الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84092 / تحميل: 7579
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

و إطلاق الأب على الله سبحانه بتحليل معناه و تجريده عن وسمة نواقص المادّة الجسمانيّة أي من بيده الإيجاد و التربية، و كذلك الابن بمعناه المجرّد التحليليّ و إن لم يمنعه العقل لكنّه ممنوع شرعاً لتوقيفيّة أسماء الله سبحانه لما في التوسّع في إطلاق الأسماء المختلفة عليه تعالى من المفاسد، و كفى مفسدة في إطلاق الأب و الابن ما لقيته الاُمّتان: اليهود و النصارى و خاصّة النصارى من أولياء الكنيسة خلال قرون متمادية و لن يزال الأمر على ذلك.

قوله تعالى: ( وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ ) ظاهر السياق أنّ المراد بهؤلاء القوم الّذين نهوا عن اتّباع أهوائهم هم المتبوعون المطاعون في آرائهم و أوامرهم فيكون ضلالهم لمكان التزامهم بآرائهم، إضلالهم كثيراً هو اتّباع غيرهم لهم، و ضلالهم عن سواء السبيل هو المتحصّل لهم من ضلالهم و إضلالهم، و هو ضلال على ضلال.

و كذلك ظاهر السياق أنّ المراد بهم هم الوثنيّة و عبدة الأصنام فإنّ ظاهر السياق أنّ الخطاب إنّما هو لجميع أهل الكتاب لا للمعاصرين منهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى يكون نهياً لمتأخّريهم عن اتّباع متقدّميهم.

و يؤيّده بل يدلّ عليه قوله تعالى:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَ قالَتِ النَّصارى‏ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ) التوبة: ٣٠.

فيكون ذلك حقيقة تحليليّة تاريخيّة أشار إليها القرآن الكريم هي أنّ القول بالاُبوّة و البنوّة ممّا تسرّب إلى أهل الكتاب من قبل من تقدّمهم من الوثنيّة، و قد تقدّم في الكلام على قصص المسيحعليه‌السلام في سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب أنّ هذا القول في جملة من الأقوال و الآراء موجود عند الوثنيّة البرهمنيّة و البوذيّة في الهند و الصين، و كذلك مصر القديم و غيرهم، و إنّما أخذ بالتسرّب في الملّة الكتابيّة بيد دعاتها، فظهر في زيّ الدين و كان الاسم لدين التوحيد و المسمّى للوثنيّة.

قوله تعالى: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى

٨١

ابْنِ مَرْيَمَ ) إلى آخر الآيتين إخبار بأنّ الكافرين منهم ملعونون بلسان أنبيائهم، و فيه تعريض لهؤلاء الّذين كفّرهم الله في هذه الآيات من اليهود ملعونين بدعوة أنبيائهم أنفسهم، و ذلك بسبب عصيانهم لأنبيائهم، و هم كانوا مستمرّين على الاعتداء و قوله:( كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ) إلخ بيان لقوله:( وَ كانُوا يَعْتَدُونَ ) .

قوله تعالى: ( تَرى‏ كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلخ، و هذا من قبيل الاستشهاد بالحسّ على كونهم معتدين فإنّهم لو قدروا دينهم حقّ قدره لزموه و لم يعتدّوه، و لازم ذلك أن يتولّوا أهل التوحيد و يتبرّؤا من الّذين كفروا لأنّ أعداء ما يقدّسه قوم أعداء لذلك القوم، فإذا تحابّوا و توالوا دلّ ذلك على إعراض ذلك القوم و تركهم ما كانوا يقدّسونه و يحترمونه، و صديق العدوّ عدوّ، ثمّ ذمّهم الله تعالى بقوله:( لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ ) و هو ولاية الكفّار عن هوى النفس، و كان جزاؤه و وباله( أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ ) ، ففي الآية وضع جزاء العمل و عاقبته موضع العمل كأنّ أنفسهم قدّمت لهم جزاء العمل بتقديم نفس العمل.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ النَّبِيِّ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) أي و لو كان أهل الكتاب هؤلاء يؤمنون بالله و النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ما اُنزل إليه، أو نبيّ أنفسهم كموسى مثلاً و ما اُنزل إليه كالتوراة مثلاً ما اتّخذوا اُولئك الكفّار أولياء لأنّ الإيمان يجب سائر الأسباب، و لكنّ كثيراً منهم فاسقون متمرّدون عن الإيمان.

و في الآية وجه آخر احتملوه، و هو أن يرجع ضمائر قوله:( كانُوا ) و( يُؤْمِنُونَ ) و( اتَّخَذُوهُمْ ) في قوله:( مَا اتَّخَذُوهُمْ ) راجعة إلى الّذين كفروا، و المعنى: و لو كان الّذين كفروا اُولئك الكفّار الّذين يتولّاهم أهل الكتاب يؤمنون بالله و النبيّ و القرآن ما اتّخذتهم أهل الكتاب أولياء، و إنّما تولّوهم لمكان كفرهم، و هذا وجه لا بأس به غير أنّ الإضراب في قوله:( وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) لا يلائمه.

قوله تعالى:( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا - إلى قوله -نَصارى) لما بيّن سبحانه في الآيات السابقة الرذائل المشتركة بين أهل

٨٢

الكتاب عامّة، و بعض ما يختصّ ببعضهم كقول اليهود:( يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) و قول النصارى:( إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) ختم الآيات بما يختصّ به كلّ من الطائفين إذا قيس حالهم من المؤمنين و دينهم، و أضاف إلى حالهم حال المشركين ليتمّ الكلام في وقع الإسلام من قلوب الاُمم غير المسلمة من حيث قربهم و بعدهم من قبوله.

و يتمّ الكلام في أنّ النصارى أقرب تلك الاُمم مودّة للمسلمين و أسمع لدعوتهم الحقّة.

و إنّما عدّهم الله سبحانه أقرب مودّة للمسلمين لما وقع من إيمان طائفة منهم بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يدلّ عليه قوله في الآية التالية:( وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ) إلخ، لكن لو كان إيمان طائفة تصحّح هذه النسبة إلى جميعهم كان من الواجب أن تعدّ اليهود و المشركون كمثل النصارى و ينسب إليهما نظير ما نسب إليهم لمكان إسلام طائفة من اليهود كعبد الله بن سلام و أصحابه، و إسلام عدّة من مشركي العرب و هم عامّة المسلمين اليوم فتخصيص النصارى بمثل قوله:( وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ ) إلخ، دون اليهود و المشركين يدلّ على حسن إقبالهم على الدعوة الإسلاميّة و إجابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنّهم على خيار بين أن يقيموا على دينهم و يؤدّوا الجزية، و بين أن يقبلوا الإسلام، أو يحاربوا.

و هذا بخلاف المشركين فإنّهم لم يكن يقبل منهم إلّا قبول الدعوة فكثرة المؤمنين منهم لا يدلّ على حسن الإجابة، على ما كابد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جفوتهم و لقاه المسلمون من أيديهم بقسوتهم و نخوتهم.

و كذلك اليهود و إن كانوا كالنصارى في إمكان إقامتهم على دينهم و تأدية الجزية إلى المسلمين لكنّهم تمادوا في نخوتهم، و تصلّبوا في عصبيّتهم، و أخذوا بالمكر و المكيدة، و نقضوا عهودهم، و تربّصوا الدوائر على المسلمين، و مسّوهم بأمر المسّ و آلمه.

و هذا الّذي جرى من أمر النصارى مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الدعوة الإسلاميّة، و حسن إجابتهم، و كذا من أمر اليهود و المشركين في التمادي على الاستكبار و العصبيّة جرى بعينه بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حذو ما جرى في عهده فما أكثر من لبّى الدعوة الإسلاميّة من

٨٣

فرق النصارى خلال القرون الماضية، و ما أقلّ ذلك من اليهود و الوثنيّين! فاحتفاظ هذه الخصيصة في هؤلاء و هؤلاء يصدّق الكتاب العزيز في ما أفاده.

و من المعلوم أنّ قوله تعالى:( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا ) من قبيل بيان الضابط العامّ في صورة خطاب خاصّ نظير ما مرّ في الآيات السابقة:( تَرى‏ كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) و( تَرى‏ كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ ) .

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) القسّيس معرّب( كشيش) و الرهبان جمع الراهب و قد يكون مفرداً، قال الراغب: الرهبة و الرهب مخافة مع تحرّز - إلى أن قال - و الترهّب التعبّد، و الرهبانيّة غلوّ في تحمّل التعبّد من فرط الرهبة، قال تعالى:( وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ) و الرهبان يكون واحداً و جمعاً فمن جعله واحداً جمعه على رهابين، انتهى.

علّل تعالى ما ذكره من كون النصارى أقرب مودّة و آنس قلوباً للّذين آمنوا بخصال ثلاث يفقدها غيرهم من اليهود و المشركين، و هي أنّ فيهم علماء و أنّ فيهم رهباناً و زهّاداً، و أنّهم لا يستكبرون و ذلك مفتاح تهيّؤهم للسعادة.

و ذلك أنّ سعادة حياة الدين أن تقوم بصالح العمل عن علم به، و إن شئت فقل: إن يذعن بالحقّ فيطبّق عمله عليه فله حاجة إلى العلم ليدرك به حقّ الدين و هو دين الحقّ، و مجرّد إدراك الحقّ لا يكفي للتهيّؤ للعمل على طبقه حتّى ينتزع الإنسان من نفسه الهيئة المانعة عنه، و هو الاستكبار عن الحقّ بعصبيّة و ما يشابهها، و إذا تلبّس الإنسان بالعلم النافع و النصفة في جنب الحقّ برفع الاستكبار تهيّأ للخضوع للحقّ بالعمل به لكن بشرط عدم منافاة الجوّ لذلك فإنّ لموافقة الجوّ للعمل تأثيراً عظيماً في باب الأعمال فإنّ الأعمال الّتي يعتورها عامّة المجتمع و ينمو عليها أفراده، و تستقرّ عليهم عادتهم خلفاً عن سلف لا يبقى للنفس فراغ أن تتفكّر في أمرها أو تتدبّر و تدبّر في التخلّص عنها إذا كانت ضارّة مفسدة للسعادة، و كذلك الحال في الأعمال الصالحة إذا استقرّ التلبّس بها في مجتمع يصعب على النفس تركها، و لذا قيل: إنّ العادة طبيعة ثانية، و لذا كان أيضاً أوّل فعل مخالف حرجاً على النفس في الغاية و هو عند النفس

٨٤

دليل على الإمكان، ثمّ لا يزال كلّما تحقّق فعل زاد في سهولة التحقّق و نقص بقدره من صعوبته.

فإذا تحقّق الإنسان أنّ عملاً كذا حقّ صالح و نزع عن نفسه أغراض العناد و اللجاج بإماتة الاستكبار و الاستعلاء على الحقّ كان من العون كلّ العون على إتيانه أن يرى إنساناً يرتكبه فتتلقّى نفسه إمكان العمل.

و من هنا يظهر أنّ المجتمع إنّما يتهيّؤ لقبول الحقّ إذا اشتمل على علماء يعلمونه و يعلّمونه، و على رجال يقومون بالعمل به حتّى يذعن العامّة بإمكان العمل و يشاهدوا حسنه، و على اعتياد عامّتهم على الخضوع للحقّ و عدم الاستكبار عنه إذا انكشف لهم.

و لهذا علّل الله سبحانه قرب النصارى من قبول الدعوة الحقّة الدينيّة بأنّ فيهم قسّيسين و رهباناً و أنّهم لا يستكبرون ففيهم علماء لا يزالون يذكّرونهم مقام الحقّ و معارف الدين قولاً، و فيهم زهّاد يذكّرونهم عظمة ربّهم و أهمّيّة سعادتهم الاُخرويّة و الدنيويّة عملاً، و فيهم عدم الاستكبار عن قبول الحقّ.

و أمّا اليهود فإنّهم و إن كان فيهم أحبار علماء لكنّهم مستكبرون لا تدعهم رذيلة العناد و الاستعلاء أن يتهيّؤا لقبول الحقّ.

و أمّا الّذين أشركوا فإنّهم يفقدون العلماء و الزهّاد، و فيهم رذيلة الاستكبار.

قوله تعالى: ( وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى‏ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ) إلخ، فاضت العين بالدمع سال دمعها بكثرة، و( مِنَ ) في قوله:( مِنَ الدَّمْعِ ) للابتداء، و في قوله:( مِمَّا ) للنشوء، و في قوله:( مِنَ الْحَقِّ ) بيانيّة.

قوله تعالى: ( وَ ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ ) إلخ، لفظة( يُدْخِلَنا ) كأنّها مضمّنة معنى الجعل، و لذلك عدّي بمع، و المعنى: يجعلنا ربّنا مع القوم الصالحين مدخلاً لنا فيهم.

و في هذه الأفعال و الأقوال الّتي حكاها الله تعالى عنهم تصديق ما ذكره عنهم أنّهم أقرب مودّة للّذين آمنوا، و تحقيق أنّ فيهم العلم النافع و العمل الصالح و الخضوع للحقّ

٨٥

حيث كان فيهم قسّيسون و رهبان و هم لا يستكبرون.

قوله تعالى: ( فَأَثابَهُمُ اللهُ ) إلى آخر الآيتين،( الإثابة) المجازاة، و الآية الاُولى ذكر جزائهم، و الآية الثانية فيها ذكر جزاء من خالفهم على طريق المقابلة استيفاءً للأقسام.

( بحث روائي)

في معاني الأخبار، بإسناده عن الرضا عن آبائه، عن عليّعليه‌السلام : في قوله تعالى:( كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ) معناه أنّهما كانا يتغوّطان.

أقول: و رواه العيّاشيّ في تفسيره مرفوعاً.

و في الكافي، بإسناده عن أبي عبيدة الحذّاء، عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) قال: الخنازير على لسان داود، و القردة على لسان عيسى بن مريم.

أقول: و رواه القمّيّ و العيّاشيّ عنهعليه‌السلام ، و روي بطرق أهل السنّة عن مجاهد و قتادة و غيرهما: لعن القردة على لسان داود، و الخنازير على لسان عيسى بن مريم‏، و يوافقه بعض روايات الشيعة كما يأتي.

و في المجمع، عن أبي جعفرعليه‌السلام : أمّا داود فإنّه لعن أهل أيلة لما اعتدوا في سبتهم، و كان اعتداؤهم في زمانه فقال: اللّهمّ ألبسهم اللعنة مثل الرداء، و مثل المنطقة على الخصرين فمسخهم الله قردة، و أمّا عيسى فإنّه لعن الّذين نزلت عليهم المائدة ثمّ كفروا بعد ذلك، قال: فقال أبوجعفرعليه‌السلام : يتولّون الملوك الجبّارين، و يزيّنون لهم هواهم ليصيبوا من دنياهم.

أقول: و القرآن يؤيّد كون أصحاب السبت ممسوخين إلى القردة قال تعالى:( وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) البقرة: ٥٦ و قال تعالى:( وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ

٨٦

شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ - إلى أن قال -وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى‏ رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ - إلى أن قال -فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) الأعراف: ١٦٦.

و في الدرّ المنثور: أخرج عبد بن حميد و أبوالشيخ و الطبرانيّ و ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ بني إسرائيل لما عملوا الخطيئة نهاهم علماؤهم تعزيراً ثمّ جالسوهم و آكلوهم و شاربوهم كأن لم يعملوا بالأمس خطيئة فلمّا رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، و لعنهم على لسان نبيّ من الأنبياء، ثمّ (قال،ظ) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و الله لتأمرنّ بالمعروف، و لتنهنّ عن المنكر، و لتأطرنّهم على الحقّ أطراً أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض و ليلعننّكم كما لعنهم.

و فيه: أخرج عبد بن حميد عن معاذ بن جبل قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خذوا العطاء ما كان عطاءً فإذا كان رشوة عن دينكم فلا تأخذوا و لن تتركوه يمنعكم من ذلك الفقر و المخافة إنّ بني يأجوج قد جاؤا، و إنّ رحى الإسلام سيدور فحيثما دار القرآن فدوروا به، يوشك السلطان و القرآن أن يقتتلا و يتفرّقا أنّه سيكون عليكم ملوك يحكمون لكم بحكم و لهم بغيره فإن أطعتموهم أضلّوكم، و إن عصيتموهم قتلوكم.

قالوا: يا رسول الله كيف بنا إن أدركنا ذلك؟ قال: تكونوا كأصحاب عيسى نشروا بالمناشير، و رفعوا على الخشب، موت في طاعة خير من حياة في معصية إنّ أوّل ما نقص في بني إسرائيل أنّهم كانوا يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر سنّة التعزير فكان أحدهم إذا لقي صاحبه الّذي كان يعيب عليه آكله و شاربه و كأنّه لم يعب عليه شيئاً فلعنهم الله على لسان داود، و ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون.

و الّذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف و لتنهنّ عن المنكر أو ليسلّطنّ الله عليكم شراركم ثمّ ليدعونّ خياركم فلا يستجاب لكم.

و الّذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف و لتنهنّ عن المنكر، و لتأخذنّ على يد الظالم فلتأطرنّه عليه أطراً أو ليضربنّ الله قلوب بعضكم ببعض.

٨٧

و فيه، أيضاً: أخرج ابن راهويه و البخاريّ في الوحدانيّات، و ابن السكن و ابن مندة و الباورديّ في معرفة الصحابة، و الطبرانيّ و أبونعيم و ابن مردويه عن ابن أبزى، عن أبيه:

قال: خطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحمد الله و أثنى عليه ثمّ ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم خيراً، ثمّ قال: ما بال أقوام لا يعلّمون جيرانهم و لا يفقّهونهم، و لا يأمرونهم و لا ينهونهم؟ و ما بال أقوام لا يتعلّمون من جيرانهم و لا يتفقّهون و لا يتفطّنون؟ و الّذي نفسي بيده ليعلّمنّ (جيرانهم،ظ) أو ليتفقّهنّ أو ليتفطّننّ أو لاُعاجلنّهم بالعقوبة في دار الدنيا، ثمّ نزل و دخل بيته فقال أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من يعني بهذا الكلام؟ قالوا: ما نعلم يعني بهذا الكلام إلّا الأشعريّين فقهاء علماء، و لهم جيران جفاة جهلة.

فاجتمع جماعة من الأشعريّين فدخلوا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: ذكرت طوائف من المسلمين بخير و ذكرتنا بشرّ فما بالنا؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لتعلّمنّ جيرانكم و لتفقّهنّهم و لتأمرنّهم و لتنهنّهم أو لاُعاجلنّكم بالعقوبة في دار الدنيا، فقالوا: يا رسول الله فأمهلنا سنة ففي سنة مّا نعلّمهم و يتعلّمون فأمهلهم سنة ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ، كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن الهيثمّ التميميّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ) ، قال: أمّا إنّهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم و لا يجالسون مجالسهم و لكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم و أنسوا بهم.

و فيه، أيضاً: عن مروان، عن بعض أصحابه، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ذكر النصارى و عداوتهم فقال: قول الله:( ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) ، قال: اُولئك كانوا قوماً بين عيسى و محمّد ينتظرون مجي‏ء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: ظاهر الآية العموم دون الخصوص، و لعلّ المراد أنّ المدح إنّما هو لهم

٨٨

ما لم يغيّروا كما أنّ الذي مدح الله به المسلمين كذلك.

و في الدرّ المنثور: أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه عن سعيد بن جبير: في قوله:( ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً ) قال: هم رسل النجاشيّ الّذين أرسل بإسلامه إسلام قومه كانوا سبعين رجلاً اختارهم من قومه الخير فالخير في الفقه و السنّ.

و في لفظ: بعث من خيار أصحابه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثين رجلاً فلمّا أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخلوا عليه فقرأ عليهم سورة( يس) فبكوا حين سمعوا القرآن و عرفوا أنّه الحقّ.

فأنزل الله فيهم:( ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً ، الآية) و نزلت هذه الآية فيهم أيضاً:( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ - إلى قوله -أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ) .

و فيه: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو بمكّة يخاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب و ابن مسعود و عثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشيّ ملك الحبشة.

فلمّا بلغ المشركين بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم، ذكروا أنّهم سبقوا أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى النجاشيّ فقالوا: إنّه قد خرج فينا رجل سفّه عقول قريش و أحلامها زعم أنّه نبيّ، و أنّه بعث إليك رهطاً ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك و نخبرك خبرهم.

قال: إنّ جاؤني نظرت فيما يقولون، فلمّا قدم أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتوا إلى باب النجاشيّ فقالوا: استأذن لأولياء الله فقال: ائذن لهم فمرحباً بأولياء الله فلمّا دخلوا عليه سلّموا، فقال الرهط من المشركين: أ لم تر أيّها الملك أنّا صدقناك، و أنّهم لم يحيّوك بتحيّتك الّتي تحيّا بها؟ فقال لهم: ما يمنعكم أن تحيّوني بتحيّتي؟ قالوا: إنّا حييّناك بتحيّة أهل الجنّة و تحيّة الملائكة.

فقال لهم: ما يقول صاحبكم في عيسى و اُمّه؟ قالوا: يقول: عبدالله و رسوله و

٨٩

كلمة من الله و روح منه ألقاها إلى مريم، و يقول في مريم: إنّها العذراء الطيّبة البتول قال: فأخذ عودا من الأرض فقال: ما زاد عيسى و اُمّه على ما قال صاحبكم هذا العود، فكره المشركون قوله و تغيّر له وجوههم.

فقال: هل تقرؤن شيئاً ممّا اُنزل عليكم؟ قالوا: نعم، قال: فاقرؤوا فقرؤا - و حوله القسّيسون و الرهبان و سائر النصارى - فجعلت طائفة من القسّيسين و الرهبان كلّما قرؤوا آية انحدرت دموعهم ممّا عرفوا من الحقّ قال الله:( ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ، وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى‏ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ) .

أقول: و روى القمّيّ في تفسيره القصّة مفصّلة في خبر طويل، و في آخره: و رجعوا إلى النجاشيّ فأخبروه خبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قرؤا عليه ما قرأ عليهم فبكى النجاشيّ و بكى القسّيسون، و أسلم النجاشيّ و لم يظهر للحبشة إسلامه، و خافهم على نفسه فخرج من بلاد الحبشة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا عبّر البحر توفّي‏، الحديث.

( كلام في معنى التوحيد في القرآن)

لا يرتاب الباحث المتعمّق في المعارف الكلّيّة أنّ مسألة التوحيد من أبعدها غوراً، و أصعبها تصوّراً و إدراكاً، و أعضلها حلّاً لارتفاع كعبها عن المسائل العامّة العامّيّة الّتي تتناولها الأفهام، و القضايا المتداولة الّتي تألفها النفوس، و تعرفها القلوب.

و ما هذا شأنه تختلف العقول في إدراكه و التصديق به للتنوّع الفكريّ الّذي فطر عليه الإنسان من اختلاف أفراده من جهة البنية الجسميّة و إدّاء ذلك إلى اختلاف أعضاء الإدراك في أعمالها ثمّ تأثير ذلك الفهم و التعقّل من حيث الحدّة و البلادة، و الجودة و الرداءة، و الاستقامة و الانحراف.

فهذا كلّه ممّا لا شك فيه، و قد قرّر القرآن هذا الاختلاف في موارد من آياته الكريمة كقوله تعالى:( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) الزمر: ٩، و قوله تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا

٩٠

الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) النجم: ٣٠، و قوله تعالى:( فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ) النساء: ٨٧، و قوله تعالى في ذيل الآية ٧٥ من المائدة (و هي من جملة الآيات الّتي نحن فيها):( انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) .

و من أظهر مصاديق هذا الاختلاف الفهميّ اختلاف أفهام الناس في تلقّي معنى توحّده تعالى لما في أفهامهم من الاختلاف العظيم و النوسان الوسيع في تقرير مسألة وجوده تعالى على ما بينهم من الاتّفاق على ما تعطيه الفطرة الإنسانيّة بإلهامها الخفيّ و إشارتها الدقيقة.

فقد بلغ فهم آحاد من الإنسان في ذلك أن جعل الأوثان المتّخذة، و الأصنام المصنوعة من الخشب و الحجارة حتّى من نحو الأقط و الطينة المعمولة من أبوال الغنم شركاء لله، و قرناء له، يعبد كما تعبد هؤلاء، و يسأل كما تسأل هؤلاء، و يخضع له كما يخضع لها، و لم يلبث هذا الإنسان دون أن غلّب هذه الأصنام عليه تعالى بزعمه، و أقبل عليها و تركه، و أمّرها على حوائجه و عزله.

فهذا الإنسان قصارى ما يراه من الوجود له تعالى هو مثل ما يراه لآلهته الّتي خلقها بيده، أو خلقها إنسان مثله بيده، و لذلك كانوا يثبتون له تعالى من صفة الوحدة مثل ما يصفون به كلّ واحد من أصنامهم، و هي الوحدة العدديّة الّتي تتألّف منها الأعداد، قال تعالى:( وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ، أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ عُجابٌ ) ص: ٦.

فهؤلاء كانوا يتلقّون الدعوة القرآنيّة إلى التوحيد دعوة إلى القول بالوحدة العدديّة الّتي تقابل الكثرة العدديّة كقوله تعالى:( وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) البقرة: ١٦٣ و قوله تعالى:( هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) المؤمن: ٦٥ و غير ذلك من الآيات الداعية إلى رفض الآلهة الكثيرة، و توجيه الوجه لله الواحد، و قوله تعالى:( وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ ) العنكبوت: ٤٦ و غيره من الآيات الداعية إلى رفض التفرّق في العبادة للإله، حيث كانت كلّ اُمّة أو طائفة أو قبيلة تتّخذ

٩١

إلهاً تختصّ به، و لا تخضع لإله الآخرين.

و القرآن ينفي في عالي تعليمه الوحدة العدديّة عن الإله جلّ ذكره، فإنّ هذه الوحدة لا تتّم إلّا بتميّز هذا الواحد من ذلك الواحد بالمحدوديّة الّتي تقهره، و المقدّريّة الّتي تغلبه، مثال ذلك ماء الحوض إذا فرّقناه في آنية كثيرة كان ماء كلّ إناء ماءً واحداً غير الماء الواحد الّذي في الإناء الآخر، و إنّما صار ماءً واحداً يتميّز عمّا في الآخر لكون ما في الآخر مسلوباً عنه غير مجتمع معه، و كذلك هذا الإنسان إنّما صار إنساناً واحداً لأنّه مسلوب عنه ما للإنسان الآخر، و لو لا ذلك لم يتأتّ للإنسانيّة الصادقة على هذا و ذاك أن تكون واحدة بالعدد و لا كثيرة بالعدد.

فمحموديّة الوجود هي الّتي تقهر الواحد العدديّ على أن يكون واحداً ثمّ بانسلاب هذه الوحدة من بعض الجهات تتألّف كثرة عدديّة كما عنده عروض صفة الاجتماع بوجه.

و إذ كان الله سبحانه قاهراً غير مقهور، و غالباً لا يغلبه شي‏ء البتّة كما يعطيه التعليم القرآنيّ لم تتصوّر في حقّه وحدة عدديّة و لا كثرة عدديّة، قال تعالى:( وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) الرعد: ١٦، و قال:( أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ) يوسف: ٤٠، و قال:( وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) ص: ٦٥، و قال:( لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى‏ مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) الزمر: ٤.

و الآيات بسياقها - كما ترى - تنفي كلّ وحدة مضافة إلى كثرة مقابلة لها سواء كانت وحدة عدديّة كالفرد الواحد من النوع الّذي لو فرض بإزائه فرد آخر كانا اثنين فإنّ هذا الفرد مقهور بالحدّ الّذي يحدّه به الفرد الآخر المسلوب عنه المفروض قباله، أو كانت وحدة نوعيّة أو جنسيّة أو أيّ وحدة كلّيّة مضافة إلى كثرة من سنخها كالإنسان الّذي هو نوع واحد مضاف إلى الأنواع الكثيرة الحاصلة منه و من الفرس و البقر و الغنم و غيرها فإنّه مقهور بالحدّ الّذي يحدّه به ما يناظره من الأنواع الاُخر، و إذ كان تعالى لا يقهره شي‏ء في شي‏ء البتّة من ذاته و لا صفته و لا فعله و هو القاهر فوق كلّ شي‏ء

٩٢

فليس بمحدود في شي‏ء يرجع إليه، فهو موجود لا يشوبه عدم، و حقّ لا يعرضه بطلان، و هو الحيّ لا يخالطه موت، و العليم لا يدبّ إليه جهل، و القادر لا يغلبه عجز، و المالك و الملك من غير أن يملك منه شي‏ء و العزيز الّذي لا ذلّ له، و هكذا.

فله تعالى من كلّ كمال محضه، و إن شئت زيادة تفهّم و تفقّه لهذه الحقيقة القرآنيّة فافرض أمراً متناهياً و آخر غير متناه تجد غير المتناهي محيطاً بالمتناهي بحيث لا يدفعه المتناهي عن كماله المفروض أيّ دفع، فرضته بل غير المتناهي مسيطر عليه بحيث لا يفقده المتناهي في شي‏ء من أركان كماله، و غير المتناهي هو القائم على نفسه، الشهيد عليه، المحيط به، ثمّ انظر في ذلك إلى ما يفيده قوله تعالى:( أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ، أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ ) حم السجدة: ٥٤.

و هذا هو الّذي يدلّ عليه عامّة الآيات الواصفة لصفاته تعالى الواقعة في سياق الحصر أو الظاهر فيه كقوله تعالى:( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ ) طه: ٨، و قوله:( وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) النور: ٢٥، و قوله:( هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) المؤمن: ٦٥، و قوله:( وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ) الروم: ٥٤، و قوله:( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) البقرة: ١٦٥، و قوله:( لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ ) التغابن: ١، و قوله:( إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) يونس: ٦٥، و قوله:( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) البقرة: ١٤٧، و قوله:( أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَ اللهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) فاطر: ١٥، إلى غير ذلك من الآيات.

فالآيات - كما ترى - تنادي بأعلى صوتها أنّ كلّ كمال مفروض فهو لله سبحانه بالأصالة، و ليس لغيره شي‏ء إلّا بتمليكه تعالى له ذلك من غير أن ينعزل عمّا يملكه و يملّكه كما ننعزل نحن معاشر الخليقة عمّا ملّكناه غيرنا.

فكلّما فرضنا شيئاً من الأشياء ذا شي‏ء من الكمال في قباله تعالى ليكون ثانياً له و شريكاً عاد ما بيده من معنى الكمال لله سبحانه محضاً، و هو الحقّ الّذي يملك كلّ شي‏ء، و غيره الباطل الّذي لا يملك لنفسه شيئاً قال تعالى:( لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا

٩٣

وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً ) الفرقان: ٣.

و هذا المعنى هو الّذي ينفي عنه تعالى الوحدة العدديّة إذ لو كان واحداً عدديّاً أي موجوداً محدوداً منعزل الذات عن الإحاطة بغيره من الموجودات صحّ للعقل أن يفرض مثله الثاني له سواء كان جائز التحقّق في الخارج أو غير جائز التحقّق، و صحّ عند العقل أن يتّصف بالكثرة بالنظر إلى نفسه و إن فرض امتناعه في الواقع، و ليس كذلك.

فهو تعالى واحد بمعنى أنّه من الوجود بحيث لا يحدّ بحدّ حتّى يمكن فرض ثان له فيما وراء ذلك الحدّ و هذا معنى قوله تعالى:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، اللهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ، وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) سورة التوحيد: ٤ فإنّ لفظ أحد إنّما يستعمل استعمالاً يدفع إمكان فرض العدد في قباله يقال:( ما جاءني أحد) و ينفي به أن يكون قد جاء الواحد و كذا الاثنان و الأكثر و قال تعالى:( وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ) التوبة: ٦ فشمل الواحد و الاثنين و الجماعة و لم يخرج عن حكمه عدد، و قال تعالى:( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) فشمل الواحد و ما وراءه، و لم يشذّ منه شاذّ.

فاستعمال لفظ أحد في قوله:( هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) في الإثبات من غير نفي و لا تقييد بإضافة أو وصف يفيد أنّ هويّته تعالى بحيث يدفع فرض من يماثله في هويّته بوجه سواء كان واحداً أو كثيراً فهو محال بحسب الفرض الصحيح مع قطع النظر عن حاله بحسب الخارج.

و لذلك وصفه تعالى أوّلاً بأنّه صمد، و هو المصمت الّذي لا جوف له و لا مكان خالياً فيه، و ثانياً بأنّه لم يلد، و ثالثاً بأنّه لم يولد، و رابعاً بأنّه لم يكن له كفواً أحد، و كلّ هذه الأوصاف ممّا يستلزم نوعاً من المحدوديّة و الانعزال.

و هذا هو السرّ في عدم وقوع توصيفات غيره تعالى عليه حقّ الوقوع و الاتّصاف قال تعالى:( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: ١٦٠، و قال تعالى:( وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) طه: ١١٠، فإنّ المعاني الكماليّة الّتي نصفه تعالى بها أوصاف محدودة، و جلّت ساحته سبحانه عن الحدّ و القيد، و هو الّذي يرومه النبيّ

٩٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلمته المشهورة:( لا اُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك) .

و هذا المعنى من الوحدة هو الّذي يدفع به تثليث النصارى فإنّهم موحّدون في عين التثليث لكنّ الّذي يذعنون به من الوحدة وحدة عدديّة لا تنفي الكثرة من جهة اُخرى فهم يقولون: إنّ الأقانيم (الأب و الابن و الروح) (الذات و العلم و الحياة) ثلاثة و هي واحدة كالإنسان الحيّ العالم فهو شي‏ء واحد لأنّه إنسان حيّ عالم و هو ثلاثة لأنّه إنسان و حياة و علم.

لكنّ التعليم القرآنيّ ينفي ذلك لأنّه يثبت من الوحدة ما لا يستقيم معه فرض أيّ كثرة و تمايز لا في الذات و لا في الصفات، و كلّ ما فرض من شي‏ء في هذا الباب كان عين الآخر لعدم الحدّ فذاته تعالى عين صفاته، و كلّ صفة مفروضة له عين الاُخرى، تعالى الله عمّا يشركون، و سبحانه عمّا يصفون.

و لذلك ترى أنّ الآيات الّتي تنعته تعالى بالقهّاريّة تبدء أوّلاً بنعت الوحدة ثمّ تصفه بالقهّاريّة لتدلّ على أنّ وحدته لا تدع لفارض مجال أن يفرض له ثانياً مماثلاً بوجه فضلاً عن أن يظهر في الوجود، و ينال الواقعيّة و الثبوت، قال تعالى:( أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ) يوسف: ٤٠، فوصفه بوحدة قاهرة لكلّ شريك مفروض لا تبقى لغيره تعالى من كلّ معبود مفروض إلّا الاسم فقط، و قال تعالى:( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) الرعد: ١٦، قال تعالى:( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن: ١٦، إذ ملكه تعالى المطلق لا يخلّي مالكاً مفروضاً غيره دون أن يجعله نفسه و ما يملكه ملكاً لله سبحانه، و قال تعالى:( وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) ص: ٦٥، و قال تعالى:( لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى‏ مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) الزمر: ٤، فرتّب القهّاريّة في جميع الآيات على صفة الوحدة.

٩٥

( بحث روائي)

( كلام في معنى التوحيد)

في التوحيد، و الخصال، بإسناده عن المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه قال: إنّ أعرابيّاً قام يوم الجمل إلى أميرالمؤمنينعليه‌السلام فقال: يا أميرالمؤمنين أ تقول: إنّ الله واحد؟ قال: فحمل الناس عليه و قالوا: يا أعرابيّ أ ما ترى ما فيه أميرالمؤمنين من تقسّم القلب؟ فقال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : دعوه فإنّ الّذي يريده الأعرابيّ هو الّذي نريده من القوم!.

ثمّ قال: يا أعرابيّ إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّوجلّ، و وجهان يثبتان فيه فأمّا اللّذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد أ ما ترى أنّه كفر من قال: إنّه ثالث ثلاثة؟ و قول القائل: هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لأنّه تشبيه، و جلّ ربّنا و تعالى عن ذلك.

و أمّا الوجهان اللّذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربّنا، و قول القائل: إنّه عزّوجلّ أحديّ المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم، كذلك ربّنا عزّوجلّ.

أقول: و رواه أيضاً في المعاني، بسند آخر عن أبي المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه عنهعليه‌السلام .

و في النهج: أوّل الدين معرفته، و كمال معرفته التصديق به، و كمال التصديق به توحيده، و كمال توحيده الإخلاص له، و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، و شهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف الله فقد قرنه، و من قرنه فقد ثنّاه، و من ثنّاه فقد جزّأه، و من جزّأه فقد جهله، و من جهله فقد أشار إليه، و من أشار إليه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه‏ (الخطبة).

أقول: و هو من أبدع البيان، و محصّل الشطر الأوّل من الكلام أنّ معرفته تنتهي في استكمالها إلى نفي الصفات عنه، و محصّل الشطر الثاني المتفرّع على الشطر الأوّل

٩٦

- أعني قولهعليه‌السلام : فمن وصف الله فقد قرنه إلخ - أنّ إثبات الصفات يستلزم إثبات الوحدة العدديّة المتوقّفة على التحديد غير الجائز عليه تعالى، و تنتج المقدّمتان أنّ كمال معرفته تعالى يستوجب نفي الوحدة العدديّة منه، و إثبات الوحدة بمعنى آخر، و هو مرادهعليه‌السلام من سرد الكلام.

أمّا مسألة نفي الصفات عنه فقد بيّنهعليه‌السلام بقوله:( أوّل الدين معرفته) لظهور أنّ من لم يعرف الله سبحانه و لو بوجه لم يحلّ بعد في ساحة الدين، و المعرفة ربّما كانت مع عمل بما يرتبط به من الأفعال و ترتّب آثار المعروف، و ربّما كانت من غير عمل، و من المعلوم أنّ العلم فيما يتعلّق نوع تعلّق بالأعمال إنّما يثبت و يستقرّ في النفس إذا ترتّب عليه آثاره العمليّة، و إلّا فلا يزال العلم يضعف بإتيان الأعمال المخالفة حتّى يبطل أو يصير سدىّ لا أثر له، و من كلامهعليه‌السلام في هذا الباب - و قد رواه في النهج -:( العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل، و العلم يهتف بالعمل فإن أجابه و إلّا ارتحل عنه) .

فالعلم و المعرفة بالشي‏ء إنّما يكمل إذا أخذ العارف معروفه صدقاً، و أظهر ذلك في باطنه و ظاهره، و جنانه و أركانه بأن يخضع له روحاً و جسماً، و هو الإيمان المنبسط على سرّه و علانيته، و هو قوله:( و كمال معرفته التصديق به) .

ثمّ هذا الخضوع المسمّى بالتصديق به و إن جاز تحقّقه مع إثبات الشريك للربّ المخضوع له كما يخضع عبدة الأصنام لله و لسائر آلهتهم جميعاً لكنّ الخضوع بشي‏ء لا يتمّ من غير انصراف عن غيره بالبداهة، فالخضوع لواحد من الآلهة في معنى الإعراض عن غيره و الاستكبار في الجملة عنه فلا يكمل التصديق بالله و الخضوع لمقامه إلّا بالإعراض عن عبادة الشركاء، و الانصراف عن دعوة الآلهة الكثيرة، و هو قوله:( و كمال التصديق به توحيده) .

ثمّ إنّ للتوحيد مراتب مختلفة بعضها فوق بعض، و لا يكمل حتّى يعطى الإله الواحد حقّه من الاُلوهيّة المنحصرة، و لا يقتصر على مجرّد تسميته إلهاً واحداً بل ينسب إليه كلّ ما له نصيب من الوجود و الكمال كالخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة و الإعطاء و المنع، و أن يخصّ الخضوع و العبادة به فلا يتذلّل لغيره بوجه من الوجوه

٩٧

بل لا يرجى إلّا رحمته، و لا يخاف إلّا سخطه، و لا يطمع إلّا فيما عنده، و لا يعكف إلّا على بابه.

و بعبارة اُخرى أن يخلص له علماً و عملاً، و هو قولهعليه‌السلام :( و كمال توحيده الإخلاص له) .

و إذا استوى الإنسان على أريكة الإخلاص، و ضمّته العناية الإلهيّة إلى أولياء الله المقرّبين لاحت على بصيرته لوائح العجز عن القيام بحقّ المعرفة، و توصيفه بما يليق بساحة كبريائه و عظمته فإنّه ربّما شاهد أنّ الذي يصفه تعالى به معان مدركة ممّا بين يديه من الأشياء المصنوعة، و اُمور ألّفها من مشهوداته الممكنة، و هي صور محدودة مقيّدة يدفع بعضها بعضاً، و لا تقبل الائتلاف و الامتزاج، انظر إلى مفاهيم الوجود و العلم و القدرة و الحياة و الرزق و العزّة و الغنى و غيرها.

و المعاني المحدودة يدفع بعضها بعضاً لظهور كون كلّ مفهوم خلواً عن المفهوم الآخر كمعنى العلم عن معنى القدرة فإنّا حين ما نتصوّر العلم نصرف عن القدرة فلا نجد معناها في معنى العلم، و إذا تصوّرنا معنى العلم و هو وصف من الأوصاف ننعزل عن معنى الذات و هو الموصوف.

فهذه المفاهيم و العلوم و الإدراكات تقصر عن الانطباق عليه جلّ شأنه حقّ الانطباق، و عن حكاية ما هو عليه حقّ الحكاية فتمسّ حاجة المخلص في وصفه ربّه إلى أن يعترف بنقص لا علاج له، و عجز لا جابر دونه فيعود فينفي ما أثبته، و يتيه في حيرة لا مخلص منها، و هو قولهعليه‌السلام :( و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، و شهادة كلّ موصوف أنّها غير الصفة) .

و هذا الّذي فسّرنا به هذا العقد من كلامهعليه‌السلام هو الّذي يؤيّده أوّل الخطبة حيث يقول:( الّذي لا يدركه بعد الهمم، و لا يناله غوص الفطن، الّذي ليس لصفته حدّ محدود، و لا نعت موجود، و لا وقت معدود، و لا أجل ممدود) على ما يظهر للمتأمّل الفطن.

و أمّا قولهعليه‌السلام :( فمن وصف الله فقد قرنه) إلخ، فهو توصّل منه إلى المطلوب

٩٨

- و هو أنّ الله سبحانه لا حدّ له و لا عدّ - من طريق تحليل إثبات الوصف كما كان البيان الأوّل توصّلاً منه من طريق تحليل المعرفة إلى نفي الوصف.

فمن وصف الله فقد قرنه لما عرفت من المغايرة بين الموصوف و الصفة، و الجمع بين المتغارين قرن، و من قرنه فقد ثنّاه لأخذه إيّاه موصوفاً و صفة و هما اثنان، و من ثنّاه فقد جزّأه إلى جزئين، و من جزّأه فقد جهله بالإشارة إليه إشارة عقليّة، و من أشار إليه فقد حدّه لكون الإشارة مستلزمة لانفصال المشار إليه عن المشير حتّى تتوسّط بينهما الإشارة الّتي هي إيجاد بعد مّا بين المشير و المشار إليه - يبتدئ من الأوّل و ينتهي إلى الثاني -( و من حدّه فقد عدّه) و جعله واحداً عدديّاً لأنّ العدد لازم الانقسام و الانعزال الوجوديّ تعالى الله عن ذلك.

و في النهج: من خطبة لهعليه‌السلام :( الحمد لله الّذي لم يسبق له حال حالاً فيكون أوّلاً قبل أن يكون آخراً، و يكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً، كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل، و كلّ عزيز غيره ذليل، و كلّ قويّ غيره ضعيف، و كلّ مالك غيره مملوك، و كلّ عالم غيره متعلّم، و كلّ قادر غيره يقدر و يعجز، و كلّ سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات و يصمّه كبيرها و يذهب عنه ما بعد منها، و كلّ بصير غيره يعمى عن خفيّ الألوان و لطيف الأجسام، و كلّ ظاهر غيره باطن، و كلّ باطن غيره ظاهر) .

أقول: بناء البيان على كونه تعالى غير محدود و كون غيره محدوداً فإنّ هذه المعاني و النعوت و كلّ ما كان من قبيلها إذا طرأ عليها الحدّ كانت لها إضافة مّا إلى غيرها، و يستوجب التحدّد حينئذ أن تنقطع و تزول عمّا اُضيفت إليه، و تتبدّل إلى ما يقابلها من المعنى.

فالظهور إذا فرض محدوداً كان بالنسبة إلى جهة أو إلى شي‏ء دون جهة اُخرى و شي‏ء آخر، و صار الأمر الظاهر باطناً خفيّاً بالنسبة إلى تلك الجهة الاُخرى و الشي‏ء الآخر، و العزّة إذا اُخذت بحدّ بطلت فيما وراء حدّها فكانت ذلّة بالنسبة إليه، و القوّة إذا كانت مقيّدة تبدّلت بالنسبة إلى ما وراء قيدها ضعفاً، و الظهور بطون في غير محلّه، و البطون ظهور في الخارج عن مستواه.

٩٩

و الملك إذا كان محدوداً كان من يحدّه مهيمناً على هذا المالك فهو و ملكه تحت ملك غيره، و العلم إذا كان محدوداً لم يكن من صاحبه لأنّ الشي‏ء لا يحدّ نفسه، فكان بإفاضة الغير و تعليمه، و هكذا.

و الدليل على أنّهعليه‌السلام بنى بيانه على معنى الحدّ قوله:( و كلّ سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات) إلخ، فإنّه و ما بعده ظاهر في الإشارة إلى محدوديّة المخلوقات، و السياق واحد.

و أمّا قولهعليه‌السلام :( و كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل) - و الجملة هي المقصودة من نقل الخطبة - فبناؤه على معنى الحدّ ظاهر فإنّ الوحدة العدديّة المتفرّعة على محدوديّة المسمّى بالواحد لازمة تقسّم المعنى و تكثّره، و كلّما زاد التقسّم و التكثّر أمعن الواحد في القلّة و الضعف بالنسبة إلى الكثرة الحادثة، فكلّ واحد عدديّ فهو قليل بالنسبة إلى الكثير الّذي بإزائه و لو بالفرض.

و أمّا الواحد الّذي لا حدّ لمعناه و لا نهاية له فلا يحتمل فرض الكثرة لعدم احتماله طروّ الحدّ و عروض التميّز و لا يشذّ عن وجوده شي‏ء من معناه حتّى يكثره و يقوى بضمّه، و يقلّ و يضعف بعزله، بل كلّما فرض له ثان في معناه فإذا هو هو.

و في النهج: و من خطبة لهعليه‌السلام :( الحمد لله الدالّ على وجوده بخلقه، و بمحدث خلقه على أزليّته، و باشتباههم على أن لا شبه له، لا يستلمه المشاعر، و لا يحجبه السواتر لافتراق الصانع و المصنوع، و الحادّ و المحدود، و الربّ و المربوب، الأحد لا بتأويل عدد، و الخالق لا بمعنى حركة و نصب، و السميع لا بأداة، و البصير لا بتفريق آلة، و الشاهد لا بمماسّة، و البائن لا بتراخي مسافة، و الظاهر لا برؤية، و الباطن لا بلطافة بان من الأشياء بالقهر لها و القدرة عليها، و بانت الأشياء منه بالخضوع له و الرجوع إليه، من وصفه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه، و من عدّه فقد أبطل أزله) .

أقول: أوّل كلامهعليه‌السلام مبنيّ على أنّ جميع المعاني و الصفات المشهودة في الممكنات اُمور محدودة لا تتمّ إلّا بحادّ يحدّها و صانع يصنعها، و ربّ يربّها، و هو الله سبحانه، و إذ كان الحدّ من صنعه فهو متأخّر عنه غير لازم له، فقد تنزّهت ساحة كبريائه عن هذه الحدود.

١٠٠

و إذا كان كذلك كان ما يوصف به من الصفات غير محدود بحدّ - و إن كان لفظنا قاصراً عنه، و المعنى غير واف به - فهو تعالى أحد لا بتأويل عدد يقضي بالمحدوديّة، و على هذا النهج خلقه و سمعه و بصره و شهوده و غير ذلك.

و من فروع ذلك أنّ بينونته من خلقه ليس بمعنى الانفصال و الانعزال تعالى عن الاتّصال و الانفصال، و الحلول و الانعزال، بل بمعنى قهره لها و قدرته عليها، و خضوعهم و رجوعهم إليه.

و قولهعليه‌السلام :( من وصفه فقد حدّه و من حدّه، فقد عدّه و من عدّه، فقد أبطل أزله) فرّع على إثبات الوحدة العدديّة إبطال الأزل لأنّ حقيقة الأزل كونه تعالى غير متناه في ذاته و صفاته و لا محدود فإذا اعتبر من حيث إنّه غير مسبوق بشي‏ء يتقدّم عليه كان هو أزله، و إذا اعتبر من حيث إنّه غير ملحوق بشي‏ء يتأخّر عنه كان هو أبده، و ربّما اعتبر من الجانبين فكان دواماً.

و أمّا ما يظهر من عدّة من الباحثين أنّ معنى كونه تعالى أزليّاً أنّه سابق متقدّم على خلقه المحدث تقدّماً في أزمنة غير متناهية لا خبر فيها عن الخلق و لا أثر منهم فهو من أشنع الخطأ، و أين الزمان الّذي هو مقدار حركة المتحرّكات و المشاركة معه تعالى في أزله؟!.

و في النهج: و من خطبة لهعليه‌السلام :( الحمد لله خالق العباد، و ساطح المهاد، و مسبل الوهاد، و مخصب النجاد، ليس لأوّليّته ابتداء، و لا لأزليّته انقضاء، هو الأوّل لم يزل، و الباقي بلا أجل، خرّت له الجباه، و وحّدته الشفاه، حدّ الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها، لا تقدّره الأوهام بالحدود و الحركات، و لا بالجوارح و الأدوات، لا يقال: متى؟ و لا يضرب له أمد بحتّى، الظاهر لا يقال: ممّا؟ و الباطن لا يقال: فيما؟ لا شبح فيتقضّى و لا محجوب فيحوى، لم يقرب من الأشياء بالتصاق، و لم يبعد عنها بافتراق، لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة، و لا كرور لفظة، و لا ازدلاف ربوة، و لا انبساط خطوة في ليل داج، و لا غسق ساج، يتفيّؤ عليه القمر المنير، و تعقّبه الشمس ذات النور في الاُفول و الكرور و تقلّب الأزمنة و الدهور من إقبال ليل مقبل و إدبار

١٠١

نهار مدبر، قبل كلّ غاية و مدّة، و كلّ إحصاء و عدّة، تعالى عمّا ينحله المحدّدون من صفات الأقدار، و نهايات الأقطار، و تأثّل المساكن، و تمكّن الأماكن، فالحدّ لخلقه مضروب، و إلى غيره منسوب، لم يخلق الأشياء من اُصول أزليّة، و لا أوائل أبديّة بل خلق ما خلق فأقام حدّه، و صوّر ما صوّر فأحسن صورته) .

و في النهج: من خطبة لهعليه‌السلام :( ما وحّده من كيّفه، و لا حقيقته أصاب من مثّله، و لا إيّاه عنى من شبّهه، و لا صمده من أشار إليه و توهّمه، كلّ معروف بنفسه مصنوع، و كلّ قائم في سواه معلول، فاعل لا باضطراب آلة، مقدّر لا يحول فكره، غنيّ لا باستفادة، لا تصحبه الأوقات، و لا ترفده الأدوات، سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بمضادّته بين الاُمور عرف أن لا ضدّ له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ضادّ النور بالظلمة، و الوضوح بالبهمة، و الجمود بالبلل، و الحرور بالصرد، مؤلّف بين متعادياتها، مقارن بين متبائناتها، مقرّب بين متباعداتها، مفرّق بين متدانياتها، لا يشمل بحدّ، و لا يحسب بعدّ، و إنّما تحدّ الأدوات أنفسها، و تشير الإله إلى نظائرها، منعتها( منذ) القدمة، و حمتها( قد) الأزليّة، و جنّبتها( لو لا) التكملة، بها تجلّى صانعها للعقول، و بها امتنع عن نظر العيون، لا يجري عليه السكون و الحركة، و كيف يجري عليه ما هو أجراه؟ و يعود فيه ما هو أبداه؟ و يحدث فيه ما هو أحدثه؟ إذاً لتفاوتت ذاته، و لتجزّأ كنهه، و لامتنع من الأزل معناه، و لكان له وراء إذا وجد له أمام، و لالتمس التمام إذا لزمه النقصان، و إذاً لقامت آية المصنوع فيه، و لتحوّل دليلاً بعد أن كان مدلولاً عليه) .

أقول: أوّل كلامهعليه‌السلام مسوق لبيان امتناع ذاته المقدّسة عن الحدّ، و لزمه في جميع ما عداه، و قد تقدّم توضيحه الإجماليّ فيما تقدّم.

و قوله:( لا يشمل بحدّ و لا يحسب بعدّ) كالنتيجة لما تقدّمه من البيان، و قوله:( و إنّما تحدّ الأدوات أنفسها، و تشير الإله إلى نظائرها) بمنزلة بيان آخر لقوله: لا يشمل بحدّ، إلخ فإنّ البيان السابق إنّما سيق من مسلك أنّ هذه الحدود المستقرّة في المصنوعات مجعولة للذات المتعالية متأخّرة عنها تأخّر الفعل عن فاعله فلا يمكن

١٠٢

أن تتقيّد بها الذات إذ كان ذات و لا فعل.

و أمّا ما في قوله:( و إنّما تحدّ) إلخ، من البيان فهو مسوق من طريق آخر، و هو أنّ التقدير و التحديد الّذي هو شأن هذه الأدوات و الحدود إنّما هو بالمسانخة النوعيّة كما أنّ المثقال الّذي هو واحد الوزن مثلاً توزن به الأثقال دون الألوان و الأصوات مثلاً، و الزمان الّذي هو مقدار الحركة إنّما تحدّ به الحركات، و الإنسان مثلاً إنّما يقدّر بما له من الوزن الاجتماعيّ المتوسّط مثلاً من يماثله في الإنسانيّة، و بالجملة كلّ حدّ من هذه الحدود يعطي لمحدوده شبيه معناه، و كلّ صفة إمكانيّة كائنة ما كانت مبنيّة على قدر و حدّ و ملزومة لأمد و نهاية، و كيف يمكن أن يحمل معناها المحدود على ذات أزليّة أبديّة غير متناهية؟.

فهذا هو مرادهعليه‌السلام ، و لذلك أردفه بقوله:( منعتها منذ القدمة) إلخ، أي صدق كلمة( منذ) و كلمة( قد) الدالّتين على الحدوث الزمانيّ، على الأشياء منعتها و حمتها أن تتّصف بالقدمة، و كذلك صدق كلمة( لو لا) في الأشياء و هي تدلّ على النقص و اقتران المانع جنبتها و بعّدتها أن تكون كاملة من كلّ وجه.

و قوله:( بها تجلّى صانعها للعقول و بها امتنع من نظر العيون) الضميران للأشياء أي إنّ، الأشياء بما هي آيات له تعالى و الآية لا تري إلّا ذا الآية فهي كالمرائي لا تجلّي إلّا إيّاه تعالى فهو بها تجلّى للعقول و بها أيضاً امتنع عن نظر العيون إذ لا طريق إلى النظر إليه تعالى إلّا هذه الآيات و هي محدودة لا تنال إلّا مثلها لا ربّها المحيط بكلّ شي‏ء.

و هذا المعنى بعينه هو الموجب لامتناعه عن نظر العيون فإنّها آلات مركّبة مبنيّة على الحدود لا تعمل إلّا في المحدود، و جلّت ساحة ربّ العزّة عن الحدّ.

و قولهعليه‌السلام :( لا يجري عليه السكون و الحركة) إلخ، بمنزلة العود إلى أوّل الكلام ببيان آخر يبيّن به أنّ هذه الأفعال و الحوادث الّتي هي تنتهي إلى الحركة

١٠٣

و السكون لا تجري عليه، و لا تعود فيه و لا تحدث فإنّها آثاره الّتي تترتّب على تأثيره في غيره، و معنى تأثير المؤثّر توجيهه أثره المتفرّع على نفسه إلى غيره، و لا معنى لتأثير الشي‏ء في نفسه إلّا بنوع من التجزّي و التركيب العارض لذاته كالإنسان مثلاً يدبّر بنفسه بدنه، و يضرب بيده على رأسه، و الطبيب يداوي بطبّه مرضه، فكلّ ذلك إنّما يصحّ لاختلاف في الأجزاء أو الحيثيّات، و لو لا ذلك لامتنع وقوع التأثير.

فالقوّة الباصرة مثلاً لا تبصر نفسها، و النار لا تحرق ذاتها، و هكذا جميع الفواعل لا تفعل إلّا في غيرها إلّا مع التركيب و التجزئة كما عرفت و هذا معنى قوله:( إذاً لتفاوتت ذاته، و لتجزّأ كنهه، و لامتنع من الأزل معناه) إلخ.

و قولهعليه‌السلام :( و إذاً لقامت آية المصنوع فيه، و لتحوّل دليلاً بعد أن كان مدلولاً عليه) أي إذاً لزمه النقص من تطرّق هذه الحدود و الأقدار عليه، و النقص من علائم المصنوعيّة و أمارات الإمكان كان (تعالى و تقدّس) مقارناً لما يدلّ على كونه مصنوعاً و كان نفسه كسائر المصنوعات دليلاً على موجود آخر أزليّ كامل الوجود غير محدود الذات هو الإله المنزّه عن كلّ نقص مفروض، المتعالي عن أن تناله أيدي الحدود و الأقدار.

و اعلم أنّ ما يدلّ عليه قوله - من كون الدلالة هي من شؤون المصنوع الممكن - لا ينافي ما يستفاد من سائر كلامه و كلام سائر أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام : أنّه تعالى معلوم بنفس ذاته، و غيره معلوم به، و أنّه دالّ على ذاته، و هو الدليل على مخلوقاته فإنّ العلم غير العلم و الدلالة غير الدلالة، و أرجو أن يوفّقني الله تعالى لإيضاحه و بسط الكلام فيه في بعض ما يرتبط به من الأبحاث الآتية إن شاء الله العزيز.

و في التوحيد، بإسناده عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: بينا أميرالمؤمنينعليه‌السلام يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له( ذعلب) ذرب اللسان، بليغ في الخطاب، شجاع القلب فقال: يا أميرالمؤمنين هل رأيت ربّك؟ فقال: ويلك يا ذعلب لم أكن لأعبد ربّاً لم أره!.

فقال: يا أميرالمؤمنين كيف رأيته؟ قال: يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار،

١٠٤

و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، ويلك يا ذعلب إنّ ربّي لطيف اللطافة فلا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، قبل كلّ شي‏ء لا يقال: شي‏ء قبله، و بعد كلّ شي‏ء لا يقال: له بعد، شاء الأشياء لا بهمّة، دراك لا بخديعة، هو في الأشياء غير متمازج بها و لا بائن، عنها ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجلّ لا باستهلال رؤية، بائن لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسّم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدّر لا بحركة، مريد لا بهمامة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة، لا تحويه الأماكن، و لا تصحبه الأوقات، و لا تحدّه الصفات، و لا تأخذه السنات، سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، و بمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضادّ النور بالظلمة، و الجسوء بالبلل، و الصرد بالحرور، مؤلّف بين متعادياتها، مفرّق بين متدانياتها، دالّة بتفريقها على مفرّقها، و بتأليفها على مؤلّفها، و ذلك قوله عزّوجلّ:( وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ، ففرّق بها بين قبل و بعد ليعلم أن لا قبل له و لا بعد، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرّزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقّتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه و بين خلقه غير خلقه، كان ربّاً و لا مربوب، و إلهاً إذ لا مألوه، و عالماً إذ لا معلوم، و سميعاً إذ لا مسموع. ثمّ أنشأ يقول:

و لم يزل سيّدي بالحمد معروفاً

و لم يزل سيّدي بالجود موصوفاً

و كان إذ ليس نور يستضاء به

و لا ظلام على الآفاق معكوفاً

فربّنا بخلاف الخلق كـلّهم

و كلّ ما كان في الأوهام موصوفاً

الأبيات.

أقول: و كلامهعليه‌السلام - كما ترى - مسوق لبيان معنى أحديّة الذات في جميع ما يصدق عليه و يرجع إليه، و أنّه تعالى غير متناهي الذات و لا محدودها، فلا يقابل ذاته ذات و إلّا لهدّده بالتحديد و قهره بالتقدير، فهو المحيط بكلّ شي‏ء، المهيمن على

١٠٥

كلّ أمر، و لا يلحقه صفة تمتاز عن ذاته، فإنّ في ذلك بطلان أزليّته و عدم محدوديّته.

و أنّ صفته تعالى الكماليّة غير محدودة بحدّ يدفع الغير أو يدفعه الغير كما أنّ العلم فينا غير القدرة لما بينهما من المدافعة مفهوماً و مصداقاً، و لا تدافع بينهما فيه تعالى، بل الصفة عين الصفة و عين كلّ صفة من صفاته العليا و الاسم عين كلّ اسم من أسمائه الحسنى.

بل إنّ هنالك ما هو ألطف معنى و أبعد غوراً من ذلك و هو أنّ هذه المعاني و المفاهيم للعقل بمنزلة الموازين و المكاييل يوزن و يكتال بها الوجود الخارجيّ و الكون الواقعيّ فهي حدود محدودة لا تنعزل عن هذا الشأن و إن ضممنا بعضها إلى بعض، و استمددنا من أحدها للآخر، لا يغترف بأوعيتها إلّا ما يقاربها في الحدّ، فإذا فرضنا أمراً غير محدود ثمّ قصدناه بهذه المقاييس المحدودة لم ننل منه إلّا المحدود و هو غيره، و كلّما زدنا في الإمعان في نيله زاد تعالياً و ابتعاداً.

فمفهوم العلم مثلاً هو معنى أخذناه من وصف محدود في الخارج نعدّه كمالاً لما يوجد له، و في هذا المفهوم من التحديد ما يمنعه أن يشمل القدرة و الحياة مثلاً، فإذا أطلقناه عليه تعالى ثمّ عدّلنا محدوديّته بالتقييد في نحو قولنا: علم لا كالعلوم فهب أنّه يخلص من بعض التحديد لكنّه بعد مفهوم لا ينعزل عن شأنه و هو عدم شموله ما وراءه (و لكلّ مفهوم وراء يقصر عن شموله) و إضافة مفهوم إلى مفهوم آخر لا يؤدّي إلى بطلان خاصّة المفهوميّة، و هو ظاهر.

و هذا هو الّذي يحيّر الإنسان اللبيب في توصيفه تعالى بما يثبته له لبّه و عقله، و هو المستفاد من قولهعليه‌السلام :( لا تحدّه الصفات) و من قوله فيما تقدّم من خطبته المنقولة:( و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه) و قوله أيضاً في تلك الخطبة:( الذي ليس لصفته حدّ محدود، و لا نعت موجود) و أنت ترى أنّهعليه‌السلام يثبت الصفة في عين أنّه ينفيها أو ينفي حدّها، و من المعلوم أنّ إثباتها هي لا تنفكّ عن الحدّ فنفي الحدّ عنها إسقاط لها بعد إقامتها، و يؤول إلى أنّ إثبات شي‏ء من صفات الكمال فيه لا ينفي ما وراءها فتتّحد الصفات بعضها مع بعض ثمّ تتّحد مع الذات و لا حدّ، ثمّ لا ينفي ما

١٠٦

وراءها ممّا لا مفهوم لنا نحكي عنه، و لا إدراك لنا يتعلّق به فافهم ذلك.

و لو لا أنّ المفاهيم تسقط عند الإشراف على ساحة عظمته و كبريائه بالمعنى الّذي تقدّم لأمكن للعقل أن يحيط به بما عنده من المفاهيم العامّة المبهمة كوصفه بأنّه ذات لا كالذوات، و له علم لا كالعلوم، و قدرة لا كقدرة غيره، و حياة لا كسائر أقسام الحياة، فإنّ هذا النحو من الوصف لا يدع شيئاً إلّا أحصاه و أحاط به إجمالاً فهل يمكن أن يحيط به سبحانه شي‏ء؟ أو أنّ الممنوع هو الإحاطة به تفصيلاً، و أمّا الإحاطة الإجماليّة فلا بأس بها؟ و قد قال تعالى:( وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) طه: ١١٠، و قال:( أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ ) حم السجدة: ٥٤، و الله سبحانه لا يحيط به شي‏ء من جهة من الجهات بنحو من أنحاء الإحاطة، و لا يقبل ذاته المقدّسة إجمالاً و تفصيلاً حتّى يتبعّض فيكون لإجماله حكم و لتفصيله حكم آخر فافهم ذلك.

و في الإحتجاج، عنهعليه‌السلام في خطبة:( دليله آياته، و وجوده إثباته، و معرفته توحيده، و توحيده تمييزه من خلقه، و حكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة إنّه ربّ خالق، غير مربوب مخلوق، ما تصوّر فهو بخلافه - ثمّ قالعليه‌السلام : - ليس بإله من عرف بنفسه، هو الدالّ بالدليل عليه، و المؤدّي بالمعرفة إليه) .

أقول: التأمّل فيما تقدّم يوضح أنّ الخطبة مسوقة لبيان كون وحدته تعالى وحدة غير عدديّة لصراحته في أنّ معرفته تعالى عين توحيده أي إثبات وجوده عين إثبات وحدته، و لو كانت هذه الوحدة عدديّة لكانت غير الذات فكانت الذات في نفسها لا تفي بالوحدة إلّا بموجب من خارج عن جهة ثبوت الذات.

و هذا من عجيب المنطق و أبلغ البيان في باب التوحيد الّذي يحتاج شرحه إلى مجال وسيع لا يسعه طراز البحث في هذا الكتاب، و من ألطف المقاصد الموضوعة فيه قولهعليه‌السلام :( وجوده إثباته) يريد به أنّ البرهان عليه نفس وجوده الخارجيّ أي إنّه لا يدخل الذهن، و لا يسعه العقل.

قوله:( ما تصوّر فهو بخلافه) ليس المراد به أنّه غير الصورة الذهنيّة فإنّ جميع الأشياء الخارجيّة على هذا النعت، بل المراد أنّه تعالى بخلاف ما يكشف عنه

١٠٧

التصوّر الذهنيّ أيّاً ما كان، فلا يحيط به صورة ذهنيّة، و لا ينبغي لك أن تغفل عن أنّه أنزه ساحة حتّى من هذا التصوّر أعني تصوّر أنّه بخلاف كلّ تصوّر.

و قوله:( ليس بإله من عرف بنفسه) مسوق لبيان جلالته تعالى عن أن يتعلّق به معرفة، و قهره كلّ فهم و إدراك فإنّ كلّ من يتعلّق بنفسه معرفتنا هو في نفسه غير نفسنا و معرفتنا ثمّ يتعلّق به معرفتنا، لكنّه تعالى محيط بنا و بمعرفتنا، قيّم على ذلك فلا معصم تعتصم به أنفسنا و لا معرفتنا عن إحاطة ذاته و شمول سلطانه حتّى يتعلّق به تعلّق منعزل بمنعزل.

و بيّنعليه‌السلام ذلك بقوله:( هو الدالّ بالدليل عليه و المؤدّي بالمعرفة إليه) أي إنّه تعالى هو الدليل يدلّ الدليل على أن يدلّ عليه، و يؤدّي المعرفة إلى أن يتعلّق به تعالى نوع تعلّق لمكان إحاطته تعالى و سلطانه على كلّ شي‏ء، فكيف يمكن لشي‏ء أن يهتدي إلى ذاته ليحيط به و هو محيط به و باهتدائه؟.

و في المعاني، بإسناده عن عمر بن عليّ عن عليّعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( التوحيد ظاهره في باطنه، و باطنه في ظاهره، ظاهره موصوف لا يرى، و باطنه موجود لا يخفى، يطلب بكلّ مكان، و لم يخل عنه مكان طرفة عين، حاضر غير محدود، و غائب غير مفقود) .

أقول: كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسوق لبيان وحدته تعالى غير العدديّة المبنيّة على كونه تعالى غير محدود بحدّ، فإنّ عدم المحدوديّة هو الموجب لعدم انعزال ظاهر توحيده و توصيفه تعالى عن باطنه، و باطنه عن ظاهره فإنّ الظاهر و الباطن إنّما يتفاوتان و ينعزل كلّ منهما عن الآخر بالحدّ فإذا ارتفع الحدّ اختلطاً و اتّحداً.

و كذلك الظاهر الموصوف إنّما يحاط به، و الباطن الموجود إنّما يخفى و يتحجّب إذا تحدّداً فلم يتجاوز كلّ منهما حدّه المضروب له، و كذلك الحاضر إنّما يكون محدوداً مجموعاً وجوده عند من حضر عنده، و الغائب يكون مفقوداً لمكان المحدوديّة، و لو لا ذلك لم يجتمع الحاضر بتمام وجوده عند من حضر عنده، و لم يستر الغائب حجاب الغيبة و لا ساتر دونه عمّن غاب عنه، و هو ظاهر.

١٠٨

( بحث تاريخي)

( كلام في معنى التوحيد)

القول بأنّ للعالم صانعاً ثمّ القول بأنّه واحد من أقدم المسائل الدائرة بين متفكّري هذا النوع تهديه إليه فطرته المركوزة فيه، حتّى أنّ الوثنيّة المبنيّة على الإشراك، إذا أمعنّا في حقيقة معناها وجدناها مبنيّة على أساس توحيد الصانع، و إثبات شفعاء عنده( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى‏ ) و إن انحرفت بعد عن مجراها، و آل أمرها إلى إعطاء الاستقلال و الأصالة لآلهة دون الله.

و الفطرة الداعية إلى توحيد الإله و إن كانت تدعو إلى إله واحد غير محدود العظمة و الكبرياء ذاتاً و صفة - على ما تقدّم بيانه بالاستفادة من الكتاب العزيز - غير أنّ اُلفة الإنسان و اُنسه في ظرف حياته بالآحاد العدديّة من جانب، و بلاء الملّيّين بالوثنيّين و الثنويّين و غيرهم لنفي تعدّد الآلهة من جانب آخر سجّل عدديّة الوحدة و جعل حكم الفطرة المذكورة كالمغفول عنه.

و لذلك ترى المأثور من كلمات الفلاسفة الباحثين في مصر القديم و اليونان و إسكندريّة و غيرهم ممّن بعدهم يعطي الوحدة العدديّة حتّى صرّح بها مثل الرئيس أبي عليّ بن سينا في كتاب الشفاء، و على هذا المجرى يجري كلام غيره ممّن بعده إلى حدود الألف من الهجرة النبويّة.

و أمّا أهل الكلام من الباحثين فاحتجاجاتهم على التوحيد لا تعطي أزيد من الوحدة العدديّة أيضاً في عين أنّ هذه الحجج مأخوذة من الكتاب العزيز عامّة فهذا ما يتحصّل من كلمات أهل البحث في هذه المسألة.

فالّذي بيّنه القرآن الكريم من معنى التوحيد أوّل خطوة خطيت في تعليم هذه الحقيقة من المعرفة، غير أنّ أهل التفسير و المتعاطين لعلوم القرآن من الصحابة و التابعين ثمّ الّذين يلونهم أهملوا هذا البحث الشريف، فهذه جوامع الحديث و كتب التفسير المأثورة منهم لا ترى فيها أثراً من هذه الحقيقة لا ببيان شارح، و لا بسلوك استدلاليّ.

١٠٩

و لم نجد ما يكشف عنها غطاءها إلّا ما ورد في كلام الإمام عليّ بن أبي طالب عليه أفضل السلام خاصّة، فإنّ كلامه هو الفاتح لبابها، و الرافع لسترها و حجابها على أهدى سبيل و أوضح طريق من البرهان، ثمّ ما وقع في كلام الفلاسفة الإسلاميّين بعد الألف الهجريّ، و قد صرّحوا بأنّهم إنّما استفادوه من كلامهعليه‌السلام .

و هذا هو السرّ في اقتصارنا في البحث الروائيّ السابق على نقل نماذج من غرر كلامهعليه‌السلام الرائق، لأنّ السلوك في هذه المسألة و شرحها من مسلك الإحتجاج البرهانيّ لا يوجد في كلام غيرهعليه‌السلام .

و لهذا بعينه تركنا عقد بحث فلسفيّ مستقلّ لهذه المسألة فإنّ البراهين الموردة في هذا الغرض مؤلّفة من هذه المقدّمات المبيّنة في كلامه لا تزيد على ما في كلامه بشي‏ء، و الجميع مبنيّة على صرافة الوجود و أحديّة الذات جلّت عظمته(١) .

____________________

(١) و للناقد البصير و المتدبّر المتعمّق أن يقضي عجباً من ما صدر من الهفوة من عدّة من العلماء الباحثين حيث ذكروا أنّ هذه الخطب العلويّة الموضوعة في نهج البلاغة موضوعة دخيلة، و قد ذكر بعضهم أنّها من وضع الشريف الرضي رحمه الله، و قد تقدّم الكلام في أطراف هذه السقطة.

و ليت شعري كيف يسع للوضع و الدس أن يتسرب إلى موقف علمي دقيق لم يقو بالوقوف عليه أفهام العلماء حتّى بعد ما فتحعليه‌السلام بابه و رفع ستره قروناً متمادية إلى أن وفق لفهمه بعد ما سير في طريق الفكر المترقّي مسير ألف سنة، و لا أطاق حمله غيره من الصحابة و لا التابعون، بل كلام هؤلاء الرامين بالوضع ينادي بأعلى صوته أنّهم كانوا يظنّون أنّ الحقائق القرآنيّة و الاُصول العالية العلميّة ليست إلّا مفاهيم مبتذلة عاميّة و إنّما تتفاضل باللفظ الفصيح و البيان البليغ.

١١٠

( سورة المائدة الآيات ٨٧ - ٨٩)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرّمُوا طَيّبَاتِ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ( ٨٧) وَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيّباً وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ( ٨٨) لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقّدتّمُ الْأَيْمَانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ( ٨٩)

( بيان)

الآيات الثلاثة و عدّة من الآيات الواقعة بعدها إلى بضع و مائة من آيات السورة آيات مبيّنة لعدّة من فروع الأحكام، و هي جميعاً كالمتخلّلة بين الآيات المتعرّضة لقصص المسيحعليه‌السلام و النصارى، و هي لكونها طوائف متفرّقة نازلة في أحكام متنوّعة كلّ منها ذات استقلال و تمام في ما تقصده من المعنى يشكل القضاء كونها نزلت دفعة أو صاحبت بقيّة آيات السورة في النزول إذ لا شاهد يشهد بذلك من مضامينها، و أمّا ما ورد من أسباب النزول فسيأتي بعض ما هو العمدة منها في البحث الروائيّ.

و كذلك القول في هذه الآيات الثلاث المبحوث عنها فإن الآية الثالثة مستقلّة في معناها، و تستقلّ عنها الآية الاُولى و إن لم تخلو من نوع من المناسبة فبينهما بعض الارتباط من جهة أنّ من جملة مصاديق لغو اليمين أن تتعلّق بتحريم بعض الطيّبات ممّا أحلّه الله تعالى، و لعلّ هذا هو الداعي لمن نقل عنه في أسباب النزول أنّه ذكر نزول الآيات جميعاً في اليمين اللاغية.

هذا حال الآية الاُولى مع الثالثة، و أمّا الآية الثانية فكأنّها من تمام الآية

١١١

الاُولى كما يشهد به بعض الشهادة ذيلها أعني قوله تعالى:( وَ اتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) بل و صدرها حيث يشتمل على العطف، و على الأمر بأكل الحلال الطيّب الّذي تنهى الآية الاُولى عن تحريمه و اجتنابه، و بذلك تلتئم الآيتان معنى و تتّحدان حكماً ذواتي سياق واحد.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) ، قال الراغب في المفردات: الحرام الممنوع منه إمّا بتسخير إلهيّ، و إمّا بمنع قهريّ، و إمّا بمنع من جهة العقل أو جهة الشرع أو من جهة من يرتسم أمره، انتهى موضع الحاجة.

و قال أيضاً: أصل الحلّ حلّ العقدة، و منه قوله عزّوجلّ:( وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ) ، و حللت: نزلت، أصله من حلّ الأحمال عند النزول ثمّ جرّد استعماله للنزول فقيل: حلّ حلولاً و أحلّه غيره، قال عزّوجلّ:( أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ، وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ ) ، و يقال: حلّ الدين وجب أداؤه، و الحلّة القوم النازلون و حيّ حلال مثله، و المحلّة مكان النزول، و عن حلّ العقدة أستعير قولهم: حلّ الشي‏ء حلّاً قال الله تعالى:( وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالًا طَيِّباً ) ، و قال تعالى:( هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ ) ، انتهى.

فالظاهر أنّ مقابلة الحلّ الحرمة و كذا التقابل بين الحلّ و الحرم أو الإحرام من جهة تخيّل العقد في المنع الّذي هو معنى الحرمة و غيرها ثمّ مقابلته بالحلّ المستعار لمعنى الجواز و الإباحة، و اللفظان أعني الحلّ و الحرمة من الحقائق العرفيّة قبل الإسلام دون الشرعيّة أو المتشرّعيّة.

و الآية أعني قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا ) إلخ، تنهى المؤمنين عن تحريم ما أحلّ الله لهم و تحريم، ما أحلّ الله هو جعله حراماً كما جعله الله تعالى حلالاً و ذلك إمّا بتشريع قبال تشريع، و إمّا بالمنع أو الامتناع بأن يترك شيئاً من المحلّلات بالامتناع عن إتيانه أو منع نفسه أو غيره من ذلك فإنّ ذلك كلّه تحريم و منع و منازعة لله سبحانه في سلطانه و اعتداء عليه ينافي الإيمان بالله و آياته، و لذلك صدّر النهي بقوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) فإنّ المعنى: لا تحرّموا ما أحلّ الله لكم و قد آمنتم به و سلّمتم لأمره.

١١٢

و يؤيّده أيضاً قوله في ذيل الآية التالية:( وَ اتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) .

و إضافة قوله:( طَيِّباتِ ) إلى قوله:( ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) - مع أنّ الكلام تامّ بدونه - للإشارة إلى تتميم سبب النهي فإنّ تحريم المؤمنين لما أحلّ الله لهم على أنّه اعتداء منهم على الله في سلطانه، و نقض لإيمانهم بالله و تسليمهم لأمره كذلك هو خروج منهم عن حكم الفطرة، فإنّ الفطرة تستطيب هذه المحلّلات من غير استخباث، و قد أخبر الله سبحانه عن ذلك فيما نعت به نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الشريعة الّتي جاء بها حيث قال:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الأعراف: ١٥٧.

و بهذا الّذي بيّنّا يتأيّدأوّلاً: أنّ المراد بتحريم طيّبات ما أحلّ الله هو الإلزام و الالتزام بترك المحلّلات.

و ثانياً: أنّ المراد بالحلّ مقابل الحرمة و يعمّ المباحات و المستحبّات بل و الواجبات قضاءً لحقّ المقابلة.

و ثالثاً: أنّ إضافة الطيّبات إلى ما أحلّ الله في قوله:( طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) إضافة بيانيّة.

و رابعاً: أنّ المراد بالاعتداء في قوله:( وَ لا تَعْتَدُوا ) هو الاعتداء على الله سبحانه في سلطانه التشريعيّ، أو التعدّي عن حدود الله بالانخلاع عن طاعته و التسليم له و تحريم ما أحلّه كما قال تعالى في ذيل آية الطلاق:( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) البقرة: ٢٢٩، و قوله في ذيل آيات الإرث:( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَ مَنْ يَعْصِ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ ) النساء: ١٤، و الآيات - كما ترى - تعدّ الاستقامة و الالتزام بما شرّعه الله طاعةً له تعالى و لرسوله ممدوحة، و الخروج عن التسليم و الالتزام و الانقياد

١١٣

اعتداءً و تعدّياً لحدود الله مذموماً معاقباً عليه.

فمحصّل مفاد الآية النهي عن تحريم ما أحلّه الله بالاجتناب عنه و الامتناع من الاقتراب منه فإنّه يناقض الإيمان بالله و آياته و يخالف كون هذه المحلّلات طيّبات لا خباثة فيها حتّى يجتنب عنها لأجلها، و هو اعتداء و الله لا يحبّ المعتدين.

قوله تعالى: ( وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) قد عرفت أنّ ظاهر السياق أنّ المراد بالاعتداء هو التحريم المذكور في الجملة السابقة عليه فقوله:( وَ لا تَعْتَدُوا ) يجري مجرى التأكيد لقوله:( لا تُحَرِّمُوا ) ، إلخ.

و أمّا ما ذكره بعضهم: أنّ المراد بالاعتداء تجاوز حدّ الاعتدال في المحلّلات بالانكباب على التمتّع بها و لاستلذاذ منها قبال تركها و اجتناب تناولها تقشّفاً و ترهّباً فيكون معنى الآية: لا تحرّموا على أنفسكم ما أحلّ الله لكم من الطيّبات المستلذّة بأن تتعمّدوا ترك التمتّع بها تنسّكاً و تقرّباً إليه تعالى، و لا تعتدوا بتجاوز حدّ الاعتدال إلى الإسراف و الإفراط الضارّ بأبدانكم أو نفوسكم.

أو أنّ المراد بالاعتداء تجاوز المحلّلات الطيّبة إلى الخبائث المحرّمة، و يعود المعنى إلى أن لا تجتنبوا المحلّلات و لا تقترفوا المحرّمات، و بعبارة اُخرى: لا تحرّموا ما أحلّ الله لكم، و لا تحلّلوا ما حرّم الله عليكم.

فكلّ من المعنيين و إن كان في نفسه صحيحاً يدلّ عليه الكتاب بما لا غبار عليه لكنّ شيئاً منهما لا ينطبق على الآية بظاهر سياقها و سياق ما يتلوها من الآية اللاحقة فما كلّ معنى صحيح يمكن تحميله على كلّ لفظ كيفما سيق و أينما وقع.

قوله تعالى: ( وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالًا طَيِّباً ) إلى آخر الآية، ظاهر العطف أعني انعطاف قوله:( وَ كُلُوا ) على قوله:( لا تُحَرِّمُوا ) أن يكون مفاد هذه الآية بمنزلة التكرار و التأكيد لمضمون الآية السابقة، و يؤيّده سياق صدر الآية من حيث اشتماله على قوله:( حَلالًا طَيِّباً ) ، و هو يحاذي قوله في الآية السابقة:( طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ ) ، و كذا ذيلها من حيث المحاذاة الواقعة بين قوله فيه:( وَ اتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) و قوله في الآية السابقة:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) و قد مرّ بيانه.

١١٤

و على هذا فقوله:( كُلُوا ) إلخ، من قبيل ورود الأمر عقيب الحظر، و تخصيص قوله:( كُلُوا ) بعد تعميم قوله:( لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ) إلخ، إمّا تخصيص بحسب اللفظ فقط، و المراد بالأكل مطلق التصرّف فيما رزقه الله تعالى من طيّبات نعمه، سواء كان بالأكل بمعنى التغذّي أو بسائر وجوه التصرّف، و قد تقدّم مراراً أنّ استعمال الأكل بمعنى مطلق التصرّف استعمال شائع ذائع.

و إمّا أن يكون المراد - و من الممكن ذلك - الأكل بمعناه الحقيقيّ، و يكون سبب نزول الآيتين تحريم بعض المؤمنين في زمن النزول المأكولات الطيّبة على أنفسهم فتكون الآيتان نازلتين في النهي عن ذلك، و قد عمّم النهي في الآية الاُولى للأكل و غيره إعطاءً للقاعدة الكلّيّة لكون ملاك النهي يعمّ محلّلات الأكل و غيرها على حدّ سواء.

و قوله:( مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) لازم ما استظهرناه من معنى الآيتين كونه مفعولاً لقوله:( كُلُوا ) و قوله:( حَلالًا طَيِّباً ) حالين من الموصول و بذلك تتوافق الآيتان، و ربّما قيل: إنّ قوله:( حَلالًا طَيِّباً ) مفعول قوله:( كُلُوا ) و قوله:( مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) متعلّق بقوله:( كُلُوا ) أو حال من الحلال قدّم عليه لكونه نكرة، أو كون قوله:( حَلالًا ) وصفاً لمصدر محذوف، و التقدير: رزقاً حلالاً طيّباً إلى غير ذلك.

و ربّما استدلّ بعضهم بقوله:( حَلالًا ) على أنّ الرزق يشمل الحلال و الحرام معاً و إلّا لغا القيد.

و الجواب: أنّه ليس قيداً احترازيّاً لإخراج ما هو رزق غير حلال و لا طيّب بل قيد توضيحيّ مساو لمقيّده، و النكتة في الإتيان به بيان أنّ كونه حلالاً طيّباً لا يدع عذراً لمعتذر في الاجتناب و الكفّ عنه على ما تقدّم، و قد تقدّم الكلام في معنى الرزق في ذيل الآية ٢٧ من سورة آل عمران في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) اللغو ما لا يترتّب عليه أثر من الأعمال، و الأيمان جمع يمين و هو القسم و

١١٥

الحلف قال الراغب في المفردات: و اليمين في الحلف مستعار من اليد اعتباراً بما يفعله المعاهد و المحالف و غيره، قال تعالى:( أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ، لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) انتهى، و التعقيد مبالغة في العقد و قرئ: عقدتم بالتخفيف، و قوله:( فِي أَيْمانِكُمْ ) متعلّق بقوله:( لا يُؤاخِذُكُمُ ) أو بقوله:( بِاللَّغْوِ ) و هو أقرب.

و التقابل الواقع بين قوله:( بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) و قوله:( بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) يعطي أنّ المراد باللغو في الأيمان ما لا يعقد عليه الحالف، و إنّما يجري على لسانه جرياً لعادة اعتادها أو لغيرها و هو قولهم - و خاصّة في قبيل البيع و الشري -: لا و الله، بلى و الله، بخلاف ما عقد عليه عقداً بالالتزام بفعل أو ترك كقول القائل: و الله لأفعلنّ كذا، و و الله لأتركنّ كذا.

هذا هو الظاهر من الآية، و لا ينافي ذلك أن يعدّ شرعاً قول القائل: و الله لأفعلنّ المحرّم الفلانيّ، و الله لأتركنّ الواجب الفلانيّ مثلاً من لغو اليمين لكون الشارع ألغى اليمين فيما لا رجحان فيه، فإنّما هو إلحاق من جهة السنّة، و ليس من الواجب أن يدلّ القرآن على خصوص كلّ ما ثبت بالسنّة بخصوصه.

و أمّا قوله:( وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) فلا يشمل إلّا اليمين الممضاة شرعاً لمكان قوله في ذيل الآية:( وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ ) فإنّه لا مناص عن شموله لهذه الأيمان بحسب إطلاق لفظه، و لا معنى للأمر بحفظ الأيمان الّتي ألغى الله سبحانه اعتبارها فالمتعيّن أنّ اللغو من الأيمان في الآية ما لا عقد فيه، و ما عقد عليه هو اليمين الممضاة.

قوله تعالى: ( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ - إلى قوله -أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) ، الكفّارة هي العمل الّذي يستر به مساءة المعصية بوجه، من الكفر بمعنى الستر، قال تعالى:( نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) النساء: ٣١، قال الراغب: و الكفّارة ما يغطّي الإثمّ و منه كفّارة اليمين، انتهى.

و قوله:( فَكَفَّارَتُهُ ) تفريع على اليمين باعتبار مقدّر هو نحو من قولنا: فإن

١١٦

حنثتم فكفّارته كذا، و ذلك لأنّ في لفظ الكفّارة دلالة على معصية تتعلّق به الكفّارة، و ليست هذه المعصية هي نفس اليمين، و لو كان كذلك لم يورد في ذيل الآية قوله:( وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ ) إذ لا معنى لحفظ ما فيه معصية فالكفّارة إنّما تتعلّق بحنث اليمين لا بنفسها.

و منه يظهر أنّ المؤاخذة المذكورة في قوله:( وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) هي المؤاخذة على حنث اليمين لا على نفس إيقاعها، و إنّما اُضيفت إلى اليمين لتعلّق متعلّقها - أعني الحنث - بها، فقوله:( فَكَفَّارَتُهُ ) متفرّع على الحنث المقدّر لدلالة قوله:( يُؤاخِذُكُمُ ) ، إلخ، عليه، و نظير هذا البيان جار في قوله:( ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ ) و تقديره: إذا حلفتم و حنثتم.

و قوله:( إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) خصال ثلاث يدلّ الترديد على تعيّن إحداها عند الحنث من غير جمع، و يدلّ قوله بعده:( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ) على كون الخصال المذكورة تخييريّة من غير لزوم مراعاة الترتيب الواقع بينها في الذكر، و إلّا لغا التفريع في قوله:( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ) إلخ، و كان المتعيّن بحسب اقتضاء السياق أن يقال: أو صيام ثلاثة أيّام.

و في الآية أبحاث فرعيّة كثيرة مرجعها علم الفقه.

قوله تعالى: ( ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ ) تقدّم أنّ الكلام في تقدير: إذا حلفتم و حنثتم، و في قوله:( ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ ) و كذا في قوله:( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ ) نوع التفات و رجوع من خطاب المؤمنين إلى خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لعلّ النكتة فيه أنّ الجملتين جميعاً من البيان الإلهيّ للناس إنّما هو بوساطة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكأنّ في ذلك حفظاً لمقامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيان ما اُوحي إليه للناس كما قال تعالى:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل: ٤٤.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي يبيّن لكم بواسطة نبيّه أحكامه لعلّكم تشكرونه بتعلّمها و العمل بها.

١١٧

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) (الآية) قال: حدّثني أبي عن ابن أبي عمير، عن بعض رجاله، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: نزلت هذه الآية في أميرالمؤمنينعليه‌السلام و بلال و عثمان بن مظعون فأمّا أميرالمؤمنينعليه‌السلام فحلف أن لا ينام بالليل أبداً، و أمّا بلال فإنّه حلف أن لا يفطر بالنهار أبداً، و أمّا عثمان بن مظعون فإنّه حلف أن لا ينكح أبداً.

فدخلت امرأة عثمان على عائشة، و كانت امرأة جميلة فقالت عائشة: ما لي أراك متعطّلة؟ فقالت: و لمن أتزيّن؟ فوالله ما قربني زوجتي منذ كذا و كذا فإنّه قد ترهّب و لبس المسوح و زهد في الدنيا.

فلمّا دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرته عائشة بذلك فخرج فنادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه، ثمّ قال: ما بال أقوام يحرّمون على أنفسهم الطيّبات؟ ألا إنّي أنام بالليل و أنكح و اُفطر بالنهار، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي.

فقاموا هؤلاء فقالوا: يا رسول الله فقد حلفنا على ذلك فأنزل الله عليه:( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ ) .

أقول: و في انطباق قوله تعالى:( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) (الآية)، على حلفهم خفاءٌ، و قد تقدّم بعض الكلام فيه، و قد روى الطبرسيّ في مجمع البيان، القصّة عن أبي عبداللهعليه‌السلام و لم يذكر الّذيل فليتأمّل فيه.

و في الإحتجاج، عن الحسن بن عليّعليه‌السلام في حديث: أنّه قال لمعاوية و أصحابه:

١١٨

اُنشدكم بالله أ تعلمون أنّ عليّاً أوّل من حرّم الشهوات على نفسه من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) .

و في المجمع، في الآية: قال المفسّرون: جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً فذكّر الناس و وصف القيامة فرقّ الناس و بكوا و اجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحيّ، و هم عليّ و أبوبكر و عبدالله بن مسعود و أبوذرّ الغفاريّ و سالم مولى أبي حذيفة و عبدالله بن عمر و المقداد بن الأسود الكنديّ و سلمان الفارسيّ و معقل بن مقرن، و اتّفقوا على أن يصوموا النهار، و يقوموا الليل، و لا يناموا على الفرش، و لا يأكلوا اللحم و لا الودك، و لا يقربوا النساء و الطيب، و يلبسوا المسوح، و يرفضوا الدنيا، و يسيحوا في الأرض، و همّ بعضهم أن يجبّ مذاكيره.

فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتى دار عثمان فلم يصادفه فقال لامرأته اُمّ حكيم بنت أبي اُميّة - و اسمها حولاء و كانت عطّارة -: أ حقّ ما بلغني عن زوجك و أصحابه؟ فكرهت أن تكذب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كرهت أن تبدي على زوجها فقالت: يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا دخل عثمان أخبرته بذلك.

فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو و أصحابه فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أ لم اُنبّئكم أنّكم اتّفقتم على كذا و كذا؟ قالوا: بلى يا رسول الله و ما أردنا إلّا الخير، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي لم اُومر بذلك، ثمّ قال: إنّ لأنفسكم عليكم حقّاً فصوموا و أفطروا، و قوموا و ناموا فإنّي أقوم و أنام و أصوم و اُفطر و آكل اللحم و الدسم و آتي النساء، و من رغب عن سنّتي فليس منّي.

ثمّ جمع الناس و خطبهم و قال: ما بال أقوام حرّموا النساء و الطعام و الطيب و النوم و شهوات الدنيا أمّا إنّي لست آمركم أن تكونوا قسّيسين و رهباناً فإنّه ليس في ديني ترك اللحم و لا النساء و لا اتّخاذ الصوامع، و إنّ سياحة اُمّتي الصوم، و رهبانيّتهم الجهاد، اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئاً، و حجّوا، و اعتمروا، و أقيموا الصلاة، و آتوا الزكاة، و صوموا رمضان، و استقيموا يستقم لكم فإنّما هلك من كان قبلكم

١١٩

بالتشديد شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فاُولئك بقاياهم في الديارات و الصوامع فأنزل الله الآية.

أقول: و يظهر بالرجوع إلى روايات القوم أنّ هذه الرواية إنّما هي تلخيص للروايات المرويّة في هذا الباب، و هي كثيرة جدّاً فقد أوردها بالجمع بين شتات مضامينها بإدخال بعضها في بعض، و سبكها رواية واحدة.

و أمّا نفس هذه الروايات على كثرتها فلم يجتمع أسماء هؤلاء الصحابة في واحدة منها بل ذكر الأجمع منها لفظاً هؤلاء الصحابة بلفظ عثمان بن مظعون و أصحابه و في بعضها اُناس من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و في بعضها رجال من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و كذلك ما وقع في هذه الرواية من قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و خطبته على تفصيلها متفرّقة الجمل في الروايات، و كذلك الّذي عقدوا عليه و همّوا به من التروك لم تصرّح الروايات بأنّهم اتّفقوا جميعهم على جميعها بل صرّح بعض الروايات باختلافهم فيما همّوا به أو عقدوا عليه‏ كما في صحيح البخاريّ و مسلم عن عائشة: أنّ ناساً من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سألوا أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عمله في السرّ فقال بعضهم: لا آكل اللحم، و قال بعضهم: لا أتزوّج النساء، و قال بعضهم: لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا و كذا؟ لكنّي أصوم و اُفطر، و أنام و أقوم، و آكل اللحم، و أتزوّج النساء فمن رغب عن سنّتي فليس منّي.

و لعلّ المراد بقوله في الرواية: و اتّفقوا على أن يصوموا النهار إلخ، أنّ المجموع اتّفقوا على المجموع لا أنّ كلّ واحد منهم عزم على الجميع. و الروايات و إن كانت مختلفة في مضامينها، و فيها الضعيف و المرسل و المعتبر لكنّ التأمّل في جميعها يوجب الوثوق بأنّ رهطاً من الصحابة عزموا على هذا النوع من التزهّد و التنسّك، و أنّه كان فيهم عليّعليه‌السلام و عثمان بن مظعون، و أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لهم: من رغب عن سنّتي فليس منّي، و الله أعلم، فعليك بالرجوع إلى التفاسير الروائيّة كتفسير الطبريّ و الدرّ المنثور و فتح القدير و أمثالها.

و في الدرّ المنثور: أخرج الترمذيّ و حسّنه و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن عديّ

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401