الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 401
المشاهدات: 80769
تحميل: 7042


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80769 / تحميل: 7042
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 6

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و إطلاق الأب على الله سبحانه بتحليل معناه و تجريده عن وسمة نواقص المادّة الجسمانيّة أي من بيده الإيجاد و التربية، و كذلك الابن بمعناه المجرّد التحليليّ و إن لم يمنعه العقل لكنّه ممنوع شرعاً لتوقيفيّة أسماء الله سبحانه لما في التوسّع في إطلاق الأسماء المختلفة عليه تعالى من المفاسد، و كفى مفسدة في إطلاق الأب و الابن ما لقيته الاُمّتان: اليهود و النصارى و خاصّة النصارى من أولياء الكنيسة خلال قرون متمادية و لن يزال الأمر على ذلك.

قوله تعالى: ( وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ ) ظاهر السياق أنّ المراد بهؤلاء القوم الّذين نهوا عن اتّباع أهوائهم هم المتبوعون المطاعون في آرائهم و أوامرهم فيكون ضلالهم لمكان التزامهم بآرائهم، إضلالهم كثيراً هو اتّباع غيرهم لهم، و ضلالهم عن سواء السبيل هو المتحصّل لهم من ضلالهم و إضلالهم، و هو ضلال على ضلال.

و كذلك ظاهر السياق أنّ المراد بهم هم الوثنيّة و عبدة الأصنام فإنّ ظاهر السياق أنّ الخطاب إنّما هو لجميع أهل الكتاب لا للمعاصرين منهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى يكون نهياً لمتأخّريهم عن اتّباع متقدّميهم.

و يؤيّده بل يدلّ عليه قوله تعالى:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَ قالَتِ النَّصارى‏ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ) التوبة: ٣٠.

فيكون ذلك حقيقة تحليليّة تاريخيّة أشار إليها القرآن الكريم هي أنّ القول بالاُبوّة و البنوّة ممّا تسرّب إلى أهل الكتاب من قبل من تقدّمهم من الوثنيّة، و قد تقدّم في الكلام على قصص المسيحعليه‌السلام في سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب أنّ هذا القول في جملة من الأقوال و الآراء موجود عند الوثنيّة البرهمنيّة و البوذيّة في الهند و الصين، و كذلك مصر القديم و غيرهم، و إنّما أخذ بالتسرّب في الملّة الكتابيّة بيد دعاتها، فظهر في زيّ الدين و كان الاسم لدين التوحيد و المسمّى للوثنيّة.

قوله تعالى: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى

٨١

ابْنِ مَرْيَمَ ) إلى آخر الآيتين إخبار بأنّ الكافرين منهم ملعونون بلسان أنبيائهم، و فيه تعريض لهؤلاء الّذين كفّرهم الله في هذه الآيات من اليهود ملعونين بدعوة أنبيائهم أنفسهم، و ذلك بسبب عصيانهم لأنبيائهم، و هم كانوا مستمرّين على الاعتداء و قوله:( كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ) إلخ بيان لقوله:( وَ كانُوا يَعْتَدُونَ ) .

قوله تعالى: ( تَرى‏ كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلخ، و هذا من قبيل الاستشهاد بالحسّ على كونهم معتدين فإنّهم لو قدروا دينهم حقّ قدره لزموه و لم يعتدّوه، و لازم ذلك أن يتولّوا أهل التوحيد و يتبرّؤا من الّذين كفروا لأنّ أعداء ما يقدّسه قوم أعداء لذلك القوم، فإذا تحابّوا و توالوا دلّ ذلك على إعراض ذلك القوم و تركهم ما كانوا يقدّسونه و يحترمونه، و صديق العدوّ عدوّ، ثمّ ذمّهم الله تعالى بقوله:( لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ ) و هو ولاية الكفّار عن هوى النفس، و كان جزاؤه و وباله( أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ ) ، ففي الآية وضع جزاء العمل و عاقبته موضع العمل كأنّ أنفسهم قدّمت لهم جزاء العمل بتقديم نفس العمل.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ النَّبِيِّ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) أي و لو كان أهل الكتاب هؤلاء يؤمنون بالله و النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ما اُنزل إليه، أو نبيّ أنفسهم كموسى مثلاً و ما اُنزل إليه كالتوراة مثلاً ما اتّخذوا اُولئك الكفّار أولياء لأنّ الإيمان يجب سائر الأسباب، و لكنّ كثيراً منهم فاسقون متمرّدون عن الإيمان.

و في الآية وجه آخر احتملوه، و هو أن يرجع ضمائر قوله:( كانُوا ) و( يُؤْمِنُونَ ) و( اتَّخَذُوهُمْ ) في قوله:( مَا اتَّخَذُوهُمْ ) راجعة إلى الّذين كفروا، و المعنى: و لو كان الّذين كفروا اُولئك الكفّار الّذين يتولّاهم أهل الكتاب يؤمنون بالله و النبيّ و القرآن ما اتّخذتهم أهل الكتاب أولياء، و إنّما تولّوهم لمكان كفرهم، و هذا وجه لا بأس به غير أنّ الإضراب في قوله:( وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) لا يلائمه.

قوله تعالى:( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا - إلى قوله -نَصارى) لما بيّن سبحانه في الآيات السابقة الرذائل المشتركة بين أهل

٨٢

الكتاب عامّة، و بعض ما يختصّ ببعضهم كقول اليهود:( يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) و قول النصارى:( إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) ختم الآيات بما يختصّ به كلّ من الطائفين إذا قيس حالهم من المؤمنين و دينهم، و أضاف إلى حالهم حال المشركين ليتمّ الكلام في وقع الإسلام من قلوب الاُمم غير المسلمة من حيث قربهم و بعدهم من قبوله.

و يتمّ الكلام في أنّ النصارى أقرب تلك الاُمم مودّة للمسلمين و أسمع لدعوتهم الحقّة.

و إنّما عدّهم الله سبحانه أقرب مودّة للمسلمين لما وقع من إيمان طائفة منهم بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يدلّ عليه قوله في الآية التالية:( وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ) إلخ، لكن لو كان إيمان طائفة تصحّح هذه النسبة إلى جميعهم كان من الواجب أن تعدّ اليهود و المشركون كمثل النصارى و ينسب إليهما نظير ما نسب إليهم لمكان إسلام طائفة من اليهود كعبد الله بن سلام و أصحابه، و إسلام عدّة من مشركي العرب و هم عامّة المسلمين اليوم فتخصيص النصارى بمثل قوله:( وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ ) إلخ، دون اليهود و المشركين يدلّ على حسن إقبالهم على الدعوة الإسلاميّة و إجابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنّهم على خيار بين أن يقيموا على دينهم و يؤدّوا الجزية، و بين أن يقبلوا الإسلام، أو يحاربوا.

و هذا بخلاف المشركين فإنّهم لم يكن يقبل منهم إلّا قبول الدعوة فكثرة المؤمنين منهم لا يدلّ على حسن الإجابة، على ما كابد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جفوتهم و لقاه المسلمون من أيديهم بقسوتهم و نخوتهم.

و كذلك اليهود و إن كانوا كالنصارى في إمكان إقامتهم على دينهم و تأدية الجزية إلى المسلمين لكنّهم تمادوا في نخوتهم، و تصلّبوا في عصبيّتهم، و أخذوا بالمكر و المكيدة، و نقضوا عهودهم، و تربّصوا الدوائر على المسلمين، و مسّوهم بأمر المسّ و آلمه.

و هذا الّذي جرى من أمر النصارى مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الدعوة الإسلاميّة، و حسن إجابتهم، و كذا من أمر اليهود و المشركين في التمادي على الاستكبار و العصبيّة جرى بعينه بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حذو ما جرى في عهده فما أكثر من لبّى الدعوة الإسلاميّة من

٨٣

فرق النصارى خلال القرون الماضية، و ما أقلّ ذلك من اليهود و الوثنيّين! فاحتفاظ هذه الخصيصة في هؤلاء و هؤلاء يصدّق الكتاب العزيز في ما أفاده.

و من المعلوم أنّ قوله تعالى:( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا ) من قبيل بيان الضابط العامّ في صورة خطاب خاصّ نظير ما مرّ في الآيات السابقة:( تَرى‏ كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) و( تَرى‏ كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ ) .

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) القسّيس معرّب( كشيش) و الرهبان جمع الراهب و قد يكون مفرداً، قال الراغب: الرهبة و الرهب مخافة مع تحرّز - إلى أن قال - و الترهّب التعبّد، و الرهبانيّة غلوّ في تحمّل التعبّد من فرط الرهبة، قال تعالى:( وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ) و الرهبان يكون واحداً و جمعاً فمن جعله واحداً جمعه على رهابين، انتهى.

علّل تعالى ما ذكره من كون النصارى أقرب مودّة و آنس قلوباً للّذين آمنوا بخصال ثلاث يفقدها غيرهم من اليهود و المشركين، و هي أنّ فيهم علماء و أنّ فيهم رهباناً و زهّاداً، و أنّهم لا يستكبرون و ذلك مفتاح تهيّؤهم للسعادة.

و ذلك أنّ سعادة حياة الدين أن تقوم بصالح العمل عن علم به، و إن شئت فقل: إن يذعن بالحقّ فيطبّق عمله عليه فله حاجة إلى العلم ليدرك به حقّ الدين و هو دين الحقّ، و مجرّد إدراك الحقّ لا يكفي للتهيّؤ للعمل على طبقه حتّى ينتزع الإنسان من نفسه الهيئة المانعة عنه، و هو الاستكبار عن الحقّ بعصبيّة و ما يشابهها، و إذا تلبّس الإنسان بالعلم النافع و النصفة في جنب الحقّ برفع الاستكبار تهيّأ للخضوع للحقّ بالعمل به لكن بشرط عدم منافاة الجوّ لذلك فإنّ لموافقة الجوّ للعمل تأثيراً عظيماً في باب الأعمال فإنّ الأعمال الّتي يعتورها عامّة المجتمع و ينمو عليها أفراده، و تستقرّ عليهم عادتهم خلفاً عن سلف لا يبقى للنفس فراغ أن تتفكّر في أمرها أو تتدبّر و تدبّر في التخلّص عنها إذا كانت ضارّة مفسدة للسعادة، و كذلك الحال في الأعمال الصالحة إذا استقرّ التلبّس بها في مجتمع يصعب على النفس تركها، و لذا قيل: إنّ العادة طبيعة ثانية، و لذا كان أيضاً أوّل فعل مخالف حرجاً على النفس في الغاية و هو عند النفس

٨٤

دليل على الإمكان، ثمّ لا يزال كلّما تحقّق فعل زاد في سهولة التحقّق و نقص بقدره من صعوبته.

فإذا تحقّق الإنسان أنّ عملاً كذا حقّ صالح و نزع عن نفسه أغراض العناد و اللجاج بإماتة الاستكبار و الاستعلاء على الحقّ كان من العون كلّ العون على إتيانه أن يرى إنساناً يرتكبه فتتلقّى نفسه إمكان العمل.

و من هنا يظهر أنّ المجتمع إنّما يتهيّؤ لقبول الحقّ إذا اشتمل على علماء يعلمونه و يعلّمونه، و على رجال يقومون بالعمل به حتّى يذعن العامّة بإمكان العمل و يشاهدوا حسنه، و على اعتياد عامّتهم على الخضوع للحقّ و عدم الاستكبار عنه إذا انكشف لهم.

و لهذا علّل الله سبحانه قرب النصارى من قبول الدعوة الحقّة الدينيّة بأنّ فيهم قسّيسين و رهباناً و أنّهم لا يستكبرون ففيهم علماء لا يزالون يذكّرونهم مقام الحقّ و معارف الدين قولاً، و فيهم زهّاد يذكّرونهم عظمة ربّهم و أهمّيّة سعادتهم الاُخرويّة و الدنيويّة عملاً، و فيهم عدم الاستكبار عن قبول الحقّ.

و أمّا اليهود فإنّهم و إن كان فيهم أحبار علماء لكنّهم مستكبرون لا تدعهم رذيلة العناد و الاستعلاء أن يتهيّؤا لقبول الحقّ.

و أمّا الّذين أشركوا فإنّهم يفقدون العلماء و الزهّاد، و فيهم رذيلة الاستكبار.

قوله تعالى: ( وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى‏ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ) إلخ، فاضت العين بالدمع سال دمعها بكثرة، و( مِنَ ) في قوله:( مِنَ الدَّمْعِ ) للابتداء، و في قوله:( مِمَّا ) للنشوء، و في قوله:( مِنَ الْحَقِّ ) بيانيّة.

قوله تعالى: ( وَ ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ ) إلخ، لفظة( يُدْخِلَنا ) كأنّها مضمّنة معنى الجعل، و لذلك عدّي بمع، و المعنى: يجعلنا ربّنا مع القوم الصالحين مدخلاً لنا فيهم.

و في هذه الأفعال و الأقوال الّتي حكاها الله تعالى عنهم تصديق ما ذكره عنهم أنّهم أقرب مودّة للّذين آمنوا، و تحقيق أنّ فيهم العلم النافع و العمل الصالح و الخضوع للحقّ

٨٥

حيث كان فيهم قسّيسون و رهبان و هم لا يستكبرون.

قوله تعالى: ( فَأَثابَهُمُ اللهُ ) إلى آخر الآيتين،( الإثابة) المجازاة، و الآية الاُولى ذكر جزائهم، و الآية الثانية فيها ذكر جزاء من خالفهم على طريق المقابلة استيفاءً للأقسام.

( بحث روائي)

في معاني الأخبار، بإسناده عن الرضا عن آبائه، عن عليّعليه‌السلام : في قوله تعالى:( كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ) معناه أنّهما كانا يتغوّطان.

أقول: و رواه العيّاشيّ في تفسيره مرفوعاً.

و في الكافي، بإسناده عن أبي عبيدة الحذّاء، عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) قال: الخنازير على لسان داود، و القردة على لسان عيسى بن مريم.

أقول: و رواه القمّيّ و العيّاشيّ عنهعليه‌السلام ، و روي بطرق أهل السنّة عن مجاهد و قتادة و غيرهما: لعن القردة على لسان داود، و الخنازير على لسان عيسى بن مريم‏، و يوافقه بعض روايات الشيعة كما يأتي.

و في المجمع، عن أبي جعفرعليه‌السلام : أمّا داود فإنّه لعن أهل أيلة لما اعتدوا في سبتهم، و كان اعتداؤهم في زمانه فقال: اللّهمّ ألبسهم اللعنة مثل الرداء، و مثل المنطقة على الخصرين فمسخهم الله قردة، و أمّا عيسى فإنّه لعن الّذين نزلت عليهم المائدة ثمّ كفروا بعد ذلك، قال: فقال أبوجعفرعليه‌السلام : يتولّون الملوك الجبّارين، و يزيّنون لهم هواهم ليصيبوا من دنياهم.

أقول: و القرآن يؤيّد كون أصحاب السبت ممسوخين إلى القردة قال تعالى:( وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) البقرة: ٥٦ و قال تعالى:( وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ

٨٦

شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ - إلى أن قال -وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى‏ رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ - إلى أن قال -فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) الأعراف: ١٦٦.

و في الدرّ المنثور: أخرج عبد بن حميد و أبوالشيخ و الطبرانيّ و ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ بني إسرائيل لما عملوا الخطيئة نهاهم علماؤهم تعزيراً ثمّ جالسوهم و آكلوهم و شاربوهم كأن لم يعملوا بالأمس خطيئة فلمّا رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، و لعنهم على لسان نبيّ من الأنبياء، ثمّ (قال،ظ) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و الله لتأمرنّ بالمعروف، و لتنهنّ عن المنكر، و لتأطرنّهم على الحقّ أطراً أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض و ليلعننّكم كما لعنهم.

و فيه: أخرج عبد بن حميد عن معاذ بن جبل قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خذوا العطاء ما كان عطاءً فإذا كان رشوة عن دينكم فلا تأخذوا و لن تتركوه يمنعكم من ذلك الفقر و المخافة إنّ بني يأجوج قد جاؤا، و إنّ رحى الإسلام سيدور فحيثما دار القرآن فدوروا به، يوشك السلطان و القرآن أن يقتتلا و يتفرّقا أنّه سيكون عليكم ملوك يحكمون لكم بحكم و لهم بغيره فإن أطعتموهم أضلّوكم، و إن عصيتموهم قتلوكم.

قالوا: يا رسول الله كيف بنا إن أدركنا ذلك؟ قال: تكونوا كأصحاب عيسى نشروا بالمناشير، و رفعوا على الخشب، موت في طاعة خير من حياة في معصية إنّ أوّل ما نقص في بني إسرائيل أنّهم كانوا يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر سنّة التعزير فكان أحدهم إذا لقي صاحبه الّذي كان يعيب عليه آكله و شاربه و كأنّه لم يعب عليه شيئاً فلعنهم الله على لسان داود، و ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون.

و الّذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف و لتنهنّ عن المنكر أو ليسلّطنّ الله عليكم شراركم ثمّ ليدعونّ خياركم فلا يستجاب لكم.

و الّذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف و لتنهنّ عن المنكر، و لتأخذنّ على يد الظالم فلتأطرنّه عليه أطراً أو ليضربنّ الله قلوب بعضكم ببعض.

٨٧

و فيه، أيضاً: أخرج ابن راهويه و البخاريّ في الوحدانيّات، و ابن السكن و ابن مندة و الباورديّ في معرفة الصحابة، و الطبرانيّ و أبونعيم و ابن مردويه عن ابن أبزى، عن أبيه:

قال: خطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحمد الله و أثنى عليه ثمّ ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم خيراً، ثمّ قال: ما بال أقوام لا يعلّمون جيرانهم و لا يفقّهونهم، و لا يأمرونهم و لا ينهونهم؟ و ما بال أقوام لا يتعلّمون من جيرانهم و لا يتفقّهون و لا يتفطّنون؟ و الّذي نفسي بيده ليعلّمنّ (جيرانهم،ظ) أو ليتفقّهنّ أو ليتفطّننّ أو لاُعاجلنّهم بالعقوبة في دار الدنيا، ثمّ نزل و دخل بيته فقال أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من يعني بهذا الكلام؟ قالوا: ما نعلم يعني بهذا الكلام إلّا الأشعريّين فقهاء علماء، و لهم جيران جفاة جهلة.

فاجتمع جماعة من الأشعريّين فدخلوا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: ذكرت طوائف من المسلمين بخير و ذكرتنا بشرّ فما بالنا؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لتعلّمنّ جيرانكم و لتفقّهنّهم و لتأمرنّهم و لتنهنّهم أو لاُعاجلنّكم بالعقوبة في دار الدنيا، فقالوا: يا رسول الله فأمهلنا سنة ففي سنة مّا نعلّمهم و يتعلّمون فأمهلهم سنة ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ، كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن الهيثمّ التميميّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ) ، قال: أمّا إنّهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم و لا يجالسون مجالسهم و لكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم و أنسوا بهم.

و فيه، أيضاً: عن مروان، عن بعض أصحابه، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ذكر النصارى و عداوتهم فقال: قول الله:( ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) ، قال: اُولئك كانوا قوماً بين عيسى و محمّد ينتظرون مجي‏ء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: ظاهر الآية العموم دون الخصوص، و لعلّ المراد أنّ المدح إنّما هو لهم

٨٨

ما لم يغيّروا كما أنّ الذي مدح الله به المسلمين كذلك.

و في الدرّ المنثور: أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه عن سعيد بن جبير: في قوله:( ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً ) قال: هم رسل النجاشيّ الّذين أرسل بإسلامه إسلام قومه كانوا سبعين رجلاً اختارهم من قومه الخير فالخير في الفقه و السنّ.

و في لفظ: بعث من خيار أصحابه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثين رجلاً فلمّا أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخلوا عليه فقرأ عليهم سورة( يس) فبكوا حين سمعوا القرآن و عرفوا أنّه الحقّ.

فأنزل الله فيهم:( ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً ، الآية) و نزلت هذه الآية فيهم أيضاً:( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ - إلى قوله -أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ) .

و فيه: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو بمكّة يخاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب و ابن مسعود و عثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشيّ ملك الحبشة.

فلمّا بلغ المشركين بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم، ذكروا أنّهم سبقوا أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى النجاشيّ فقالوا: إنّه قد خرج فينا رجل سفّه عقول قريش و أحلامها زعم أنّه نبيّ، و أنّه بعث إليك رهطاً ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك و نخبرك خبرهم.

قال: إنّ جاؤني نظرت فيما يقولون، فلمّا قدم أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتوا إلى باب النجاشيّ فقالوا: استأذن لأولياء الله فقال: ائذن لهم فمرحباً بأولياء الله فلمّا دخلوا عليه سلّموا، فقال الرهط من المشركين: أ لم تر أيّها الملك أنّا صدقناك، و أنّهم لم يحيّوك بتحيّتك الّتي تحيّا بها؟ فقال لهم: ما يمنعكم أن تحيّوني بتحيّتي؟ قالوا: إنّا حييّناك بتحيّة أهل الجنّة و تحيّة الملائكة.

فقال لهم: ما يقول صاحبكم في عيسى و اُمّه؟ قالوا: يقول: عبدالله و رسوله و

٨٩

كلمة من الله و روح منه ألقاها إلى مريم، و يقول في مريم: إنّها العذراء الطيّبة البتول قال: فأخذ عودا من الأرض فقال: ما زاد عيسى و اُمّه على ما قال صاحبكم هذا العود، فكره المشركون قوله و تغيّر له وجوههم.

فقال: هل تقرؤن شيئاً ممّا اُنزل عليكم؟ قالوا: نعم، قال: فاقرؤوا فقرؤا - و حوله القسّيسون و الرهبان و سائر النصارى - فجعلت طائفة من القسّيسين و الرهبان كلّما قرؤوا آية انحدرت دموعهم ممّا عرفوا من الحقّ قال الله:( ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ، وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى‏ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ) .

أقول: و روى القمّيّ في تفسيره القصّة مفصّلة في خبر طويل، و في آخره: و رجعوا إلى النجاشيّ فأخبروه خبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قرؤا عليه ما قرأ عليهم فبكى النجاشيّ و بكى القسّيسون، و أسلم النجاشيّ و لم يظهر للحبشة إسلامه، و خافهم على نفسه فخرج من بلاد الحبشة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا عبّر البحر توفّي‏، الحديث.

( كلام في معنى التوحيد في القرآن)

لا يرتاب الباحث المتعمّق في المعارف الكلّيّة أنّ مسألة التوحيد من أبعدها غوراً، و أصعبها تصوّراً و إدراكاً، و أعضلها حلّاً لارتفاع كعبها عن المسائل العامّة العامّيّة الّتي تتناولها الأفهام، و القضايا المتداولة الّتي تألفها النفوس، و تعرفها القلوب.

و ما هذا شأنه تختلف العقول في إدراكه و التصديق به للتنوّع الفكريّ الّذي فطر عليه الإنسان من اختلاف أفراده من جهة البنية الجسميّة و إدّاء ذلك إلى اختلاف أعضاء الإدراك في أعمالها ثمّ تأثير ذلك الفهم و التعقّل من حيث الحدّة و البلادة، و الجودة و الرداءة، و الاستقامة و الانحراف.

فهذا كلّه ممّا لا شك فيه، و قد قرّر القرآن هذا الاختلاف في موارد من آياته الكريمة كقوله تعالى:( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) الزمر: ٩، و قوله تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا

٩٠

الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) النجم: ٣٠، و قوله تعالى:( فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ) النساء: ٨٧، و قوله تعالى في ذيل الآية ٧٥ من المائدة (و هي من جملة الآيات الّتي نحن فيها):( انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) .

و من أظهر مصاديق هذا الاختلاف الفهميّ اختلاف أفهام الناس في تلقّي معنى توحّده تعالى لما في أفهامهم من الاختلاف العظيم و النوسان الوسيع في تقرير مسألة وجوده تعالى على ما بينهم من الاتّفاق على ما تعطيه الفطرة الإنسانيّة بإلهامها الخفيّ و إشارتها الدقيقة.

فقد بلغ فهم آحاد من الإنسان في ذلك أن جعل الأوثان المتّخذة، و الأصنام المصنوعة من الخشب و الحجارة حتّى من نحو الأقط و الطينة المعمولة من أبوال الغنم شركاء لله، و قرناء له، يعبد كما تعبد هؤلاء، و يسأل كما تسأل هؤلاء، و يخضع له كما يخضع لها، و لم يلبث هذا الإنسان دون أن غلّب هذه الأصنام عليه تعالى بزعمه، و أقبل عليها و تركه، و أمّرها على حوائجه و عزله.

فهذا الإنسان قصارى ما يراه من الوجود له تعالى هو مثل ما يراه لآلهته الّتي خلقها بيده، أو خلقها إنسان مثله بيده، و لذلك كانوا يثبتون له تعالى من صفة الوحدة مثل ما يصفون به كلّ واحد من أصنامهم، و هي الوحدة العدديّة الّتي تتألّف منها الأعداد، قال تعالى:( وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ، أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ عُجابٌ ) ص: ٦.

فهؤلاء كانوا يتلقّون الدعوة القرآنيّة إلى التوحيد دعوة إلى القول بالوحدة العدديّة الّتي تقابل الكثرة العدديّة كقوله تعالى:( وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) البقرة: ١٦٣ و قوله تعالى:( هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) المؤمن: ٦٥ و غير ذلك من الآيات الداعية إلى رفض الآلهة الكثيرة، و توجيه الوجه لله الواحد، و قوله تعالى:( وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ ) العنكبوت: ٤٦ و غيره من الآيات الداعية إلى رفض التفرّق في العبادة للإله، حيث كانت كلّ اُمّة أو طائفة أو قبيلة تتّخذ

٩١

إلهاً تختصّ به، و لا تخضع لإله الآخرين.

و القرآن ينفي في عالي تعليمه الوحدة العدديّة عن الإله جلّ ذكره، فإنّ هذه الوحدة لا تتّم إلّا بتميّز هذا الواحد من ذلك الواحد بالمحدوديّة الّتي تقهره، و المقدّريّة الّتي تغلبه، مثال ذلك ماء الحوض إذا فرّقناه في آنية كثيرة كان ماء كلّ إناء ماءً واحداً غير الماء الواحد الّذي في الإناء الآخر، و إنّما صار ماءً واحداً يتميّز عمّا في الآخر لكون ما في الآخر مسلوباً عنه غير مجتمع معه، و كذلك هذا الإنسان إنّما صار إنساناً واحداً لأنّه مسلوب عنه ما للإنسان الآخر، و لو لا ذلك لم يتأتّ للإنسانيّة الصادقة على هذا و ذاك أن تكون واحدة بالعدد و لا كثيرة بالعدد.

فمحموديّة الوجود هي الّتي تقهر الواحد العدديّ على أن يكون واحداً ثمّ بانسلاب هذه الوحدة من بعض الجهات تتألّف كثرة عدديّة كما عنده عروض صفة الاجتماع بوجه.

و إذ كان الله سبحانه قاهراً غير مقهور، و غالباً لا يغلبه شي‏ء البتّة كما يعطيه التعليم القرآنيّ لم تتصوّر في حقّه وحدة عدديّة و لا كثرة عدديّة، قال تعالى:( وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) الرعد: ١٦، و قال:( أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ) يوسف: ٤٠، و قال:( وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) ص: ٦٥، و قال:( لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى‏ مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) الزمر: ٤.

و الآيات بسياقها - كما ترى - تنفي كلّ وحدة مضافة إلى كثرة مقابلة لها سواء كانت وحدة عدديّة كالفرد الواحد من النوع الّذي لو فرض بإزائه فرد آخر كانا اثنين فإنّ هذا الفرد مقهور بالحدّ الّذي يحدّه به الفرد الآخر المسلوب عنه المفروض قباله، أو كانت وحدة نوعيّة أو جنسيّة أو أيّ وحدة كلّيّة مضافة إلى كثرة من سنخها كالإنسان الّذي هو نوع واحد مضاف إلى الأنواع الكثيرة الحاصلة منه و من الفرس و البقر و الغنم و غيرها فإنّه مقهور بالحدّ الّذي يحدّه به ما يناظره من الأنواع الاُخر، و إذ كان تعالى لا يقهره شي‏ء في شي‏ء البتّة من ذاته و لا صفته و لا فعله و هو القاهر فوق كلّ شي‏ء

٩٢

فليس بمحدود في شي‏ء يرجع إليه، فهو موجود لا يشوبه عدم، و حقّ لا يعرضه بطلان، و هو الحيّ لا يخالطه موت، و العليم لا يدبّ إليه جهل، و القادر لا يغلبه عجز، و المالك و الملك من غير أن يملك منه شي‏ء و العزيز الّذي لا ذلّ له، و هكذا.

فله تعالى من كلّ كمال محضه، و إن شئت زيادة تفهّم و تفقّه لهذه الحقيقة القرآنيّة فافرض أمراً متناهياً و آخر غير متناه تجد غير المتناهي محيطاً بالمتناهي بحيث لا يدفعه المتناهي عن كماله المفروض أيّ دفع، فرضته بل غير المتناهي مسيطر عليه بحيث لا يفقده المتناهي في شي‏ء من أركان كماله، و غير المتناهي هو القائم على نفسه، الشهيد عليه، المحيط به، ثمّ انظر في ذلك إلى ما يفيده قوله تعالى:( أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ، أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ ) حم السجدة: ٥٤.

و هذا هو الّذي يدلّ عليه عامّة الآيات الواصفة لصفاته تعالى الواقعة في سياق الحصر أو الظاهر فيه كقوله تعالى:( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ ) طه: ٨، و قوله:( وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) النور: ٢٥، و قوله:( هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) المؤمن: ٦٥، و قوله:( وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ) الروم: ٥٤، و قوله:( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) البقرة: ١٦٥، و قوله:( لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ ) التغابن: ١، و قوله:( إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) يونس: ٦٥، و قوله:( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) البقرة: ١٤٧، و قوله:( أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَ اللهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) فاطر: ١٥، إلى غير ذلك من الآيات.

فالآيات - كما ترى - تنادي بأعلى صوتها أنّ كلّ كمال مفروض فهو لله سبحانه بالأصالة، و ليس لغيره شي‏ء إلّا بتمليكه تعالى له ذلك من غير أن ينعزل عمّا يملكه و يملّكه كما ننعزل نحن معاشر الخليقة عمّا ملّكناه غيرنا.

فكلّما فرضنا شيئاً من الأشياء ذا شي‏ء من الكمال في قباله تعالى ليكون ثانياً له و شريكاً عاد ما بيده من معنى الكمال لله سبحانه محضاً، و هو الحقّ الّذي يملك كلّ شي‏ء، و غيره الباطل الّذي لا يملك لنفسه شيئاً قال تعالى:( لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا

٩٣

وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً ) الفرقان: ٣.

و هذا المعنى هو الّذي ينفي عنه تعالى الوحدة العدديّة إذ لو كان واحداً عدديّاً أي موجوداً محدوداً منعزل الذات عن الإحاطة بغيره من الموجودات صحّ للعقل أن يفرض مثله الثاني له سواء كان جائز التحقّق في الخارج أو غير جائز التحقّق، و صحّ عند العقل أن يتّصف بالكثرة بالنظر إلى نفسه و إن فرض امتناعه في الواقع، و ليس كذلك.

فهو تعالى واحد بمعنى أنّه من الوجود بحيث لا يحدّ بحدّ حتّى يمكن فرض ثان له فيما وراء ذلك الحدّ و هذا معنى قوله تعالى:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، اللهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ، وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) سورة التوحيد: ٤ فإنّ لفظ أحد إنّما يستعمل استعمالاً يدفع إمكان فرض العدد في قباله يقال:( ما جاءني أحد) و ينفي به أن يكون قد جاء الواحد و كذا الاثنان و الأكثر و قال تعالى:( وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ) التوبة: ٦ فشمل الواحد و الاثنين و الجماعة و لم يخرج عن حكمه عدد، و قال تعالى:( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) فشمل الواحد و ما وراءه، و لم يشذّ منه شاذّ.

فاستعمال لفظ أحد في قوله:( هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) في الإثبات من غير نفي و لا تقييد بإضافة أو وصف يفيد أنّ هويّته تعالى بحيث يدفع فرض من يماثله في هويّته بوجه سواء كان واحداً أو كثيراً فهو محال بحسب الفرض الصحيح مع قطع النظر عن حاله بحسب الخارج.

و لذلك وصفه تعالى أوّلاً بأنّه صمد، و هو المصمت الّذي لا جوف له و لا مكان خالياً فيه، و ثانياً بأنّه لم يلد، و ثالثاً بأنّه لم يولد، و رابعاً بأنّه لم يكن له كفواً أحد، و كلّ هذه الأوصاف ممّا يستلزم نوعاً من المحدوديّة و الانعزال.

و هذا هو السرّ في عدم وقوع توصيفات غيره تعالى عليه حقّ الوقوع و الاتّصاف قال تعالى:( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: ١٦٠، و قال تعالى:( وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) طه: ١١٠، فإنّ المعاني الكماليّة الّتي نصفه تعالى بها أوصاف محدودة، و جلّت ساحته سبحانه عن الحدّ و القيد، و هو الّذي يرومه النبيّ

٩٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلمته المشهورة:( لا اُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك) .

و هذا المعنى من الوحدة هو الّذي يدفع به تثليث النصارى فإنّهم موحّدون في عين التثليث لكنّ الّذي يذعنون به من الوحدة وحدة عدديّة لا تنفي الكثرة من جهة اُخرى فهم يقولون: إنّ الأقانيم (الأب و الابن و الروح) (الذات و العلم و الحياة) ثلاثة و هي واحدة كالإنسان الحيّ العالم فهو شي‏ء واحد لأنّه إنسان حيّ عالم و هو ثلاثة لأنّه إنسان و حياة و علم.

لكنّ التعليم القرآنيّ ينفي ذلك لأنّه يثبت من الوحدة ما لا يستقيم معه فرض أيّ كثرة و تمايز لا في الذات و لا في الصفات، و كلّ ما فرض من شي‏ء في هذا الباب كان عين الآخر لعدم الحدّ فذاته تعالى عين صفاته، و كلّ صفة مفروضة له عين الاُخرى، تعالى الله عمّا يشركون، و سبحانه عمّا يصفون.

و لذلك ترى أنّ الآيات الّتي تنعته تعالى بالقهّاريّة تبدء أوّلاً بنعت الوحدة ثمّ تصفه بالقهّاريّة لتدلّ على أنّ وحدته لا تدع لفارض مجال أن يفرض له ثانياً مماثلاً بوجه فضلاً عن أن يظهر في الوجود، و ينال الواقعيّة و الثبوت، قال تعالى:( أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ) يوسف: ٤٠، فوصفه بوحدة قاهرة لكلّ شريك مفروض لا تبقى لغيره تعالى من كلّ معبود مفروض إلّا الاسم فقط، و قال تعالى:( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) الرعد: ١٦، قال تعالى:( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن: ١٦، إذ ملكه تعالى المطلق لا يخلّي مالكاً مفروضاً غيره دون أن يجعله نفسه و ما يملكه ملكاً لله سبحانه، و قال تعالى:( وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) ص: ٦٥، و قال تعالى:( لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى‏ مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) الزمر: ٤، فرتّب القهّاريّة في جميع الآيات على صفة الوحدة.

٩٥

( بحث روائي)

( كلام في معنى التوحيد)

في التوحيد، و الخصال، بإسناده عن المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه قال: إنّ أعرابيّاً قام يوم الجمل إلى أميرالمؤمنينعليه‌السلام فقال: يا أميرالمؤمنين أ تقول: إنّ الله واحد؟ قال: فحمل الناس عليه و قالوا: يا أعرابيّ أ ما ترى ما فيه أميرالمؤمنين من تقسّم القلب؟ فقال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : دعوه فإنّ الّذي يريده الأعرابيّ هو الّذي نريده من القوم!.

ثمّ قال: يا أعرابيّ إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّوجلّ، و وجهان يثبتان فيه فأمّا اللّذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد أ ما ترى أنّه كفر من قال: إنّه ثالث ثلاثة؟ و قول القائل: هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لأنّه تشبيه، و جلّ ربّنا و تعالى عن ذلك.

و أمّا الوجهان اللّذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربّنا، و قول القائل: إنّه عزّوجلّ أحديّ المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم، كذلك ربّنا عزّوجلّ.

أقول: و رواه أيضاً في المعاني، بسند آخر عن أبي المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه عنهعليه‌السلام .

و في النهج: أوّل الدين معرفته، و كمال معرفته التصديق به، و كمال التصديق به توحيده، و كمال توحيده الإخلاص له، و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، و شهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف الله فقد قرنه، و من قرنه فقد ثنّاه، و من ثنّاه فقد جزّأه، و من جزّأه فقد جهله، و من جهله فقد أشار إليه، و من أشار إليه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه‏ (الخطبة).

أقول: و هو من أبدع البيان، و محصّل الشطر الأوّل من الكلام أنّ معرفته تنتهي في استكمالها إلى نفي الصفات عنه، و محصّل الشطر الثاني المتفرّع على الشطر الأوّل

٩٦

- أعني قولهعليه‌السلام : فمن وصف الله فقد قرنه إلخ - أنّ إثبات الصفات يستلزم إثبات الوحدة العدديّة المتوقّفة على التحديد غير الجائز عليه تعالى، و تنتج المقدّمتان أنّ كمال معرفته تعالى يستوجب نفي الوحدة العدديّة منه، و إثبات الوحدة بمعنى آخر، و هو مرادهعليه‌السلام من سرد الكلام.

أمّا مسألة نفي الصفات عنه فقد بيّنهعليه‌السلام بقوله:( أوّل الدين معرفته) لظهور أنّ من لم يعرف الله سبحانه و لو بوجه لم يحلّ بعد في ساحة الدين، و المعرفة ربّما كانت مع عمل بما يرتبط به من الأفعال و ترتّب آثار المعروف، و ربّما كانت من غير عمل، و من المعلوم أنّ العلم فيما يتعلّق نوع تعلّق بالأعمال إنّما يثبت و يستقرّ في النفس إذا ترتّب عليه آثاره العمليّة، و إلّا فلا يزال العلم يضعف بإتيان الأعمال المخالفة حتّى يبطل أو يصير سدىّ لا أثر له، و من كلامهعليه‌السلام في هذا الباب - و قد رواه في النهج -:( العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل، و العلم يهتف بالعمل فإن أجابه و إلّا ارتحل عنه) .

فالعلم و المعرفة بالشي‏ء إنّما يكمل إذا أخذ العارف معروفه صدقاً، و أظهر ذلك في باطنه و ظاهره، و جنانه و أركانه بأن يخضع له روحاً و جسماً، و هو الإيمان المنبسط على سرّه و علانيته، و هو قوله:( و كمال معرفته التصديق به) .

ثمّ هذا الخضوع المسمّى بالتصديق به و إن جاز تحقّقه مع إثبات الشريك للربّ المخضوع له كما يخضع عبدة الأصنام لله و لسائر آلهتهم جميعاً لكنّ الخضوع بشي‏ء لا يتمّ من غير انصراف عن غيره بالبداهة، فالخضوع لواحد من الآلهة في معنى الإعراض عن غيره و الاستكبار في الجملة عنه فلا يكمل التصديق بالله و الخضوع لمقامه إلّا بالإعراض عن عبادة الشركاء، و الانصراف عن دعوة الآلهة الكثيرة، و هو قوله:( و كمال التصديق به توحيده) .

ثمّ إنّ للتوحيد مراتب مختلفة بعضها فوق بعض، و لا يكمل حتّى يعطى الإله الواحد حقّه من الاُلوهيّة المنحصرة، و لا يقتصر على مجرّد تسميته إلهاً واحداً بل ينسب إليه كلّ ما له نصيب من الوجود و الكمال كالخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة و الإعطاء و المنع، و أن يخصّ الخضوع و العبادة به فلا يتذلّل لغيره بوجه من الوجوه

٩٧

بل لا يرجى إلّا رحمته، و لا يخاف إلّا سخطه، و لا يطمع إلّا فيما عنده، و لا يعكف إلّا على بابه.

و بعبارة اُخرى أن يخلص له علماً و عملاً، و هو قولهعليه‌السلام :( و كمال توحيده الإخلاص له) .

و إذا استوى الإنسان على أريكة الإخلاص، و ضمّته العناية الإلهيّة إلى أولياء الله المقرّبين لاحت على بصيرته لوائح العجز عن القيام بحقّ المعرفة، و توصيفه بما يليق بساحة كبريائه و عظمته فإنّه ربّما شاهد أنّ الذي يصفه تعالى به معان مدركة ممّا بين يديه من الأشياء المصنوعة، و اُمور ألّفها من مشهوداته الممكنة، و هي صور محدودة مقيّدة يدفع بعضها بعضاً، و لا تقبل الائتلاف و الامتزاج، انظر إلى مفاهيم الوجود و العلم و القدرة و الحياة و الرزق و العزّة و الغنى و غيرها.

و المعاني المحدودة يدفع بعضها بعضاً لظهور كون كلّ مفهوم خلواً عن المفهوم الآخر كمعنى العلم عن معنى القدرة فإنّا حين ما نتصوّر العلم نصرف عن القدرة فلا نجد معناها في معنى العلم، و إذا تصوّرنا معنى العلم و هو وصف من الأوصاف ننعزل عن معنى الذات و هو الموصوف.

فهذه المفاهيم و العلوم و الإدراكات تقصر عن الانطباق عليه جلّ شأنه حقّ الانطباق، و عن حكاية ما هو عليه حقّ الحكاية فتمسّ حاجة المخلص في وصفه ربّه إلى أن يعترف بنقص لا علاج له، و عجز لا جابر دونه فيعود فينفي ما أثبته، و يتيه في حيرة لا مخلص منها، و هو قولهعليه‌السلام :( و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، و شهادة كلّ موصوف أنّها غير الصفة) .

و هذا الّذي فسّرنا به هذا العقد من كلامهعليه‌السلام هو الّذي يؤيّده أوّل الخطبة حيث يقول:( الّذي لا يدركه بعد الهمم، و لا يناله غوص الفطن، الّذي ليس لصفته حدّ محدود، و لا نعت موجود، و لا وقت معدود، و لا أجل ممدود) على ما يظهر للمتأمّل الفطن.

و أمّا قولهعليه‌السلام :( فمن وصف الله فقد قرنه) إلخ، فهو توصّل منه إلى المطلوب

٩٨

- و هو أنّ الله سبحانه لا حدّ له و لا عدّ - من طريق تحليل إثبات الوصف كما كان البيان الأوّل توصّلاً منه من طريق تحليل المعرفة إلى نفي الوصف.

فمن وصف الله فقد قرنه لما عرفت من المغايرة بين الموصوف و الصفة، و الجمع بين المتغارين قرن، و من قرنه فقد ثنّاه لأخذه إيّاه موصوفاً و صفة و هما اثنان، و من ثنّاه فقد جزّأه إلى جزئين، و من جزّأه فقد جهله بالإشارة إليه إشارة عقليّة، و من أشار إليه فقد حدّه لكون الإشارة مستلزمة لانفصال المشار إليه عن المشير حتّى تتوسّط بينهما الإشارة الّتي هي إيجاد بعد مّا بين المشير و المشار إليه - يبتدئ من الأوّل و ينتهي إلى الثاني -( و من حدّه فقد عدّه) و جعله واحداً عدديّاً لأنّ العدد لازم الانقسام و الانعزال الوجوديّ تعالى الله عن ذلك.

و في النهج: من خطبة لهعليه‌السلام :( الحمد لله الّذي لم يسبق له حال حالاً فيكون أوّلاً قبل أن يكون آخراً، و يكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً، كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل، و كلّ عزيز غيره ذليل، و كلّ قويّ غيره ضعيف، و كلّ مالك غيره مملوك، و كلّ عالم غيره متعلّم، و كلّ قادر غيره يقدر و يعجز، و كلّ سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات و يصمّه كبيرها و يذهب عنه ما بعد منها، و كلّ بصير غيره يعمى عن خفيّ الألوان و لطيف الأجسام، و كلّ ظاهر غيره باطن، و كلّ باطن غيره ظاهر) .

أقول: بناء البيان على كونه تعالى غير محدود و كون غيره محدوداً فإنّ هذه المعاني و النعوت و كلّ ما كان من قبيلها إذا طرأ عليها الحدّ كانت لها إضافة مّا إلى غيرها، و يستوجب التحدّد حينئذ أن تنقطع و تزول عمّا اُضيفت إليه، و تتبدّل إلى ما يقابلها من المعنى.

فالظهور إذا فرض محدوداً كان بالنسبة إلى جهة أو إلى شي‏ء دون جهة اُخرى و شي‏ء آخر، و صار الأمر الظاهر باطناً خفيّاً بالنسبة إلى تلك الجهة الاُخرى و الشي‏ء الآخر، و العزّة إذا اُخذت بحدّ بطلت فيما وراء حدّها فكانت ذلّة بالنسبة إليه، و القوّة إذا كانت مقيّدة تبدّلت بالنسبة إلى ما وراء قيدها ضعفاً، و الظهور بطون في غير محلّه، و البطون ظهور في الخارج عن مستواه.

٩٩

و الملك إذا كان محدوداً كان من يحدّه مهيمناً على هذا المالك فهو و ملكه تحت ملك غيره، و العلم إذا كان محدوداً لم يكن من صاحبه لأنّ الشي‏ء لا يحدّ نفسه، فكان بإفاضة الغير و تعليمه، و هكذا.

و الدليل على أنّهعليه‌السلام بنى بيانه على معنى الحدّ قوله:( و كلّ سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات) إلخ، فإنّه و ما بعده ظاهر في الإشارة إلى محدوديّة المخلوقات، و السياق واحد.

و أمّا قولهعليه‌السلام :( و كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل) - و الجملة هي المقصودة من نقل الخطبة - فبناؤه على معنى الحدّ ظاهر فإنّ الوحدة العدديّة المتفرّعة على محدوديّة المسمّى بالواحد لازمة تقسّم المعنى و تكثّره، و كلّما زاد التقسّم و التكثّر أمعن الواحد في القلّة و الضعف بالنسبة إلى الكثرة الحادثة، فكلّ واحد عدديّ فهو قليل بالنسبة إلى الكثير الّذي بإزائه و لو بالفرض.

و أمّا الواحد الّذي لا حدّ لمعناه و لا نهاية له فلا يحتمل فرض الكثرة لعدم احتماله طروّ الحدّ و عروض التميّز و لا يشذّ عن وجوده شي‏ء من معناه حتّى يكثره و يقوى بضمّه، و يقلّ و يضعف بعزله، بل كلّما فرض له ثان في معناه فإذا هو هو.

و في النهج: و من خطبة لهعليه‌السلام :( الحمد لله الدالّ على وجوده بخلقه، و بمحدث خلقه على أزليّته، و باشتباههم على أن لا شبه له، لا يستلمه المشاعر، و لا يحجبه السواتر لافتراق الصانع و المصنوع، و الحادّ و المحدود، و الربّ و المربوب، الأحد لا بتأويل عدد، و الخالق لا بمعنى حركة و نصب، و السميع لا بأداة، و البصير لا بتفريق آلة، و الشاهد لا بمماسّة، و البائن لا بتراخي مسافة، و الظاهر لا برؤية، و الباطن لا بلطافة بان من الأشياء بالقهر لها و القدرة عليها، و بانت الأشياء منه بالخضوع له و الرجوع إليه، من وصفه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه، و من عدّه فقد أبطل أزله) .

أقول: أوّل كلامهعليه‌السلام مبنيّ على أنّ جميع المعاني و الصفات المشهودة في الممكنات اُمور محدودة لا تتمّ إلّا بحادّ يحدّها و صانع يصنعها، و ربّ يربّها، و هو الله سبحانه، و إذ كان الحدّ من صنعه فهو متأخّر عنه غير لازم له، فقد تنزّهت ساحة كبريائه عن هذه الحدود.

١٠٠