الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84135 / تحميل: 7581
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

قبل أن يستوفي حقّه منه ، فإذا استوفاه منه ، كان مضموناً عليه. ولو فضل منه فضلة ، فالأقرب : أنّها أمانة.

ولو قال : وفيه دراهم خُذْه(١) بدراهمك ، وكانت الدراهم التي فيه مجهولةَ القدر ، أو كانت أكثر من دراهمه ، لم يملكه ، ودخل في ضمانه بحكم الشراء الفاسد. وإن كانت معلومةً وبقدر حقّه ، ملَكه.

ج - لو قال : خُذْ هذا العبد بحقّك ، ولم يكن سَلَماً فقَبِل ، ملَكه. وإن لم يقبل وأخذه ، دخل في ضمانه بحكم الشراء الفاسد.

مسألة ١٨٠ : إذا احتاج الرهن إلى مؤونة يبقى بها الرهن - كنفقة العبد وكسوته وعلف الدابّة - كانت على الراهن ؛ لما رواه العامّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « الرهن من راهنه ، له غُنْمه ، وعليه غُرْمه »(٢) .

قولهعليه‌السلام : « من راهنه » أي : من ضمان راهنه.

ومن طريق الخاصّة : قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الظهر يُركب إذا كان مرهوناً ، وعلى الذي يركبه نفقته ، والدَّرُّ يُشرب إذا كان مرهوناً ، وعلى الذي يشرب نفقته »(٣) .

وقد قلنا : إنّ المرتهن ممنوع من التصرّف ، وإنّ المنافع للراهن ، فتكون نفقته عليه.

وفي معناه سقي الأشجار ومؤونة الجذاذ وتجفيف الأثمار واُجرة‌ الإصطبل والبيت الذي يُحفظ فيه المتاع المرهون إذا لم يتبرّع به المرتهن أو

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « خذ ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) ورد نصّه في المغني ٤ : ٤٦٨ ، ونحوه في سنن الدارقطني ٣ : ٣٣ / ١٢٣ ، وسنن البيهقي ٦ : ٣٩ ، و التمهيد - لابن عبد البر - ٦ : ٤٢٦ ، و ٤٣٠.

(٣) الفقيه ٣ : ١٩٥ / ٨٨٦ ، التهذيب ٧ : ١٧ ١٧٦ / ٧٧٥.

٢٦١

العَدْل ، خلافاً لأبي حنيفة في اُجرة الإصطبل والبيت(١) واُجرة مَنْ يردّ العبد من الإباق ، وما أشبه ذلك(٢) .

إذا عرفت هذا ، فهل يُجبر الراهن على أداء هذه المؤونة حتى يقوم بها من خالص ماله؟ للشافعيّة وجهان :

أحدهما : أنّه يُجبر لتبقى وثيقة المرتهن.

والثاني : أنّه لا يُجبر عند الامتناع ، بل يبيع القاضي جزءاً من المرهون بحسب الحاجة ، فلو كانت تستوعب الرهن قبل الأجل ، فعلى الثاني يلحق بما يفسد قبل الأجل ، فيباع ويُجعل ثمنه رهناً(٢) .

قيل عليه : هذا إمّا أن يلحق بمالا يتسارع إليه الفساد ثمّ عرض ما أفسده ، أو بما يتسارع إليه الفساد. والأوّل باطل ؛ لأنّ العارض هناك اتّفاقي غير متوقّع ، والحاجة إلى المؤونة معلومة متحقّقة. وإن كان الثاني ، لزم إثبات الخلاف المذكور في رهن ما يتسارع إليه الفساد في رهن كلّ ما يحتاج إلى نفقة أو مكان يحفظ فيه(٣) .

وعلى الأوّل - وهو الأصحّ عندهم - لو لم يكن للراهن شي‌ء أو لم يكن حاضراً ، باع الحاكم جزءاً من المرهون ، واكترى به بيتاً يحفظ فيه الرهن(٤) .

وأمّا المؤونة الزائدة فيمكن أن يقال : حكمها حكم ما لو هرب‌

____________________

(١) تحفة الفقهاء ٣ : ٤٤ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٥١ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٣٠ و ١٣١ ،الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٠٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٧ ، المغني ٤ : ٤٧٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٤١.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٥ - ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٢.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٢.

٢٦٢

الجمّال وترك الجِمال المستأجرة أو عجز عن الإنفاق عليها.

مسألة ١٨١ : يجوز للراهن أن يفعل بالمرهون ما فيه مصلحته ، وليس للمرتهن منعه منه ، كفصد العبد وحجامته والمعالجة بالأدوية والمراهم ، لكن لا يُجبر عليها ، بخلاف النفقة ، وهو أحد وجهي الشافعيّة(١) .

ثمّ إن كانت المداواة ممّا يرجى نفعه ولا يُخاف غائلته ، جاز : وإن كان ممّا يخاف ، فالأقوى عدم المنع أيضاً منه ، ويكتفى بأنّ الغالب منه السلامة.

وللشافعيّة وجهان ، ويجريان في قطع اليد المتآكلة إذا كان في قطعها وتركها خطر ، فإن كان الخطر في الترك دون القطع ، فله القطع ، وليس له قطع سِلْعَة(٢) ولا إصبع لا خطر في تركها إذا خِيف منه ضرر. وإن كان الغالب فيه السلامة ، ففيه الخلاف(٣) .

وله أن يختن العبد والأمة في وقت اعتدال الهواء إن كان يندمل قبل حلول الأجل ؛ لأنّه أمر لا بُدَّ منه ، الغالب فيه السلامة. وإن لم يندمل وكان فيه نقص ، لم يجز. وكذا لو كان به عارض يخاف معه من الختان.

وللراهن تأبير النخل المرهونة.

ولو ازدحمت وقال أهل الخبرة : تحويلها أنفع ؛ جاز تحويلها.

وكذا لو رأوا قطع البعض لصلاح الأكثر.

وما يُقطع منها أو يجفّ فهو مرهون ، بخلاف ما يحدث من السعف

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٣.

(٢) السِّلْعة : الضواة ، وهي زيادة تحدث في الجسد مثل الغُدّة. لسان العرب‌ ٨ : ١٦٠ « سلع ».

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٣.

٢٦٣

ويجفّ ، فإنّ الراهن مختصّ به ، وينزّل منزلة النماء.

ولا يمنع من رعي الماشية في وقت الأمن ، وتؤوى ليلاً إلى يد المرتهن أو العَدْل.

ولو أراد الراهن أن يبعد لطلب الرعي وبالقرب ما يكفيها ، فللمرتهن المنع ، وإلّا فلا.

وتؤوى إلى يد عَدْلٍ يتّفقان عليه أو ينصبه الحاكم.

ولو أراد المرتهن ذلك وليس بالقرب ما يكفي ، لم يُمنع.

وكذا لو أراد نقل المتاع من بيتٍ ليس بحرزٍ إلى حرزٍ.

ولو نَبا(١) بهما المكان وأرادا الانتقال ، فإن كان إلى أرضٍ واحدة ، فلا إشكال ، وإلّا جُعلت الماشية مع الراهن ، ويحتاط ليلاً ، كما تقدّم.

____________________

(١) نبا به منزله وفراشه : لم يوافقْه. ونبَتْ بي تلك الأرض : لم أجد بها قراراً. لسان العرب ١٥ : ٣٠٢ « نبا ».

٢٦٤

٢٦٥

الفصل الخامس : في وضع الرهن على يد العَدْل‌

مسألة ١٨٢ : يجوز أن يشترط المتراهنان وضع الرهن على يد أحدهما أو ثالثٍ غيرهما‌ ، سواء تعدّد أو اتّحد ؛ عملاً بقولهعليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم »(١) .

إذا عرفت هذا ، فإنّ ذلك العَدْل يكون وكيلاً للمرتهن نائباً عنه في القبض ، فمتى قبضه صحّ قبضه - وبه قال علماؤنا ، وجماعة الفقهاء ، منهم : عطاء وعمرو بن دينار ومالك والثوري وابن المبارك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأحمد وأصحاب الرأي(٢) - لأنّه قبض في عقدٍ ، فجاز فيه التوكيل ، كسائر القبوض.

وقال الحكم والحارث العكلي وقتادة وداوُد وابن أبي ليلى : لا يكون مقبوضاً بذلك ؛ لأنّ القبض من تمام العقد يتعلّق بأحد المتعاقدين ، كالإيجاب والقبول(٣) .

والفرق بينه وبين القبول : أنّ الإيجاب إذا كان لشخصٍ كان القبول منه ؛ لأنّه مخاطَب. ولو كلّ في الإيجاب والقبول قبل أن يوجب له ، صحّ.

وما ذكروه ينتقض بالقبض في البيع فيما يعتبر القبض فيه.

____________________

(١) التهذيب ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥ ، الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٣٣.

(٢) المغني ٤ : ٤١٨ - ٤١٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٤٨.

(٣) المغني ٤ : ٤١٨ ٤١٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٤٨.

٢٦٦

إذا عرفت هذا ، فإنّه يجوز أن يجعلا الرهن على يد مَنْ يجوز‌ توكيله ، وهو جائز التصرّف ، سواء مسلماً أو كافراً ، عَدْلاً أو فاسقاً ، ذكراً كان أو اُنثى.

ولا يجوز أن يكون صبيّاً ؛ لأنّه غير جائز التصرّف مطلقاً ، فإن فعلا ذلك ، كان قبضه وعدم قبضه واحداً.

ولا يجوز أن يكون عبداً بغير إذن سيّده ؛ لأنّ منافع العبد لسيّده ، ولا يجوز تضييعها في الحفظ بغير إذنه ، فإن أذن مولاه ، جاز.

وأمّا المكاتب فإن كان بجُعْلٍ ، جاز ؛ لأنّه مكتسب ، وهو سائغ له بغير إذن السيّد. وإن كان بغير جُعْلٍ ، لم يجز ؛ لأنّه التبرّع بمنافعه.

مسألة ١٨٣ : لو شرط جَعْل الرهن على يد عَدْلٍ وشرطا له أن يبيعه عند حلول الحقّ ، صحّ؛ لأنّ ذلك [ يكون ] توكيلاً(١) في البيع منجّزاً ، وإنّما الشرط في التصرّف. وصحّ بيعه ، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد(٢) .

وإن عزل الراهن العَدْلَ عن البيع ، قال الشيخرحمه‌الله : لا ينعزل ، ولا تنفسخ وكالته ، وكان له بيع الرهن(٣) - وبه قال أبو حنيفة ومالك(٤) - لأنّ وكالته صارت من حقوق الرهن ، فلم يكن للراهن إسقاطها(٥) ، كسائر‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة و الحجرية : « ولأنّ ذلك توكيلاً ». والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.

(٢) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٤٢ ، الوسيط ٣ : ٥٠٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٩ ، المغني ٤ : ٤٢٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٤.

(٣) الخلاف ٣ : ٢٤٣ ، المسألة ٤١ ، المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢١٧.

(٤) المبسوط - للسرخسي - ٢١ : ٧٩ - ٨٠ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٥١ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٤٢ ، حلية العلماء ٤ : ٤٣٢ العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، المغني ٤ : ٤٢٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٤.

(٥) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « إسقاطه ». والظاهر ما أثبتناه.

٢٦٧

حقوقه.

وقال الشافعي وأحمد : يصحّ العزل ، ولا يملك البيع ؛ لأنّ الوكالة عقد جائز ، فلم يلزم العاقد المقام عليها ، كسائر الوكالات.

قالوا : وكونه من حقوق الرهن لا يمنع بقاءه على جوازه ، كما أنّ الرهن إذا شُرط في البيع لا يصير لازماً قبل القبض ، فإن عزله عن البيع ، فعلى صحّة العزل يكون للمرتهن فسخ البيع الذي جعل الرهن ثمنه ، كما لو امتنع الراهن من تسليم الرهن المشروط في البيع(١) .

هذا إذا كانت الوكالة شرطاً في عقد الرهن ، ولو شرطاها بعده ، انفسخت بعزل الموكّل والوكيل إجماعاً.

وأمّا إن عزله المرتهن ، فلا ينعزل ، قاله الشيخ(٢) - وبه قال أحمد والشافعي في أحد قوليه(٣) - لأنّ العدل وكيل الراهن ؛ إذ المرهون ملكه ، ولو انفرد بتوكيله صحّ ، فلم ينعزل بعزل غيره.

والثاني : له عزله(٤) ، على معنى أنّ لكلّ واحدٍ منهما منعه من البيع ؛ لأنّ المرتهن له أن يمنعه من البيع ، لأنّ البيع إنّما يستحقّ بمطالبته ، فإذا لم يطالب بالبيع ومنعه منه ، لم يجز ، فأمّا أن يكون ذلك فسخاً فلا.

مسألة ١٨٤ : إذا وضعا الرهن عند عَدْلٍ وشرطا أن يبيعه عند المحلّ ، جاز.

قال الشيخرحمه‌الله : وليس للعَدْل أن يبيعه حتى يستأذن المرتهن بإذنٍ‌

____________________

(١) حلية العلماء ٤ : ٤٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٩ ، المغني ٤ : ٤٢٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٤ - ٤٥٥.

(٢) الخلاف ٣ : ٢٤٣ ، المسألة ٤٢ ، المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢١٧.

(٣ و ٤ ) المغني ٤ : ٤٢٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٥ ، حلية العلماء ٤ : ٤٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٩.

٢٦٨

مجدَّد(١) - وهو أحد قولي الشافعي ، وبه قال أحمد(٢) - لأنّ البيع لحقه ، فإذا لم يطالب به ، لم يجز بيعه ، بل يراجع ليعرف أنّه مطالِبٌ أو مهمل أو مبرئ.

والثاني : أنّه لا يراجع ؛ لأنّ غرضه توفية الحقّ(٣) .

وأمّا الراهن فقال الشيخعليه‌السلام : لا يشترط تجديد إذنه ولا مراجعته ثانياً عند البيع(٤) - وهو أحد قولي الشافعي(٥) - لأنّ الأصل دوام الإذن الأوّل.

والثاني : أنّه يشترط تجديد إذنه ؛ لأنّه قد يكون له غرض في استبقاء المرهون ويريد قضاء الحقّ من غيره وإبقاء الرهن لنفسه(٦) .

ولو مات الراهن أو المرتهن ، بطلت الوكالة.

وإذا قلنا : إنّ الوكيل لا ينعزل بعزل المرتهن ، فلو عاد إلى الإذن ، جاز البيع ، ولم يشترط تجديد توكيل من الراهن.

قال بعض الشافعيّة : مساق هذا أنّه لو عزله الراهن ثمّ عاد ووكّل ، افتقر إلى إذنٍ جديد للمرتهن ، ويلزم عليه أن يقال : لا يعتدّ بإذن المرتهن قبل توكيل الراهن(٧) .

ولو وضعا الرهن على يد عَدْلٍ فمات ، فإنّ اتّفق الراهن والمرتهن‌

____________________

(١) الخلاف ٣ : ٢٤٤ ، المسألة ٤٣ ، المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢١٧.

(٢) حلية العلماء ٤ : ٤٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٩ ، المغني ٤ : ٤٢٣ - ٤٢٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٩.

(٤) الخلاف ٣ : ٢٤٤ ، المسألة ٤٣ ، المبسوط للطوسي ٢ : ٢١٧ ٢١٨.

(٥ و ٦ ) حلية العلماء ٤ : ٤٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٩.

(٧) الوسيط ٣ : ٥٠٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٠.

٢٦٩

على كونه في يد عَدْلٍ آخَر أو في يد أحدهما ، كان لهما. وان اختلفا ، كان للحاكم أن يضعه عند عَدْلٍ يرتضيه.

ولو كان الرهن في يد المرتهن فمات ، فالرهن بحاله ، فإن رضي الراهن أن يكون في يد ورثة المرتهن ، كان في أيديهم إن اختاروا. وإن أبى ذلك ، لم يُجبر على تركه في أيديهم ؛ لأنّه لم يرض إلّا بأمانة المرتهن دون ورثته ، ويضعه الحاكم عند مَنْ يراه.

مسألة ١٨٥ : يد العَدْل يد أمانةٍ متطوّع بحفظه ، فلو اتّفقا على نقله من يده ، كان لهما ؛ لأنّ الحقّ لهما. وان اختلفا فيه فطالَب أحدهما بالنقل وامتنع الآخَر ، لم ينقل ؛ لأنّهما قد رضيا بأمانته ورضيا بنيابته عنهما في حفظه ، فلا يجوز لأحدهما أن ينفرد وإخراجه من يده.

ولو أراد العَدْل ردَّ الرهن فإن كانا حاضرَيْن ، كان له ذلك ، وعليهما قبوله منه ؛ لأنّه أمين متطوّع بحفظه ، فلا يلزمه المقام على ذلك ، فإذا قبضاه فقد بري‌ء العدْل من حفظه. وإن امتنعا من أخذه ، رفع أمرهما إلى الحاكم ليُجبرهما على [ تسلّمه ](١) فإن امتنعا أو استترا ، نصب الحاكم أميناً يقبضه منه لهما ؛ لأنّ للحاكم ولايةً على الممتنع من حقٍّ عليه.

ولو ردّه العَدْل على الحاكم قبل أن يردّه عليهما وقبل امتناعهما من قبضه ، لم يكن له ذلك ، وكان ضامناً ، وكان الحاكم ضامناً أيضاً ؛ لأنّ الحاكم لا ولاية له على غير الممتنع.

وليس للعَدْل أن يدفع الرهن إلى غير المتراهنين مع حضورهما وإمكان الإيصال إليهما ، وكذا لو دفعه العَدْل إلى ثقةٍ أمينٍ مع وجودهما ،

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في « ج » والطبعة الحجريّة : « تسليمه ». والظاهر ما أثبتناه.

٢٧٠

فإنّه يضمن ، ويضمن القابض أيضاً ؛ لأنّه لا يجوز له أن يُخرجه من يده إلى‌ غير المتراهنين ، وليس للعَدْل القابض قبضه ، فضمنه ؛ لأنّه قبضه بغير حقٍّ ، فلزمه الضمان.

ولو دفعه إلى أحد المتراهنين ، فإنّهما يضمنان أيضاً ؛ لأنّه وكيل لهما في حفظه ، فلم يجز له تسليمه إلى أحدهما دون صاحبه ، فإذا سلّمه ، ضمن ، وضمن القابض ؛ لأنّه قبض ما لا يجوز له قبضه.

ولو امتنعا من القبض وليس هناك حاكم فتركه عند ثقةٍ ، جاز ولا ضمان.

ولو امتنع أحدهما فدفعه إلى الآخَر ، ضمن.

والفرق بينهما أنّ العَدْل يمسكه لهما ، فإذا دفعه إلى أحدهما ، كان ماسكاً لنفسه ، فلم يجز.

ولو كانا غائبين فإن كان للعَدْل عذرٌ في الامتناع من بقائه في يده - كسفرٍ عزم عليه ، أو مرضٍ خاف منه ، أو غير ذلك - دفعه إلى الحاكم ، وقبضه الحاكم عنهما ، أو نصب عَدْلاً يقبضه لهما. وإن لم يجد حاكماً ، جاز له أن يودعه عند ثقةٍ ، ولا ضمان على أحدهما.

فإن أودعه عند ثقةٍ مع وجود الحاكم ، فالأقرب : الضمان ؛ لأنّ الولاية في مال الغائب إلى الحاكم.

وللشافعيّة وجهان(١) .

وإن لم يكن له عذرٌ ، قال الشيخرحمه‌الله : لم يجز له تسليمه إلى

____________________

(١) المهذب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٩٩ و ٧ : ٢٩٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٦ ، و ٥ : ٢٩.

٢٧١

الحاكم(١) . وهو جيّد.

وفصّل الشافعي فقال : إن كانت غيبتهما طويلةً - وهو السفر الذي يقصر فيه الصلاة - فإنّ الحاكم يقبضه عنهما ، ولا يلجئه إلى حفظه ، وإن لم يجد حاكماً ، أودعه عند ثقة أو أمين : وإن كانت المسافة قصيرةً ، فهو كما لو كانا حاضرَين(٢) .

وإن كان أحدهما غائباً والآخَر حاضراً ، لم يجز تسليمه إلى الحاضر ، وكان كما لو كانا غائبين.

وليس له قسمته وإعطاء الحاضر نصفه ، بخلاف ما لو أودع اثنان وديعةً عند ثالثٍ وغاب أحدهما الآخَر فطالَب ، فإنّ الحاكم يقسّمها بينه وبين الغائب ؛ لأنّ المودعين ما لكان ظاهراً ؛ لثبوت يدهما معاً عليها ، فقسّمها الحاكم ، وهنا الملك لأحدهما وللآخَر حقّ الوثيقة ، وذلك لا يمكن قسمته ، فاختلفا.

مسألة ١٨٦ : لو جعلا الرهن على يد عَدْلين ، جاز إجماعاً ، ولهما إمساكه ، ولا يجوز لأحدها الانفراد بحفظه. فإن سلّمه أحدها إلى الآخَر ، ضمن النصف ؛ لأنّه القدر الذي تعدّى فيه. ولأنّ الراهن لم يرض بأمانة أحدهما ، وإنّما رضي بأمانتهما جميعاً ، فلا يجوز لأحدها أن ينفرد بحفظه.

ويحتمل عندي أن يكون عليهما معاً ضمان الكلّ.

وليس لهما أن يقتسما الرهن وإن كان ممّا يمكن قسمته من غير ضرر ، مثل الطعام والزيت ، وهذا أحد وجهي الشافعيّة.

____________________

(١) الخلاف ٣ : ٢٤٧ ، المسألة ٤٩ ، المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢٢١.

(٢) راجع : المغني ٤ : ٤٢٢ ، والشرح الكبير ٤ : ٤٥٠.

٢٧٢

وفي الآخَر : يجوز أن يدفعه أحدهما إلى الآخَر ؛ لأنّ اجتماعهما على حفظه ممّا يشقّ عليهما ويتعذّر ، فحمل الأمر على أنّ لكلّ واحدٍ منهما‌ الحفظ(١) .

وهو ممنوع ؛ لإمكان جَعْله في محرز لهما لكلّ واحدٍ منهما عليه قُفْلٌ.

وقال أبو حنيفة : إن كان ممّا لا ينقسم ، جاز لكلّ واحدٍ منهما إمساك جميعه. وإن كان ممّا يمكن قسمته ، لم يجز ، بل يقتسمانه(٢) .

وقال أبو يوسف ومحمّد : يجوز أن يضعاه في يد أحدهما بكلّ حال(٣) .

احتجّ أبو حنيفة بأنّه إذا كان ممّا ينقسم فقَبْضُ أحد النصفين لا يكون شرطاً في الآخَر ؛ لأنّه ممّا لا يستحقّ عليه بدل ، كما لو وهب لرجل عينين فقَبِل إحداهما ، بخلاف البيع ، فإذا ثبت لأحدهما إمساك نصفه ، لم يُسلّم إلى غيره.

وعلى القول الثاني للشافعيّة - وهو جواز دفع أحدهما إلى الآخَر - لو كان ممّا ينقسم فقسّماه بينهما ، جاز ، وانفرد كلّ واحدٍ منهما بحفظ ما في يده ، فإن أراد أحدهما أن يردّ ما في يده إلى الآخَر ، فوجهان :

أحدهما : يجوز ؛ لأنّه كان يجوز لكلٍّ منهما أن ينفرد بحفظ جميعه.

والثاني : لا يجوز ؛ لأنّه لمـّا اقتسماه بينهما صار في يد كلّ واحدٍ

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١٧ ، حلية العلماء ٤ : ٤٢٩ - ٤٣٠ ، المغني ٤ : ٤١٩ - ٤٢٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٤٩.

(٢ و ٣ ) المبسوط - للسرخسي - ٢١ : ٧٩ ، حلية العلماء ٤ : ٤٣٠ ، المغني ٤ : ٤٢٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٤٩.

٢٧٣

ما ينفرد(١) بحفظه ، فلم يكن له ردّه إلى غيره. ولأنّ قبل القسمة جاز ذلك ؛ لحصول المشقّة ، وبعد القسمة زالت المشقّة(٢) .

مسألة ١٨٧ : لو جني على الرهن في يد العَدْل ، وجبت قيمته على الجاني ، وكانت رهناً. وللعَدْل حفظها ؛ لأنّها بدل الرهن ، وله إمساك الرهن وحفظه ، والقيمة قائمة مقامه. وبطلت وكالته في بيع العين بتلفها ، فلا تتعلّق الوكالة بالقيمة ، بل تبطل ؛ لأنّ الوكالة كانت في العين دون قيمتها ، وبطلت الوكالة ؛ لأنّها لم تصر من حقوق الرهن ، وإنّما هي باقية على جوازها ، ولهذا للراهن الرجوعُ ، بخلاف إمساك العَدْل الرهنَ.

ولو كان الرهن في يد العَدْل فقبضه المرتهن ، وجب عليه ردّه إليه ؛ لأنّ الراهن لم يرض بتسليمه إليه ، فإذا ردّه إلى العَدْل ، زال عنه الضمان.

ولو كان الرهن في يد المرتهن فتعدّى فيه ثمّ أزال التعدّي أو سافر به ثمّ ردّه ، لم يزل عنه الضمان ؛ لأنّ استئمانه بطل بذلك ، فلم يعتد بفعله ، ولا تعود الأمانة إلّا بأن يرجع إلى صاحبه ثمّ يردّه إليه أو إلى وكيله أو يبرئه من ضمانه.

ولو غصب المرتهن الرهنَ من يد العَدْل ، ضمنه ، فإن ردّه إليه ، زال الضمان ؛ لأنّه قد ردّه إلى وكيله.

ولو اقترض ذمّيّ من مسلمٍ مالاً ورهن عنده خمراً وجعله على يد ذمّيّ ، لم يصح الرهن ، فإذا حلّ الحقّ وباعها الذمّي العَدْل وجاء بالثمن ،

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « صار ما في يد كلّ واحدٍ ينفرد ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١٧ ، حلية العلماء ٤ : ٤٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٩٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٦.

٢٧٤

قال الشيخرحمه‌الله : جاز له أخذه ، ولا يُجبر عليه(١) .

وللشافعي في إجبار المسلم قبض الثمن وجهان : أحدهما : لا يُجبر ؛لأنّه قد تعيّن ثمن الخمر ، وذلك غير مملوك. والثاني : يُجبر ؛ لأنّ أهل الذمّة إذا تقابضوا في العقود الفاسدة جرى مجرى الصحيحة ، فيقال : إمّا أن تقبض ، وإمّا أن تبرئ(٢) .

وإن جعلها على يد مسلم فباعها عند محلّ الحقّ أو باعها الذمّيّ من مسلمٍ ، لم يُجبر المرتهن على قبول الثمن ؛ لأنّ البيع فاسد لا يُقرّان عليه ، ولا حكم له.

مسألة ١٨٨ : إذا أذن الراهن والمرتهن للعَدْل في بيع الرهن ، فإن عيّنا له قدراً أو جنساً ، لم يجز له أن يعدل عمّا ذكراه إلى أقلّ ؛ لأنّ الحقّ لهما لا شي‌ء للعَدْل فيه.

فإن أطلقا البيع ، جاز له البيع بثمن المثل حالّاً بنقد البلد ، وبه قال الشافعي(٣) ، خلافاً لأبي حنيفة ؛ فإنّه جوّز أن يبيعه ولو بدرهمٍ واحد ؛ لإطلاق الأوّل(٤) .

ليس جيّداً ؛ لأنّ الإطلاق محمول على المعتاد المتعارف بين الناس ، وهو هنا مقيّد بما قلناه.

فإن باعه العَدْل بدون ثمن المثل ، فإن كان بقدر ما يتغابن به الناس ، فالأقوى : الجواز ؛ لأنّه مندرج تحت المتعارف. وإن كان بأزيد ممّا يتغابن به الناس ، لم يصح ، مثل أن يكون الرهن يساوي مائة درهم ويتغابن الناس

____________________

(١) الخلاف ٣ : ٢٤٨ ، المسألة ٥٢ ، المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢٢٣.

(٢) حلية العلماء ٤ : ٤٦٠.

(٣ و ٤ ) المغني ٤ : ٤٢٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.

٢٧٥

فيه بخمسة دراهم ، فباعه العَدْل بثمانين ، بطل ، ورجع الراهن في العين إن كانت باقيةً ، وإن كانت تالفةً ، كان له الرجوع على أيّهما شاء.

فإن رجع على المشتري ، رجع بقيمتها ، ولا يردّ المشتري على‌العَدْل. وإن رجع على العَدْل ، رجع بجميع القيمة ؛ لأنّه أخرج العين من يده على وجهٍ يجز له ، فضمن جميع قيمتها ، وصار كما لو أتلفها ، فإنّه يرجع عليه بجميع القيمة ، وهو أصحّ قولي الشافعي.

والثاني : أنّه يرجع عليه نقص من ثمن مثلها الذي يتغابن به الناس ، فيرجع بالباقي على المشتري ؛ لأنّ ذلك هو القدر الذي فرّط فيه ، فإنّه لو باعها بما يتغابن الناس بمثله ، نفذ بيعه ، ويلزم عليه المشتري ؛ لأنّه لو اشتراه بما يتغابن الناس عليه(١) لم يرجع عليه بشي‌ء ، ومع هذا يجب عليه جميع القيمة(٢) .

وكذا لو أوجبنا تعميم العطاء في الزكاة وأعطى بعض الأصناف الزكاةَ وحرّم بعضاً ، فكم يضمن؟ للشافعيّة وجهان :

أحدهما : القدر الذي لو أعطاهم في الابتداء جاز ؛ لأنّ التفضيل جائز.

والثاني : يضمن بقدر ما يخصّهم إذا سوّى بين العدد(٣) . وكذا لو قالوا(٤) في الاُضحية(٥) .

____________________

(١) كذا ، والظاهر : « بمثله » بدل « عليه ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣١.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ١٨٠ ، المجموع ٦ : ٢١٨ ، الوجيز ١ : ٢٩٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٤٠٨ ، روضة الطالبين ٢ : ١٩١ - ١٩٢.

(٤) كذا ، والظاهر : « وكذا قالوا ».

(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٤٧ ، المجموع ٨ : ٤١٦ ، الحاوي الكبير ١٥ : ١١٨ ، =

٢٧٦

فأمّا إذا باعه بثمن مثله أو بما يتغابن الناس بمثله ، صحّ البيع.

وإن باعه العَدْل بغير نقد البلد أو باعه بثمن مؤجَّل ، لم يصحّ البيع ، ويجب ردّ العين ، فإن كانت باقيةً ، استرجعها ، وإن كانت تالفةً ، رجع بقيمتها على مَنْ شاء منهما ، فإن رجع على العَدْل ، رجع العَدْل على المشتري ؛ لأنّ التلف كان في يده ، وإن رجع على المشتري ، لم يرجع على العَدْل.

مسألة ١٨٩ : إذا باع العَدْل بثمن المثل أو بما يتغابن به الناس ، صحّ البيع ؛ لأنّ ما يتغابن به الناس لا يمكن الاحتراز عنه ، وهو يقع لأهل الخبرة والبصيرة ، والمرجع في ذلك إليهم.

فإن جاء بعد البيع مَنْ زاد في ثمنه ، فإن كان بعد لزوم البيع وانقطاع الخيار بينهما ، لم يعتد بهذه الزيادة ؛ لأنّه لا يجوز له قبولها ، ولا يملك فسخ البيع في هذه الحال.

وإن كان ذلك من زمن الخير مثل أن يكون قبل التفرّق عن المجلس أو في زمن خيار الشرط ، فإنّه يجوز له قبول الزيادة ، وفسخ العقد ، فإن لم يقبل الزيادة ، لم ينفسخ العقد ، قاله الشيخ(١) رحمه‌الله ؛ لأنّ العقد قد صحّ ، وهذه الزيادة مظنونة ، فلا ينفسخ بها العقد ، وهو أحد قولي الشافعي.

وقال في الآخَر : إنّه ينفسخ ؛ لأنّه مأمور بالاحتياط ، وحالة الخيار بمنزلة حال العقد ، ولو دفع إليه زيادة في حالة العقد وباع بالنقصان لم يصح بيعه وإن كان قد باع بثمن المثل ، فكذا هنا(٢) .

____________________

= حلية العلماء ٣ : ٣٧٦ ، الوجيز ٢ : ٢١٤ ، العزيز شرح الوجيز ١٢ : ١٠٩ ، روضة الطالبين ٢ : ٤١٩.

(١) الخلاف ٣ : ٢٤٥ ، المسألة ٤٥.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣١ - ٣٣٢.

٢٧٧

فلو بدا للراغب فإن كان قبل التمكّن من البيع منه ، فالبيع الأوّل بحاله. وإن كان بعده ، فقد ارتفع ذلك البيع ، فلا بدّ من بيعٍ جديد.

وقال بعض الشافعيّة : إذا بدا له ، كان البيع بحاله ، كما لو بذل الابن الطاعة لأبيه في الحجّ وجعلناه مستطيعاً به ثمّ رجع عن الطاعة قبل أن يحجّ أهل بلده ، عرفنا عدم الوجوب(١) .

ولو لم يفسح العَدْل البيعَ الأوّل وباع من الراغب ، ففي كونه فسخاً لذلك البيع ثمّ في صحّته خلاف تقدّم.

ولهم خلاف في أنّ الوكيل بالبيع لو باع ثمّ فسخ البيع هل يتمكّن من البيع مرّةً اُخرى؟(٢) .

مسألة ١٩٠ : إذا باع العَدْل الرهنَ بإذنهما ، فالثمن يكون أمانةً في يده لا ضمان عليه فيه إجماعاً ، ويكون من ضمان الراهن إلى أن يتسلّمه المرتهن ، فإن تلف في يده من غير تفريطٍ ، لم يسقط من دَيْن المرتهن شي‌ء - وبه قال الشافعي وأحمد(٣) - لأنّ العَدْل وكيل الراهن في البيع ، والثمن ملكه ، وهو أمين له في قبضه ، فإذا تلف ، كان من ضمانه ، كسائر الأُمناء.

وقال أبو حنيفة ومالك : يكون من ضمان المرتهن(٤) .

أمّا أبو حنفية فبناه على أصله من أنّ الرهن مضمون على المرتهن والثمن بدله ، فيكون مضموناً.

____________________

(١ و ٢ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٢.

(٣) حلية العلماء ٤ : ٤٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٠ ، المغني ٤ : ٤٢٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.

(٤) حلية العلماء ٤ : ٤٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٢ ، المغني ٤ : ٤٢٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.

٢٧٨

وليس بجيّد ؛ لما عرفت من أنّ الرهن أمانة.

وأمّا مالك فإنّه يقول : البيع حقّ للمرتهن ، وهو تابع لحقّه ، والثمن‌ يكون للمرتهن ، ويبرأ الراهن ببيع الرهن.

وقوله : « الثمن يكون للمرتهن » ليس بصحيح ؛ لأنّه بدل الرهن ، وإنّما تعلّق حقّ المرتهن باستيفاء الثمن منه ؛ لما روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « الرهن من راهنه »(١) بمعنى من ضمان راهنه ، وهذه عادة العرب في حذف المضاف.

ولو باع العَدْل وتلف الثمن في يده من غير تفريطٍ ثمّ خرج الرهن مستحقّاً ، فإن كان العَدْل قد أعلم المشتري أنّه وكيل الراهن ، فإنّ العهدة على الراهن ، وكذا كلّ وكيلٍ باع مالَ غيره وبه قال الشافعي وأحمد(٢) لأنّه نائبه في عقدٍ عن غيره ، فلم يلزمه الضمان ، كأمين الحاكم وسائر الوكلاء.

ولا يكون العَدْل طريقاً للضمان في أصحّ وجهي الشافعيّة ؛ لأنّه نائب الحاكم ، والحاكم لا يطالب فكذا نائبه.

والثاني : يكون طريقاً ، كالوكيل والوصي(٣) .

وقال أبو حنيفة : العهدة على الوكيل ، ويرجع على الراهن. وبنى ذلك على أنّ حقوق العهدة تتعلّق - عنده - بالوكيل(٤) .

____________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٦٠ ، الهامش (٢)

(٢) المغني ٤ : ٤٢٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٠.

(٤) بدائع الصنائع ٦ : ١٤٩ ، حلية العلماء ٤ : ٤٦١ ، المغني ٤ : ٤٢٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.

٢٧٩

وهو ممنوع على ما يأتي في الوكالة.

وقال مالك : لا عهدة على العَدْل ، ولكن يرجع المشتري على المرتهن ، ويعود دَيْنه في ذمّة الراهن كما كان ؛ لأنّ البيع وقع للمرتهن‌ بمطالبته واستحقاقه ، وكانت العهدة عليه ، كالموكّل(١) .

وقد بيّنّا أنّه نائب عن الراهن وكيلٌ له دون المرتهن.

ولو خرج مستحقّاً بعد ما دفع الثمن إلى المرتهن ، فإنّ للمشتري أن يرجع على الراهن(٢) ، وبه قال الشافعي(٣) .

وقال أبو حنيفة : يرجع على العَدْل ويرجع العَدْل على المرتهن أو على الراهن أيّهما شاء(٤) .

وإن كان المشتري ردّه عليه بعيبٍ ، لم يكن له الرجوعُ على المرتهن ؛ لأنّه قبضه بحقٍّ ، وإنّما يرجع على الراهن.

وإن كان العَدْل حين باعه لم يُعلم المشتري أنّه وكيل ، كان للمشتري الرجوعُ عليه ، ويرجع هو على الراهن إن أقرّ بذلك أو قامت به بيّنة ، وإن أنكر ذلك ، كان القولُ قولَ العَدْل مع يمينه ، فإن نكل عن اليمين ، حلف المشتري ، ويرجع عليه ، ولم يرجع هو على الراهن ؛ لأنّه مُقرٌّ بأنّه ظلمه.

مسألة ١٩١ : لو باع العَدْل وقبض الثمن ثمّ ادّعى تلفه في يده من غير تفريطٍ ، فالقول قوله مع اليمين ، ولا يكلَّف إقامة البيّنة على ذلك ؛ لأنّه أمين ، ويتعذّر عليه إقامة البيّنة على ذلك ، فإن كلّفناه البيّنة ، شقّ عليه ،

____________________

(١) حلية العلماء ٤ : ٤٦٢.

(٢) في المغني والشرح الكبير : « المرتهن » بدل « الراهن ».

(٣) المغني ٤ : ٤٢٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.

(٤) بدائع الصنائع ٦ : ١٤٩ ، المغني ٤ : ٤٢٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

غير أنّ حاجته المبرمة إلى الاجتماع و التعاون اضطرّه إلى قبول الاشتراك مع سائر أفراد نوعه في الانتفاع بالمنافع المحصّلة من الأشياء بأعمالهم المشتركة فهو و سائر الأفراد من نوعه يكونون لذلك مجتمعاً يختصّ كلّ جزء من أجزائه و كلّ طرف من أطرافه بعمل أو أعمال ثمّ ينتفع المجموع بالمجموع، و إن شئت فقل: ثمّ تقسّم نتائج الأعمال بينهم فيتمتّع كلّ واحد منهم بذلك على مقدار زنته الاجتماعيّة، و لذلك نرى أنّ الفرد من الإنسان و هو اجتماعيّ كلّما قوي و اشتدّ أبطل المدنيّة الطبعيّة و أخذ يستخدم الناس بالغلبة، و يتملّك رقابهم، و يحكم في نفوسهم و أعراضهم و أموالهم بما يقترحه.

و لأجل ذلك إذا تأمّلت تأمّلاً حرّاً في سنّتهم في استعباد الإنسان وجدت أنّهم لا يعتبرون تملّك الإنسان ما دام داخلاً في المجتمع و جزءً من أجزائه بل إمّا أن يكون الإنسان المملوك محكوماً بالخروج عن المجتمع كالعدوّ المحارب الّذي لا همّ له إلّا أن يهلك الحرث و النسل و يمحي الإنسان باسمه و رسمه فهو خارج عن مجتمع عدوّه، و له أن يهلكه بالإفناء و يتملّك منه ما يشاء لأنّ الحرمة مرفوعة، و مثله الأب بالنسبة إلى صغار أولاده و التابعين لنفسه فإنّه يرى أنّهم من توابعه في المجتمع من غير أن يكافئوه أو يماثلوه أو يوازنوه فله أن يتصرّف فيهم حتّى بالقتل و البيع و غيرهما.

و إمّا أن يكون الإنسان المالك ذا خصيصة تدعوه إلى أن يعتقد أنّه فوق المجتمع من غير أن يعادلهم في وزن أو يشاركهم في نفع بل له نفوذ الحكم، و التمتّع بصفوة ما يختار، و التصرّف في نفوسهم حتّى بالملك و الاستعباد.

فقد تبيّن أنّ الأصل الأساسيّ الّذي كان يبني عليه الإنسان سنّة الاستعباد و الاسترقاق هو حقّ الاختصاص و التملّك المطلق الّذي يعتقده الإنسان لنفسه، و أنّ الإنسان لا يستثني عنه أحداً إلّا مشاركيه في مجتمعة الإنسانيّ ممّن يعادله في الزنة الاجتماعيّة و يتحصّن منه في حصن التعاون و التعاضد، و أمّا الباقون فلا مانع عنده من تملّكهم و استعبادهم.

و عمدتهم في ذلك طوائف ثلاث: العدوّ المحارب، و الأولاد الضعفاء بالنسبة إلى

٣٦١

آبائهم و كذا النساء بالنسبة إلى أوليائهنّ، و المغلوب المستذلّ بالنسبة إلى الغالب المتعزّز.

٣- سير الاستعباد في التاريخ: سنّة الاستعباد و إن كانت مجهولة من حيث تاريخ شيوعها في المجتمع الإنسانيّ غير أنّ الأشبه أن يكون أرقّاء مأخوذين في أوّل الأمر بالقتال و التغلّب ثمّ يلحق به الأولاد و النساء، و لذلك نعثر في تاريخ الاُمم القويّة الحربيّة من القصص و الحكايات و كذا القوانين و الأحكام المربوطة بالاسترقاق بالسبي على ما لا يوجد في غيرهم.

و قد كان دائراً بين الاُمم المتمدّنة القديمة كالهند و اليونان و الرومان و إيران، و بين الملّيّين كاليهود و النصارى على ما يستفاد من التوراة و الإنجيل حتّى ظهر الإسلام فأنفذ أصله مع تضييق في دائرته و إصلاح لأحكامه المقرّرة، ثمّ آل الأمر إلى أن قرّر مؤتمر بروسل إلغاء الاستعباد قبل سبعين سنة تقريباً.

قال( فردينان توتل) في معجمه(١) لأعلام الشرق و الغرب: كان الرقّ شائعاً عند الأقدمين، و كان الرقيق يؤخذ من أسرى و سبايا الحرب و من الشعوب المغلوبة، كان للرقّ نظام معروف عند اليهود و اليونان و الرومان و العرب في الجاهليّة و الإسلام.

و قد اُلغي نظام الرقّ تدريجاً: في الهند سنة (١٨٤٣) و في المستعمرات الإفرنسيّة سنة (١٨٤٨) و في الولايات المتّحدة بعد حرب الانفصال سنة (١٨٦٥) و في البرازيل سنة (١٨٨٨) إلى أن اتّخذ مؤتمر بروسل قراراً بإلغاء الاستعباد سنة (١٨٩٠) غير أنّه لا يزال موجوداً فعلاً بين بعض القبائل في آفريقيا و آسيا.

و مبدأ إلغاء الرقّ هو تساوي البشر بالحقوق و الواجبات، انتهى.

٤- ما الّذي رآه الإسلام في ذلك؟ قسّم الإسلام الاستعباد بحسب أسبابه، و قد تقدّم أنّ عمدتها كانت ثلاثة: الحرب، و التغلّب و الولاية كالاُبوّة و نحوها فألغى سببين من الثلاثة من أصله و هما التغلّب و الولاية.

فاعتبر احترام الناس شرعاً سواءً من ملك و رعيّة و حاكم و محكوم و أمير و جنديّ‏

____________________

(١) ص ٢١٩.

٣٦٢

و مخدوم و خادم بإلغاء الامتيازات و الاختصاصات الحيويّة، و التسوية بين الأفراد في حرمة نفوسهم و أعراضهم و أموالهم، و الاعتناء بشعورهم و إرادتهم - و هو الاختيار التامّ في حدود الحقوق المحترمة - و أعمالهم و ما اكتسبوه و هو تسلّطهم على أموالهم و منافع وجودهم من الأفعال فليس لوالي الأمر في الإسلام إلّا الولاية على الناس في إجراء الحدود و الأحكام و في أطراف المصالح العامّة العائدة إلى المجتمع الدينيّ، و أمّا ما تشتهيه نفسه و ما يستحبّه لحياته الفرديّة فهو كأحد الناس لا يختصّ من بينهم بخصيصة، و لا ينفذ أمره في الكثير ممّا يهواه لنفسه و لا في القليل، و يرتفع بذلك الاسترقاق التغلّبيّ بارتفاع موضوعه.

و عدّل ولاية الآباء لأبنائهم فلهم حقّ الحضانة و الحفظ و عليهم حقّ التربية و التعليم و حفظ أموالهم ما داموا محجورين بالصغر فإذا بلغوا بالرشد فهم و آباؤهم سواء في الحقوق الاجتماعيّة الدينيّة، و هم أحرار في حياتهم، لهم الخيرة فيما رضوا لأنفسهم.

نعم اُكّدت التوصية لآبائهم عليهم بالإحسان و مراعاة حرمة التربية، قال تعالى:( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى‏ وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى‏ أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ) لقمان: ١٥ و قال تعالى:( وَ قَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ) الإسراء: ٢٤ و قد عدّ في الشرع الإسلاميّ عقوقهما من المعاصي الكبيرة الموبقة.

و أمّا النساء فقد وضع لهنّ من المكانة في المجتمع و اعتبر لهنّ من الزنة الاجتماعيّة ما لا يجوز عند العقل السليم التخطّي عنه و لو بخطوة، فصرن بذلك أحد شقّي المجتمع الإنسانيّ و قد كنّ في الدنيا محرومات من ذلك، و اُعطين زمام الازدواج و المال و قد كنّ محرومات أو غير مستقلّات في ذلك.

و شاركن الرجال في اُمور و اختصصن عنهم باُمور و اختصّ الرجال باُمور كلّ ذلك عن مراعاة تامّة لقوام وجودهنّ و تركيب بناهنّ، ثمّ سهّل عليهنّ في اُمور شقّ فيها على

٣٦٣

الرجال كأمر النفقة و حضور معارك القتال و نحو ذلك.

و قد تقدّم الكلام في ذلك كلّه تفصيلاً في أواخر سورة البقرة في الجزء الثاني من الكتاب، و في أوائل سورة النساء في الجزء الرابع منه، و تبيّن هناك أنّ النساء مختصّات في الإسلام من مزيد الإرفاق بالنسبة إلى الرجال بما لا يوجد نحوه في سائر السنن الاجتماعيّة قديمها و حديثها.

قال تعالى:( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) النساء: ٣١ و قال تعالى:( فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) البقرة: ٢٣٤ و قال تعالى:( وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) البقرة: ٢٢٨ و قال:( أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) آل عمران: ١٩٥ ثمّ جمع الجميع في بيان واحد فقال:( لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) البقرة: ٢٨٦ و قال:( وَ لا تَكْسِبُ كلّ نَفْسٍ إلّا عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏ ) الأنعام: ١٦٤ إلى غير ذلك من الآيات المطلقة الّتي تأخذ الفرد من الإنسان جزءً تامّاً كاملاً من المجتمع، و يعطيه من الاستقلال الفرديّ ما ينفصل به عن أيّ فرد آخر في نتائج أعماله من خير أو شرّ أو نفع أو ضرّ من غير أن يستثني صغيراً أو كبيراً أو ذكراً أو اُنثى.

ثمّ سوّى بينهم جميعاً في العزّة و الكرامة ثمّ ألغى كلّ عزّة و كرامة إلّا الكرامة الدينيّة المكتسبة بالتقوى و العمل فقال:( لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) المنافقون: ٨ و قال:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣.

و قد أبقى الإسلام السبب الثالث من الأسباب الثلاثة للاستعباد أعني الحرب، و هو أن يسبي الكافر المحارب لله و رسوله و المؤمنين، و أمّا اقتتال المؤمنين بعضهم مع بعض فلا سبي فيه و لا استعباد بل يقاتل الباغي من الطائفتين حتّى ينقاد لأمر الله قال تعالى:( وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‏ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) الحجرات: ١٠.

٣٦٤

و ذلك أنّ العدوّ المحارب الّذي لا همّ له إلّا أن يفني الإنسانيّة و يهلك الحرث و النسل لا ترتاب الفطرة الإنسانيّة أدنى ريب في أنّه يجب أن لا يعدّ جزءً من المجتمع الإنسانيّ الّذي له التمتّع بمزايا الحياة و التنعّم بحقوق الاجتماع، و أنّه يجب دفعه بالإفناء فما دونه، و على ذلك جرت سنّة بني آدم منذ عمّروا في الأرض إلى يومنا هذا و على ذلك ستجري.

و الإسلام لما وضع بنية المجتمع - المجتمع الدينيّ - على أساس التوحيد و حكومة الدين الإسلاميّ ألغى جزئيّة كلّ مستنكف عن التوحيد و حكومة الدين من المجتمع الإنسانيّ إلّا مع ذمّة أو عهد فكان الخارج عن الدين و حكومته و عهده خارجاً عن المجتمع الإنسانيّ لا يعامل معه إلّا معاملة غير الإنسان الّذي للإنسان أن يحرمه عن أيّ نعمة يتمتّع بها الإنسان في حياته، و يدفعه بتطهير الأرض من رجس استكباره و إفساده فهو مسلوب الحرمة عن نفسه و عمله و نتائج أيّ مسعى من مساعيه، فللجيش الإسلاميّ أن يتّخذ أسرى و يستعبد عند الغلبة.

٥- ما هو السبيل إلى الاستعباد في الإسلام؟ يتأهّب المسلمون على من يلونهم من الكفّار فيتمّون عليهم الحجّة و يدعونهم إلى كلمة الحقّ بالحكمة و الموعظة و المجادلة بالّتي هي أحسن فإن أجابوا فإخوان في الدين لهم ما للمسلمين و عليهم ما عليهم و إن أبوا إلّا الردّ فإن كانوا أهل كتاب و قبلوا الجزية تركوا و هم على ذمّتهم، و إن أخذوا عهداً كانوا أهل كتاب أم لا وفي بعهدهم، و إن لم يكن شي‏ء من ذلك اُوذنوا على سواء و قوتلوا.

يقتل منهم من شهر سيفاً و دخل المعركة و لا يقتل منهم من ألقى السلم، و لا يقتل منهم المستضعفون من الرجال و النساء و الولدان، و لا يبيّتون و لا يغتالون، و لا يقطع عنهم الماء، و لا يعذّبون و لا يمثّل بهم فيقاتلون حتّى لا تكون فتنة و يكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلّا على الظالمين.

فإذا غلبوهم و وضعت الحرب أوزارها فما تسلّط عليه المسلمون من نفوسهم و أموالهم فهو لهم و قد اشتمل تاريخ حروب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و مغازيه على صحائف غرّ متلمّعة مملوءة من السيرة العادلة الجميلة فيها لطائف الفتوّة و المروّة، و طرائف البرّ و الإحسان.

٣٦٥

٦- ما هي سيرة الإسلام في العبيد و الإماء؟ إذا استقرّت العبوديّة على من استقرّت عليه صار ملك يمين، منافع عمله لغيره و نفقته على مولاه.

و قد وصّى الإسلام أن يعامل المولى مع عبده معاملة الواحد من أهله و هو منهم فيساويهم في لوازم الحياة و حوائجها، و قد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤاكل عبيده و خدمه و يجالسهم، و لا يؤثّر نفسه عليهم في مأكل و لا ملبس و نحوهما.

و أن لا يشقّ عليهم و لا يعذّبوا و لا يسبّوا و لا يظلموا، و اُجيز أن يتزوّجوا فيما بينهم بإذن أهلهم، و أن يتزوّج بهم الأحرار، و أن يشاركوهم في الشهادات، و يساهموهم في الأعمال حال الرقّ و بعد الانعتاق.

و قد بلغ من إرفاق الإسلام في حقّهم أن شاركوا الأحرار في عامّة الاُمور، و قد قلّد جمع منهم الولاية و الإمارة و قيادة الجيش على ما يضبطه تاريخ صدر الإسلام، و يوجد بين الصحابة الكبار عدّة من الموالي كسلمان و بلال و غيرهما.

و هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعتق جاريته صفيّة بنت حيّ بن أخطب و تزوّج بها، و تزوّج جويريّة بنت الحارث بعد وقعة بني المصطلق و قد كانت بين سباياهم، و كانوا مأتي بيت بالنساء و الذراري، و صار ذلك سبباً لانعتاق الجميع، و قد مرّ إجمال القصّة في الجزء الرابع من الكتاب.

و من الضروريّ من سيرة الإسلام أنّه يقدّم العبد المتّقي على المولى الحرّ الفاسق، و إنّه يبيح للعبد أن يتملّك المال و يتمتّع بعامّة مزايا الحياة بإذن من أهله هذا إجمال من صنيع الإسلام فيهم.

ثمّ أكّد الوصيّة و ندب أجمل الندب إلى تحرير رقبتهم، و إخراجهم من ظرف الاستعباد إلى جوّ الحرّيّة و لا يزال يقلّ بذلك عددهم و يتبدّل جمعهم موالي و أحراراً لوجه الله، و لم يقنع بذلك دون أن جعل تحرير الرقبة أحد خصال الكفّارات مثل كفّارة القتل و كفّارة الإفطار، و أجاز لهم الاشتراط و الكتابة و التدبير، كلّ ذلك عناية بهم و قصداً إلى تخليصهم و إلحاقاً لهم بالمجتمع الإنسانيّ الصالح إلحاقاً تامّاً يقطع دابر الاستذلال.

٣٦٦

٧- محصّل البحث في الفصول السابقة: تحصل ممّا مرّ اُمور ثلاث:

الأوّل: أنّ الإسلام لم يأل جهداً في إلغاء أسباب الاستعباد و تقليلها و تضعيفها حتّى وقف على واحد منها لا محيص عن اعتباره بحكم الفطرة القاطع و هو جواز استعباد كلّ إنسان محارب للدين مضادّ للمجتمع الإنسانيّ غير خاضع للحقّ بوجه من وجوه الخضوع.

الثاني: أنّه استعمل جميع الوسائل الممكنة في إكرامهم - العبيد و الإماء - و تقريب شؤونهم الحيويّة من حياة أجزاء المجتمع الحرّة حتّى صاروا كأحدهم و إن لم يصيروا أحدهم، و لم يبق عليهم إلّا حجاب واحد رقيق، و هو أنّ الزائد من أعمالهم على واجب حياتهم حياة متوسّطة لمواليهم لا لهم، و إن شئت فقل: لا فاصل في الحقيقة بين الحرّ و العبد في الإسلام إلّا إذن المولى في العبد.

الثالث: أنّه احتال بكلّ حيلة مؤثّرة إلى إلحاق صنف المماليك إلى مجتمع الأحرار بالترغيب و التحريص في موارد، و بالفرض و الإيجاب في اُخرى كالكفّارات، و بالتسويغ و الإنفاذ في مثل الاشتراط و التدبير و الكتابة.

٨- سير الاستعباد في التاريخ‏: ذكروا(١) أنّ الاستعباد ظهر أوّل ما ظهر بالسبي و الأسر، و كانت القبائل قبل ذلك إذا غلبت في حروبها و مقاتلها و أخذت سبايا قتلتهم عن آخرهم ثمّ رأوا أن يتركوهم أحياءً و يتملّكوهم كسائر الغنائم الحربيّة لا لينتفعوا بأعمالهم بل إحساناً في حقّهم و حفظاً للنوع و احتراماً للقوانين الأخلاقيّة الّتي ظهرت فيهم بالترقّي في صراط المدنيّة شيئاً بعد شي‏ء.

و إنّما ظهرت هذه السنّة بين القبائل بعد ما ارتحلت عنهم طريقة الارتزاق لاصطياد إذ لم تكن لهم فيها من السعة ما يسوّغ لهم الإنفاق على العبيد و الإماء حتّى انتقلوا إلى عيشة النزول و الارتحال و تمكّنوا من ذلك.

و بشيوع الاستعباد بين القبائل و الاُمم على أيّ وتيرة كانت تحوّلت حياة الإنسان الاجتماعيّة بظهور جهات من الانتظام و الانضباط في المجتمعات أوّلاً و تقسيم الأعمال ثانياً.

____________________

(١) مأخوذ من ١- دائرة المعارف: المذهب و الأخلاق تأليف جان هيسينيك طبعة بريطانية، ٢- مجمل التاريخ تأليف ه. ج. ولز طبعة بريطانية، ٣- روح القوانين تأليف مونيسكيو طبعة طهران.

٣٦٧

و لم يكن الاستعباد إذ كان دائراً في الدنيا على وتيرة واحدة في أقطار المعمورة فلم يستنّ في بعض المناطق أصلاً كاُوستراليا و آسيا المركزيّة و سيبريا و أميركا الشماليّة و إسكيمو و بعض المناطق بإفريقيا بشمال النيل و جنوب رامبيز.

و بالعكس كان رائجاً في جزيرة العرب و إفريقيا الوحشيّة و اُوروبه و أميركا الجنوبيّة و كان دائراً بين اليهود، و في التوراة دعاء العبيد إلى طاعة مواليهم، و كذا بين النصارى و في كتاب بولس إلى فيلمن أنّ إفسيموس كان عبداً شارداً ردّه بولس إلى سيّده.

و كانت اليهود أرفق الناس بعبيدهم، و من الشواهد على ذلك أنّا لم نعثر لهم من شواهق الأبنية على ما يشبه الأهرام المعمولة بمصر و الأبنية الآشوريّة التاريخيّة فإنّها كانت من أعمال العبيد الشاقّة، و كانت الروم و اليونان أكثر الاُمم تشديداً على العبيد.

و قد ذاع في الروم الشرقيّ بعد قسطنطين فكر التحرير حتّى لغى الرقّ فيها في القرن ١٣ الميلاديّ، و بقي في الروم الغربيّ على شكل آخر و هو أنّهم كانوا يبيعون و يشترون المزارع بزرّاعها - و كانت الزراعة من مشاغل العبيد - لكن لغت بينهم الأعمال الإجباريّة.

و كان الاستعباد دائراً في معظم ممالك اُوروبه إلى سنة ١٧٧٢ الميلاديّة و قد انعقدت قبل ذلك بحين معاهدة بين الدولتين إنجلترا و إسبانيا على أن يجبي الإنجليز إليهم كلّ سنة أربعة آلاف و ثمان مائة نسمة من رقيق إفريقيا إلى ثلاثين سنة ليبيعهم منهم قبال مبالغ خطيرة يأخذها منهم.

و قد ثارت الأفكار العامّة سنة ١٧٦١ على الرقّ و الاستعباد بينهم، و أقدم الطوائف الّتي قامت عليه منهم طائفة( لرزان) (١) المذهبيّة، و لم يزالوا على ذلك حتّى وضعت مادّة قانونيّة سنة ١٧٧٢ أنّ كلّ من دخل أرض بريطانيا فهو حرّ.

و قد ظهر سنة ١٧٨٨ بعد بحث دقيق أنّ إنجلترا يعامل كلّ سنة مأتي ألف نسمة رقيقاً، و كان الّذين يجلبون منهم من إفريقيا إلى أميركا وحدها مائة ألف.

و لم يزل حتّى ألغي الاستعباد في بريطانيا سنة ١٨٣٣ و أدّت الدولة إلى كمبانيّات

____________________

(١). Quaker

٣٦٨

النخس عشرين ميليوناً ليرة أثمان من حرّرته من رقيقهم العبيد و الإماء، و انعتق في هذه الواقعة فيها (٧٧٠٣٨٠) نسمة.

و لغي الاستعباد في أميركا سنة ١٨٦٢ بعد مجاهدات شديدة تحمّلتها أهالي أميركا و قد كان شمال هذه المملكة و جنوبها مختلفين في أخذ الرقيق: أمّا أميركا الشماليّة فإنّما كانت تأخذ العبيد و الإماء للتجمّل فحسب، و أمّا الجنوبيّة فكان معظم الأشغال فيها شغل الزراعة و الحرث، و كانوا في حاجة شديدة إلى كثرة الأيدي العمّالة فكانوا يأخذون الأرقّاء استثماراً بأعمالهم، و لذلك كانوا يتحرّجون من قبول التحرير العامّ.

و لم يزل الاستعباد يلغى في مملكة بعد مملكة حتّى انعقد قرار بروسل سنة (١٨٩٠) الميلاديّة على إلغاء سنّة الاستعباد، و أمضاها الدول و اُجريت في الممالك، و لغت العبوديّة في الدنيا، و انعتقت بذلك الملايين من النسمات، انتهى ما ذكروه ملخّصاً.

و أنت تجد بثاقب نظرك أنّ هذه المجاهدة الطويلة و المشاجرة ثمّ ما وضع من قوانين الإلغاء و اُنفذ من الحكم كلّ ذلك إنّما كان يدور حول الاسترقاق من طريق الولاية أو التغلّب كما يشهد به أنّ جلّ الأرقّاء أو كلّهم كانوا يجلبون من نواحي إفريقيا المعمول فيها ذلك، و أمّا الاسترقاق من طريق السبي الحربيّ الّذي أنفذ الإسلام فلم يكن مورداً للبحث قطّ.

٩- نظرة في بنائهم: هذه الحرّيّة الفطريّة الّتي نسمّيها بالحرّيّة الموهوبة للإنسان (و لسنا ندري ما هو السبب الّذي يسلبها عن سائر أنواع الحيوان و هي تماثل الإنسان في الشعور النفسانيّ و الإرادة الباعثة؟ غير أن نقول إنّ الإنسان هو الّذي يسلبها ذلك لينتفع بها) لا تتفرّع على أصل إلّا على أنّ الإنسان مجهّز بشعور باطنيّ يميّز له ما يلتذّ به و ما يتألّم به ثمّ بإرادة تبعثه إلى جذب ما يلذّه و دفع ما يؤلمه فكان له أن يختار لنفسه ما يشاء.

و لم يتقيّد الشعور الإنسانيّ بأن يتعلّق بشي‏ء و لا يتعلّق بآخر كأن لا يشعر الإنسان الضعيف المستذلّ بما يشعر به الإنسان القويّ المتعزّز، و لا تحدّدت الإرادة الإنسانيّة بحدّ يمنعها عن التعلّق ببعض ما يستحبّه أو يجبرها على التعلّق بما تعلّقت به إرادة غيره لتنطلق لنفع

٣٦٩

غيره و تنسى نفسها، فالإنسان الضعيف المغلوب يريد لنفسه نظائر جميع ما يريده الإنسان الّذي غلبه و قهره لنفسه، و لا رابطة طبيعيّة بين إرادة الضعيف و إرادة القويّ تجبر إرادة الضعيف على أن لا تتعلّق بما تعلّقت به إرادة القويّ، أو تفنى في إرادة القويّ فتعود الإرادتان إرادة واحدة تجري لنفع القويّ، أو تتّبع الإرادة اتّباعاً يسلبها الاستقلال.

و إذ كان كذلك و كان من حقّ قوانين الحياة أن تبتني على أساس البنية الطبيعيّة كان من الواجب أن يعيش الإنسان حرّاً في نفسه و حرّاً في عمله، و من هذا الثدي يرتضع إلغاء الاستعباد.

لكن ينبغي لنا أن نتأمّل هذه الحرّيّة الموهوبة للإنسان هل هي في المجتمع الإنسانيّ على إطلاقها منذ ولدت و عاشت في البنى الإنسانيّة؟.

فلم يزل النوع الإنسانيّ - فيما نعلم - يعيش في حال الاجتماع و لا يسعه بحسب جهازه الوجوديّ إلّا ذلك، و من المحال أن يدوم مجتمع في حال الاجتماع و لو حيناً مّا إلّا مع سنّة مشتركة بين أفراد المجتمع سواء كانت سنّة عادلة تعقّليّة أو سنّة جائرة أو مجازفة أو بأيّ وصف اتّصفت، و هذه السنّة كيفما كانت تحدّد الحرّيّة الفرديّة.

على أنّ الإنسان لا يتأتّى له أن يعيش إلّا مع تصرّف مّا في المادّة يضمن له البقاء و لا يتأتّى له ذلك إلّا بأن يختصّ بما يتصرّف فيه نوعاً من الاختصاص الّذي نسمّيه بالملك - أعمّ من الحقّ و الملك المصطلح عليه - فالّذي يلبسه هذا حين يلبس لا يسع لذاك أن يلبسه و الّذي يأكله فرد أو يشربه أو يشغله بالتمكّن فيه لا يمكن لغيره أن يستقلّ به، و ليس ذلك إلّا تحديداً لغير المتصرّف في إطلاق إرادته، و تقييداً لحرّيّته.

و لم يزل الاختلاف يلازم هذا النوع منذ سكن الأرض فلم يمض على هؤلاء الأفراد المنتشرة في رحب الأرض يوم إلّا و تطلع فيه الشمس على اختلافات، و تغيب عن اختلافات تسير بهم إلى فناء نفوس و ضيعة أعراض و انتهاب أموال، و لو كان الإنسان يرى لنفسه - أي للإنسانيّة - حرّيّة مطلقة لم يكن لهذه الاختلافات بينهم أثر.

و سنّة المجازاة و المؤاخذة لم تزل دائرة معمولة بين المجتمعات المتنوّعة مدنيّة كانت

٣٧٠

أو همجيّة، و لا معنى للمجازاة إلّا أن يملك المجتمع من الإنسان المجرم بعض ما وهبه له الخلقة من النعم، و أن يسلب عنه بعض الحرّيّة فلو لا أنّ المجتمع أو من بيده الأمر في المجتمع يملك من المجرم القاتل المحكوم بالقصاص حياته لما وسعه أن يسلبها عنه، و لو لا أنّ الآثم المأخوذ بإثمه المؤاخذ بأنواع التعذيب و النكاية كالقطع و الضرب و الحبس و غيره ذلك يملك الحكم و الإجراء منه ما يسلبه من شؤون الحياة أو الراحة أو السلطة الماليّة لما صحّ ذلك، و كيف يصحّ منع الجائر المتعدّي أن يجور و يتعدّى و لا الذبّ عن حريم نفس أو عرض أو مال إلّا مع سلب بعض حرّيّة المتغلّب الممنوع؟.

و بالجملة فممّا لا يشكّ فيه ذو مسكة أنّ بقاء الحرّيّة الإنسانيّة على إطلاقها في المجتمع الإنسانيّ و لو لحظة يوجب اختلال النظام الاجتماعيّ من وقته فهذا الاجتماع الّذي هو أيضاً فطريّ للإنسان و لا يعيش بدونه هو يقيّد إطلاق الحرّيّة الفطريّة الّتي وهبته للإنسان إرادته و شعوره الغريزيّان فلا يتأتّى لمجتمع إنسانيّ أن يعيش إلّا مع تقييد ما لإطلاق الحرّيّة كما لا يتأتّى له أن يعيش مع بطلان الحرّيّة من أصلها، و لم يزل المجتمع الإنسانيّ يحفظ بين الحدّين هذه الحرّيّة الّتي يخيّل لنا من كثرة التبليغات الغربيّة أنّهم هم الّذين خلقوا اسمها بعد ما اخترعوا معناها، و حفظوها على إطلاقها.

فهذا الاجتماع الفطريّ هو الّذي يقيّد تلك الحرّيّة الفطريّة و يحدّدها على حدّ تقييد القوى الطبيعيّة البدنيّة و غير البدنيّة بعضها بعضاً فيقف البعض عن الفعل اعتناءً بشأن بعض آخر يزامله كقوّة الإبصار الّتي هي مبدأ للإبصار على الإطلاق تفعل فعلها حتّى تكلّ لامسة العين أو تتعب القوّة المفكّرة فتقف الباصرة عن فعلها تقيّداً بفعل مزاملها، و الذائقة تلتذّ بالتقام الغذاء اللذيذ و ازدراده و بلعه حتّى تكلّ عضلات الفكّ فتقيّد الذائقة فتكفّ عن مشتهاها.

فالاجتماع الفطريّ لا يتمّ للإنسان إلّا بأن يجود ببعض حرّيّته في العمل و استرساله في التمتّع.

١٠- ما مقدار التحديد: و أمّا المقدار الّذي تحدّد به الحرّيّة الموهوبة من قبل الاجتماع الفطريّ و يتقيّد به إطلاقها الفطريّ فهو يختلف باختلاف المجتمعات الإنسانيّة

٣٧١

بحسب كثرة القوانين الدائرة المعتبرة في المجتمع و قلّتها فإنّ المقيّد للحرّيّة بعد أصل الاجتماع إنّما هو القانون المجرى بين الناس فكلّما زادت القوانين و دقّت في رقوب أعمالهم زاد الحرمان من الحرّيّة و الاسترسال و كلّما نقصت نقص.

لكنّ الّذي لا مناص عنه في أيّ اجتماع لأيّ مجتمع فرض، و الواجب الّذي ليس في وسع الإنسان الاجتماعيّ أن يستهين به و يتساهل في أمره: هو حفظ وجود الاجتماع و كونه إذ لا حياة للإنسان دونه، و حفظ السنن الدائرة و القوانين الجارية فيه من النقص و الانتقاض، و لذلك لست تجد مجتمعاً من المجتمعات البشريّة إلّا و فيه جهة دفاعيّة تذبّ عن النفوس و الذراري و تقيهم من الفناء و الهلاك، و وليّ يلي أمرهم و يحفظ السنّة الجارية و العادات الدائرة المحترمة بينهم من الانتقاض ببسط الأمن الاجتماعيّ، و سياسة المتعدّي الجائر، و الموجود من التاريخ يصدّق ذلك أيضاً.

و إذا كان كذلك فأوّل حقّ مشروع للمجتمع في شريعة الفطرة أن يسلب الحرّيّة عن عدوّ المجتمع في أصل اجتماعه، و إن شئت فقل: أن يملك من عدوّه المبيد لحياته المفسد لحرثه و نسله نفسه و عمله و يذهب بحرّيّة إرادته بما يشاء من قتل فما دونه، و أن يسلب عن عدوّ السنّة و القانون حرّيّة العمل و الاسترسال في النقض، و يملك منه ما يفقده بالمجازاة من نفس أو مال أو غيرهما.

و كيف يسع الإنسان - حتّى الإنسان الفرد - أن يذعن بحرّيّة عدوّ لا لحياة مجتمعة يحترم فيؤاخيه و يشاركه و يمتزج به، و لا عن إبادة مجتمعة و إفنائه يغمض فيتركهم و شأنهم؟ و هل الجمع بين العناية الفطريّة بالاجتماع و بين ترك هذا العدوّ و حرّيّته في العمل إلّا جمعاً بين المتناقضين صريحاً و سفهاً أو جنوناً؟.

فتبيّن ممّا مرّ أوّلاً: أنّ البناء على إطلاق حرّيّة الإنسان أمر مخالف لصريح الحقّ الفطريّ المشروع للإنسان الّذي هو من أوّل الحقوق الفطريّة المشروعة.

و ثانياً: أنّ حقّ الاستعباد الّذي اعتبره الإسلام هو المطابق لشريعة الفطرة، و هو أن يستعبد أعداء الدين الحقّ المحاربين للمجتمع الإسلاميّ فيسلب عنهم حرّيّة العمل، و يجلبوا إلى داخل المجتمع الدينيّ و يكلّفوا بأن يعيشوا في زيّ العبوديّة حتّى يتربّوا

٣٧٢

بالتربية الصالحة الدينيّة، و ينعتقوا تدريجاً، و يلتحقوا بالمجتمع الحرّ سالمين غانمين، و لوليّ الأمر أن يشتريهم و يعتقهم عن آخرهم إن رأى صلاح المجتمع الدينيّ في ذلك، أو يسلك في ذلك طريقاً آخر لا ينتسخ بذلك الأحكام الإلهيّة.

١١- إلى م آل أمر الإلغاء؟: أجرت الدول المعظّمة قرار مؤتمر بروسل و منعوا بيع الرقيق أشدّ المنع و انعتقت الإماء و العبيد فلا يصطفّون اليوم في دكاك النخّاسين و لا يساقون سوق الأغنام، و تبع ذلك أن انتسخ اتّخاذ الخصيان، و لا يكاد يوجد اليوم من هؤلاء و اُولئك و لو نماذج قليلة إلّا ما ربّما يذكر من أمر الأقوام الهمجيّة.

لكنّ هذا المقدار أعني ارتفاع اسم الاستعباد و الاسترقاق من الألسنة و غيبة المسمّين بهذا الاسم عن الأنظار هل يقنع الباحث الناقد في هذه المسألة؟ أ و ليس يسأل أنّ هذه المسألة هل هي مسألة لفظيّة يجزي فيها المنع من أن يذكر الاسم، و يكفي في إجرائها أن يسمّى العبد حرّاً و إن سلب منافع عمله و تبع غيره في إرادته، أو أنّ المسألة معنويّة يراعى فيها حال المعنى بحسب حقيقته و آثاره الخارجيّة؟.

فهاتيك الحرب العالميّة الثانية لم يمض عليها إلّا بضع عشرة سنة حمّلت الدول الفاتحة على عدوّها المغلوب التسليم بلا شرط ثمّ احتلّوا بلادهم، و أخذوا ملايين من أموالهم، و تحكّموا على نفوسهم و ذراريهم، و نقلوا الملايين من اُسراهم إلى داخل مملكتهم يستعملونهم فيما شاؤا و كيف شاؤا، و الأمر يجري على ذلك حتّى اليوم.

فليت شعري هل للاستعباد مصداق ليس به و إن منع من إطلاق لفظه؟ و هل له معنى إلّا سلب إطلاق الحرّيّة، و تملّك الإرادة و العمل، و إنفاذ القويّ المتعزّز حكمه في الضعيف المستذلّ كيف شاء و أراد عدلاً أو ظلماً؟.

فيا لله العجب يسمّي حكم الإسلام بنظير الحكم على أصلح وجه يمكن استعباداً و لا يسمّى حكمهم بذلك، و الإسلام يأخذ فيه بأسهل الوجوه و أخفّها و هم يأخذون بأشقّها و أعنفها، فقد رأينا محبّتهم و صداقتهم حينما احتلّوا بلادنا تحت عنوان المحبّة و الحماية و الوقاية، فكيف حال من استعلوا عليه بالعداوة و النكاية؟.

و من هنا يظهر أنّ قرار الإلغاء لم يكن إلّا لعباً سياسيّاً هو في الحقيقة أخذ في

٣٧٣

صورة الردّ، أمّا الاستعباد عن حرب و قتال فقد أنفذه الإسلام و أنفذوه عملاً و إن منعوا عن التلفّظ باسمه لساناً، و أمّا الاستعباد من طريق بيع الآباء أبناءهم الّذي منعوه فقد كان الإسلام منعه من قبل، و أمّا الاستعباد من طريق الغلبة و السلطة الحكميّة فقد منعه الإسلام من قبل، و أمّا هؤلاء فقد أجمعوا على منعه لكن هل توقّف المنع في مرحلة اللفظ كنظيره أو تعدّاها إلى مرحلة المعنى و وافقه العمل؟!.

يمكنك أن تستخرج الجواب لهذا السؤال بإمرار النظر في تاريخ الاستعمارات الاُروبيّة في آسيا و إفريقيا و أميركا، و الفجائع الّتي ارتكبوها، و الدماء و الأعراض و الأموال الّتي أهرقوها و استباحوها و نهبوها، و التحكّمات الّتي أتوا بها و ليس بالواحد و المائة و الألف.

ليس يلزمك أن تسلك هذا السبيل على بعدها - إن كان بعيداً - فقد يجزيك أن تتأمّل أخبار ما يقاسيه أهل الجزائر من فرنسا منذ سنين من إبادة النفوس و تخريب البلاد و التشديد على أهله، و ما تلقاه الممالك العربيّة من الإنجليز، و ما يتحمّله السودان و الحمر في أميركا، و الاُوروبة الشرقيّة من الجمهوريّات الاشتراكيّة، و ما نكابده نحن من أيدي هؤلاء و اُولئك، كلّ ذلك في لفظه نصح و إشفاق، و في معناه استعباد و استرقاق!.

فظهر من جميع ما مرّ أنّهم أخذوا في مرحلة العمل بما شرعه الإسلام من إباحة و سلب إطلاق الحرّيّة عند وجود سببها الفطريّ الّذي هو حرب من يريد هدم المجتمع و إهلاك الإنسانيّة، و هو حكم مشروع في شريعة الفطرة له أصل واقعيّ لا يتغيّر و هو حاجة الإنسانيّة في بقائها إلى دفع ما يطاردها وجوداً و يناقضها بقاءً ثمّ أصل اجتماعيّ عقلائيّ لا يتبدّل متفرّع على أصله الواقعيّ و هو وجوب حفظ المجتمع الإنسانيّ عن الانعدام و الانهدام.

فهذا هو الّذي راموه في عملهم و أخذوه معنى و أنكروه اسماً غير أنّهم تعدّوا هذا القسم المشروع إلى غيره غير المشروع و هو الاستعباد بسبب الغلبة و السلطة فلا يزالون يستعبدون الاُلوف و الملايين قبل حديث الإلغاء و بعده، و يبيعون و يشترون و يهبون و يعيرون إلّا أنّهم لا يسمّون ذلك استعباداً، و إنّما يسمّى استعماراً أو استملاكاً أو قيمومة أو حماية

٣٧٤

أو عناية و إعانة أو غير ذلك من الألفاظ الّتي لا يراد بشي‏ء منها إلّا أن يكون سترة على معنى الاستعباد، و كلّما خلق أو خرق شي‏ء منها رمي به و جي‏ء بآخر.

و لم يبق ممّا نسخه قرار بروسل و لا يزال يقرع به أسماع الدنيا و أهلها و يتباهى به الدول المتمدّنة الّذين هم رواد المدنيّة الراقية، و بأيديهم راية الحرّيّة الإنسانيّة إلّا الاستعباد من طريق بيع الأبناء و البنات و الإخصاء و لا فائدة هامّة فيه تعود إليهم مع كونه أشبه بالمسألة الفرديّة منه بالمسألة الاجتماعيّة، و نسخه مع ذلك حجّة لفظيّة تبليغيّة بأيديهم كسائر حججهم الّتي لا تعدو مقام اللّفظ و تؤثّر أثر المعنى.

نعم يبقى هناك محلّ بحث آخر و هو أنّ الإسلام يبدأ في غنائمه الحربيّة من رقيق أو مال غير الأرض المفتوحة عنوة بالأفراد من مجتمعة فيقسّمها بينهم ثمّ ينتهي إلى الدولة على ما سير به في صدر الإسلام و هؤلاء يحفظون الاستفادة منها حقّاً موقوفاً على الدولة، و هذه مسألة اُخرى غير مسألة أصل الاسترقاق لعلّنا نوفّق لاستقصاء البحث عنها فيما سيأتي إن شاء الله من الكلام في آيات الزكاة و الخمس و الله المستعان.

و بعد ذلك كلّه نعود إلى كلمة صاحب معجم الأعلام المنقولة سابقاً:( مبدأ إلغاء الرقّ هو تساوي البشر في الحقوق و الواجبات) فما معنى تساوي البشر في الحقوق إلخ، فإن اُريد به تساويهم في استحقاق ما لهم من الحقوق الواجبة مراعاتها و إن كانت نفس تلك الحقوق مختلفة غير متساوية البتّة كاختلاف الرئيس و المرؤس و الحاكم و المحكوم و الآمر و المأمور و المطيع للقانون و المتخلّف عنه و العادل و الظالم من جهة اختلافهم في الزنة الاجتماعيّة.

فهو كذلك لكنّه لا يستلزم التسوية بين من هو جزء شريف نافع في المجتمع و بين من ليس في صلاحيته أن ينضمّ إلى المجتمع و لا كرامة، و إنّما هو كالسمّ المهلك الّذي أينما حلّ أبطل الحياة فإنّ من الحكم الفطريّ الصريح أن يفرّق بينهما بإعطاء الحرّيّة الكاملة للأوّل، و سلبها عن الثاني فلا حقّ للعدوّ على عدوّه فيما يعاديه، و لا واجب للذئب في ذمّة الغنم و لا للأسد على فريسته.

و إن اُريد به أنّ الإنسانيّة لما كانت مشتركة بين أفراد الإنسان و كان في قوّة

٣٧٥

الفرد من الإنسان كائناً من كان أن يرقى في المدنيّة و ينال من السعادة ما يناله الآخر كان من حقّ الإنسانيّة على المجتمع الراقي أن يجود بالحرّيّة على كلّ إنسان و يربّيه حتّى يلحق المجتمع الصالح.

فلذلك حقّ لكن ربّما كان من شرائط التربية أن يسلب المربّي حرّيّة الإرادة و العمل حيناً حتّى تتمّ التربية، و يتبصّر النفس المربّاة في استعمال إرادتها، و تتنعّم بنعمة حرّيّتها كما يعالج المريض بما يسوؤه و يربّى الصغير بما يتحرّج منه، و هذا هو الّذي يراه الإسلام من سلب حرّيّة الإرادة و العمل عن الاُمّة الكافرة المحاربة، و اجتلابهم إلى داخل المجتمع الدينيّ، و تربيتهم فيها، و تخليصهم تدريجاً إلى ساحة الحرّيّة فإنّ السلوك سلوك اجتماعيّ ينبغي أن ينظر إليه و إلى نتيجته و أثره بنظر عامّ كلّيّ، و ليس بأمر فرديّ ينظر إليه بنظر فرديّ جزئيّ، ثمّ من العجب أنّ هؤلاء أيضاً يجرون عملاً بما جرت عليه السيرة الإسلاميّة و إن خالفوه في التسمية و حسن النيّة كما تقدّم بيانه.

و إن اُريد به أنّ من حقّ الحرّيّة الإنسانيّة أن تطّرد في الجميع و يخلّى بين كلّ إنسان و إرادته المطلقة.

فمن الواضح الّذي لا مرية فيه أنّ ذلك غير جائز التسليم و لا ميسور العمل على إطلاقه و خاصّة في الخصم المحارب و هو المورد الوحيد الّذي يعتني به الإسلام في سلب إطلاق الحرّيّة.

ثمّ لو كان هذا حقّاً لم يكن فيه فرق بين الواحد و الاثنين و بين الجماعة فما بالهم يسلّمون للواحد من الحرّيّة القانونيّة حتّى مثل( الانتحار) و للاثنين مثل( دئل) و لا يسلّمون لطائفة مساكين من أبناء نوعهم أن ينعزلوا في ملجأ أو مغارات و يشتغلوا بأنفسهم و يأكلوا رزق ربّهم و يسلكوا سبيل حياتهم؟.

بقي هنا شي‏ء و هو أنّه ربّما قال القائل: ما بال الإسلام لم يشرّع للرقيق تملّك المال حتّى يستعين به على حوائجه الضروريّة من غير أن يكون كلّاً على مولاه؟ و ما باله لم يحدّد الرقّ بالإسلام حتّى ينعتق العبد بالإسلام و ينمحي عنه لوث المحروميّة اللازمة له و لأعقابه إلى يوم القيامة.

٣٧٦

لكن ينبغي أن يتنبّه هذا القائل إلى أنّ الحكم باستقرار الرقّ و الحرمان من تملّك المال إنّما ظهوره و وقوعه بحسب نظر التشريع في أوّل زمان الاستيلاء عليه، و حكم الفطرة عليهم - و هم الأعداء المحاربون - بجواز سلب الحرّيّة إنّما هو لإبطال كيدهم و سلب قوّتهم على المقاومة لهدم الاجتماع الدينيّ الصالح، و لا قوّة و لا قدرة إلّا بالملك فإذا لم يملكوا عملاً و لا نتاج عمل لم يقووا على المخاصمة و المحاربة.

نعم أجاز الإسلام لهم أن يتملّكوا في الجملة بتمليك الموالي، و هذا ملك في طول ملك، و ليس فيه محذور الاستقلال بالتصرّف.

و أمّا تحديد رقّهم بالإيمان فهو أمر يبطل السياسة الدينيّة في حفظ بيضة الإسلام و إقامة المجتمع الدينيّ على ساقه و بسط التربية الدينيّة على هؤلاء المحاربين المستعلى عليهم بالعدّة و القوّة، و لو لا ذلك لدخلوا في ظاهر الدين بمجرّد أن استقرّت عليهم سيطرة الدين، و ضربت عليهم بذلّة العبوديّة فحفظوا بذلك عدّتهم و قوّتهم ثمّ عادوا لما نهوا عنه.

و ليرجع في ذلك إلى السنّة الجارية بين الاُمم و الأقوام من يومنا هذا إلى أقدم العهود الّتي يستطاع العثور فيها على تاريخ الإنسانيّة فالاُمّتان أو القبيلتان إذا تحاربتا و تقاتلتا ثمّ غلبت إحداهما الاُخرى و استعلت عليها فإنّها ترى من حقّها المشروع لها في الحرب أن تضع في عدوّها السيف حتّى يسلّم لها الأمر تسليماً مطلقاً من غير شرط.

و ليست ترضى من التسليم بمجرّد أن تضع الاُمّة المقاتلة المغلوبة أسلحتها على الأرض فتتركهم و ما يريدون بل بالتسليم لأمر الاُمّة الغالبة، و الخضوع التامّ لما تحكم فيهم، و ترى لهم أو عليهم، و تتصرّف في نفوسهم و أموالهم.

و من سفه الرأي أن تقيّد هذه السيطرة بقيد يفسد أثر هذا التسليم المطلق، و يبطل حكمه، و يمهّد الطريق للعدوّ في الرجوع إلى كيده و مكره، و يجدّد له رجاء العود إلى ما بدأ، و كيف يسوغ للاُمّة الغالبة ذلك و قد فدت عن استقلال مجتمعها المقدّس عندها بالنفوس و الأموال؟ و هل ذلك إلّا ظلماً لنفسها و استهانة بأعزّ ما عندها، و تبذيراً للدماء و الأموال و المساعي؟.

٣٧٧

و ليس لمعترض أن يعترض على اُمّة غالبة غلبت بتضحية النفوس و الأموال فضربت على عدوّها بالذلّة و المسكنة، و حفظهم على حالة الرقّ: بأنّ رجالهم قاتلوا و قتلوا و أفسدوا فأخذوا بالأسر و جوزوا بسلب الحرّيّة على ما يبيحه الحقّ المشروع للمحارب على محاربه فما ذنب الأصاغر من الذراري المتولّدين بعد ذلك، و لم يحملوا سلاحاً، و لا سلّوا سيفاً، و لا دخلوا معركة؟ و ذلك أنّهم ضحايا آبائهم.

بعد ذلك كلّه لا ينبغي أن ينسى أنّ للحكومة الإسلاميّة أن يحتال في انعتاق الرقيق بشراء و عتق و نحو ذلك إذا أحرزت أنّ الأصلح بحال المجتمع الإسلاميّ ذلك و الله أعلم.

( كلام في المجازاة و العفو في فصول)

١- ما معنى الجزاء؟: لا يخلو أيّ مجتمع من المجتمعات من تكاليف اجتماعيّة على أجزائه أن يحترموها فلا همّ للمجتمع إلّا أن يوافق بين أعمال الأفراد و يقرّب بعضها من بعض، و يربط جانباً منها بجانب حتّى تأتلف و تجتمع و ترفع بآثارها و نتائجها حوائج الأفراد بمقدار ما يستحقّه كلّ واحد بعمله و سعيه.

و هذه التكاليف لما كانت متعلّقة باُمور اختياريّة يسع الإنسان أخذها و تركها، و هي بعينها لا تتمّ إلّا مع سلب ما لحرّيّة الإنسان في إرادته و عمله لم يمتنع أن يتخلّف عنها أو عن بعضها الإنسان المتمائل بطبعه إلى الاسترسال و إطلاق الحرّيّة.

و التنبّه إلى هذا النقص في التكاليف و الفتور في بني القوانين هو الّذي بعث الإنسان الاجتماعيّ على أن يتمّم نقصها و يحكم فتورها بأمر آخر، و هو أن يضمّ إلى مخالفتها و التخلّف عنها اُموراً يكرهها الإنسان المكلّف فيدعوه ذلك إلى طاعة التكليف الّذي يكلّف به حذراً من أن يحلّ به ما يكرهه و يتضرّر به.

و هذا هو جزاء السيّئة، و هو حقّ للمجتمع أو لوليّ الأمر على المتخلّف العاصي، و له نظير في جانب طاعة التكاليف فمن الممكن أن يوضع للمطيع الممتثل بإزاء عمله بالتكليف

٣٧٨

أمر يؤثره و يحبّه ليكون ذلك داعياً يدعوه إلى إتيان الواجب أو المطلوب مطلقاً من التكاليف، و هو حقّ للمكلّف المطيع على المجتمع أو لوليّ الأمر، و هذا هو جزاء الحسنة، و ربّما يسمّى جزاء السيّئة عقاباً و جزاء الحسنة ثواباً.

و على هذه الوتيرة يجري حكم الشريعة الإلهيّة قال تعالى:( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) يونس: ٢٦ و قال تعالى:( وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ) يونس: ٢٧ و قال:( وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) الشورى: ٤٠.

و للعقاب و الثواب عرض عريض آخذاً من الاستكراه و الاستحسان و الذمّ و المدح إلى آخر ما يتعلّق به القدرة من الشرّ و الخير و يرتبطان في ذلك بعوامل مختلفة من خصوصيّات الفعل و الفاعل و ولي التكليف و مقدار الضرر و النفع العائدين إلى المجتمع، و لعلّه يجمع الجميع أنّ العمل كلّما زاد الاهتمام بأمره زاد عقاباً في صورة المعصية و ثواباً في صورة الطاعة.

و يعتبر بين العمل و بين جزائه - كيف كان - نوع من المماثلة و المسانخة و لو تقريباً، و على ذلك يجري كلامه تعالى أيضاً كما هو ظاهر أمثال قوله تعالى:( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) النجم: ٣١ و أوضح منه قوله تعالى و قد حكاه عن صحف إبراهيم و موسىعليهما‌السلام :( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏، وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى‏، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) النجم: ٤١.

و هذا فيما شرعه الله في أمر القصاص أظهر، قال تعالى:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى‏ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى‏ بِالْأُنْثى‏ ) البقرة: ١٧٨ و قال:( الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللهَ ) البقرة: ١٩٤.

و لازم هذه المماثلة و المسانخة أن يعود العقاب أو الثواب إلى نفس العامل بمثل ما عمل بمعنى أنّه إذا عصى حكماً اجتماعيّاً مثلاً فإنّما تمتّع لنفسه بما يضرّ المجتمع أي بما يفسد تمتّعاً من تمتّعات المجتمع فينقص من تمتّعاته في نفسه ما يعادل ذلك من نفسه أو بدنه أو ماله أو جاهه أو نحو ذلك ممّا يعود بوجه إليه.

٣٧٩

و هذا هو الّذي أومأنا إليه في البحث عن معنى الاستعباد أنّ المجتمع أو من يلي أمره يملك من المجرم نفسه أو شأناً من شؤون نفسه يعادل الجرم الّذي اجترمه و نقيصة الضرر الّذي أوقعه على المجتمع فيعاقب بذلك أي يتصرّف المجتمع أو وليّ الأمر استناداً إلى هذا الملك - و هو الحقّ - في حياة المجرم أو شأن من شؤون حياته، و يسلب حرّيّته في ذلك.

فلو قتل نفساً مثلاً بغير نفس أو فساد في الأرض في المجتمع الإسلاميّ ملك وليّ الأمر من المجرم نفسه حيث نقصهم نفساً محترمة، و حدّه الّذي هو القتل تصرّف في نفسه عن الملك الّذي ملّكه، و لو سرق ما يبلغ ربع دينار من حرز فقد أضرّ بالمجتمع بهتك ستر من أستار الأمن العامّ الّذي أسدلته يد الشريعة و حفظته يد الأمانة، و حدّها الّذي هو القطع ليس حقيقته إلّا أنّ وليّ الأمر ملك من السارق بإزاء ما أتى به شأناً من شؤون حياته و هو الشأن الّذي تشتمل عليه اليد فيتصرّف فيه بسلب ما له من الحرّيّة و وسيلتها من هذه الجهة، و قس على ذلك أنواع الجزاء في الشرائع و السنن المختلفة.

فيتبيّن من هنا أنّ الاجرام و المعصية الاجتماعيّة يستجلب نوعاً من الرقّ و العبوديّة، و لذلك كان العبد أظهر مصاديق المؤاخذة و العقاب قال تعالى:( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ) المائدة: ١١٨.

و لهذا المعنى مظاهر متفرّقة في سائر الشرائع و السنن المختلفة قال الله تعالى في قصّة يوسفعليه‌السلام إذ جعل السقاية في رحل أخيه ليأخذه إليه:( قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ‏ - أي في إنكاركم سرقة صواع الملك -قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ - أي نجزي السارق باسترقاقه -فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ - إلى أن قال -قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ - و هذا هو التبديل و نوع من الفدية -قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ ) يوسف: ٧٩.

( هل يعدّ المطيع عبداً للمطاع ‏)

و ربّما كان يؤخذ القاتل أسيراً مملوكاً، و ربّما كان يفدي بواحدة من نسائه و حرمه كبنته و اُخته إلى غير ذلك، و سنّة الفدية بالتزويج كانت مرسومة إلى هذه الأيّام بين

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401