الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84116 / تحميل: 7581
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٦١

٦٢

٦٣

٦٤

٦٥

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه الاستعانة

نحمدك يا من أَطلع في فلك الهداية شمس النبوة ، وقمر الولاية ، ونصلي على قطب مداره وآله ، أهلّة سماء الإهتداء ، ونسلّم تسليماً كثيراً. وبعد :

فيقول أقل الخلائق محمد المشتهر بهاء الدين العاملي عامله الله بإحسانه : هذه الحديقة الثالثة والأربعون من كتابنا الموسوم بحدائق الصالحين في شرح صحيفة مولانا وإمامنا قبلة أهل الحق واليقين علي بن الحسين زين العابدين سلام الله عليه وعلى آبائه الطاهرين ، تتضمن شرح الدعاء الثالث والأربعين ، وهودعاؤهعليه‌السلام  عند الاستهلال أمليتها مع وفور الملال ، لتوزع البال ، واختلال الحال ، راجياً من الله تعالى أن يوفقني لإِكمال بقية الحدائق ، إنَّه مفيض الخير وملهم الحقائق.

وكان من دعائهعليه‌السلام  إذا نظر إلى الهلال :

سمّي هلالاً لجريان عادتهم برفع الأصوات عند رؤيته ، مأخوذ من الإهلال ، وهو رفع الصوت ، ومنه قولهم : أَهلّ المعتمر ، إذا رفع صوته بالتلبية ، واستهل الصبي إذا صاح عند الولادة.

وقد اضطربوا في تحديد الوقت الذي يسمّى فيه بهذا الاسم ، فقال في

٦٦

 « الصحاح » : الهلال أول ليلة ، والثانية والثالثة ، ثمّ هو قمر(١) .

وزاد صاحب القاموس فقال [٤ / أ] : الهلال غرة القمر ، أو إلى ليلتين ، أوإلى ثلاث ، أو إلى سبع ، ولليلتين من آخر الشهر ستّ وعشرين وسبع وعشرين ، وفي غيرذلك قمر(٢) . إنتهى.

قال الشيخ الجليل أبو علي الطبرسي(٣) نور الله مرقده ـ في تفسيره الموسوم بمجمع البيان عند قوله تعالى :( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ) (٤) ـ : اختلفوا في أنه إلى كم يسمّى هلالاً ، وإلى كم يسمى قمراً؟.

فقال بعضهم : يسمّى هلالاً لليلتين من الشهر ، ثمّ لا يسمّى هلالاً إلى ان يعود في الشهر الثاني.

و قال آخرون : يسمّى هلالاً ثلاث ليال ، ثمّ يسمّى قمراً.

و قال آخرون : يسمّى هلالاً حتى يحجّر ، وتحجيره أن يستدير بخيط دقيق ؛ وهذا قول الأصمعي(٥) .

________________________

(١) صحاح اللغة ٥ : ١٨٥١ مادة ( هلل ).

(٢) القاموس المحيط ٤ : ٧١ مادة ( هلل ).

(٣) الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي المشهدي ، أبو علي الطبرسي ، أمين الإِسلام ، عالم فاضل ، مفسر فقيه ، ثقة جليل القدر ، بيته بيت علم ومعرفة ، فولده مؤلف مكارم الأخلاق ، وسبطه صاحب المشكاة ، وهكذا سائر أقاربه. روى عن جمع منهم : أبو علي بن الشيخ الطوسي ، وعبد الجبار بن علي المقرىء. وممن عنه روى ابن شهر أشوب ، ومنتجب الدين ، والقطب الراوندي ، والدروستي. له مصنفات كثيرة منها : مجمع البيان ، جوامع الجامع ، اعلام الورى. مات سنة ٤٨ هـ = ١١٥٣ م في سبزوار ، وحمل جثمانه إلى المشهد الرضوي.

انظر : رياض العلماء ٤ : ٣٤٠ / روضات الجنات ٥ : ٣٥٧ ت٥٤٤ / الكنى والألقاب ٢ : ٤٤٤ / أعيان الشيعة ٨ : ٣٣٩٨ / تنقيح المقال ٢ : ٧ ت ٩٤٦١ / شهداء الفضيلة : ٤٥ / مجالس المؤمنين ١ : ٤٩٠ / مستدرك الوسائل ( الخاتمة ) ٣ : ٣٨٧ / معالم العلماء : ١٣٥ ت ٩٢٠ / المقابر : ١٠ / نقد الرجال : ٣٦٦.

(٤) البقرة ، مدنية ، ٢ : ١٨٩.

(٥) أبو سعيد ، عبد الملك بن قريب ـ بضم القاف ، وقيل عاصم ـ بن علي بن أصمع الباهلي

٦٧

وقال بعضهم : يسمّى هلالاً حتى يبهر ضوؤه سواد الليل ، ثم يقال قمراً ، وهذا يكون في الليلة السابعة(١). إنتهى كلامه زيد إكرامه.

ولا يخفى أن قوله ـ وهذا يكون إلى آخره ـ يخالف بظاهره(٢) قول صاحب القاموس « أو إلى سبع » ، ووجه التوفيق بينهما غيرخفّي(٣) .

قالوا : وإنّما يسمى بعد الهلال قمراً لبياضه ، فإن الأقمر هو الأبيض(٤) .

و قيل : لأنَّه يقمر الكواكب ، أي يغلبها بزيادة النور.

ويسمّى في الليلة الرابعة عشرة بدراً ، قال في الصحاح : سمّي بذلك لمبادرته الشمس في الطلوع كأنه يعجلها المغيب(٥) .

وقال بعضهم : سمي بدراً لكماله ، تشبيهاً له بالبدرة الكاملة وهي عشرة آلاف درهم(٦) .

________________________

البصري ، عالم لغوي ، راوية لشعر ألعرب ، لقب بشيطان الشعر ، يحفظ عشرة آلاف ارجوزة ، روى عن سليمان التميمي ، وأبي عمرو بن العلا ، ومسعر بن كدام ، وسلمة بن بلال ، وكثيرغيرهم ؛ وعنه حدث أبو عبيد ، ويحيى بن معين ، وإسحاق الموصلي ، وسلمة بن عاصم ، وأبوحاتم السجستاني ، وأبو العيناء ، وخلق كثير. كان قليل الرواية للحديث ، مكثر التأليف ، له : الإبل ، الأضداد ، خلق الانسان ، المترادف ، الفرق ، الشاء ، الوحوش وغيرها. مات سنة ٢١٦ هـ = ٨٣١ م.

انظر : تاريخ بغداد ١٠ : ٤١٠ ت ٥٥٧٦ / الأنساب : ٤٢ ، أ / وفيات الأعيان ٣ : ١٧٠ ت٣٧٩ / ميزان الاعتدال ٢ : ٦٦٢ ت ٥٢٤٠ / مرآة الجنان ٢ : ٦٤ / طبقات القراء ١ : ٤٧٠ ت ١٩٦٥ / تهذيب التهديب ٦ : ٣٦٨ ت ٧٧١ / بغية الوعاة ٢ : ١١٢ ت ١٥٧٣ / سيرأعلام النبلاء ١٠ : ١٧٥ت ٣٢ / أخبارأصفهان ٢ : ١٣٠.

(١) مجمع البيان ١ : ٢٨٣. وفي هامش الأصل : الإشارة إلى بهر ضوئه سواد الليل « منه » قدس سره.

(٢) إذ الظاهر خروج ما بعد ( حتى ) عمَّا قبلها ، ويؤيده أن بهر ضوئه سواد الليل يمتد ليالي كثيرة ليس هوفيها هلالاً ألبتة « منه ». هامش الأصل.

(٣) بجعل ما بعد ( حتى ) داخلاً فيما قبلها ، وإرادة البهر في الليلة الاُولى منه فقط ، أعني السابعة « منه ». قدس سره ، هامش المخطوطة.

(٤) أنظر : الصحاح ٢ : ٧٩٨ ـ ٧٩٩ ، القاموس المحيط : ٥٩٨ ، مادة ( قمر ) فيهما.

(٥) الصحاح ٢ : ٥٨٦ ، مادة ( بَدَرَ ).

(٦) أنظر : تاج العروس ٣ : ٣٤ ـ ٣٥.

٦٨

مقدمة :

لا ريب في استحباب الدعاء عند رؤية الهلال ، تأسياً بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد فعله أمير المؤمنينعليه‌السلام  ، والأئمة من ولده سلام الله عليهم(١) [٤ / ب]

و ذهب ابن أبي عقيل(٢) رحمه‌الله  إلى وجوب الدعاء عند رؤية هلال شهررمضان(٣) .

و هو قول نادر لا نعلم له فيه موافقاً ، وربما حمل قوله بالوجوب على إرادة تأكيد الاستحباب صوناً له عن مخالفة الجمهور.

والدعاء الذي أوجبه هو هذا :

« الحمد لله الذي خلقتي وخلقك ، وقدَّر منازلك ، وجعلك مواقيت للناس ؛ اللّهمّ أهلّه علينا إهلالاً مباركاً ؛ اللهم أدخله علينابالسلامة والإسلام ، واليقين والإيمان ، والبر والتقوى ، والتوفيق لما

________________________

(١) راجع : الكافي ٤ : ٧٠ ، باب ما يقال في مستقبل شهر رمضان ، الأحاديث ١ ـ ٨ / من لا يحضره الفقيه ٢ : ٦٢ باب ٢٩ ، القول عند رؤية هلال شهر رمضان ، ألأحاديث ٢٦٨ ـ ٢٧٠ / التهذيب ٤ : ١٩٦ باب ٥٠ ، الدعاء عند طلوع الهلال ، الأحاديث ٥٦٢ ـ ٥٦٤ / أمالي الصدوق : ٤٨حديث ١ / عيون أخبار الرضاعليه‌السلام  ٢ : ٧١ حديث ٣٢٩ / أمالي الشيخ الطوسي٢ : ١٠٩.

(٢) الحسن بن علي بن أبي عقيل العماني ، أبو محمد الحذاء ، فقيه متكلم ، جليل القدر ، من وجوه أصحابنا ، ثقة ، من أوائل من استعمل ألنظر ، وبحث الأصول والفروع عند ابتداء الغيبة الكبرى ، يعدّ من مشايخ جعفر بن قولويه ، يعبر عنه وابن الجنيد ، في كتب الفقه ، بالقديمين ، له : ألمتمسك بحبل آل الرسول ، والكر والفر في الإمامة. من أعيان المائة الرابعة ، ومن معاصري الشيخ الكليني ، انظر : رجال النجاشي : ٤٨ رقم ١٠٠ / الفهرس للشيخ : ٥٤ رقم ١٩٣ و ١٩٤ رقم ٨٨٦ / رياض العلماء ١ : ٢٠٣ ـ ٢٠٩ / أعيان الشيعة ٥ : ١٥٧ / أمل الآمل ٢ : ٦١ ، ٦٨ ، ٧٤ / السرائر : ٩٩ / تنقيح ألمقال ١ : ٢٩١ ، رقم ٢٥١٩ / روضات الجنّات ٢ : ٢٥٩ رقم ١٩٣ / المقابيس : ٧ / نقد الرجال : ٩٣ رقم ٩٢ ، معالم العلماء : ٣٧ رقم ٢٢٢ / الخلاصة : ٤٠رقم ٩.

(٣) حكاه عنه العلامة في المختلف : ٢٣٦.

٦٩

تحبّ وترضى ».

وكأنَّه ـ قدّس الله روحه ـ وجد الأمر بهذا الدعاء في بعض الروايات فحمله على الوجوب ، كما هو مقرر في الأُصول ، ولم يلتفت إلى تفرده بين الأصحاب رضوان الله عليهم بهذا الحكم.

وهذا كحكمه ـرحمه‌الله  ـ بعدم انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة ما لم يتغير(١) ، ولا يعرف به قائل ، من أصحابنا رضي الله عنهم ، سواه.

و حسن الظن به ـ أعلى الله قدره ـ يعطي أنه لم ينعقد في عصره إجماع على ما يخالف مذهبه في المسألتين ، أو أنَّه انعقد ولم يصل إليه ، والله أعلم بحقيقة الحال.

تتمّة :

يمتد وقت الدعاء بامتداد وقت التسمية هلالاً ، والأولى عدم تاخيره عن الاُولى ، عملاً بالمتيقن المتفق عليه لغة وعرفاً. فإن لم يتيسَّر فعن الثانية؟ لقول أكثر أهل اللغة بالامتداد إليها ؛ فإن فاتت فعن الثالثة ؛ لقول كثير منهم بانّها آخرلياليه.

و أما ما ذكره صاحب القاموس ، وشيخنا الشيخ أبو عليرحمه‌الله  ـ من إطلاق الهلال عليه إلى السابعة ـ(٢) فهو خلاف المشهور لغة وعرفاً ، وكأنَّه مجاز ، من قبيل إطلاقه عليه في الليلتين الأخيرتين ، والله أعلم.

________________________

(١) انفرد العمانيقدس‌سره بفتاوى نادرة ، أوردها الفقهاء وأغلب من ترجم له ، منها : قوله بعدم نجاسة الماء القليل بمجرد الملاقاة. ومنها : عدم نجاسة ماء البئر بمجرد الملاقاة. ومنها : جواز تفريق ألسورة من دون الحمد على ركعات السنن. وغيرها انظر : ذكرى الشيعة : ١٩٥ ، المسألة الخامسة / والمختلف : ١ ، ٤.

(٢) تقدم كلامهما في صحيفة : ٦٦.

٧٠

تبصرة :

حكم العلّامة(١) ـ أعلى الله مقامه ـ باستحباب الترائي للهلال ليلتي الثلاثين من شعبان وشهررمضان على الأعيان ، وبوجوبه فيهما على الكفاية.

واستدلَّ ـ طاب ثراه على الوجوب ـ بأن الصوم [٥ / ] واجب في أول شهررمضان ، وكذا الإفطار في العيد ، فيجب التوصل إلى معرفة وقتهما ، لأنَّ ما لايتم الواجب إلَّا به فهو واجب(٢) . هذا كلامه زيد إكرامه.

و أقول : للبحث فيه مجال ، لأنَّه إنَّما يجب صوم ما يعلم أو يظنّ أنّه من شهر رمضان ، لا ما يشك في كونه منه ، وهكذا إنما يجب إفطار ما يعلم أو يظنّ أنَّه العيد ، لا ما يشكّ في أنه هو(٣) ، كيف والأغلب في الشهر أن يكون تامّاً(٤) ، كما يشهد به التتبع؟!.

________________________

(١) الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي ، الشهير بالعلّامة ، حاله في الجلالة ، والفقاهة ، والوثاقة ، ووفور العلم في الفنون ، مشهود لها ، كفاه فخراً تلقيبه بالعلّامة ، أول من قسم الأخبار إلى أربعة اقسام. له مؤلفات منها : الخلاصة في الرجال ، منتهى ألمطلب ، تحرير الأحكام ، المختلف ، نهاية الوصول ، الألفين في الإمامة ، مختصر شرح نهج البلاغة ، القواعيد وغيرها. توفي سنة ٧٢٦ = ١٣٢٥ م ونقل جثمانه الشريف إلى النجف الأشرف ، ودفن عند المنارة اليسرى للداخل للحرم العلوي الشريف ومرقده الطاهر يزار ويتبرك به.

انظر : رجال العلامة : ٤٥ رقم ٥٢ / روضات الجنات ٢ : ٢٦٩ رقم ١٩٨ / تنقيح المقال ١ : ٣١٤رقم ٢٧٩٤ / الدرر الكامنة ٢ : ٤٩ رقم ١٥٧٨ وأيضاً ٢ : ٧١ رقم ١٦١٨ / لسان الميزان ٢ : ٣١٧رقم ١٢٩٥ / مرآة الجنان ٤ : ٢٧٦ رجال أبن داود : ٧٨ رقم ٤٦٦ / لؤلؤة البحرين : ٢١٠رقم ٨٢ / رجال بحر العلوم ٢ : ٢٥٧ / نقد الرجال : ٩٩ رقم ١٧٥ / امل الآمل : ١ / ٨١ رقم ٢٢٤ / رياض العلماء ١ : ٣٥٨ / جامع الرواة ١ : ٢٣٠ / مصفى المقال : ١٣١.

(٢) انظر : تذكرة الفقهاء ١ : ٢٦٨ في الفصل السابع من أقسام الصوم / منتهى المطلب ٢ : ٥٩٠.

(٣) وأيضاً فدليله لوتم لدل على الوجوب العيني ، فتامل ،( منه ). قدس سره ، هامش المخطرط.

(٤) وأما ما يوجد في بعض الروايات ، « من أنّ شعبان لا يتم أبداً ورمضان لا ينقص أبداً » فلم يقل به علماؤنا رضي الله عنهم ، وإنّما هو قول بعض الحشوية ، والقول به لا يجامع القول بوجوب الترائي للهلال ليلتي الثلاثين من الشهرين. فلا استحباب ،( منه ). قدس سره ، هامش الأصل.

٧١

هداية :

ا لأدعية المأثورة عند النظر إلى الهلال كثيرة ، فبعضها يعمّ كلّ الشهور ، وبعضها يختص بشهر رمضان.

فمن القسم الأول :

ما رواه الشيخ الصدوق ، عماد الإسلام ، محمد بن علي بن بابويه(١) رحمه‌الله  في كتاب من لا يحضره الفقيه ؛ ورواه أيضا شيخ الطائفة ، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي(٢) عطر الله تربته ، في كتاب تهذيب الأخبار ، ومصباح المتهجد ، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام  أنه قال : « إذا رأيت الهلال فلا تبرح ، وقل :

( اللهم إني أسألك خير هذا الشهر ، وفتحه ونوره ، ونصره ، وبركته ، وطهوره ورزقه ؛ وأسألك خير ما فيه وخير ما بعده ، وأعوذ

________________________

(١) أبو جعفر ، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ، رئيس المحدثين ، جليل القدر ، حافظ للحديث ، ثبت ، بصير بالرجال ، كفاه فخراً ولادته بدعاء الحجة عجّل الله فرجه ، نزل الري ، وورد بغداد سنة ٣٥٥ ، حدَّث بها ، وسمع منه جمع كثيرمن الفريقين ، له اكثرمن ٣٠٠ مصنفاً ، رحل إلى الأمصار لطلب الحديث ، حتى بلغ عدد شيوخه اكثر من ٢٥٠ شيخاً ، تخرجعليه جمع من أعيان الطائفة ووجوهها ، أمثال الشيخ المفيد ، والتلعكبري ، وابن القصار ، والنجاشي ، والمرتضى ، من كتبه : من لا يحضره الفقيه ، التوحيد ، كمال الدين ، الأمالي ، عيون الأخبار ، الخصال ، مات سنة ٣٨١ = ٩٩١ م.

انظر : الفهرست : ١٥٦ رقم ٦٩٥ / رجال النجاشي : ٣٨٩ رقم ١٠٤٩ / معالم العلماء : ١١١ رقم ٧٦٤ / رجال بن داود : ١٧٩ رقم ١٤٥٥ / رجال العلامة : ١٤٧ رقم / ٤٤ / روضات الجنات ٦ : ١٣٢ رقم ٥٧٤ / تنقيح المقال ٣ : ١٥٤ رقم ١١١٠٤ / أمل الآمل ٢ : ٢٨٣ / تاريخ بغداد ٣ : ٨٩ رقم ١٠٧٨ رجال بحر العلوم ٣ : ١٩٢ ، وغيرها كثير.

(٢) أبو جعفر الطوسي ، محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي ، نسبة إلى طوس خراسان ، شيخ الإمامية بلا منازع ، ووجههم ، جليل القدر ، عظيم المنزلة ، ثقة ، عين صدوق ، له اليد الطولى في الأخبار ، والرجال ، والفقه. له اكئر من ٤٠ مؤلفاً لا زالت تحتل المكانة السامية بين آلاف المؤلفات ، غرة ناصعة في جبين الدهر ، منها : كتاب الخلاف ، الأبواب في الرجال ، التهذيب ، الاستبصار ، التبيان في التفسير ، الاقتصاد وغيرها روى عن ابن الحاشر ، وابن الصلت الاهوازي ، وابن الغضائري ، وابن الجنيد ، وشيخ الأمة المفيد ، وغيرهم. أخذ عنه

٧٢

بك من شر ما فيه وشر ما بعده ؛ اللهم أدخله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام والبركة ، والتوفيق لما تحب وترضى ) » (١) .

و منه ما رواه الشيخ الصدوق أيضاً ، في كتاب عيون أخبار الرضاعليه‌السلام  ، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام  قال : « كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا رأى الهلال قال : «أيها الخلق المطيع ، الدائب السريع ، المتصرف في ملكوت الجبروت بالتقدير ، ربي وربك الله. أللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام والإحسان ، وكما بلَّغتنا أوله فبلّغنا آخره ، واجعله شهراً مباركاً ، تمحو فيه السيئات ، وتثبت لنا فيه الحسنات ، وترفع لنا فيه الدرجات ، يا عظيم الخيرات ) »(٢) .

و منه ما أورده السيد الجليل الطاهر ، ذو المناقب والمفاخر ، رضي الدين علي بن طاووس(٣) قدس الله نفسه ، ونوّر رمسه ، في كتاب الزوائد

________________________

جمع منهم ولده ، وابن شهر آشوب ، وابن البراج ، وحسكا ، وأبو الصلاح ، والطبري ، والآبي ، والطرابلسي ، توفي سنة ٤٦٠ هـ = ١٠٦٧ م ودفن بداره في النجف الأشرف.

انظر : البداية والنهاية ١٢ : ٩٧ / لسان الميزان ٥ : ١٣٥ رقم ٤٥٢ / الكامل ١٠ : ٢٤ / المنتظم ٨ : ١٧٣ / جامع الرواة ٢ : ٩٢ / مقابيس الأنوار : ٤ / معالم العلماء : ١١٤ رقم ٧٦٦ / تنقيح المقال ٣ : ١٠٤ رقم ٨٠٥٦٣ / الخلاصة : ١٤٨ رقم ٤٦ / رجال النجاشي : ٤٠٣ رقم ١٠٦٨ / الفهرست للطوسي : ١٥٩ رقم ٦٩٩.

(١) من لا يحضره الفقيه ٢ : ٦٢ حديث ٢٦٨ / التهذيب ٤ : ١٩٧ حديث ٥٦٤ / ومصباح المتهجد : ٤٨٦ وفيهما هكذا( والبركة والتقوى والتوفيق ).

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ : ٧١ حديث ٣٢٩.

(٣) رضي الدين ، علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس الحسني العلوي ، البيان والقلم أعجز من أن يذكره بشيء ، إذ جلالته وفضله ، وزهده وعبادته ، وعظم منزلته شيء لا يحاط به.كان كثير ألحفظ ، نقي الكلام ، شاعراً بليغاً ، له مصنفات كثيرة منها : فرج ألهموم ، رسالة في الإجازات ، مصباح الزائر ، فرحة ألناظر ، الطرائف ، الطرف ، غياث سلطان الورى لسكان الثرى ، وغيرها كثير ، مات سنة ٦٦٤ هـ = ١٢٦٥ م.

انظر : روضات الجنات ٤ : ٣٢٥رقم ٤٠٥ / عمدة الطالب : ٢١٩ / تنقيح المقال ٢ : ٣١٠ رقم ٨٥٢٩ / المقابيس : ١٢ / نقد الرجال : ٢٤٤ رقم ٢٤١ / جامع الرواة ٢ : ٦٠٣ / رياض العلماء ٤ : ١٦١ / لؤلؤة البحرين : ٢٣٥ رقم ٨٤ / خاتمة المستدرك ٣ : ٤٦٧ / معجم رجال الحديث

٧٣

والفوائد(١) . وهو أن يقول عند رؤيته [ ٦ / ] : «ربي وربك الله رب العالمين. اللهمَّ صلّ على محمد وآل محمد ، وأهله علينا وعلى أهل بيوتاتنا ، وأشياعنا بأمن وإيمان ، وسلامة وإسلام ، وبرّ وتقوى ، وعافية مجللة ، ورزق واسع حسن ، وفراغ من الشغل ، واكفنا بالقليل من النوم ، ووفقنا للمسارعة فيما تحب وترضى وثبتنا عليه ؛ اللهم بارك لنا في شهرناهذا ، وارزقنا بركته وخيره ، وعونه وغُنمه ، ونُوره ويُمنه ، ورحمته ومغفرته ، واصرف عنَّا شره وضره ، وبلاءه وفتنته ؛ اللهمّ ما قسمت فيه من رزق أو خير أو عافية أو فضل ، أو مغفرة أو رحمة فأجعل نصيبنا منه الاكثر ، وحظّنا فيه الأوفر » (٢) .

ومنه ما أورده أيضاً في الكتاب المذكور وهو أن يقول عند رؤيته :

« الله أكبر ـ ثلاثا ـ ربي وربك الله لا إله إلَّا هو رب العالمين ،

________________________

١٢ : ١٨٨ / الأعلام ٥ : ٢٦ / معجم المؤلفين ٧ : ٢٤٨ وغيرها.

(١) اختلفت الآراء في مؤلف الكتاب( الزوائد والفوائد ) ، وكذا في اسمه ، حيث ورد تارة : الزوائدوالفوائد ، وأخرى : زوائد الفوائد.

وأما المؤلف فقد نسبه العلامة المجلسي في البحار ١ : ١٣ ، وصاحب الروضات ٤ : ٣٣٨ ، وشيخ الذريعة ١٢ : ٥٩ ، الى رضي الدين علي بن علي بن طاووس ، اي « الابن ». واليه مال السيد المشكاة كما حكى عن مقدمته للصحيفة السجادية.

ونسبه الشيخ البهائي لرضي الدين علي بن طاووس « الأب » كما هنا وفي موضع آخر وهو واضح.

ثم إن ما نسبه صاحب الروضات الى الشيخ البهائي من نسبته الكتاب الى الابن في الحديقة الهلالية فهو كما ترى. ولا أعلم كيف استفاد ذلك من هذه العبارة الصريحة.

والحق موقوف على الحصول على نسخة كاملة للكتاب لمعرفة المؤلف إذ النسخة ألموجودة في جامعة طهران ـ على ما جاء وصفها في فهرستها للمخطوطات ١ : ١٢٧ ـ ناقصة الأول والآخر ، والكاتب امي والنسخة مغلوطة جدا ، ومع هذه الصفات لا يمكن الركون والاعتماد في النسبة عليها.

هذا كلّه اضافة إلى ما كرره في الإقبال من النقل عن كتاب الزوائد والفوائد صريحاً.

ومع اعتراف شيخ الذريعة قدس سره بذلك لا أعرف وجها لحمله كلام ابن طاووس على إرادة المعنى اللغوي الوصفي وصرفه عن ظاهره حيث يقول السيد في عمل ذي الحجة ما لفظه : [ وقد ذكرنا في كتاب الزوائد والفوائد في عمل ] تلاحظ.

(٢) الزوائد والفوائد : مخطوط ، ألإقبال : ١٨.

٧٤

ا لحمد لله الذي خلقني وخلقك ، وقدّرك منازل ، وجعلك اية للعالمين ، يباهي الله بك الملائكة ؛ الّلهم أهله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، والغبطة والسرور ، والبهجة والحبور ، وثبتنا على طاعتك ، والمسلارعة فيما يرضيك ؛ اللهم بارك لنا في شهرناهذا ، وارزقنا خيره وبركته ، ويمنه وعونه وقوته ، واصرف عناشره وبلاءه وفتنته ، برحمتك يا أرحم الراحمين » (١) .

و من القسم الثاني :

ما رواه ركن الملة ، ثقة الإسلام ، محمد بن يعقوب الكليني(٢) ـ سقى الله ضريحه صوب الرضوان ـ في كتاب الكافي ؛ ورواه آية الله العلَّآمة طاب ثراه في التذكرة ، ومنتهى المطلب ؛ عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقرعليه‌السلام  قال : « كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أهل شهررمضاناستقبل القبلة ورفع يديه فقال: ( الّلهمّ أهلّه علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام والعافية المجللة ، والرّزق الواسع ، ودفع الأسقام ؛ اللهمّ ارزقنا صيامه وقيامه وتلاوة القرآن فيه ، وسلّمه لنا ،

________________________

(١) الزوائد والفوائد : مخطوط ، الإقبال : ١٩.

(٢) أبو جعفر الرازي ، محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني ، المشهور بثقة الإسلام ، شيخ الطائفة ووجههم في الري ، القلم عاجز عن بيان فضله ، وجلالة قدره ، وورعه وعلو منزلته ، هو اشهر.

من أن يحيط به بيان ، له كتب منها الكافي اشهرها ، أحد الاصول الحديثية المعتمدة لدى الطائفة ، صنفه في عشرين سنة ، يعد من مجددي المذهب على رأس المائة الثالثة ، توفي والصيمري آخر السفراء في سنة واحدة ، وسميت بسنة تناثر النجوم.

مات ببغداد سنة ٣٢٨ = ٩٣٩ م ودفن في بقعة على يسار العابر من الرصافة.

انظر : تنقيح المقال ٣ : ٢٠١ رقم ١١٥٤٠ / رجال بحر العلوم ٣ : ٣٢٥ / رجال الشيخ : ٤٩٥ رقم ٢٧ / الفهرست : ١٣٥ رقم ٥٩١ / رجال النجاشي : ٣٧٧ / ١٠٢٦ / فلك النجاة : ٣٣٧ / جامع الأصول ١١ : ٣٢٣ / روضات الجنات ٦ : ١٠٨ رقم ٨ / تاج العروس ٩ : مادة كلين / عوائد الأيام : ٢٩٧ / الكامل ٦ : ٢٧٤ / لسان الميزان ٥ : ٤٣٣ رقم ١٤١٩ / وانظر مقدمة الكافي بقلم البحاثة الأستاذ حسين محفوظ في طبعة ١٣٨٨ لدار الكتب الاسلامية.

٧٥

وتسلّمه منّا ، وسلّمنا فيه ) (١) .

و منه ما أورده الشيخ الصدوق طاب ثراه في كتاب من لا يحضره الفقيه أيضاً ، نقلا عن أبيهرضي‌الله‌عنه في الرسالة ـ وذكر السيد الجليل الطاهر المشار إليه [٧ / ] أنّه مروي عن الصادقعليه‌السلام  ـ قال : إذا رأيت هلال شهر رمضان فلا تشر إليه ، ولكن استقبل القبلة وارفع يديك إلى الله عزّ وجلّ وخاطب الهلال ، وقل :« ربي وربك الله رب العالمين ؛ اللّهمّ أهلّه علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، والمسارعة إلى ما تحب وترضى ؛اللّهمَّ بارك لنا في شهرنا هذا ، وارزقنا عونه وخيره ، واصرف عنّاضرّه وشرّه ، وبلاءه وفتنته » (٢) .

تنبيه :

يستفاد من هذه الروايات بعض الآداب التي ينبغي مراعاتها حال قراءة الدعاء عند رؤية الهلال :

فمنها : أن تكون قراءة الدعاء قبل الانتقال من المكان الذي رأى فيه الهلال ، كما تضمنته الرواية الأول ، فإن قولهعليه‌السلام  « لا تبرح » أي لا تَزُل عن مكانك الذي رأيته فيه(٣) .

و منها : استقبال القبلة حال الدعاء ، كما تضمنه الحديث المروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أنَّه كان يفعل ذلك(٤) .

و منها : رفع اليدين إلى الله عزَّ وجلَّ وقت قراءة الدعاء ، كما تضمنه الحديثان الأخيران(٥) .

________________________

(١) الكافي ٤ : ٧٠ حديث ١ / تذكرة الفقهاء ١ : ٢٦٨ / منتهى المطلب ٢ : ٥٩٠ وفي المصادر هكذا ( اللهم سلمه لنا ) / الفقيه ٢ : ٦٢ حديث ٢٦٩.

(٢) الفقيه ٢ : ٦٢ ذيل الحديث ٢٦٩ ، والاقبال : ١٨.

(٣) انظرصحيفة ٧١ ، وهي ما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام .

(٤) انظر صحيفة ٧٤ ، وهي رواية الامام الباقرعليه‌السلام .

(٥) انظر صحيفة ٧٤ ، ٧٥ وهما روايتا الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام .

٧٦

ولا خصوصية لهذين الأمرين بهلال شهر رمضان ، وإن تضمن الخبران انّ فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك كان في هلاله ، وكذلك أمر الصادقعليه‌السلام  بذلك ، بل لا خصوصية لهما بدعاء الهلال ، فانهما يعمّان كلدعاء [ ٨ / ].

و منها : أن لا يشير إلى الهلال بيده ولا برأسه ، ولا بشيء من جوارحه ، كما تضمنته الرواية الأخيرة(١) ، ولعلّ هذا أيضا غيرمختص بهلال شهر رمضان.

و منها : أن يخاطب الهلال بالدعاء ، ولعل المراد خطابه بما يتعلق به من الألفاظ ، نحو « ربي وربك الله رب العالمين » وكأوَّل الدعاء الذي أوجبه ابن أبي عقيلرحمه‌الله  (٢) ، وكاكثر ألفاظ هذا الدعاء الذي نحن بصدد شرحه.

و قد يُظنّ التنافي بين مخاطبة الهلال واستقبال القبلة في البلاد التي قبلتها على سمت المشرق.

وليس بشيء ، لأنَّ الخطاب ليس إلَّا توجيه الكلام نحو الغير للإفهام ، وهو لا يستلزم مواجهة المخاطب واستقباله ، إذ قد يخاطب الإنسان من هو وراءه.

ويمكن أن يقال : استقبال الداعي الهلال وقت قراءة ما يتعلق بمخاطبته من فصول الدعاء ، واستقبال القبلة في الفصول الاُخر.

وأما رفع اليدين فالظاهر أنَّه في جميع الفصول ، وإن كان تخصيصه بما عدا الفصول المخاطب بها الهلال غير بعيد ، والله أعلم.

تذكرة فيها تبصرة :

قد عرفت أنَّه يمتد وقت الدعاء بامتداد وقت التسمية هلالاً ، ولو قيل بامتداد ذلك إلى ثلاث ليال لم يكن بعيدا ، فلو نذر قراءة دعاء الهلال عند

________________________

(١) انظر صحيفة ٧٥. وهي رواية الإمام الصادقعليه‌السلام .

(٢) انظر صحيفة ٦٨ ، و ٧٣.

٧٧

رؤيته ، وقلنا بالمجازية فيما فوق الثلاث [٩ / أ] ، لم تجب عليه القراءة برؤيته فيما فوقها ، حملاً للمطلق على الحقيقة ؛ وهل تشرع؟ ألظاهر نعم إن رآه في تتمة السبع ، رعاية لجانب الاحتياط ، أما فيما فوقها فلا ، لأنه تشريع.

و لو رآه يوم الثلاثين فلا وجوب على الظاهر لعدم تسميته حينئذٍ هلالاً.

و ما في حسنة حماد بن عثمان(١) ـ عن الصادقعليه‌السلام  من إطلاق إسالهلال عليه قبل الغروب(٢) ـ لعله مجاز ، إذ الأصل عدم النقل.

ولو لم يره حتى مضت الثلاث فاتفق وصوله إلى بقعة شرقية هو فيها هلال فرآه هناك لم يبعد القود بوجوبه عليه حينئذٍ ، كما لا يبعد القول بوجوب الصوم على من رأى هلال شهر رمضان فصام ثلاثين ثم سافر إلى بلد مضى فيه من شهررمضان تسعة وعشرون ولم يُر فيه الهلال ليلة الثلاثين ، وهو مختار العلامة طاب ثراه في القواعد(٣) .

وقد استدلَّ عليه ـ ولده فخر المحققين(٤) رحمه‌الله  في الإيضاح بأنَّ

________________________

(١) حمَّاد بن عثمان بن زياد الرواسي ، الملقب بالناب ، من أصحاب الأئمة الصادق والكاظم والرضا: ، من الثقات الأجلاء ، وهكذا اخوته ، فهم من بيت فضل وعلم من خيار الشيعة ، وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، وأقرّوا له بالفقه ، لم يختلف في توثيقه اثنان ، روى عنه ابن أبي عمير ، والوشّاء ، والحسن بن علي بن فضال ، وفضالة ، وغيرهم مات سنة ١٩٠ هـ =٨٠٥ م.

راجع : تنقيح المقال ١ : ٣٦٥ رقم ٣٣١٣ / رجال الشيخ : ١٧٣ رقم ١٣٩ و ٣٤٦ رقم ٢ و ٣٧١رقم ١ / الفهرست : ٦٠ رقم ٢٣٠ / الخلاصة : ٥٦ رقم ٣ / جامع الرواة ١ : ٢٧١ / مجمع الرجال ٢ : ٢٢٧.

(٢) التهذيب ٤ : ١٧٦ حديث ٤٨٨ / والاستبصار ٢ : ٧٣ حديث ٢٢٥ ألكافي ٤ : ٧٨ حديث ١٠. والغروب اشارة الى آخر الشهر.

(٣) قواعد الأحكام : ٦٩ ـ ٧٠.

(٤) أبو طالب ، محمد بن الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي ، فخر المحققين وجه وجوه الطائفة ، جليل القدر ، عظيم المنزلة ، رفيع الشأن ، جيد التصنيف لما امتاز به من وفور العلم والفقاهة ، وطول الباع في كثير من ألعلوم ، أوصى اليه والده العلامة في آخر القواعد ـ الذي صنفه له ولمَّا يبلغ العاشرة ـ باتمام ما بقي ناقصاً من كتبه ، بلغ رتبة الاجتهاد في العاشرة من عمره ، له مصنفات

٧٨

الاعتبار في الأهلَّة بالموضع الذي فيه الشخص ألآن لا بموضع كان يسكنه ، وإلاَّ لوجب على الغائب عن بلده الصوم برؤية الهلال في بلده ، وهو باطل إجماعاً(١) ، هذا ملخص كلامه.

و أقول : فيه بحث ، فإنَّ من اعتبر موضعاً كان يسكنه لم يعتبره من حيث سبق سكناه فيه ، بل من حيث رؤيته الهلال فيه سابقأ ، فكلّفه العمل بمقتضى تلك الرؤية ، فمن أين يلزمه وجوب الصوم على الغائب عن بلده برؤية غيره الهلال فيه؟! فتأمل.

بسط كلام لإبراز مرام :

تحقق أمثال هذه المسائل المبنية على تخالف الآفاق في تقدم طلوع الأهلّة وتأخرها ظاهر ، بناء على ما ثبت من كروية الأرض ، والذين أنكروا كرويتها فقدأنكروا تحققها ، ولم نطلع لهم على شبهة في ذلك فضلا عن دليل.

و الدلائل الآتية المذكورة في المجسطي(٢) ـ وغيره ـ شاهدة بكرويتها ، وان كانت شهادة الدليل الّلمِّي المذكور في الطبيعي مجروحة [٩ / ب].

و قد يتوهم أن القول بكرويّتها خلاف ما عليه أهل الشرع ، وربّما استند ببعض الآيات الكريمة كقوله تعالى :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ

________________________

منها : ايضاح الفوائد ، شرح خطبة القواعد ، الفخرية في النية ، حاشية الارشاد ، الكافية في الكلام ، مات سنة ٧٧١ هـ = ١٣٦٩.

انظر : هدية الأحباب : ٢٨٨ / روضات الجنات ٦ : ٣٣٠ رقم ٥٩١ / جامع الرواة ٢ : ٩٦ تنقيح المقال ٣ : ١٠٦ رقم ١٠٥٨١ / الفوائد الرضوية : ٤٨٦ / خاتمة المستدرك ٣ : ٤٥٩ نقد الرجال : ٣٠٢ رقم ٢٥٣ أمل الآمل ٢ : ٢٦٠ رقم ٧٦٨ / أعيان الشيعة ٩ : ١٥٩.

(١) إيضاح الفوائد ١ : ٢٥٢.

(٢) المجسطي ـ بكسر الميم والطاء وفتح الجيم وتخفيف الياء ـ كلمة يونانية ، اصلها ماجستوس ، اسم لأهم بل لأشرف ما صنّف في عالم الهندسة الفلكية بأدلتها التفصيلية ، وكل من جاء بعد كان عيالاً عليه من دون استثناء ، مؤلفه الحكيم بطليموس الفلوزي ، عُرِّب قديماً بواسطة جمع ، ونقح أيضا وشرح. للتفصيل راجع كشف الظنون ٢ : ١٥٩٤ / ولغة نامه دهخدا ٤١ : ٤٥٥ / وفرهنك جامع فارسي( آنندراج ) ٦ : ٣٨٥٤.

٧٩

فِرَاشاً ) (١) ، وقوله سبحانه :( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) (٢) وقوله جلَّ شأنه :( وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) (٣) ، وأمثال ذلك ، ولا دلالة في شيء منها على ما ينافي الكروية.

قال في الكشّاف عند تفسير الاية الاُولى ، فإن قلت : هل فيه دليل على أنّ الأرض مسَّطحة وليست بكرّية؟.

قلت : ليس فيه إلَّا أنَّ الناس يفتر شونها كما يفعلون بالمفارش ، وسواءكانت على شكل السطح أو شكل الكرة فالافتراش غير مستنكر ولا مدفوع؛ لعظم حجمها ، واتساع جرمها ، وتباعد أطرافها. وإذا كان متسهّلاً في الجبل وهو وتد من أوتاد الأرض ، فهو في الأرض ذات الطول والعرض أسهل(٤) . إنتهى كلامه.

و قال(٥) في التفسير الكبير : من الناس من يزعم أنَّ الشرط في كون الأرض فراشاً أن لا تكون كرة ، فاستدلَّ بهذه الاية على أن الأرض ليست كرة ، وهذا بعيد جدا ، لأنَّ الكرة إذا عظمت جداً كان كل قطعة منها كالسطح(٦) ، انتهى.

و كيف يتوهم متوهم أن القول بكروية الأرض خلاف ما عليه أهل الشرع!! وقد ذهب إليه كثيرمن علماء الإسلام ، وممن قال به صريحاً من فقهائنا ـ رضوان الله عليهم ـ العلّامة آية الله ، وولده فخر المحققين قدس سرهما.

________________________

(١) البقرة ، مدنية ، ٢ : ٢٢.

(٢) النبأ ، مكية ، ٧٨ : ٦.

(٣) الغاشية ، مكية ، ٨٨ : ٢٠

(٤) تفسير الكشاف ١ : ٩٤

(٥) أبوعبدالله محمد بن عمر بن الحسين الطبرستاني الرازي ، ابن الخطيب الشافعي الأشعري. العالم الاُصولي المتكلّم المشارك في العلوم. أخذ عن والده والكمال السمناني والجيلي. له التفسير ، المباحثالمشرقية ، الملخّص ، المحصّل. توفي سنة ٦٠٦ هـ = ١٢٠٩ م بهراة.

له ترجمة في : تاريخ الحكماء : ١ ٢٩ / وفيات الأعيان ٤ : ٢٤٨ ت / طبقات السبكي ٥ : ٢٣ / وانظرسيرأعلام النبلاء ٢١ : ٥٠٠ ت ٢٦١ ومصادره.

(٦) التفسير الكبير للفخر الرازي ٢ : ١٠٤.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

غير أنّ حاجته المبرمة إلى الاجتماع و التعاون اضطرّه إلى قبول الاشتراك مع سائر أفراد نوعه في الانتفاع بالمنافع المحصّلة من الأشياء بأعمالهم المشتركة فهو و سائر الأفراد من نوعه يكونون لذلك مجتمعاً يختصّ كلّ جزء من أجزائه و كلّ طرف من أطرافه بعمل أو أعمال ثمّ ينتفع المجموع بالمجموع، و إن شئت فقل: ثمّ تقسّم نتائج الأعمال بينهم فيتمتّع كلّ واحد منهم بذلك على مقدار زنته الاجتماعيّة، و لذلك نرى أنّ الفرد من الإنسان و هو اجتماعيّ كلّما قوي و اشتدّ أبطل المدنيّة الطبعيّة و أخذ يستخدم الناس بالغلبة، و يتملّك رقابهم، و يحكم في نفوسهم و أعراضهم و أموالهم بما يقترحه.

و لأجل ذلك إذا تأمّلت تأمّلاً حرّاً في سنّتهم في استعباد الإنسان وجدت أنّهم لا يعتبرون تملّك الإنسان ما دام داخلاً في المجتمع و جزءً من أجزائه بل إمّا أن يكون الإنسان المملوك محكوماً بالخروج عن المجتمع كالعدوّ المحارب الّذي لا همّ له إلّا أن يهلك الحرث و النسل و يمحي الإنسان باسمه و رسمه فهو خارج عن مجتمع عدوّه، و له أن يهلكه بالإفناء و يتملّك منه ما يشاء لأنّ الحرمة مرفوعة، و مثله الأب بالنسبة إلى صغار أولاده و التابعين لنفسه فإنّه يرى أنّهم من توابعه في المجتمع من غير أن يكافئوه أو يماثلوه أو يوازنوه فله أن يتصرّف فيهم حتّى بالقتل و البيع و غيرهما.

و إمّا أن يكون الإنسان المالك ذا خصيصة تدعوه إلى أن يعتقد أنّه فوق المجتمع من غير أن يعادلهم في وزن أو يشاركهم في نفع بل له نفوذ الحكم، و التمتّع بصفوة ما يختار، و التصرّف في نفوسهم حتّى بالملك و الاستعباد.

فقد تبيّن أنّ الأصل الأساسيّ الّذي كان يبني عليه الإنسان سنّة الاستعباد و الاسترقاق هو حقّ الاختصاص و التملّك المطلق الّذي يعتقده الإنسان لنفسه، و أنّ الإنسان لا يستثني عنه أحداً إلّا مشاركيه في مجتمعة الإنسانيّ ممّن يعادله في الزنة الاجتماعيّة و يتحصّن منه في حصن التعاون و التعاضد، و أمّا الباقون فلا مانع عنده من تملّكهم و استعبادهم.

و عمدتهم في ذلك طوائف ثلاث: العدوّ المحارب، و الأولاد الضعفاء بالنسبة إلى

٣٦١

آبائهم و كذا النساء بالنسبة إلى أوليائهنّ، و المغلوب المستذلّ بالنسبة إلى الغالب المتعزّز.

٣- سير الاستعباد في التاريخ: سنّة الاستعباد و إن كانت مجهولة من حيث تاريخ شيوعها في المجتمع الإنسانيّ غير أنّ الأشبه أن يكون أرقّاء مأخوذين في أوّل الأمر بالقتال و التغلّب ثمّ يلحق به الأولاد و النساء، و لذلك نعثر في تاريخ الاُمم القويّة الحربيّة من القصص و الحكايات و كذا القوانين و الأحكام المربوطة بالاسترقاق بالسبي على ما لا يوجد في غيرهم.

و قد كان دائراً بين الاُمم المتمدّنة القديمة كالهند و اليونان و الرومان و إيران، و بين الملّيّين كاليهود و النصارى على ما يستفاد من التوراة و الإنجيل حتّى ظهر الإسلام فأنفذ أصله مع تضييق في دائرته و إصلاح لأحكامه المقرّرة، ثمّ آل الأمر إلى أن قرّر مؤتمر بروسل إلغاء الاستعباد قبل سبعين سنة تقريباً.

قال( فردينان توتل) في معجمه(١) لأعلام الشرق و الغرب: كان الرقّ شائعاً عند الأقدمين، و كان الرقيق يؤخذ من أسرى و سبايا الحرب و من الشعوب المغلوبة، كان للرقّ نظام معروف عند اليهود و اليونان و الرومان و العرب في الجاهليّة و الإسلام.

و قد اُلغي نظام الرقّ تدريجاً: في الهند سنة (١٨٤٣) و في المستعمرات الإفرنسيّة سنة (١٨٤٨) و في الولايات المتّحدة بعد حرب الانفصال سنة (١٨٦٥) و في البرازيل سنة (١٨٨٨) إلى أن اتّخذ مؤتمر بروسل قراراً بإلغاء الاستعباد سنة (١٨٩٠) غير أنّه لا يزال موجوداً فعلاً بين بعض القبائل في آفريقيا و آسيا.

و مبدأ إلغاء الرقّ هو تساوي البشر بالحقوق و الواجبات، انتهى.

٤- ما الّذي رآه الإسلام في ذلك؟ قسّم الإسلام الاستعباد بحسب أسبابه، و قد تقدّم أنّ عمدتها كانت ثلاثة: الحرب، و التغلّب و الولاية كالاُبوّة و نحوها فألغى سببين من الثلاثة من أصله و هما التغلّب و الولاية.

فاعتبر احترام الناس شرعاً سواءً من ملك و رعيّة و حاكم و محكوم و أمير و جنديّ‏

____________________

(١) ص ٢١٩.

٣٦٢

و مخدوم و خادم بإلغاء الامتيازات و الاختصاصات الحيويّة، و التسوية بين الأفراد في حرمة نفوسهم و أعراضهم و أموالهم، و الاعتناء بشعورهم و إرادتهم - و هو الاختيار التامّ في حدود الحقوق المحترمة - و أعمالهم و ما اكتسبوه و هو تسلّطهم على أموالهم و منافع وجودهم من الأفعال فليس لوالي الأمر في الإسلام إلّا الولاية على الناس في إجراء الحدود و الأحكام و في أطراف المصالح العامّة العائدة إلى المجتمع الدينيّ، و أمّا ما تشتهيه نفسه و ما يستحبّه لحياته الفرديّة فهو كأحد الناس لا يختصّ من بينهم بخصيصة، و لا ينفذ أمره في الكثير ممّا يهواه لنفسه و لا في القليل، و يرتفع بذلك الاسترقاق التغلّبيّ بارتفاع موضوعه.

و عدّل ولاية الآباء لأبنائهم فلهم حقّ الحضانة و الحفظ و عليهم حقّ التربية و التعليم و حفظ أموالهم ما داموا محجورين بالصغر فإذا بلغوا بالرشد فهم و آباؤهم سواء في الحقوق الاجتماعيّة الدينيّة، و هم أحرار في حياتهم، لهم الخيرة فيما رضوا لأنفسهم.

نعم اُكّدت التوصية لآبائهم عليهم بالإحسان و مراعاة حرمة التربية، قال تعالى:( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى‏ وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى‏ أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ) لقمان: ١٥ و قال تعالى:( وَ قَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ) الإسراء: ٢٤ و قد عدّ في الشرع الإسلاميّ عقوقهما من المعاصي الكبيرة الموبقة.

و أمّا النساء فقد وضع لهنّ من المكانة في المجتمع و اعتبر لهنّ من الزنة الاجتماعيّة ما لا يجوز عند العقل السليم التخطّي عنه و لو بخطوة، فصرن بذلك أحد شقّي المجتمع الإنسانيّ و قد كنّ في الدنيا محرومات من ذلك، و اُعطين زمام الازدواج و المال و قد كنّ محرومات أو غير مستقلّات في ذلك.

و شاركن الرجال في اُمور و اختصصن عنهم باُمور و اختصّ الرجال باُمور كلّ ذلك عن مراعاة تامّة لقوام وجودهنّ و تركيب بناهنّ، ثمّ سهّل عليهنّ في اُمور شقّ فيها على

٣٦٣

الرجال كأمر النفقة و حضور معارك القتال و نحو ذلك.

و قد تقدّم الكلام في ذلك كلّه تفصيلاً في أواخر سورة البقرة في الجزء الثاني من الكتاب، و في أوائل سورة النساء في الجزء الرابع منه، و تبيّن هناك أنّ النساء مختصّات في الإسلام من مزيد الإرفاق بالنسبة إلى الرجال بما لا يوجد نحوه في سائر السنن الاجتماعيّة قديمها و حديثها.

قال تعالى:( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) النساء: ٣١ و قال تعالى:( فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) البقرة: ٢٣٤ و قال تعالى:( وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) البقرة: ٢٢٨ و قال:( أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) آل عمران: ١٩٥ ثمّ جمع الجميع في بيان واحد فقال:( لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) البقرة: ٢٨٦ و قال:( وَ لا تَكْسِبُ كلّ نَفْسٍ إلّا عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏ ) الأنعام: ١٦٤ إلى غير ذلك من الآيات المطلقة الّتي تأخذ الفرد من الإنسان جزءً تامّاً كاملاً من المجتمع، و يعطيه من الاستقلال الفرديّ ما ينفصل به عن أيّ فرد آخر في نتائج أعماله من خير أو شرّ أو نفع أو ضرّ من غير أن يستثني صغيراً أو كبيراً أو ذكراً أو اُنثى.

ثمّ سوّى بينهم جميعاً في العزّة و الكرامة ثمّ ألغى كلّ عزّة و كرامة إلّا الكرامة الدينيّة المكتسبة بالتقوى و العمل فقال:( لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) المنافقون: ٨ و قال:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣.

و قد أبقى الإسلام السبب الثالث من الأسباب الثلاثة للاستعباد أعني الحرب، و هو أن يسبي الكافر المحارب لله و رسوله و المؤمنين، و أمّا اقتتال المؤمنين بعضهم مع بعض فلا سبي فيه و لا استعباد بل يقاتل الباغي من الطائفتين حتّى ينقاد لأمر الله قال تعالى:( وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‏ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) الحجرات: ١٠.

٣٦٤

و ذلك أنّ العدوّ المحارب الّذي لا همّ له إلّا أن يفني الإنسانيّة و يهلك الحرث و النسل لا ترتاب الفطرة الإنسانيّة أدنى ريب في أنّه يجب أن لا يعدّ جزءً من المجتمع الإنسانيّ الّذي له التمتّع بمزايا الحياة و التنعّم بحقوق الاجتماع، و أنّه يجب دفعه بالإفناء فما دونه، و على ذلك جرت سنّة بني آدم منذ عمّروا في الأرض إلى يومنا هذا و على ذلك ستجري.

و الإسلام لما وضع بنية المجتمع - المجتمع الدينيّ - على أساس التوحيد و حكومة الدين الإسلاميّ ألغى جزئيّة كلّ مستنكف عن التوحيد و حكومة الدين من المجتمع الإنسانيّ إلّا مع ذمّة أو عهد فكان الخارج عن الدين و حكومته و عهده خارجاً عن المجتمع الإنسانيّ لا يعامل معه إلّا معاملة غير الإنسان الّذي للإنسان أن يحرمه عن أيّ نعمة يتمتّع بها الإنسان في حياته، و يدفعه بتطهير الأرض من رجس استكباره و إفساده فهو مسلوب الحرمة عن نفسه و عمله و نتائج أيّ مسعى من مساعيه، فللجيش الإسلاميّ أن يتّخذ أسرى و يستعبد عند الغلبة.

٥- ما هو السبيل إلى الاستعباد في الإسلام؟ يتأهّب المسلمون على من يلونهم من الكفّار فيتمّون عليهم الحجّة و يدعونهم إلى كلمة الحقّ بالحكمة و الموعظة و المجادلة بالّتي هي أحسن فإن أجابوا فإخوان في الدين لهم ما للمسلمين و عليهم ما عليهم و إن أبوا إلّا الردّ فإن كانوا أهل كتاب و قبلوا الجزية تركوا و هم على ذمّتهم، و إن أخذوا عهداً كانوا أهل كتاب أم لا وفي بعهدهم، و إن لم يكن شي‏ء من ذلك اُوذنوا على سواء و قوتلوا.

يقتل منهم من شهر سيفاً و دخل المعركة و لا يقتل منهم من ألقى السلم، و لا يقتل منهم المستضعفون من الرجال و النساء و الولدان، و لا يبيّتون و لا يغتالون، و لا يقطع عنهم الماء، و لا يعذّبون و لا يمثّل بهم فيقاتلون حتّى لا تكون فتنة و يكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلّا على الظالمين.

فإذا غلبوهم و وضعت الحرب أوزارها فما تسلّط عليه المسلمون من نفوسهم و أموالهم فهو لهم و قد اشتمل تاريخ حروب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و مغازيه على صحائف غرّ متلمّعة مملوءة من السيرة العادلة الجميلة فيها لطائف الفتوّة و المروّة، و طرائف البرّ و الإحسان.

٣٦٥

٦- ما هي سيرة الإسلام في العبيد و الإماء؟ إذا استقرّت العبوديّة على من استقرّت عليه صار ملك يمين، منافع عمله لغيره و نفقته على مولاه.

و قد وصّى الإسلام أن يعامل المولى مع عبده معاملة الواحد من أهله و هو منهم فيساويهم في لوازم الحياة و حوائجها، و قد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤاكل عبيده و خدمه و يجالسهم، و لا يؤثّر نفسه عليهم في مأكل و لا ملبس و نحوهما.

و أن لا يشقّ عليهم و لا يعذّبوا و لا يسبّوا و لا يظلموا، و اُجيز أن يتزوّجوا فيما بينهم بإذن أهلهم، و أن يتزوّج بهم الأحرار، و أن يشاركوهم في الشهادات، و يساهموهم في الأعمال حال الرقّ و بعد الانعتاق.

و قد بلغ من إرفاق الإسلام في حقّهم أن شاركوا الأحرار في عامّة الاُمور، و قد قلّد جمع منهم الولاية و الإمارة و قيادة الجيش على ما يضبطه تاريخ صدر الإسلام، و يوجد بين الصحابة الكبار عدّة من الموالي كسلمان و بلال و غيرهما.

و هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعتق جاريته صفيّة بنت حيّ بن أخطب و تزوّج بها، و تزوّج جويريّة بنت الحارث بعد وقعة بني المصطلق و قد كانت بين سباياهم، و كانوا مأتي بيت بالنساء و الذراري، و صار ذلك سبباً لانعتاق الجميع، و قد مرّ إجمال القصّة في الجزء الرابع من الكتاب.

و من الضروريّ من سيرة الإسلام أنّه يقدّم العبد المتّقي على المولى الحرّ الفاسق، و إنّه يبيح للعبد أن يتملّك المال و يتمتّع بعامّة مزايا الحياة بإذن من أهله هذا إجمال من صنيع الإسلام فيهم.

ثمّ أكّد الوصيّة و ندب أجمل الندب إلى تحرير رقبتهم، و إخراجهم من ظرف الاستعباد إلى جوّ الحرّيّة و لا يزال يقلّ بذلك عددهم و يتبدّل جمعهم موالي و أحراراً لوجه الله، و لم يقنع بذلك دون أن جعل تحرير الرقبة أحد خصال الكفّارات مثل كفّارة القتل و كفّارة الإفطار، و أجاز لهم الاشتراط و الكتابة و التدبير، كلّ ذلك عناية بهم و قصداً إلى تخليصهم و إلحاقاً لهم بالمجتمع الإنسانيّ الصالح إلحاقاً تامّاً يقطع دابر الاستذلال.

٣٦٦

٧- محصّل البحث في الفصول السابقة: تحصل ممّا مرّ اُمور ثلاث:

الأوّل: أنّ الإسلام لم يأل جهداً في إلغاء أسباب الاستعباد و تقليلها و تضعيفها حتّى وقف على واحد منها لا محيص عن اعتباره بحكم الفطرة القاطع و هو جواز استعباد كلّ إنسان محارب للدين مضادّ للمجتمع الإنسانيّ غير خاضع للحقّ بوجه من وجوه الخضوع.

الثاني: أنّه استعمل جميع الوسائل الممكنة في إكرامهم - العبيد و الإماء - و تقريب شؤونهم الحيويّة من حياة أجزاء المجتمع الحرّة حتّى صاروا كأحدهم و إن لم يصيروا أحدهم، و لم يبق عليهم إلّا حجاب واحد رقيق، و هو أنّ الزائد من أعمالهم على واجب حياتهم حياة متوسّطة لمواليهم لا لهم، و إن شئت فقل: لا فاصل في الحقيقة بين الحرّ و العبد في الإسلام إلّا إذن المولى في العبد.

الثالث: أنّه احتال بكلّ حيلة مؤثّرة إلى إلحاق صنف المماليك إلى مجتمع الأحرار بالترغيب و التحريص في موارد، و بالفرض و الإيجاب في اُخرى كالكفّارات، و بالتسويغ و الإنفاذ في مثل الاشتراط و التدبير و الكتابة.

٨- سير الاستعباد في التاريخ‏: ذكروا(١) أنّ الاستعباد ظهر أوّل ما ظهر بالسبي و الأسر، و كانت القبائل قبل ذلك إذا غلبت في حروبها و مقاتلها و أخذت سبايا قتلتهم عن آخرهم ثمّ رأوا أن يتركوهم أحياءً و يتملّكوهم كسائر الغنائم الحربيّة لا لينتفعوا بأعمالهم بل إحساناً في حقّهم و حفظاً للنوع و احتراماً للقوانين الأخلاقيّة الّتي ظهرت فيهم بالترقّي في صراط المدنيّة شيئاً بعد شي‏ء.

و إنّما ظهرت هذه السنّة بين القبائل بعد ما ارتحلت عنهم طريقة الارتزاق لاصطياد إذ لم تكن لهم فيها من السعة ما يسوّغ لهم الإنفاق على العبيد و الإماء حتّى انتقلوا إلى عيشة النزول و الارتحال و تمكّنوا من ذلك.

و بشيوع الاستعباد بين القبائل و الاُمم على أيّ وتيرة كانت تحوّلت حياة الإنسان الاجتماعيّة بظهور جهات من الانتظام و الانضباط في المجتمعات أوّلاً و تقسيم الأعمال ثانياً.

____________________

(١) مأخوذ من ١- دائرة المعارف: المذهب و الأخلاق تأليف جان هيسينيك طبعة بريطانية، ٢- مجمل التاريخ تأليف ه. ج. ولز طبعة بريطانية، ٣- روح القوانين تأليف مونيسكيو طبعة طهران.

٣٦٧

و لم يكن الاستعباد إذ كان دائراً في الدنيا على وتيرة واحدة في أقطار المعمورة فلم يستنّ في بعض المناطق أصلاً كاُوستراليا و آسيا المركزيّة و سيبريا و أميركا الشماليّة و إسكيمو و بعض المناطق بإفريقيا بشمال النيل و جنوب رامبيز.

و بالعكس كان رائجاً في جزيرة العرب و إفريقيا الوحشيّة و اُوروبه و أميركا الجنوبيّة و كان دائراً بين اليهود، و في التوراة دعاء العبيد إلى طاعة مواليهم، و كذا بين النصارى و في كتاب بولس إلى فيلمن أنّ إفسيموس كان عبداً شارداً ردّه بولس إلى سيّده.

و كانت اليهود أرفق الناس بعبيدهم، و من الشواهد على ذلك أنّا لم نعثر لهم من شواهق الأبنية على ما يشبه الأهرام المعمولة بمصر و الأبنية الآشوريّة التاريخيّة فإنّها كانت من أعمال العبيد الشاقّة، و كانت الروم و اليونان أكثر الاُمم تشديداً على العبيد.

و قد ذاع في الروم الشرقيّ بعد قسطنطين فكر التحرير حتّى لغى الرقّ فيها في القرن ١٣ الميلاديّ، و بقي في الروم الغربيّ على شكل آخر و هو أنّهم كانوا يبيعون و يشترون المزارع بزرّاعها - و كانت الزراعة من مشاغل العبيد - لكن لغت بينهم الأعمال الإجباريّة.

و كان الاستعباد دائراً في معظم ممالك اُوروبه إلى سنة ١٧٧٢ الميلاديّة و قد انعقدت قبل ذلك بحين معاهدة بين الدولتين إنجلترا و إسبانيا على أن يجبي الإنجليز إليهم كلّ سنة أربعة آلاف و ثمان مائة نسمة من رقيق إفريقيا إلى ثلاثين سنة ليبيعهم منهم قبال مبالغ خطيرة يأخذها منهم.

و قد ثارت الأفكار العامّة سنة ١٧٦١ على الرقّ و الاستعباد بينهم، و أقدم الطوائف الّتي قامت عليه منهم طائفة( لرزان) (١) المذهبيّة، و لم يزالوا على ذلك حتّى وضعت مادّة قانونيّة سنة ١٧٧٢ أنّ كلّ من دخل أرض بريطانيا فهو حرّ.

و قد ظهر سنة ١٧٨٨ بعد بحث دقيق أنّ إنجلترا يعامل كلّ سنة مأتي ألف نسمة رقيقاً، و كان الّذين يجلبون منهم من إفريقيا إلى أميركا وحدها مائة ألف.

و لم يزل حتّى ألغي الاستعباد في بريطانيا سنة ١٨٣٣ و أدّت الدولة إلى كمبانيّات

____________________

(١). Quaker

٣٦٨

النخس عشرين ميليوناً ليرة أثمان من حرّرته من رقيقهم العبيد و الإماء، و انعتق في هذه الواقعة فيها (٧٧٠٣٨٠) نسمة.

و لغي الاستعباد في أميركا سنة ١٨٦٢ بعد مجاهدات شديدة تحمّلتها أهالي أميركا و قد كان شمال هذه المملكة و جنوبها مختلفين في أخذ الرقيق: أمّا أميركا الشماليّة فإنّما كانت تأخذ العبيد و الإماء للتجمّل فحسب، و أمّا الجنوبيّة فكان معظم الأشغال فيها شغل الزراعة و الحرث، و كانوا في حاجة شديدة إلى كثرة الأيدي العمّالة فكانوا يأخذون الأرقّاء استثماراً بأعمالهم، و لذلك كانوا يتحرّجون من قبول التحرير العامّ.

و لم يزل الاستعباد يلغى في مملكة بعد مملكة حتّى انعقد قرار بروسل سنة (١٨٩٠) الميلاديّة على إلغاء سنّة الاستعباد، و أمضاها الدول و اُجريت في الممالك، و لغت العبوديّة في الدنيا، و انعتقت بذلك الملايين من النسمات، انتهى ما ذكروه ملخّصاً.

و أنت تجد بثاقب نظرك أنّ هذه المجاهدة الطويلة و المشاجرة ثمّ ما وضع من قوانين الإلغاء و اُنفذ من الحكم كلّ ذلك إنّما كان يدور حول الاسترقاق من طريق الولاية أو التغلّب كما يشهد به أنّ جلّ الأرقّاء أو كلّهم كانوا يجلبون من نواحي إفريقيا المعمول فيها ذلك، و أمّا الاسترقاق من طريق السبي الحربيّ الّذي أنفذ الإسلام فلم يكن مورداً للبحث قطّ.

٩- نظرة في بنائهم: هذه الحرّيّة الفطريّة الّتي نسمّيها بالحرّيّة الموهوبة للإنسان (و لسنا ندري ما هو السبب الّذي يسلبها عن سائر أنواع الحيوان و هي تماثل الإنسان في الشعور النفسانيّ و الإرادة الباعثة؟ غير أن نقول إنّ الإنسان هو الّذي يسلبها ذلك لينتفع بها) لا تتفرّع على أصل إلّا على أنّ الإنسان مجهّز بشعور باطنيّ يميّز له ما يلتذّ به و ما يتألّم به ثمّ بإرادة تبعثه إلى جذب ما يلذّه و دفع ما يؤلمه فكان له أن يختار لنفسه ما يشاء.

و لم يتقيّد الشعور الإنسانيّ بأن يتعلّق بشي‏ء و لا يتعلّق بآخر كأن لا يشعر الإنسان الضعيف المستذلّ بما يشعر به الإنسان القويّ المتعزّز، و لا تحدّدت الإرادة الإنسانيّة بحدّ يمنعها عن التعلّق ببعض ما يستحبّه أو يجبرها على التعلّق بما تعلّقت به إرادة غيره لتنطلق لنفع

٣٦٩

غيره و تنسى نفسها، فالإنسان الضعيف المغلوب يريد لنفسه نظائر جميع ما يريده الإنسان الّذي غلبه و قهره لنفسه، و لا رابطة طبيعيّة بين إرادة الضعيف و إرادة القويّ تجبر إرادة الضعيف على أن لا تتعلّق بما تعلّقت به إرادة القويّ، أو تفنى في إرادة القويّ فتعود الإرادتان إرادة واحدة تجري لنفع القويّ، أو تتّبع الإرادة اتّباعاً يسلبها الاستقلال.

و إذ كان كذلك و كان من حقّ قوانين الحياة أن تبتني على أساس البنية الطبيعيّة كان من الواجب أن يعيش الإنسان حرّاً في نفسه و حرّاً في عمله، و من هذا الثدي يرتضع إلغاء الاستعباد.

لكن ينبغي لنا أن نتأمّل هذه الحرّيّة الموهوبة للإنسان هل هي في المجتمع الإنسانيّ على إطلاقها منذ ولدت و عاشت في البنى الإنسانيّة؟.

فلم يزل النوع الإنسانيّ - فيما نعلم - يعيش في حال الاجتماع و لا يسعه بحسب جهازه الوجوديّ إلّا ذلك، و من المحال أن يدوم مجتمع في حال الاجتماع و لو حيناً مّا إلّا مع سنّة مشتركة بين أفراد المجتمع سواء كانت سنّة عادلة تعقّليّة أو سنّة جائرة أو مجازفة أو بأيّ وصف اتّصفت، و هذه السنّة كيفما كانت تحدّد الحرّيّة الفرديّة.

على أنّ الإنسان لا يتأتّى له أن يعيش إلّا مع تصرّف مّا في المادّة يضمن له البقاء و لا يتأتّى له ذلك إلّا بأن يختصّ بما يتصرّف فيه نوعاً من الاختصاص الّذي نسمّيه بالملك - أعمّ من الحقّ و الملك المصطلح عليه - فالّذي يلبسه هذا حين يلبس لا يسع لذاك أن يلبسه و الّذي يأكله فرد أو يشربه أو يشغله بالتمكّن فيه لا يمكن لغيره أن يستقلّ به، و ليس ذلك إلّا تحديداً لغير المتصرّف في إطلاق إرادته، و تقييداً لحرّيّته.

و لم يزل الاختلاف يلازم هذا النوع منذ سكن الأرض فلم يمض على هؤلاء الأفراد المنتشرة في رحب الأرض يوم إلّا و تطلع فيه الشمس على اختلافات، و تغيب عن اختلافات تسير بهم إلى فناء نفوس و ضيعة أعراض و انتهاب أموال، و لو كان الإنسان يرى لنفسه - أي للإنسانيّة - حرّيّة مطلقة لم يكن لهذه الاختلافات بينهم أثر.

و سنّة المجازاة و المؤاخذة لم تزل دائرة معمولة بين المجتمعات المتنوّعة مدنيّة كانت

٣٧٠

أو همجيّة، و لا معنى للمجازاة إلّا أن يملك المجتمع من الإنسان المجرم بعض ما وهبه له الخلقة من النعم، و أن يسلب عنه بعض الحرّيّة فلو لا أنّ المجتمع أو من بيده الأمر في المجتمع يملك من المجرم القاتل المحكوم بالقصاص حياته لما وسعه أن يسلبها عنه، و لو لا أنّ الآثم المأخوذ بإثمه المؤاخذ بأنواع التعذيب و النكاية كالقطع و الضرب و الحبس و غيره ذلك يملك الحكم و الإجراء منه ما يسلبه من شؤون الحياة أو الراحة أو السلطة الماليّة لما صحّ ذلك، و كيف يصحّ منع الجائر المتعدّي أن يجور و يتعدّى و لا الذبّ عن حريم نفس أو عرض أو مال إلّا مع سلب بعض حرّيّة المتغلّب الممنوع؟.

و بالجملة فممّا لا يشكّ فيه ذو مسكة أنّ بقاء الحرّيّة الإنسانيّة على إطلاقها في المجتمع الإنسانيّ و لو لحظة يوجب اختلال النظام الاجتماعيّ من وقته فهذا الاجتماع الّذي هو أيضاً فطريّ للإنسان و لا يعيش بدونه هو يقيّد إطلاق الحرّيّة الفطريّة الّتي وهبته للإنسان إرادته و شعوره الغريزيّان فلا يتأتّى لمجتمع إنسانيّ أن يعيش إلّا مع تقييد ما لإطلاق الحرّيّة كما لا يتأتّى له أن يعيش مع بطلان الحرّيّة من أصلها، و لم يزل المجتمع الإنسانيّ يحفظ بين الحدّين هذه الحرّيّة الّتي يخيّل لنا من كثرة التبليغات الغربيّة أنّهم هم الّذين خلقوا اسمها بعد ما اخترعوا معناها، و حفظوها على إطلاقها.

فهذا الاجتماع الفطريّ هو الّذي يقيّد تلك الحرّيّة الفطريّة و يحدّدها على حدّ تقييد القوى الطبيعيّة البدنيّة و غير البدنيّة بعضها بعضاً فيقف البعض عن الفعل اعتناءً بشأن بعض آخر يزامله كقوّة الإبصار الّتي هي مبدأ للإبصار على الإطلاق تفعل فعلها حتّى تكلّ لامسة العين أو تتعب القوّة المفكّرة فتقف الباصرة عن فعلها تقيّداً بفعل مزاملها، و الذائقة تلتذّ بالتقام الغذاء اللذيذ و ازدراده و بلعه حتّى تكلّ عضلات الفكّ فتقيّد الذائقة فتكفّ عن مشتهاها.

فالاجتماع الفطريّ لا يتمّ للإنسان إلّا بأن يجود ببعض حرّيّته في العمل و استرساله في التمتّع.

١٠- ما مقدار التحديد: و أمّا المقدار الّذي تحدّد به الحرّيّة الموهوبة من قبل الاجتماع الفطريّ و يتقيّد به إطلاقها الفطريّ فهو يختلف باختلاف المجتمعات الإنسانيّة

٣٧١

بحسب كثرة القوانين الدائرة المعتبرة في المجتمع و قلّتها فإنّ المقيّد للحرّيّة بعد أصل الاجتماع إنّما هو القانون المجرى بين الناس فكلّما زادت القوانين و دقّت في رقوب أعمالهم زاد الحرمان من الحرّيّة و الاسترسال و كلّما نقصت نقص.

لكنّ الّذي لا مناص عنه في أيّ اجتماع لأيّ مجتمع فرض، و الواجب الّذي ليس في وسع الإنسان الاجتماعيّ أن يستهين به و يتساهل في أمره: هو حفظ وجود الاجتماع و كونه إذ لا حياة للإنسان دونه، و حفظ السنن الدائرة و القوانين الجارية فيه من النقص و الانتقاض، و لذلك لست تجد مجتمعاً من المجتمعات البشريّة إلّا و فيه جهة دفاعيّة تذبّ عن النفوس و الذراري و تقيهم من الفناء و الهلاك، و وليّ يلي أمرهم و يحفظ السنّة الجارية و العادات الدائرة المحترمة بينهم من الانتقاض ببسط الأمن الاجتماعيّ، و سياسة المتعدّي الجائر، و الموجود من التاريخ يصدّق ذلك أيضاً.

و إذا كان كذلك فأوّل حقّ مشروع للمجتمع في شريعة الفطرة أن يسلب الحرّيّة عن عدوّ المجتمع في أصل اجتماعه، و إن شئت فقل: أن يملك من عدوّه المبيد لحياته المفسد لحرثه و نسله نفسه و عمله و يذهب بحرّيّة إرادته بما يشاء من قتل فما دونه، و أن يسلب عن عدوّ السنّة و القانون حرّيّة العمل و الاسترسال في النقض، و يملك منه ما يفقده بالمجازاة من نفس أو مال أو غيرهما.

و كيف يسع الإنسان - حتّى الإنسان الفرد - أن يذعن بحرّيّة عدوّ لا لحياة مجتمعة يحترم فيؤاخيه و يشاركه و يمتزج به، و لا عن إبادة مجتمعة و إفنائه يغمض فيتركهم و شأنهم؟ و هل الجمع بين العناية الفطريّة بالاجتماع و بين ترك هذا العدوّ و حرّيّته في العمل إلّا جمعاً بين المتناقضين صريحاً و سفهاً أو جنوناً؟.

فتبيّن ممّا مرّ أوّلاً: أنّ البناء على إطلاق حرّيّة الإنسان أمر مخالف لصريح الحقّ الفطريّ المشروع للإنسان الّذي هو من أوّل الحقوق الفطريّة المشروعة.

و ثانياً: أنّ حقّ الاستعباد الّذي اعتبره الإسلام هو المطابق لشريعة الفطرة، و هو أن يستعبد أعداء الدين الحقّ المحاربين للمجتمع الإسلاميّ فيسلب عنهم حرّيّة العمل، و يجلبوا إلى داخل المجتمع الدينيّ و يكلّفوا بأن يعيشوا في زيّ العبوديّة حتّى يتربّوا

٣٧٢

بالتربية الصالحة الدينيّة، و ينعتقوا تدريجاً، و يلتحقوا بالمجتمع الحرّ سالمين غانمين، و لوليّ الأمر أن يشتريهم و يعتقهم عن آخرهم إن رأى صلاح المجتمع الدينيّ في ذلك، أو يسلك في ذلك طريقاً آخر لا ينتسخ بذلك الأحكام الإلهيّة.

١١- إلى م آل أمر الإلغاء؟: أجرت الدول المعظّمة قرار مؤتمر بروسل و منعوا بيع الرقيق أشدّ المنع و انعتقت الإماء و العبيد فلا يصطفّون اليوم في دكاك النخّاسين و لا يساقون سوق الأغنام، و تبع ذلك أن انتسخ اتّخاذ الخصيان، و لا يكاد يوجد اليوم من هؤلاء و اُولئك و لو نماذج قليلة إلّا ما ربّما يذكر من أمر الأقوام الهمجيّة.

لكنّ هذا المقدار أعني ارتفاع اسم الاستعباد و الاسترقاق من الألسنة و غيبة المسمّين بهذا الاسم عن الأنظار هل يقنع الباحث الناقد في هذه المسألة؟ أ و ليس يسأل أنّ هذه المسألة هل هي مسألة لفظيّة يجزي فيها المنع من أن يذكر الاسم، و يكفي في إجرائها أن يسمّى العبد حرّاً و إن سلب منافع عمله و تبع غيره في إرادته، أو أنّ المسألة معنويّة يراعى فيها حال المعنى بحسب حقيقته و آثاره الخارجيّة؟.

فهاتيك الحرب العالميّة الثانية لم يمض عليها إلّا بضع عشرة سنة حمّلت الدول الفاتحة على عدوّها المغلوب التسليم بلا شرط ثمّ احتلّوا بلادهم، و أخذوا ملايين من أموالهم، و تحكّموا على نفوسهم و ذراريهم، و نقلوا الملايين من اُسراهم إلى داخل مملكتهم يستعملونهم فيما شاؤا و كيف شاؤا، و الأمر يجري على ذلك حتّى اليوم.

فليت شعري هل للاستعباد مصداق ليس به و إن منع من إطلاق لفظه؟ و هل له معنى إلّا سلب إطلاق الحرّيّة، و تملّك الإرادة و العمل، و إنفاذ القويّ المتعزّز حكمه في الضعيف المستذلّ كيف شاء و أراد عدلاً أو ظلماً؟.

فيا لله العجب يسمّي حكم الإسلام بنظير الحكم على أصلح وجه يمكن استعباداً و لا يسمّى حكمهم بذلك، و الإسلام يأخذ فيه بأسهل الوجوه و أخفّها و هم يأخذون بأشقّها و أعنفها، فقد رأينا محبّتهم و صداقتهم حينما احتلّوا بلادنا تحت عنوان المحبّة و الحماية و الوقاية، فكيف حال من استعلوا عليه بالعداوة و النكاية؟.

و من هنا يظهر أنّ قرار الإلغاء لم يكن إلّا لعباً سياسيّاً هو في الحقيقة أخذ في

٣٧٣

صورة الردّ، أمّا الاستعباد عن حرب و قتال فقد أنفذه الإسلام و أنفذوه عملاً و إن منعوا عن التلفّظ باسمه لساناً، و أمّا الاستعباد من طريق بيع الآباء أبناءهم الّذي منعوه فقد كان الإسلام منعه من قبل، و أمّا الاستعباد من طريق الغلبة و السلطة الحكميّة فقد منعه الإسلام من قبل، و أمّا هؤلاء فقد أجمعوا على منعه لكن هل توقّف المنع في مرحلة اللفظ كنظيره أو تعدّاها إلى مرحلة المعنى و وافقه العمل؟!.

يمكنك أن تستخرج الجواب لهذا السؤال بإمرار النظر في تاريخ الاستعمارات الاُروبيّة في آسيا و إفريقيا و أميركا، و الفجائع الّتي ارتكبوها، و الدماء و الأعراض و الأموال الّتي أهرقوها و استباحوها و نهبوها، و التحكّمات الّتي أتوا بها و ليس بالواحد و المائة و الألف.

ليس يلزمك أن تسلك هذا السبيل على بعدها - إن كان بعيداً - فقد يجزيك أن تتأمّل أخبار ما يقاسيه أهل الجزائر من فرنسا منذ سنين من إبادة النفوس و تخريب البلاد و التشديد على أهله، و ما تلقاه الممالك العربيّة من الإنجليز، و ما يتحمّله السودان و الحمر في أميركا، و الاُوروبة الشرقيّة من الجمهوريّات الاشتراكيّة، و ما نكابده نحن من أيدي هؤلاء و اُولئك، كلّ ذلك في لفظه نصح و إشفاق، و في معناه استعباد و استرقاق!.

فظهر من جميع ما مرّ أنّهم أخذوا في مرحلة العمل بما شرعه الإسلام من إباحة و سلب إطلاق الحرّيّة عند وجود سببها الفطريّ الّذي هو حرب من يريد هدم المجتمع و إهلاك الإنسانيّة، و هو حكم مشروع في شريعة الفطرة له أصل واقعيّ لا يتغيّر و هو حاجة الإنسانيّة في بقائها إلى دفع ما يطاردها وجوداً و يناقضها بقاءً ثمّ أصل اجتماعيّ عقلائيّ لا يتبدّل متفرّع على أصله الواقعيّ و هو وجوب حفظ المجتمع الإنسانيّ عن الانعدام و الانهدام.

فهذا هو الّذي راموه في عملهم و أخذوه معنى و أنكروه اسماً غير أنّهم تعدّوا هذا القسم المشروع إلى غيره غير المشروع و هو الاستعباد بسبب الغلبة و السلطة فلا يزالون يستعبدون الاُلوف و الملايين قبل حديث الإلغاء و بعده، و يبيعون و يشترون و يهبون و يعيرون إلّا أنّهم لا يسمّون ذلك استعباداً، و إنّما يسمّى استعماراً أو استملاكاً أو قيمومة أو حماية

٣٧٤

أو عناية و إعانة أو غير ذلك من الألفاظ الّتي لا يراد بشي‏ء منها إلّا أن يكون سترة على معنى الاستعباد، و كلّما خلق أو خرق شي‏ء منها رمي به و جي‏ء بآخر.

و لم يبق ممّا نسخه قرار بروسل و لا يزال يقرع به أسماع الدنيا و أهلها و يتباهى به الدول المتمدّنة الّذين هم رواد المدنيّة الراقية، و بأيديهم راية الحرّيّة الإنسانيّة إلّا الاستعباد من طريق بيع الأبناء و البنات و الإخصاء و لا فائدة هامّة فيه تعود إليهم مع كونه أشبه بالمسألة الفرديّة منه بالمسألة الاجتماعيّة، و نسخه مع ذلك حجّة لفظيّة تبليغيّة بأيديهم كسائر حججهم الّتي لا تعدو مقام اللّفظ و تؤثّر أثر المعنى.

نعم يبقى هناك محلّ بحث آخر و هو أنّ الإسلام يبدأ في غنائمه الحربيّة من رقيق أو مال غير الأرض المفتوحة عنوة بالأفراد من مجتمعة فيقسّمها بينهم ثمّ ينتهي إلى الدولة على ما سير به في صدر الإسلام و هؤلاء يحفظون الاستفادة منها حقّاً موقوفاً على الدولة، و هذه مسألة اُخرى غير مسألة أصل الاسترقاق لعلّنا نوفّق لاستقصاء البحث عنها فيما سيأتي إن شاء الله من الكلام في آيات الزكاة و الخمس و الله المستعان.

و بعد ذلك كلّه نعود إلى كلمة صاحب معجم الأعلام المنقولة سابقاً:( مبدأ إلغاء الرقّ هو تساوي البشر في الحقوق و الواجبات) فما معنى تساوي البشر في الحقوق إلخ، فإن اُريد به تساويهم في استحقاق ما لهم من الحقوق الواجبة مراعاتها و إن كانت نفس تلك الحقوق مختلفة غير متساوية البتّة كاختلاف الرئيس و المرؤس و الحاكم و المحكوم و الآمر و المأمور و المطيع للقانون و المتخلّف عنه و العادل و الظالم من جهة اختلافهم في الزنة الاجتماعيّة.

فهو كذلك لكنّه لا يستلزم التسوية بين من هو جزء شريف نافع في المجتمع و بين من ليس في صلاحيته أن ينضمّ إلى المجتمع و لا كرامة، و إنّما هو كالسمّ المهلك الّذي أينما حلّ أبطل الحياة فإنّ من الحكم الفطريّ الصريح أن يفرّق بينهما بإعطاء الحرّيّة الكاملة للأوّل، و سلبها عن الثاني فلا حقّ للعدوّ على عدوّه فيما يعاديه، و لا واجب للذئب في ذمّة الغنم و لا للأسد على فريسته.

و إن اُريد به أنّ الإنسانيّة لما كانت مشتركة بين أفراد الإنسان و كان في قوّة

٣٧٥

الفرد من الإنسان كائناً من كان أن يرقى في المدنيّة و ينال من السعادة ما يناله الآخر كان من حقّ الإنسانيّة على المجتمع الراقي أن يجود بالحرّيّة على كلّ إنسان و يربّيه حتّى يلحق المجتمع الصالح.

فلذلك حقّ لكن ربّما كان من شرائط التربية أن يسلب المربّي حرّيّة الإرادة و العمل حيناً حتّى تتمّ التربية، و يتبصّر النفس المربّاة في استعمال إرادتها، و تتنعّم بنعمة حرّيّتها كما يعالج المريض بما يسوؤه و يربّى الصغير بما يتحرّج منه، و هذا هو الّذي يراه الإسلام من سلب حرّيّة الإرادة و العمل عن الاُمّة الكافرة المحاربة، و اجتلابهم إلى داخل المجتمع الدينيّ، و تربيتهم فيها، و تخليصهم تدريجاً إلى ساحة الحرّيّة فإنّ السلوك سلوك اجتماعيّ ينبغي أن ينظر إليه و إلى نتيجته و أثره بنظر عامّ كلّيّ، و ليس بأمر فرديّ ينظر إليه بنظر فرديّ جزئيّ، ثمّ من العجب أنّ هؤلاء أيضاً يجرون عملاً بما جرت عليه السيرة الإسلاميّة و إن خالفوه في التسمية و حسن النيّة كما تقدّم بيانه.

و إن اُريد به أنّ من حقّ الحرّيّة الإنسانيّة أن تطّرد في الجميع و يخلّى بين كلّ إنسان و إرادته المطلقة.

فمن الواضح الّذي لا مرية فيه أنّ ذلك غير جائز التسليم و لا ميسور العمل على إطلاقه و خاصّة في الخصم المحارب و هو المورد الوحيد الّذي يعتني به الإسلام في سلب إطلاق الحرّيّة.

ثمّ لو كان هذا حقّاً لم يكن فيه فرق بين الواحد و الاثنين و بين الجماعة فما بالهم يسلّمون للواحد من الحرّيّة القانونيّة حتّى مثل( الانتحار) و للاثنين مثل( دئل) و لا يسلّمون لطائفة مساكين من أبناء نوعهم أن ينعزلوا في ملجأ أو مغارات و يشتغلوا بأنفسهم و يأكلوا رزق ربّهم و يسلكوا سبيل حياتهم؟.

بقي هنا شي‏ء و هو أنّه ربّما قال القائل: ما بال الإسلام لم يشرّع للرقيق تملّك المال حتّى يستعين به على حوائجه الضروريّة من غير أن يكون كلّاً على مولاه؟ و ما باله لم يحدّد الرقّ بالإسلام حتّى ينعتق العبد بالإسلام و ينمحي عنه لوث المحروميّة اللازمة له و لأعقابه إلى يوم القيامة.

٣٧٦

لكن ينبغي أن يتنبّه هذا القائل إلى أنّ الحكم باستقرار الرقّ و الحرمان من تملّك المال إنّما ظهوره و وقوعه بحسب نظر التشريع في أوّل زمان الاستيلاء عليه، و حكم الفطرة عليهم - و هم الأعداء المحاربون - بجواز سلب الحرّيّة إنّما هو لإبطال كيدهم و سلب قوّتهم على المقاومة لهدم الاجتماع الدينيّ الصالح، و لا قوّة و لا قدرة إلّا بالملك فإذا لم يملكوا عملاً و لا نتاج عمل لم يقووا على المخاصمة و المحاربة.

نعم أجاز الإسلام لهم أن يتملّكوا في الجملة بتمليك الموالي، و هذا ملك في طول ملك، و ليس فيه محذور الاستقلال بالتصرّف.

و أمّا تحديد رقّهم بالإيمان فهو أمر يبطل السياسة الدينيّة في حفظ بيضة الإسلام و إقامة المجتمع الدينيّ على ساقه و بسط التربية الدينيّة على هؤلاء المحاربين المستعلى عليهم بالعدّة و القوّة، و لو لا ذلك لدخلوا في ظاهر الدين بمجرّد أن استقرّت عليهم سيطرة الدين، و ضربت عليهم بذلّة العبوديّة فحفظوا بذلك عدّتهم و قوّتهم ثمّ عادوا لما نهوا عنه.

و ليرجع في ذلك إلى السنّة الجارية بين الاُمم و الأقوام من يومنا هذا إلى أقدم العهود الّتي يستطاع العثور فيها على تاريخ الإنسانيّة فالاُمّتان أو القبيلتان إذا تحاربتا و تقاتلتا ثمّ غلبت إحداهما الاُخرى و استعلت عليها فإنّها ترى من حقّها المشروع لها في الحرب أن تضع في عدوّها السيف حتّى يسلّم لها الأمر تسليماً مطلقاً من غير شرط.

و ليست ترضى من التسليم بمجرّد أن تضع الاُمّة المقاتلة المغلوبة أسلحتها على الأرض فتتركهم و ما يريدون بل بالتسليم لأمر الاُمّة الغالبة، و الخضوع التامّ لما تحكم فيهم، و ترى لهم أو عليهم، و تتصرّف في نفوسهم و أموالهم.

و من سفه الرأي أن تقيّد هذه السيطرة بقيد يفسد أثر هذا التسليم المطلق، و يبطل حكمه، و يمهّد الطريق للعدوّ في الرجوع إلى كيده و مكره، و يجدّد له رجاء العود إلى ما بدأ، و كيف يسوغ للاُمّة الغالبة ذلك و قد فدت عن استقلال مجتمعها المقدّس عندها بالنفوس و الأموال؟ و هل ذلك إلّا ظلماً لنفسها و استهانة بأعزّ ما عندها، و تبذيراً للدماء و الأموال و المساعي؟.

٣٧٧

و ليس لمعترض أن يعترض على اُمّة غالبة غلبت بتضحية النفوس و الأموال فضربت على عدوّها بالذلّة و المسكنة، و حفظهم على حالة الرقّ: بأنّ رجالهم قاتلوا و قتلوا و أفسدوا فأخذوا بالأسر و جوزوا بسلب الحرّيّة على ما يبيحه الحقّ المشروع للمحارب على محاربه فما ذنب الأصاغر من الذراري المتولّدين بعد ذلك، و لم يحملوا سلاحاً، و لا سلّوا سيفاً، و لا دخلوا معركة؟ و ذلك أنّهم ضحايا آبائهم.

بعد ذلك كلّه لا ينبغي أن ينسى أنّ للحكومة الإسلاميّة أن يحتال في انعتاق الرقيق بشراء و عتق و نحو ذلك إذا أحرزت أنّ الأصلح بحال المجتمع الإسلاميّ ذلك و الله أعلم.

( كلام في المجازاة و العفو في فصول)

١- ما معنى الجزاء؟: لا يخلو أيّ مجتمع من المجتمعات من تكاليف اجتماعيّة على أجزائه أن يحترموها فلا همّ للمجتمع إلّا أن يوافق بين أعمال الأفراد و يقرّب بعضها من بعض، و يربط جانباً منها بجانب حتّى تأتلف و تجتمع و ترفع بآثارها و نتائجها حوائج الأفراد بمقدار ما يستحقّه كلّ واحد بعمله و سعيه.

و هذه التكاليف لما كانت متعلّقة باُمور اختياريّة يسع الإنسان أخذها و تركها، و هي بعينها لا تتمّ إلّا مع سلب ما لحرّيّة الإنسان في إرادته و عمله لم يمتنع أن يتخلّف عنها أو عن بعضها الإنسان المتمائل بطبعه إلى الاسترسال و إطلاق الحرّيّة.

و التنبّه إلى هذا النقص في التكاليف و الفتور في بني القوانين هو الّذي بعث الإنسان الاجتماعيّ على أن يتمّم نقصها و يحكم فتورها بأمر آخر، و هو أن يضمّ إلى مخالفتها و التخلّف عنها اُموراً يكرهها الإنسان المكلّف فيدعوه ذلك إلى طاعة التكليف الّذي يكلّف به حذراً من أن يحلّ به ما يكرهه و يتضرّر به.

و هذا هو جزاء السيّئة، و هو حقّ للمجتمع أو لوليّ الأمر على المتخلّف العاصي، و له نظير في جانب طاعة التكاليف فمن الممكن أن يوضع للمطيع الممتثل بإزاء عمله بالتكليف

٣٧٨

أمر يؤثره و يحبّه ليكون ذلك داعياً يدعوه إلى إتيان الواجب أو المطلوب مطلقاً من التكاليف، و هو حقّ للمكلّف المطيع على المجتمع أو لوليّ الأمر، و هذا هو جزاء الحسنة، و ربّما يسمّى جزاء السيّئة عقاباً و جزاء الحسنة ثواباً.

و على هذه الوتيرة يجري حكم الشريعة الإلهيّة قال تعالى:( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) يونس: ٢٦ و قال تعالى:( وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ) يونس: ٢٧ و قال:( وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) الشورى: ٤٠.

و للعقاب و الثواب عرض عريض آخذاً من الاستكراه و الاستحسان و الذمّ و المدح إلى آخر ما يتعلّق به القدرة من الشرّ و الخير و يرتبطان في ذلك بعوامل مختلفة من خصوصيّات الفعل و الفاعل و ولي التكليف و مقدار الضرر و النفع العائدين إلى المجتمع، و لعلّه يجمع الجميع أنّ العمل كلّما زاد الاهتمام بأمره زاد عقاباً في صورة المعصية و ثواباً في صورة الطاعة.

و يعتبر بين العمل و بين جزائه - كيف كان - نوع من المماثلة و المسانخة و لو تقريباً، و على ذلك يجري كلامه تعالى أيضاً كما هو ظاهر أمثال قوله تعالى:( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) النجم: ٣١ و أوضح منه قوله تعالى و قد حكاه عن صحف إبراهيم و موسىعليهما‌السلام :( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏، وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى‏، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) النجم: ٤١.

و هذا فيما شرعه الله في أمر القصاص أظهر، قال تعالى:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى‏ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى‏ بِالْأُنْثى‏ ) البقرة: ١٧٨ و قال:( الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللهَ ) البقرة: ١٩٤.

و لازم هذه المماثلة و المسانخة أن يعود العقاب أو الثواب إلى نفس العامل بمثل ما عمل بمعنى أنّه إذا عصى حكماً اجتماعيّاً مثلاً فإنّما تمتّع لنفسه بما يضرّ المجتمع أي بما يفسد تمتّعاً من تمتّعات المجتمع فينقص من تمتّعاته في نفسه ما يعادل ذلك من نفسه أو بدنه أو ماله أو جاهه أو نحو ذلك ممّا يعود بوجه إليه.

٣٧٩

و هذا هو الّذي أومأنا إليه في البحث عن معنى الاستعباد أنّ المجتمع أو من يلي أمره يملك من المجرم نفسه أو شأناً من شؤون نفسه يعادل الجرم الّذي اجترمه و نقيصة الضرر الّذي أوقعه على المجتمع فيعاقب بذلك أي يتصرّف المجتمع أو وليّ الأمر استناداً إلى هذا الملك - و هو الحقّ - في حياة المجرم أو شأن من شؤون حياته، و يسلب حرّيّته في ذلك.

فلو قتل نفساً مثلاً بغير نفس أو فساد في الأرض في المجتمع الإسلاميّ ملك وليّ الأمر من المجرم نفسه حيث نقصهم نفساً محترمة، و حدّه الّذي هو القتل تصرّف في نفسه عن الملك الّذي ملّكه، و لو سرق ما يبلغ ربع دينار من حرز فقد أضرّ بالمجتمع بهتك ستر من أستار الأمن العامّ الّذي أسدلته يد الشريعة و حفظته يد الأمانة، و حدّها الّذي هو القطع ليس حقيقته إلّا أنّ وليّ الأمر ملك من السارق بإزاء ما أتى به شأناً من شؤون حياته و هو الشأن الّذي تشتمل عليه اليد فيتصرّف فيه بسلب ما له من الحرّيّة و وسيلتها من هذه الجهة، و قس على ذلك أنواع الجزاء في الشرائع و السنن المختلفة.

فيتبيّن من هنا أنّ الاجرام و المعصية الاجتماعيّة يستجلب نوعاً من الرقّ و العبوديّة، و لذلك كان العبد أظهر مصاديق المؤاخذة و العقاب قال تعالى:( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ) المائدة: ١١٨.

و لهذا المعنى مظاهر متفرّقة في سائر الشرائع و السنن المختلفة قال الله تعالى في قصّة يوسفعليه‌السلام إذ جعل السقاية في رحل أخيه ليأخذه إليه:( قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ‏ - أي في إنكاركم سرقة صواع الملك -قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ - أي نجزي السارق باسترقاقه -فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ - إلى أن قال -قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ - و هذا هو التبديل و نوع من الفدية -قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ ) يوسف: ٧٩.

( هل يعدّ المطيع عبداً للمطاع ‏)

و ربّما كان يؤخذ القاتل أسيراً مملوكاً، و ربّما كان يفدي بواحدة من نسائه و حرمه كبنته و اُخته إلى غير ذلك، و سنّة الفدية بالتزويج كانت مرسومة إلى هذه الأيّام بين

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401