الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84122 / تحميل: 7581
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الجغرافيين العرب لم يتّفقوا على رأيٍ واحدٍ بصدده.

فالمقدسي المعروف بالبشاري يقول: (أمّا جبل اللكام، فإنّه أعمر جبال الشام، وأكبرها وأكثرها ثماراً، وهو اليوم بِيَد الأرمن، وطرسوس ورائه، وأنطاكية دونه)(1) .

أمّاالاصطخري فيذكر: (وكورة الشام إنّما هي من حدّ فلسطين، وحدّ الشام، وثغور الجزيرة جبل اللكام، وهو الفاصل بين الثغرين، وجبل اللكام داخل في بلد الروم، وينتهي إلى نحو مئتي فرسخ، ويظهر في بلاد الإسلام من مرعش والهارونية وعين زربة فيسمّى لكام، إلى أن يجاوز اللاذقية ثمّ تسمّى بهراء وتنوخ، إلى حمص ثمّ تسمّى جبل لبنان)(2) .

وياقوت الحموي يقول: (اللكام وهو الجبل المشرف على أنطاكية، وبلاد ابن ليون والمصيصة وطرسوس، وتلك الثغور)(3) .

وفي لبنان توجد النصيرية في شمال عكار(4) ، وفي وادي التيم(5) ، كما توجد في جبال الظنيين.

ويقولابن الوردي : (أحاطت عساكر الشام بجبال الظنيين المنيعة، وكانوا عصاة مارقين، وترجّلوا عن الخيل، وصعدوا في تلك الجبال من كل جانب، وقتلوا وأسّروا جميع مَن فيها من النصيرية)(6) .

ولم يحدّد ابن الوردي مكان وجود هذه الجبال، ونعتقد أنّه المقصود بجبال الظنيين هو جبل الضنية أو الظنية، الواقع إلى الشمال من بشري.

يقولأنطوان شكر الله حيدر: (وهذا الجبل يحمِل إلى هذا اليوم اسم الجماعة الشيعية التي استقرّت به، وهي الضنية أو الظنية على الأصحّ، وهو

____________________

(1) أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم.

(2) كتاب الأقاليم.

(3) معجم البلدان: الجزء5، ص22.

(4) أحد الآباء اليسوعيين: مختصر تاريخ سورية ولبنان.

(5) الدكتور محمد علي مكي: لبنان من الفتح العربي إلى الفتح العثماني.

(6) تتمة المختصر في أخبار البشر.

٤١

الاسم الذي أُطلق على عدد من الفِرق الباطنية، وبخاصة الإسماعيلية)(1) .

وبهذا المعنى كتبَ الشيخ طه الولي (وكان آل عمار على مذهب الشيعة الإمامية، وقد امتدّ سلطانهم حتى شملت - بالإضافة إلى طرابلس - مناطق عكار، والضنية، وبلاد جبيل، والبترون، وما تزال الجبال المطلّة على طرابلس من جهة الشرق تحمل حتى اليوم اسم (الضنية)، والضاد هنا حلّت مكان الظاء، وهذه الكلمة أُطلقت في الماضي على هذه الجبال ؛ لأنّ أهلَها كانوا يُعرفون آنذاك باسم الظنية، وهو الاسم الذي اشتهروا به ؛ لأنّهم كانوا على مذهب الشيعة، الذين يقولون بالظنّ والتأويل في تفسير أحكام الشريعة الإسلامية، الواردة في القرآن الكريم والسنّة الشريفة)(2) .

وتوجد النصيرية أيضاً في العراق، في الشرطة، وهي كما يذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان: (كورة كبيرة من أعمال واسط، بينها وبين البصرة، لكنّها عن يمين المنحدر إلى البصرة).

كما توجد في بعض أجزاء شمال فلسطين.

أمّا في البلاد الأوروبية، فتوجد النصيرية في كلٍّ من: تركيا، واليونان، وبلغاريا، وألبانيا السفلى.

وبنتيجة الهجرة، توطّنت جماعات كثيرة منهم في أمريكا الجنوبية، وبشكلٍ خاص في الأرجنتين والبرازيل.

____________________

(1) مجلّة الحوادث: العدد 1143 تاريخ 29/9/1987.

(2) جريدة اللواء، العدد 3381، تاريخ 29/6/1980.

٤٢

عقائدُ النصيرية

ذهبت أقوال المؤرّخين حول عقائد النصيرية في كلّ اتجاه، واختلطت الأقوال اختلاطاً عجيباً، وتشابكت وبَلَغ تشابكها حدّاً استحالَ معه إيجاد نقطة تلاقٍ واحدة، ما بين قول وقول، وبالتالي أصبحت معرفة ما هو حقيقي، وما هو موضوع مدسوس من أشقّ الأمور على الباحث.

وليس بخافٍ أنّ اصطلاح (نصيرية) ظهرَ في عدد كثُرت فيه الفتن، والانقسامات والميول، والأهواء والنزعات، والمذاهب الفلسفية، والعداوات المذهبية، كما كثر فيه الدسّ والاختلاق والتحريف، وتزييف الحقائق وتشويهها.

وأوّل ما يلاحظ أنّ عقائد النصيرية - كما وردتنا - مأخوذة كلّها من خصوم هذا المذهب، ولم نرَ أيّاً من المؤرّخين مَن ذَكر اسم كتابٍ واحدٍ من كتب النصيرية، أو ذَكر اسم رجلٍ واحدٍ من رجالاتها.

ولمـّا كان أخذ المذهب من خصومه مغامرة جريئة، تحتاج إلى كثيرٍ من التحرّي والدقّة، لذلك فإنّنا تعامَلنا مع مختلف الأقوال بمنتهى الحيطة والحذر، ووقفنا عند كلّ نقطة، وحاولنا جهد المستطاع إرجاع الأشياء إلى أُصولها، ولا غنى عن القول: إنّه لابدّ عند البحث عن عقائد النصيرية من التمييز ما بين نوعين من الكتابات:

٤٣

الأوّل: كتابات المؤرّخين الأقدَمين.

الثاني: كتابات المؤرّخين المحدَثين، ثمّ المعاصرين، وهناك اختلافُ كبير، بين هذين النوعين من الكتابات.

ونحن في هذا الفصل، سنتكلّم عن عقائد النصيرية كما تحدّث عنها القدماء، ثمّ كما تحدّث عنها المحدّثون، ثمّ كما تحدّث عنها رجالات العلويين وشيوخهم، وكما تظهر في كتاباتهم وأشعارهم.

٤٤

النصيريةُ عند الأقْدمين

كان ما كتَبه حمزة بن علي (ت 433هـ)، أحد مؤسّسي المذهب الدرزي، في رسالته المسمّاة(الرسالة الدامغة في الردّ على النصيري)، أوّل إشارة وصَلت إلينا عن عقائد النصيرية.

وهذه الرسالة جاءت ردّاً على كتاب(الحقائق وكشف المحجوب) ، الذي ألّفه شخصٌ من النصيرية لم نعرف اسمه، أثارتهُ - على ما يبدو - دعوى القائلين بتأليه الحاكم، فصنّفَ كتابه للتشنيع عليهم، والطعن في مقالتهم، كما يُفهم ممّا أورده حمزة في رسالته، لم يكن لهذا الفاسق النصيري - لعنة المولى عليه - بُغية غير الفساد في دين مولانا جلّ ذِكره، ودين المؤمنين، ودين مولانا لا ينفسد أبداً.

لذلك رأينا حمزة يُحذّر من قبول كلام هذا النصيري، مُعلناً أنّ (مَن قَبِل كلامه عَبَد إبليس، واعتقد التناسخ، وحلّل الفروج، واستحلّ الكذب والبهتان).

ومن خلال ردّ حمزة على (النصيري) قارنَ بين أقوال النصيرية، وأقوال القائلين بإلوهية الحاكم، موضّحاً حقيقة أقوال مؤلّهة الحاكم، من ذلك مثلاً قوله: (مَن اعتقدَ التناسخ مثل النصيرية المعنوية، في علي بن أبي طالب وعَبَده - خسرَ الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين).

وقوله: (ثمّ إنّه إذا ذكرَ علياً يقول: علينا سلامه ورحمته، وإذا ذكرَ مولانا جلّ ذكره يقول: علينا سلامه. فيطلب الرحمة من المفقود المعدوم

٤٥

ويجحد الموجود الحاكم بذاته المنفرد عن مبدعاته، ولا يكون في الكفر أعظم من هذا، فصحّ عند الموحّد العارف بأنّ الشرك الذي لا يُغفر أبداً (هو): بأن يُشرك بين علي بن أبي طالب وبين مولانا جلّ ذكره، ويقول: علي مولانا الموجود، ومولانا هو علي، لا فرق بينهما، والكفر ما اعتقدهُ هذا الفاسق من العبادة في علي بن أبي طالب والجحود لمولانا جلّ ذكره).

وإلى جانب اتّهام حمزة بن علي النصيرية، باعتقادهم التناسخ، وعبادة علي بن أبي طالب، فقد اتّهمهم بأمورٍ أخلاقية تنال من سمعتهم وشرفهم، من ذلك: (إنّ النصيريين لا يُحرّمون القتل ولا السرقة، ولا الكذب ولا الافتراء، ولا الزنا حتى ولا اللواطة، ولا يحجب عريقو النصيرية نساءهم وبناتهم عن بعضهم، ولا يعبأون بكلّ ما يمكن حدوثه بين الرجال والنساء، وإلاّ فلا يكمل إيمانهم).

وكان هذا الاتّهام ردّاًَ على اتّهام النصيريين، القائلين بإلوهية الحاكم بأنّ (جميع ما حرّموه من القتل والسرقة والكذب والبهتان والزنا والفاحشة، فهو مطلق للعارف والعارفة)، ونحن لا نستطيع أن نطمئن إلى صحة اتّهامات كل واحدٍ منهما إلى الآخَر ؛ لأنّ الدافع إليها خلاف عقائدي شديد، فلا عجب إذاً أن يَصمَ كلٌ منهما الآخَر بأقبح وأشنع التّهم ؛ للحطّ من مقامه.

وأوّل مَن تنبّه إلى بطلان الاتّهامات التي كالَها حمزة بن علي إلى النصيرية، صاحبا (ولاية بيروت)، رفيق التميمي، ومحمد بهجت، إذ قالا: (لعلّ هذه الاتّهامات مختلَقة، إذ لا يُعثر في كتب النصيرية، ولا في أغانيهم أدنى إشارة تدلّ على صحتها، وقد أجمعَ كلّ مَن احتكّ بهذه الطائفة واختبرها أنْ لا صحة لوجود تلك الرذائل الأخلاقية فيهم، ولعلّ مؤلّف الرسالة الدامغة استهجنَ من النصيريين عدم الاحتجاب فضربَ أخماسه بأسداسه، وتشفّى منهم بهذه التّهمة المشينة).

وقد تناسى المؤرّخون كتاب النصيري، وتمسّكوا بكل ما جاء في رسالة حمزة التي ذاعت وانتشرت، وكانت نقطة الانطلاق لكلّ مَن يريد أن يطعن في أخلاقيات النصيرية.

٤٦

ومن القدماء الذين أشاروا إلى شيء من عقائد النصيرية أيضاً، المعرّي في (اللزوميات)، بقوله:

يا آكِلَ التُفّاحِ لا تَبعَدَن

وَلا يُقِم يَومُ رَدىً ثاكِلَك

قالَ النُصَيريُّ وَما قُلتُهُ

فَاِسمَع وَشَجِّع في الوَغى ناكَلَك

قَد كُنتَ في دَهرِكَ تُفّاحَةً

وَكانَ تُفّاحُكَ ذا آكِلَك

وَحَرفَ هاجٍ لُحتَ فيما مَضى

وَطالَما تَشكُلُهُ شاكَلَك

وفي(رسالة الغفران) عند حديثه عن التناسخ، إذ قال: (وتؤدّي هذه النحلة إلى التناسخ، وهو مذهبٌ عتيقٌ يقول به أهل الهند، وقد كثر في جماعة من الشيعة، نسأل الله التوفيق والكفاية، وينشد لرجلٍ من النصيرية:

أعَجَبي أمنّا لصرف الليالي

جعلتْ أختَنا سكينة قاره

فازجري هذه السنانير عنها

واتركيها وما تضمّ الغراره

وقال آخَرٌ منهم:

تبارك الله كاشفَ المِحن

فقد أرانا عجائب الزمن

حمار شيبان شيخُ بلدتنا

صيّره جارنا أبو السكن

بدّل من مَشيته بحلته

مَشيته في الحزام والرسن

وهذه الأبيات - التي رواها المعرّي عن اثنين من النصيرية لم يسمِّهما - لا تعطينا أيّة فكرة عن مذهب النصيرية، وهي تفيد السخرية والدعابة لا أكثر.

وأوّل مَن تعرّض للحديث عن النصيرية - من كتّاب الفِرق - الشهرستاني في(الملل والنحل) ، وجميع الذين كَتبوا عن الفِرق الإسلامية من قَبله، وهم: ابن قتيبة (ت 276هـ)، النوبختي (ت: 288هـ)، الأشعري القمي (ت: 301هـ)، أحمد بن حمدان الرازي (ت 332هـ)، الأشعري (ت 324هـ)، البلخي (ت: 340هـ)، المسعودي (ت 346هـ)، الملطي (ت 377هـ)، البغدادي (ت: 429هـ)، لم يأتِ

٤٧

أيٌ منهم على ذكر للنصيرية، والشهرستاني عندما تكلّم عن النصيرية، لم يتكلّم عنها لوحدها، وإنّما تكلّم عنها وعن الإسحاقية معاً، معتبراً إيّاهما فرقة واحدة، قال:

(النصيرية والإسحاقية من جملة غلاة الشيعة، ولهم جماعة ينصرون مذهبهم، ويذبّون عن أصحاب مقالاتهم، وبينهم خلافٌ في كيفية إطلاق اسم الإلهية على الأئمة أهل البيت).

قالوا: ظهور الروحاني بالجسد الجسماني أمرٌ لا ينكره عاقل، أمّا في جانب الخير فكظهور جبريلعليه‌السلام ببعض الأشخاص والتصوّر بصورة أعرابي، والتمثّل بصورة البشر، وأمّا في جانب الشر فكظهور الشيطان بصورة إنسان حتى يعمل الشرّ بصورته، وظهور الجن بصورة بشر حتى يتكلّم بلسانه.

فكذلك نقول: إنّ الله تعالى ظهرَ بصورة أشخاص، ولمـّا لم يكن بعد رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) شخص أفضل من علي (رضي الله عنه) وبعده أولاده المخصوصون، وهُم خيرُ البريّة، فظهرَ الحقّ بصورتهم، ونطق بلسانهم، وأخذ بأيديهم، فعن هذا أطلقنا اسم الإلهية عليهم، وإنّما أثبتنا الاختصاص لعليعليه‌السلام دون غيره ؛ لأنّه كان مخصوصاً بتأييد إلهي من عند الله تعالى، فيما يتعلّق بباطن الأسرار.

قال النبي (صلّى الله عليه وسلّم): (أنا أحكم بالظاهر والله يتولّى السرائر)، وعن هذا كان قتال المشركين إلى النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، وقتال المنافقين إلى علي (رضي الله عنه)، ومن هذا شبّهه بعيسى بن مريمعليه‌السلام فقال النبي (صلّى الله عليه وسلّم): (لولا أن يقولَ الناس فيكَ ما قالوا في عيسى بن مريم عليه السلام لقلتُ فيكَ مقالاً)، وربّما أثبتوا له شركة في الرسالة ؛ إذ قال النبي (صلّى الله عليه وسلّم): (فيكم مَن يقاتل على تأويله، كما قاتلتُ على تنزيله، ألا وهو خاصف النعل).

فعِلم التأويل، وقتال المنافقين، ومكالمة الجن، وقلع باب خيبر لا بقوّة جسدانية، من أوّل الدليل على أنّ فيه جزءاً إلهياً وقوّة ربّانية، أو يكون هو الذي ظهرَ الإله بصورته وخلق بِيَده وأمر بلسانه. وعن هذا قالوا: كان هو موجوداً قبل خلق السماوات والأرض، قال: (كنّا أظلّة على يمين العرش، فسبّحنا فسبّحت الملائكة بتسبيحنا)، فتلك الظِلال وتلك الصور التي تُنبئ عن الظِلال هي

٤٨

 حقيقته، وهي مشرقة بنور الربّ، إشراقاً لا ينفصل عنها، فسواء كانت في هذا العالَم أو في ذلك العالم، وعن هذا قال علي (رضي الله عنه): (أنا مِن أحمد كالضوء من الضوء، لا فرق بين النورين، إلاّ أنّ أحدهما سابقٌ، والثاني لاحقٌ به تالٍ له).

قالوا: وهذا يدلّ على نوع من الشركة، فالنصيرية أمْيَل إلى تقرير الجزء الإلهي، والإسحاقية أمْيَل إلى تقرير الشركة في النبوّة، ولهم اختلافات أُخرى لا نذكرها.

وقد نجزت الفِرق الإسلامية وما بقيت إلاّ فرقة الباطنية....).

وتستوقفنا في هذا النص الملاحظات التالية:

1 - لم يذكر الشهرستاني أسماء أصحاب مقالة النصيرية والإسحاقية، كما أنّه لم يَنسب أيّاً من الفرقتين إلى شخصٍ معيّن بالذات.

2 - ذكرَ للبيانية مقالة تشبه مقالة النصيرية شبهاً كاملاً، هي: (أتباع بيان بن سمعان التميمي، قال: حلّ في علي جزء إلهي، واتّحد بجسده، فبه كان يعلم الغيب ؛ إذ أخبرَ عن الملاحم وصحّ الخبر، وبه كان يحارب الكفار وله النصرة والظفر، وبه قلع باب خيبر، وعن هذا قال: (والله، ما قلعتُ باب خيبر بقوّة جسدانية، ولا بحركة غذائية، ولكن قلعته بقوّة رحمانية ملكوتية بنور ربّها مضيئة).

3 - إذا تأمّلنا قوله: (وقد نجزت الفِرق الإسلامية وما بقيت إلاّ فرقة الباطنية)، وقارنّاه بما ذكره عن الإسماعيلية (وأشهر ألقابهم الباطنية، وإنّما لزمَهم هذا اللقب لحُكمهم بأنّ لكلّ ظاهر باطناً، ولكلّ تنزيل تأويل، ولهُم ألقابٌ كثيرة، سوى هذه على لسان قوم قوم، فبالعراق يسمّون الباطنية، والقرامطة، والمزدكية، وبخراسان التعليمية، والملحدة...) تبيّن لنا أنّ النصيرية غير القرامطة والباطنية، وأنّه لا رابطة تجمع ما بينهم وبين هؤلاء.

4 - يُفهم من كلامه: أنّ مقالة الإسحاقية هي ذاتها مقالة النصيرية، والخلاف ما بينهما محصور فقط في كيفية إطلاق اسم الإلهية على الأئمة أهل البيت، وأنّ النصيرية أمْيَل إلى تقرير الجزء الإلهي، بينما الإسحاقية

٤٩

أمْيَل إلى تقرير الشركة في النبوّة.

لكنّه أوقَع نفسه في تناقضٍ كبير، حينما ذكر للإسحاقية مقالة تختلف تماماً مع ما تقدّم بيانه ؛ وذلك عند حديثه عن الكرامية، قال:

(أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام،... وهُم طوائف بَلَغ عددهم اثنتي عشرة فرقة، وأصولها ستة: العابدية، والتونية، والزرينية، والإسحاقية، والواحدية، وأقربهم الهيصمية، ولكلّ واحدٍ منهم رأي، إلاّ أنّه لمـّا لم يصدر ذلك عن علماء معتبرين، بل عن سفهاء اغتام جاهلين، لم نفردها مذهباً، وأوردنا مذهب صاحب المقالة، وأشرنا إلى ما يتفرّع منه.

نصّ أبو عبد الله على أنّ معبوده على العرش استقراراً، وعلى أنّه بجهة فوق ذاتاً، وأطلقَ عليه اسم الجوهر، فقال في كتابه المسمّى عذاب القبر: إنّه أحَدي الذات، أحَدي الجوهر، وإنّه مماس للعرش من الصفحة العليا، وجوّز الانتقال، والتحوّل، والنزول،... وأطلق أكثرهم لفظ الجسم عليه....

ومن مذهبهم جميعاً: جواز قيام كثير من الحوادث بذات الباري تعالى، ومن أصلهم: أنّ ما يحدث في ذاته فإنّما يحدث بقدرته، وما يحدث مبايناً لذاته فإنّما يحدث بواسطة الأحداث... ويفرّقون بين الخلق والمخلوق، والإيجاد والموجود والموجِد، وكذلك بين الإعدام والمعدوم.....

وزعموا أنّ في ذاته سبحانه حوادث كثيرة، مثل: الإخبار عن الأمور الماضية والآتية، والكتب المنزلة على الرسلعليهم‌السلام ، والقصص والوعد والوعيد والأحكام، ومن ذلك المـُسمعات والمـُبصرات فيما يجوز أن يُسمع ويُبصر، والإيجاد والإعدام هو القول والإرادة، وذلك قوله (كُن) للشيء الذي يريد كونه، وإرادته لوجود ذلك الشيء، وقوله للشيء كُن، صورتان.

وعلى قول الأكثرين منهم: الخلق عبارة عن القول والإرادة.

ومن أصلهم: أنّ الحوادث التي يحدثها في ذاته واجبة البقاء، حتى يستحيل عدمها.

ومن أصلهم: أنّ المـُحدث إنّما يحدث في ثاني حال ثبوت الأحداث بلا فصل، ولا أثَر للأحداث في حال بقائه.

ومن أصلهم: أن ما يحدث في ذاته من الأمر فمنقسم إلى أمر

٥٠

التكوين، وإلى ما ليس أمر التكوين،..... وممّا أجمعوا عليه من إثبات الصفات قولهم: الباري تعالى عالِم بعلم، قادر بقدرة، حيٌّ بحياة، شاءٍ بمشيئة، وجميع هذه الصفات صفات قديمة أزلية قائمة بذاته.

واتّفقوا على أنّ العقل يحسّن ويقبّح قبل الشرع، وتجب معرفة الله تعالى بالعقل.

وقالوا: الإيمان هو الإقرار باللسان فقط دون التصديق بالقلب، ودون سائر الأعمال.

وقالوا في الإمامة: إنّها تثبت بإجماع الأمّة، دون النصّ والتعيين كما قال أهل السنّة، إلاّ أنّهم جوّزوا عقد البيعة لإمامين في قطرين.

ومذهبهم الأصلي: اتّهام علي (رضي الله عنه) في الصبر على ما جرى مع عثمان (رضي الله عنه) والسكوت عنه، وذلك عرق نزع).

وإزاء هذا التناقض بتنا لا نعلم أيّ القولين هو الصحيح. وتزداد حيرتنا إذا عَلمنا أنّ كتّاب الفِرق، نقلوا عن الإسحاقية كلاماً يختلف جذرياً، عمّا أوردهُ الشهرستاني.

فالخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) يذكر(1) :

(سمعتُ أبا القاسم عبد الواحد بن علي الأسدي يقول: إسحاق بن محمد بن أبان النخعي الأحمر كان خبيث المذهب، رديء الاعتقاد، يقول: إنّ علياً هو الله جلّ جلاله وأعز، قال: وكان أبرص، فكان يطلي البرص بما يُغيّر لونه فسمّي الأحمر لذلك، قال: وبالمدائن جماعة من الغلاة يُعرفون بالإسحاقية، يُنسبون إليه.

سألتُ بعض الشيعة ممّن يعرف مذاهبهم، ويخبر أحوال شيوخهم عن إسحاق، فقال: لي مثل ما قاله عبد الواحد بن علي سواء.

وقال: لإسحاق مصنّفات في المقالة المنسوبة إليه، التي يعتقدها الإسحاقية، ثمّ وقَع إليّ كتاب لأبي محمد الحسن بن يحيى النوبختي من تصنيفه، في الردّ على الغلاة، وكان النوبختي هذا من متكلّمي الشيعة الإمامية، فذكرَ أصناف مقالات الغلاة، إلى أن قال: وقد كان ممّن جوَّد الجنون في الغلو في عصرنا، إسحاق بن محمد المعروف بالأحمر، وكان ممّن يزعم

____________________

(1) المجلّد 6، ص380.

٥١

أنّ علياً هو الله، وأنّه يظهر في كلّ وقت، فهو الحسن في وقت الحسن، وكذلك هو الحسين، وهو واحد، وأنّه هو الذي بعثَ بمحمد (صلّى الله عليه وسلّم)، وقال في كتابٍ له: لو كانوا ألْفاً لكانوا واحداً.

وكان راوية للحديث، وعمل كتاباً ذَكر أنّه كتاب التوحيد، فجاء فيه بجنون وتخليط لا يتوهّمان، فضلاً مَن يدلّ عليهما، وكان ممّن يقول: باطن صلاة الظهر محمد (صلّى الله عليه وسلّم) ؛ لإظهاره الدعوة، قال: ولو كان باطنها هو هذه التي هي الركوع والسجود، لم يكن لقوله: ( إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَى‏ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَر ) يعني أنّ النهي لا يكون إلاّ من حي قادر.

وعن الإسحاقية، قال ابن الجوزي في (تلبيس إبليس): (قالوا: إنّ النبوّة متّصلة إلى يوم القيامة، وكلّ مَن يعلم علم أهل البيت فهو نبي).

فخر الدين الرازي في(اعتقادات فِرق المسلمين والمشركين) ، يسمّي الإسحاقية (الإسجافية) ويقول عنها: (ويزعمون أنّ الله تعالى كان يحلّ في علي في بعض الأوقات، وفي اليوم الذي قلعَ علي باب خيبر كان الله تعالى قد حلّ فيه).

5 - ما تجدر الإشارة إليه: أنّ الشهرستاني كان يتلاعب في الأقوال، ويورد النصّ بصيغة بعيدة عن الحقيقة، مثال ذلك قوله: (عن هذا قالوا: كان هو موجوداً قبل خلق السموات والأرض، قال...)، بحيث يُفهم من صيغة هذا الكلام: أنّ قائله هو جماعة النصيرية أو الإسحاقية، مع أنّ الحقيقة خلاف ذلك، وعبارة (كان هو موجوداً قبل خلق السماوات والأرض)... ليست من كلام النصيرية أو الإسحاقية، وإنّما هي نصّ حديث شريف، جاء في كتاب(غاية المرام) للعلاّمة البحريني، عن(فرائد السمطين)، و(مسند أحمد)، و(فضائل الخوارزمي) ، و(مناقب الخطيب) أنّ النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، قال: ( كنتُ أنا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى، قبل أن يخلق الخلق، فلمّا خلقَ آدم ركّبَ ذلك النور في صلبه، فلم يزل في شيء واحد حتى أفرق في صلب عبد المطلب).

وهو حديث مشهور ذكره المعري في قصيدته ذات المطلع:

٥٢

علّلاني فإنّ بيضَ الأماني

فنيتُ والزمان ليس بفانِ

يقول:

أحَد الخمسة الذين هُم الأغراض

في كلّ منطقٍ والمعاني

والشخوص الذين خَلقن ضياء

قبل خلق المِرّيخ والميزان

قبل أن تُخلق السماوات أو تؤمر

أفلاكهنّ بالدوران ...

هذا التلاعب في الأقوال من قِبَل الشهرستاني، يجعلنا نتساءل: هل كان الشهرستاني يختلق الأقوال ويحرِّفها؟ لا نستبعد ذلك، وهو على كلّ حال متّهم في عقيدته، وفي نزاهته، وفي أمانته العلمية.

يقول معاصره أبو محمد الخوارزمي: (ولولا تخبّطه في الاعتقاد، ومَيله إلى هذا الإلحاد لكانَ هو الإمام، وكثيراً ما كنّا نتعجّب من وفور فضله وكمال عقله، وكيف مالَ إلى شيء لا أصل له، واختارَ أمراً لا دليل عليه لا معقولاً ولا منقولاً، ونعوذ بالله من الخذلان والحرمان من نور الإيمان)(1) ، ومثل هذا الكلام عن الشهرستاني يروي السبكي في(طبقات الشافعية) .

ويذكر ظهير الدين البيهقي في(تاريخ حكماء الإسلام): إنّ الشهرستاني كان يصنّف تفسيراً ويؤّول الآيات على قوانين الشريعة والحكمة وغيرها، فلمّا قيل له: هذا عدول عن الصواب، امتلأَ من ذلك غضباً.

وكان ممّن جرَحوا الشهرستاني أيضاً، عبد الحسين أحمد الأميني في (الغدير)، الذي سجّلَ عليه كثيراً من المآخذ والسقطات ؛ وذلك في تعليقه على قول الشهرستاني: (اختلفَ الشيعة بعد موت علي بن محمد العسكري أيضاً، فقال قوم: بإمامة جعفر بن علي، وقال قوم: بإمامة الحسن بن علي، وكان لهم رئيس يقال له علي بن فلان الطاحن، وكان من أهل الكلام، قوّى أسباب جعفر بن علي،

____________________

(1) ياقوت الحموي: معجم البلدان، مادة شهرستان.

٥٣

وأمالَ الناس إليه، وأعانه فارس بن حاتم بن ماهويه ؛ وذلك أنّ محمداً قد مات، وخلّف الحسن العسكري، قالوا: امتحنّا الحسن ولم نَجِد عنده عِلماً، ولقّبوا مَن قال بإمامة الحسن الحمارية، وقوّوا أمر جعفر بعد موت الحسن، واحتجّوا بأنّ الحسين مات بلا خلف، فبطلت إمامته ؛ لأنّه لم يعقّب، والإمام لا يكون إلاّ ويكونَ له خلفٌ وعَقب، وحاز جعفر ميراث الحسن بعد دعوةٍ ادّعاها عليه، أنّه فعلَ ذلك من صلب جواريه وغيره، وانكشفَ أمرهم عند السلطان والرعية وخواصّ الناس وعوامّهم، وتشتّتت كلمة مَن قال بإمامة الحسن، وتفرّقوا أصنافاً كثيرة، فثبتت هذه الفرقة على إمامة جعفر، ورجع إليهم كثير ممّن قال بإمامة الحسن، منهم الحسن بن علي بن فضّال، وهو من أجَلّ أصحابهم وفقهائهم، كثير الفقه والحديث، ثمّ قالوا بعد جعفر، بعلي بن جعفر، وفاطمة بنت علي أخت جعفر، وقال قومٌ: بإمامة علي بن جعفر دون فاطمة السيدة، ثمّ اختلفوا بعد موت علي وفاطمة اختلافاً كثيراً).

فكان ردّ الأميني على هذا الكلام: (ليتَ شِعري متى وقعَ الخلاف في الإمامة بين الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام ، وبين أخيه جعفر، الذي ادّعى الإمامة بعد وفاة أخيه؟ ومَن هو علي بن فلان الطاحن، الذي قوّى أسباب جعفر، وأمالَ الناس إليه؟! ومتى خُلق؟! ومتى مات؟ ولستُ أدري أي هي بن بي هو؟ وهل وجَد لنفسه مقيلاً في مستوى الوجود؟

أنا لا أدري والشهرستاني لا يدري والمنجّم أيضاً لا يدري، وكيف أعانَ جعفراً فارس بن حاتم بن ماهويه، وقد قتلهُ جنيد بأمر والده الإمام علي الهاديعليه‌السلام ، ومَن هو محمد الذي خَلف الإمام الحسن العسكري؟! أهو الإمام محمد الجواد؟! ولم يَخلف إلاّ ابنه الإمام الهادي سلام الله عليه، أو هو أبو جعفر محمد بن علي صاحب البقعة المعظّمة بمقربة بلد، وقد مات بحياة أبيه الطاهر والإمامة مستقرّة لوالده، ومتى كان إماماً أو مدّعياً الإمامة حتى يخلف غيره عليها؟! ومَن هؤلاء الذين امتحنوا الحسن الزكي العسكري فلم يجدوا عنده عِلماً؟! ثمّ وجدوه في جعفر، الذي لم يُعرف عنه شيء غير أنّه ادّعى الإمامة باطلاً بعد أخيه؟!

٥٤

وقصارى ما عندنا: أنّه أدرَكته التوبة، ولم يوجد له ذكر بعلم أو ترجمة في أيّ من الكتب، ولا نَشرت عنه كتب الأحاديث شيئاً من علومه المدّعاة له عند الشهرستاني، لو صدقت الأوهام، وهذا الحسن العسكريعليه‌السلام تجده في التراجم والمعاجم من الفريقين مذكوراً بالعلم والثقة، وملأ كتب العلم والحديث تعاليمه ومعارفه، ومَن هُم الذين لقّبوا أتباع الحسنعليه‌السلام بالحمارية؟!

نعم، أهل بيت النبوّة محسودون في كل وقت، فكان يحصل لكلّ منهم في وقته مَن يسبّه حسداً، ويسبّ أتباعه، لكن لا يذهب لقباً له أو لأشياعه، وإنّما يتدهور في مهوى الضعة.

ومتى كان الحسن بن علي بن فضّال في عهد الإمام الحسن العسكري؟! حتى يرجع عنه جعفر إلى جعفر، وقد توفّي ابن فضّال سنة 221 ونطفة الحسن وجعفر بعدُ لم تنعقد، وقبل أن يبلغ الحُلم والدهما الطاهر الإمام الهادي المتولّد سنة 212هـ، ومَن ذا الذي ذَكر للإمام الهادي بنتاً اسمها فاطمة؟! حتى يقولَ أحدٌ بإمامتها ؛ فإنّ الإمامعليه‌السلام لم يُخلّف من الذكور إلاّ الحسن والحسين وجعفراً، ومن الإناث إلاّ عليّة، باتّفاق المؤرّخين).

ومهما يكن من أمر، فإنّ لظهور الروحاني بالجسد الجسماني، أدلّة كثيرة في الكتاب والسنّة، قال تعالى في سورة مريم:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنّي أَعُوذُ بِالرّحْمنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً... ) .

وفي السنّة عن عمر (رحمه الله)، قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ذات يوم، إذ طلعَ علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منّا أحد، حتى جلسَ إلى النبي (صلّى الله عليه وسلّم) فأسندَ ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفّيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبِرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت إن

٥٥

 استطعتَ إليه سبيلاً) قال: صدقتَ. فعجبنا له، يسأله ويصدّقه!.

قال: فأخبِرني عن الإيمان؟ قال: (أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبهُ ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه).

قال: صدقتَ.

قال: فأخبِرني عن الإحسان؟

قال: (أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك).

قال: فأخبِرني عن الساعة؟

قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل).

قال: فأخبِرني عن إماراتها؟

قال: (أن تلد الأمَة ربّتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان).

ثمّ انطلقَ، فلبثتُ مليّاً، ثمّ قال: (يا عمر، أتدري مَن السائل؟)، قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنّه جبريل، أتاكم يعلّمكم دينكم) (رواه مسلم، متن الأربعين النووية، الحديث الثاني).

فنحن إذاً لا نستطيع أن نُنزّل كلام الشهرستاني منزلة اليقين ونعطيه الحجّية المطلقة، وعلينا أن نتعامل معه بمنتهى الحذر، وأن نضعه في غربال التدقيق والتمحيص. ومع ذلك، فإنّ ما كُتب عن النصيرية في مرحلة ما بعد الشهرستاني لا يتلاقى مع ما كَتبه الشهرستاني، ولا في نقطةٍ واحدة، مثال ذلك: ما رواه ابن الأثير في (الكامل) عند حديثه عن الشلمغاني ومذهبه، قال(1) : (وكان مذهبهُ أنّه إله الآلهة، يحقّ الحقّ. وأنّه الأوّل القديم الظاهر الباطن الرازق التام، الموما إليه بكلّ معنى. وكان يقول: إنّ الله سبحانه وتعالى يحلّ في كل شيء على قدر ما يحتمل، وإنّه خلقَ الضدّ ليدلّ على المضدود، فمِن ذلك أنّه حلّ في آدم لمـّا خلقهُ، وفي إبليسه أيضاً، وكلاهما ضدّ لصاحبه ؛ لمضادّته إيّاه في معناه، وأنّ الدليل على الحقّ أفضل من الحق، وأنّ الضد أقرب الشيء من شبهه، وأنّ الله عزّ وجل إذا حلّ في جسد ناسوتي ظهرَ من القدرة والمعجزة ما يدلّ على أنّه هو، وأنّه لمـّا غابَ آدم ظهرَ اللاهوت في خمسة ناسوتية، كلمّا غابَ منهم واحد ظهرَ مكانه آخَر. وفي

____________________

(1) حوادث سنة 322هـ.

٥٦

خمسة أبالسة أضداد لتلك الخمسة. ثمّ اجتمعت اللاهوتية في إدريس وإبليسه، وتفرّقت بعدهما، كما تفرّقت بعد آدم. واجتمعت في نوحعليه‌السلام وإبليسه، وتفرّقت عند غيبتهما. واجتمعت في إبراهيمعليه‌السلام وإبليسه نمرود، وتفرّقت لمـّا غابا. واجتمعت في هارون وإبليسه فرعون، وتفرّقت بعدهما. واجتمعت في سليمان وإبليسه، وتفرّقت بعدهما. واجتمعت في عيسى وإبليسه، فلمّا غابا تفرّقت في تلامذة عيسى وأبالستهم. ثمّ اجتمعت في علي بن أبي طالب وإبليسه.

ثمّ إنّ الله يظهر في كلّ شيء، وكلّ معنى، وإنّه في كلِ أحَد، بالخاطر الذي يخطر بقلبه، فيتصوّر له ما يغيب عنه، حتى كأنّه يشاهده. وإنّ الله اسم لمعنى، وإنّ مَن احتاج الناس إليه فهو إله ؛ ولهذا المعنى يستوجب كل أحَد أن يسمّى إلهاً. وإنّ كل أحَد من أشياعه يقول: إنّه ربّ لِمَن هو دون درجته، وإنّ الرجلَ منهم يقول: أنا ربٌّ لفلان، وفلان ربٌّ لفلان، وفلان ربُّ ربّي، حتى يقع الانتهاء إلى ابن أبي القراقر، فيقول: أنا ربُّ الأرباب، لا ربوبية بعده، ولا يُنسب الحسن والحسين (رضي الله عنهما) إلى علي (كرم الله وجهه) ؛ لأنّ مَن اجتمعت له الربوبية لا يكون له ولَد ولا والد.

وكانوا يسمّون موسى ومحمداً (صلّى الله عليه وسلّم) الخائنين ؛ لأنّهم يدّعون أنّ هارون أرسلَ موسى، وعلياً أرسلَ محمداً، فخاناهما.

ويزعمون أنّ علياً أمهلَ محمداً عدد سِنين أصحاب الكهف، فإذا انقضت هذه المدّة - وهي ثلاثمئة وخمسون سنة - انتقلت الشريعة، ويقولون: إنّ الملائكة كلّ مَن مَلَك نفسه وعرفَ الحق، وإنّ الجنة مَعرفتهم وانتحال مذهبهم، والنار الجهل بهم والعدول عن مذهبهم.

ويعتقدون تَرك الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات، ولا يتناكحون بعقدٍ، ويبيحون الفروج، ويقولون: أن يمتحنَ الناس بإباحة فروج نسائهم، وإنّه يجوز أن يجامع الإنسان مَن يشاء من ذوي رحمه، وحَرَم صديقه وابنه، بعد أن يكون على مذهبه، وأن لابدّ للفاضل منهم أن ينكح المفضول ؛ ليولج النور فيه، ومَن امتنعَ عن ذلك قُلب في الدَّور الذي يأتي بعدَ هذا العالَم امرأة ؛ إذ كان من مذهبهم التناسخ.

وكانوا يعتقدون إهلاك الطالبيين والعباسيين (تعالى الله عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً)، وما أشبه هذه المقالة بمقالة النصيرية، ولعلّها هي هي ؛ فإنّ النصيرية يعتقدون في ابن

٥٧

الفرات ويجعلونه رأساً في مذهبهم...).

وإذا كان ابن الأثير شبّه مقالة الشلمغاني بمقالة النصيرية، وصرّح: (لعلّها هي هي) ؛ فإنّ الحقيقة خلاف ما يزعمه، والأدلّة على ذلك كثيرة، منها:

1 - الشلمغاني مات قتلاً سنة 322هـ، واصطلاح النصيرية - كما رأينا - ظهرَ لأوّل مرّة في مطلع المئة الرابعة.

2 - ياقوت الحموي - الذي نقلَ ابن الأثير عنه - لم يقُل: إنّ مقالة الشلمغاني تشبه مقالة النصيرية، ولم ترد على لسانه كلمة نصيرية(1) .

وكذلك فإنّ جميع المؤرّخين الذين كتبوا عن الشلمغاني: كالمسعودي (ت 345هـ)، وابن النديم (ت 385هـ)، والبغدادي (ت 429هـ)، والأسفرايني (ت 471هـ)، وابن الجوزي (ت 597هـ)، والحموي (ت 626هـ)، وابن خلّكان (ت 681هـ)، وأبي الفداء (ت 732هـ)، واليافعي اليمني (ت 768هـ)، والسيوطي (ت 911هـ)، وابن العماد (ت 1089هـ)، والمؤلّف المجهول، لم يقُل أيّ منهم: إنّ مقالة الشلمغاني تشبه مقالة النصيرية، ومنهم مَن جاء قبل ابن الأثير، ومنهم بعده.

3 - ما وردنا من أخبار عن مقالة النصيرية على لسان الشهرستاني، لا يأتلف مع ما ذكره ابن الأثير.

4 - ثمّة أقوال أوردها ابن الأثير على أنّها من مذهب الشلمغاني، قرأناها في كتب الفِرق منسوبة إلى القرامطة، كالقول بالتناسخ وإباحة نساء بعضهم لبعض، والقول بالناسوت في اللاهوت، وإسقاط فرائض العبادات.

يقول الملطي في(التنبيه والرد) عن القرامطة: (وقومٌ منهم يقولون

____________________

(1) إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب: الجزء الأوّل، ص (296) تحت عنوان (إبراهيم بن أبي عون).

٥٨

بتناسخ الروح، وهم يقولون: بالناسوت في اللاهوت، على قول النصارى سواء، وزعموا أنّ نساء بعضهم حلال لبعض، وكذلك أولادهم وأبدانهم، مباحة من بعضهم لبعض، لا تحظير بينهم ولا منع...).

وفي كُتب الفِرق: أنّ فرقة المخمِّسة هي التي تقول: إنّ الله حلّ في خمسة أشخاص.

وذكرَ البغدادي في (الفَرق بين الفِرق) عند حديثه عن الشريعية: أنّ الشريعي هو الذي زعمَ أنّ الله تعالى حلّ في خمسة أشخاص، وهُم: النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وزعموا أنّ هؤلاء الخمسة آلهة، ولها أضداد خمسة.

ولم يقُل أيُّ أحدٍ من كتّاب الفِرق: إنّ المخمسة، أو الشريعية هي النصيرية، أو أنّ مقالتها تشبه مقالة النصيرية.

5 - على رأي الشلمغاني، كما ذكرَ ابن الأثير: يوجد أربابٌ عديدون على شكلٍ هَرَمي، رأسه الشلمغاني (ربّ الأرباب، لا ربوبية بعده)، بينما مقالة النصيرية - كما ذكرَ الشهرستاني -: أنّ في عليعليه‌السلام جزءٌ إلهي وقوةٌ ربّانية، أو يكون هو الذي ظهرَ الإله بصورته.

6 - ولنا أن نتساءل: مَن هو (ابن الفرات) الذي قال ابن الأثير: إنّ النصيرية يعتقدون فيه، ويجعلونه رأساً في مذهبهم، وما مقام هذا الكلام هنا؟!

ابن الأثير لم يُصرّح باسمه، وكُتب التاريخ ذكرتْ لنا أسماءً كثيرةً من بني الفرات، منهم: علي بن محمد بن موسى بن الفرات وزير المقتدر، وأسد بن الفرات فاتح صقلية، وإسحاق بن الفرات قاضي ديار مصر، وجعفر بن الفضل بن الفرات، والفضل بن جعفر بن موسى بن الفرات، وأحمد بن الفرات، والمحسن بن فرات، ووثيمة بن الفرات، وعمر بن الفرات.

وكتّاب الفِرق ذَكروا اثنين من بني الفرات:

الأوّل : هو عمر بن الفرات، والفرقة التي تُنسب إليه تسمّى بالعمرية، على ما يذكر الحافظ رجب البرسي

٥٩

في(مشارق أنوار اليقين) . والثاني : هو محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات، الذي كان يقوّي أسباب النميري، على ما روى النوبختي في(فِرق الشيعة) .

ويميل ذهننا إلى الظنّ بأنّ المقصود هو علي بن محمد بن موسى بن الفرات، وزير المقتدر ؛ لأنّ ابن الأثير في أخبار سنة اثنتي عشرة وثلاثمئة - عند ذكره اعتراض أبي طاهر القرمطي الحاج في طريق مكّة - قال: (انقلبت بغداد واجتمعَ حرم المأخوذين إلى حرم المنكوبين، الذين نكبهم ابن الفرات، وجعلنَ ينادين: القرمطي الصغير أبو طاهر قَتل المسلمين في طريق مكّة، والقرمطي الكبير ابن الفرات قَتل المسلمين ببغداد،... فقال له نصر الحاجب: ومَن الذي سَلّم الناس إلى القرمطي غيرك ؛ لِمَا يجمع بينكما من التشيّع والرفض).

7 - وأخيراً نشير إلى أنّ البغدادي في(الفَرق بين الفِرق) أطلقَ على الفرقة التي تُنسب إلى الشلمغاني، اسم العذاقرية، وذكرها مرّتين: مرّة عند حديثه عن مذاهب المشبّهة وأصنافهم، ومرّة ثانية عند ذكر أصناف الحلولية، وفي المرّتين لم يذكر أنّ مقالة الشلمغاني أو العذاقرية، تشبه مقالة النصيرية، ولم يشِر إلى وجود أيّة صلة ما بين العذاقرية والنصيرية.

ما دام الأمر كذلك، لماذا شبّه ابن الأثير مقالة الشلمغاني بمقالة النصيرية، واعتبرها هي نفسها؟!

الجواب برأينا ؛ لأنّ الشلمغاني اتُّهم بالرفض، وهذا ما يُفهم من أقوال المؤرّخين: (أظهر الرفض)، و(دعا إلى الرفض)، و(إنّ زعيم الرافضة الحسين بن روح أظهرَ شأنه)، وكذلك لِمَا نُقل عنه من قول: (إنّ الله عزّ وجل إذا حلّ في هيكل ناسوتي أظهرَ من القدرة والمعجزة ما يدلّ على أنّه هو).

***

[تغيُّر وتبدُّل أقوال النصيرية بحسب مؤرِّخي الفِرق:

أ - فتواى ابن تيميَّة. ]

وممّا يسترعي الانتباه: أنّه كلمّا تقدّمنا في الزمن، وجَدنا أقوال النصيرية تتغيّر وتتبدّل عند كتّاب الفِرق والمؤرّخين، بحيث تختلف هذه

٦٠

و قد روي عن جمع كثير من الصحابة منهم البراء بن عازب، و زيد بن أرقم، و أبو أيّوب الأنصاري، و عمر بن الخطّاب، و عليّ بن أبي طالب، و سلمان الفارسيّ، و أبوذرّ الغفاريّ، و عمّار بن ياسر، و بريدة، و سعد بن أبي وقّاص، و عبدالله بن عبّاس، و أبو، هريرة و جابر بن عبدالله و أبوسعيد الخدريّ، و أنس بن مالك، و عمران بن الحصين، و ابن أبي أوفى، و سعدانة، و امرأة زيد بن أرقم.

و قد أجمع عليه أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، و قد ناشد عليّعليه‌السلام الناس بالرحبة في الحديث فقام جماعة من الصحابة حضروا المجلس، فشهدوا أنّهم سمعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوله يوم الغدير.

و في كثير من هذه الروايات أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أيّها الناس أ لستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه كما في عدّة من الأخبار الّتي رواها أحمد بن حنبل في مسنده أو رواها غيره، و قد اُفردت لإحصاء طرقها و البحث في متنها تأليف من أهل السنّة و الشيعة بحثوا فيها بما لا مزيد عليه.

و عن كتاب السمطين، للحموينيّ بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليلة اُسري بي إلى السماء السابعة سمعت نداءً من تحت العرش: إنّ عليّاً آية الهدى، و حبيب من يؤمن بي، بلّغ عليّاًعليه‌السلام ، فلمّا نزل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من السماء اُنسي ذلك فأنزل الله عزّوجلّ:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) .

و في فتح القدير: أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبدالله قال: لما غزا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بني أنمار نزل ذات الرقيع بأعلى نخل فبينما هو جالس على رأس بئر قد دلّى رجليه فقال الوارث من بني النجّار: لأقتلنّ محمّداً، فقال له أصحابه: كيف تقتله؟ قال: أقول له: أعطني سيفك فإذا أعطانيه قتلته به، فأتاه فقال: يا محمّد أعطني سيفك أشمّه فأعطاه إيّاه فرعدت يده حتّى سقط السيف من يده فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

٦١

حال الله بينك و بين ما تريد، فأنزل الله سبحانه:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) الآية.

أقول: ثمّ ذكر في فتح القدير، أنّ ابن حبّان أخرجه في صحيحة و أخرجه أيضاً ابن مردويه عن أبي هريرة نحو هذه القصّة و لم يسمّ الرجل، و أخرج ابن جرير من حديث محمّد بن كعب القرظيّ نحوه، و قصّة غورث بن الحارث ثابتة في الصحيح، و هي معروفة مشهورة (انتهى)، و لكنّ الشأن تطبيق القصّة على المحصّل من معنى الآية، و لن تنطبق أبداً.

و في الدرّ المنثور، و فتح القدير، و غيرهما عن ابن مردويه و الضياء في المختارة عن ابن عبّاس: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل: أيّ آية اُنزلت من السماء أشدّ عليك؟ فقال: كنت بمنى أيّام موسم فاجتمع مشركو العرب و إفناء الناس في الموسم فاُنزل عليّ جبرئيل فقال:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) (الآية).

قال: فقمت عند العقبة فناديت: يا أيّها الناس من ينصرني على أن اُبلّغ رسالة ربّي و له الجنّة؟ أيّها الناس قولوا: لا إله إلّا الله و أنا رسول الله إليكم تفلحوا و تنجحوا و لكم الجنّة.

قال: فما بقي رجل و لا امرأة و لا صبيّ إلّا يرمون بالتراب و الحجارة، و يبزقون في وجهي و يقولون: كذّاب صابئٌ فعرض عليّ عارض فقال: يا محمّد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللّهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون.

فجاء العبّاس عمّه فأنقذه منهم و جرّدهم عنه.

أقول: الآية بتمامها لا ينطبق على هذه القصّة على ما عرفت تفصيل القول فيه.

اللّهمّ إلّا أن تحمل الرواية على نزول قطعة من الآية - و هي قوله:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) - في ذلك اليوم، و ظاهر الرواية يأباه، و نظيرها ما يأتي.

و في الدرّ المنثور، و فتح القدير: أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم

٦٢

و أبوالشيخ عن مجاهد قال: لما نزلت( بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) قال: يا ربّ إنّما أنا واحد كيف أصنع؟ يجتمع علي الناس فنزلت( وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) .

و فيها عن الحسن: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعاً، و عرفت أنّ الناس مكذّبيّ فوعدني لاُبلّغنّ أو ليعذّبني فأنزل:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) .

أقول: الروايتان على ما فيهما من القطع و الإرسال فيهما ما في سابقتهما، و نظيرتهما في هذا التشويش‏ بعض ما ورد: في أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحترس برجال فلمّا نزلت الآية فرّقهم و قالعليه‌السلام : إنّ ربّي وعدني أن يعصمني.

و في تفسير المنار: روى أهل التفسير المأثور و الترمذيّ و أبوالشيخ و الحاكم و أبونعيم و البيهقيّ و الطبرانيّ عن بضعة رجال من الصحابة: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحرس في مكّة قبل نزول هذه الآية فلمّا نزلت ترك الحرّس، و كان أبوطالب أوّل الناس اهتماماً بحراسته، و حرسه العبّاس أيضاً.

و فيه: و ممّا روي في ذلك عن جابر و ابن عبّاس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحرس، و كان يرسل معه عمّه أبو طالب كلّ يوم رجالاً من بني هاشم حتّى نزلت الآية فقال: يا عمّ إنّ الله قد عصمني لا حاجة لي إلى من يبعث.

أقول: و الروايتان - كما ترى - تدلّان على أنّ الآية نزلت في أواسط إقامة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة و أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلّغ رسالته زماناً و اشتدّ عليه أمر إيذاء الناس و تكذيبهم حتّى خاف على نفسه منهم فترك التبليغ و الدعوة فاُمر ثانياً بالتبليغ، و هدّد من جانب الله سبحانه، و وعد بالعصمة، فاشتغل ثانياً بما كان يشتغل به أوّلاً، و هذا شي‏ء يجلّ عنه ساحة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الدرّ المنثور، و فتح القدير: أخرج عبد بن حميد و الترمذيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و الحاكم و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقيّ كلاهما في الدلائل عن عائشة قالت: كان رسول الله يحرس حتّى نزلت:( وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )

٦٣

فأخرج رأسه من القبّة فقال: أيّها الناس انصرفوا فقد عصمني الله.

أقول: و الرواية - كما ترى - ظاهرة في نزولها بالمدينة.

و في تفسير الطبريّ، عن ابن عبّاس: في قوله:( وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) يعني إن كتمت آية ممّا اُنزل إليك لم تبلّغ رسالته.

أقول: إن كان المراد به آية معيّنة أي حكم معيّن ممّا اُنزل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فله وجه صحّة، و إن كان المراد به التهديد في أيّ آية فرضت أو حكم قدّر فقد عرفت فيما تقدّم أنّ الآية لا تلائمه بمضمونها.

٦٤

( سورة المائدة الآيات ٦٨ - ٨٦)

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى‏ شَيْ‏ءٍ حَتّى‏ تُقِيمُوا التّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِن رَبّكُمْ وَلَيَزِيدَنّ كَثِيراً مِنْهُم مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ( ٦٨) إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَالصّابِئُونَ وَالنّصَارَى‏ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( ٦٩) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى‏ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ( ٧٠) وَحَسِبُوا أَلاّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمّوا ثُمّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمّ عَمُوا وَصَمّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ( ٧١) لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ إِنّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الْجَنّةَ وَمَأْوَاهُ النّارُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مَنْ أَنْصَارٍ( ٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلّا إِلهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسّنّ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ٧٣) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ وَأُمّهُ صِدّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمّ انْظُرْ أَنّى‏ يُؤْفَكُونَ( ٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ( ٧٦) قُل يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ وَلاَ تَتّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلّوا كَثِيراً وَضَلّوا عَن سَوَاءِ السّبِيلِ( ٧٧) لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى‏ لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا

٦٥

يَعْتَدُونَ( ٧٨) كَانُوا لاَ يَتَنَاهُوْنَ عَن مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ( ٧٩) تَرَى‏ كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلّوْنَ الّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ( ٨٠) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالنّبِيّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلكِنّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ( ٨١) لَتَجِدَنّ أَشَدّ النّاسِ عَدَاوَةً لِلّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنّ أَقْرَبَهُم مَوَدّةً لِلّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ قَالُوا إِنّا نَصَارى‏ ذلِكَ بِأَنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ( ٨٢) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرّسُولِ تَرَى‏ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ يَقُولُونَ رَبّنَا آمَنّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ( ٨٣) وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصّالِحِينَ( ٨٤) فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُوا جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ( ٨٥) وَالّذِينَ كَفَرُوا وَكَذّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ( ٨٦)

( بيان)

الآيات في نفسها تقبل الاتّصال و الاتّساق بحسب النظم، و لا تقبل الاتّصال بقوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ ) (الآية) مع الغضّ عن قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (الآية) و أمّا ارتباط قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ) (الآية) فقد عرفت الكلام فيه.

و الأشبه أن يكون هذه الآيات جارية على سياق الآيات السابقة من أوائل السورة إلى هنا أعني ارتباط مضامين الآيات آخذة من قوله تعالى:( وَ لَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ) الآية ١٢ من السورة إلى آخر هذه الآيات المبحوث عنها باستثناء نزرة ممّا تتخلّلها كآية الولاية و آية التبليغ و غيرهما

٦٦

ممّا تقدّم البحث عنه، و مثله الكلام في اتّصال آيات آخر السورة بهذه الآيات فإنّها جميعاً يجمعها أنّها كلام يتعلّق بشأن أهل الكتاب.

قوله تعالى: ( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ ) (إلى آخر الآية)، الإنسان يجد من نفسه خلال أعماله أنّه إذا أراد إعمال قوّة و شدّة فيما يحتاج إلى ذلك، وجب أن يعتمد على مستوى يستوي عليه أو يتّصل به كمن أراد أن يجذب أو يدفع أو يحمل أو يقيم شيئاً ثقيلاً فإنّه يثبت قدميه على الأرض أوّلاً ثمّ يصنع ما شاء لما يعلم أن لو لا ذلك لم يتيسّر له ما يريد، و قد بحث عنه في العلوم المربوطة به.

و إذا أجرينا هذا المعنى في الاُمور المعنويّة كأفعال الإنسان الروحيّة أو ما يتعلّق من أفعال الجوارح بالاُمور النفسيّة كان ذلك منتجاً أنّ صدور مهام الأفعال و عظائم الأعمال يتوقّف على اُسّ معنويّ و مبني قوىّ نفسي كتوقّف جلائل الاُمور على الصبر و الثبات و علوّ الهمّة و قوّة العزيمة و توقّف النجاح في العبوديّة على حقّ التقوى و الورع عن محارم الله.

و من هنا يظهر أنّ قوله تعالى:( لَسْتُمْ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ) كناية عن عدم اعتمادهم على شي‏ء يثبت عليه أقدامهم فيقدروا بذلك على إقامة التوراة و الإنجيل و ما اُنزل إليهم من ربّهم تلويحاً إلى أنّ دين الله و حكمه لها من الثقل ما لا يتيسّر حمله للإنسان حتّى يعتمد على أساس ثابت و لا يمكنه إقامته بمجرّد هوى من نفسه كما يشير تعالى إلى ذلك بالنسبة إلى القرآن الكريم بقوله:( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ) المزمل: ٥، و قوله:( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى‏ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) الحشر: ٢١، و قوله:( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها ) الآية: الأحزاب: ٧٢.

و قال في أمر التوراة خطاباً لموسىعليه‌السلام :( فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها ) الأعراف: ١٤٥، و قال خطاباً لبني إسرائيل:( خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ ) البقرة: ٦٣ و قال خطاباً ليحييعليه‌السلام :( يا يَحْيى‏ خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ ) مريم: ١٢.

٦٧

فيعود المعنى إلى أنّكم فاقدو العماد الّذي يجب عليكم أن تعتمدوا عليه في إقامة دين الله الّذي أنزل إليكم في كتبه و هو التقوى و الإنابة إلى الله بالرجوع إليه مرّة بعد اُخرى و الاتّصال به و الإيواء إلى ركنه بل مستكبرون عن طاعته و متعدّون حدوده.

و يظهر هذا المعنى من قوله تعالى خطاباً لنبيّه و المؤمنين:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى) فجمع الدين كلّه فيما ذكره، ثمّ قال:( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) فبيّن أنّ ذلك كلّه يرجع إلى إقامة الدين كلمة واحدة من غير تفرّق ثمّ قال:( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) و ذلك لكبر الاتّفاق و الاستقامة في اتّباع الدين عليهم، ثمّ قال:( اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) فأنبأ أنّ إقامة الدين لا يتيسّر إلّا بهداية من الله، و لا يصلح لها إلّا المتّصف بالإنابة الّتي هي الاتّصال بالله و عدم الانقطاع عنه بالرجوع إليه مرّة بعد اُخرى، ثمّ قال:( وَ ما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) فذكر أنّ السبب في تفرّقهم و عدم إقامتهم للدين هو بغيهم و تعدّيهم عن الوسط العدل المضروب لهم الشورى: ١٤.

و قال أيضاً في نظيرتها من الآيات:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) الروم: ٣٢ فذكر فيها أيضاً أنّ الوسيلة إلى إقامة دين الفطرة الإنابة إلى الله، و حفظ الاتّصال بحضرته، و عدم الانقطاع عن سببه.

و قد أشار إلى هذه الحقيقة في الآيات السابقة على هذه الآية المبحوث عنها أيضاً حيث ذكر أنّ الله لعن اليهود و غضب عليهم لتعدّيهم حدوده فألقى بينهم العداوة و البغضاء، و ذكر هذا المعنى في غير هذا المورد في خصوص النصارى بقوله:( فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) المائدة: ١٤.

و قد حذّر الله سبحانه المسلمين عن مثل هذه المصيبة المؤلمة الّتي سيحلّها على

٦٨

أهل الكتاب من اليهود و النصارى، و أنبأهم أنّهم لا يتيسّر و لن يتيسّر لهم إقامة التوراة و الإنجيل و ما اُنزل إليهم من ربّهم، و قد صدّق جريان التاريخ ما أخبر به الكتاب من تشتّت المذاهب فيهم و إلقاء العداوة و البغضاء بينهم، فحذّر الاُمّة الإسلاميّة أن يردوا موردهم في الانقطاع عن ربّهم، و عدم الإنابة إليه في قوله:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ) الروم: ٣٠ في عدّة آيات من السورة.

و قد تقدّم البحث عن بعض الآيات الملوّحة إلى ذلك في ما تقدّم من أجزاء الكتاب و سيأتي الكلام على بعض آخر منها إن شاء الله تعالى.

و أمّا قوله تعالى:( وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً ) فقد تقدّم البحث عن معناه، و قوله:( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) تسلية منه تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صورة النهي عن الأسى.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ وَ النَّصارى) (الآية) ظاهرها أنّ الصابئون عطف على( الَّذِينَ آمَنُوا ) بحسب موضعه و جماعة من النحويّين يمنعون العطف على اسم إنّ بالرفع قبل مضيّ الخبر، و الآية حجّة عليهم.

و الآية في مقام بيان أن لا عبرة في باب السعادة بالأسماء و الألقاب كتسمّي جمع بالمؤمنين و فرقة بالّذين هادوا، و طائفة بالصابئين و آخرين بالنصارى، و إنّما العبرة بالإيمان بالله و اليوم الآخر و العمل الصالح، و قد تقدّم البحث عن معنى الآية في تفسير سورة البقرة الآية ٦٢ في الجزء الأوّل من الكتاب.

قوله تعالى: ( لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ) (إلى آخر الآية) هذه الآية و ما بعدها إلى عدّة آيات تتعرّض لحال أهل الكتاب كالحجّة على ما يشتمل عليه قوله تعالى:( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ ) إلخ، فإنّ هذه الجرائم و الآثام لا تدع للإنسان اتّصالاً بربّه حتّى يقيم كتب الله معتمداً عليه.

و يحتمل أن تكون الآيات مرتبطة بقوله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا ) إلخ، فيكون تصديقاً بأنّ الأسماء و الألقاب لا تنفع شيئاً في مرحلة السعادة إذ لو

٦٩

نفعت لصدّت هؤلاء عن قتل الأنبياء و تكذيبهم و الهلاك بمهلكات الفتن و موبقات الذنوب.

و يمكن أن يكون هذه الآيات كالمبيّنة لقوله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا ) إلخ، و هو كالمبيّن لقوله:( يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ) (الآية) و المعنى ظاهر.

و قوله:( فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ ) الظاهر أنّ كلمتي( فَرِيقاً ) في الموضعين مفعولان للفعلين بعدهما قدّما عليهما للعناية بأمرهما، و التقدير: كذّبوا فريقاً و يقتلون فريقاً، و المجموع جواب قوله:( كُلَّما جاءَهُمْ ) إلخ، و المعنى نحو من قولنا: كلّما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم أساؤوا مواجهته و إجابته و جعلوا الرسل الآتين فريقين: فريقاً كذّبوا و فريقاً يقتلون.

قال في المجمع: فإن قيل: لم عطف المستقبل على الماضي يعني في قوله:( فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ ) ؟ فجوابه: ليدلّ على أنّ ذلك من شأنهم ففيه معنى كذّبوا و قتلوا و يكذّبون و يقتلون مع أنّ قوله:( يَقْتُلُونَ ) فاصلة يجب أن يكون موافقاً لرؤس الآي، انتهى.

قوله تعالى: ( وَ حَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَ صَمُّوا ) إلخ، متمّم للكلام في الآية السابقة، و الحسبان هو الظنّ، و الفتنة هي المحنة الّتي تغرّ الإنسان أو هي أعمّ من كلّ شرّ و بليّة، و العمى هو عدم إبصار الحقّ و عدم تمييز الخير من الشرّ، و الصمم عدم سماع العظة و عدم الإعباء بالنصيحة، و هذا العمى و الصمم معلولا حسبانهم أن لا تكون فتنة، و الظاهر أنّ حسبانهم ذلك معلول ما قدّروا لأنفسهم من الكرامة بكونهم من شعب إسرائيل و أنّهم أبناء الله و أحبّاؤه فلا يمسّهم السوء و إن فعلوا ما فعلوا و ارتكبوا ما ارتكبوا.

فمعنى الآية - و الله أعلم - أنّهم لمكان ما اعتقدوا لأنفسهم من كرامة التهوّد ظنّوا أن لا يصيبهم سوء أو لا يفتنون بما فعلوا فأعمى ذلك الظنّ و الحسبان أبصارهم عن إبصار الحقّ، و أصمّ ذلك آذانهم عن سماع ما ينفعهم من دعوة أنبيائهم.

٧٠

و هذا ممّا يرجّح ما احتملناه أنّ الآيات كالحجّة المبيّنة لقوله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا ) (الآية) فمحصّل المعنى أنّ الأسماء و الألقاب لا تنفع أحداً شيئاً فهؤلاء اليهود لم ينفعهم ما قدّروا لأنفسهم من الكرامة بالتسمّي بل أعماهم و أوردهم مورد الهلكة و الفتنة لما كذّبوا أنبياء الله و قتلوهم.

قوله تعالى: ( ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) التوبة من الله على عباده رجوعه تعالى بالرحمة إليهم، و هذا يدلّ على أنّ الله سبحانه قد كان بعّدهم من رحمته و عنايته و لذلك أخذهم الحسبان المذكور و لزمهم العمى و الصمم، لكنّ الله سبحانه رجع إليهم ثانياً بالتوبة فرفع هذا الحسبان عن قلوبهم، و العمى و الصمم عن أبصارهم و آذانهم، فعرفوا أنفسهم بأنّهم عباد لا كرامة لهم على الله إلّا بالتقوى، و أبصروا الحقّ و سمعوا عظة الله لهم بلسان أنبيائه فتبيّن لهم أنّ التسمّي لا ينفع شيئاً.

ثمّ عموا و صمّوا كثير منهم، و إسناد العمى و الصمم إلى جمعهم أوّلاً ثمّ إلى كثير منهم - بإتيان كثير منهم بدلاً من واو الجمع - أخذٌ بالنصفة في الكلام بالدلالة على أنّ إسناد العمى و الصمم إلى جمعهم من قبيل إسناد حكم البعض إلى الكلّ، و الواقع أنّ المتّصف بهاتين الصفتين كثير منهم لا كلّهمأوّلاً ، و إيماء إلى أنّ العمى و الصمم المذكورين أوّلاً شملا جميعهم على ما يدلّ عليه المقابلةثانياً ، و أنّ التوبة الإلهيّة لم يبطل أثرها و لم تذهب سدىّ بالمرّة بل نجا بالتوبة بعضهم فلم يأخذهم العمى و الصمم اللّاحقان أخيراًثالثاً .

ثمّ ختم تعالى الآية بقوله:( وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) للدلالة على أنّ الله تعالى لا يغفله شي‏ء، فغيره تعالى إذا أكرم قوماً بكرامة ضرب ذلك على بصره بحجاب يمنعه أن يرى منهم السوء و المكروه، و ليس الله سبحانه على هذا النعت بل هو البصير لا يحجبه شي‏ء عن شي‏ء.

قوله تعالى: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) و هذا كالبيان لكون النصارى لم تنفعهم النصرانيّة و الانتساب إلى المسيحعليه‌السلام عن تعلّق

٧١

الكفر بهم إذ أشركوا بالله و لم يؤمنوا به حقّ إيمانه حيث قالوا: إنّ الله هو المسيح بن مريم.

و النصارى و إن اختلفوا في كيفيّة اشتمال المسيح بن مريم على جوهرة الاُلوهيّة بين قائل باشتقاق اُقنوم المسيح و هو العلم من اُقنوم الربّ (تعالى) و هو الحياة، و ذلك الاُبوّة و البنوّة، و قائل بأنّه تعالى صار هو المسيح على نحو الانقلاب، و قائل بأنّه حلّ فيه كما تقدّم بيان ذلك تفصيلاً في الكلام على عيسى بن مريمعليه‌السلام في تفسير سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب.

لكنّ الأقوال الثلاثة جميعاً تقبل الانطباق على هذه الكلمة (إنّ الله هو المسيح بن مريم) فالظاهر أنّ المراد بالّذين تفوّهوا بهذه الكلمة جميع النصارى الغالين في المسيحعليه‌السلام لا خصوص القائلين منهم بالانقلاب.

و توصيف المسيح بابن مريم لا يخلو من دلالة أو إشعار بسبب كفرهم و هو نسبة الاُلوهيّة إلى إنسان ابن إنسان مخلوقين من تراب، و أين التراب و ربّ الأرباب؟!

قوله تعالى: ( وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ ) (إلى آخر الآية) احتجاج على كفرهم و بطلان قولهم بقول المسيحعليه‌السلام نفسه فإنّ قولهعليه‌السلام :( اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ ) يدلّ على أنّه عبد مربوب مثلهم، و قوله:( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ) يدلّ على أنّ من يجعل لله شريكاً في اُلوهيّته فهو مشرك كافر محرّم عليه الجنّة.

و في قوله تعالى حكاية عنهعليه‌السلام :( فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ) عناية بإبطال ما ينسبونه إلى المسيح من حديث التفدية، و أنّهعليه‌السلام باختياره الصلب فدى بنفسه عنهم فهم مغفور لهم مرفوع عنهم التكاليف الإلهيّة و مصيرهم إلى الجنّة و لا يمسّون ناراً كما تقدّم نقل ذلك عنهم في تفسير سورة آل عمران في قصّة عيسىعليه‌السلام فقصّة التفدية و الصلب إنّما سيقت لهذا الغرض.

و ما تحكيه الآية من قولهعليه‌السلام موجود في متفرّقات الأبواب من الأناجيل

٧٢

كالأمر بالتوحيد،(١) و إبطال عبادة المشرك،(٢) و الحكم بخلود الظالمين في النار(٣) .

قوله تعالى: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ) أي أحد الثلاثة: الأب و الابن و الروح، أي هو ينطبق على كلّ واحد من الثلاثة، و هذا لازم قولهم: إنّ الأب إله، و الابن إله، و الروح إله، و هو ثلاثة، و هو واحد يضاهئون بذلك نظير قولنا: إنّ زيد بن عمرو إنسان، فهناك اُمور ثلاثة هي: زيد و ابن عمرو و الإنسان، و هناك أمر واحد و هو المنعوت بهذه النعوت، و قد غفلوا عن أنّ هذه الكثرة إن كانت حقيقيّة غير اعتباريّة أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة، و أنّ المنعوت إن كان واحداً حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة اعتباريّة غير حقيقيّة فالجمع بين هذه الكثرة العدديّة و الوحدة العدديّة في زيد المنعوت بحسب الحقيقة ممّا يستنكف العقل عن تعقّله.

و لذا ربّما ذكر بعض الدعاة من النصارى أنّ مسألة التثليث من المسائل المأثورة من مذاهب الأسلاف الّتي لا تقبل الحلّ بحسب الموازين العلميّة، و لم يتنبّه أنّ عليه أن يطالب الدليل على كلّ دعوى يقرع سمعه سواء كان من دعاوي الأسلاف أو من دعاوي الأخلاف.

قوله تعالى: ( وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ ) (إلى آخر الآية) ردّ منه تعالى لقولهم:( إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ) بأنّ الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية الكثرة بوجه من الوجوه فهو تعالى في ذاته واحد، و إذا اتّصف بصفاته الكريمة و أسمائه الحسنى لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئاً و لا الصفة إذا اُضيفت إلى الصفة أورث ذلك كثرة و تعدّداً فهو تعالى أحديّ الذات لا ينقسم لا في خارج و لا في وهم و لا في عقل.

فليس الله سبحانه بحيث يتجزّؤ في ذاته إلى شي‏ء و شي‏ء قطّ، و لا أنّ ذاته بحيث يجوز أن يضاف إليه شي‏ء فيصير اثنين أو أكثر، كيف؟ و هو تعالى مع هذا الشي‏ء الّذي تراد إضافته إليه تعالى في وهم أو فرض أو خارج.

____________________

(١) الإصحاح ١٢: ٢٩ (إنجيل مرقس).

(٢) الإصحاح ٦: ٢٤ (إنجيل متى).

(٣) الإصحاح ١٣: ٥٠، ٢٥: ٣١ ٤٧ (إنجيل متى أيضاً).

٧٣

فهو تعالى واحد في ذاته لكن لا بالوحدة العدديّة الّتي لسائر الأشياء المتكوّن منها الكثرات، و لا منعوت بكثرة في ذات أو اسم، أو صفة، كيف؟ و هذه الوحدة العدديّة و الكثرة المتألّفة منها كلتاهما من آثار صنعه و إيجاده فكيف يتّصف بما هو من صنعه؟.

و في قوله تعالى:( وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ ) من التأكيد في إثبات التوحيد ما ليس في غيره حيث سيق الكلام بنحو النفي و الاستثناء، ثمّ اُدخل( مِنْ ) على النفي لإفادة تأكيد الاستغراق، ثمّ جي‏ء بالمستثنى و هو قوله:( إِلهٌ واحِدٌ ) بالتنكير المفيد للتنويع و لو اُورد معرفة كقولنا( إلّا الإله الواحد) لم يفد ما يرام من حقيقة التوحيد.

فالمعنى: ليس في الوجود شي‏ء من جنس الإله أصلاً إلّا إله واحد نوعاً من الوحدة لا يقبل التعدّد أصلاً لا تعدّد الذات و لا تعدّد الصفات، لا خارجاً و لا فرضاً، و لو قيل: و ما من إله إلّا الله الواحد لم يدفع به قول النصارى (إنّ الله ثالث ثلاثة) فإنّهم لا ينكرون الوحدة فيه تعالى، و إنّما يقولون: إنّه ذات واحدة لها تعيّن بصفاتها الثلاث، و هي واحدة في عين أنّها كثيرة حقيقة.

و لا يندفع ما احتملوه من المعنى إلّا بإثبات وحدة لا تتألّف منه كثرة أصلاً، و هو الّذي يتوخّاه القرآن الكريم بقوله:( وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ ) .

و هذا من لطائف المعاني الّتي يلوح إليها الكتاب الإلهيّ في حقيقة معنى التوحيد و سنغور في البحث المستوفى عنه في بحث قرآنيّ خاصّ ثمّ في بحث عقليّ و آخر نقليّ إيفاءً لحقّه.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) تهديد لهم بالعذاب الأليم الاُخروي الّذي هو ظاهر الآية الكريمة.

و لما كان القول بالتثليث الّذي تتضمّنه كلمة:( إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ) ليس في وسع عقول عامّة الناس أن تتعقّله فأغلب النصارى يتلقّونه قولاً مذهبيّاً مسلّماً بلفظة من غير أن يعقلوا معناه، و لا أن يطمعوا في تعقّله كما ليس في وسع العقل السليم أن

٧٤

يعقله عقلاً صحيحاً، و إنّما يتعقّل كتعقّل الفروض المحالة كالإنسان اللاإنسان، و العدد الّذي ليس بواحد و لا كثير و لا زوج و لا فرد فلذلك تتسلّمه العامّة تسلّماً من غير بحث عن معناه، و إنّما يعتقدون في البنوّة و الاُبوّة شبه معنى التشريف فهؤلاء في الحقيقة ليسوا من أهل التثليث، و إنّما يمضغون الكلمة مضغاً، و ينتمون إليها انتماءً بخلاف غير العامّة منهم و هم الّذين ينسب الله سبحانه إليهم اختلاف المذاهب و يقرّر أنّ ذلك ببغيهم كما قال تعالى:( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ - إلى أن قال -وَ ما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) الشورى: ١٤.

فالكفر الحقيقيّ الّذي لا ينتهي إلى استضعاف - و هو الّذي فيه إنكار التوحيد و التكذيب بآيات الله - إنّما يتمّ في بعضهم دون كلّهم، و إنّما أوعد الله بالنار الخالد الّذين كفروا و كذّبوا بآيات الله، قال:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) البقرة: ٣٩ إلى غير ذلك من الآيات، و قد مرّ الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى:( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ ) الآية: النساء: ٩٨.

و لعلّ هذا هو السرّ في التبعيض الظاهر من قوله:( لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ ) أو أنّ المراد به الإشارة إلى أنّ من النصارى من لا يقول بالتثليث، و لا يعتقد في المسيح إلّا أنّه عبدالله و رسوله، كما كانت على ذلك مسيحيّو الحبشة و غيرها على ما ضبطه التاريخ فالمعنى: لئن لم ينته النصارى عمّا يقولون (نسبة قول بعض الجماعة إلى جميعهم) ليمسّنّ الّذين كفروا منهم - و هم القائلون بالتثليث منهم - عذاب أليم.

و ربّما وجّهوا الكلام أعني قوله:( لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ ) بأنّه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر، و الأصل: ليمسّنّهم (انتهى)، و إنّما عدل إلى وضع الموصول و صلته مكانه ليدلّ على أنّ ذلك القول كفر بالله، و أنّ الكفر سبب العذاب الّذي توعّدهم به.

و هذا وجه لا بأس به لو لا أنّ الآية مصدرة بقوله:( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ) و نظيره في البعد قول بعض آخر: إنّ( من ) في قوله:( مِنْهُمْ ) بيانيّة فإنّه قول من غير دليل.

٧٥

قوله تعالى: ( أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) تحضيض على التوبة و الاستغفار، و تذكير بمغفرة الله و رحمته، أو إنكار أو توبيخ.

قوله تعالى: ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ) ردّ لقولهم:( إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ) أو لقولهم هذا و قولهم المحكيّ في الآية السابقة:( إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) جميعاً، و محصّله اشتمال المسيح على جوهرة الاُلوهيّة، بأنّ المسيح لا يفارق سائر رسل الله الّذين توفّاهم الله من قبله كانوا بشراً مرسلين من غير أن يكونوا أرباباً من دون الله سبحانه، و كذلك اُمّه مريم كانت صدّيقة تصدّق بآيات الله تعالى و هي بشر، و قد كان هو و اُمّه جميعاً يأكلان الطعام، و أكل الطعام مع ما يتعقّبه مبنيّ على أساس الحاجة الّتي هو أوّل أمارة من أمارات الإمكان و المصنوعيّة فقد كان المسيحعليه‌السلام ممكناً متولّداً من ممكن، و عبداً و رسولاً مخلوقاً من اُمّه كانا يعبدان الله، و يجريان في سبيل الحاجة و الافتقار من دون أن يكون ربّاً.

و ما بيد القوم من كتب الإنجيل معترفة بذلك تصرّح بكون مريم فتاة كانت تؤمن بالله و تعبده، و تصرّح بأنّ عيسى تولّد منها كالإنسان من الإنسان، و تصرّح بأنّ عيسى كان رسولاً من الله إلى الناس كسائر الرسل و تصرّح بأنّ عيسى و اُمّه مريم كانا يأكلان الطعام.

فهذه اُمور صرّحت بها الأناجيل، و هي حجج على كونهعليه‌السلام عبداً رسولاً.

و يمكن أن تكون الآية مسوقة لنفي اُلوهيّة المسيح و اُمّه كليهما على ما يظهر من قوله تعالى:( أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) المائدة: ١١٦ أنّه كان هناك من يقول باُلوهيّتها كالمسيح أو أنّ المراد به اتّخاذها إلهاً كما ينسب إلى أهل الكتاب أنّهم اتّخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباباً من دون الله، و ذلك بالخضوع لها و لهم بما لا يخضع لبشر بمثله.

و كيف كان فالآية على هذا التقدير تنفي عن المسيح و اُمّه معاً الاُلوهيّة بأنّ

٧٦

المسيح كان رسولاً كسائر الرسل، و اُمّه كانت صديقة، و هما معاً كانا يأكلان الطعام، و ذلك كلّه ينافي الاُلوهيّة.

و في قوله تعالى:( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) حيث وصف الرسل بالخلوّ من قبله، و هو الموت تأكيد للحجّة بكونه بشراً يجوز عليه الموت و الحياة كما جاز على الرسل من قبله.

قوله تعالى: ( انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو في مقام التعجيب أي تعجّب من كيفيّة بياننا لهم الآيات، و هو أوضح بيان لأظهر آية في بطلان دعواهم اُلوهيّة المسيح، و كيفيّة صرفهم عن تعقّل هذه الآيات فإلى أيّ غاية يصرفون عنها، و لا تلتفت إلى نتيجتها - و هي بطلان دعواهم - عقولهم؟.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ اللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) كان الخضوع لأمر الربوبيّة إنّما انتشر بين البشر في أقدم عهوده، و خاصّة بين العامّة منهم - و عامّتهم كانوا يعبدون الأصنام - طمعاً في أن يدفع الربّ عنهم الشرّ و يوصل إليهم النفع كما يتحصّل من الأبحاث التاريخيّة، و أمّا عبادة الله لأنّه الله عزّ اسمه فلم يكن يعدو الخواصّ منهم كالأنبياء و الربّانيّين من اُممهم.

فأمر الله سبحانه رسوله أن يخاطبهم خطاب البشر الساذج الجاري على ما تلهمه فطرته الساذجة في عبادة الله كما خاطب الوثنيّين و عبّاد الأصنام بذلك فيذكرهم أنّ الذي يضطرّ الإنسان بعبادة الربّ هو أنّه يرى أزمّة الخير و الشرّ و النفع و الضرّ بيده فيعبده لأنّه يملك الضرّ و النفع طمعاً في أن يدفع عنه الضرّ و يوصل إليه الخير لعبادته له.

و كلّ ما هو دون الله تعالى لا يملك شيئاً من ضرّ و لا نفع لأنّه مملوك لله محضاً مسلوب عنه القدرة في نفسه فكيف يسوغ تخصيصه بالعبادة، و إشراكه مع ربّه الّذي هو المالك له و لغيره، و قد كان من الواجب أن يخصّ هو تعالى بالعبادة، و لا يتعدّى عنه إلى غيره لأنّه هو الّذي يختصّ به السمع و الإجابة فيسمع و يجيب المضطرّ إذ

٧٧

دعاه، و هو الّذي يعلم حوائج عباده و لا يغفل عنها و لا يغلط فيها بخلاف غيره تعالى فإنّه إنّما يملك ما ملّكه الله، و يقوى على ما قوّاه الله سبحانه.

فقد تبيّن بهذا البيان:أوّلاً: أنّ الحجّة الّتي تشتمل عليها هذه الآية غير الحجّة الّتي تشتمل عليها الآية السابقة و إن توقّفتا معاً على مقدّمة مشتركة، و هي كون المسيح و اُمّه ممكنين محتاجين، فالآية السابقة حجّتها أنّ المسيح و اُمّه كانا بشرين محتاجين عبدين مطيعين لله سبحانه، و من كان حاله هذا الحال لم يصحّ أن يكون إلهاً معبوداً، و حجّة هذه الآية: أنّ المسيح ممكن محتاج مملوك بنفسه لا يملك ضرّاً و لا نفعاً، و من كان حاله هذا الحال لم يستقم اُلوهيّته و عبادته من دون الله.

و ثانياً: أنّ الحجّة مأخوذة ممّا يدركه الفهم البسيط و العقل الساذج من جهة غرض الإنسان البسيط في عبادته فإنّه إنّما يتّخذ ربّاً و يعبده ليدفع عنه الضرّ و يجلب إليه النفع، و هذا إنّما يملكه الله تعالى دون غيره، فلا غرض يتعلّق بعبادة غير الله فمن الواجب أن يرفض عبادته.

و ثالثاً: أنّ قوله:( ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً ) إنّما اُخذت فيه لفظة( ما ) دون لفظة( من ) مع أنّ المسيح من اُولي العقل لأنّ الحجّة بعينها هي الّتي تقام على الوثنيّين و عبدة الأصنام الّتي لا شعور لها، و لا دخل في كون المسيحعليه‌السلام من اُولي العقل في تمام الحجّة فهي تامّة في كلّ معبود مفروض دون الله سبحانه.

على أنّ غيره تعالى و إن كان من اُولي العقل و الشعور لا يملكون شيئاً من العقل و الشعور من عند أنفسهم كسائر ما ينسب إليهم من شؤون وجودهم قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ ) الأعراف: ١٩٥.

و كذلك تقديم الضرّ على النفع في قوله:( ضَرًّا وَ لا نَفْعاً ) للجري على وفق ما تدركه و تدعوا إليه الفطرة الساذجة كما مرّ، فإنّ الإنسان بحسب الطبع يرى ما تلبّس به من النعم الموجودة عنده ما دامت عنده مملوكة لنفسه لا تلتفت نفسه إلى إمكان فقدها

٧٨

و لا تتصوّر ألمه عند فقدها بخلاف المضارّ الّتي يجدها بالفعل، و النعم الّتي يفتقدها و يجد ألم فقدها، فإنّ الفطرة تنبّهها إلى الالتجاء إلى ربّ يدفع عنها الضرّ و الضير، و يجلب إليها النعمة المسلوبة كما قال تعالى:( وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى‏ ضُرٍّ مَسَّهُ ) يونس: ١٢، و قال تعالى:( وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي ) حم السجدة: ٥٠، و قال تعالى:( وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى‏ بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ ) حم السجدة: ٥١.

فتحصّل أنّ مسّ الضرّ أبعث للإنسان إلى الخضوع للربّ و عبادته من وجدان النفع، و لذلك قدّم الله سبحانه الضرّ على النفع في قوله:( ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً ) و كذا في سائر الموارد الّتي تماثله كقوله:( اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً ) الفرقان: ٣.

و رابعاً: أنّ مجموع الآية:( أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) إلى آخرها حجّة على وجوب قصر العبادة في الله سبحانه من دون إشراك غيره معه و هي منحلّة إلى حجّتين ملخّصهما: أنّ اتّخاذ الإله و عبادة الربّ إنّما هو لغرض دفع الضرّ و جلب النفع فيجب أن يكون الإله المعبود مالكاً لذلك و لا يجوز عبادة من لا يملك شيئاً، و الله سبحانه هو السميع المجيب للدعوة العليم بكنه الحاجة من غير جهل دون غيره فوجب عبادته من غير إشراك غيره.

قوله تعالى: ( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ) خطاب آخر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمره أن يدعو أهل الكتاب إلى عدم الغلوّ في دينهم، و أهل الكتاب و خاصّة النصارى مبتلون بذلك، و( الغالي) المتجاوز عن الحدّ بالإفراط، و يقابله( القالي) في طرف التفريط.

و دين الله الّذي يفسّره كتبه المنزّلة يأمر بالتوحيد و نفي الشريك و ينهى عن اتّخاذ الشركاء لله سبحانه، و قد ابتلي بذلك أهل الكتاب عامّة اليهود و النصارى،

٧٩

و إن كان أمر النصارى في ذلك أشنع و أفظع قال تعالى:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَ قالَتِ النَّصارى‏ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) التوبة: ٣١.

و القول بأنّ عزيراً ابن الله و إن كان غير ظاهر اليوم عند اليهود لكنّ الآية تشهد بأنّهم كانوا يقولون ذلك في عصر النزول.

و الظاهر أنّ ذلك كان لقباً تشريفيّاً يلقّبونه به قبال ما خدمهم و أحسن إليهم في إرجاعهم إلى اُورشليم (بيت المقدّس) بعد أسارة بابل، و جمع لهم التوراة ثانياً بعد ضياعه في قصّة بخت نصر، و قد كانوا يعدّون بنوّة الله لقباً تشريفيّاً كما يتّخذ النصارى اليوم الاُبوّة كذلك و يسمّون الباباوات و البطارقة و القسّيسين بالآباء (الباب و البابا: الأب) و قد قال تعالى:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى‏ نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ ) المائدة: ١٨.

بل الآية الثانية أعني قوله:( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ) تدلّ على ذلك حيث اقتصر فيها على ذكر المسيحعليه‌السلام ، و لم يذكر عزيراً فدلّ على دخوله في عموم قوله:( أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ ) و أنّهم إنّما كانوا يسمّونه ابن الله كما يسمّون أحبارهم أبناء الله، و قد خصّوه بالذكر وحده شكراً لإحسانه إليهم كما تقدّمت الإشارة إليه.

و بالجملة وضعهم بعض أنبيائهم و أحبارهم و رهبانهم موضع الربوبيّة و خضوعهم لهم بما لا يخضع بمثله إلّا لله سبحانه غلوّ منهم في دينهم ينهاهم الله عن ذلك بلسان نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و تقييد الغلوّ في الدين بغير الحقّ - و لا يكون الغلوّ إلّا كذلك - إنّما هو للتأكيد و تذكير لازم المعنى مع ملزومه لئلّا يذهل عنه السامع و قد ذهل حين غلا أو كان كالذاهل.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401