الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84125 / تحميل: 7581
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

غير أنّ حاجته المبرمة إلى الاجتماع و التعاون اضطرّه إلى قبول الاشتراك مع سائر أفراد نوعه في الانتفاع بالمنافع المحصّلة من الأشياء بأعمالهم المشتركة فهو و سائر الأفراد من نوعه يكونون لذلك مجتمعاً يختصّ كلّ جزء من أجزائه و كلّ طرف من أطرافه بعمل أو أعمال ثمّ ينتفع المجموع بالمجموع، و إن شئت فقل: ثمّ تقسّم نتائج الأعمال بينهم فيتمتّع كلّ واحد منهم بذلك على مقدار زنته الاجتماعيّة، و لذلك نرى أنّ الفرد من الإنسان و هو اجتماعيّ كلّما قوي و اشتدّ أبطل المدنيّة الطبعيّة و أخذ يستخدم الناس بالغلبة، و يتملّك رقابهم، و يحكم في نفوسهم و أعراضهم و أموالهم بما يقترحه.

و لأجل ذلك إذا تأمّلت تأمّلاً حرّاً في سنّتهم في استعباد الإنسان وجدت أنّهم لا يعتبرون تملّك الإنسان ما دام داخلاً في المجتمع و جزءً من أجزائه بل إمّا أن يكون الإنسان المملوك محكوماً بالخروج عن المجتمع كالعدوّ المحارب الّذي لا همّ له إلّا أن يهلك الحرث و النسل و يمحي الإنسان باسمه و رسمه فهو خارج عن مجتمع عدوّه، و له أن يهلكه بالإفناء و يتملّك منه ما يشاء لأنّ الحرمة مرفوعة، و مثله الأب بالنسبة إلى صغار أولاده و التابعين لنفسه فإنّه يرى أنّهم من توابعه في المجتمع من غير أن يكافئوه أو يماثلوه أو يوازنوه فله أن يتصرّف فيهم حتّى بالقتل و البيع و غيرهما.

و إمّا أن يكون الإنسان المالك ذا خصيصة تدعوه إلى أن يعتقد أنّه فوق المجتمع من غير أن يعادلهم في وزن أو يشاركهم في نفع بل له نفوذ الحكم، و التمتّع بصفوة ما يختار، و التصرّف في نفوسهم حتّى بالملك و الاستعباد.

فقد تبيّن أنّ الأصل الأساسيّ الّذي كان يبني عليه الإنسان سنّة الاستعباد و الاسترقاق هو حقّ الاختصاص و التملّك المطلق الّذي يعتقده الإنسان لنفسه، و أنّ الإنسان لا يستثني عنه أحداً إلّا مشاركيه في مجتمعة الإنسانيّ ممّن يعادله في الزنة الاجتماعيّة و يتحصّن منه في حصن التعاون و التعاضد، و أمّا الباقون فلا مانع عنده من تملّكهم و استعبادهم.

و عمدتهم في ذلك طوائف ثلاث: العدوّ المحارب، و الأولاد الضعفاء بالنسبة إلى

٣٦١

آبائهم و كذا النساء بالنسبة إلى أوليائهنّ، و المغلوب المستذلّ بالنسبة إلى الغالب المتعزّز.

٣- سير الاستعباد في التاريخ: سنّة الاستعباد و إن كانت مجهولة من حيث تاريخ شيوعها في المجتمع الإنسانيّ غير أنّ الأشبه أن يكون أرقّاء مأخوذين في أوّل الأمر بالقتال و التغلّب ثمّ يلحق به الأولاد و النساء، و لذلك نعثر في تاريخ الاُمم القويّة الحربيّة من القصص و الحكايات و كذا القوانين و الأحكام المربوطة بالاسترقاق بالسبي على ما لا يوجد في غيرهم.

و قد كان دائراً بين الاُمم المتمدّنة القديمة كالهند و اليونان و الرومان و إيران، و بين الملّيّين كاليهود و النصارى على ما يستفاد من التوراة و الإنجيل حتّى ظهر الإسلام فأنفذ أصله مع تضييق في دائرته و إصلاح لأحكامه المقرّرة، ثمّ آل الأمر إلى أن قرّر مؤتمر بروسل إلغاء الاستعباد قبل سبعين سنة تقريباً.

قال( فردينان توتل) في معجمه(١) لأعلام الشرق و الغرب: كان الرقّ شائعاً عند الأقدمين، و كان الرقيق يؤخذ من أسرى و سبايا الحرب و من الشعوب المغلوبة، كان للرقّ نظام معروف عند اليهود و اليونان و الرومان و العرب في الجاهليّة و الإسلام.

و قد اُلغي نظام الرقّ تدريجاً: في الهند سنة (١٨٤٣) و في المستعمرات الإفرنسيّة سنة (١٨٤٨) و في الولايات المتّحدة بعد حرب الانفصال سنة (١٨٦٥) و في البرازيل سنة (١٨٨٨) إلى أن اتّخذ مؤتمر بروسل قراراً بإلغاء الاستعباد سنة (١٨٩٠) غير أنّه لا يزال موجوداً فعلاً بين بعض القبائل في آفريقيا و آسيا.

و مبدأ إلغاء الرقّ هو تساوي البشر بالحقوق و الواجبات، انتهى.

٤- ما الّذي رآه الإسلام في ذلك؟ قسّم الإسلام الاستعباد بحسب أسبابه، و قد تقدّم أنّ عمدتها كانت ثلاثة: الحرب، و التغلّب و الولاية كالاُبوّة و نحوها فألغى سببين من الثلاثة من أصله و هما التغلّب و الولاية.

فاعتبر احترام الناس شرعاً سواءً من ملك و رعيّة و حاكم و محكوم و أمير و جنديّ‏

____________________

(١) ص ٢١٩.

٣٦٢

و مخدوم و خادم بإلغاء الامتيازات و الاختصاصات الحيويّة، و التسوية بين الأفراد في حرمة نفوسهم و أعراضهم و أموالهم، و الاعتناء بشعورهم و إرادتهم - و هو الاختيار التامّ في حدود الحقوق المحترمة - و أعمالهم و ما اكتسبوه و هو تسلّطهم على أموالهم و منافع وجودهم من الأفعال فليس لوالي الأمر في الإسلام إلّا الولاية على الناس في إجراء الحدود و الأحكام و في أطراف المصالح العامّة العائدة إلى المجتمع الدينيّ، و أمّا ما تشتهيه نفسه و ما يستحبّه لحياته الفرديّة فهو كأحد الناس لا يختصّ من بينهم بخصيصة، و لا ينفذ أمره في الكثير ممّا يهواه لنفسه و لا في القليل، و يرتفع بذلك الاسترقاق التغلّبيّ بارتفاع موضوعه.

و عدّل ولاية الآباء لأبنائهم فلهم حقّ الحضانة و الحفظ و عليهم حقّ التربية و التعليم و حفظ أموالهم ما داموا محجورين بالصغر فإذا بلغوا بالرشد فهم و آباؤهم سواء في الحقوق الاجتماعيّة الدينيّة، و هم أحرار في حياتهم، لهم الخيرة فيما رضوا لأنفسهم.

نعم اُكّدت التوصية لآبائهم عليهم بالإحسان و مراعاة حرمة التربية، قال تعالى:( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى‏ وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى‏ أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ) لقمان: ١٥ و قال تعالى:( وَ قَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ) الإسراء: ٢٤ و قد عدّ في الشرع الإسلاميّ عقوقهما من المعاصي الكبيرة الموبقة.

و أمّا النساء فقد وضع لهنّ من المكانة في المجتمع و اعتبر لهنّ من الزنة الاجتماعيّة ما لا يجوز عند العقل السليم التخطّي عنه و لو بخطوة، فصرن بذلك أحد شقّي المجتمع الإنسانيّ و قد كنّ في الدنيا محرومات من ذلك، و اُعطين زمام الازدواج و المال و قد كنّ محرومات أو غير مستقلّات في ذلك.

و شاركن الرجال في اُمور و اختصصن عنهم باُمور و اختصّ الرجال باُمور كلّ ذلك عن مراعاة تامّة لقوام وجودهنّ و تركيب بناهنّ، ثمّ سهّل عليهنّ في اُمور شقّ فيها على

٣٦٣

الرجال كأمر النفقة و حضور معارك القتال و نحو ذلك.

و قد تقدّم الكلام في ذلك كلّه تفصيلاً في أواخر سورة البقرة في الجزء الثاني من الكتاب، و في أوائل سورة النساء في الجزء الرابع منه، و تبيّن هناك أنّ النساء مختصّات في الإسلام من مزيد الإرفاق بالنسبة إلى الرجال بما لا يوجد نحوه في سائر السنن الاجتماعيّة قديمها و حديثها.

قال تعالى:( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) النساء: ٣١ و قال تعالى:( فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) البقرة: ٢٣٤ و قال تعالى:( وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) البقرة: ٢٢٨ و قال:( أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) آل عمران: ١٩٥ ثمّ جمع الجميع في بيان واحد فقال:( لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) البقرة: ٢٨٦ و قال:( وَ لا تَكْسِبُ كلّ نَفْسٍ إلّا عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏ ) الأنعام: ١٦٤ إلى غير ذلك من الآيات المطلقة الّتي تأخذ الفرد من الإنسان جزءً تامّاً كاملاً من المجتمع، و يعطيه من الاستقلال الفرديّ ما ينفصل به عن أيّ فرد آخر في نتائج أعماله من خير أو شرّ أو نفع أو ضرّ من غير أن يستثني صغيراً أو كبيراً أو ذكراً أو اُنثى.

ثمّ سوّى بينهم جميعاً في العزّة و الكرامة ثمّ ألغى كلّ عزّة و كرامة إلّا الكرامة الدينيّة المكتسبة بالتقوى و العمل فقال:( لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) المنافقون: ٨ و قال:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣.

و قد أبقى الإسلام السبب الثالث من الأسباب الثلاثة للاستعباد أعني الحرب، و هو أن يسبي الكافر المحارب لله و رسوله و المؤمنين، و أمّا اقتتال المؤمنين بعضهم مع بعض فلا سبي فيه و لا استعباد بل يقاتل الباغي من الطائفتين حتّى ينقاد لأمر الله قال تعالى:( وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‏ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) الحجرات: ١٠.

٣٦٤

و ذلك أنّ العدوّ المحارب الّذي لا همّ له إلّا أن يفني الإنسانيّة و يهلك الحرث و النسل لا ترتاب الفطرة الإنسانيّة أدنى ريب في أنّه يجب أن لا يعدّ جزءً من المجتمع الإنسانيّ الّذي له التمتّع بمزايا الحياة و التنعّم بحقوق الاجتماع، و أنّه يجب دفعه بالإفناء فما دونه، و على ذلك جرت سنّة بني آدم منذ عمّروا في الأرض إلى يومنا هذا و على ذلك ستجري.

و الإسلام لما وضع بنية المجتمع - المجتمع الدينيّ - على أساس التوحيد و حكومة الدين الإسلاميّ ألغى جزئيّة كلّ مستنكف عن التوحيد و حكومة الدين من المجتمع الإنسانيّ إلّا مع ذمّة أو عهد فكان الخارج عن الدين و حكومته و عهده خارجاً عن المجتمع الإنسانيّ لا يعامل معه إلّا معاملة غير الإنسان الّذي للإنسان أن يحرمه عن أيّ نعمة يتمتّع بها الإنسان في حياته، و يدفعه بتطهير الأرض من رجس استكباره و إفساده فهو مسلوب الحرمة عن نفسه و عمله و نتائج أيّ مسعى من مساعيه، فللجيش الإسلاميّ أن يتّخذ أسرى و يستعبد عند الغلبة.

٥- ما هو السبيل إلى الاستعباد في الإسلام؟ يتأهّب المسلمون على من يلونهم من الكفّار فيتمّون عليهم الحجّة و يدعونهم إلى كلمة الحقّ بالحكمة و الموعظة و المجادلة بالّتي هي أحسن فإن أجابوا فإخوان في الدين لهم ما للمسلمين و عليهم ما عليهم و إن أبوا إلّا الردّ فإن كانوا أهل كتاب و قبلوا الجزية تركوا و هم على ذمّتهم، و إن أخذوا عهداً كانوا أهل كتاب أم لا وفي بعهدهم، و إن لم يكن شي‏ء من ذلك اُوذنوا على سواء و قوتلوا.

يقتل منهم من شهر سيفاً و دخل المعركة و لا يقتل منهم من ألقى السلم، و لا يقتل منهم المستضعفون من الرجال و النساء و الولدان، و لا يبيّتون و لا يغتالون، و لا يقطع عنهم الماء، و لا يعذّبون و لا يمثّل بهم فيقاتلون حتّى لا تكون فتنة و يكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلّا على الظالمين.

فإذا غلبوهم و وضعت الحرب أوزارها فما تسلّط عليه المسلمون من نفوسهم و أموالهم فهو لهم و قد اشتمل تاريخ حروب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و مغازيه على صحائف غرّ متلمّعة مملوءة من السيرة العادلة الجميلة فيها لطائف الفتوّة و المروّة، و طرائف البرّ و الإحسان.

٣٦٥

٦- ما هي سيرة الإسلام في العبيد و الإماء؟ إذا استقرّت العبوديّة على من استقرّت عليه صار ملك يمين، منافع عمله لغيره و نفقته على مولاه.

و قد وصّى الإسلام أن يعامل المولى مع عبده معاملة الواحد من أهله و هو منهم فيساويهم في لوازم الحياة و حوائجها، و قد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤاكل عبيده و خدمه و يجالسهم، و لا يؤثّر نفسه عليهم في مأكل و لا ملبس و نحوهما.

و أن لا يشقّ عليهم و لا يعذّبوا و لا يسبّوا و لا يظلموا، و اُجيز أن يتزوّجوا فيما بينهم بإذن أهلهم، و أن يتزوّج بهم الأحرار، و أن يشاركوهم في الشهادات، و يساهموهم في الأعمال حال الرقّ و بعد الانعتاق.

و قد بلغ من إرفاق الإسلام في حقّهم أن شاركوا الأحرار في عامّة الاُمور، و قد قلّد جمع منهم الولاية و الإمارة و قيادة الجيش على ما يضبطه تاريخ صدر الإسلام، و يوجد بين الصحابة الكبار عدّة من الموالي كسلمان و بلال و غيرهما.

و هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعتق جاريته صفيّة بنت حيّ بن أخطب و تزوّج بها، و تزوّج جويريّة بنت الحارث بعد وقعة بني المصطلق و قد كانت بين سباياهم، و كانوا مأتي بيت بالنساء و الذراري، و صار ذلك سبباً لانعتاق الجميع، و قد مرّ إجمال القصّة في الجزء الرابع من الكتاب.

و من الضروريّ من سيرة الإسلام أنّه يقدّم العبد المتّقي على المولى الحرّ الفاسق، و إنّه يبيح للعبد أن يتملّك المال و يتمتّع بعامّة مزايا الحياة بإذن من أهله هذا إجمال من صنيع الإسلام فيهم.

ثمّ أكّد الوصيّة و ندب أجمل الندب إلى تحرير رقبتهم، و إخراجهم من ظرف الاستعباد إلى جوّ الحرّيّة و لا يزال يقلّ بذلك عددهم و يتبدّل جمعهم موالي و أحراراً لوجه الله، و لم يقنع بذلك دون أن جعل تحرير الرقبة أحد خصال الكفّارات مثل كفّارة القتل و كفّارة الإفطار، و أجاز لهم الاشتراط و الكتابة و التدبير، كلّ ذلك عناية بهم و قصداً إلى تخليصهم و إلحاقاً لهم بالمجتمع الإنسانيّ الصالح إلحاقاً تامّاً يقطع دابر الاستذلال.

٣٦٦

٧- محصّل البحث في الفصول السابقة: تحصل ممّا مرّ اُمور ثلاث:

الأوّل: أنّ الإسلام لم يأل جهداً في إلغاء أسباب الاستعباد و تقليلها و تضعيفها حتّى وقف على واحد منها لا محيص عن اعتباره بحكم الفطرة القاطع و هو جواز استعباد كلّ إنسان محارب للدين مضادّ للمجتمع الإنسانيّ غير خاضع للحقّ بوجه من وجوه الخضوع.

الثاني: أنّه استعمل جميع الوسائل الممكنة في إكرامهم - العبيد و الإماء - و تقريب شؤونهم الحيويّة من حياة أجزاء المجتمع الحرّة حتّى صاروا كأحدهم و إن لم يصيروا أحدهم، و لم يبق عليهم إلّا حجاب واحد رقيق، و هو أنّ الزائد من أعمالهم على واجب حياتهم حياة متوسّطة لمواليهم لا لهم، و إن شئت فقل: لا فاصل في الحقيقة بين الحرّ و العبد في الإسلام إلّا إذن المولى في العبد.

الثالث: أنّه احتال بكلّ حيلة مؤثّرة إلى إلحاق صنف المماليك إلى مجتمع الأحرار بالترغيب و التحريص في موارد، و بالفرض و الإيجاب في اُخرى كالكفّارات، و بالتسويغ و الإنفاذ في مثل الاشتراط و التدبير و الكتابة.

٨- سير الاستعباد في التاريخ‏: ذكروا(١) أنّ الاستعباد ظهر أوّل ما ظهر بالسبي و الأسر، و كانت القبائل قبل ذلك إذا غلبت في حروبها و مقاتلها و أخذت سبايا قتلتهم عن آخرهم ثمّ رأوا أن يتركوهم أحياءً و يتملّكوهم كسائر الغنائم الحربيّة لا لينتفعوا بأعمالهم بل إحساناً في حقّهم و حفظاً للنوع و احتراماً للقوانين الأخلاقيّة الّتي ظهرت فيهم بالترقّي في صراط المدنيّة شيئاً بعد شي‏ء.

و إنّما ظهرت هذه السنّة بين القبائل بعد ما ارتحلت عنهم طريقة الارتزاق لاصطياد إذ لم تكن لهم فيها من السعة ما يسوّغ لهم الإنفاق على العبيد و الإماء حتّى انتقلوا إلى عيشة النزول و الارتحال و تمكّنوا من ذلك.

و بشيوع الاستعباد بين القبائل و الاُمم على أيّ وتيرة كانت تحوّلت حياة الإنسان الاجتماعيّة بظهور جهات من الانتظام و الانضباط في المجتمعات أوّلاً و تقسيم الأعمال ثانياً.

____________________

(١) مأخوذ من ١- دائرة المعارف: المذهب و الأخلاق تأليف جان هيسينيك طبعة بريطانية، ٢- مجمل التاريخ تأليف ه. ج. ولز طبعة بريطانية، ٣- روح القوانين تأليف مونيسكيو طبعة طهران.

٣٦٧

و لم يكن الاستعباد إذ كان دائراً في الدنيا على وتيرة واحدة في أقطار المعمورة فلم يستنّ في بعض المناطق أصلاً كاُوستراليا و آسيا المركزيّة و سيبريا و أميركا الشماليّة و إسكيمو و بعض المناطق بإفريقيا بشمال النيل و جنوب رامبيز.

و بالعكس كان رائجاً في جزيرة العرب و إفريقيا الوحشيّة و اُوروبه و أميركا الجنوبيّة و كان دائراً بين اليهود، و في التوراة دعاء العبيد إلى طاعة مواليهم، و كذا بين النصارى و في كتاب بولس إلى فيلمن أنّ إفسيموس كان عبداً شارداً ردّه بولس إلى سيّده.

و كانت اليهود أرفق الناس بعبيدهم، و من الشواهد على ذلك أنّا لم نعثر لهم من شواهق الأبنية على ما يشبه الأهرام المعمولة بمصر و الأبنية الآشوريّة التاريخيّة فإنّها كانت من أعمال العبيد الشاقّة، و كانت الروم و اليونان أكثر الاُمم تشديداً على العبيد.

و قد ذاع في الروم الشرقيّ بعد قسطنطين فكر التحرير حتّى لغى الرقّ فيها في القرن ١٣ الميلاديّ، و بقي في الروم الغربيّ على شكل آخر و هو أنّهم كانوا يبيعون و يشترون المزارع بزرّاعها - و كانت الزراعة من مشاغل العبيد - لكن لغت بينهم الأعمال الإجباريّة.

و كان الاستعباد دائراً في معظم ممالك اُوروبه إلى سنة ١٧٧٢ الميلاديّة و قد انعقدت قبل ذلك بحين معاهدة بين الدولتين إنجلترا و إسبانيا على أن يجبي الإنجليز إليهم كلّ سنة أربعة آلاف و ثمان مائة نسمة من رقيق إفريقيا إلى ثلاثين سنة ليبيعهم منهم قبال مبالغ خطيرة يأخذها منهم.

و قد ثارت الأفكار العامّة سنة ١٧٦١ على الرقّ و الاستعباد بينهم، و أقدم الطوائف الّتي قامت عليه منهم طائفة( لرزان) (١) المذهبيّة، و لم يزالوا على ذلك حتّى وضعت مادّة قانونيّة سنة ١٧٧٢ أنّ كلّ من دخل أرض بريطانيا فهو حرّ.

و قد ظهر سنة ١٧٨٨ بعد بحث دقيق أنّ إنجلترا يعامل كلّ سنة مأتي ألف نسمة رقيقاً، و كان الّذين يجلبون منهم من إفريقيا إلى أميركا وحدها مائة ألف.

و لم يزل حتّى ألغي الاستعباد في بريطانيا سنة ١٨٣٣ و أدّت الدولة إلى كمبانيّات

____________________

(١). Quaker

٣٦٨

النخس عشرين ميليوناً ليرة أثمان من حرّرته من رقيقهم العبيد و الإماء، و انعتق في هذه الواقعة فيها (٧٧٠٣٨٠) نسمة.

و لغي الاستعباد في أميركا سنة ١٨٦٢ بعد مجاهدات شديدة تحمّلتها أهالي أميركا و قد كان شمال هذه المملكة و جنوبها مختلفين في أخذ الرقيق: أمّا أميركا الشماليّة فإنّما كانت تأخذ العبيد و الإماء للتجمّل فحسب، و أمّا الجنوبيّة فكان معظم الأشغال فيها شغل الزراعة و الحرث، و كانوا في حاجة شديدة إلى كثرة الأيدي العمّالة فكانوا يأخذون الأرقّاء استثماراً بأعمالهم، و لذلك كانوا يتحرّجون من قبول التحرير العامّ.

و لم يزل الاستعباد يلغى في مملكة بعد مملكة حتّى انعقد قرار بروسل سنة (١٨٩٠) الميلاديّة على إلغاء سنّة الاستعباد، و أمضاها الدول و اُجريت في الممالك، و لغت العبوديّة في الدنيا، و انعتقت بذلك الملايين من النسمات، انتهى ما ذكروه ملخّصاً.

و أنت تجد بثاقب نظرك أنّ هذه المجاهدة الطويلة و المشاجرة ثمّ ما وضع من قوانين الإلغاء و اُنفذ من الحكم كلّ ذلك إنّما كان يدور حول الاسترقاق من طريق الولاية أو التغلّب كما يشهد به أنّ جلّ الأرقّاء أو كلّهم كانوا يجلبون من نواحي إفريقيا المعمول فيها ذلك، و أمّا الاسترقاق من طريق السبي الحربيّ الّذي أنفذ الإسلام فلم يكن مورداً للبحث قطّ.

٩- نظرة في بنائهم: هذه الحرّيّة الفطريّة الّتي نسمّيها بالحرّيّة الموهوبة للإنسان (و لسنا ندري ما هو السبب الّذي يسلبها عن سائر أنواع الحيوان و هي تماثل الإنسان في الشعور النفسانيّ و الإرادة الباعثة؟ غير أن نقول إنّ الإنسان هو الّذي يسلبها ذلك لينتفع بها) لا تتفرّع على أصل إلّا على أنّ الإنسان مجهّز بشعور باطنيّ يميّز له ما يلتذّ به و ما يتألّم به ثمّ بإرادة تبعثه إلى جذب ما يلذّه و دفع ما يؤلمه فكان له أن يختار لنفسه ما يشاء.

و لم يتقيّد الشعور الإنسانيّ بأن يتعلّق بشي‏ء و لا يتعلّق بآخر كأن لا يشعر الإنسان الضعيف المستذلّ بما يشعر به الإنسان القويّ المتعزّز، و لا تحدّدت الإرادة الإنسانيّة بحدّ يمنعها عن التعلّق ببعض ما يستحبّه أو يجبرها على التعلّق بما تعلّقت به إرادة غيره لتنطلق لنفع

٣٦٩

غيره و تنسى نفسها، فالإنسان الضعيف المغلوب يريد لنفسه نظائر جميع ما يريده الإنسان الّذي غلبه و قهره لنفسه، و لا رابطة طبيعيّة بين إرادة الضعيف و إرادة القويّ تجبر إرادة الضعيف على أن لا تتعلّق بما تعلّقت به إرادة القويّ، أو تفنى في إرادة القويّ فتعود الإرادتان إرادة واحدة تجري لنفع القويّ، أو تتّبع الإرادة اتّباعاً يسلبها الاستقلال.

و إذ كان كذلك و كان من حقّ قوانين الحياة أن تبتني على أساس البنية الطبيعيّة كان من الواجب أن يعيش الإنسان حرّاً في نفسه و حرّاً في عمله، و من هذا الثدي يرتضع إلغاء الاستعباد.

لكن ينبغي لنا أن نتأمّل هذه الحرّيّة الموهوبة للإنسان هل هي في المجتمع الإنسانيّ على إطلاقها منذ ولدت و عاشت في البنى الإنسانيّة؟.

فلم يزل النوع الإنسانيّ - فيما نعلم - يعيش في حال الاجتماع و لا يسعه بحسب جهازه الوجوديّ إلّا ذلك، و من المحال أن يدوم مجتمع في حال الاجتماع و لو حيناً مّا إلّا مع سنّة مشتركة بين أفراد المجتمع سواء كانت سنّة عادلة تعقّليّة أو سنّة جائرة أو مجازفة أو بأيّ وصف اتّصفت، و هذه السنّة كيفما كانت تحدّد الحرّيّة الفرديّة.

على أنّ الإنسان لا يتأتّى له أن يعيش إلّا مع تصرّف مّا في المادّة يضمن له البقاء و لا يتأتّى له ذلك إلّا بأن يختصّ بما يتصرّف فيه نوعاً من الاختصاص الّذي نسمّيه بالملك - أعمّ من الحقّ و الملك المصطلح عليه - فالّذي يلبسه هذا حين يلبس لا يسع لذاك أن يلبسه و الّذي يأكله فرد أو يشربه أو يشغله بالتمكّن فيه لا يمكن لغيره أن يستقلّ به، و ليس ذلك إلّا تحديداً لغير المتصرّف في إطلاق إرادته، و تقييداً لحرّيّته.

و لم يزل الاختلاف يلازم هذا النوع منذ سكن الأرض فلم يمض على هؤلاء الأفراد المنتشرة في رحب الأرض يوم إلّا و تطلع فيه الشمس على اختلافات، و تغيب عن اختلافات تسير بهم إلى فناء نفوس و ضيعة أعراض و انتهاب أموال، و لو كان الإنسان يرى لنفسه - أي للإنسانيّة - حرّيّة مطلقة لم يكن لهذه الاختلافات بينهم أثر.

و سنّة المجازاة و المؤاخذة لم تزل دائرة معمولة بين المجتمعات المتنوّعة مدنيّة كانت

٣٧٠

أو همجيّة، و لا معنى للمجازاة إلّا أن يملك المجتمع من الإنسان المجرم بعض ما وهبه له الخلقة من النعم، و أن يسلب عنه بعض الحرّيّة فلو لا أنّ المجتمع أو من بيده الأمر في المجتمع يملك من المجرم القاتل المحكوم بالقصاص حياته لما وسعه أن يسلبها عنه، و لو لا أنّ الآثم المأخوذ بإثمه المؤاخذ بأنواع التعذيب و النكاية كالقطع و الضرب و الحبس و غيره ذلك يملك الحكم و الإجراء منه ما يسلبه من شؤون الحياة أو الراحة أو السلطة الماليّة لما صحّ ذلك، و كيف يصحّ منع الجائر المتعدّي أن يجور و يتعدّى و لا الذبّ عن حريم نفس أو عرض أو مال إلّا مع سلب بعض حرّيّة المتغلّب الممنوع؟.

و بالجملة فممّا لا يشكّ فيه ذو مسكة أنّ بقاء الحرّيّة الإنسانيّة على إطلاقها في المجتمع الإنسانيّ و لو لحظة يوجب اختلال النظام الاجتماعيّ من وقته فهذا الاجتماع الّذي هو أيضاً فطريّ للإنسان و لا يعيش بدونه هو يقيّد إطلاق الحرّيّة الفطريّة الّتي وهبته للإنسان إرادته و شعوره الغريزيّان فلا يتأتّى لمجتمع إنسانيّ أن يعيش إلّا مع تقييد ما لإطلاق الحرّيّة كما لا يتأتّى له أن يعيش مع بطلان الحرّيّة من أصلها، و لم يزل المجتمع الإنسانيّ يحفظ بين الحدّين هذه الحرّيّة الّتي يخيّل لنا من كثرة التبليغات الغربيّة أنّهم هم الّذين خلقوا اسمها بعد ما اخترعوا معناها، و حفظوها على إطلاقها.

فهذا الاجتماع الفطريّ هو الّذي يقيّد تلك الحرّيّة الفطريّة و يحدّدها على حدّ تقييد القوى الطبيعيّة البدنيّة و غير البدنيّة بعضها بعضاً فيقف البعض عن الفعل اعتناءً بشأن بعض آخر يزامله كقوّة الإبصار الّتي هي مبدأ للإبصار على الإطلاق تفعل فعلها حتّى تكلّ لامسة العين أو تتعب القوّة المفكّرة فتقف الباصرة عن فعلها تقيّداً بفعل مزاملها، و الذائقة تلتذّ بالتقام الغذاء اللذيذ و ازدراده و بلعه حتّى تكلّ عضلات الفكّ فتقيّد الذائقة فتكفّ عن مشتهاها.

فالاجتماع الفطريّ لا يتمّ للإنسان إلّا بأن يجود ببعض حرّيّته في العمل و استرساله في التمتّع.

١٠- ما مقدار التحديد: و أمّا المقدار الّذي تحدّد به الحرّيّة الموهوبة من قبل الاجتماع الفطريّ و يتقيّد به إطلاقها الفطريّ فهو يختلف باختلاف المجتمعات الإنسانيّة

٣٧١

بحسب كثرة القوانين الدائرة المعتبرة في المجتمع و قلّتها فإنّ المقيّد للحرّيّة بعد أصل الاجتماع إنّما هو القانون المجرى بين الناس فكلّما زادت القوانين و دقّت في رقوب أعمالهم زاد الحرمان من الحرّيّة و الاسترسال و كلّما نقصت نقص.

لكنّ الّذي لا مناص عنه في أيّ اجتماع لأيّ مجتمع فرض، و الواجب الّذي ليس في وسع الإنسان الاجتماعيّ أن يستهين به و يتساهل في أمره: هو حفظ وجود الاجتماع و كونه إذ لا حياة للإنسان دونه، و حفظ السنن الدائرة و القوانين الجارية فيه من النقص و الانتقاض، و لذلك لست تجد مجتمعاً من المجتمعات البشريّة إلّا و فيه جهة دفاعيّة تذبّ عن النفوس و الذراري و تقيهم من الفناء و الهلاك، و وليّ يلي أمرهم و يحفظ السنّة الجارية و العادات الدائرة المحترمة بينهم من الانتقاض ببسط الأمن الاجتماعيّ، و سياسة المتعدّي الجائر، و الموجود من التاريخ يصدّق ذلك أيضاً.

و إذا كان كذلك فأوّل حقّ مشروع للمجتمع في شريعة الفطرة أن يسلب الحرّيّة عن عدوّ المجتمع في أصل اجتماعه، و إن شئت فقل: أن يملك من عدوّه المبيد لحياته المفسد لحرثه و نسله نفسه و عمله و يذهب بحرّيّة إرادته بما يشاء من قتل فما دونه، و أن يسلب عن عدوّ السنّة و القانون حرّيّة العمل و الاسترسال في النقض، و يملك منه ما يفقده بالمجازاة من نفس أو مال أو غيرهما.

و كيف يسع الإنسان - حتّى الإنسان الفرد - أن يذعن بحرّيّة عدوّ لا لحياة مجتمعة يحترم فيؤاخيه و يشاركه و يمتزج به، و لا عن إبادة مجتمعة و إفنائه يغمض فيتركهم و شأنهم؟ و هل الجمع بين العناية الفطريّة بالاجتماع و بين ترك هذا العدوّ و حرّيّته في العمل إلّا جمعاً بين المتناقضين صريحاً و سفهاً أو جنوناً؟.

فتبيّن ممّا مرّ أوّلاً: أنّ البناء على إطلاق حرّيّة الإنسان أمر مخالف لصريح الحقّ الفطريّ المشروع للإنسان الّذي هو من أوّل الحقوق الفطريّة المشروعة.

و ثانياً: أنّ حقّ الاستعباد الّذي اعتبره الإسلام هو المطابق لشريعة الفطرة، و هو أن يستعبد أعداء الدين الحقّ المحاربين للمجتمع الإسلاميّ فيسلب عنهم حرّيّة العمل، و يجلبوا إلى داخل المجتمع الدينيّ و يكلّفوا بأن يعيشوا في زيّ العبوديّة حتّى يتربّوا

٣٧٢

بالتربية الصالحة الدينيّة، و ينعتقوا تدريجاً، و يلتحقوا بالمجتمع الحرّ سالمين غانمين، و لوليّ الأمر أن يشتريهم و يعتقهم عن آخرهم إن رأى صلاح المجتمع الدينيّ في ذلك، أو يسلك في ذلك طريقاً آخر لا ينتسخ بذلك الأحكام الإلهيّة.

١١- إلى م آل أمر الإلغاء؟: أجرت الدول المعظّمة قرار مؤتمر بروسل و منعوا بيع الرقيق أشدّ المنع و انعتقت الإماء و العبيد فلا يصطفّون اليوم في دكاك النخّاسين و لا يساقون سوق الأغنام، و تبع ذلك أن انتسخ اتّخاذ الخصيان، و لا يكاد يوجد اليوم من هؤلاء و اُولئك و لو نماذج قليلة إلّا ما ربّما يذكر من أمر الأقوام الهمجيّة.

لكنّ هذا المقدار أعني ارتفاع اسم الاستعباد و الاسترقاق من الألسنة و غيبة المسمّين بهذا الاسم عن الأنظار هل يقنع الباحث الناقد في هذه المسألة؟ أ و ليس يسأل أنّ هذه المسألة هل هي مسألة لفظيّة يجزي فيها المنع من أن يذكر الاسم، و يكفي في إجرائها أن يسمّى العبد حرّاً و إن سلب منافع عمله و تبع غيره في إرادته، أو أنّ المسألة معنويّة يراعى فيها حال المعنى بحسب حقيقته و آثاره الخارجيّة؟.

فهاتيك الحرب العالميّة الثانية لم يمض عليها إلّا بضع عشرة سنة حمّلت الدول الفاتحة على عدوّها المغلوب التسليم بلا شرط ثمّ احتلّوا بلادهم، و أخذوا ملايين من أموالهم، و تحكّموا على نفوسهم و ذراريهم، و نقلوا الملايين من اُسراهم إلى داخل مملكتهم يستعملونهم فيما شاؤا و كيف شاؤا، و الأمر يجري على ذلك حتّى اليوم.

فليت شعري هل للاستعباد مصداق ليس به و إن منع من إطلاق لفظه؟ و هل له معنى إلّا سلب إطلاق الحرّيّة، و تملّك الإرادة و العمل، و إنفاذ القويّ المتعزّز حكمه في الضعيف المستذلّ كيف شاء و أراد عدلاً أو ظلماً؟.

فيا لله العجب يسمّي حكم الإسلام بنظير الحكم على أصلح وجه يمكن استعباداً و لا يسمّى حكمهم بذلك، و الإسلام يأخذ فيه بأسهل الوجوه و أخفّها و هم يأخذون بأشقّها و أعنفها، فقد رأينا محبّتهم و صداقتهم حينما احتلّوا بلادنا تحت عنوان المحبّة و الحماية و الوقاية، فكيف حال من استعلوا عليه بالعداوة و النكاية؟.

و من هنا يظهر أنّ قرار الإلغاء لم يكن إلّا لعباً سياسيّاً هو في الحقيقة أخذ في

٣٧٣

صورة الردّ، أمّا الاستعباد عن حرب و قتال فقد أنفذه الإسلام و أنفذوه عملاً و إن منعوا عن التلفّظ باسمه لساناً، و أمّا الاستعباد من طريق بيع الآباء أبناءهم الّذي منعوه فقد كان الإسلام منعه من قبل، و أمّا الاستعباد من طريق الغلبة و السلطة الحكميّة فقد منعه الإسلام من قبل، و أمّا هؤلاء فقد أجمعوا على منعه لكن هل توقّف المنع في مرحلة اللفظ كنظيره أو تعدّاها إلى مرحلة المعنى و وافقه العمل؟!.

يمكنك أن تستخرج الجواب لهذا السؤال بإمرار النظر في تاريخ الاستعمارات الاُروبيّة في آسيا و إفريقيا و أميركا، و الفجائع الّتي ارتكبوها، و الدماء و الأعراض و الأموال الّتي أهرقوها و استباحوها و نهبوها، و التحكّمات الّتي أتوا بها و ليس بالواحد و المائة و الألف.

ليس يلزمك أن تسلك هذا السبيل على بعدها - إن كان بعيداً - فقد يجزيك أن تتأمّل أخبار ما يقاسيه أهل الجزائر من فرنسا منذ سنين من إبادة النفوس و تخريب البلاد و التشديد على أهله، و ما تلقاه الممالك العربيّة من الإنجليز، و ما يتحمّله السودان و الحمر في أميركا، و الاُوروبة الشرقيّة من الجمهوريّات الاشتراكيّة، و ما نكابده نحن من أيدي هؤلاء و اُولئك، كلّ ذلك في لفظه نصح و إشفاق، و في معناه استعباد و استرقاق!.

فظهر من جميع ما مرّ أنّهم أخذوا في مرحلة العمل بما شرعه الإسلام من إباحة و سلب إطلاق الحرّيّة عند وجود سببها الفطريّ الّذي هو حرب من يريد هدم المجتمع و إهلاك الإنسانيّة، و هو حكم مشروع في شريعة الفطرة له أصل واقعيّ لا يتغيّر و هو حاجة الإنسانيّة في بقائها إلى دفع ما يطاردها وجوداً و يناقضها بقاءً ثمّ أصل اجتماعيّ عقلائيّ لا يتبدّل متفرّع على أصله الواقعيّ و هو وجوب حفظ المجتمع الإنسانيّ عن الانعدام و الانهدام.

فهذا هو الّذي راموه في عملهم و أخذوه معنى و أنكروه اسماً غير أنّهم تعدّوا هذا القسم المشروع إلى غيره غير المشروع و هو الاستعباد بسبب الغلبة و السلطة فلا يزالون يستعبدون الاُلوف و الملايين قبل حديث الإلغاء و بعده، و يبيعون و يشترون و يهبون و يعيرون إلّا أنّهم لا يسمّون ذلك استعباداً، و إنّما يسمّى استعماراً أو استملاكاً أو قيمومة أو حماية

٣٧٤

أو عناية و إعانة أو غير ذلك من الألفاظ الّتي لا يراد بشي‏ء منها إلّا أن يكون سترة على معنى الاستعباد، و كلّما خلق أو خرق شي‏ء منها رمي به و جي‏ء بآخر.

و لم يبق ممّا نسخه قرار بروسل و لا يزال يقرع به أسماع الدنيا و أهلها و يتباهى به الدول المتمدّنة الّذين هم رواد المدنيّة الراقية، و بأيديهم راية الحرّيّة الإنسانيّة إلّا الاستعباد من طريق بيع الأبناء و البنات و الإخصاء و لا فائدة هامّة فيه تعود إليهم مع كونه أشبه بالمسألة الفرديّة منه بالمسألة الاجتماعيّة، و نسخه مع ذلك حجّة لفظيّة تبليغيّة بأيديهم كسائر حججهم الّتي لا تعدو مقام اللّفظ و تؤثّر أثر المعنى.

نعم يبقى هناك محلّ بحث آخر و هو أنّ الإسلام يبدأ في غنائمه الحربيّة من رقيق أو مال غير الأرض المفتوحة عنوة بالأفراد من مجتمعة فيقسّمها بينهم ثمّ ينتهي إلى الدولة على ما سير به في صدر الإسلام و هؤلاء يحفظون الاستفادة منها حقّاً موقوفاً على الدولة، و هذه مسألة اُخرى غير مسألة أصل الاسترقاق لعلّنا نوفّق لاستقصاء البحث عنها فيما سيأتي إن شاء الله من الكلام في آيات الزكاة و الخمس و الله المستعان.

و بعد ذلك كلّه نعود إلى كلمة صاحب معجم الأعلام المنقولة سابقاً:( مبدأ إلغاء الرقّ هو تساوي البشر في الحقوق و الواجبات) فما معنى تساوي البشر في الحقوق إلخ، فإن اُريد به تساويهم في استحقاق ما لهم من الحقوق الواجبة مراعاتها و إن كانت نفس تلك الحقوق مختلفة غير متساوية البتّة كاختلاف الرئيس و المرؤس و الحاكم و المحكوم و الآمر و المأمور و المطيع للقانون و المتخلّف عنه و العادل و الظالم من جهة اختلافهم في الزنة الاجتماعيّة.

فهو كذلك لكنّه لا يستلزم التسوية بين من هو جزء شريف نافع في المجتمع و بين من ليس في صلاحيته أن ينضمّ إلى المجتمع و لا كرامة، و إنّما هو كالسمّ المهلك الّذي أينما حلّ أبطل الحياة فإنّ من الحكم الفطريّ الصريح أن يفرّق بينهما بإعطاء الحرّيّة الكاملة للأوّل، و سلبها عن الثاني فلا حقّ للعدوّ على عدوّه فيما يعاديه، و لا واجب للذئب في ذمّة الغنم و لا للأسد على فريسته.

و إن اُريد به أنّ الإنسانيّة لما كانت مشتركة بين أفراد الإنسان و كان في قوّة

٣٧٥

الفرد من الإنسان كائناً من كان أن يرقى في المدنيّة و ينال من السعادة ما يناله الآخر كان من حقّ الإنسانيّة على المجتمع الراقي أن يجود بالحرّيّة على كلّ إنسان و يربّيه حتّى يلحق المجتمع الصالح.

فلذلك حقّ لكن ربّما كان من شرائط التربية أن يسلب المربّي حرّيّة الإرادة و العمل حيناً حتّى تتمّ التربية، و يتبصّر النفس المربّاة في استعمال إرادتها، و تتنعّم بنعمة حرّيّتها كما يعالج المريض بما يسوؤه و يربّى الصغير بما يتحرّج منه، و هذا هو الّذي يراه الإسلام من سلب حرّيّة الإرادة و العمل عن الاُمّة الكافرة المحاربة، و اجتلابهم إلى داخل المجتمع الدينيّ، و تربيتهم فيها، و تخليصهم تدريجاً إلى ساحة الحرّيّة فإنّ السلوك سلوك اجتماعيّ ينبغي أن ينظر إليه و إلى نتيجته و أثره بنظر عامّ كلّيّ، و ليس بأمر فرديّ ينظر إليه بنظر فرديّ جزئيّ، ثمّ من العجب أنّ هؤلاء أيضاً يجرون عملاً بما جرت عليه السيرة الإسلاميّة و إن خالفوه في التسمية و حسن النيّة كما تقدّم بيانه.

و إن اُريد به أنّ من حقّ الحرّيّة الإنسانيّة أن تطّرد في الجميع و يخلّى بين كلّ إنسان و إرادته المطلقة.

فمن الواضح الّذي لا مرية فيه أنّ ذلك غير جائز التسليم و لا ميسور العمل على إطلاقه و خاصّة في الخصم المحارب و هو المورد الوحيد الّذي يعتني به الإسلام في سلب إطلاق الحرّيّة.

ثمّ لو كان هذا حقّاً لم يكن فيه فرق بين الواحد و الاثنين و بين الجماعة فما بالهم يسلّمون للواحد من الحرّيّة القانونيّة حتّى مثل( الانتحار) و للاثنين مثل( دئل) و لا يسلّمون لطائفة مساكين من أبناء نوعهم أن ينعزلوا في ملجأ أو مغارات و يشتغلوا بأنفسهم و يأكلوا رزق ربّهم و يسلكوا سبيل حياتهم؟.

بقي هنا شي‏ء و هو أنّه ربّما قال القائل: ما بال الإسلام لم يشرّع للرقيق تملّك المال حتّى يستعين به على حوائجه الضروريّة من غير أن يكون كلّاً على مولاه؟ و ما باله لم يحدّد الرقّ بالإسلام حتّى ينعتق العبد بالإسلام و ينمحي عنه لوث المحروميّة اللازمة له و لأعقابه إلى يوم القيامة.

٣٧٦

لكن ينبغي أن يتنبّه هذا القائل إلى أنّ الحكم باستقرار الرقّ و الحرمان من تملّك المال إنّما ظهوره و وقوعه بحسب نظر التشريع في أوّل زمان الاستيلاء عليه، و حكم الفطرة عليهم - و هم الأعداء المحاربون - بجواز سلب الحرّيّة إنّما هو لإبطال كيدهم و سلب قوّتهم على المقاومة لهدم الاجتماع الدينيّ الصالح، و لا قوّة و لا قدرة إلّا بالملك فإذا لم يملكوا عملاً و لا نتاج عمل لم يقووا على المخاصمة و المحاربة.

نعم أجاز الإسلام لهم أن يتملّكوا في الجملة بتمليك الموالي، و هذا ملك في طول ملك، و ليس فيه محذور الاستقلال بالتصرّف.

و أمّا تحديد رقّهم بالإيمان فهو أمر يبطل السياسة الدينيّة في حفظ بيضة الإسلام و إقامة المجتمع الدينيّ على ساقه و بسط التربية الدينيّة على هؤلاء المحاربين المستعلى عليهم بالعدّة و القوّة، و لو لا ذلك لدخلوا في ظاهر الدين بمجرّد أن استقرّت عليهم سيطرة الدين، و ضربت عليهم بذلّة العبوديّة فحفظوا بذلك عدّتهم و قوّتهم ثمّ عادوا لما نهوا عنه.

و ليرجع في ذلك إلى السنّة الجارية بين الاُمم و الأقوام من يومنا هذا إلى أقدم العهود الّتي يستطاع العثور فيها على تاريخ الإنسانيّة فالاُمّتان أو القبيلتان إذا تحاربتا و تقاتلتا ثمّ غلبت إحداهما الاُخرى و استعلت عليها فإنّها ترى من حقّها المشروع لها في الحرب أن تضع في عدوّها السيف حتّى يسلّم لها الأمر تسليماً مطلقاً من غير شرط.

و ليست ترضى من التسليم بمجرّد أن تضع الاُمّة المقاتلة المغلوبة أسلحتها على الأرض فتتركهم و ما يريدون بل بالتسليم لأمر الاُمّة الغالبة، و الخضوع التامّ لما تحكم فيهم، و ترى لهم أو عليهم، و تتصرّف في نفوسهم و أموالهم.

و من سفه الرأي أن تقيّد هذه السيطرة بقيد يفسد أثر هذا التسليم المطلق، و يبطل حكمه، و يمهّد الطريق للعدوّ في الرجوع إلى كيده و مكره، و يجدّد له رجاء العود إلى ما بدأ، و كيف يسوغ للاُمّة الغالبة ذلك و قد فدت عن استقلال مجتمعها المقدّس عندها بالنفوس و الأموال؟ و هل ذلك إلّا ظلماً لنفسها و استهانة بأعزّ ما عندها، و تبذيراً للدماء و الأموال و المساعي؟.

٣٧٧

و ليس لمعترض أن يعترض على اُمّة غالبة غلبت بتضحية النفوس و الأموال فضربت على عدوّها بالذلّة و المسكنة، و حفظهم على حالة الرقّ: بأنّ رجالهم قاتلوا و قتلوا و أفسدوا فأخذوا بالأسر و جوزوا بسلب الحرّيّة على ما يبيحه الحقّ المشروع للمحارب على محاربه فما ذنب الأصاغر من الذراري المتولّدين بعد ذلك، و لم يحملوا سلاحاً، و لا سلّوا سيفاً، و لا دخلوا معركة؟ و ذلك أنّهم ضحايا آبائهم.

بعد ذلك كلّه لا ينبغي أن ينسى أنّ للحكومة الإسلاميّة أن يحتال في انعتاق الرقيق بشراء و عتق و نحو ذلك إذا أحرزت أنّ الأصلح بحال المجتمع الإسلاميّ ذلك و الله أعلم.

( كلام في المجازاة و العفو في فصول)

١- ما معنى الجزاء؟: لا يخلو أيّ مجتمع من المجتمعات من تكاليف اجتماعيّة على أجزائه أن يحترموها فلا همّ للمجتمع إلّا أن يوافق بين أعمال الأفراد و يقرّب بعضها من بعض، و يربط جانباً منها بجانب حتّى تأتلف و تجتمع و ترفع بآثارها و نتائجها حوائج الأفراد بمقدار ما يستحقّه كلّ واحد بعمله و سعيه.

و هذه التكاليف لما كانت متعلّقة باُمور اختياريّة يسع الإنسان أخذها و تركها، و هي بعينها لا تتمّ إلّا مع سلب ما لحرّيّة الإنسان في إرادته و عمله لم يمتنع أن يتخلّف عنها أو عن بعضها الإنسان المتمائل بطبعه إلى الاسترسال و إطلاق الحرّيّة.

و التنبّه إلى هذا النقص في التكاليف و الفتور في بني القوانين هو الّذي بعث الإنسان الاجتماعيّ على أن يتمّم نقصها و يحكم فتورها بأمر آخر، و هو أن يضمّ إلى مخالفتها و التخلّف عنها اُموراً يكرهها الإنسان المكلّف فيدعوه ذلك إلى طاعة التكليف الّذي يكلّف به حذراً من أن يحلّ به ما يكرهه و يتضرّر به.

و هذا هو جزاء السيّئة، و هو حقّ للمجتمع أو لوليّ الأمر على المتخلّف العاصي، و له نظير في جانب طاعة التكاليف فمن الممكن أن يوضع للمطيع الممتثل بإزاء عمله بالتكليف

٣٧٨

أمر يؤثره و يحبّه ليكون ذلك داعياً يدعوه إلى إتيان الواجب أو المطلوب مطلقاً من التكاليف، و هو حقّ للمكلّف المطيع على المجتمع أو لوليّ الأمر، و هذا هو جزاء الحسنة، و ربّما يسمّى جزاء السيّئة عقاباً و جزاء الحسنة ثواباً.

و على هذه الوتيرة يجري حكم الشريعة الإلهيّة قال تعالى:( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) يونس: ٢٦ و قال تعالى:( وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ) يونس: ٢٧ و قال:( وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) الشورى: ٤٠.

و للعقاب و الثواب عرض عريض آخذاً من الاستكراه و الاستحسان و الذمّ و المدح إلى آخر ما يتعلّق به القدرة من الشرّ و الخير و يرتبطان في ذلك بعوامل مختلفة من خصوصيّات الفعل و الفاعل و ولي التكليف و مقدار الضرر و النفع العائدين إلى المجتمع، و لعلّه يجمع الجميع أنّ العمل كلّما زاد الاهتمام بأمره زاد عقاباً في صورة المعصية و ثواباً في صورة الطاعة.

و يعتبر بين العمل و بين جزائه - كيف كان - نوع من المماثلة و المسانخة و لو تقريباً، و على ذلك يجري كلامه تعالى أيضاً كما هو ظاهر أمثال قوله تعالى:( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) النجم: ٣١ و أوضح منه قوله تعالى و قد حكاه عن صحف إبراهيم و موسىعليهما‌السلام :( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏، وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى‏، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) النجم: ٤١.

و هذا فيما شرعه الله في أمر القصاص أظهر، قال تعالى:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى‏ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى‏ بِالْأُنْثى‏ ) البقرة: ١٧٨ و قال:( الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللهَ ) البقرة: ١٩٤.

و لازم هذه المماثلة و المسانخة أن يعود العقاب أو الثواب إلى نفس العامل بمثل ما عمل بمعنى أنّه إذا عصى حكماً اجتماعيّاً مثلاً فإنّما تمتّع لنفسه بما يضرّ المجتمع أي بما يفسد تمتّعاً من تمتّعات المجتمع فينقص من تمتّعاته في نفسه ما يعادل ذلك من نفسه أو بدنه أو ماله أو جاهه أو نحو ذلك ممّا يعود بوجه إليه.

٣٧٩

و هذا هو الّذي أومأنا إليه في البحث عن معنى الاستعباد أنّ المجتمع أو من يلي أمره يملك من المجرم نفسه أو شأناً من شؤون نفسه يعادل الجرم الّذي اجترمه و نقيصة الضرر الّذي أوقعه على المجتمع فيعاقب بذلك أي يتصرّف المجتمع أو وليّ الأمر استناداً إلى هذا الملك - و هو الحقّ - في حياة المجرم أو شأن من شؤون حياته، و يسلب حرّيّته في ذلك.

فلو قتل نفساً مثلاً بغير نفس أو فساد في الأرض في المجتمع الإسلاميّ ملك وليّ الأمر من المجرم نفسه حيث نقصهم نفساً محترمة، و حدّه الّذي هو القتل تصرّف في نفسه عن الملك الّذي ملّكه، و لو سرق ما يبلغ ربع دينار من حرز فقد أضرّ بالمجتمع بهتك ستر من أستار الأمن العامّ الّذي أسدلته يد الشريعة و حفظته يد الأمانة، و حدّها الّذي هو القطع ليس حقيقته إلّا أنّ وليّ الأمر ملك من السارق بإزاء ما أتى به شأناً من شؤون حياته و هو الشأن الّذي تشتمل عليه اليد فيتصرّف فيه بسلب ما له من الحرّيّة و وسيلتها من هذه الجهة، و قس على ذلك أنواع الجزاء في الشرائع و السنن المختلفة.

فيتبيّن من هنا أنّ الاجرام و المعصية الاجتماعيّة يستجلب نوعاً من الرقّ و العبوديّة، و لذلك كان العبد أظهر مصاديق المؤاخذة و العقاب قال تعالى:( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ) المائدة: ١١٨.

و لهذا المعنى مظاهر متفرّقة في سائر الشرائع و السنن المختلفة قال الله تعالى في قصّة يوسفعليه‌السلام إذ جعل السقاية في رحل أخيه ليأخذه إليه:( قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ‏ - أي في إنكاركم سرقة صواع الملك -قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ - أي نجزي السارق باسترقاقه -فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ - إلى أن قال -قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ - و هذا هو التبديل و نوع من الفدية -قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ ) يوسف: ٧٩.

( هل يعدّ المطيع عبداً للمطاع ‏)

و ربّما كان يؤخذ القاتل أسيراً مملوكاً، و ربّما كان يفدي بواحدة من نسائه و حرمه كبنته و اُخته إلى غير ذلك، و سنّة الفدية بالتزويج كانت مرسومة إلى هذه الأيّام بين

٣٨٠

القبائل و العشائر في نواحينا لأنّ الازدواج يعدّ عندهم نوعاً من الاسترقاق و الإسارة للنساء.

و من هنا ما ربّما يعدّ المطيع عبداً للمطاع لأنّه بإطاعته يتبع إرادته إرادة المطاع فهو مملوكه المحروم من حرّيّة الإرادة قال تعالى:( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَ أَنِ اعْبُدُونِي ) يس: ٦١ و قال:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) الجاثية: ٢٣.

و بالعكس من تملّك المجتمع أو وليّ الأمر المجرم المعاقب يملك المطيع المثاب من المجتمع أو وليّ الأمر ما يوازن طاعته من الثواب فإنّ المجتمع أو الولي نقص من المكلّف المطيع بواسطة التكليف شيئاً من حرّيّته الموهوبة فعليه أن يتمّمه كما نقص.

و هذا الّذي ذكرناه هو السرّ في ما اشتهر: أنّ الوفاء بالوعد واجب دون الوعيد و ذلك أنّ مضمون الوعد في ظرف المولويّة و العبوديّة هو الثواب على الطاعة كما أنّ مضمون الوعيد هو العقاب على المعصية و الثواب لما كان من حقّ المطيع على وليّ الأمر و في ذمّته وجب عليه تأديته و تفريغ ذمّته منه بخلاف العقاب فإنّه من حقّ وليّ الأمر على المكلّف المجرم، و ليس من الواجب أن يتصرّف الإنسان في ملكه و يستفيد من حقّه إن كان له ذلك، و للكلام تتمّة.

٢- العفو و المغفرة؟: استنتجنا من البحث السابق جواز ترك المجازاة على المعصية بخلاف الطاعة، و هو حكم فطريّ في الجملة مبنيّ على أنّ العقاب حقّ للمعصيّ على العاصي، و ليس من الواجب إعمال الحقّ دائماً.

غير أنّه كما لا يجب إعمال حقّ العقاب دائماً كذلك لا يجوز تركه دائماً و إلّا لغي القضاء الفطريّ بثبوت الحقّ، و لا معنى لثبوت شي‏ء لا أثر له و لا في وقت من الأوقات على أنّ إلغاء حقّ العقاب من رأسه هدم للقوانين الموضوعة الحافظة لبنية الاجتماع و في هدمها هدم الاجتماع بلا ريب.

فالحكم - و هو جواز العفو عن الذنب - ثابت في الجملة، و القضيّة مهملة فإن كان

٣٨١

هناك سبب مسوّغ بحسب الحكمة للعفو جاز العفو و إلّا وجبت المجازاة احتراماً للقوانين الحافظة لبنية المجتمع و سعادة الإنسان، و إليه الإشارة بقوله تعالى حكاية عن عيسىعليه‌السلام :( وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) المائدة: ١١٨.

و يوجد في القرآن الكريم من أسباب المغفرة ممّا تمضيه الحكمة الإلهيّة سببان كلّيّان:

أحدهما: توبة العبد إلى الله سبحانه أعمّ من رجوعه من الكفر إلى الإيمان أو رجوعه من المعصية إلى الطاعة على ما تقدّم بيانه في الكلام على التوبة في الجزء الرابع من الكتاب، قال تعالى:( قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَ أَنِيبُوا إِلى‏ رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ - و هذه التوبة من الكفر الّذي فيه وعيد العذاب الّذي لا ينفع فيه ناصر شفيع -وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) الزمر: ٥٥ و هذه هي التوبة من المعصية إلى الطاعة، و لم ينف فيه نفع الشفاعة.

و قال تعالى:( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً، وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) النساء: ١٨.

و ثانيهما: الشفاعة يوم القيامة قال تعالى:( وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف: ٨٦ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المتعرّضة لأمر الشفاعة، و قد أشبعنا البحث فيها في الكلام على الشفاعة في الجزء الأوّل من الكتاب.

و يوجد في القرآن الكريم موارد متفرّقة يذكر فيها العفو من غير ذكر سببه و إن كان التدبّر فيها يهدي إلى إجمال ما روعي فيها من المصلحة و هي مصلحة الدين كقوله تعالى:( وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ اللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران: ١٥٢، و قوله تعالى:( أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ

٣٨٢

تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اللهَ وَ رَسُولَهُ ) المجادلة: ١٣ و قوله تعالى:( لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) التوبة: ١١٧ و قوله تعالى:( وَ حَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَ صَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ) المائدة: ٧١، و قوله تعالى:( الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) المجادلة: ٣، و قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ - إلى أن قال -عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَ اللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ) المائدة: ٩٥.

فهذه موارد متنوّعة من العفو الإلهيّ و قد بيّنّا خصوصيّة كلّ منها في الكلام على الآية المشتملة عليه من الكتاب فليراجع.

و ليس من قبيل ما تقدّم قوله تعالى:( عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ) التوبة: ٤٣ فإنّه دعاء نظير قولنا: غفر الله لك لم فعلت كذا و كذا، و نظيره على الخلاف قوله تعالى:( إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) المدّثّر: ١٩ و ليس من ذاك القبيل أيضاً قوله تعالى:( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ ) الفتح: ٢، و يدلّ على ذلك جعل المغفرة غاية متفرّعة على فتحه تعالى مكّة لنبيّه و لا رابطة بين مغفرة الذنب بمعنى الإثم و بين الفتح، و سيجي‏ء تمام الكلام في محلّه إن شاء الله.

٣- للعفو مراتب: لما كان العفو و المغفرة يتعلّق بالذنب الّذي يستتبع نوعاً من المجازاة و العقاب، و للجزاء - كما عرفت - عرض عريض و مراتب مختلفة متشتّتة أتبعه العفو في اختلاف المراتب حسب اختلافه، و ليس الاختلاف الواقع في نفس الذنب أعني التبعة السيّئة الّتي يستتبعها العمل فالاختلاف فيها ممّا لا سبيل إلى إنكاره، و الجزاء سواء كان عقاباً أو ثواباً إنّما يوزن بزنتها.

فممّا لا محيص عنه في بحثنا هذا هو البحث عن الذنب و اختلاف مراتبه، و التأمّل فيما يهدي إليه العقل الفطريّ فإنّ البحث و إن كان قرآنيّا يراد به الحصول على ما

٣٨٣

يراه الكتاب الإلهيّ في هذه الحقائق غير أنّه تعالى على ما بيّن في كلامه يكلّمنا على قدر عقولنا و بالموازين الفطريّة الّتي نزن بها الأشياء في مرحلتي النظر و العمل، و قد مرّت الإشارة إليه في موارد من الأبحاث الموضوعة في هذا الكتاب، و قد استمدّ تعالى في موارد من بياناته بالعقل و الفكر الإنسانيّ، و أيّد به مقاصد كلامه فقال تعالى:( أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) ( أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ ) ، و ما في معناهما.

و الّذي يفيده الاعتبار الصحيح هو أنّ أوّل ما يتعلّق به و يحترمه المجتمع الإنسانيّ هو الأحكام العمليّة و السنن المحترمة الّتي تحفظ بالعمل بها و المداومة عليها مقاصده الإنسانيّة و تهديه إلى سعادته في الحياة، ثمّ تضع أحكاماً جزائيّة يجازى على طبقها المتخلّف العاصي عن القوانين الاجتماعيّة و يثاب المطيع الممتثل.

و في هذه المرحلة لا يسمّى باسم الذنب إلّا التخلّف عن متون القوانين العمليّة، و تحاذي الذنوب لا محالة في عددها عدد موادّ الأحكام الاجتماعيّة، و هذا هو المغروز المركوز في أذهاننا معاشر المسلمين أيضاً من معنى لفظ الذنب و الألفاظ الّتي تقارنه في المعنى كالسيّئة و المعصية و الإثم و الخطيئة و الحوب و الفسق و نحوها.

لكنّ الأمر لا يقف على هذا الحدّ فإنّ الأحكام العمليّة إذا عمل بها و روقبت و تحفّظ عليها ساق المجتمع إلى أخلاق و أوصاف مناسبة لها ملائمة لمقاصد المجتمع الّتي هي غاية اجتماعهم، و هذه الأخلاق هي الّتي يسمّيها المجتمع بالفضائل الإنسانيّة و يحرّص و يحرّض عليها، و تقابلها الرذائل.

و هي و إن كانت مختلفة باختلاف السنن و المقاصد في المجتمعات إلّا أنّ أصل إنتاج الأحكام الاجتماعيّة لها ممّا لا سبيل إلى سدّه و إعفائها عنه.

و هذه الأخلاق الفاضلة و إن كانت أوصافاً روحيّة لا ضامن لإجرائها في مقام العمل في المجتمعات، و كانت غير اختياريّة بلا واسطة لكونها ملكات لكنّها لكونها في تحقّقها تتبع تكرّر العمل بالأحكام المقرّرة في المجتمع أو تكرّر التخلّف عن العمل كانت نفس العمل بالأحكام ضامنة لإجرائها و تعدّ اختياريّة باختياريّة مقدّمتها و هي تكرّر العمل، و تتصوّر في مواردها أوامر عقليّة متعلّقه بالأخلاق الفاضلة كالشجاعة و العفّة و العدالة، و

٣٨٤

نواه عقليّة تردع عن الأخلاق الرذيلة كالجبن و التهوّر و الخمود و الشره و الظلم، و كذا يتصوّر لها عقاب و ثواب يسمّيان بالعقاب و الثواب العقليّين كالمدح و الذمّ.

و بالجملة تتحقّق بذلك مرتبة من مراتب الذنب فوق المرتبة السابق ذكرها، و هي مرتبة التخلّف عن الأحكام الخلقيّة و الأوامر العقليّة المتعلّقة بها.

و لم تعدّ هذه الأوامر العقليّة أوامر إلّا من جهة التلازم بين الأعمال الواجبة الّتي تسوق إليها و بينها، فهناك حاكم يحكم بالوجوب و يأمر به و هو العقل الإنسانيّ و نظيره القول في تسمية النواهي، العقليّة نواهي و هذا دأبنا في جميع موارد التلازم فإذا فرضنا العمل بأحد المتلازمين لا نلبث دون أن نأمر بإتيان الآخر و وجوبه، و نرى التخلّف عن ذلك عصياناً لهذا الأمر العقليّ، و ذنباً يستحقّ به نوع من المؤاخذة.

و يظهر من هنا أمر آخر و هو أنّ هذه الفضائل لما كانت مشتملة على واجبات لا محيص عن التلبّس بها - و مثله اشتمال الرذائل على المحرّمات - و على اُمور مندوبة مستحبّة هي كالزينة و الهيأة الجميلة فيها - و هي الآداب الحسنة الّتي تتعلّق بها أوامر عقليّة استحسانيّة إلّا أنّها إذا فرضت ظرفاً لأحد منّا كان ما يلازمها من الآداب - و هي مندوبة في نفسها - مأموراً به عقلاً أمراً إيجابيّاً قضاءً لحقّ الظرفيّة المفروضة، مثال ذلك أنّ البدويّ العائش عيشة العشائر البدويّة لما كان ظرف حياته بعيداً من المستوي المتوسّط في الحياة الحضريّة لا يؤاخذ إلّا بالضروريّات من أحكام المجتمع و السنن العامّة الّتي يناله عقله و فهمه، و ربّما أتى بالوقيح من الأعمال أو الركيك من الأقوال فيغمض عنه الحضريّ معتذراً بقصور الفهم و بعد الدار من السواد الأعظم الّذي تكرّر مشاهدة الرسوم و الآداب فيه أحسن معلّم للناس القاطنين فيه.

ثمّ المتوسّط من الناس الحضريّين لا يؤاخذ بما يؤاخذ به الآحاد النوادر من المجتمع الّذين هم أهل الفهم اللطيف و الأدب الظريف و لا عذر فيما يقع من المتوسّط من الناس من ترك دقائق الأدب و ظرائف القول و الفعل إلّا أنّ فهمه على قدر ما يأتي به، لا يشعر من لوازم الأدب بأزيد ممّا يأتي به و ظرفه هو ظرفه.

و ما يأتي به ممّا لا ينبغي هو ممّا يؤاخذ به الأوحديّون من الرجال فربّما

٣٨٥

يؤاخذون بلحن خفيّ في كلام أو بتبطّؤ يسير في حركة أو بتفويت آن غير محسوس في سكون أو التفات أو غمض عين و نحو ذلك فيعدّ ذلك كلّه ذنباً منهم، و ليس من الذنب بمعنى مخالفة الموادّ القانونيّة دينيّة كانت أو دنيويّة، و قد اشتهر بينهم: أنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

و كلّما دقّ المسلك و لطف المقام ظهرت هنالك خفايا من الذنوب كانت قبل تحقّق هذا الظرف مغفولاً عنها لا يحسّ بها الإنسان المكلّف بالتكاليف، و لا يؤاخذ بها وليّ المؤاخذة و المحاسبة.

و ينتهي ذلك - فيما يعطيه البحث الدقيق - إلى الأحكام الناشئة في ظرفي الحبّ و البغض فترى عين المبغض - و خاصّة في حال الغضب - عامّة الأعمال الحسنة سيّئة مذمومة، و يرى المحبّ إذا تاه في الغرام و استغرق في الوله أدنى غفلة قلبيّة عن محبوبه ذنباً عظيماً و إن اهتمّ بعمل الجوارح بتمام أركانه، و ليس إلّا أنّه يرى أنّ قيمة أعماله في سبيل الحبّ على قدر توجّه نفسه و انجذاب قلبه إلى محبوبه فإذا انقطع عنه بغفلة قلبيّة فقد أعرض عن المحبوب و انقطع عن ذكره و أبطل طهارة قلبه بذلك.

حتى أنّ الاشتغال بضروريّات الحياة من أكل و شرب و نحوهما يعدّ عنده من الاجرام و العصيان نظراً إلى أنّ أصل الفعل و إن كان من الضروريّ الّذي يضطرّ إليه الإنسان لكنّ كلّ واحد واحد من هذه الأفعال الاضطراريّة من حيث أصله اختياريّ في نفسه، و الاشتغال به اشتغال بغير المحبوب و إعراض عنه اختياراً و هو من الذنب، و لذلك نرى أهل الوله و الغرام و كذا المحزون الكئيب و من في عداد هؤلاء يستنكفون عن الاشتغال بأكل أو شرب أو نحوهما.

و على نحو من هذا القبيل ينبغي أن يحمل‏ ما ربّما يروى عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله:( إنّه ليغان على قلبي فأستغفر الله كلّ يوم سبعين مرّة) ، و عليه يمكن أن يحمل بوجه قوله تعالى:( وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ ) المؤمن: ٥٥ و قوله:( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً ) النصر: ٣.

و عليه يحمل ما حكى تعالى عن عدّة من أنبيائه الكرام كقول نوح:( رَبِّ اغْفِرْ لِي

٣٨٦

وَ لِوالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً ) نوح: ٢٨ و قول إبراهيم:( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ ) إبراهيم: ٤١ و قول موسى لنفسه و أخيه:( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ ) الأعراف: ١٥١ و ما حكى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) البقرة: ٢٨٥.

فإنّ الأنبياءعليهم‌السلام مع عصمتهم لا يتأتّى أن تصدر عنهم المعصية، و يقترفوا الذنب بمعنى مخالفة مادّة من الموادّ الدينيّة الّتي هم المرسلون للدعوة إليها، و القائمون قولاً و فعلاً بالتبليغ لها، و المفترض طاعتهم من عند الله، و لا معنى لافتراض طاعة من لا يؤمن وقوع المعصية منه، تعالى الله عن ذلك.

و هكذا يحمل على هذا الباب ما حكي عن بعضهمعليهم‌السلام من الاعتراف بالظلم و نحوه كقول ذي النون:( لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) الأنبياء: ٨٧ إذ كما يجوز عدّهم بعض الأعمال المباحة الصادرة عنهم ذنباً لأنفسهم و طلب المغفرة من الله سبحانه، كذلك يجوز عدّه ظلماً من أنفسهم لأنّ كلّ ذنب ظلم.

و قد مرّ أنّ هنالك محملاً آخر و هو أن يكون المراد بالظلم هو الظلم على النفس كما في قول آدم و زوجته:( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) الأعراف: ٢٣.

و إيّاك أن تتوهّم أنّ معنى قولنا في آية: إنّ لها محملاً كذا و محملاً كذا هو تسليم أنّ ذلك من خلاف ظاهر الكلام ثمّ الاجتهاد في اختلاف معنى يحمل عليه الكلام، و تطبق عليه الآيات القرآنيّة تحفّظاً على الآراء المذهبيّة، و اضطراراً من قبل التعصّب.

و قد تقدّم البحث الحرّ في عصمة الأنبياءعليهم‌السلام بالتدبّر في الآيات أنفسها من غير اعتماد على المقدّمات الغريبة الأجنبيّة في الجزء الثاني من الكتاب.

و قد بيّنّا هناك و في غيره أن ظاهر الكلام لا يقتصر في تشخيصه على الفهم العامّيّ المتعلّق بنفس الجملة المبحوث عنها بل للقرائن المقاميّة و الكلاميّة المتّصلة و المنفصلة - كالآية المتعرّضة لمعنى آية اُخرى - تأثير قاطع في الظواهر، و خاصّة في الكلام الإلهيّ الّذي بعضه ببعض، و يشهد بعضه على بعض، و يصدّق بعضه بعضاً.

٣٨٧

و الغفلة عن هذه النكتة هي الّتي أشاعت بين عدّة من المفسّرين و أهل الكلام إبداع التأويل بمعنى صرف الكلام إلى ما يخالف ظاهره، و ارتكابه في الآيات المخالفة لمذهبهم الخاصّ على زعمهم فتراهم يقطعون القرآن قطعاً ثمّ يحملون كلّ قطعة منها على ما يفهمه العامّيّ السوقيّ من كلام سوقيّ مثله فإذا سمعوه تعالى يقول:( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) حملوه على أنّهعليه‌السلام - و حاشاه - زعم أو أيقن أنّ الله سبحانه يعجز عن أخذه مع أنّ ما في الآية التالية:( وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) يعدّه من المؤمنين، و لا إيمان لمن شكّ في قدرة الله فضلاً عن أن يرجّح أو يقطع بعجزه.

و إذا سمعوه تعالى يقول:( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تقدّم مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ ) تفهّموا منه أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أذنب فغفر الله له كما يذنب الواحد منّا بمخالفة أمر أو نهي مولويّ من الله تنعقد بهما مسألة فرعيّة فقهيّة.

و لم يهدهم التدبّر حتّى بمقدار أن يرجعوا إلى سابقة الآية:( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) حتّى ينجلي لهم أنّ هذا الذنب و المغفرة المتعلّقة به لو كانا كالذنوب الّتي لنا و المغفرة الّتي تتعلّق بها لم يكن وجه لتعليق المغفرة على فتح مكّة تعليق الغاية على ذي الغاية، و كذا لم يكن وجه لعطف ما عطف عليه أعني قوله:( وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً، وَ يَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ) الفتح: ٣.

و كذا إذا سمعوا سائر الآيات الّتي تشتمل على عثرات الأنبياء بزعمهم كالّتي وردت في قصص آدم و نوح و إبراهيم و لوط و يعقوب و يوسف و داود و سليمان و أيّوب و محمّد (صلّى الله عليه و آله و عليهم) بادروا إلى الطعن في ساحة نزاهتهم، و لم ينقبضوا عن إساءة الأدب إليهم و هم أنفسهم أولى بما رموا و لا شين كسوء الأدب.

فساقهم سوء الحظّ و رداءة النظر إلى أن أبدلوا ربّهم ربّ العالمين بربّ تنعته التوراة و الأناجيل المحرّفة قوّة غيبيّة متجسّدة تدير رحى الوجود كما يدير جبّار من جبابرة الإنسان مملكته لا همّ له إلّا إشباع طاغية شهوته و غضبه فجهلوا مقام ربّهم ثمّ سهوا عن مقام النبوّة و عفوا مدارجهم العالية الشريفة الروحيّة و مقاماتهم السامية الحقيقيّة فعادت بذلك هاتيك النفوس الطاهرة المقدّسة تماثل النفوس الرديئة الخسيسة الّتي ليس لها من

٣٨٨

شرف الإنسانيّة إلّا التسمّي باسمها تهلك من(١) هذا نفسه، و تخون من ذاك عرضه، و تطمع من ذلك في ماله مع أنّهم على ما لهم من الجهل لا يرضون بهذه الفضائح فيمن يتقلّد أمراً من اُمور دنياهم أو يتصدّى يوماً للقيام بمصلحة بيتهم و أهلهم فكيف يرضون بنسبة هذه الفضائح إلى الله سبحانه و هو العليم الحكيم الّذي أرسل رسله إلى عباده لئلّا يكون لهم حجّة بعدهم؟ و ليت شعري أيّ حجّة تقوم على كافر أو فاسق إذا جاز للرسول أن يكفر أو يفجر أو يدعو إلى الشرك و الوثنيّة ثمّ يتبرّأ منه و ينسبه إلى الشيطان؟.

و إذا ذكّروا ببعض ما لأنبياء اللهعليهم‌السلام من العصمة الإلهيّة و المقامات الموهوبة و المواقف الروحيّة عدّوا ذلك شركاً بالله، و غلوّاً في حقّ عباد الله، و أخذوا في تلاوة قوله:( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) .

و قد أصابوا في ردّهم بوجه فإنّ ما يتصوّرونه من الربّ عزّ اسمه و ينعتونه بها من النعوت في ذاته و فعله دون ما يذكّرون به من مقامات الأنبياءعليهم‌السلام و أخفض منها منزلة و قدراً، و هذا كلّه من المصائب الّتي لقيتها الإسلام و أهله ممّا دسّته أهل الكتاب و خاصّة اليهود في الروايات و عملته أيديهم، و حرّكوا بها الرحى على غير محوره، و اعتقدوا في الله سبحانه الّذي ليس كمثله شي‏ء أنّه مثل الإنسان المتجبّر الّذي يرى لنفسه أنّه حرّ غير مسؤل فيما يفعل و هم المسؤلون، و أنّ ترتّب المسبّبات على أسبابها و استيلاد المقدّمات نتائجها، و اقتضاء الخصائص الوجوديّة صوريّة أو معنويّة لآثارها كلّ ذلك جزافيّ لا لرابطة حقيقيّة.

و أنّ الله تعالى ختم بمحمّد النبوّة و أنزل عليه القرآن، و خصّ موسى بالتكليم، و عيسى بالتأييد بالروح لا لخصوصيّة في نفوسهم الشريفة بل لأنّه أراد أن يخصّهم بكذا و بكذا، و أنّ ضرب موسى بعصاه الحجر فانفجرت كضرب أحدنا بعصاه الحجر غير أنّ الله يفجّر ذاك و لا يفجّر هذا، و أنّ قول عيسى للموتى: قوموا بإذن الله مثل أن ينادي أحدنا بين المقابر: قوموا بإذن الله إلّا أنّ الله يحيي اُولئك و لا يحيي هؤلاء و هكذا.

و ليس ذلك كلّه إلّا قياساً لنظام التكوين إلى نظام التشريع الّذي لا قوام له إلّا

____________________

(١) راجع ما رووه في داود و سليمان و في إبراهيم و لوط و غيرهم عليهم السلام.

٣٨٩

الوضع و الاصطلاح و التعاهد الّذي لا يتجاوز ظرف الاجتماع سعة، و لا يعدو دنيا الإنسان المجتمع.

و لو أنّهم تفطّنوا قليلاً و تدبّروا في أطراف الآيات المتعرّضة لأمر الذنب و المعصية بالمعنى المصطلح عليه، و هي مخالفة الأمر و النهي المولويّين تنبّهوا إلى أنّ من المغفرة ما هو فوق المغفرة المعروفة.

فإنّ الله سبحانه يكرّر في كلامه أنّ له عباداً يسمّيهم بالمخلصين مصونين عن المعصية لا مطمع فيهم للشيطان فلا ذنب - بالمعنى المعروف - لهم و لا حاجة إلى المغفرة المتعلّقة بذلك الذنب، و قد نصّ في حقّ عدّة من أنبيائه كإبراهيم و إسحاق و يعقوب و يوسف و موسى أنّهم مخلصون كقوله في إبراهيم و إسحاق و يعقوب:( إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) ص: ٤٦، و قوله في يوسف:( إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) يوسف: ٢٤، و قوله في موسى:( إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً ) مريم: ٥١ و قد حكى عنهم سؤال المغفرة كقول إبراهيمعليه‌السلام :( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ ) إبراهيم: ٤١ و قول موسىعليه‌السلام :( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ ) الأعراف: ١٥١ و لو كانت المغفرة لا يتعلّق إلّا بالذنب بالمعنى المعروف لم يستقم ذلك.

نعم ربّما قال القائل: إنّهمعليهم‌السلام يعدّون أنفسهم مذنبين تواضعاً لله سبحانه و لا ذنب لهم لكن ينبغي لهذا القائل أن يتنبّه إلى أنّهمعليهم‌السلام لم يخطأوا في نظرهم هذا، و لم يجازفوا في قولهم فلشمول المغفرة لهم معنى صحيح و المسألة جدّيّة.

على أنّ في دعاء إبراهيمعليه‌السلام :( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ ) دعاءً لكافّة المؤمنين - و فيهم المخلصون - بالمغفرة، و كذا في دعاء نوحعليه‌السلام :( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ) نوح: ٢٨ شمول بإطلاقه للمخلصين، و لا معنى لطلب المغفرة على من لا ذنب له يحتاج إلى المغفرة.

فهذا كلّه ينبّهنا إلى أنّ من الذنب المتعلّق به المغفرة ما هو غير الذنب بالمعنى المتعارف و كذا من المغفرة ما هي غير المغفرة بمعناها المتعارف، و قد حكى الله تعالى عن إبراهيم قوله:( وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) الشعراء: ٨٢ و لعلّ هذا هو السبب فيما

٣٩٠

نشاهد أنّه تعالى في موارد من كلامه إذا ذكر الرحمة أو الرحمة الاُخرويّة الّتي هي الجنّة قدم عليه ذكر المغفرة كقوله:( وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ ) المؤمنون: ١١٨ و قوله:( وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا ) البقرة: ٢٨٦ و قوله حكاية عن آدم و زوجته:( وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا ) الأعراف: ٢٣ و قوله عن نوحعليه‌السلام :( وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي ) هود: ٤٧.

فتحصّل من البيان السابق: أنّ للذنب مراتب مختلفة مترتّبة طولاً كما أنّ للمغفرة مراتب بحذائها، تتعلّق كلّ مرتبة من المغفرة بما يحاذيها من الذنب، و ليس من اللازم أن يكون كلّ ذنب و خطيئة متعلّقاً بأمر أو نهي مولويّ فيعرفه و يتبيّنه الأفهام العامّيّة الساذجة، و لا أن يكون كلّ مغفرة متعلّقة بهذا النوع من الذنب.

فالّذي تبيّن لنا من مراتب الذنب و المغفرة بحسب البحث السابق العامّ مراتب أربع:

اُولاها: الذنب المتعلّق بالأمر و النهي المولويّين و هو المخالفة لحكم شرعيّ فرعيّ أو أصليّ و إن عمّمت التعبير قلت: مخالفة مادّة من الموادّ القانونيّة دينيّة كانت أو غير دينيّة، و تتعلّق به مغفرة تحاذيه مرتبة.

و الثانية: الذنب المتعلّق بالحكم العقليّ الخلقيّ و المغفرة المتعلّقة به.

و الثالثة: الذنب المتعلّق بالحكم الأدبيّ ممّن ظرف حياته ظرف الأدب و المغفرة المتعلّقة به، و هذان القسمان ربّما لم يعدّا بحسب الفهم العامّيّ من الذنوب و المغفرات، و ربّما حسبوهما منها مجازاً، و ليس من المجاز في شي‏ء لما عرفت من ترتّب الآثار الحقيقيّة عليهما.

و الرابعة: الذنب الّذي يحكم به ذوق الحبّ و المغفرة المتعلّقة به، و في ظرف البغض أيضاً ما يشبههما، و هذا النوع لا يعدّه الفهم العامّيّ من الأقسام، و قد أخطأوا في ذلك لا لجور منهم في الحكم و القضاء بل لقصور فهمهم عن تعقّله و تبيّن معناه.

و ربّما قال القائل منهم: إنّه من أوهام العشّاق و المبرسمين أو تخيّل شعريّ لا يتّكئ على حقيقة عقليّة، و قد غفل عن أنّ هذه التصوّرات على أنّها أوهام و تخيّلات في طريق الحياة الاجتماعيّة هي بعينها تعود حقائق - و أيّ حقائق - في طريق العبوديّة عن

٣٩١

حبّ إلهيّ يذيب القلب و يولّه اللبّ، و لا يدع للإنسان شعوراً يشعر بغير ربّه، و لا إرادة يريد بها إلّا ما يريده.

و حينئذ يلوح له أنّ التفاتة يسيرة منه إلى نفسه أو إلى مشتهاها من شي‏ء ذنب عظيم و حجاب غليظ لا ترفعه إلّا المغفرة الإلهيّة، و قد عدّ الله سبحانه الذنب حجاباً للقلب عن التوجّه التامّ إلى ربّه إذ قال:( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) المطفّفين: ١٥.

فهذا ما يعطيه البحث الجدّيّ الّذي لا يلعب فيه بالحقائق، و ربّما أمكن أن يلوح لأولياء الله السالكين في عبوديّتهم سبيل حبّه تعالى دقائق من الذنب و لطائف من المغفرة لا تكاد تناله أيدي الأبحاث الكلّيّة العامّة.

٤- هل المؤاخذة أو المغفرة تستلزم ذنباً؟: الباحث في ديدن العقلاء من أهل الاجتماع يعثر على أنّهم يبنون المؤاخذة و العقاب على التكليف الاختياريّ، و من شرائط صحّته عندهم العقل، و هناك شرائط اُخر تختلف في أصلها و في تحديد ماهيّاتها و حدودها المجتمعات، و لسنا هاهنا بصدد البحث عنها.

و إنّما كلامنا في العقل الّذي هو قوّة التمييز بين الحسن و القبح و النافع و الضارّ و الخير و الشرّ بحسب المتوسّط من حال الناس في مجتمعهم، فإنّ الناس من حيث النظر الاجتماعيّ يرون أنّ في الإنسان مبدءً فعّالاً هذا شأنه و إن كان البحث العلميّ ربّما أدّى إلى أنّه ليست قوّة من القوى الطبيعيّة المودعة في الإنسان كالمتخيّلة و الحافظة، و إنّما هي ملكة حاصلة من توافق عدّة من القوى في الفعل كالعدالة.

فالمجتمعات على اختلافها ترى أنّ التكليف منوط بهذا المسمّى عقلاً فيتفرّع الثواب و العقاب المتفرّعين على التكليف عليه لا محالة فيثاب العاقل بطاعته و يعاقب بجرمه.

و أمّا غير العاقل كالصبيّ و المجنون و السفيه و كلّ مستضعف غيرهم فلا ثواب و لا عقاب على ما يأتون به من طاعة أو معصية بحقيقة معنى الثواب و العقاب، و إن كانوا ربّما يثابون قبال طاعتهم ثواباً تشويقيّاً أو يؤاخذون و يساسون قبال جرمهم بما يسمّى عقاباً

٣٩٢

تأديباً، و هذا شائع دائر في المجتمعات حتّى المجتمع الإسلاميّ.

و هؤلاء بالنظر إلى السعادة و الشقاوة المكتسبتين بامتثال التكاليف و مخالفتها في الحياة الدنيا، لا سعداء و لا أشقياء إذ لا تكليف لهم فلا ثواب حتّى يسعدوا به و لا عقاب حتّى يشقوا به، و إن كانوا ربّما يشوّقون بخير أو يؤدّبون بشرّ.

و أمّا بالنسبة إلى الحياة الآخرة الّتي يثبتها الدين الإلهيّ ثمّ يقسم الناس إلى قسمين لا ثالث لهما: السعيد و الشقيّ أو المثاب و المعاقب فالّذي يذكره القرآن الشريف في ذلك أمر إجماليّ لا يتبيّن تفصيله إذ لا طريق عقلاً إلى تشخيص تفاصيل أحوالهم بعد الدنيا، قال تعالى:( وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة: ١٠٦، و قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً ) النساء: ٩٩.

و الآيات - كما ترى - تشتمل على العفو عنهم و التوبة عليهم و لا مغفرة في مورد لا ذنب هناك، و على عذابهم و لا عذاب على من لا تكليف له، غير أنّك عرفت أنّ الذنب و كذا المغفرة و العقاب و الثواب ذوات مراتب مختلفة: منها ما يتعلّق بمخالفة التكليف المولويّ أو العقليّ، و منها ما يتعلّق بالهيئات النفسانيّة الرديئة و أدران القلب الّتي تحجب الإنسان عن ربّه، و هؤلاء و إن كانوا في معزل من تعلّق التكليف المتوقّف على العقل لكنّهم ليسوا بمصونين من ألواث النفوس و أستار القلوب الّتي يحتاج التنعّم بنعيم القرب، و الحضور في ساحة القدس إلى إزالتها و عفوها و الستر عليها و مغفرتها.

و لعلّ هذا هو المراد ممّا ورد في بعض الروايات:( أنّ الله سبحانه يحشرهم ثمّ يخلق ناراً و يأمرهم بدخولها فمن دخلها دخل الجنّة و من أبى أن يدخلها دخل النار) و سيجي‏ء ما يتعلّق بالروايات من الكلام في تفسير سورة التوبة إن شاء الله، و قد مرّ بعض الكلام في سورة النساء.

٣٩٣

و من استعمال العفو و المغفرة في غير مورد الذنب في كلامه تعالى ما تكرّر وقوعه في مورد رفع الحكم بقوله تعالى:( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) المائدة: ٣، و نظيره ما في سورة الأنعام، و قوله تعالى في رفع الوضوء عن فاقد الماء:( وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى‏ أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ - إلى أن قال -فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً ) النساء: ٤٣، و قوله في حدّ المفسدين في الأرض:( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) المائدة: ٣٤، و قوله في رفع حكم الجهاد عن المعذورين:( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) التوبة: ٩١، إلى غير ذلك.

و قال تعالى في البلايا و المصائب الّتي تصيب الناس:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى: ٣٠.

و ينكشف بذلك أنّ صفة العفو و المغفرة منه تعالى كصفتي الرحمة و الهداية تتعلّق بالاُمور التكوينيّة و التشريعيّة جميعاً فهو تعالى يعفو عن الذنوب و المعاصي فيمحوها من صحيفة الأعمال، و يعفو عن الحكم الّذي له مقتض يقتضي وضعه فيمحوه فلا يشرّعه، و يعفو عن البلايا و المصائب و أسبابها قائمة فيمحوها فلا تصيب الإنسان.

٥- رابطة العمل و الجزاء: قد عرفنا فيما تقدّم من البحث أنّ الأوامر و النواهي العقلائيّة - القوانين الدائرة بينهم - تستعقب آثاراً جميلة حسنة على امتثالها و هي الثواب، و آثاراً سيّئة على مخالفتها و التمرّد منها تسمّى عقاباً، و أنّ ذلك كالحيلة يحتالون بها إلى العمل بها، فجعلهم الجزاء الحسن للامتثال إنّما هو ليكون مشوّقاً للعامل، و الجزاء السيّئ على المخالفة ليكون العامل على خوف و حذر من التمرّد.

و من هنا يظهر أنّ الرابطة بين العمل و الجزاء رابطة جعليّة وضعيّة من المجتمع أو من وليّ الأمر، دعاهم إلى هذا الجعل حاجتهم الشديدة إلى العمل ليستفيدوا منه و يرفعوا به الحاجة و يسدّوا به الخلّة، و لذلك تراهم إذا استغنوا و ارتفعت حاجتهم إلى العمل ساهلوا في الوفاء على ما تعهّدوا به من ثواب و عقاب.

و لذلك أيضاً ترى الجزاء يختلف كثرة و قلّة و الأجر يتفاوت شدّة و ضعفاً باختلاف

٣٩٤

الحاجة إلى العمل فكلّما زادت الحاجة زاد الأجر و كلّما نقصت نقص فالأمر و المأمور و المكلّف و المكلّف بمنزلة البائع و المشتري كلّ منهما يعطي شيئاً و يأخذ شيئاً.

و الأجر و الثواب بمنزلة الثمن، و العقاب بمنزلة الدرك على من أتلف شيئاً فضمن قيمته و استقرّت في ذمّته.

و بالجملة فهو أمر وضعيّ اعتباريّ نظير سائر العناوين و الأحكام و الموازين الاجتماعيّة الّتي يدور عليها رحى الاجتماع الإنسانيّ كالرئاسة و المرؤسيّة و الأمر و النهي و الطاعة و المعصية و الوجوب و الحرمة و الملك و المال و البيع و الشراء و غير ذلك، و إنّما الحقائق هي الموجودات الخارجيّة و الحوادث المكتنفة بها الّتي لا تختلف حالها بغنى و فقر و عزّ و ذلّ و مدح و ذمّ كالأرض و ما يخرج منها و الموت و الحياة و الصحّة و المرض و الجوع و الشبع و الظمأ و الريّ.

فهذا ما عند العقلاء من أهل الاجتماع، و الله سبحانه جارانا في كلامه مجاراة بعضنا بعضاً فقلّب سعادتنا الّتي يهدينا إليها بدينه في قالب السنن الاجتماعيّة فأمر و نهى و رغّب و حذّر، و بشّر و أنذر، و وعد بالثواب و أوعد بالعقاب فصرنا نتلقّى الدين على أسهل الوجوه الّتي نتلقّى بها السنن و القوانين الاجتماعيّة، قال تعالى:( وَ لَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى‏ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ) النور: ٢١.

و لم يهمل سبحانه أمر تعليم النفوس المستعدّة لإدراك الحقائق فأشار في آيات من كلامه إلى أنّ وراء هذه المعارف الدينيّة الّتي تشتمل عليها ظواهر الكتاب و السنّة أمراً هو أعظم، و سرّاً هو أنفس و أبهى فقال تعالى:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ) العنكبوت: ٦٤.

فعدّ الحياة الدنيا لعباً لا بنية له إلّا الخيال، و لا شأن له إلّا أن يشغل الإنسان عمّا يهمه، و هي الدار الآخرة و سعادة الإنسان الدائمة الّتي لها حقيقة الحياة، و المراد بالحياة الدنيا إن كان هو عين ما نسمّيه حياة دون ما يلحق بها من الشؤون الحيويّة من مال و جاه و ملك و عزّة و كرامة و نحوها فكونها لعباً و لهواً مع ما نراها من الحقائق يستلزم كون الشؤون

٣٩٥

الحيويّة لعباً و لهواً بطريق أولى، و إن كان المراد الحياة الدنيويّة بجميع لواحقها فالأمر أوضح.

فهذه السنن الاجتماعيّة و المقاصد الّتي يطلب بها من عزّ و جاه و مال و غيرها، ثمّ الّذي يشتمل عليه التعليم الدينيّ من موادّ و مقاصد هدانا الله سبحانه إليها بالفطرة ثمّ بالرسالة مثلها كمثل اللعب الّذي يضعه الوليّ المربّي العاقل للطفل الصغير الّذي لا يميّز صلاحه من فساده و خيره من شرّه ثمّ يجاريه فيه ليروض بدنه و يروّح ذهنه و يهيّئه لنظام العمل و ابتغاء الفوز به، فالّذي يقع من العمل اللعبيّ هو من الصبيّ لعب جميل يهديه إلى حدّ العمل، و من الوليّ حكمة و عمل جدّيّ ليس من اللعب في شي‏ء.

و قال تعالى:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ، ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) الدخان: ٣٩ و الآية قريبة المضمون من الآية السابقة.

ثمّ شرح تعالى كيفيّة تأدية هذه التربية الصوريّة إلى مقاصدها المعنويّة في مثل عامّ ضربه للناس فقال:( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) الرعد: ١٧.

فظهر من بيانه تعالى أنّ بين العمل و الجزاء رابطة حقيقيّة وراء الرابطة الوضعيّة الاعتباريّة الّتي بينهما عند أهل الاجتماع و يجري عليها ظاهر تعليمه تعالى.

٦- و العمل يؤدّي الرابطة إلى النفس: ثمّ بيّن تعالى أنّ العمل يؤدّي هذه الرابطة إلى النفس من جهة الهيأة النفسانيّة الّتي تحصل لها من العمل و الحالة الّتي تؤدّيها إليها فقال تعالى:( وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) البقرة: ٢٢٥، و قال:( وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) البقرة: ٢٨٤ و في هذا المعنى آيات اُخر كثيرة.

و يتبيّن بها أنّ جميع الآثار المترتّبة على الأعمال من ثواب أو عقاب إنّما تترتّب بالحقيقة على ما تكسبه النفوس من طريق الأعمال، و أن ليس للأعمال إلّا الوساطة.

٣٩٦

ثمّ بيّن تعالى أنّ الذي سيواجههم من الجزاء على الأعمال إنّما هو نفس الأعمال بحسب الحقيقة لا كما يضع الإنسان في مجتمعة عملاً ثمّ يردفه بجزاء بل العمل محفوظ عند الله سبحانه بانحفاظ النفس العاملة ثمّ يظهره الله عليها يوم تبلى السرائر قال الله تعالى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ) آل عمران: ٣٠ و قال تعالى:( لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) التحريم: ٧ و دلالة الآيات ظاهرة، و تلحق بها في ذلك آيات اُخر كثيرة.

و من أحسنها دلالة قوله تعالى:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: ٢٢ فإنّ هذا إشارة إلى مقام الجزاء الحاضر، و قد عدّه غافلاً عنه في الدنيا بقرينة قوله:( الْيَوْمَ ) و لا معنى للغفلة إلّا عن أمر موجود، ثمّ ذكر كشف غطائه عنه، و لا وجه للغطاء إلّا أن يكون هناك مغطّى عليه، فقد كان ما يلقاه و يبصره من الجزاء يوم القيامة حاضراً موجوداً في الدنيا غير أنّه لم يكشف عنه.

و هذه الآيات تفسّر الآيات الأخر الظاهرة في المجازاة و بينونة العمل و الجزاء لكون آيات المجازاة ناظرة إلى مرحلة الرابطة الاجتماعيّة الوضعيّة، و هذه الآيات ناظرة إلى مرحلة الرابطة الحقيقيّة كما بيّنّاه، و قد تعرّضنا لهذا البحث بعض التعرّض في تفسير قوله تعالى:( خَتَمَ اللهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ) البقرة: ٧ في الجزء الأوّل من الكتاب فليراجعه من شاء. و الله الهادي.

تمّ و الحمد لله

٣٩٧

Contents

( بقيّة سورة المائدة ). ٢

( سورة المائدة الآيات ٥٥ - ٥٦ ). ٢

( بيان ). ٢

( بحث روائي ). ١٤

( سورة المائدة الآيات ٥٧ - ٦٦ ). ٢٥

( بيان ). ٢٦

( بحث روائي‏ ). ٣٩

( سورة المائدة آية ٦٧ ). ٤٢

( بيان ). ٤٢

( بحث روائي ). ٥٤

( سورة المائدة الآيات ٦٨ - ٨٦ ). ٦٥

( بيان ). ٦٦

( بحث روائي ). ٨٦

( كلام في معنى التوحيد في القرآن ). ٩٠

( بحث روائي ). ٩٦

( كلام في معنى التوحيد ). ٩٦

( بحث تاريخي ). ١٠٩

( كلام في معنى التوحيد ). ١٠٩

( سورة المائدة الآيات ٨٧ - ٨٩ ). ١١١

( بيان ). ١١١

( بحث روائي ). ١١٨

( سورة المائدة الآيات ٩٠ - ٩٣ ). ١٢٣

( بيان ). ١٢٣

( بحث روائي ). ١٣٩

٣٩٨

( سورة المائدة الآيات ٩٤ - ٩٩ ). ١٤٦

( بيان ). ١٤٦

( بحث روائي ). ١٥٣

( سورة المائدة آية ١٠٠ ). ١٥٧

( بيان‏ ). ١٥٧

( سورة المائدة الآيات ١٠١ - ١٠٢ ). ١٦٠

( بيان ). ١٦٠

( بحث روائي ). ١٦٥

( سورة المائدة الآيات ١٠٣ - ١٠٤ ). ١٦٧

( بيان ). ١٦٧

( بحث روائي ). ١٧١

( سورة المائدة آية ١٠٥ ). ١٧٤

( بيان ). ١٧٤

( بحث روائي ). ١٨٢

( بحث علمي ). ١٩١

( عرفان النفس في تسعة فصول ‏). ١٩١

( سورة المائدة الآيات ١٠٦ - ١٠٩ ). ٢٠٩

( بيان ). ٢٠٩

( كلام في معنى الشهادة ). ٢١٧

( كلام في العدالة ). ٢١٩

( كلام في اليمين ). ٢٢٣

( بحث روائي ). ٢٢٨

( سورة المائدة الآيات ١١٠ - ١١١ ). ٢٣٥

( بيان ). ٢٣٥

( بحث روائي ). ٢٣٨

٣٩٩

( سورة المائدة الآيات ١١٢ - ١١٥ ). ٢٤٠

( بيان ). ٢٤٠

( بحث روائي ). ٢٥٥

( سورة المائدة الآيات ١١٦ - ١٢٠ ). ٢٥٧

( بيان ). ٢٥٧

( بحث روائي ). ٢٧٠

( كلام في معنى الأدب ). ٢٧٣

١- معنى الأدب: ٢٧٣

٢- اختلاف الآداب: ٢٧٤

٣- معنى الأدب الإلهيّ‏: ٢٧٤

٤- الأدب إنّما ينتج مع العمل‏: ٢٧٥

٥- أدب النبوّة العامّ إجمالاً: ٢٧٧

٦- أدب الأنبياء المحكي في القرآن تفصيلاً: ٢٨١

٧- أدبهم مع ربّهم بين الناس: ٣١٣

٨- أدب الأنبياء مع الناس: ٣١٥

( بحث روائي آخر ). ٣٢١

( في سنن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) و آدابه خاصّة ). ٣٢١

من سننه و أدبه في العشرة ٣٣٠

( كلام في الرقّ و الاستعباد ). ٣٥٧

١- اعتبار العبوديّة لله سبحانه: ٣٥٨

٢- استعباد الإنسان و أسبابه: ٣٦٠

٣- سير الاستعباد في التاريخ: ٣٦٢

٤- ما الّذي رآه الإسلام في ذلك؟ ٣٦٢

٥- ما هو السبيل إلى الاستعباد في الإسلام؟ ٣٦٥

٦- ما هي سيرة الإسلام في العبيد و الإماء؟ ٣٦٦

٤٠٠

401