١٠٢٦ / فلك النجاة : ٣٣٧ / جامع الأصول ١١ : ٣٢٣ / روضات الجنات ٦ : ١٠٨ رقم ٨ / تاج العروس ٩ : مادة كلين / عوائد الأيام : ٢٩٧ / الكامل ٦ : ٢٧٤ / لسان الميزان ٥ : ٤٣٣ رقم ١٤١٩ / وانظر مقدمة الكافي بقلم البحاثة الأستاذ حسين محفوظ في طبعة ١٣٨٨ لدار الكتب الاسلامية.

٧٥

وتسلّمه منّا ، وسلّمنا فيه ) (١) .

و منه ما أورده الشيخ الصدوق طاب ثراه في كتاب من لا يحضره الفقيه أيضاً ، نقلا عن أبيهرضي‌الله‌عنه في الرسالة ـ وذكر السيد الجليل الطاهر المشار إليه [٧ / ] أنّه مروي عن الصادقعليه‌السلام  ـ قال : إذا رأيت هلال شهر رمضان فلا تشر إليه ، ولكن استقبل القبلة وارفع يديك إلى الله عزّ وجلّ وخاطب الهلال ، وقل :« ربي وربك الله رب العالمين ؛ اللّهمّ أهلّه علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، والمسارعة إلى ما تحب وترضى ؛اللّهمَّ بارك لنا في شهرنا هذا ، وارزقنا عونه وخيره ، واصرف عنّاضرّه وشرّه ، وبلاءه وفتنته » (٢) .

تنبيه :

يستفاد من هذه الروايات بعض الآداب التي ينبغي مراعاتها حال قراءة الدعاء عند رؤية الهلال :

فمنها : أن تكون قراءة الدعاء قبل الانتقال من المكان الذي رأى فيه الهلال ، كما تضمنته الرواية الأول ، فإن قولهعليه‌السلام  « لا تبرح » أي لا تَزُل عن مكانك الذي رأيته فيه(٣) .

و منها : استقبال القبلة حال الدعاء ، كما تضمنه الحديث المروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أنَّه كان يفعل ذلك(٤) .

و منها : رفع اليدين إلى الله عزَّ وجلَّ وقت قراءة الدعاء ، كما تضمنه الحديثان الأخيران(٥) .

________________________

(١) الكافي ٤ : ٧٠ حديث ١ / تذكرة الفقهاء ١ : ٢٦٨ / منتهى المطلب ٢ : ٥٩٠ وفي المصادر هكذا ( اللهم سلمه لنا ) / الفقيه ٢ : ٦٢ حديث ٢٦٩.

(٢) الفقيه ٢ : ٦٢ ذيل الحديث ٢٦٩ ، والاقبال : ١٨.

(٣) انظرصحيفة ٧١ ، وهي ما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام .

(٤) انظر صحيفة ٧٤ ، وهي رواية الامام الباقرعليه‌السلام .

(٥) انظر صحيفة ٧٤ ، ٧٥ وهما روايتا الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام .

٧٦

ولا خصوصية لهذين الأمرين بهلال شهر رمضان ، وإن تضمن الخبران انّ فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك كان في هلاله ، وكذلك أمر الصادقعليه‌السلام  بذلك ، بل لا خصوصية لهما بدعاء الهلال ، فانهما يعمّان كلدعاء [ ٨ / ].

و منها : أن لا يشير إلى الهلال بيده ولا برأسه ، ولا بشيء من جوارحه ، كما تضمنته الرواية الأخيرة(١) ، ولعلّ هذا أيضا غيرمختص بهلال شهر رمضان.

و منها : أن يخاطب الهلال بالدعاء ، ولعل المراد خطابه بما يتعلق به من الألفاظ ، نحو « ربي وربك الله رب العالمين » وكأوَّل الدعاء الذي أوجبه ابن أبي عقيلرحمه‌الله  (٢) ، وكاكثر ألفاظ هذا الدعاء الذي نحن بصدد شرحه.

و قد يُظنّ التنافي بين مخاطبة الهلال واستقبال القبلة في البلاد التي قبلتها على سمت المشرق.

وليس بشيء ، لأنَّ الخطاب ليس إلَّا توجيه الكلام نحو الغير للإفهام ، وهو لا يستلزم مواجهة المخاطب واستقباله ، إذ قد يخاطب الإنسان من هو وراءه.

ويمكن أن يقال : استقبال الداعي الهلال وقت قراءة ما يتعلق بمخاطبته من فصول الدعاء ، واستقبال القبلة في الفصول الاُخر.

وأما رفع اليدين فالظاهر أنَّه في جميع الفصول ، وإن كان تخصيصه بما عدا الفصول المخاطب بها الهلال غير بعيد ، والله أعلم.

تذكرة فيها تبصرة :

قد عرفت أنَّه يمتد وقت الدعاء بامتداد وقت التسمية هلالاً ، ولو قيل بامتداد ذلك إلى ثلاث ليال لم يكن بعيدا ، فلو نذر قراءة دعاء الهلال عند

________________________

(١) انظر صحيفة ٧٥. وهي رواية الإمام الصادقعليه‌السلام .

(٢) انظر صحيفة ٦٨ ، و ٧٣.

٧٧

رؤيته ، وقلنا بالمجازية فيما فوق الثلاث [٩ / أ] ، لم تجب عليه القراءة برؤيته فيما فوقها ، حملاً للمطلق على الحقيقة ؛ وهل تشرع؟ ألظاهر نعم إن رآه في تتمة السبع ، رعاية لجانب الاحتياط ، أما فيما فوقها فلا ، لأنه تشريع.

و لو رآه يوم الثلاثين فلا وجوب على الظاهر لعدم تسميته حينئذٍ هلالاً.

و ما في حسنة حماد بن عثمان(١) ـ عن الصادقعليه‌السلام  من إطلاق إسالهلال عليه قبل الغروب(٢) ـ لعله مجاز ، إذ الأصل عدم النقل.

ولو لم يره حتى مضت الثلاث فاتفق وصوله إلى بقعة شرقية هو فيها هلال فرآه هناك لم يبعد القود بوجوبه عليه حينئذٍ ، كما لا يبعد القول بوجوب الصوم على من رأى هلال شهر رمضان فصام ثلاثين ثم سافر إلى بلد مضى فيه من شهررمضان تسعة وعشرون ولم يُر فيه الهلال ليلة الثلاثين ، وهو مختار العلامة طاب ثراه في القواعد(٣) .

وقد استدلَّ عليه ـ ولده فخر المحققين(٤) رحمه‌الله  في الإيضاح بأنَّ

________________________

(١) حمَّاد بن عثمان بن زياد الرواسي ، الملقب بالناب ، من أصحاب الأئمة الصادق والكاظم والرضا: ، من الثقات الأجلاء ، وهكذا اخوته ، فهم من بيت فضل وعلم من خيار الشيعة ، وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، وأقرّوا له بالفقه ، لم يختلف في توثيقه اثنان ، روى عنه ابن أبي عمير ، والوشّاء ، والحسن بن علي بن فضال ، وفضالة ، وغيرهم مات سنة ١٩٠ هـ =٨٠٥ م.

راجع : تنقيح المقال ١ : ٣٦٥ رقم ٣٣١٣ / رجال الشيخ : ١٧٣ رقم ١٣٩ و ٣٤٦ رقم ٢ و ٣٧١رقم ١ / الفهرست : ٦٠ رقم ٢٣٠ / الخلاصة : ٥٦ رقم ٣ / جامع الرواة ١ : ٢٧١ / مجمع الرجال ٢ : ٢٢٧.

(٢) التهذيب ٤ : ١٧٦ حديث ٤٨٨ / والاستبصار ٢ : ٧٣ حديث ٢٢٥ ألكافي ٤ : ٧٨ حديث ١٠. والغروب اشارة الى آخر الشهر.

(٣) قواعد الأحكام : ٦٩ ـ ٧٠.

(٤) أبو طالب ، محمد بن الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي ، فخر المحققين وجه وجوه الطائفة ، جليل القدر ، عظيم المنزلة ، رفيع الشأن ، جيد التصنيف لما امتاز به من وفور العلم والفقاهة ، وطول الباع في كثير من ألعلوم ، أوصى اليه والده العلامة في آخر القواعد ـ الذي صنفه له ولمَّا يبلغ العاشرة ـ باتمام ما بقي ناقصاً من كتبه ، بلغ رتبة الاجتهاد في العاشرة من عمره ، له مصنفات

٧٨

الاعتبار في الأهلَّة بالموضع الذي فيه الشخص ألآن لا بموضع كان يسكنه ، وإلاَّ لوجب على الغائب عن بلده الصوم برؤية الهلال في بلده ، وهو باطل إجماعاً(١) ، هذا ملخص كلامه.

و أقول : فيه بحث ، فإنَّ من اعتبر موضعاً كان يسكنه لم يعتبره من حيث سبق سكناه فيه ، بل من حيث رؤيته الهلال فيه سابقأ ، فكلّفه العمل بمقتضى تلك الرؤية ، فمن أين يلزمه وجوب الصوم على الغائب عن بلده برؤية غيره الهلال فيه؟! فتأمل.

بسط كلام لإبراز مرام :

تحقق أمثال هذه المسائل المبنية على تخالف الآفاق في تقدم طلوع الأهلّة وتأخرها ظاهر ، بناء على ما ثبت من كروية الأرض ، والذين أنكروا كرويتها فقدأنكروا تحققها ، ولم نطلع لهم على شبهة في ذلك فضلا عن دليل.

و الدلائل الآتية المذكورة في المجسطي(٢) ـ وغيره ـ شاهدة بكرويتها ، وان كانت شهادة الدليل الّلمِّي المذكور في الطبيعي مجروحة [٩ / ب].

و قد يتوهم أن القول بكرويّتها خلاف ما عليه أهل الشرع ، وربّما استند ببعض الآيات الكريمة كقوله تعالى :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ

________________________

منها : ايضاح الفوائد ، شرح خطبة القواعد ، الفخرية في النية ، حاشية الارشاد ، الكافية في الكلام ، مات سنة ٧٧١ هـ = ١٣٦٩.

انظر : هدية الأحباب : ٢٨٨ / روضات الجنات ٦ : ٣٣٠ رقم ٥٩١ / جامع الرواة ٢ : ٩٦ تنقيح المقال ٣ : ١٠٦ رقم ١٠٥٨١ / الفوائد الرضوية : ٤٨٦ / خاتمة المستدرك ٣ : ٤٥٩ نقد الرجال : ٣٠٢ رقم ٢٥٣ أمل الآمل ٢ : ٢٦٠ رقم ٧٦٨ / أعيان الشيعة ٩ : ١٥٩.

(١) إيضاح الفوائد ١ : ٢٥٢.

(٢) المجسطي ـ بكسر الميم والطاء وفتح الجيم وتخفيف الياء ـ كلمة يونانية ، اصلها ماجستوس ، اسم لأهم بل لأشرف ما صنّف في عالم الهندسة الفلكية بأدلتها التفصيلية ، وكل من جاء بعد كان عيالاً عليه من دون استثناء ، مؤلفه الحكيم بطليموس الفلوزي ، عُرِّب قديماً بواسطة جمع ، ونقح أيضا وشرح. للتفصيل راجع كشف الظنون ٢ : ١٥٩٤ / ولغة نامه دهخدا ٤١ : ٤٥٥ / وفرهنك جامع فارسي( آنندراج ) ٦ : ٣٨٥٤.

٧٩

فِرَاشاً ) (١) ، وقوله سبحانه :( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) (٢) وقوله جلَّ شأنه :( وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) (٣) ، وأمثال ذلك ، ولا دلالة في شيء منها على ما ينافي الكروية.

قال في الكشّاف عند تفسير الاية الاُولى ، فإن قلت : هل فيه دليل على أنّ الأرض مسَّطحة وليست بكرّية؟.

قلت : ليس فيه إلَّا أنَّ الناس يفتر شونها كما يفعلون بالمفارش ، وسواءكانت على شكل السطح أو شكل الكرة فالافتراش غير مستنكر ولا مدفوع؛ لعظم حجمها ، واتساع جرمها ، وتباعد أطرافها. وإذا كان متسهّلاً في الجبل وهو وتد من أوتاد الأرض ، فهو في الأرض ذات الطول والعرض أسهل(٤) . إنتهى كلامه.

و قال(٥) في التفسير الكبير : من الناس من يزعم أنَّ الشرط في كون الأرض فراشاً أن لا تكون كرة ، فاستدلَّ بهذه الاية على أن الأرض ليست كرة ، وهذا بعيد جدا ، لأنَّ الكرة إذا عظمت جداً كان كل قطعة منها كالسطح(٦) ، انتهى.

و كيف يتوهم متوهم أن القول بكروية الأرض خلاف ما عليه أهل الشرع!! وقد ذهب إليه كثيرمن علماء الإسلام ، وممن قال به صريحاً من فقهائنا ـ رضوان الله عليهم ـ العلّامة آية الله ، وولده فخر المحققين قدس سرهما.

________________________

(١) البقرة ، مدنية ، ٢ : ٢٢.

(٢) النبأ ، مكية ، ٧٨ : ٦.

(٣) الغاشية ، مكية ، ٨٨ : ٢٠

(٤) تفسير الكشاف ١ : ٩٤

(٥) أبوعبدالله محمد بن عمر بن الحسين الطبرستاني الرازي ، ابن الخطيب الشافعي الأشعري. العالم الاُصولي المتكلّم المشارك في العلوم. أخذ عن والده والكمال السمناني والجيلي. له التفسير ، المباحثالمشرقية ، الملخّص ، المحصّل. توفي سنة ٦٠٦ هـ = ١٢٠٩ م بهراة.

له ترجمة في : تاريخ الحكماء : ١ ٢٩ / وفيات الأعيان ٤ : ٢٤٨ ت / طبقات السبكي ٥ : ٢٣ / وانظرسيرأعلام النبلاء ٢١ : ٥٠٠ ت ٢٦١ ومصادره.

(٦) التفسير الكبير للفخر الرازي ٢ : ١٠٤.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

و قد ذكر تعالى صريح عفوه عن هؤلاء، و إجابته إلى مسألته موسىعليه‌السلام بإعادة الحياة إليهم و قد اُهلكوا و ردّهم إلى الدنيا بقوله:( وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى‏ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) البقرة: ٥٦ و يقرب من ذلك ما في سورة النساء.

و قد استعملعليه‌السلام من الأدب في كلامه حيث قال:( تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ ) لم يذكر أنّ ذلك من سوء اختيار هؤلاء الضالّين لينزّهه تعالى لفظاً كما كان ينزّهه قلباً فيكون على حدّ قوله تعالى:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦ لأنّ المقام كان يصرفه عن التعرّض إلّا لكونه تعالى وليّاً على الإطلاق ينتهي إليه كلّ التدبير لا غير.

و لم يورد في الذكر أيضاً عمدة ما في نفسه من المسألة و هو أن يحييهم الله سبحانه بعد الإهلاك لأنّ الموقف على ما كان فيه من هول و خطر كان يصرفه عن الاسترسال، و إنّما أشار إليه إشارة بقوله:( رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ ) ، إلخ.

و من دعائهعليه‌السلام ما دعا به حين رجع إلى قومه من الميقات فوجدهم قد عبدوا العجل من بعده، و قد كان الله سبحانه أخبره بذلك قال تعالى( وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) الأعراف: ١٥٠ فعند ذلك رقّ له و دعا له و لنفسه ليمتازا بذلك من القوم الظالمين:( قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) الأعراف: ١٥١.

و لم يكن يريد التميّز منهم و أن يدخلهما الله في رحمته إلّا لما كان يعلم أنّ الغضب الإلهيّ سينال القوم بظلمهم كما ذكره الله بقوله بعد ذلك:( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) الأعراف: ١٥٢ و يعرف بما تقدّم وجوه من الأدب في كلامه.

و من دعائهعليه‌السلام - و هو في معنى الدعاء على قومه إذ قالوا له حين أمرهم بدخول الأرض المقدّسة:( يا مُوسى‏ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا ههُنا

٣٠١

قاعِدُونَ ) المائدة: ٢٤ - ما حكاه الله تعالى بقوله:( قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) المائدة: ٢٥.

و قد أخذعليه‌السلام بالأدب الجميل حيث كنّى عن الإمساك عن أمرهم و تبليغهم أمر ربّهم ثانياً بعد ما جبّهوا أمره الأوّل بأقبح الردّ و أشنع القول بقوله:( رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي ) أي لا يطيعني فيما أمرته إلّا نفسي و أخي أي إنّهم ردّوا عليّ بما لا مطمع فيهم بعده، فها أنا أكفّ عن أمرهم بأمرك و إرشادهم إلى ما فيه صلاح جماعتهم.

و إنّما نسب ملك نفسه و أخيه إلى نفسه لأنّ مراده من الملك بقرينة المقام ملك الطاعة و لو كان هو الملك التكوينيّ لم ينسبه إلى نفسه إلّا مع بيان أنّ حقيقته لله سبحانه، و إنّما له من الملك ما ملّكه الله إيّاه، و لما عرض لربّه من نفسه الإمساك و اليأس عن إجابتهم إليه أحال الحكم في ذلك فقال:( فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) .

و من ذلك ما دعا به شعيبعليه‌السلام على قومه إذ قال:( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ ) الأعراف: ٨٩.

و هذا استنجاز منه للوعد الإلهيّ بعد ما يئس من نجاح دعوته فيهم، و مسألة للقضاء بينه و بينهم بالحقّ على ما قاله الله تعالى:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) يونس: ٤٨.

و إنّما قال:( بَيْنَنا ) لأنّه ضمّ المؤمنين به إلى نفسه، و قد كان الكافرون من قومه هدّدوا إيّاه و المؤمنين به جميعاً إذ قالوا:( لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) الأعراف: ٨٨ فضمّهم إلى نفسه و هاجر قومه في عملهم و سار بهم إلى ربّه و قال:( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا ) ، إلخ.

و قد استمسك في دعائه باسمه الكريم:( خَيْرُ الْفاتِحِينَ ) لما مرّ أنّ التمسّك بالصفة المناسبة لمتن الدعاء تأييد بالغ بمنزلة الإقسام، و هذا بخلاف قول موسىعليه‌السلام :( رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) المنقول آنفاً لما تقدّم أنّ لفظهعليه‌السلام ليس بدعاء حقيقة بل هو كناية عن الإمساك عن الدعوة و إرجاع للأمر إلى الله فلا مقتضى للإقسام بخلاف قول شعيب.

٣٠٢

و من ذلك ما حكاه الله من ثناء داود و سليمانعليهما‌السلام قال تعالى:( وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى‏ كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) النمل: ١٥.

وجه الأدب في حمدهما و شكرهما و نسبة ما عندهما من فضيلة العلم إلى الله سبحانه ظاهر، فلم يقولا مثل ما حكى عن غيرهما كقول قارون لقومه إذ وعظوه أن لا يستكبر في الأرض بماله:( إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ عِنْدِي ) القصص: ٧٨ و كما حكى الله عن قوم آخرين:( فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) المؤمن: ٨٣.

و لا ضير في الحمد على تفضيل الله إيّاهما على كثير من المؤمنين فإنّه من ذكر خصوص النعمة و بيان الواقع، و ليس ذلك من التكبّر على عباد الله حتّى يلحق به ذمّ، و قد ذكر الله عن طائفة من المؤمنين سؤال التفضيل و مدحهم على علوّ طبعهم و سموّ همّتهم حيث قال:( وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا - إلى أن قال -وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً ) الفرقان: ٧٤.

و من ذلك ما حكاه عن سليمانعليه‌السلام في قصّة النملة بقوله:( حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى‏ وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ، فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى‏ والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ ) النمل: ١٩.

ذكّرته النملة بما قالته ما له من الملك العظيم الّذي شيّدت أركانه بتسخير الريح تجري بأمره، و الجنّ يعملون له ما يشاء و العلم بمنطق الطير و غيره غير أنّ هذا الملك لم يقع في ذكرهعليه‌السلام في صورة أجلى اُمنيّة يبلغها الإنسان كما فينا و لم ينسه عبوديّته و مسكنته بل إنّما وقع في نفسه في صورة نعمة أنعمها عليه ربّه فذكر ربّه و نعمته أنعمها عليه و على والديه بما خصّهم به، و هو من مثلهعليه‌السلام و الحال هذا الحال أفضل الأدب مع ربّه.

و قد ذكر نعمة ربّه، و هي و إن كانت كثيرة في حقّه غير أنّ مورد نظرهعليه‌السلام - و المقام ذاك المقام - هو الملك العظيم و السلطة القاهرة، و لذلك ذكر العمل الصالح و سأل

٣٠٣

ربّه أن يوزعه ليعمل صالحاً لأنّ العمل الصالح و السيرة الحسنة هو المطلوب ممّن استوى على عرش الملك.

فلذلك كلّه سأل ربّه أوّلاً أن يوزعه على شكر نعمته، و ثانياً أن يعمل صالحاً، و لم يرض بسؤال العمل الصالح دون أن قيّده بقوله:( تَرْضاهُ ) فإنّه عبد لا شغل له بغير ربّه و لا يريد الصالح من العمل إلّا لأنّ ربّه يرضاه، ثمّ تمّم مسألة التوفيق لصلاح العمل بمسألة صلاح الذات فقال:( وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ ) .

و من ذلك ما حكاه الله عن يونسعليه‌السلام و قد دعا به و هو في بطن الحوت الّذي التقمه قال تعالى:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى‏ فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) الأنبياء: ٨٧.

كانعليه‌السلام على ما يقصّه القرآن - قد سأل ربّه أن ينزل على قومه العذاب فأجابه إلى ذلك فأخبرهم به فلمّا أشرف عليهم العذاب بالنزول تابوا إلى ربّهم فرفع عنهم العذاب، و لما شاهد يونس ذلك ترك قومه، و ذهب لوجهه حتّى ركب السفينة فاعترضها حوت فساهمهم في أن يدفعوا الحوت بإلقاء رجل منهم إليه ليلتقمه و ينصرف عن الباقين، فخرجت القرعة باسمه فاُلقي في البحر فالتقمه الحوت فكان يسبّح الله في بطنه إلى أن أمره الله أن يلقيه إلى ساحل البحر، و لم يكن ذلك إلّا تأديباً إلهيّاً يؤدّب به أنبياءه على حسب ما يقتضيه مختلف أحوالهم، و قد قال تعالى:( فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) الصافّات: ١٤٤ فكان حاله في تركه العود إلى قومه و ذهابه لوجهه يمثّل حال عبد أنكر على ربّه بعض عمله فغضب عليه فأبق منه و ترك خدمته و ما هو وظيفة عبوديّته فلم يرتض الله له ذلك فأدّبه فابتلاه و قبض عليه في سجن لا يقدر فيه أن يتوسّع قدر أنملة في ظلمات بعضها فوق بعض فنادى في الظلمات أن لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين.

و لم يكن ذلك كلّه إلّا لأن يتمثّل له على خلاف ما كان يمثّله حاله أنّ الله سبحانه قادر على أن يقبض عليه و يحبسه حيث شاء، و أن يصنع به ما شاء فلا مهرب من الله سبحانه إلّا إليه، و لذلك لقّنه الحال الّذي تمثّل له و هو في سجنه من بطن الحوت

٣٠٤

أن يقرّ لله بأنّه هو المعبود الّذي لا معبود غيره، و لا مهرب عن عبوديّته فقال:( لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ ) و لم يناده تعالى بالربوبيّة، و هذا أوحد دعاء من أدعية الأنبياءعليهم‌السلام لم يصدّر باسم الربّ.

ثمّ ذكر ما جرى عليه الحال من تركه قومه إثر عدم إهلاكه تعالى إيّاهم بما أنزل عليهم من العذاب فأثبت الظلم لنفسه و نزّه الله سبحانه عن كلّ ما فيه شائبة الظلم و النقص فقال:( سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) .

و لم يذكر مسألته - و هي الرجوع إلى مقامه العبوديّ السابق - عدّاً لنفسه دون لياقة الاستعطاء و استحقاق العطاء استغراقاً في الحياء و الخجل، و الدليل على مسألته قوله تعالى بعد الآية السابقة:( فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ ) الأنبياء: ٨٨.

و الدليل على أنّ مسألته كانت هي الرجوع إلى سابق مقامه قوله تعالى:( فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ، وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، وَ أَرْسَلْناهُ إِلى‏ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى‏ حِينٍ ) الصافّات: ١٤٨.

و من ذلك ما ذكره الله تعالى عن أيوبعليه‌السلام بعد ما أزمنه المرض و هلك عنه ماله و ولده حيث قال:( وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى‏ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) الأنبياء: ٨٣.

وجوه التأدّب فيه ظاهرة ممّا تقدّم بيانه، و لم يذكرعليه‌السلام حاجته صريحاً على حدّ ما تقدّم من أدعية آدم و نوح و موسى و يونسعليهم‌السلام هضماً لنفسه و استحقاراً لأمره، و أدعية الأنبياء كما تقدّم و يأتي خالية عن التصريح بالحاجة إذا كان ممّا يرجع إلى اُمور الدنيا و إن كانوا لا يريدون شيئاً من ذلك اتّباعاً لهوى أنفسهم.

و بوجه آخر ذكره السبب الباعث إلى المسألة كمسّ الضرّ و الصفة الموجودة في المسؤل المطمعة للسائل في المسألة ككونه تعالى أرحم الراحمين، و السكوت عن ذكر نفس الحاجة، أبلغ كناية عن أنّ الحاجة لا تحتاج إلى ذكر فإنّ ذكرها يوهم أنّ الأسباب المذكورة ليست بكافية في إثارة رحمة من هو أرحم الراحمين بل يحتاج إلى تأييد بالذكر و تفهيم باللفظ.

٣٠٥

و من ذلك ما حكاه عن زكريّاعليه‌السلام : حيث قال:( ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا، إِذْ نادى‏ رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا، قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) مريم: ٦.

إنّما حثّه على هذا الدعاء و رغّبه في أن يستوهب ولداً من ربّه ما شاهده من أمر مريم ابنة عمران في زهدها و عبادتها، و ما أكرمها الله سبحانه به من أدب العبوديّة، و خصّها به من كرامة الرزق من عنده على ما يقصّه الله تعالى في سورة آل عمران قال تعالى:( وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ ) آل عمران: ٣٨.

فغشيه شوق شديد إلى ولد طيّب صالح يرثه و يعبد ربّه عبادة مرضيّة كما ورثت مريم عمران و بلغت جهدها في عبادة ربّها و نالت منه الكرامة غير أنّه وجد نفسه و قد نال منه الشيب، و انهدّت منه القوى، و كذلك امرأته و قد كانت عاقرة في سني ولادتها فأدركته من حسرة الحرمان من نعمة الولد الطيّب الرضيّ ما الله أعلم به، لكن لم يملك نفسه ممّا هاج فيه من الغيرة الإلهيّة و الاعتزاز بربّه دون أن رجع إلى ربّه و ذكر له ما يثور به الرحمة و الحنان من حاله أنّه لم يزل عالقاً على باب العبوديّة و المسألة منذ حداثة سنّه حتّى وهن عظمه و اشتعل رأسه شيباً، و لم يكن بدعائه شقيّاً، و قد وجده سبحانه سميع الدعاء فليسمع دعاءه و ليهب له وارثاً رضيّاً.

و الدليل على ما ذكرنا أنّه إنّما سأل ما سأل بما ملك نفسه من هيجان الوجد و الحزن ما حكاه الله تعالى عنه بعد ما أوحي إليه بالاستجابة بقوله:( قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا، قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً ) مريم: ٩ فإنّه ظاهر في أنّهعليه‌السلام لما سمع الاستجابة صحا عن حاله و أخذ يتعجّب من غرابة المسألة و الإجابة حتّى سأل ربّه عن ذلك في صورة الاستبعاد و سأل لنفسه عليه آية فاُجيب إليها أيضاً.

٣٠٦

و كيف كان فالّذي استعملهعليه‌السلام في دعائه من الأدب هو ما ساقه إليه حال الوجد و الحزن الّذي ملكه، و لذلك قدّم على دعائه بيان ما بلغ به الحال في سبيل ربّه فقد صرف دهره في سلوك سبيل الإنابة و المسألة حتّى وقف موقفاً يرقّ له قلب كلّ ناظر رحيم ثمّ سأل الولد و علّله بأنّ ربّه سميع الدعاء.

فهذا معنى ما ذكره مقدّمة لمسألته لا أنّه كان يمتنّ بطول عبوديّته على ربّه - حاشا مقام النبوّة - فمعنى قوله على ما في سورة آل عمران:( رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ ) أنّي أسألك ما أسألك لا لأنّ لطول عبوديّتي - و هو دعاؤه المديد - قدراً عندك أو فيه منّة عليك بل لأنّي أسألك، و قد وجدتك سميعاً لدعاء عبادك و مجيباً لدعوة السائلين المضطرّين، و قد اضطرّني خوف الموالي من ورائي، و الحثّ الشديد لذرّيّة طيّبة يعبدك أن أسألك.

و قد تقدّم أنّ من الأدب الّذي استعمله في دعائه أن ألحق تخوّف الموالي قوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) و الرضيّ و إن كان طبعه يدلّ بهيئته على ثبوت الرضا لموصوفه، و الرضا يشمل بإطلاقه رضى الله و رضى زكريّا و رضى يحيى لكنّ قوله في آية آل عمران:( ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) يدلّ على أنّ المراد بكونه رضيّاً كونه مرضيّاً عند زكريّا لأنّ الذرّيّة إنّما تكون طيّبة لصاحبها لا غير.

و من ذلك ما حكاه الله سبحانه عن المسيح حين سأل المائدة بقوله:( قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) المائدة: ١١٤.

القصّة المذكورة في كلامه تعالى في سؤال الحواريّين عيسىعليه‌السلام نزول مائدة من السماء عليهم تدلّ بسياقه أنّ هذه المسألة كانت من الأسئلة الشاقّة على عيسىعليه‌السلام لأنّ ما حكي عنهم من قولهم له:( يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ) كان أوّلاً مشتملاً بظاهره على الاستفهام عن قدرة الله سبحانه، و لا يوافق ذلك أدب العبوديّة و إن كان حاقّ مرادهم السؤال عن المصلحة دون أصل القدرة فإنّ حزازة اللفظ على حالها.

٣٠٧

و كان ثانياً متضمّناً لاقتراح آية جديدة مع أنّ آياتهعليه‌السلام الباهرة كانت قد أحاطت بهم من كلّ جهة فكانت نفسه الشريفة آية، و تكلّمه في المهد آية، و إحياؤه الموتى و خلقه الطير و إبراؤه الأكمه و الأبرص و إخباره عن المغيّبات و علمه بالتوراة و الإنجيل و الكتاب و الحكمة آيات إلهيّة لا تدع لشاكّ شكّاً و لا لمرتاب ريباً فاختيارهم آية لأنفسهم و سؤالهم إيّاه كان بظاهره كالعبث بآيات الله و اللعب بجانبه، و لذلك وبّخهم بقوله:( اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

لكنّهم أصرّوا على ذلك و وجّهوا مسألتهم بقولهم:( نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ ) و ألجاوه إلى السؤال فسأل.

أصلحعليه‌السلام بأدبه الموهوب من جانب الله سبحانه ما اقترحوه من السؤال بما يصلح به أن يقدّم إلى حضرة العزّة و الكبرياء فعنونه أوّلاً بعنوان أن يكون عيداً لهم يختصّون هو و اُمتّه به فإنّها آية اقتراحيّة عديمة النظير بين آيات الأنبياءعليهم‌السلام حيث كانت آياتهم إنّما تنزل لإتمام الحجّة أو لحاجة الاُمّة إلى نزولها، و هذه الآية لم تكن على شي‏ء من هاتين الصفتين.

ثمّ أجمل ثانياً ما فصّله الحواريّون من فوائد نزولها من اطمئنان قلوبهم بها و علمهم بصدقهعليه‌السلام و شهادتهم عليها، في قوله:( وَ آيَةً مِنْكَ ) .

ثمّ ذكر ثالثاً ما ذكروه من عرض الأكل و أخّره و إن كانوا قدّموه في قولهم:( نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها ) ، إلخ و ألبسه لباساً آخر أوفق بأدب الحضور فقال:( وَ ارْزُقْنا ) ثمّ ذيله بقوله:( وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ليكون تأييداً للسؤال بوجه، و ثناءً له تعالى من وجه آخر.

و قد صدّر مسألته بندائه تعالى:( اللهُمَّ رَبَّنا ) فزاد على ما يوجد في سائر أدعية الأنبياءعليهم‌السلام من قولهم( ربّ ) أو( ربّنا ) لأنّ الموقف صعب كما تقدّم بيانه.

و منه مشافهتهعليه‌السلام ربّه المحكيّة بقوله تعالى:( وَ إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ

٣٠٨

أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) المائدة: ١١٨.

تأدّبعليه‌السلام في كلامه أوّلاً بأن صدّره بتنزيهه تعالى عمّا لا يليق بقدس ساحته كما جرى عليه كلامه تعالى قال:( وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ ) الأنبياء: ٢٦.

و ثانياً بأن أخذ نفسه أدون و أخفض من أن يتوهّم في حقّه أن يقول مثل هذا القول حتّى يحتاج إلى أن ينفيه، و لذلك لم يقل من أوّل مقالته إلى آخرها:( ما قلت) أو( ما فعلت) و إنّما نفى ذلك مرّة بعد مرّة على طريق الكناية و تحت الستر فقال:( ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ) فنفاه بنفي سببه أي لم يكن لي حقّ في ذلك حتّى يسعني أن أتفوّه بمثل ذاك القول العظيم، ثمّ قال:( إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ) ، إلخ فنفاه بنفي لازمه أي إن كنت قلته كان لازم ذلك أن تعلمه لأنّ علمك أحاط بي و بجميع الغيوب.

ثمّ قال:( ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ ) فنفاه بإيراد ما يناقضه مورده على طريق الحصر بما و إلّا أي إنّي قلت لهم قولاً و لكنّه هو الّذي أمرتني به و هو أن اعبدوا الله ربّي و ربّكم، و كيف يمكن أن أقول لهم مع ذلك أن اتّخذوني و اُمّي إلهين من دون الله؟.

ثمّ قال:( وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) و هو نفي منهعليه‌السلام لذلك كالمتمّم لقوله:( ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ ) إلخ و ذلك لأنّ معناه: ما قلت لهم شيئاً ممّا ينسب إلي و الّذي قلت لهم إنّما قلته عن أمر منك، و هو( أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ ) و لم يتوجّه إلىّ أمر فيما سوى ذلك، و لا مساس بهم إلّا الشهادة و الرقوب لأعمالهم ما دمت، فلمّا توفّيتني انقطعت عنهم، و كنت أنت الرقيب عليهم بشهادتك الدائم العامّ قبل أن توفّيتني و بعده و عليهم و على كلّ شي‏ء غيرهم.

و إذ قد بلغ الكلام هذا المبلغ توجّه لهعليه‌السلام أن ينفي ذلك القول عن نفسه بوجه آخر متمّم للوجوه الّتي ذكرها، و به يحصل تمام النفي فقال:( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ

٣٠٩

عِبادُكَ ) ، إلخ يقول - على ما يؤيّده السياق - و إذا كان الأمر على ما ذكرت فأنا بمعزل منهم و هم بمعزل منّي فأنت و عبادك هؤلاء إن تعذّبهم فإنّهم عبادك، و للسيّد الربّ أن يعذّب عبيده بمخالفتهم و إشراكهم به و هم مستحقّون للعذاب، و إن تغفر لهم فلا عتب عليك لأنّك عزيز غير مغلوب و حكيم لا يفعل الفعل السفهيّ اللغو، و إنّما يفعل ما هو الأصلح.

و بما بيّنّا يظهر وجوه لطيفة من أدب العبوديّة في كلامهعليه‌السلام و لم يورد جملة في كلامه إلّا و قد مزجها بأحسن الثناء بأبلغ بيان و أصدق لسان.

و من ذلك ما حكاه الله تعالى عن نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قد ألحق به في ذلك المؤمنين من اُمتّه فقال تعالى:( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) البقرة: ٢٨٦.

كلامه تعالى - كما ترى - يحكي إيمان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرآن الكريم فيما اشتمل عليه من اُصول المعارف، و فيما اشتمل عليه من الأحكام الإلهيّة جميعاً، ثمّ يلحق بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المؤمنين من اُمتّه دون المعاصرين الحاضرين عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم فحسب، بل المؤمنين من جميع الاُمّة على ما هو ظاهر السياق.

و لازم ذلك أن يكون ما ذكر فيه من إقرار أو ثناء أو دعاء بالنسبة إلى بعضهم محكيّاً عن لسان حالهم، و إن أمكن أن يكون ذلك ممّا قاله آخرون بلسان قالهم، أو يكون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو القائل ذلك مشافهاً ربّه عن نفسه الشريفة و عن المؤمنين لأنّهم بإيمانهم من فروع شجرة نفسه الطيّبة المباركة.

و الآيتان تشتملان على ما هو كالمقايسة و الموازنة بين أهل الكتاب و بين مؤمني هذه الاُمّة من حيث تلقّيهم ما اُنزل إليهم في كتاب، الله و إن شئت قلت: من حيث تأدّبهم بأدب

٣١٠

العبوديّة تجاه الكتاب النازل إليهم، فإنّه ظاهر ما أثنى الله سبحانه على هؤلاء و خفّف الله عنهم في الآيتين بعين ما وبّخ اُولئك عليه و عيّرهم به في الآيات السابقة من سورة البقرة فقد ذمّ أهل الكتاب بالتفريق بين ملائكة الله فأبغضوا جبريل و أحبّوا غيره، و بين كتب الله المنزلة فكفروا بالقرآن و آمنوا بغيره، و بين رسل الله فآمنوا بموسى أو به و بعيسى و كفروا بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و بين أحكامه فآمنوا ببعض ما في كتاب الله و كفروا ببعض، و المؤمنون من هذه الاُمّة آمنوا بالله و ملائكته و كتبه و رسله لا نفرّق بين أحد من رسله.

فقد تأدّبوا مع ربّهم بالتسليم لما أحقّه الله من المعارف الملقاة إليهم ثمّ تأدّبوا بالتلبية لما ندب الله إليه من أحكامه إذ قالوا:( سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ) لا كقول اليهود:( سَمِعْنا وَ عَصَيْنا ) ثمّ تأدّبوا فعدّوا أنفسهم عباداً مملوكين لربّهم لا يملكون منه شيئاً و لا يمتنّون عليه بإيمانهم و طاعتهم فقالوا:( غُفْرانَكَ رَبَّنا ) لا كما قالت اليهود:( سَيُغْفَرُ لَنا ) و قالت:( إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ ) و قالت:( لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ) إلى غير ذلك من هفواتهم.

ثمّ قال الله سبحانه:( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) فإنّ التكليف الإلهيّ يتبع بحسب طبعه الفطرة الّتي فطر الناس عليها، و من المعلوم أنّ الفطرة الّتي هي نوع الخلقة لا تدعو إلّا إلى ما جهّزت به، و في ذلك سعادة الحياة البتّة.

نعم لو كان الأمر على ضرب من الأهمّيّة القاضية بزيادة الاهتمام به، أو خرج العبد المأمور عن حكم الفطرة و زيّ العبوديّة جاز بحكم آخر من قبل الفطرة أن يوجّه المولى أو كلّ من بيده الأمر إليه من الحكم ما هو خارج عن سعته المعتادة كأن يأمره بالاحتياط بمجرّد الشكّ، و اجتناب النسيان و الخطأ إذا اشتدّ الاهتمام بالأمر، نظير وجوب الاحتياط في الدماء و الفروج و الأموال في الشرع الإسلاميّ، أو يحمل عليه الكلفة و يزيد في التضييق عليه كلّما زاد في اللجاج و ألحّ في المسألة كما أخبر الله بنظائر ذلك في بني إسرائيل.

و كيف كان فقوله:( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً ) إمّا ذيل كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنون، و إنّما قالوه

٣١١

تقدمة لقولهم:( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا ) ، إلخ ليجري مجرى الثناء عليه تعالى و دفعاً لما يتوهّم أنّ الله سبحانه يؤاخذ بما فوق الطاقة و يكلّف بالحرجيّ من الحكم فيندفع بأنّ الله لا يكلّف نفساً إلّا وسعها و أنّ الذي سألوه بقولهم:( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا ) ، إلخ إنّما هو الأحكام بعناوين ثانويّة ناشئة من قبل الحكم أو من قبل المكلّفين بالعناد لا من قبله تعالى.

و إمّا كلام له تعالى موضوع بين فقرتين من دعائم المحكيّ في كلامه أعني قولهم:( غُفْرانَكَ رَبَّنا ) إلخ و قولهم:( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا ) ، إلخ ليفيد ما مرّ من الفائدة و يكون تأديباً و تعليماً لهم منه تعالى فيكون جارياً مجرى كلامهم لأنّهم مؤمنون بما أنزل الله، و هو منه، و على أيّ حال فهو ممّا يعتمد عليه كلامهم، و يتّكئ عليه دعاؤهم.

ثمّ ذكر بقيّة دعائهم و إن شئت فقل: طائفة اُخرى من مسائلهم:( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا ) إلخ( رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً ) إلخ( رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا ) و كأنّ مرادهم به العفو عمّا صدر منهم من النسيان و الخطأ و سائر موجبات الحرج( وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا ) في سائر ذنوبنا و خطيئاتنا و لا يلزم من ذكر المغفرة ههنا التكرار بالنظر إلى قولهم سابقاً:( غُفْرانَكَ رَبَّنا ) لأنّها كلمة حكيت عنهم لفائدة قياس حالهم و أدبهم مع ربّهم على أهل الكتاب في معاملتهم مع ربّهم و بالنسبة إلى كتابهم المنزل إليهم، على أنّ مقام الدعاء لا يمانع التكرار كسائر المقامات.

و اشتمال هذا الدعاء على أدب العبوديّة في التمسّك بذيل الربوبيّة مرّة بعد مرّة و الاعتراف بالمملوكيّة و الولاية، و الوقوف موقف الذلّة و مسكنة العبوديّة قبال ربّ العزّة ممّا لا يحتاج إلى بيان.

و في القرآن الكريم تأديبات إلهيّة و تعليمات عالية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأقسام من الثناء يثني بها على ربّه أو المسألة الّتي يسأله بها كما في قوله تعالى:( قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ ) إلى آخر الآيتين: آل عمران: ٢٦ و قوله تعالى:( قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ ) الزمر: ٤٦ و قوله تعالى:( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ سَلامٌ عَلى‏ عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) النمل: ٥٩

٣١٢

و قوله تعالى:( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ ) الخ، الأنعام: ١٦٢، و قوله تعالى:( وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) طه: ١١٤ و قوله:( وَ قُلْ ربّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ) الخ، المؤمنون: ٩٧ إلى غير ذلك من الآيات و هي كثيرة جدّاً.

و يجمعها جميعاً أنّها تشتمل على أدب بارع أدّب الله به رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ندب هو إليه اُمّته.

٧- أدبهم مع ربّهم بين الناس: رعايتهم الأدب عن ربّهم فيما حاوروا قومهم، و هذا أيضاً باب واسع و هو ملحق بالأدب في الثناء على الله سبحانه، و هو من جهة اُخرى من أبواب التبليغ العمليّ الّذي لا يقصر أو يزيد أثراً على التبليغ القوليّ.

و في القرآن من ذلك شي‏ء كثير قال تعالى في محاورة جرت بين نوح و قومه:( قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ، وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) هود: ٣٤ ينفيعليه‌السلام عن نفسه ما نسبوا إليه من إتيان الآية ليعجزوه به، و ينسبه إلى ربّه و يبالغ في الأدب بقوله:( إِنْ شاءَ ) ثمّ بقوله:( وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) أي لله، و لذلك نسبه إليه تعالى بلفظ( اللهُ ) دون لفظ( ربّي ) لأنّ الله هو الّذي ينتهي إليه كلّ جمال و جلال، و لم يكتف بنفي القدرة على إتيان الآية عن نفسه و إثباته حتّى ثنّاه بنفي نفع نصحه لهم إن لم يرد الله أن ينتفعوا به فأكمل بذلك نفي القدرة عن نفسه و إثباته لربّه، و علّل ذلك بقوله:( هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

فهذه محاورة غاصّة بالأدب الجميل في جنب الله سبحانه حاور بها نوحعليه‌السلام الطغاة من قومه محاجّاً لهم، و هو أوّل نبيّ من الأنبياءعليهم‌السلام فتح باب الاحتجاج في الدعوة إلى التوحيد، و انتهض على الوثنيّة على ما يذكره القرآن الشريف.

و هذا أوسع هذه الأبواب مسرحاً لنظر الباحث في أدب الأنبياءعليهم‌السلام يعثر على لطائف من سيرتهم المملوءة أدباً و كمالاً فإنّ جميع أقوالهم و أفعالهم و حركاتهم و سكناتهم مبنيّة على أساس المراقبة و الحضور العبوديّ، و إن كانت صورتها صورة عمل من غاب عن ربّه و غاب عنه ربّه سبحانه قال تعالى:( وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ،

٣١٣

يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ) الأنبياء: ٢٠.

و قد حكى الله تعالى في كلامه محاورات كثيرة عن هود و صالح و إبراهيم و موسى و شعيب و يوسف و سليمان و عيسى و محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و غيرهم من الأنبياءعليهم‌السلام في حالات لهم مختلفة كالشدّة و الرخاء و الحرب و السلم و الإعلان و الإسرار و التبشير و الإنذار و غير ذلك.

تدبّر في قوله تعالى:( فَرَجَعَ مُوسى‏ إِلى‏ قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ) طه: ٨٦ يذكر موسىعليه‌السلام إذ رجع إلى قومه و قد امتلأ غيظاً و حنقاً لا يصرفه ذلك عن رعاية الأدب في ذكر ربّه.

و قوله تعالى:( وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) يوسف: ٢٣ و قوله تعالى:( قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ، قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) يوسف: ٩٢ يذكر يوسف في خلإ المراودة الّذي يملك من الإنسان كلّ عقل و يبطل عنده كلّ حزم لا يشغله ذلك عن التقوى ثمّ عن رعاية الأدب في ذكر ربّه و مع غيره.

و قوله تعالى:( فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) النمل: ٤٠ و هذا سليمانعليه‌السلام و قد اُوتي من عظيم الملك و نافذ الأمر و عجيب القدرة أن أمر بإحضار عرش ملكة سبأ من سبأ إلى فلسطين فاُحضر في أقلّ من طرفة عين فلم يأخذه كبر النفس و خيلاؤها، و لم ينس ربّه و لم يمكث دون أن أثنى على ربّه في ملائه بأحسن الثناء.

و ليقس ذلك إلى ما ذكره الله من قصّة نمرود مع إبراهيمعليه‌السلام إذ قال:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ ) البقرة: ٢٥٨ و قد قال ذلك إذ أحضر رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما و إطلاق الآخر.

٣١٤

أو إلى ما ذكره فرعون مصر إذ قال كما حكاه الله:( يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ، فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ) الزخرف: ٥٣ يباهي بملك مصر و أنهاره و مقدار من الذهب كان يملكه هو و ملاؤه و لا يلبث دون أن يقول كما حكى الله:( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) و هو الّذي كانت تستذلّه آيات موسى يوماً بعد يوم من طوفان و جراد و قمّل و ضفادع و غير ذلك.

و قوله تعالى:( إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا ) التوبة: ٤٠ و قوله:( وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى‏ بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً - إلى أن قال -فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ) التحريم: ٣ فلم يهزهزهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شدّة الأمر و الهول و الفزع في يوم الخوف أن يذكر أنّ ربّه معه و لم تنجذب نفسه الشريفة إلى ما كان يهدّده من الأمر، و كذا ما أسرّ به إلى بعض أزواجه في الخلوة في اشتماله على رعاية الأدب في ذكر ربّه.

و على وتيرة هذه النماذج المنقولة تجري سائر ما وقع في قصصهمعليهم‌السلام في القرآن الكريم من الأدب الرائع و السنن الشريفة، و لو لا أنّ الكلام قد طال بنا في هذه الأبحاث لاستقصينا قصصهم و أشبعنا فيها البحث.

٨- أدب الأنبياء مع الناس: أدب الأنبياءعليهم‌السلام مع الناس في معاشرتهم و محاورتهم، مظاهر هذا القسم هي الاحتجاجات المنقولة عنهم في القرآن مع الكفّار، و المحاورات الّتي حاوروا بها المؤمنين منهم، ثمّ شي‏ء يسير من سيرتهم المنقولة.

أمّا الأدب في القول فإنّك لا تجد فيما حكي من شذرات أقوالهم مع العتاة و الجهلة أن يخاطبوهم بشي‏ء ممّا يسوؤهم أو شتم أو إهانة و إزراء و قد نال منهم المخالفون بالشتم و الطعن و الاستهزاء و السخريّة كلّ منال فلم يجيبوهم إلّا بأحسن القول و أنصح الوعظ معرضين عنهم بسلام و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً.

قال تعالى:( فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ - يعني قوم نوح -ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى‏ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ

٣١٥

نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ، قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ ) هود: ٢٨.

و قال تعالى حكاية عن عاد قوم هود:( إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَ اشْهَدُوا أَنِّي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ ) هود: ٥٥ يريدون باعتراء بعض آلهتهم إيّاه بسوء ابتلائهعليه‌السلام بمثل جنون أو سفاهة و نحو ذلك.

و قال تعالى حكاية عن آزر:( قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا، قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ) مريم: ٤٧.

و قال تعالى حكاية عن قوم شعيبعليه‌السلام :( قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ، قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ ) الأعراف: ٦٨.

و قال تعالى:( قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ، قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا - إلى أن قال -قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) الشعراء: ٢٨.

و قال تعالى حكاية عن قوم مريم:( قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا، يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا ) الخ، مريم: ٣٠.

و قال تعالى يسلّي نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رموه به من الكهانة و الجنون و الشعر:( فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ، أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ) الطور: ٣١.

و قال:( وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً، انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ) الفرقان: ٩.

٣١٦

إلى غير ذلك من أنواع الشتم و الرمي و الإهانة الّتي حكي عنهم في القرآن، و لم ينقل عن الأنبياءعليهم‌السلام أن يقابلوهم بخشونة أو بذاء بل بالقول الصواب و المنطق الحسن الليّن اتّباعاً للتعليم الإلهيّ الّذي لقّنهم خير القول و جميل الأدب قال تعالى خطاباً لموسى و هارونعليهما‌السلام :( اذْهَبا إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‏، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) طه: ٤٤ و قال لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً ) الإسراء: ٢٨.

و من أدبهم في المحاورة و الخطاب أنّهم كانوا ينزّلون أنفسهم منزلة الناس فيكلّمون كلّ طبقة من طبقاتهم على قدر منزلته من الفهم، و هذا ظاهر بالتدبّر فيما حكي من محاوراتهم الناس على اختلافهم المنقولة عن نوح فمن بعده، و قد روى الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنا معاشر الأنبياء اُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم‏) .

و ليعلم أنّ البعثة بالنبوّة إنّما بنيت على أساس الهداية إلى الحقّ و بيانه و الانتصار له فعليهم أن يتجهّزوا بالحقّ في دعوتهم، و ينخلعوا عن الباطل و يتّقوا شبكات الضلال أيّاً ما كانت سواء وافق ذلك رضى الناس أو سخطهم، و استعقب طوعهم أو كرههم و لقد ورد منه تعالى أشدّ النهي في ذلك لأنبيائه و أبلغ التحذير حتّى عن اتّباع الباطل قولاً و فعلاً بغرض نصرة الحقّ فإنّ الباطل باطل سواء وقع في طريق الحقّ أو لم يقع، و الدعوة إلى الحقّ لا يجامع تجويز الباطل و لو في طريق الحقّ و الحقّ الّذي يهدي إليه الباطل و ينتجه ليس بحقّ من جميع جهاته.

و لذلك قال تعالى:( وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) الكهف: ٥١ و قال:( وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا، إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) الإسراء: ٧٥ فلا مساهلة و لا ملابسة و لا مداهنة في حقّ و لا حرمة لباطل.

و لذلك جهّز الله سبحانه رجال دعوته و أولياء دينه و هم الأنبياءعليهم‌السلام بما يسهّل لهم الطريق إلى اتّباع الحقّ و نصرته، قال تعالى:( ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً، الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ

٣١٧

وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَ كَفى‏ بِاللهِ حَسِيباً ) الأحزاب: ٣٩ فأخبر أنّهم لا يتحرّجون فيما فرض الله لهم و يخشونه و لا يخشون أحداً غيره فليس أيّ مانع من إظهارهم الحقّ و لو بلغ بهم أيّ مبلغ و أوردهم أيّ مورد.

ثمّ وعدهم النصر فيما انتهضوا له فقال:( وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ ) الصافّات: ١٧٣ و قال:( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا ) المؤمن: ٥١.

و لذلك نجدهم فيما حكي عنهم لا يبالون شيئاً في إظهار الحقّ و قول الصدق و إن لم يرتضه الناس و استمرّوه في مذاقهم، قال تعالى حاكياً عن نوح يخاطب قومه:( وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ) هود: ٢٩ و قال عن قول هود:( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ) هود: ٥٠ و قوله لقومه:( قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ أَ تُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) الأعراف: ٧١، و قال تعالى يحكي عن لوط:( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) الأعراف: ٨١ و حكى عن إبراهيم من قوله لقومه:( أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) الأنبياء: ٦٧ و حكى عن موسى في جواب قول فرعون له:( إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى‏ مَسْحُوراً، قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ) الإسراء: ١٠٢ أي ممنوعاً من الإيمان بالحقّ مطروداً هالكاً، إلى غير ذلك من الموارد.

فهذه كلّها من رعاية الأدب في جنب الحقّ و اتّباعه، و لا مطلوب أعزّ منه و لا بغية أشرف منه و أغلى، و إن كان في بعضها ما ينافي الأدب الدائر بين الناس لابتناء حياتهم على اتّباع جانب الهوى و السلوك إلى أمتعة الحياة بمداهنة المبطلين و الخضوع و التملّق إلى المفسدين و المترفين سياسة في العمل.

و جملة الأمر أنّ الأدب كما تقدّم في أوّل هذه المباحث إنّما يتأتّى في القول السائغ و العمل الصالح، و يختلف حينئذ باختلاف مسالك الحياة في المجتمعات و الآراء و العقائد الّتي تتمكّن فيها و تتشكّل هي عنها، و الدعوة الإلهيّة الّتي تستند إليها المجتمع الدينيّ إنّما تتّبع الحقّ في الاعتقاد و العمل، و الحقّ لا يخالط الباطل و لا يمازجه و لا يستند إليه

٣١٨

و لا يعتضد به فلا محيص عن إظهاره و اتّباعه، و الأدب الّذي يتأتّى فيه أن يسلك في طريق الحقّ أحسن المسالك و يتزيّى فيه بأظرف الأزياء كاختيار لين القول إذا صحّ أن يتكلّم بلينة و خشونة، و اختيار الاستعجال في الخبر إذا أمكن فيه كلّ من المسارعة و التبطّي.

و هذا هو الّذي يأمر به في قوله تعالى:( وَ كَتَبْنا لَهُ أي لموسى فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها ) الأعراف: ١٤٥ و بشّر عباده الآخذين به في قوله:( فَبَشِّرْ عِبادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) الزمر: ١٨ فلا أدب في باطل و لا أدب في ممزوج من حقّ و باطل فإنّ الخارج من صريح الحقّ ضلال لا يرتضيه وليّ الحقّ و قد قال:( فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ ) يونس: ٣٢.

و هذا هو الّذي دعا أنبياء الحقّ إلى صراحة القول و صدق اللهجة و إن كان ذلك في بعض الموارد ممّا لا يرتضيه سنّة المداهنة و التساهل و الأدب الكاذب الدائر في المجتمعات غير الدينيّة.

و من أدبهم مع الناس في معاشرتهم و سيرتهم فيهم احترام الضعفاء و الأقوياء على حدّ سواء و الإكثار و المبالغة في حقّ أهل العلم و التقوى منهم فإنّهم لما بنوا على أساس العبوديّة و تربية النفس الإنسانيّة تفرّع عليه تسوية الحكم في الغنيّ و الفقير و الصغير و الكبير و الرجل و المرأة و المولى و العبد و الحاكم و المحكوم و الأمير و المأمور و السلطان و الرعيّة، و عند ذلك لغي تمايز الصفات، و اختصاص الأقوياء بمزايا اجتماعيّة، و بطل تقسّم الوجدان و الفقدان و الحرمان و التنعّم و السعادة و الشقاء بين صفتي الغنى و الفقر و القوّة و الضعف، و أنّ للقويّ و الغنيّ من كلّ مكانة أعلاها، و من كلّ عيشة أنعمها، و من كلّ مجاهدة أروحها و أسهلها، و من كلّ وظيفة أخفّها بل كان الناس في ذلك شرعاً سواءً، قال:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣ و تبدّل استكبار الأقوياء بقوّتهم و مباهاة الأغنياء بغنيتهم تواضعاً للحقّ و مسارعة إلى المغفرة و الرحمة، و تسابقاً في الخيرات و جهاداً في سبيل الله و ابتغاءً لمرضاته.

٣١٩

و احترم حينئذ للفقراء كما للأغنياء، و تؤدّب مع الضعفاء كما مع الأغنياء بل اختصّ هؤلاء بمزيد شفقة و رأفة و رحمة، قال تعالى يؤدّب نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) الكهف: ٢٨ و قال تعالى:( وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) الأنعام: ٥٢، و قال:( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) الحجر: ٨٩.

و يشتمل على هذا الأدب الجميل ما حكاه الله من محاورة بين نوحعليه‌السلام و قومه إذ قال:( فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى‏ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ، قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ، وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ‏ - أي في تحقيركم أمر الفقير الضعيف -وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ، وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ - أي لا أدّعي شيئاً يميّزني منكم بمزيّة إلّا أنّي رسول إليكم -وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ - أي من الخير و السعادة اللّذين يرجيان منهم -إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) هود: ٣١.

و نظيره في نفي التميّز قول شعيب لقومه على ما حكاه الله:( وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى‏ ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ ) هود: ٨٨، و قال الله تعالى يعرّف رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للناس:( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) التوبة: ١٢٨ و قال أيضاً:( وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401