الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 401
المشاهدات: 80814
تحميل: 7042


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80814 / تحميل: 7042
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 6

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و قد روي عن جمع كثير من الصحابة منهم البراء بن عازب، و زيد بن أرقم، و أبو أيّوب الأنصاري، و عمر بن الخطّاب، و عليّ بن أبي طالب، و سلمان الفارسيّ، و أبوذرّ الغفاريّ، و عمّار بن ياسر، و بريدة، و سعد بن أبي وقّاص، و عبدالله بن عبّاس، و أبو، هريرة و جابر بن عبدالله و أبوسعيد الخدريّ، و أنس بن مالك، و عمران بن الحصين، و ابن أبي أوفى، و سعدانة، و امرأة زيد بن أرقم.

و قد أجمع عليه أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، و قد ناشد عليّعليه‌السلام الناس بالرحبة في الحديث فقام جماعة من الصحابة حضروا المجلس، فشهدوا أنّهم سمعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوله يوم الغدير.

و في كثير من هذه الروايات أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أيّها الناس أ لستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه كما في عدّة من الأخبار الّتي رواها أحمد بن حنبل في مسنده أو رواها غيره، و قد اُفردت لإحصاء طرقها و البحث في متنها تأليف من أهل السنّة و الشيعة بحثوا فيها بما لا مزيد عليه.

و عن كتاب السمطين، للحموينيّ بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليلة اُسري بي إلى السماء السابعة سمعت نداءً من تحت العرش: إنّ عليّاً آية الهدى، و حبيب من يؤمن بي، بلّغ عليّاًعليه‌السلام ، فلمّا نزل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من السماء اُنسي ذلك فأنزل الله عزّوجلّ:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) .

و في فتح القدير: أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبدالله قال: لما غزا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بني أنمار نزل ذات الرقيع بأعلى نخل فبينما هو جالس على رأس بئر قد دلّى رجليه فقال الوارث من بني النجّار: لأقتلنّ محمّداً، فقال له أصحابه: كيف تقتله؟ قال: أقول له: أعطني سيفك فإذا أعطانيه قتلته به، فأتاه فقال: يا محمّد أعطني سيفك أشمّه فأعطاه إيّاه فرعدت يده حتّى سقط السيف من يده فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

٦١

حال الله بينك و بين ما تريد، فأنزل الله سبحانه:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) الآية.

أقول: ثمّ ذكر في فتح القدير، أنّ ابن حبّان أخرجه في صحيحة و أخرجه أيضاً ابن مردويه عن أبي هريرة نحو هذه القصّة و لم يسمّ الرجل، و أخرج ابن جرير من حديث محمّد بن كعب القرظيّ نحوه، و قصّة غورث بن الحارث ثابتة في الصحيح، و هي معروفة مشهورة (انتهى)، و لكنّ الشأن تطبيق القصّة على المحصّل من معنى الآية، و لن تنطبق أبداً.

و في الدرّ المنثور، و فتح القدير، و غيرهما عن ابن مردويه و الضياء في المختارة عن ابن عبّاس: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل: أيّ آية اُنزلت من السماء أشدّ عليك؟ فقال: كنت بمنى أيّام موسم فاجتمع مشركو العرب و إفناء الناس في الموسم فاُنزل عليّ جبرئيل فقال:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) (الآية).

قال: فقمت عند العقبة فناديت: يا أيّها الناس من ينصرني على أن اُبلّغ رسالة ربّي و له الجنّة؟ أيّها الناس قولوا: لا إله إلّا الله و أنا رسول الله إليكم تفلحوا و تنجحوا و لكم الجنّة.

قال: فما بقي رجل و لا امرأة و لا صبيّ إلّا يرمون بالتراب و الحجارة، و يبزقون في وجهي و يقولون: كذّاب صابئٌ فعرض عليّ عارض فقال: يا محمّد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللّهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون.

فجاء العبّاس عمّه فأنقذه منهم و جرّدهم عنه.

أقول: الآية بتمامها لا ينطبق على هذه القصّة على ما عرفت تفصيل القول فيه.

اللّهمّ إلّا أن تحمل الرواية على نزول قطعة من الآية - و هي قوله:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) - في ذلك اليوم، و ظاهر الرواية يأباه، و نظيرها ما يأتي.

و في الدرّ المنثور، و فتح القدير: أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم

٦٢

و أبوالشيخ عن مجاهد قال: لما نزلت( بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) قال: يا ربّ إنّما أنا واحد كيف أصنع؟ يجتمع علي الناس فنزلت( وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) .

و فيها عن الحسن: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعاً، و عرفت أنّ الناس مكذّبيّ فوعدني لاُبلّغنّ أو ليعذّبني فأنزل:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) .

أقول: الروايتان على ما فيهما من القطع و الإرسال فيهما ما في سابقتهما، و نظيرتهما في هذا التشويش‏ بعض ما ورد: في أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحترس برجال فلمّا نزلت الآية فرّقهم و قالعليه‌السلام : إنّ ربّي وعدني أن يعصمني.

و في تفسير المنار: روى أهل التفسير المأثور و الترمذيّ و أبوالشيخ و الحاكم و أبونعيم و البيهقيّ و الطبرانيّ عن بضعة رجال من الصحابة: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحرس في مكّة قبل نزول هذه الآية فلمّا نزلت ترك الحرّس، و كان أبوطالب أوّل الناس اهتماماً بحراسته، و حرسه العبّاس أيضاً.

و فيه: و ممّا روي في ذلك عن جابر و ابن عبّاس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحرس، و كان يرسل معه عمّه أبو طالب كلّ يوم رجالاً من بني هاشم حتّى نزلت الآية فقال: يا عمّ إنّ الله قد عصمني لا حاجة لي إلى من يبعث.

أقول: و الروايتان - كما ترى - تدلّان على أنّ الآية نزلت في أواسط إقامة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة و أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلّغ رسالته زماناً و اشتدّ عليه أمر إيذاء الناس و تكذيبهم حتّى خاف على نفسه منهم فترك التبليغ و الدعوة فاُمر ثانياً بالتبليغ، و هدّد من جانب الله سبحانه، و وعد بالعصمة، فاشتغل ثانياً بما كان يشتغل به أوّلاً، و هذا شي‏ء يجلّ عنه ساحة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الدرّ المنثور، و فتح القدير: أخرج عبد بن حميد و الترمذيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و الحاكم و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقيّ كلاهما في الدلائل عن عائشة قالت: كان رسول الله يحرس حتّى نزلت:( وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )

٦٣

فأخرج رأسه من القبّة فقال: أيّها الناس انصرفوا فقد عصمني الله.

أقول: و الرواية - كما ترى - ظاهرة في نزولها بالمدينة.

و في تفسير الطبريّ، عن ابن عبّاس: في قوله:( وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) يعني إن كتمت آية ممّا اُنزل إليك لم تبلّغ رسالته.

أقول: إن كان المراد به آية معيّنة أي حكم معيّن ممّا اُنزل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فله وجه صحّة، و إن كان المراد به التهديد في أيّ آية فرضت أو حكم قدّر فقد عرفت فيما تقدّم أنّ الآية لا تلائمه بمضمونها.

٦٤

( سورة المائدة الآيات ٦٨ - ٨٦)

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى‏ شَيْ‏ءٍ حَتّى‏ تُقِيمُوا التّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِن رَبّكُمْ وَلَيَزِيدَنّ كَثِيراً مِنْهُم مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ( ٦٨) إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَالصّابِئُونَ وَالنّصَارَى‏ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( ٦٩) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى‏ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ( ٧٠) وَحَسِبُوا أَلاّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمّوا ثُمّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمّ عَمُوا وَصَمّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ( ٧١) لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ إِنّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الْجَنّةَ وَمَأْوَاهُ النّارُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مَنْ أَنْصَارٍ( ٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلّا إِلهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسّنّ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ٧٣) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ وَأُمّهُ صِدّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمّ انْظُرْ أَنّى‏ يُؤْفَكُونَ( ٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ( ٧٦) قُل يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ وَلاَ تَتّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلّوا كَثِيراً وَضَلّوا عَن سَوَاءِ السّبِيلِ( ٧٧) لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى‏ لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا

٦٥

يَعْتَدُونَ( ٧٨) كَانُوا لاَ يَتَنَاهُوْنَ عَن مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ( ٧٩) تَرَى‏ كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلّوْنَ الّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ( ٨٠) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالنّبِيّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلكِنّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ( ٨١) لَتَجِدَنّ أَشَدّ النّاسِ عَدَاوَةً لِلّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنّ أَقْرَبَهُم مَوَدّةً لِلّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ قَالُوا إِنّا نَصَارى‏ ذلِكَ بِأَنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ( ٨٢) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرّسُولِ تَرَى‏ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ يَقُولُونَ رَبّنَا آمَنّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ( ٨٣) وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصّالِحِينَ( ٨٤) فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُوا جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ( ٨٥) وَالّذِينَ كَفَرُوا وَكَذّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ( ٨٦)

( بيان)

الآيات في نفسها تقبل الاتّصال و الاتّساق بحسب النظم، و لا تقبل الاتّصال بقوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ ) (الآية) مع الغضّ عن قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (الآية) و أمّا ارتباط قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ) (الآية) فقد عرفت الكلام فيه.

و الأشبه أن يكون هذه الآيات جارية على سياق الآيات السابقة من أوائل السورة إلى هنا أعني ارتباط مضامين الآيات آخذة من قوله تعالى:( وَ لَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ) الآية ١٢ من السورة إلى آخر هذه الآيات المبحوث عنها باستثناء نزرة ممّا تتخلّلها كآية الولاية و آية التبليغ و غيرهما

٦٦

ممّا تقدّم البحث عنه، و مثله الكلام في اتّصال آيات آخر السورة بهذه الآيات فإنّها جميعاً يجمعها أنّها كلام يتعلّق بشأن أهل الكتاب.

قوله تعالى: ( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ ) (إلى آخر الآية)، الإنسان يجد من نفسه خلال أعماله أنّه إذا أراد إعمال قوّة و شدّة فيما يحتاج إلى ذلك، وجب أن يعتمد على مستوى يستوي عليه أو يتّصل به كمن أراد أن يجذب أو يدفع أو يحمل أو يقيم شيئاً ثقيلاً فإنّه يثبت قدميه على الأرض أوّلاً ثمّ يصنع ما شاء لما يعلم أن لو لا ذلك لم يتيسّر له ما يريد، و قد بحث عنه في العلوم المربوطة به.

و إذا أجرينا هذا المعنى في الاُمور المعنويّة كأفعال الإنسان الروحيّة أو ما يتعلّق من أفعال الجوارح بالاُمور النفسيّة كان ذلك منتجاً أنّ صدور مهام الأفعال و عظائم الأعمال يتوقّف على اُسّ معنويّ و مبني قوىّ نفسي كتوقّف جلائل الاُمور على الصبر و الثبات و علوّ الهمّة و قوّة العزيمة و توقّف النجاح في العبوديّة على حقّ التقوى و الورع عن محارم الله.

و من هنا يظهر أنّ قوله تعالى:( لَسْتُمْ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ) كناية عن عدم اعتمادهم على شي‏ء يثبت عليه أقدامهم فيقدروا بذلك على إقامة التوراة و الإنجيل و ما اُنزل إليهم من ربّهم تلويحاً إلى أنّ دين الله و حكمه لها من الثقل ما لا يتيسّر حمله للإنسان حتّى يعتمد على أساس ثابت و لا يمكنه إقامته بمجرّد هوى من نفسه كما يشير تعالى إلى ذلك بالنسبة إلى القرآن الكريم بقوله:( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ) المزمل: ٥، و قوله:( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى‏ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) الحشر: ٢١، و قوله:( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها ) الآية: الأحزاب: ٧٢.

و قال في أمر التوراة خطاباً لموسىعليه‌السلام :( فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها ) الأعراف: ١٤٥، و قال خطاباً لبني إسرائيل:( خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ ) البقرة: ٦٣ و قال خطاباً ليحييعليه‌السلام :( يا يَحْيى‏ خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ ) مريم: ١٢.

٦٧

فيعود المعنى إلى أنّكم فاقدو العماد الّذي يجب عليكم أن تعتمدوا عليه في إقامة دين الله الّذي أنزل إليكم في كتبه و هو التقوى و الإنابة إلى الله بالرجوع إليه مرّة بعد اُخرى و الاتّصال به و الإيواء إلى ركنه بل مستكبرون عن طاعته و متعدّون حدوده.

و يظهر هذا المعنى من قوله تعالى خطاباً لنبيّه و المؤمنين:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى) فجمع الدين كلّه فيما ذكره، ثمّ قال:( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) فبيّن أنّ ذلك كلّه يرجع إلى إقامة الدين كلمة واحدة من غير تفرّق ثمّ قال:( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) و ذلك لكبر الاتّفاق و الاستقامة في اتّباع الدين عليهم، ثمّ قال:( اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) فأنبأ أنّ إقامة الدين لا يتيسّر إلّا بهداية من الله، و لا يصلح لها إلّا المتّصف بالإنابة الّتي هي الاتّصال بالله و عدم الانقطاع عنه بالرجوع إليه مرّة بعد اُخرى، ثمّ قال:( وَ ما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) فذكر أنّ السبب في تفرّقهم و عدم إقامتهم للدين هو بغيهم و تعدّيهم عن الوسط العدل المضروب لهم الشورى: ١٤.

و قال أيضاً في نظيرتها من الآيات:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) الروم: ٣٢ فذكر فيها أيضاً أنّ الوسيلة إلى إقامة دين الفطرة الإنابة إلى الله، و حفظ الاتّصال بحضرته، و عدم الانقطاع عن سببه.

و قد أشار إلى هذه الحقيقة في الآيات السابقة على هذه الآية المبحوث عنها أيضاً حيث ذكر أنّ الله لعن اليهود و غضب عليهم لتعدّيهم حدوده فألقى بينهم العداوة و البغضاء، و ذكر هذا المعنى في غير هذا المورد في خصوص النصارى بقوله:( فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) المائدة: ١٤.

و قد حذّر الله سبحانه المسلمين عن مثل هذه المصيبة المؤلمة الّتي سيحلّها على

٦٨

أهل الكتاب من اليهود و النصارى، و أنبأهم أنّهم لا يتيسّر و لن يتيسّر لهم إقامة التوراة و الإنجيل و ما اُنزل إليهم من ربّهم، و قد صدّق جريان التاريخ ما أخبر به الكتاب من تشتّت المذاهب فيهم و إلقاء العداوة و البغضاء بينهم، فحذّر الاُمّة الإسلاميّة أن يردوا موردهم في الانقطاع عن ربّهم، و عدم الإنابة إليه في قوله:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ) الروم: ٣٠ في عدّة آيات من السورة.

و قد تقدّم البحث عن بعض الآيات الملوّحة إلى ذلك في ما تقدّم من أجزاء الكتاب و سيأتي الكلام على بعض آخر منها إن شاء الله تعالى.

و أمّا قوله تعالى:( وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً ) فقد تقدّم البحث عن معناه، و قوله:( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) تسلية منه تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صورة النهي عن الأسى.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ وَ النَّصارى) (الآية) ظاهرها أنّ الصابئون عطف على( الَّذِينَ آمَنُوا ) بحسب موضعه و جماعة من النحويّين يمنعون العطف على اسم إنّ بالرفع قبل مضيّ الخبر، و الآية حجّة عليهم.

و الآية في مقام بيان أن لا عبرة في باب السعادة بالأسماء و الألقاب كتسمّي جمع بالمؤمنين و فرقة بالّذين هادوا، و طائفة بالصابئين و آخرين بالنصارى، و إنّما العبرة بالإيمان بالله و اليوم الآخر و العمل الصالح، و قد تقدّم البحث عن معنى الآية في تفسير سورة البقرة الآية ٦٢ في الجزء الأوّل من الكتاب.

قوله تعالى: ( لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ) (إلى آخر الآية) هذه الآية و ما بعدها إلى عدّة آيات تتعرّض لحال أهل الكتاب كالحجّة على ما يشتمل عليه قوله تعالى:( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ ) إلخ، فإنّ هذه الجرائم و الآثام لا تدع للإنسان اتّصالاً بربّه حتّى يقيم كتب الله معتمداً عليه.

و يحتمل أن تكون الآيات مرتبطة بقوله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا ) إلخ، فيكون تصديقاً بأنّ الأسماء و الألقاب لا تنفع شيئاً في مرحلة السعادة إذ لو

٦٩

نفعت لصدّت هؤلاء عن قتل الأنبياء و تكذيبهم و الهلاك بمهلكات الفتن و موبقات الذنوب.

و يمكن أن يكون هذه الآيات كالمبيّنة لقوله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا ) إلخ، و هو كالمبيّن لقوله:( يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ) (الآية) و المعنى ظاهر.

و قوله:( فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ ) الظاهر أنّ كلمتي( فَرِيقاً ) في الموضعين مفعولان للفعلين بعدهما قدّما عليهما للعناية بأمرهما، و التقدير: كذّبوا فريقاً و يقتلون فريقاً، و المجموع جواب قوله:( كُلَّما جاءَهُمْ ) إلخ، و المعنى نحو من قولنا: كلّما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم أساؤوا مواجهته و إجابته و جعلوا الرسل الآتين فريقين: فريقاً كذّبوا و فريقاً يقتلون.

قال في المجمع: فإن قيل: لم عطف المستقبل على الماضي يعني في قوله:( فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ ) ؟ فجوابه: ليدلّ على أنّ ذلك من شأنهم ففيه معنى كذّبوا و قتلوا و يكذّبون و يقتلون مع أنّ قوله:( يَقْتُلُونَ ) فاصلة يجب أن يكون موافقاً لرؤس الآي، انتهى.

قوله تعالى: ( وَ حَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَ صَمُّوا ) إلخ، متمّم للكلام في الآية السابقة، و الحسبان هو الظنّ، و الفتنة هي المحنة الّتي تغرّ الإنسان أو هي أعمّ من كلّ شرّ و بليّة، و العمى هو عدم إبصار الحقّ و عدم تمييز الخير من الشرّ، و الصمم عدم سماع العظة و عدم الإعباء بالنصيحة، و هذا العمى و الصمم معلولا حسبانهم أن لا تكون فتنة، و الظاهر أنّ حسبانهم ذلك معلول ما قدّروا لأنفسهم من الكرامة بكونهم من شعب إسرائيل و أنّهم أبناء الله و أحبّاؤه فلا يمسّهم السوء و إن فعلوا ما فعلوا و ارتكبوا ما ارتكبوا.

فمعنى الآية - و الله أعلم - أنّهم لمكان ما اعتقدوا لأنفسهم من كرامة التهوّد ظنّوا أن لا يصيبهم سوء أو لا يفتنون بما فعلوا فأعمى ذلك الظنّ و الحسبان أبصارهم عن إبصار الحقّ، و أصمّ ذلك آذانهم عن سماع ما ينفعهم من دعوة أنبيائهم.

٧٠

و هذا ممّا يرجّح ما احتملناه أنّ الآيات كالحجّة المبيّنة لقوله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا ) (الآية) فمحصّل المعنى أنّ الأسماء و الألقاب لا تنفع أحداً شيئاً فهؤلاء اليهود لم ينفعهم ما قدّروا لأنفسهم من الكرامة بالتسمّي بل أعماهم و أوردهم مورد الهلكة و الفتنة لما كذّبوا أنبياء الله و قتلوهم.

قوله تعالى: ( ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) التوبة من الله على عباده رجوعه تعالى بالرحمة إليهم، و هذا يدلّ على أنّ الله سبحانه قد كان بعّدهم من رحمته و عنايته و لذلك أخذهم الحسبان المذكور و لزمهم العمى و الصمم، لكنّ الله سبحانه رجع إليهم ثانياً بالتوبة فرفع هذا الحسبان عن قلوبهم، و العمى و الصمم عن أبصارهم و آذانهم، فعرفوا أنفسهم بأنّهم عباد لا كرامة لهم على الله إلّا بالتقوى، و أبصروا الحقّ و سمعوا عظة الله لهم بلسان أنبيائه فتبيّن لهم أنّ التسمّي لا ينفع شيئاً.

ثمّ عموا و صمّوا كثير منهم، و إسناد العمى و الصمم إلى جمعهم أوّلاً ثمّ إلى كثير منهم - بإتيان كثير منهم بدلاً من واو الجمع - أخذٌ بالنصفة في الكلام بالدلالة على أنّ إسناد العمى و الصمم إلى جمعهم من قبيل إسناد حكم البعض إلى الكلّ، و الواقع أنّ المتّصف بهاتين الصفتين كثير منهم لا كلّهمأوّلاً ، و إيماء إلى أنّ العمى و الصمم المذكورين أوّلاً شملا جميعهم على ما يدلّ عليه المقابلةثانياً ، و أنّ التوبة الإلهيّة لم يبطل أثرها و لم تذهب سدىّ بالمرّة بل نجا بالتوبة بعضهم فلم يأخذهم العمى و الصمم اللّاحقان أخيراًثالثاً .

ثمّ ختم تعالى الآية بقوله:( وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) للدلالة على أنّ الله تعالى لا يغفله شي‏ء، فغيره تعالى إذا أكرم قوماً بكرامة ضرب ذلك على بصره بحجاب يمنعه أن يرى منهم السوء و المكروه، و ليس الله سبحانه على هذا النعت بل هو البصير لا يحجبه شي‏ء عن شي‏ء.

قوله تعالى: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) و هذا كالبيان لكون النصارى لم تنفعهم النصرانيّة و الانتساب إلى المسيحعليه‌السلام عن تعلّق

٧١

الكفر بهم إذ أشركوا بالله و لم يؤمنوا به حقّ إيمانه حيث قالوا: إنّ الله هو المسيح بن مريم.

و النصارى و إن اختلفوا في كيفيّة اشتمال المسيح بن مريم على جوهرة الاُلوهيّة بين قائل باشتقاق اُقنوم المسيح و هو العلم من اُقنوم الربّ (تعالى) و هو الحياة، و ذلك الاُبوّة و البنوّة، و قائل بأنّه تعالى صار هو المسيح على نحو الانقلاب، و قائل بأنّه حلّ فيه كما تقدّم بيان ذلك تفصيلاً في الكلام على عيسى بن مريمعليه‌السلام في تفسير سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب.

لكنّ الأقوال الثلاثة جميعاً تقبل الانطباق على هذه الكلمة (إنّ الله هو المسيح بن مريم) فالظاهر أنّ المراد بالّذين تفوّهوا بهذه الكلمة جميع النصارى الغالين في المسيحعليه‌السلام لا خصوص القائلين منهم بالانقلاب.

و توصيف المسيح بابن مريم لا يخلو من دلالة أو إشعار بسبب كفرهم و هو نسبة الاُلوهيّة إلى إنسان ابن إنسان مخلوقين من تراب، و أين التراب و ربّ الأرباب؟!

قوله تعالى: ( وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ ) (إلى آخر الآية) احتجاج على كفرهم و بطلان قولهم بقول المسيحعليه‌السلام نفسه فإنّ قولهعليه‌السلام :( اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ ) يدلّ على أنّه عبد مربوب مثلهم، و قوله:( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ) يدلّ على أنّ من يجعل لله شريكاً في اُلوهيّته فهو مشرك كافر محرّم عليه الجنّة.

و في قوله تعالى حكاية عنهعليه‌السلام :( فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ) عناية بإبطال ما ينسبونه إلى المسيح من حديث التفدية، و أنّهعليه‌السلام باختياره الصلب فدى بنفسه عنهم فهم مغفور لهم مرفوع عنهم التكاليف الإلهيّة و مصيرهم إلى الجنّة و لا يمسّون ناراً كما تقدّم نقل ذلك عنهم في تفسير سورة آل عمران في قصّة عيسىعليه‌السلام فقصّة التفدية و الصلب إنّما سيقت لهذا الغرض.

و ما تحكيه الآية من قولهعليه‌السلام موجود في متفرّقات الأبواب من الأناجيل

٧٢

كالأمر بالتوحيد،(١) و إبطال عبادة المشرك،(٢) و الحكم بخلود الظالمين في النار(٣) .

قوله تعالى: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ) أي أحد الثلاثة: الأب و الابن و الروح، أي هو ينطبق على كلّ واحد من الثلاثة، و هذا لازم قولهم: إنّ الأب إله، و الابن إله، و الروح إله، و هو ثلاثة، و هو واحد يضاهئون بذلك نظير قولنا: إنّ زيد بن عمرو إنسان، فهناك اُمور ثلاثة هي: زيد و ابن عمرو و الإنسان، و هناك أمر واحد و هو المنعوت بهذه النعوت، و قد غفلوا عن أنّ هذه الكثرة إن كانت حقيقيّة غير اعتباريّة أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة، و أنّ المنعوت إن كان واحداً حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة اعتباريّة غير حقيقيّة فالجمع بين هذه الكثرة العدديّة و الوحدة العدديّة في زيد المنعوت بحسب الحقيقة ممّا يستنكف العقل عن تعقّله.

و لذا ربّما ذكر بعض الدعاة من النصارى أنّ مسألة التثليث من المسائل المأثورة من مذاهب الأسلاف الّتي لا تقبل الحلّ بحسب الموازين العلميّة، و لم يتنبّه أنّ عليه أن يطالب الدليل على كلّ دعوى يقرع سمعه سواء كان من دعاوي الأسلاف أو من دعاوي الأخلاف.

قوله تعالى: ( وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ ) (إلى آخر الآية) ردّ منه تعالى لقولهم:( إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ) بأنّ الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية الكثرة بوجه من الوجوه فهو تعالى في ذاته واحد، و إذا اتّصف بصفاته الكريمة و أسمائه الحسنى لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئاً و لا الصفة إذا اُضيفت إلى الصفة أورث ذلك كثرة و تعدّداً فهو تعالى أحديّ الذات لا ينقسم لا في خارج و لا في وهم و لا في عقل.

فليس الله سبحانه بحيث يتجزّؤ في ذاته إلى شي‏ء و شي‏ء قطّ، و لا أنّ ذاته بحيث يجوز أن يضاف إليه شي‏ء فيصير اثنين أو أكثر، كيف؟ و هو تعالى مع هذا الشي‏ء الّذي تراد إضافته إليه تعالى في وهم أو فرض أو خارج.

____________________

(١) الإصحاح ١٢: ٢٩ (إنجيل مرقس).

(٢) الإصحاح ٦: ٢٤ (إنجيل متى).

(٣) الإصحاح ١٣: ٥٠، ٢٥: ٣١ ٤٧ (إنجيل متى أيضاً).

٧٣

فهو تعالى واحد في ذاته لكن لا بالوحدة العدديّة الّتي لسائر الأشياء المتكوّن منها الكثرات، و لا منعوت بكثرة في ذات أو اسم، أو صفة، كيف؟ و هذه الوحدة العدديّة و الكثرة المتألّفة منها كلتاهما من آثار صنعه و إيجاده فكيف يتّصف بما هو من صنعه؟.

و في قوله تعالى:( وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ ) من التأكيد في إثبات التوحيد ما ليس في غيره حيث سيق الكلام بنحو النفي و الاستثناء، ثمّ اُدخل( مِنْ ) على النفي لإفادة تأكيد الاستغراق، ثمّ جي‏ء بالمستثنى و هو قوله:( إِلهٌ واحِدٌ ) بالتنكير المفيد للتنويع و لو اُورد معرفة كقولنا( إلّا الإله الواحد) لم يفد ما يرام من حقيقة التوحيد.

فالمعنى: ليس في الوجود شي‏ء من جنس الإله أصلاً إلّا إله واحد نوعاً من الوحدة لا يقبل التعدّد أصلاً لا تعدّد الذات و لا تعدّد الصفات، لا خارجاً و لا فرضاً، و لو قيل: و ما من إله إلّا الله الواحد لم يدفع به قول النصارى (إنّ الله ثالث ثلاثة) فإنّهم لا ينكرون الوحدة فيه تعالى، و إنّما يقولون: إنّه ذات واحدة لها تعيّن بصفاتها الثلاث، و هي واحدة في عين أنّها كثيرة حقيقة.

و لا يندفع ما احتملوه من المعنى إلّا بإثبات وحدة لا تتألّف منه كثرة أصلاً، و هو الّذي يتوخّاه القرآن الكريم بقوله:( وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ ) .

و هذا من لطائف المعاني الّتي يلوح إليها الكتاب الإلهيّ في حقيقة معنى التوحيد و سنغور في البحث المستوفى عنه في بحث قرآنيّ خاصّ ثمّ في بحث عقليّ و آخر نقليّ إيفاءً لحقّه.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) تهديد لهم بالعذاب الأليم الاُخروي الّذي هو ظاهر الآية الكريمة.

و لما كان القول بالتثليث الّذي تتضمّنه كلمة:( إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ) ليس في وسع عقول عامّة الناس أن تتعقّله فأغلب النصارى يتلقّونه قولاً مذهبيّاً مسلّماً بلفظة من غير أن يعقلوا معناه، و لا أن يطمعوا في تعقّله كما ليس في وسع العقل السليم أن

٧٤

يعقله عقلاً صحيحاً، و إنّما يتعقّل كتعقّل الفروض المحالة كالإنسان اللاإنسان، و العدد الّذي ليس بواحد و لا كثير و لا زوج و لا فرد فلذلك تتسلّمه العامّة تسلّماً من غير بحث عن معناه، و إنّما يعتقدون في البنوّة و الاُبوّة شبه معنى التشريف فهؤلاء في الحقيقة ليسوا من أهل التثليث، و إنّما يمضغون الكلمة مضغاً، و ينتمون إليها انتماءً بخلاف غير العامّة منهم و هم الّذين ينسب الله سبحانه إليهم اختلاف المذاهب و يقرّر أنّ ذلك ببغيهم كما قال تعالى:( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ - إلى أن قال -وَ ما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) الشورى: ١٤.

فالكفر الحقيقيّ الّذي لا ينتهي إلى استضعاف - و هو الّذي فيه إنكار التوحيد و التكذيب بآيات الله - إنّما يتمّ في بعضهم دون كلّهم، و إنّما أوعد الله بالنار الخالد الّذين كفروا و كذّبوا بآيات الله، قال:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) البقرة: ٣٩ إلى غير ذلك من الآيات، و قد مرّ الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى:( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ ) الآية: النساء: ٩٨.

و لعلّ هذا هو السرّ في التبعيض الظاهر من قوله:( لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ ) أو أنّ المراد به الإشارة إلى أنّ من النصارى من لا يقول بالتثليث، و لا يعتقد في المسيح إلّا أنّه عبدالله و رسوله، كما كانت على ذلك مسيحيّو الحبشة و غيرها على ما ضبطه التاريخ فالمعنى: لئن لم ينته النصارى عمّا يقولون (نسبة قول بعض الجماعة إلى جميعهم) ليمسّنّ الّذين كفروا منهم - و هم القائلون بالتثليث منهم - عذاب أليم.

و ربّما وجّهوا الكلام أعني قوله:( لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ ) بأنّه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر، و الأصل: ليمسّنّهم (انتهى)، و إنّما عدل إلى وضع الموصول و صلته مكانه ليدلّ على أنّ ذلك القول كفر بالله، و أنّ الكفر سبب العذاب الّذي توعّدهم به.

و هذا وجه لا بأس به لو لا أنّ الآية مصدرة بقوله:( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ) و نظيره في البعد قول بعض آخر: إنّ( من ) في قوله:( مِنْهُمْ ) بيانيّة فإنّه قول من غير دليل.

٧٥

قوله تعالى: ( أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) تحضيض على التوبة و الاستغفار، و تذكير بمغفرة الله و رحمته، أو إنكار أو توبيخ.

قوله تعالى: ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ) ردّ لقولهم:( إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ) أو لقولهم هذا و قولهم المحكيّ في الآية السابقة:( إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) جميعاً، و محصّله اشتمال المسيح على جوهرة الاُلوهيّة، بأنّ المسيح لا يفارق سائر رسل الله الّذين توفّاهم الله من قبله كانوا بشراً مرسلين من غير أن يكونوا أرباباً من دون الله سبحانه، و كذلك اُمّه مريم كانت صدّيقة تصدّق بآيات الله تعالى و هي بشر، و قد كان هو و اُمّه جميعاً يأكلان الطعام، و أكل الطعام مع ما يتعقّبه مبنيّ على أساس الحاجة الّتي هو أوّل أمارة من أمارات الإمكان و المصنوعيّة فقد كان المسيحعليه‌السلام ممكناً متولّداً من ممكن، و عبداً و رسولاً مخلوقاً من اُمّه كانا يعبدان الله، و يجريان في سبيل الحاجة و الافتقار من دون أن يكون ربّاً.

و ما بيد القوم من كتب الإنجيل معترفة بذلك تصرّح بكون مريم فتاة كانت تؤمن بالله و تعبده، و تصرّح بأنّ عيسى تولّد منها كالإنسان من الإنسان، و تصرّح بأنّ عيسى كان رسولاً من الله إلى الناس كسائر الرسل و تصرّح بأنّ عيسى و اُمّه مريم كانا يأكلان الطعام.

فهذه اُمور صرّحت بها الأناجيل، و هي حجج على كونهعليه‌السلام عبداً رسولاً.

و يمكن أن تكون الآية مسوقة لنفي اُلوهيّة المسيح و اُمّه كليهما على ما يظهر من قوله تعالى:( أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) المائدة: ١١٦ أنّه كان هناك من يقول باُلوهيّتها كالمسيح أو أنّ المراد به اتّخاذها إلهاً كما ينسب إلى أهل الكتاب أنّهم اتّخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباباً من دون الله، و ذلك بالخضوع لها و لهم بما لا يخضع لبشر بمثله.

و كيف كان فالآية على هذا التقدير تنفي عن المسيح و اُمّه معاً الاُلوهيّة بأنّ

٧٦

المسيح كان رسولاً كسائر الرسل، و اُمّه كانت صديقة، و هما معاً كانا يأكلان الطعام، و ذلك كلّه ينافي الاُلوهيّة.

و في قوله تعالى:( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) حيث وصف الرسل بالخلوّ من قبله، و هو الموت تأكيد للحجّة بكونه بشراً يجوز عليه الموت و الحياة كما جاز على الرسل من قبله.

قوله تعالى: ( انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو في مقام التعجيب أي تعجّب من كيفيّة بياننا لهم الآيات، و هو أوضح بيان لأظهر آية في بطلان دعواهم اُلوهيّة المسيح، و كيفيّة صرفهم عن تعقّل هذه الآيات فإلى أيّ غاية يصرفون عنها، و لا تلتفت إلى نتيجتها - و هي بطلان دعواهم - عقولهم؟.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ اللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) كان الخضوع لأمر الربوبيّة إنّما انتشر بين البشر في أقدم عهوده، و خاصّة بين العامّة منهم - و عامّتهم كانوا يعبدون الأصنام - طمعاً في أن يدفع الربّ عنهم الشرّ و يوصل إليهم النفع كما يتحصّل من الأبحاث التاريخيّة، و أمّا عبادة الله لأنّه الله عزّ اسمه فلم يكن يعدو الخواصّ منهم كالأنبياء و الربّانيّين من اُممهم.

فأمر الله سبحانه رسوله أن يخاطبهم خطاب البشر الساذج الجاري على ما تلهمه فطرته الساذجة في عبادة الله كما خاطب الوثنيّين و عبّاد الأصنام بذلك فيذكرهم أنّ الذي يضطرّ الإنسان بعبادة الربّ هو أنّه يرى أزمّة الخير و الشرّ و النفع و الضرّ بيده فيعبده لأنّه يملك الضرّ و النفع طمعاً في أن يدفع عنه الضرّ و يوصل إليه الخير لعبادته له.

و كلّ ما هو دون الله تعالى لا يملك شيئاً من ضرّ و لا نفع لأنّه مملوك لله محضاً مسلوب عنه القدرة في نفسه فكيف يسوغ تخصيصه بالعبادة، و إشراكه مع ربّه الّذي هو المالك له و لغيره، و قد كان من الواجب أن يخصّ هو تعالى بالعبادة، و لا يتعدّى عنه إلى غيره لأنّه هو الّذي يختصّ به السمع و الإجابة فيسمع و يجيب المضطرّ إذ

٧٧

دعاه، و هو الّذي يعلم حوائج عباده و لا يغفل عنها و لا يغلط فيها بخلاف غيره تعالى فإنّه إنّما يملك ما ملّكه الله، و يقوى على ما قوّاه الله سبحانه.

فقد تبيّن بهذا البيان:أوّلاً: أنّ الحجّة الّتي تشتمل عليها هذه الآية غير الحجّة الّتي تشتمل عليها الآية السابقة و إن توقّفتا معاً على مقدّمة مشتركة، و هي كون المسيح و اُمّه ممكنين محتاجين، فالآية السابقة حجّتها أنّ المسيح و اُمّه كانا بشرين محتاجين عبدين مطيعين لله سبحانه، و من كان حاله هذا الحال لم يصحّ أن يكون إلهاً معبوداً، و حجّة هذه الآية: أنّ المسيح ممكن محتاج مملوك بنفسه لا يملك ضرّاً و لا نفعاً، و من كان حاله هذا الحال لم يستقم اُلوهيّته و عبادته من دون الله.

و ثانياً: أنّ الحجّة مأخوذة ممّا يدركه الفهم البسيط و العقل الساذج من جهة غرض الإنسان البسيط في عبادته فإنّه إنّما يتّخذ ربّاً و يعبده ليدفع عنه الضرّ و يجلب إليه النفع، و هذا إنّما يملكه الله تعالى دون غيره، فلا غرض يتعلّق بعبادة غير الله فمن الواجب أن يرفض عبادته.

و ثالثاً: أنّ قوله:( ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً ) إنّما اُخذت فيه لفظة( ما ) دون لفظة( من ) مع أنّ المسيح من اُولي العقل لأنّ الحجّة بعينها هي الّتي تقام على الوثنيّين و عبدة الأصنام الّتي لا شعور لها، و لا دخل في كون المسيحعليه‌السلام من اُولي العقل في تمام الحجّة فهي تامّة في كلّ معبود مفروض دون الله سبحانه.

على أنّ غيره تعالى و إن كان من اُولي العقل و الشعور لا يملكون شيئاً من العقل و الشعور من عند أنفسهم كسائر ما ينسب إليهم من شؤون وجودهم قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ ) الأعراف: ١٩٥.

و كذلك تقديم الضرّ على النفع في قوله:( ضَرًّا وَ لا نَفْعاً ) للجري على وفق ما تدركه و تدعوا إليه الفطرة الساذجة كما مرّ، فإنّ الإنسان بحسب الطبع يرى ما تلبّس به من النعم الموجودة عنده ما دامت عنده مملوكة لنفسه لا تلتفت نفسه إلى إمكان فقدها

٧٨

و لا تتصوّر ألمه عند فقدها بخلاف المضارّ الّتي يجدها بالفعل، و النعم الّتي يفتقدها و يجد ألم فقدها، فإنّ الفطرة تنبّهها إلى الالتجاء إلى ربّ يدفع عنها الضرّ و الضير، و يجلب إليها النعمة المسلوبة كما قال تعالى:( وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى‏ ضُرٍّ مَسَّهُ ) يونس: ١٢، و قال تعالى:( وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي ) حم السجدة: ٥٠، و قال تعالى:( وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى‏ بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ ) حم السجدة: ٥١.

فتحصّل أنّ مسّ الضرّ أبعث للإنسان إلى الخضوع للربّ و عبادته من وجدان النفع، و لذلك قدّم الله سبحانه الضرّ على النفع في قوله:( ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً ) و كذا في سائر الموارد الّتي تماثله كقوله:( اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً ) الفرقان: ٣.

و رابعاً: أنّ مجموع الآية:( أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) إلى آخرها حجّة على وجوب قصر العبادة في الله سبحانه من دون إشراك غيره معه و هي منحلّة إلى حجّتين ملخّصهما: أنّ اتّخاذ الإله و عبادة الربّ إنّما هو لغرض دفع الضرّ و جلب النفع فيجب أن يكون الإله المعبود مالكاً لذلك و لا يجوز عبادة من لا يملك شيئاً، و الله سبحانه هو السميع المجيب للدعوة العليم بكنه الحاجة من غير جهل دون غيره فوجب عبادته من غير إشراك غيره.

قوله تعالى: ( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ) خطاب آخر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمره أن يدعو أهل الكتاب إلى عدم الغلوّ في دينهم، و أهل الكتاب و خاصّة النصارى مبتلون بذلك، و( الغالي) المتجاوز عن الحدّ بالإفراط، و يقابله( القالي) في طرف التفريط.

و دين الله الّذي يفسّره كتبه المنزّلة يأمر بالتوحيد و نفي الشريك و ينهى عن اتّخاذ الشركاء لله سبحانه، و قد ابتلي بذلك أهل الكتاب عامّة اليهود و النصارى،

٧٩

و إن كان أمر النصارى في ذلك أشنع و أفظع قال تعالى:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَ قالَتِ النَّصارى‏ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) التوبة: ٣١.

و القول بأنّ عزيراً ابن الله و إن كان غير ظاهر اليوم عند اليهود لكنّ الآية تشهد بأنّهم كانوا يقولون ذلك في عصر النزول.

و الظاهر أنّ ذلك كان لقباً تشريفيّاً يلقّبونه به قبال ما خدمهم و أحسن إليهم في إرجاعهم إلى اُورشليم (بيت المقدّس) بعد أسارة بابل، و جمع لهم التوراة ثانياً بعد ضياعه في قصّة بخت نصر، و قد كانوا يعدّون بنوّة الله لقباً تشريفيّاً كما يتّخذ النصارى اليوم الاُبوّة كذلك و يسمّون الباباوات و البطارقة و القسّيسين بالآباء (الباب و البابا: الأب) و قد قال تعالى:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى‏ نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ ) المائدة: ١٨.

بل الآية الثانية أعني قوله:( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ) تدلّ على ذلك حيث اقتصر فيها على ذكر المسيحعليه‌السلام ، و لم يذكر عزيراً فدلّ على دخوله في عموم قوله:( أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ ) و أنّهم إنّما كانوا يسمّونه ابن الله كما يسمّون أحبارهم أبناء الله، و قد خصّوه بالذكر وحده شكراً لإحسانه إليهم كما تقدّمت الإشارة إليه.

و بالجملة وضعهم بعض أنبيائهم و أحبارهم و رهبانهم موضع الربوبيّة و خضوعهم لهم بما لا يخضع بمثله إلّا لله سبحانه غلوّ منهم في دينهم ينهاهم الله عن ذلك بلسان نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و تقييد الغلوّ في الدين بغير الحقّ - و لا يكون الغلوّ إلّا كذلك - إنّما هو للتأكيد و تذكير لازم المعنى مع ملزومه لئلّا يذهل عنه السامع و قد ذهل حين غلا أو كان كالذاهل.

٨٠