الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84117 / تحميل: 7581
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

و إطلاق الأب على الله سبحانه بتحليل معناه و تجريده عن وسمة نواقص المادّة الجسمانيّة أي من بيده الإيجاد و التربية، و كذلك الابن بمعناه المجرّد التحليليّ و إن لم يمنعه العقل لكنّه ممنوع شرعاً لتوقيفيّة أسماء الله سبحانه لما في التوسّع في إطلاق الأسماء المختلفة عليه تعالى من المفاسد، و كفى مفسدة في إطلاق الأب و الابن ما لقيته الاُمّتان: اليهود و النصارى و خاصّة النصارى من أولياء الكنيسة خلال قرون متمادية و لن يزال الأمر على ذلك.

قوله تعالى: ( وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ ) ظاهر السياق أنّ المراد بهؤلاء القوم الّذين نهوا عن اتّباع أهوائهم هم المتبوعون المطاعون في آرائهم و أوامرهم فيكون ضلالهم لمكان التزامهم بآرائهم، إضلالهم كثيراً هو اتّباع غيرهم لهم، و ضلالهم عن سواء السبيل هو المتحصّل لهم من ضلالهم و إضلالهم، و هو ضلال على ضلال.

و كذلك ظاهر السياق أنّ المراد بهم هم الوثنيّة و عبدة الأصنام فإنّ ظاهر السياق أنّ الخطاب إنّما هو لجميع أهل الكتاب لا للمعاصرين منهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى يكون نهياً لمتأخّريهم عن اتّباع متقدّميهم.

و يؤيّده بل يدلّ عليه قوله تعالى:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَ قالَتِ النَّصارى‏ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ) التوبة: ٣٠.

فيكون ذلك حقيقة تحليليّة تاريخيّة أشار إليها القرآن الكريم هي أنّ القول بالاُبوّة و البنوّة ممّا تسرّب إلى أهل الكتاب من قبل من تقدّمهم من الوثنيّة، و قد تقدّم في الكلام على قصص المسيحعليه‌السلام في سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب أنّ هذا القول في جملة من الأقوال و الآراء موجود عند الوثنيّة البرهمنيّة و البوذيّة في الهند و الصين، و كذلك مصر القديم و غيرهم، و إنّما أخذ بالتسرّب في الملّة الكتابيّة بيد دعاتها، فظهر في زيّ الدين و كان الاسم لدين التوحيد و المسمّى للوثنيّة.

قوله تعالى: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى

٨١

ابْنِ مَرْيَمَ ) إلى آخر الآيتين إخبار بأنّ الكافرين منهم ملعونون بلسان أنبيائهم، و فيه تعريض لهؤلاء الّذين كفّرهم الله في هذه الآيات من اليهود ملعونين بدعوة أنبيائهم أنفسهم، و ذلك بسبب عصيانهم لأنبيائهم، و هم كانوا مستمرّين على الاعتداء و قوله:( كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ) إلخ بيان لقوله:( وَ كانُوا يَعْتَدُونَ ) .

قوله تعالى: ( تَرى‏ كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلخ، و هذا من قبيل الاستشهاد بالحسّ على كونهم معتدين فإنّهم لو قدروا دينهم حقّ قدره لزموه و لم يعتدّوه، و لازم ذلك أن يتولّوا أهل التوحيد و يتبرّؤا من الّذين كفروا لأنّ أعداء ما يقدّسه قوم أعداء لذلك القوم، فإذا تحابّوا و توالوا دلّ ذلك على إعراض ذلك القوم و تركهم ما كانوا يقدّسونه و يحترمونه، و صديق العدوّ عدوّ، ثمّ ذمّهم الله تعالى بقوله:( لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ ) و هو ولاية الكفّار عن هوى النفس، و كان جزاؤه و وباله( أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ ) ، ففي الآية وضع جزاء العمل و عاقبته موضع العمل كأنّ أنفسهم قدّمت لهم جزاء العمل بتقديم نفس العمل.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ النَّبِيِّ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) أي و لو كان أهل الكتاب هؤلاء يؤمنون بالله و النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ما اُنزل إليه، أو نبيّ أنفسهم كموسى مثلاً و ما اُنزل إليه كالتوراة مثلاً ما اتّخذوا اُولئك الكفّار أولياء لأنّ الإيمان يجب سائر الأسباب، و لكنّ كثيراً منهم فاسقون متمرّدون عن الإيمان.

و في الآية وجه آخر احتملوه، و هو أن يرجع ضمائر قوله:( كانُوا ) و( يُؤْمِنُونَ ) و( اتَّخَذُوهُمْ ) في قوله:( مَا اتَّخَذُوهُمْ ) راجعة إلى الّذين كفروا، و المعنى: و لو كان الّذين كفروا اُولئك الكفّار الّذين يتولّاهم أهل الكتاب يؤمنون بالله و النبيّ و القرآن ما اتّخذتهم أهل الكتاب أولياء، و إنّما تولّوهم لمكان كفرهم، و هذا وجه لا بأس به غير أنّ الإضراب في قوله:( وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) لا يلائمه.

قوله تعالى:( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا - إلى قوله -نَصارى) لما بيّن سبحانه في الآيات السابقة الرذائل المشتركة بين أهل

٨٢

الكتاب عامّة، و بعض ما يختصّ ببعضهم كقول اليهود:( يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) و قول النصارى:( إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) ختم الآيات بما يختصّ به كلّ من الطائفين إذا قيس حالهم من المؤمنين و دينهم، و أضاف إلى حالهم حال المشركين ليتمّ الكلام في وقع الإسلام من قلوب الاُمم غير المسلمة من حيث قربهم و بعدهم من قبوله.

و يتمّ الكلام في أنّ النصارى أقرب تلك الاُمم مودّة للمسلمين و أسمع لدعوتهم الحقّة.

و إنّما عدّهم الله سبحانه أقرب مودّة للمسلمين لما وقع من إيمان طائفة منهم بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يدلّ عليه قوله في الآية التالية:( وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ) إلخ، لكن لو كان إيمان طائفة تصحّح هذه النسبة إلى جميعهم كان من الواجب أن تعدّ اليهود و المشركون كمثل النصارى و ينسب إليهما نظير ما نسب إليهم لمكان إسلام طائفة من اليهود كعبد الله بن سلام و أصحابه، و إسلام عدّة من مشركي العرب و هم عامّة المسلمين اليوم فتخصيص النصارى بمثل قوله:( وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ ) إلخ، دون اليهود و المشركين يدلّ على حسن إقبالهم على الدعوة الإسلاميّة و إجابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنّهم على خيار بين أن يقيموا على دينهم و يؤدّوا الجزية، و بين أن يقبلوا الإسلام، أو يحاربوا.

و هذا بخلاف المشركين فإنّهم لم يكن يقبل منهم إلّا قبول الدعوة فكثرة المؤمنين منهم لا يدلّ على حسن الإجابة، على ما كابد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جفوتهم و لقاه المسلمون من أيديهم بقسوتهم و نخوتهم.

و كذلك اليهود و إن كانوا كالنصارى في إمكان إقامتهم على دينهم و تأدية الجزية إلى المسلمين لكنّهم تمادوا في نخوتهم، و تصلّبوا في عصبيّتهم، و أخذوا بالمكر و المكيدة، و نقضوا عهودهم، و تربّصوا الدوائر على المسلمين، و مسّوهم بأمر المسّ و آلمه.

و هذا الّذي جرى من أمر النصارى مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الدعوة الإسلاميّة، و حسن إجابتهم، و كذا من أمر اليهود و المشركين في التمادي على الاستكبار و العصبيّة جرى بعينه بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حذو ما جرى في عهده فما أكثر من لبّى الدعوة الإسلاميّة من

٨٣

فرق النصارى خلال القرون الماضية، و ما أقلّ ذلك من اليهود و الوثنيّين! فاحتفاظ هذه الخصيصة في هؤلاء و هؤلاء يصدّق الكتاب العزيز في ما أفاده.

و من المعلوم أنّ قوله تعالى:( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا ) من قبيل بيان الضابط العامّ في صورة خطاب خاصّ نظير ما مرّ في الآيات السابقة:( تَرى‏ كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) و( تَرى‏ كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ ) .

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) القسّيس معرّب( كشيش) و الرهبان جمع الراهب و قد يكون مفرداً، قال الراغب: الرهبة و الرهب مخافة مع تحرّز - إلى أن قال - و الترهّب التعبّد، و الرهبانيّة غلوّ في تحمّل التعبّد من فرط الرهبة، قال تعالى:( وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ) و الرهبان يكون واحداً و جمعاً فمن جعله واحداً جمعه على رهابين، انتهى.

علّل تعالى ما ذكره من كون النصارى أقرب مودّة و آنس قلوباً للّذين آمنوا بخصال ثلاث يفقدها غيرهم من اليهود و المشركين، و هي أنّ فيهم علماء و أنّ فيهم رهباناً و زهّاداً، و أنّهم لا يستكبرون و ذلك مفتاح تهيّؤهم للسعادة.

و ذلك أنّ سعادة حياة الدين أن تقوم بصالح العمل عن علم به، و إن شئت فقل: إن يذعن بالحقّ فيطبّق عمله عليه فله حاجة إلى العلم ليدرك به حقّ الدين و هو دين الحقّ، و مجرّد إدراك الحقّ لا يكفي للتهيّؤ للعمل على طبقه حتّى ينتزع الإنسان من نفسه الهيئة المانعة عنه، و هو الاستكبار عن الحقّ بعصبيّة و ما يشابهها، و إذا تلبّس الإنسان بالعلم النافع و النصفة في جنب الحقّ برفع الاستكبار تهيّأ للخضوع للحقّ بالعمل به لكن بشرط عدم منافاة الجوّ لذلك فإنّ لموافقة الجوّ للعمل تأثيراً عظيماً في باب الأعمال فإنّ الأعمال الّتي يعتورها عامّة المجتمع و ينمو عليها أفراده، و تستقرّ عليهم عادتهم خلفاً عن سلف لا يبقى للنفس فراغ أن تتفكّر في أمرها أو تتدبّر و تدبّر في التخلّص عنها إذا كانت ضارّة مفسدة للسعادة، و كذلك الحال في الأعمال الصالحة إذا استقرّ التلبّس بها في مجتمع يصعب على النفس تركها، و لذا قيل: إنّ العادة طبيعة ثانية، و لذا كان أيضاً أوّل فعل مخالف حرجاً على النفس في الغاية و هو عند النفس

٨٤

دليل على الإمكان، ثمّ لا يزال كلّما تحقّق فعل زاد في سهولة التحقّق و نقص بقدره من صعوبته.

فإذا تحقّق الإنسان أنّ عملاً كذا حقّ صالح و نزع عن نفسه أغراض العناد و اللجاج بإماتة الاستكبار و الاستعلاء على الحقّ كان من العون كلّ العون على إتيانه أن يرى إنساناً يرتكبه فتتلقّى نفسه إمكان العمل.

و من هنا يظهر أنّ المجتمع إنّما يتهيّؤ لقبول الحقّ إذا اشتمل على علماء يعلمونه و يعلّمونه، و على رجال يقومون بالعمل به حتّى يذعن العامّة بإمكان العمل و يشاهدوا حسنه، و على اعتياد عامّتهم على الخضوع للحقّ و عدم الاستكبار عنه إذا انكشف لهم.

و لهذا علّل الله سبحانه قرب النصارى من قبول الدعوة الحقّة الدينيّة بأنّ فيهم قسّيسين و رهباناً و أنّهم لا يستكبرون ففيهم علماء لا يزالون يذكّرونهم مقام الحقّ و معارف الدين قولاً، و فيهم زهّاد يذكّرونهم عظمة ربّهم و أهمّيّة سعادتهم الاُخرويّة و الدنيويّة عملاً، و فيهم عدم الاستكبار عن قبول الحقّ.

و أمّا اليهود فإنّهم و إن كان فيهم أحبار علماء لكنّهم مستكبرون لا تدعهم رذيلة العناد و الاستعلاء أن يتهيّؤا لقبول الحقّ.

و أمّا الّذين أشركوا فإنّهم يفقدون العلماء و الزهّاد، و فيهم رذيلة الاستكبار.

قوله تعالى: ( وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى‏ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ) إلخ، فاضت العين بالدمع سال دمعها بكثرة، و( مِنَ ) في قوله:( مِنَ الدَّمْعِ ) للابتداء، و في قوله:( مِمَّا ) للنشوء، و في قوله:( مِنَ الْحَقِّ ) بيانيّة.

قوله تعالى: ( وَ ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ ) إلخ، لفظة( يُدْخِلَنا ) كأنّها مضمّنة معنى الجعل، و لذلك عدّي بمع، و المعنى: يجعلنا ربّنا مع القوم الصالحين مدخلاً لنا فيهم.

و في هذه الأفعال و الأقوال الّتي حكاها الله تعالى عنهم تصديق ما ذكره عنهم أنّهم أقرب مودّة للّذين آمنوا، و تحقيق أنّ فيهم العلم النافع و العمل الصالح و الخضوع للحقّ

٨٥

حيث كان فيهم قسّيسون و رهبان و هم لا يستكبرون.

قوله تعالى: ( فَأَثابَهُمُ اللهُ ) إلى آخر الآيتين،( الإثابة) المجازاة، و الآية الاُولى ذكر جزائهم، و الآية الثانية فيها ذكر جزاء من خالفهم على طريق المقابلة استيفاءً للأقسام.

( بحث روائي)

في معاني الأخبار، بإسناده عن الرضا عن آبائه، عن عليّعليه‌السلام : في قوله تعالى:( كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ) معناه أنّهما كانا يتغوّطان.

أقول: و رواه العيّاشيّ في تفسيره مرفوعاً.

و في الكافي، بإسناده عن أبي عبيدة الحذّاء، عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) قال: الخنازير على لسان داود، و القردة على لسان عيسى بن مريم.

أقول: و رواه القمّيّ و العيّاشيّ عنهعليه‌السلام ، و روي بطرق أهل السنّة عن مجاهد و قتادة و غيرهما: لعن القردة على لسان داود، و الخنازير على لسان عيسى بن مريم‏، و يوافقه بعض روايات الشيعة كما يأتي.

و في المجمع، عن أبي جعفرعليه‌السلام : أمّا داود فإنّه لعن أهل أيلة لما اعتدوا في سبتهم، و كان اعتداؤهم في زمانه فقال: اللّهمّ ألبسهم اللعنة مثل الرداء، و مثل المنطقة على الخصرين فمسخهم الله قردة، و أمّا عيسى فإنّه لعن الّذين نزلت عليهم المائدة ثمّ كفروا بعد ذلك، قال: فقال أبوجعفرعليه‌السلام : يتولّون الملوك الجبّارين، و يزيّنون لهم هواهم ليصيبوا من دنياهم.

أقول: و القرآن يؤيّد كون أصحاب السبت ممسوخين إلى القردة قال تعالى:( وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) البقرة: ٥٦ و قال تعالى:( وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ

٨٦

شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ - إلى أن قال -وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى‏ رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ - إلى أن قال -فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) الأعراف: ١٦٦.

و في الدرّ المنثور: أخرج عبد بن حميد و أبوالشيخ و الطبرانيّ و ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ بني إسرائيل لما عملوا الخطيئة نهاهم علماؤهم تعزيراً ثمّ جالسوهم و آكلوهم و شاربوهم كأن لم يعملوا بالأمس خطيئة فلمّا رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، و لعنهم على لسان نبيّ من الأنبياء، ثمّ (قال،ظ) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و الله لتأمرنّ بالمعروف، و لتنهنّ عن المنكر، و لتأطرنّهم على الحقّ أطراً أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض و ليلعننّكم كما لعنهم.

و فيه: أخرج عبد بن حميد عن معاذ بن جبل قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خذوا العطاء ما كان عطاءً فإذا كان رشوة عن دينكم فلا تأخذوا و لن تتركوه يمنعكم من ذلك الفقر و المخافة إنّ بني يأجوج قد جاؤا، و إنّ رحى الإسلام سيدور فحيثما دار القرآن فدوروا به، يوشك السلطان و القرآن أن يقتتلا و يتفرّقا أنّه سيكون عليكم ملوك يحكمون لكم بحكم و لهم بغيره فإن أطعتموهم أضلّوكم، و إن عصيتموهم قتلوكم.

قالوا: يا رسول الله كيف بنا إن أدركنا ذلك؟ قال: تكونوا كأصحاب عيسى نشروا بالمناشير، و رفعوا على الخشب، موت في طاعة خير من حياة في معصية إنّ أوّل ما نقص في بني إسرائيل أنّهم كانوا يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر سنّة التعزير فكان أحدهم إذا لقي صاحبه الّذي كان يعيب عليه آكله و شاربه و كأنّه لم يعب عليه شيئاً فلعنهم الله على لسان داود، و ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون.

و الّذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف و لتنهنّ عن المنكر أو ليسلّطنّ الله عليكم شراركم ثمّ ليدعونّ خياركم فلا يستجاب لكم.

و الّذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف و لتنهنّ عن المنكر، و لتأخذنّ على يد الظالم فلتأطرنّه عليه أطراً أو ليضربنّ الله قلوب بعضكم ببعض.

٨٧

و فيه، أيضاً: أخرج ابن راهويه و البخاريّ في الوحدانيّات، و ابن السكن و ابن مندة و الباورديّ في معرفة الصحابة، و الطبرانيّ و أبونعيم و ابن مردويه عن ابن أبزى، عن أبيه:

قال: خطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحمد الله و أثنى عليه ثمّ ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم خيراً، ثمّ قال: ما بال أقوام لا يعلّمون جيرانهم و لا يفقّهونهم، و لا يأمرونهم و لا ينهونهم؟ و ما بال أقوام لا يتعلّمون من جيرانهم و لا يتفقّهون و لا يتفطّنون؟ و الّذي نفسي بيده ليعلّمنّ (جيرانهم،ظ) أو ليتفقّهنّ أو ليتفطّننّ أو لاُعاجلنّهم بالعقوبة في دار الدنيا، ثمّ نزل و دخل بيته فقال أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من يعني بهذا الكلام؟ قالوا: ما نعلم يعني بهذا الكلام إلّا الأشعريّين فقهاء علماء، و لهم جيران جفاة جهلة.

فاجتمع جماعة من الأشعريّين فدخلوا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: ذكرت طوائف من المسلمين بخير و ذكرتنا بشرّ فما بالنا؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لتعلّمنّ جيرانكم و لتفقّهنّهم و لتأمرنّهم و لتنهنّهم أو لاُعاجلنّكم بالعقوبة في دار الدنيا، فقالوا: يا رسول الله فأمهلنا سنة ففي سنة مّا نعلّمهم و يتعلّمون فأمهلهم سنة ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ، كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن الهيثمّ التميميّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ) ، قال: أمّا إنّهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم و لا يجالسون مجالسهم و لكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم و أنسوا بهم.

و فيه، أيضاً: عن مروان، عن بعض أصحابه، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ذكر النصارى و عداوتهم فقال: قول الله:( ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) ، قال: اُولئك كانوا قوماً بين عيسى و محمّد ينتظرون مجي‏ء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: ظاهر الآية العموم دون الخصوص، و لعلّ المراد أنّ المدح إنّما هو لهم

٨٨

ما لم يغيّروا كما أنّ الذي مدح الله به المسلمين كذلك.

و في الدرّ المنثور: أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه عن سعيد بن جبير: في قوله:( ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً ) قال: هم رسل النجاشيّ الّذين أرسل بإسلامه إسلام قومه كانوا سبعين رجلاً اختارهم من قومه الخير فالخير في الفقه و السنّ.

و في لفظ: بعث من خيار أصحابه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثين رجلاً فلمّا أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخلوا عليه فقرأ عليهم سورة( يس) فبكوا حين سمعوا القرآن و عرفوا أنّه الحقّ.

فأنزل الله فيهم:( ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً ، الآية) و نزلت هذه الآية فيهم أيضاً:( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ - إلى قوله -أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ) .

و فيه: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو بمكّة يخاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب و ابن مسعود و عثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشيّ ملك الحبشة.

فلمّا بلغ المشركين بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم، ذكروا أنّهم سبقوا أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى النجاشيّ فقالوا: إنّه قد خرج فينا رجل سفّه عقول قريش و أحلامها زعم أنّه نبيّ، و أنّه بعث إليك رهطاً ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك و نخبرك خبرهم.

قال: إنّ جاؤني نظرت فيما يقولون، فلمّا قدم أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتوا إلى باب النجاشيّ فقالوا: استأذن لأولياء الله فقال: ائذن لهم فمرحباً بأولياء الله فلمّا دخلوا عليه سلّموا، فقال الرهط من المشركين: أ لم تر أيّها الملك أنّا صدقناك، و أنّهم لم يحيّوك بتحيّتك الّتي تحيّا بها؟ فقال لهم: ما يمنعكم أن تحيّوني بتحيّتي؟ قالوا: إنّا حييّناك بتحيّة أهل الجنّة و تحيّة الملائكة.

فقال لهم: ما يقول صاحبكم في عيسى و اُمّه؟ قالوا: يقول: عبدالله و رسوله و

٨٩

كلمة من الله و روح منه ألقاها إلى مريم، و يقول في مريم: إنّها العذراء الطيّبة البتول قال: فأخذ عودا من الأرض فقال: ما زاد عيسى و اُمّه على ما قال صاحبكم هذا العود، فكره المشركون قوله و تغيّر له وجوههم.

فقال: هل تقرؤن شيئاً ممّا اُنزل عليكم؟ قالوا: نعم، قال: فاقرؤوا فقرؤا - و حوله القسّيسون و الرهبان و سائر النصارى - فجعلت طائفة من القسّيسين و الرهبان كلّما قرؤوا آية انحدرت دموعهم ممّا عرفوا من الحقّ قال الله:( ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ، وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى‏ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ) .

أقول: و روى القمّيّ في تفسيره القصّة مفصّلة في خبر طويل، و في آخره: و رجعوا إلى النجاشيّ فأخبروه خبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قرؤا عليه ما قرأ عليهم فبكى النجاشيّ و بكى القسّيسون، و أسلم النجاشيّ و لم يظهر للحبشة إسلامه، و خافهم على نفسه فخرج من بلاد الحبشة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا عبّر البحر توفّي‏، الحديث.

( كلام في معنى التوحيد في القرآن)

لا يرتاب الباحث المتعمّق في المعارف الكلّيّة أنّ مسألة التوحيد من أبعدها غوراً، و أصعبها تصوّراً و إدراكاً، و أعضلها حلّاً لارتفاع كعبها عن المسائل العامّة العامّيّة الّتي تتناولها الأفهام، و القضايا المتداولة الّتي تألفها النفوس، و تعرفها القلوب.

و ما هذا شأنه تختلف العقول في إدراكه و التصديق به للتنوّع الفكريّ الّذي فطر عليه الإنسان من اختلاف أفراده من جهة البنية الجسميّة و إدّاء ذلك إلى اختلاف أعضاء الإدراك في أعمالها ثمّ تأثير ذلك الفهم و التعقّل من حيث الحدّة و البلادة، و الجودة و الرداءة، و الاستقامة و الانحراف.

فهذا كلّه ممّا لا شك فيه، و قد قرّر القرآن هذا الاختلاف في موارد من آياته الكريمة كقوله تعالى:( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) الزمر: ٩، و قوله تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا

٩٠

الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) النجم: ٣٠، و قوله تعالى:( فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ) النساء: ٨٧، و قوله تعالى في ذيل الآية ٧٥ من المائدة (و هي من جملة الآيات الّتي نحن فيها):( انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) .

و من أظهر مصاديق هذا الاختلاف الفهميّ اختلاف أفهام الناس في تلقّي معنى توحّده تعالى لما في أفهامهم من الاختلاف العظيم و النوسان الوسيع في تقرير مسألة وجوده تعالى على ما بينهم من الاتّفاق على ما تعطيه الفطرة الإنسانيّة بإلهامها الخفيّ و إشارتها الدقيقة.

فقد بلغ فهم آحاد من الإنسان في ذلك أن جعل الأوثان المتّخذة، و الأصنام المصنوعة من الخشب و الحجارة حتّى من نحو الأقط و الطينة المعمولة من أبوال الغنم شركاء لله، و قرناء له، يعبد كما تعبد هؤلاء، و يسأل كما تسأل هؤلاء، و يخضع له كما يخضع لها، و لم يلبث هذا الإنسان دون أن غلّب هذه الأصنام عليه تعالى بزعمه، و أقبل عليها و تركه، و أمّرها على حوائجه و عزله.

فهذا الإنسان قصارى ما يراه من الوجود له تعالى هو مثل ما يراه لآلهته الّتي خلقها بيده، أو خلقها إنسان مثله بيده، و لذلك كانوا يثبتون له تعالى من صفة الوحدة مثل ما يصفون به كلّ واحد من أصنامهم، و هي الوحدة العدديّة الّتي تتألّف منها الأعداد، قال تعالى:( وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ، أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ عُجابٌ ) ص: ٦.

فهؤلاء كانوا يتلقّون الدعوة القرآنيّة إلى التوحيد دعوة إلى القول بالوحدة العدديّة الّتي تقابل الكثرة العدديّة كقوله تعالى:( وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) البقرة: ١٦٣ و قوله تعالى:( هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) المؤمن: ٦٥ و غير ذلك من الآيات الداعية إلى رفض الآلهة الكثيرة، و توجيه الوجه لله الواحد، و قوله تعالى:( وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ ) العنكبوت: ٤٦ و غيره من الآيات الداعية إلى رفض التفرّق في العبادة للإله، حيث كانت كلّ اُمّة أو طائفة أو قبيلة تتّخذ

٩١

إلهاً تختصّ به، و لا تخضع لإله الآخرين.

و القرآن ينفي في عالي تعليمه الوحدة العدديّة عن الإله جلّ ذكره، فإنّ هذه الوحدة لا تتّم إلّا بتميّز هذا الواحد من ذلك الواحد بالمحدوديّة الّتي تقهره، و المقدّريّة الّتي تغلبه، مثال ذلك ماء الحوض إذا فرّقناه في آنية كثيرة كان ماء كلّ إناء ماءً واحداً غير الماء الواحد الّذي في الإناء الآخر، و إنّما صار ماءً واحداً يتميّز عمّا في الآخر لكون ما في الآخر مسلوباً عنه غير مجتمع معه، و كذلك هذا الإنسان إنّما صار إنساناً واحداً لأنّه مسلوب عنه ما للإنسان الآخر، و لو لا ذلك لم يتأتّ للإنسانيّة الصادقة على هذا و ذاك أن تكون واحدة بالعدد و لا كثيرة بالعدد.

فمحموديّة الوجود هي الّتي تقهر الواحد العدديّ على أن يكون واحداً ثمّ بانسلاب هذه الوحدة من بعض الجهات تتألّف كثرة عدديّة كما عنده عروض صفة الاجتماع بوجه.

و إذ كان الله سبحانه قاهراً غير مقهور، و غالباً لا يغلبه شي‏ء البتّة كما يعطيه التعليم القرآنيّ لم تتصوّر في حقّه وحدة عدديّة و لا كثرة عدديّة، قال تعالى:( وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) الرعد: ١٦، و قال:( أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ) يوسف: ٤٠، و قال:( وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) ص: ٦٥، و قال:( لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى‏ مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) الزمر: ٤.

و الآيات بسياقها - كما ترى - تنفي كلّ وحدة مضافة إلى كثرة مقابلة لها سواء كانت وحدة عدديّة كالفرد الواحد من النوع الّذي لو فرض بإزائه فرد آخر كانا اثنين فإنّ هذا الفرد مقهور بالحدّ الّذي يحدّه به الفرد الآخر المسلوب عنه المفروض قباله، أو كانت وحدة نوعيّة أو جنسيّة أو أيّ وحدة كلّيّة مضافة إلى كثرة من سنخها كالإنسان الّذي هو نوع واحد مضاف إلى الأنواع الكثيرة الحاصلة منه و من الفرس و البقر و الغنم و غيرها فإنّه مقهور بالحدّ الّذي يحدّه به ما يناظره من الأنواع الاُخر، و إذ كان تعالى لا يقهره شي‏ء في شي‏ء البتّة من ذاته و لا صفته و لا فعله و هو القاهر فوق كلّ شي‏ء

٩٢

فليس بمحدود في شي‏ء يرجع إليه، فهو موجود لا يشوبه عدم، و حقّ لا يعرضه بطلان، و هو الحيّ لا يخالطه موت، و العليم لا يدبّ إليه جهل، و القادر لا يغلبه عجز، و المالك و الملك من غير أن يملك منه شي‏ء و العزيز الّذي لا ذلّ له، و هكذا.

فله تعالى من كلّ كمال محضه، و إن شئت زيادة تفهّم و تفقّه لهذه الحقيقة القرآنيّة فافرض أمراً متناهياً و آخر غير متناه تجد غير المتناهي محيطاً بالمتناهي بحيث لا يدفعه المتناهي عن كماله المفروض أيّ دفع، فرضته بل غير المتناهي مسيطر عليه بحيث لا يفقده المتناهي في شي‏ء من أركان كماله، و غير المتناهي هو القائم على نفسه، الشهيد عليه، المحيط به، ثمّ انظر في ذلك إلى ما يفيده قوله تعالى:( أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ، أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ ) حم السجدة: ٥٤.

و هذا هو الّذي يدلّ عليه عامّة الآيات الواصفة لصفاته تعالى الواقعة في سياق الحصر أو الظاهر فيه كقوله تعالى:( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ ) طه: ٨، و قوله:( وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) النور: ٢٥، و قوله:( هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) المؤمن: ٦٥، و قوله:( وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ) الروم: ٥٤، و قوله:( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) البقرة: ١٦٥، و قوله:( لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ ) التغابن: ١، و قوله:( إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) يونس: ٦٥، و قوله:( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) البقرة: ١٤٧، و قوله:( أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَ اللهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) فاطر: ١٥، إلى غير ذلك من الآيات.

فالآيات - كما ترى - تنادي بأعلى صوتها أنّ كلّ كمال مفروض فهو لله سبحانه بالأصالة، و ليس لغيره شي‏ء إلّا بتمليكه تعالى له ذلك من غير أن ينعزل عمّا يملكه و يملّكه كما ننعزل نحن معاشر الخليقة عمّا ملّكناه غيرنا.

فكلّما فرضنا شيئاً من الأشياء ذا شي‏ء من الكمال في قباله تعالى ليكون ثانياً له و شريكاً عاد ما بيده من معنى الكمال لله سبحانه محضاً، و هو الحقّ الّذي يملك كلّ شي‏ء، و غيره الباطل الّذي لا يملك لنفسه شيئاً قال تعالى:( لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا

٩٣

وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً ) الفرقان: ٣.

و هذا المعنى هو الّذي ينفي عنه تعالى الوحدة العدديّة إذ لو كان واحداً عدديّاً أي موجوداً محدوداً منعزل الذات عن الإحاطة بغيره من الموجودات صحّ للعقل أن يفرض مثله الثاني له سواء كان جائز التحقّق في الخارج أو غير جائز التحقّق، و صحّ عند العقل أن يتّصف بالكثرة بالنظر إلى نفسه و إن فرض امتناعه في الواقع، و ليس كذلك.

فهو تعالى واحد بمعنى أنّه من الوجود بحيث لا يحدّ بحدّ حتّى يمكن فرض ثان له فيما وراء ذلك الحدّ و هذا معنى قوله تعالى:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، اللهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ، وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) سورة التوحيد: ٤ فإنّ لفظ أحد إنّما يستعمل استعمالاً يدفع إمكان فرض العدد في قباله يقال:( ما جاءني أحد) و ينفي به أن يكون قد جاء الواحد و كذا الاثنان و الأكثر و قال تعالى:( وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ) التوبة: ٦ فشمل الواحد و الاثنين و الجماعة و لم يخرج عن حكمه عدد، و قال تعالى:( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) فشمل الواحد و ما وراءه، و لم يشذّ منه شاذّ.

فاستعمال لفظ أحد في قوله:( هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) في الإثبات من غير نفي و لا تقييد بإضافة أو وصف يفيد أنّ هويّته تعالى بحيث يدفع فرض من يماثله في هويّته بوجه سواء كان واحداً أو كثيراً فهو محال بحسب الفرض الصحيح مع قطع النظر عن حاله بحسب الخارج.

و لذلك وصفه تعالى أوّلاً بأنّه صمد، و هو المصمت الّذي لا جوف له و لا مكان خالياً فيه، و ثانياً بأنّه لم يلد، و ثالثاً بأنّه لم يولد، و رابعاً بأنّه لم يكن له كفواً أحد، و كلّ هذه الأوصاف ممّا يستلزم نوعاً من المحدوديّة و الانعزال.

و هذا هو السرّ في عدم وقوع توصيفات غيره تعالى عليه حقّ الوقوع و الاتّصاف قال تعالى:( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: ١٦٠، و قال تعالى:( وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) طه: ١١٠، فإنّ المعاني الكماليّة الّتي نصفه تعالى بها أوصاف محدودة، و جلّت ساحته سبحانه عن الحدّ و القيد، و هو الّذي يرومه النبيّ

٩٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلمته المشهورة:( لا اُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك) .

و هذا المعنى من الوحدة هو الّذي يدفع به تثليث النصارى فإنّهم موحّدون في عين التثليث لكنّ الّذي يذعنون به من الوحدة وحدة عدديّة لا تنفي الكثرة من جهة اُخرى فهم يقولون: إنّ الأقانيم (الأب و الابن و الروح) (الذات و العلم و الحياة) ثلاثة و هي واحدة كالإنسان الحيّ العالم فهو شي‏ء واحد لأنّه إنسان حيّ عالم و هو ثلاثة لأنّه إنسان و حياة و علم.

لكنّ التعليم القرآنيّ ينفي ذلك لأنّه يثبت من الوحدة ما لا يستقيم معه فرض أيّ كثرة و تمايز لا في الذات و لا في الصفات، و كلّ ما فرض من شي‏ء في هذا الباب كان عين الآخر لعدم الحدّ فذاته تعالى عين صفاته، و كلّ صفة مفروضة له عين الاُخرى، تعالى الله عمّا يشركون، و سبحانه عمّا يصفون.

و لذلك ترى أنّ الآيات الّتي تنعته تعالى بالقهّاريّة تبدء أوّلاً بنعت الوحدة ثمّ تصفه بالقهّاريّة لتدلّ على أنّ وحدته لا تدع لفارض مجال أن يفرض له ثانياً مماثلاً بوجه فضلاً عن أن يظهر في الوجود، و ينال الواقعيّة و الثبوت، قال تعالى:( أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ) يوسف: ٤٠، فوصفه بوحدة قاهرة لكلّ شريك مفروض لا تبقى لغيره تعالى من كلّ معبود مفروض إلّا الاسم فقط، و قال تعالى:( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) الرعد: ١٦، قال تعالى:( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن: ١٦، إذ ملكه تعالى المطلق لا يخلّي مالكاً مفروضاً غيره دون أن يجعله نفسه و ما يملكه ملكاً لله سبحانه، و قال تعالى:( وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) ص: ٦٥، و قال تعالى:( لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى‏ مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) الزمر: ٤، فرتّب القهّاريّة في جميع الآيات على صفة الوحدة.

٩٥

( بحث روائي)

( كلام في معنى التوحيد)

في التوحيد، و الخصال، بإسناده عن المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه قال: إنّ أعرابيّاً قام يوم الجمل إلى أميرالمؤمنينعليه‌السلام فقال: يا أميرالمؤمنين أ تقول: إنّ الله واحد؟ قال: فحمل الناس عليه و قالوا: يا أعرابيّ أ ما ترى ما فيه أميرالمؤمنين من تقسّم القلب؟ فقال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : دعوه فإنّ الّذي يريده الأعرابيّ هو الّذي نريده من القوم!.

ثمّ قال: يا أعرابيّ إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّوجلّ، و وجهان يثبتان فيه فأمّا اللّذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد أ ما ترى أنّه كفر من قال: إنّه ثالث ثلاثة؟ و قول القائل: هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لأنّه تشبيه، و جلّ ربّنا و تعالى عن ذلك.

و أمّا الوجهان اللّذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربّنا، و قول القائل: إنّه عزّوجلّ أحديّ المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم، كذلك ربّنا عزّوجلّ.

أقول: و رواه أيضاً في المعاني، بسند آخر عن أبي المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه عنهعليه‌السلام .

و في النهج: أوّل الدين معرفته، و كمال معرفته التصديق به، و كمال التصديق به توحيده، و كمال توحيده الإخلاص له، و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، و شهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف الله فقد قرنه، و من قرنه فقد ثنّاه، و من ثنّاه فقد جزّأه، و من جزّأه فقد جهله، و من جهله فقد أشار إليه، و من أشار إليه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه‏ (الخطبة).

أقول: و هو من أبدع البيان، و محصّل الشطر الأوّل من الكلام أنّ معرفته تنتهي في استكمالها إلى نفي الصفات عنه، و محصّل الشطر الثاني المتفرّع على الشطر الأوّل

٩٦

- أعني قولهعليه‌السلام : فمن وصف الله فقد قرنه إلخ - أنّ إثبات الصفات يستلزم إثبات الوحدة العدديّة المتوقّفة على التحديد غير الجائز عليه تعالى، و تنتج المقدّمتان أنّ كمال معرفته تعالى يستوجب نفي الوحدة العدديّة منه، و إثبات الوحدة بمعنى آخر، و هو مرادهعليه‌السلام من سرد الكلام.

أمّا مسألة نفي الصفات عنه فقد بيّنهعليه‌السلام بقوله:( أوّل الدين معرفته) لظهور أنّ من لم يعرف الله سبحانه و لو بوجه لم يحلّ بعد في ساحة الدين، و المعرفة ربّما كانت مع عمل بما يرتبط به من الأفعال و ترتّب آثار المعروف، و ربّما كانت من غير عمل، و من المعلوم أنّ العلم فيما يتعلّق نوع تعلّق بالأعمال إنّما يثبت و يستقرّ في النفس إذا ترتّب عليه آثاره العمليّة، و إلّا فلا يزال العلم يضعف بإتيان الأعمال المخالفة حتّى يبطل أو يصير سدىّ لا أثر له، و من كلامهعليه‌السلام في هذا الباب - و قد رواه في النهج -:( العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل، و العلم يهتف بالعمل فإن أجابه و إلّا ارتحل عنه) .

فالعلم و المعرفة بالشي‏ء إنّما يكمل إذا أخذ العارف معروفه صدقاً، و أظهر ذلك في باطنه و ظاهره، و جنانه و أركانه بأن يخضع له روحاً و جسماً، و هو الإيمان المنبسط على سرّه و علانيته، و هو قوله:( و كمال معرفته التصديق به) .

ثمّ هذا الخضوع المسمّى بالتصديق به و إن جاز تحقّقه مع إثبات الشريك للربّ المخضوع له كما يخضع عبدة الأصنام لله و لسائر آلهتهم جميعاً لكنّ الخضوع بشي‏ء لا يتمّ من غير انصراف عن غيره بالبداهة، فالخضوع لواحد من الآلهة في معنى الإعراض عن غيره و الاستكبار في الجملة عنه فلا يكمل التصديق بالله و الخضوع لمقامه إلّا بالإعراض عن عبادة الشركاء، و الانصراف عن دعوة الآلهة الكثيرة، و هو قوله:( و كمال التصديق به توحيده) .

ثمّ إنّ للتوحيد مراتب مختلفة بعضها فوق بعض، و لا يكمل حتّى يعطى الإله الواحد حقّه من الاُلوهيّة المنحصرة، و لا يقتصر على مجرّد تسميته إلهاً واحداً بل ينسب إليه كلّ ما له نصيب من الوجود و الكمال كالخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة و الإعطاء و المنع، و أن يخصّ الخضوع و العبادة به فلا يتذلّل لغيره بوجه من الوجوه

٩٧

بل لا يرجى إلّا رحمته، و لا يخاف إلّا سخطه، و لا يطمع إلّا فيما عنده، و لا يعكف إلّا على بابه.

و بعبارة اُخرى أن يخلص له علماً و عملاً، و هو قولهعليه‌السلام :( و كمال توحيده الإخلاص له) .

و إذا استوى الإنسان على أريكة الإخلاص، و ضمّته العناية الإلهيّة إلى أولياء الله المقرّبين لاحت على بصيرته لوائح العجز عن القيام بحقّ المعرفة، و توصيفه بما يليق بساحة كبريائه و عظمته فإنّه ربّما شاهد أنّ الذي يصفه تعالى به معان مدركة ممّا بين يديه من الأشياء المصنوعة، و اُمور ألّفها من مشهوداته الممكنة، و هي صور محدودة مقيّدة يدفع بعضها بعضاً، و لا تقبل الائتلاف و الامتزاج، انظر إلى مفاهيم الوجود و العلم و القدرة و الحياة و الرزق و العزّة و الغنى و غيرها.

و المعاني المحدودة يدفع بعضها بعضاً لظهور كون كلّ مفهوم خلواً عن المفهوم الآخر كمعنى العلم عن معنى القدرة فإنّا حين ما نتصوّر العلم نصرف عن القدرة فلا نجد معناها في معنى العلم، و إذا تصوّرنا معنى العلم و هو وصف من الأوصاف ننعزل عن معنى الذات و هو الموصوف.

فهذه المفاهيم و العلوم و الإدراكات تقصر عن الانطباق عليه جلّ شأنه حقّ الانطباق، و عن حكاية ما هو عليه حقّ الحكاية فتمسّ حاجة المخلص في وصفه ربّه إلى أن يعترف بنقص لا علاج له، و عجز لا جابر دونه فيعود فينفي ما أثبته، و يتيه في حيرة لا مخلص منها، و هو قولهعليه‌السلام :( و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، و شهادة كلّ موصوف أنّها غير الصفة) .

و هذا الّذي فسّرنا به هذا العقد من كلامهعليه‌السلام هو الّذي يؤيّده أوّل الخطبة حيث يقول:( الّذي لا يدركه بعد الهمم، و لا يناله غوص الفطن، الّذي ليس لصفته حدّ محدود، و لا نعت موجود، و لا وقت معدود، و لا أجل ممدود) على ما يظهر للمتأمّل الفطن.

و أمّا قولهعليه‌السلام :( فمن وصف الله فقد قرنه) إلخ، فهو توصّل منه إلى المطلوب

٩٨

- و هو أنّ الله سبحانه لا حدّ له و لا عدّ - من طريق تحليل إثبات الوصف كما كان البيان الأوّل توصّلاً منه من طريق تحليل المعرفة إلى نفي الوصف.

فمن وصف الله فقد قرنه لما عرفت من المغايرة بين الموصوف و الصفة، و الجمع بين المتغارين قرن، و من قرنه فقد ثنّاه لأخذه إيّاه موصوفاً و صفة و هما اثنان، و من ثنّاه فقد جزّأه إلى جزئين، و من جزّأه فقد جهله بالإشارة إليه إشارة عقليّة، و من أشار إليه فقد حدّه لكون الإشارة مستلزمة لانفصال المشار إليه عن المشير حتّى تتوسّط بينهما الإشارة الّتي هي إيجاد بعد مّا بين المشير و المشار إليه - يبتدئ من الأوّل و ينتهي إلى الثاني -( و من حدّه فقد عدّه) و جعله واحداً عدديّاً لأنّ العدد لازم الانقسام و الانعزال الوجوديّ تعالى الله عن ذلك.

و في النهج: من خطبة لهعليه‌السلام :( الحمد لله الّذي لم يسبق له حال حالاً فيكون أوّلاً قبل أن يكون آخراً، و يكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً، كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل، و كلّ عزيز غيره ذليل، و كلّ قويّ غيره ضعيف، و كلّ مالك غيره مملوك، و كلّ عالم غيره متعلّم، و كلّ قادر غيره يقدر و يعجز، و كلّ سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات و يصمّه كبيرها و يذهب عنه ما بعد منها، و كلّ بصير غيره يعمى عن خفيّ الألوان و لطيف الأجسام، و كلّ ظاهر غيره باطن، و كلّ باطن غيره ظاهر) .

أقول: بناء البيان على كونه تعالى غير محدود و كون غيره محدوداً فإنّ هذه المعاني و النعوت و كلّ ما كان من قبيلها إذا طرأ عليها الحدّ كانت لها إضافة مّا إلى غيرها، و يستوجب التحدّد حينئذ أن تنقطع و تزول عمّا اُضيفت إليه، و تتبدّل إلى ما يقابلها من المعنى.

فالظهور إذا فرض محدوداً كان بالنسبة إلى جهة أو إلى شي‏ء دون جهة اُخرى و شي‏ء آخر، و صار الأمر الظاهر باطناً خفيّاً بالنسبة إلى تلك الجهة الاُخرى و الشي‏ء الآخر، و العزّة إذا اُخذت بحدّ بطلت فيما وراء حدّها فكانت ذلّة بالنسبة إليه، و القوّة إذا كانت مقيّدة تبدّلت بالنسبة إلى ما وراء قيدها ضعفاً، و الظهور بطون في غير محلّه، و البطون ظهور في الخارج عن مستواه.

٩٩

و الملك إذا كان محدوداً كان من يحدّه مهيمناً على هذا المالك فهو و ملكه تحت ملك غيره، و العلم إذا كان محدوداً لم يكن من صاحبه لأنّ الشي‏ء لا يحدّ نفسه، فكان بإفاضة الغير و تعليمه، و هكذا.

و الدليل على أنّهعليه‌السلام بنى بيانه على معنى الحدّ قوله:( و كلّ سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات) إلخ، فإنّه و ما بعده ظاهر في الإشارة إلى محدوديّة المخلوقات، و السياق واحد.

و أمّا قولهعليه‌السلام :( و كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل) - و الجملة هي المقصودة من نقل الخطبة - فبناؤه على معنى الحدّ ظاهر فإنّ الوحدة العدديّة المتفرّعة على محدوديّة المسمّى بالواحد لازمة تقسّم المعنى و تكثّره، و كلّما زاد التقسّم و التكثّر أمعن الواحد في القلّة و الضعف بالنسبة إلى الكثرة الحادثة، فكلّ واحد عدديّ فهو قليل بالنسبة إلى الكثير الّذي بإزائه و لو بالفرض.

و أمّا الواحد الّذي لا حدّ لمعناه و لا نهاية له فلا يحتمل فرض الكثرة لعدم احتماله طروّ الحدّ و عروض التميّز و لا يشذّ عن وجوده شي‏ء من معناه حتّى يكثره و يقوى بضمّه، و يقلّ و يضعف بعزله، بل كلّما فرض له ثان في معناه فإذا هو هو.

و في النهج: و من خطبة لهعليه‌السلام :( الحمد لله الدالّ على وجوده بخلقه، و بمحدث خلقه على أزليّته، و باشتباههم على أن لا شبه له، لا يستلمه المشاعر، و لا يحجبه السواتر لافتراق الصانع و المصنوع، و الحادّ و المحدود، و الربّ و المربوب، الأحد لا بتأويل عدد، و الخالق لا بمعنى حركة و نصب، و السميع لا بأداة، و البصير لا بتفريق آلة، و الشاهد لا بمماسّة، و البائن لا بتراخي مسافة، و الظاهر لا برؤية، و الباطن لا بلطافة بان من الأشياء بالقهر لها و القدرة عليها، و بانت الأشياء منه بالخضوع له و الرجوع إليه، من وصفه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه، و من عدّه فقد أبطل أزله) .

أقول: أوّل كلامهعليه‌السلام مبنيّ على أنّ جميع المعاني و الصفات المشهودة في الممكنات اُمور محدودة لا تتمّ إلّا بحادّ يحدّها و صانع يصنعها، و ربّ يربّها، و هو الله سبحانه، و إذ كان الحدّ من صنعه فهو متأخّر عنه غير لازم له، فقد تنزّهت ساحة كبريائه عن هذه الحدود.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

من الشهر ، ثم أخذها في النقصان يوماً فيوماً في النصف الأخير منه ، وزيادة أدمغة الحيوانات وألبانها بزيادة النور ، ونقصانها بنقصانه.

و كذلك زيادة البقول والثمار نمواً ونضجاً عند زيادة نوره ، حتى أنّ المزاولين لها يسمعون صوتاً من القثاء والقرع والبطيخ عند تمدده وقت زيادة النور ، وكإبلاء نور القمر الكتان ، وصبغه بعض الثمار ، إلى غيرذلك من الأمور التي تشهد بها التجربة(١) .

قالوا : وإنّما اختص القمر بزيادة ما نيط به من أمثال هذه الأمور بين سائر الكواكب لأنه أقرب [٣٤ / ب] إلى عالم العناصر منها ؛ ولأنه مع قربه أسرع حركة فيمتزج نوره بأنوار جميع الكواكب ، ونوره أقوى من نورها ، فيشاركها شركة غالب عليها فيما نيط بنورها من المصالح بإذن خالقها ومبدعها جلّ شأنه.

ا لثالث : ما يتعلق به من السعادة والنحوسة ، وما يرتبط به من الأمور التي هو علامة على حصولها في هذا العالم ، كما ذكره الديانيون من المنجمين ، ووردت به الشريعة المطهرة على الصادع بها أفضل التسليمات.

كما رواه الشيخ الجليل عماد الإِسلام ، محمد بن يعقوب الكليني قدس الله روحه ، في الكافي عن الصادقعليه‌السلام  ، قال : « من سافر أو تزوج والقمر في العقرب لم ير الحسنى »(٢) .

وكما رواه أيضا في الكتاب المذكور عن الكاظمعليه‌السلام  : « من تزوج في محاق الشهر فليسلّم لسقط الولد »(٣) .

وكما رواه شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي طاب ثراه في تهذيب الأخبار عن الباقرعليه‌السلام  : « أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بات ليلة

________________________

(١) لمعرفة المزيد من ذلك انظر : كتاب الدلاثل : ٨٢ وما بعدها ، وغيره من الكتب المختصّة بهذا العلم.

(٢) الكافي ٨ : ٢٧٥ ، الحديث ٤١٦ / وأنظر علل الشرائع : ٥١٤.

(٣) الكافي ٥ : ٤٩٩ ، الحديث ٢ / وانظر من لا يحضره الفقيه ٣ : ٢٥٤ ، الحديث ١٢٠٦ / تهذيب الأحكام ٧ : ٤١١ ، الحديث ١٦٤٣ / علل الشرائع : ٥١٤.

١٤١

عند بعض نسائه فانكسف القمرفي تلك الليلة فلم يكن منه فيها شيء.

فقالت له زوجته : يا رسول الله بابي أنت وأمي كل(١) هذا البُغْض؟

فقال : لها : ( ويحك هذا الحادث في السماء فكرهت أن [٣٥ / أ]

وفي آخر الحديث ما يدل على أن المجامع في تلك الليلة إن رزق من جماعه ولداً وقد سمع بهذا الحديث لا يرى ما يحب(٢) .

هداية :

ما يدعيه المنجمون من ارتباط بعض الحوادث السفليّة بالأجرام العلوية إن زعموا أنّ تلك الأجرام هي العلة المؤثرة في تلك الحوادث بالاستقلال ، أو أنّها شريكة في التاثير ، فهذا لا يحل للمسلم اعتقاده.

و علم النجوم المبتني على هذا كفر والعياذ بالله ، وعلى هذا حمل ما ورد في الحديث من التحذير من علم النجوم والنهي عن اعتقاد صحته.

وإن قالوا : إنّ اتصالات تلك الأجرام وما يعرض لها من الأوضاع علامات على بعض حوادث هذا العالم مما يوجده الله سبحانه بقدرته وإرادته ؛ كما أنّ

________________________

(١) لفظة « كل » يمكن أن تقرأ بالنصب على المفعولية المطلقة ، أي : تبغضي كلّ هذا البعض ؛ ويمكن أن تكونة مرفوعة بالإبتداء بحذف الخبر ، أي : كلُّ هذا البغض حاصل منك لي ، منه قدس سره ، هامش المخطوط.

ثم أن هذا المقطع من الحديث ـ قول الزوجة ـ ورد بالفاظ مختلفة انظر مصادر ألحديث الآتية.

والفيض الكاشاني ـ قدس سره ـ في كتابه الوافي ١٢ : ١٠٥ ، أو المجلد ألثالث كتاب النكاح الباب ١٠٦ ، بعد أن أثبت أن بين الفقيه والتهذيب والكافي اختلاف في هذه العبارة قال : قولها : أكل هذا البغض ، تقديره اتبغضني بغضا يبلغ كل هذا ، فحذف واقيم مقام المحذوف ، وقد صحف بتصحيفات باردة ، وفسر تفسيرات كاسدة ، وليس إلّا كما ذكرناه فانه كلمة شائعة لها نظيرات.

(٢) التهذيب ٧ : ٤١١ قطعة من الحديث ١٦٤٢ وفيه « كل هذا للبغض ». وفيه ما لا يخفى حيث إنّ اللام فيه للعهد ، وهو بعيد / وفي الطبعة الحجرية منه ٢ : ٢٢٩ نحوه ، وفي هامشه : أكل هذا للبغض ، وفي ترتيب التهذيب ٣ : ١٢٧ هكذا : أكلّ هذا البغض / وفي الكافي ٥ : ٤٩٨ / حديث ١ / من لا يحضره الفقيه ٣ : ٢٥٥ حديث ١٢٠٧ / المحاسن : ٣١١ حديث ٢٦ من كتاب العلل / وانظر روضة المتقين ٨ : ١٩٧. وفي الجميع كما تقدم قطعة من حديث.

١٤٢

حركات النبض واختلافات أوضاعه علامات يستدل بها الطبيب على ما يعرض للبدن من قرب الصحّة واشتداد المرض ونحوه وكما يستدلّ باختلاج بعض الأعضاء على بعض الأحوال المستقبلة ؛ فهذا لا مانع منه ولا حرج في اعتقاده.

وما روي من صحة علم النجوم ، وجواز تعلمه محمول على هذا المعنى ، كما رواه الشيخ الجليل عماد الاسلام محمد بن يعقوب الكليني ، في كتاب الروضة من الكافي ، عن عبد الرحمن بن سيابة(١) ، قال ، قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام  : جعلت فداك إنّ الناس يقولون : إن النجوم لا يحل [٣٥ / ب] النظر فيها ، وهي تعجبني ، فإن كانت تضر بديني فلا حاجة لي في شيء يضر بديني ، وإن كانت لا تضر بديني فوالله إني لأشتهيها ، وأشتهي النظر فيها.

فقالعليه‌السلام  : « ليس كما يقولون ، لا تضرّ بدينك ».

ثم قال : « إنكم تبصرون في شيء منها كثيره لا يدرك ، وقليله لا ينتفع به ، تحسبون على طالع القمر ».

ثم قال : « أتدري كم بين المشتري والزهرة من دقيقة »؟ فقلت : لا والله.

قال : « أتدري كم بين الزهرة والقمر من دقيقة »؟ قلت : لا والله.

قال : « أفتدري كم بين الشمس وبين السكينة(٢) من دقيقة »؟ قلت : لا والله ما سمعته من أحد من المنجمين قط.

فقال : « أفتدري كم بين السكينة واللوح المحفوظ من دقيقة »؟ قلت :

________________________

(١) عبد الرحمن بن سيابة الكوفي البجلي البزار ، من أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام . وروى عنه. وعنه روى أبان بن عثمان الأحمر ، والحسن بن محبوب ، وأحمد بن محمد بن عيسى عن البرقي عنه ، ويونس بن عبد الرحمن وغيرهم. اعتمده الإمام الصادقعليه‌السلام  في توزيع المال على عيالات من قتل مع زيد بن علي بن الحسينعليهما‌السلام .

تنقيح المقال ٢ : ١٤٤ رقم ٦٣٧٨ / رجال الشيخ الطوسي : ٢٣٠ رقم ١٢٠ / جامع الرواة ١ : ٤٥١ / مجمع الرجال ٤ : ٧٩ / اختيار معرفة الرجال ، الأرقام : ٦٢٢ ، ٧٣٤ ، ١٤٧ ، وغيرها / معجم رجال الحديث ٩ : ٣٣٢ / ٦٣٨٥.

(٢) في المصدر عوضها « السنبلة » ، والمثبت أفضل للمجهولية.

١٤٣

لا ، ماسمعته من منجم قط.

قال : « ما بين كلّ منهما إلى صاحبه ستون دقيقة ».

ثم قال : « يا عبد الرحمن هذا حساب إذا حسبه الرجل ووقع عليه علم القصبة التي في وسط الأجمة ، وعدد ما عن يمينها ، وعدد ما عن يسارها ، وعددما خلفها ، وعدد ما أمامها ، حتى لا يخفى عليه من قصب الأجمة واحدة(١) ».

إكمال :

ا لأمور التي يحكم بها المنجمون ، من الحوادث الاستقبالية ، اُصول بعضها مأخوذ من أصحاب الوحي سلام الله عليهم ، وبعض الاصول يدعون فيها التجربة ؛ وبعضها مبتنٍ على اُمور متشعبة لا تفي القوة البشرية بضبطها والإحاطة بها ، كما يؤمي إليه قول الصادقعليه‌السلام  : « كثيره لا يدرك ، وقليله لاينتج »(٢) ، فلذلك وجد الاختلاف في كلامهم ، وتطرق الخطأ إلى بعض أحكامهم.

ومن اتفق له الجري على الأصول الصحيحة صح كلامه ، وصدّقت أحكامه لا محالة ، كما نطق به كلام الصادقعليه‌السلام  في الرواية المذكورة قبيل هذا الفصل(٣) ، ولكن هذا أمر عزيز المنال ، لا يظفر به إلّا القليل ، والله الهادي إلى سواء السبيل.

ولابن سينا كلام في هذا الباب ، قال في فصل المبدأ والمعاد ، من إلهيات الشفاء : لو أمكن انساناً من الناس أن يعرف الحوادث التي في الأرض والسماء جميعا ، وطبائعها لفهم كيفية [جميع] ما يحدث في المستقبل.

وهذا المنجّم القائل بالأحكام ـ مع أن أوضاعه الأولى ، ومقدماته ، ليست مستندة(٤)

__________________

(١) الكافي( الروضة ) ٨ : ١٩٥ رقم ٢٣٣.

(٢) الكافي( الروضة ) ٨ : ١٩٥ حديث ٢٣٣ وفيه : « وقليله لا ينتفع ».

(٣) انظر صفحة ٥٩ هامش ٣.

(٤) في المصدر : تستند.

١٤٤

إلى برهان ، بل عسى أن يدّعي فيها التجربة أو الوحي ، وربما حاول قياسات شعرية أوخطابية في إثباتها ـ فإنه إنما يعول على دلائل جنس واحد من أسباب الكائنات ، وهي التي في السماء ، على أنّه لا يضمن من عنده الإحاطة بجميع الأحوال التي في السماء ، ولو ضمن لنا ذلك ووفّى به لم يمكنه أن يجعلنا [ونفسه] بحيث تقف على وجود جميعها في كل وقت. وإن كان جميعها ـ من حيث فعله وطبعه ـ معلوماً عنده.

ثم قال في آخر كلامه : فليس لنا اذن إعتماد على أقوالهم ، وأن سلّمنا [متبرعين] أن جميع ما يعطونا من مقدماتهم الحكمية صادقة(١) .

خاتمة :

قد ألف السيد الجليل الطاهر ، ذو المناقب والمفاخر ، رضي الدين علي بن طاووس قدس الله روحه ، كتاباً ضخماً ، سماه « فرج الهموم في معرفة الحلال والحرام من علم النجوم »(٢) ، يتضمن الدلالة على كون النجوم علامات ودلالات على ما يحدث في هذا العالم ، وأنّ الأحاديث عن الأنبياء من لدن إدريس على نبينا وعليه السلام إلى عهد أئمتنا الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين ناطقة بذلك(٣) [٣٦ / ].

و ذكر أن إدريس أول من نظر في علم النجوم(٤) ، وأن نبوة موسىعليه‌السلام  عُلمت بالنجوم(٥) .

ونقل أن نبوة نبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً مما علمه بعض المنجمين ،

________________________

(١) الشفاء ، قسم الاهيات ، المقالة العاشرة ، الفصل الأول : ٤٤٠. وما بين المعقوفات من المصدر.

(٢) ضبط المؤلفقدس‌سره الاسم هكذا : ( فرج المهموم في معرفة نهج الحلال من علم النجوم ) ، أنظر صحيفة : ٩ منه.

(٣) أنظر : الباب الثالث فيما نذكره من أخبار من قوله حُجة : ٨٥.

(٤) أنظر ، صحيفة : ٢١ ، ٢٢ ، منه.

(٥) راجع ، صحيفة : ٢٧ ، منه.

١٤٥

وصدّق به بالدلائل النجومية(١) .

وأنّ بعض أحوال مولانا وإمامنا صاحب الأمرعليه‌السلام  مما أخبر به بعض المنجمين من اليهود بقم ، وذكر أنّ بعض أكابر قم واسمه أحمد بن إسحاق(٢) أحضر ذلك المنجم اليهودي وأراه زايجة طالع ولادة صاحب الأمرعليه‌السلام  ، فلمّا أمعن النظر فيها قال : لا يكون مثل هذا المولود إلّا نبياً ، أو وصيّ نبيّ ، وأنّ النظر يدل على أنه يملك الدنيا شرقاً وغرباً وبراً وبحراً حتى لا يبقى على وجه الأرض أحد إلأ دان بدينه وقال بولايته(٣) .

وروى عطر الله مرقده في الكتاب المذكورعن يونس بن عبد الرحمن(٤) ، قال ، قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام  : أخبرني عن علم النجوم ما

________________________

(١) راجع ، صحيفة : ٢٩ ـ ٣٥ ، منه.

(٢) لعله أحمد بن إسحاق بن عبد الله بن سعد بن مالك الأحوص الأشعري أبو علي القمي ، ثقة عين جليل القدر ، شيخ القميين ووافدهم على الأئمةعليه‌السلام  عدّ من أصحاب الإمام الجواد والهادي والعسكريعليه‌السلام  ومن الاثبات الثقات السفراء الذين ترد عليهم التوقيعات عن الناحية المقدسة. ولم اجد ما ذكره السيد ابن طاووس عنه في شيء من كتب التراجم المشار اليها. له كتب منها علل الصلاة وعلل الصوم ومسائل الرجال وغيرها.

له ترجمة في : تنقيح المقال ١ : ٥٠ ت ٢٩٤ / رجال النجاشي : ٩١ ت ٢٢٥ / رجال الشيخ الطوسي : ٣٩٨ ت ١٣ ، ٤٢٧ ت ١ / الفهرست للشيخ : ٢٦ ت ٧٨ / الخلاصة ١٥ ت ٨ من القسم الأول / مجمع الرجال ١ : ٩٥ ـ ٩٧ / رجال ابن داود : ٣٦ ت ٥٩.

(٣) فرج المهموم : ٣٦ ـ ٣٧.

(٤) يونس بن عبد الرحمن ، أبو محمد ، مولى علي بن يقطين ، من أصحاب الإمام الكاظم والإمام الرضاعليهما‌السلام ، وثقه كل من ترجم له ، وصفه النديم بقوله : « علآمة زمانه ، كثير التصنيف والتاليف » ولم لا؟‍‍‍‍‍‍‍‍! وهو أحد وجوه الطائفة ، عظيم المنزلة. وكان الإمام الرضاعليه‌السلام  يشير اليه في الفقه والفتيا ، منها قوله : ـ عندما سأله عبد العزيز القمي وكيلهعليه‌السلام  عمن ياخذ معالم دينه ـ خذ عن يونس بن عبد الرحمن. مات سنة ٢٠٨ هـ = ٨٢٣ م.

ترجم له في : تنقيح المقال ٣ : ٣٣٨ ت ١٣٣٥٧ / جامع الرواة ٦ : ٢٩٣ الرجال للنجاشي : ٤٤٦ ت ١٢٠٨ / رجال بن داود : ٣٨٠ ت ١٧٠٨ الفهرست للطوسي : ١٨١ ت ٧٨٩ / مجمعالرجال ٦ : ٢٩٣ / الفهرست للنديم : ٢٧٦ / اختيار معرفة الرجال الأرقام : ٣٥٧ ، ٤٠١ ، ٤٧٧ ، ٤٧٩ ، ٥٠٣ ، والفهرست من ٣١٨ ـ ٣٢٢ / الخلاصة : ١٨٤ ت ١ / معجم رجال الحديث ٢٠ : ١٩٨ ت ١٣٨٣٤ / رجال الشيخ الطوسي : ٣٦٤ ت ١١ و ٣٩٤ ت ٢.

١٤٦

هو؟

قال : « علم من علم الأنبياء ».

قال « قلت : كان علي بن أبي طالب [عليه‌السلام ] يعلمه؟.

فقال : « كان أعلم الناس به »(١) .

و أورد قدس الله روحه أحاديث متكثرة من هذا القبيل طوينا الكشح عن ذكرها خوفاً من التطويل(٢) .

و ذكر طاب ثراه ما أورده السيد الجليل ، جمال العترة ، الرضيرضي‌الله‌عنه ، في نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنينعليه‌السلام  ، للمنجم الذي نهاه عن المسير إلى النهروان(٣) (٤) ؛ ثم إنهرحمه‌الله  أطنب في تضعيف تلك الرواية وتزييفها ، بالطعن في سندها [٣٧ / ] تارة ، وفي متنها اُخرى.

أمّا السند ، فقال : إن في طريقها عمر بن سعد بن أبي وقاص(٥) ،

________________________

(١) فرج المهموم : ٢.

(٢) فرج المهموم : ٨٥.

(٣) نهج البلاغة ١ : ١٢٤ خطبة رقم ٧٦ اولها : « أتزعم أنك تهدي ألى الساعة ».

(٤) النهروان : ـ بفتح النون وكسرها أغلب ـ ثلاثة مدن عليا ووسطى وسفلى ، بلدة واسعة تقع بين بغداد وواسط ، كانت بها وقعت لأمير المؤمينعليه‌السلام  مع الخوارج مشهورة سنة ٣٧ ـ ٣٨ اثبت فيهاعليه‌السلام  عدة اُمور غيبية ، منها موضوع ذو الثدية ، ومنها عدد ألقتلى منالفريقين ، ومنها موضع الخوراج عندما أخبره المخبر عن ارتحالهم ، وغير ذلك مما كان سبباً لوضوح الحق لجمع من الشاكين.

أنظر : معجم البلدان ٥ : ٣٢٥ / مراصد الإطلاع ٣ : ١٤٠٧ / الكامل في التاريخ ٣ : ١٦٩ و ١٧٥ / البداية والنهاية ٥ : ٣١٢.

(٥) عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري ، أبو حفص ، قاتل الإمام الحسينعليه‌السلام  في وقعة كربلاء الشهيرة. قتله وأولاده المختار بن عبيدة الثقفيرحمه‌الله  ، في وقعة الجارز قرب الموصل سنة ٦٦ ، ٦٧ وقيل ٦٥= ٦٨٤ ـ ٦٨٦.

إنظر : سيرأعلام النبلاء ٤ : ٣٤٩ ت ١٢٣ / الجرح والتعديل ٦ : ١١١ ت ٥٩٢ / مراة الجنان١ : ١٤١ / ميزان الإعتدال ٣ : ١٩٨ ت ٦١١٦ وغيرها كثير.

١٤٧

مقاتل(١) الحسينعليه‌السلام  (٢) .

________________________

(١) كذا في الأصل المخطوط وبعض النسخ ألناقلة عن المصدر ، ولعله من باب انه لم يباشر القتل بيده وانما كان الآمر ، إذ الصحيح كما في المصدر « قاتل ».

(٢) الظاهر أن السيد ابن طاووس قدس الله سره يناقش سند الرواية ألتي روأها الشيخ ألصدوق فان سندهقدس‌سره في اماليه هكذا « حدثنا محمد بن علي ماجيلويه ، قال : حدثني عمي محمد بن أبي القاسم ، عن محمد بن علي القرشي ، عن نصر بن مزاحم ، عن عمر بن سعد ، عن يوسف بن يزيد ، عن عبدالله بن عوف بن أم الأحمر ، قال : « ».

١٤٨

فانه توهم أن عمر بن سعد هذا هو بن أبي وقاص وهذا منه عجيب لاُمور هي :

أولاً : أن عمر بن سعد بن أبي وقاص قتل سنة ٦٥ أو ٦٦ أو ٦٧ كما تقدم.

ثانياً : أن نصر بن مزاحم المنقري ألراوي عنه هو صاحب وقعة صفين.

ثالثاً : أن نصر هذا توفي سنة ٢١٢ هـ ويعد من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام.

رابعاً : أن عمر بن سعد لم يكن معروفاً بروأيته للأخبار حتى أنه لم يرو عنه العامة في صحاحهم شيئاً إلا النسائي.

خامساً : عند مراجعة كتاب وقعة صفين نراه يشخصه هكذا « عمر بن سعد بن أبي ألصيد الأسدي » ويحيل عليه في باقي الموارد بقوله عن « عمر بن سعد » أو « عمرو » ولا بد أن يكون هو هذا لا ذاك.

سادساً : قال في تنقيح المقال في مقام الرد على النجاشي ما لفظه : « ولذا أعترض بعضهم على النجاشي في اطلاقه روايته عن الضعفاء بانه قد روى عن عمرو بن سعيد وزرارة الثقتين ».

اذن مما يمكن الجزم بان السيد ابن طاووس قد وهم في ذلك.

ثم إن كان في هذا السند خدشة فما بال الطرق الباقية والأسانيد الاُخرى فانه لدى التتبع وجدنا لها عدة طرق هي :

أ ـ رواية الشيخ الصدوق ، وهي التي وقعت مورد الكلام والبحث من قبل السيد ابن طاووس.

ب ـ رواية الإحتجاج ، رواها الشيخ الطوسي وفيها أن المنجم من أصحابه ، وهي نحو رواية الأمالى.

جـ ـ رواية الاحتجاج ، وهي مفصلة غير الاولى رواها بسنده إلى سعيد بن جبير.

د ـ رواية نهج البلاعة ، رواها ألسيد ألرضي قدس سره بسنده وفيها أن المنجم من أصحابه وهي نحو رواية الشيخ الصدوق وألاحتجاج الاولى.

هـ ـ رواية فرج المهموم ، روى السيد ابن طاووس هذه بسنده الى محمد بن جرير الطبري الى قيس بن سعد وهي رواية مفصلة وفيها اسئلة واجوبة

و ـ رواية فرج المهموم ، وهي الثانية رواها السيد بسنده الى الأصبغ بن نباته وهي قريبة من حيث اللفظ بالأولى.

١٤٩

و أما المتن ، فقال طاب ثراه : إني رأيت فيما وقفت عليه أنّ المنجم الذي قال لأمير المؤمنينعليه‌السلام  هذه المقالة هو عفيف بن قيس(١) ، أخو الأشعث ابن قيس(٢) ، ولو كانت هذه الرواية صحيحة على ظاهرها لكان مولانا علي عليه

ز ـ رواية إبن الأثير ، حكى الواقعة إبن ألأثير في كامله من دون الإشارة الى تفصيلها.

هذا ونحن في مقام تعريف هذا الراوي وقفنا حيارى إذ هو تارة يرد « عمر بن سعد » ، واُخرى « عمرو بن سعد » ، وثالثة هما ولكن أبني « سعيد » ، ورابعة هو « عمر بن سعد بن أبي الصيد الأسدي » ، ومعه لم نتمكن من ترجمته ترجمة وافية.

١٥٠

نعم اشار الأستاذ عبد السلام هارون ألى ان له ترجمة في الميزان وذلك في هامش كتاب وقعة صفين : ٣. ولم نعرف الدليل الذي استند اليه في تطبيق المترجم في ميزان الإعتدال على المذكورفي وقعة صفين ، اللهم إلا لقول الذهبي « شيعي بغيض ».

ولدى مراجعة هذه الروايات وما كتب حول الواقعة نرى أيضاً أن ألمنجم تارة لم يصرح به ، وثانية : أنه من أصحابه ، وثالثة : أنه عفيف بن قيس أخ الأشعث بن قيس ، ورابعة : أنه دهقان من دهاقنة المدائن الفرس ، وخامسة : أن الدهقان هو سر سفيل ، وسادسه : أنّه سر سقيل بن سوار ، وسابعة : أنه مسافر بن عفيف ألأزدي. وثامنة : أنه عفيف ولكن في وقعة النخيلة مع أصحاب المستورد من بني سعد بعد وقعة النهروان.

ولزيادة الإطلاع انظر : الاحتجاج : ٢٣٩ ، ٢٤٠ / أمالي ألشيخ الصدوق : ٣٣٨ ت ١٦ من المجلس ٦٤ / الكامل في التاريخ ٣ : ١٧٣ والكامل في الادب ٢ : ١٩٣ / فرج ألمهموم : ٥٦ ، وغيرها / وبحار الأنوار٥٥ : ٢٦٦ ـ ٢٦٨ / منهاج البراعة ٥ : ٢٧٠ ، مصادر نهج البلاغة واسانيده ٢ : ٨١ ـ ٨٥.

________________________

(١) أجمع ، المؤرخون أنه ابن عم ألأشعث ، واخيه لأُمه ، روى عن النبي ، وعنه أبناه اياس ويحيى وقد اختلف أرباب التراجم في أنّه بن معدى كرب والذي وفد على ألنبي ، أو هو غيره ، ينقل عنه تمنيه أن لو كان أسلم يوم وفد فكان ثاني أمير المؤمنينعليه‌السلام  وذلك في قصة مسطورة.له ترجمة في : تهذيب التهذيب ٧ : ٢١٠ رقم ٤٢٧ / الإصابة ٢ : ٤٨٧ / الجرح والتعديل ٧ : ٢٩ / الإستيعاب ٣ : ١٦٣ / اسد الغابة ٣ : ٤١٤.

(٢) الأشعث بن قيس بن معدي كرب بن معاوية الكندي ، أبو محمد ، قيل أسمه معدي كرب ، غلب عليه الأشعث لشعث رأسه ، له صحبة ، كان من قواد أمير المؤمنينعليه‌السلام  يوم صفين ، تزوج أم فروة أخت أبي بكر ، روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعنه روى أبو وائل ، والشعبي ، وقيس بن أبي حازم ، وعبد الرحمن بن مسعود ، والسبيعي ، غلب عليه سوء العاقبة حتى اعان على قتل أمير المؤمنين. ونهيهعليه‌السلام  من الصلاة في مسجده وقد عده الإمام الباقر من المساجد الملعونة مات سنة ٤٠ هـ = ٦٦٠ م.

له ترجمة في : سير اعلام النبلاء ٢ : ٣٧ رقم ٨ / تهذيب التهذيب ١ : ٣١٣ رقم ٦٥٣ / اإستيعاب ١ : ١٠٩ / أسد ألغابة ١ : ٩٧ / الإصابة ١ : ٥١ رقم ٢٥٥ / خلاصة تذهيب

١٥١

السلام قد حكم في صاحبه هذا ـ الذي قد شهد مصنف نهج البلاغة أنّه من أصحابه أيضاً ـ بأحكام الكفار إما بكونه مرتداً عن الفطرة فيقتله في الحال ، أوبردّة عن غير الفطرة فيتوّبه ، أو يمتنع من التوبة فيقتله ، لأنّ الرواية قد تضمنت أنّ « المنجم كالكافر »(١) ، أو كان يجري عليه أحكام الكهنة أو السحرة ، لأنّ الرواية تضمنت أن « المنجم كالكاهن أو الساحر ».

وما عرفنا إلى وقتنا هذا أنّهعليه‌السلام  حكم على هذا المنجم الذي هوصاحبه بأحكام الكفار ولا السحرة ، ولا الكهنة ، ولا أبعده ، ولا عزره ، بلقال : « سيروا على اسم الله » ، والمنجم من جملتهم لأنه صاحبه ، وهذا يدل على تباعد الرواية من صحة النقل ، أو يكون لها تأويل غيرظاهرها موافق للعقل.

ومما ينبه على بطلان ظاهر هذه الرواية قول الراوي فيها : إنّ من صدّقك فقد كذّب القرآن ، واستغنى عن الاستعانة بالله.

ونعلم أنّ الطلائع للحروب يدلّون على السلامة من هجوم الجيوش ، وكثيرمن النحوس ، ويبشرون بالسلامة ، وما لزم من ذلك أن نوليهم الحمد دون ربهم ، ومثال ذلك [٣٨ / أ] كثير فتكون لدلالات النجوم اُسوة بما ذكرناه من الدلالات على كل معلوم(٢) . هذا كلامه أعلى الله مقامه. فتأمل مبانيه بعين البصيرة ، وتناول معانيه بيد غير قصيرة ، والله الهادي.

* * *

________________________

الكمال : ٣٩ / تنقيح المقال ١ : ١٤٩ رقم ٩٧٤.

(١) نهج البلاغة ١ : ١٢٤ خطبة ٧٦. وكذا ما بعدها.

(٢) فرج المهموم : ٥٦ ـ ٥٩.

١٥٢

قال مولانا وإمامناعليه‌السلام  :

« اللهم ، اجعلنا من أرضى من طلع عليه ، وأزكى من نظر إليه ، وأسعد من تعبد لك فيه ، ووفقنا فيه للتوبة ، واعصمنا فيه من الحَوْبة ، واحفظنا من مباشرة معصيتك ، وأوزعنا فيه شكر نعمتك ، وألبسنا فيه جنن العافية ، وأتمم علينا باستكمال طاعتك فيه المنة ، إنك المنان الحميد ، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ».

أ صل « اللّهمّ » عند الخليل(١) وسيبويه(٢) يا الله ، فحذف حرف المندا ،

________________________

(١) الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي ، الأزدي ، اليحمدي ، ألأديب ألنحوي ، العروضي ، نسبة ألى علم العروض الذي اخترعه ، سأل يوماً عن ما يقوله في أمير المؤمنينعليه‌السلام  ، فقال : ما أقول في حق أمرىء كتمت مناقبه أوليائه خوفاً ، واعدائه حسداً ، ثم ظهرمن بين الكمتين ما ملأ الخافقين. وسأل أيضاً ما ألدليل على أن علياً إمام الكل في الكل؟ فقال : أحتياج ألكل إليه ، واستغنائه عن كل ، كان من كبار أصحابنا المجتهدين ، وفضله وعلمه أشهرمن أن يذكر ، شيخ الناس في علوم الأدب ، والبلاغة ، زهده وقناعته مشهوران ، له العين في اللغة وكفى ، ومعاني الحروف ، وتفسير حروف اللغة ، وكتاب العروض ، وغيرها.

مات سنة ١٧٠ هـ =٧٨٦ م.

له ترجمة في : تنقيح المقال ١ : ٤٠٢ / م ٣٧٦٩ / الخلاصة : ٦٧ ت ١٠ رجال ابن داود : ١٤١ت ٥٦٤ / اعيان الشيعة ٦ : ٣٣٧ / تأسيس الشيعة : ١٥٠ ، ١٧٨ / سير أعلام النبلاء ٧ : ٤٢٩ت ١٦١ / الفهرست للنديم : ٤٨ / طبقات القراء ١ : ٢٧٥ ت ١٢٤٢ / خلاصة تذهيب الكمال : ١٠٦ / البداية والنهاية ١٠ : ١٦١ / الجرح والتعديل ٣ : ٣٨٠ ت ١٧٣٤ الأنساب : ٤٢١ ، ب / شذرات ألذهب ١ : ٢٧٥ / روضات الجنات ٣ : ٢٨٩ ت ٢٩٤.

(٢) سيبويه ، عمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشر ، أصله من فارس ، نشأ في البصرة ، أخذ العربية عن جمع من فطاحلها الى أن عدّ من أبناء بجدتها ، بل أصبح علامة الدنيا فيها ، أمثال الخليل ،

١٥٣

وعوض عنه الميم المشددة(١) .

وقال ، الفرّاء(٢) وأتباعه : أصلها يا الله أُمّنا بالخير ، فخففت بالحذف لكثرة الدوران على الألسن ،(٣) .

واُورد عليه : أنّه لو كان كذلك لقيل في نحو اللّهمّ اغفر لنا ، اللهم واغفرلنا بالعطف ، كما يقال : اُمنا بالخير واغفر لنا ، ورفضهم ذلك رأساً بحيث لم

________________________

ويونس ، والأخفش ، وعيسى ، وغيرهم له : الكتاب وكفى به ، حتى أنه أصبح يهدى ( اهداه الجاحظ الى محمد بن عبد الملك ) ، وقال في حقه ـ الجاحظ ـ : إن جميع كتب الناس عيال عليه مات سنة ١٨٠ هـ = ٧٩٦ م وقيل غيرذلك.

له ترجمة في : تاريخ بغداد ١٢ : ١٩٥ ت ٦٦٥٨ / بغية الوعاة ٢ : ٢٢٩ ت ١٨٦٣ / وفيات الأعيان ٣ : ٤٦٣ ت ٥٠٤ / البداية والنهاية ١٠ : ١٧٦ شذرات الذهب ١ : ٢٥٢ / الفهرست للنديم : ٥٧ / معجم الأدباء ١٦ : ١١٤ ت ١٣ سير أعلام النبلاء ٨ : ٣٥١ ت ٩٧ / روضات الجنات ٥ : ٣١٩ / ٥٣١ / الكامل ٥ : ١٤٢ / انباه الرواة ٢ : ٤٣٦ رقم ٥١٥ / مرآة الجنان ١ : ٤٤٥.

(١) لرأي سيبويه أنظر : الكتاب ١ : ٣٦١ ، باب ما ينصب على المدح والتعظيم وفيه حكى قول الخليل / ولسان العرب ١٣ : ٤٧٠ / تاج العروس ٩ : ٣٧٤ / مادة « اله » فيهما.

(٢) الفراء يحيى بن زياد الأقطع الديلمي النحوي ، أبو زكريا. إمام أهل اللغة من الكوفيين وأعلمهم بالنحو والأدب. له في الفقه والكلام وكذا النجوم والطب يد تذكر ، قال ثعلب : لولا الفرّاء لماكانت عربية ولسقطت.

له مؤلفات كثيرة أملاها كلها حفظاً ، منها : معاني القرآن ، المذكر والمؤنث ، اللغات ، ألفاخر ، مشكل اللغة.

والأقطع عرف به أبوه زياد ؛ لقطع يده في معركة فخ حيث شهدها مع الحسين بن علي بن الحسن المثلّث ، وكان من الشيعة الإمامية ، وكان الفرّاء يظهر الاعتزال مستتراً به.

أخذ عن أبي بكر بن عياش ، والكسائي ، ومحمد بن حفص. وروى القراءة عن عاصم وإبنالجهم ، مات سنة ٢٠٧ هـ = ٨٢٣ م.

له ترجمة في : هدية الأحباب : ٢٣٠ / وفيات الأعيان ٦ : ١٧٦ ت ٨٩٨ / روضات الجنّات ٨ : ٢٠٩ ت ٧٥١ / البداية والنهاية ١٠ : ٢٦١ / رياض ألعلماء ٥ : ٣٤٧ / معجم الأدباء ٢٠ : ٩ ت ٢ / تذكرة الحفّاظ ١ : ٣٧٢ ت ٣٦٨ / غاية النهاية ٢ : ٣٧١ ت ٣٨٤٢ / تهذيب التهذيب١١ : ١٨٦ت ٣٥٤ / تاريخ بغداد ١٤ : ١٤٩ ت ٧٤٦٧ / شذرات الذهب ٢ : ١٩ / تأسيس الشيعة : ٦٩ ، ٣٢١ / سير أعلام النبلاء ١٠ : ١١٨ت ١٢.

(٣) اُنظر معاني القرآن ١ : ٢٠٣.

١٥٤

يسمع منهم أصلاً يدل على أنّ الأصل خلافه.

وقد يذبّ عنها بأنها لما خففت صارت كالكلمة الواحدة ، فلم يعامل ما يدل على الطلب ـ أعني لفظة « اُمّ » ـ معاملة الجملة ، بل جعلت بمنزلة دال زيد مثلاً ، فلم يعطف عليها شيء كما لا يعطف على جزء الكلمة الواحدة [٣٨ / ب].

« والطلوع » : يمكن أن يراد به الخروج من تحت الشعاع ، وأن يراد به ظهوره للحس كما هو الظاهر ، وكذلك يمكن أن يراد به الطلوع الخاص في هذه الليلة ، وأن يراد به الطلوع في الزمان الماضي مطلقاً.

و كذلك قولهعليه‌السلام  : « وأزكى من نظر إليه » وتزكية النفس تطهيرها عن الرذائل والأدناس ، وجعلها متصفة بما يُعدها لسعادة الدارين ، وفلاحالنشأتين.

« والعبادة » أقس الذل والخضوع ، ولذلك لا تليق إلا لله.

« والتوبة » لغة : الرجوع(١) ، وتضاف إلى العبد ، وإلى الرب تعالى ، ومعناها على الأول : الرجوع عن المعصية إلى الطاعة ، وعلى الثاني : الرجوع عن العقوبة إلى العفو والرحمة.

وفي الاصطلاح : الندم على الذنب ، لكونه ذنباً.

وقد تقدم الكلام فيما يتعلق بها من المباحث ، في الحديقة الحادية والثلاثين(٢) في شرح دعائهعليه‌السلام  في طلب التوبة.

وقد أوردنا فيها أيضاً كلاماً مبسوطاً في شرح الأربعين حديثاً(٣) الذي ألفناه

________________________

(١) الصحاح ١ : ٩١ / القاموس : ٧٩ ، مادة « توب » فيهما.

(٢) أنظر صحيفة ١٣١ هامش ١.

(٣) الأربعين : ٢٣٢ ، عند شرحه للحديث الثامن والثلاثون الذي رواه بسنده عن الإمام الصادقعليه‌السلام     عن رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

مَن تاب قبل موته بسنة قبل الله توبته.

ثم قال : إن السنة لكثير ،

١٥٥

بعون الله تعالى.

تتمة :

لعل المراد من العصمة في قولهعليه‌السلام  : « واعصمنا فيه من الحوبة » ، معناها اللّغوي ، أي الحفظ عن السوء ، فإن ارادة معناها الاصطلاحي المذكور في الكلام ـ أعني لطف يفعله الله بالمكلّف ، بحيث لا يكون له معه داع إلى فعل المعصية مع قدرته عليها ـ لا يساعد عليه قولهعليه‌السلام  « من الحوبة » ، لأنّ العصمة بهذا المعنى لم يعهد [٣٩ / ] تعديتها بلفظة من.

« والحوبة » ـ بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة ـ : الخطيئة.

و « الإيزاع » : الإلهام ، والمشهور في تعريفه أنه إلقاء الخبر في القلب مندون استفاضة فكرية ، وينتقض طرده بالقضايا البديهية ، وعكسه بالانشائيات بعامة التصورات ، ولو قيل : إنّه إلقاء المعنى النظري في القلب من دون استفاضة فكرية لكان أحسن ، مع أن فيه ما فيه.

و المراد بايقاع « الشكر » في القلب ليس الشكر الجناني فقط بل ما يعم الأنواع الثلاثة ، والغرض صرف القلب إلى أداء الشكر اللساني والجناني والأركاني بأجمعها.

و قد تقدم الكلام في الشكر مبسوطاً في الحديقة التحميدية ـ وهي شرح الدعاء الأول من هذا الكتاب الشريف ، الذي أرجو من الله سبحانه التوفيق لإكماله ـ وذكرنا هناك نبذة من مباحث الحمد والشكر ، وما قيل من الطرفين في

________________________

من تاب قبل موته بشهر قبل الله توبته.

ثم قال : إن الشهر لكثير ،

من تاب قبل موته بجمعة قل الله توبته.

ثم قال : إن الجمعة لكثير ،

من تاب قبل موته بيوم قبل الله توبته.

ثم قال : إن يوما لكثير ،

من تاب قبأ ، أن يعاين قبل الله توبته.

١٥٦

وجوب شكر المنعم عقلاً وسمعاً ، وما سنح لنا من الكلام في دفع شبه القائلين بانحصار وجوبه في السمع ، وبيان فساد معارضتهم خوف العقاب على ترك الشكر بخوف العقاب على فعله(١) .

و « الجنن » بضم الجيم وفتح النون : جمع جُنّة ـ بالضم ـ وهي الستر.

و « العافية » دفع الله سبحانه عن العبد ما هو شرّ له ، ويستعمل في الصحة البدنية والنفسية معاً ، وقد تقدم الكلام فيها في الحديقة الثالثة والعشرين وهي شرح دعائهعليه‌السلام  في طلب العافية(٢) .

تبصرة :

الضمائر الراجعة إليه سبحانه من أول هذا الدعاء إلى هنا بأجمعها ضمائرغيبة ، ثم إنّهعليه‌السلام  عدل عن ذلك الأسلوب وجعلها من هنا إلى آخر الدعاء ضمائر خطاب ، ففي كلامهعليه‌السلام  التفات من الغيبة إلى الخطاب.

ولا يخفي أن بعض اللطائف والنكت التي أوردها المفسرون فيما يختص بالالتفات في سورة الفاتحة يمكن جريانه هنا(٣) .

وأنا قد تفردت ـ بعون الله وحسن توفيقه ـ باستنباط نكت لطيفة في ذلك الالتفات ، مما لم يسبقني إليها سابق ، وقد أوردت جملة منها فيما علّقته من الحواشي على تفسير البيضاوي(٤) ، وشرذمة منها في تفسيري الموسوم بالعروة الوثقى(٥) ، وبعض تلك النكت يمكن اجراؤها فيما نحن فيه ، فعليك بمراجعتها ، وملاحظة ما يناسب المقام منها.

________________________

(١) و (٢) انظر صحيفة : ١٥٠ هامش : ٢.

(٣) على نحو المثال أنظر : انوار التنزيل ١ : ٣١ / الكشاف ١ : ١٣ / الفخر الرازي ١ : ٢٥٣. وما يتعلق من التفاسير في الآية ٥ من سورة الفاتحة.

(٤) المطبوع على الحجر في هامش التفسير أنظر صحيفة : ٢ منه.

(٥) المعروة الوثقى : ٣٣ ، ضمن الحبل المتين ، وعدّ فيه نحواً من ١٤ نكتة.

١٥٧

والضمائر المجرورة في قولهعليه‌السلام  : « وأسعد من تعبد لك فيه » إلى آخر الدعاء راجعة إلى الهلال بمعنى الشهر ، وليس كذلك المرفوع في طلع عليه ، والمجرور في نظر إليه ، ففي الكلام استخدام من قبيل قول البحتري(١) [٤٠ / ] :

فسقى الغضا والساكنيه وإن هم

شبّوه بين جوانحي وضلوعي(٢)

ولعلّه لا يقدح في تحقق الاستخدام كون إطلاق الهلال على الشهر مجازاً لتصريح بعض المحققين من أهل الفن بعدم الفرق بين كون المعنيين في الاستخدام حقيقيين أو مجازيين أو مختلفين ، وأن قصره بعضهم على الحقيقيين ، على أن كون الاطلاق المذكور مجازاً محل كلام.

وتعبيرهعليه‌السلام  عن اقتراف المعصية بالمباشرة استعارة مصرّحة ، فإن حقيقة المباشرة إلصاق البشرة بالبشرة.

والاضافة في « جنن العافية » من قبيل لجين الماء ، ويجوز جعله استعارة بالكناية مع الترشيح.

________________________

(١) أبو عبادة البحتري ، الوليد بن عتبة وقيل عبيد الطائي ، شاعر كبير ، أحد أشعر أبناء زمانه وهم : المتنبي ، وأبو تمام ، والبحتري ، ولد في منبج بالقرب من حلب رحل الى العراق زمن المتوكل العباسي له ديوان شعر مطبوع يوصف شعره لسلاسته وقوته بسلاسل الذهب والحماسة ـ. مات سنة ٢٤٨ هـ = ٨٩٨ م.

له ترجمة في : هدية الأحباب : ١١٧ / وفيات الاعيان ٦ : ٢١ رقم ٧٧٠ / تاريخ بغداد ١٣ : ٤٧٦ رقم ٧٣٢١ / دائرة المعارف الإسلامية ٣ : ٣٦٥ / الاعلام ٨ : ١٢١ / معجم الادباء ١٩ : ٢٤٨ / ٩٣ / مرآة الجنان ٢ : ٢٠٢ / الاغاني ٢١ : ٣٧ / شذرات الذهب ٢ : ١٨٦. وغيرهاكثير.

(٢) الديوان ١ : ١٧٠ من قصيدة يمدح فيها ابن نيبخت وفيه :

فسقى الغضا والنازليه وان هم

شبوه بين جوانح وقلوب

وانظر معاهد التنصيص ٢ : ٢٦٩ ت ١٢٣ وجامع الشواهد ٢ : ١٦٩

استشهد به كل من صاحب المطول والمختصر في بحث الاستخدام من علم البديع باعتبار كلمة ( الغضا وان لها معنيان )

١٥٨

خاتمة :

اسم التفضيل في قولهعليه‌السلام  : « اللّهم اجعلنا من أرضى من طلع عليه » ، كما يجوز أنْ يكون للفاعل على ما هو القياس ، يجوز أن يكون للمفعول أيضاً ، كما في نحو : أعذر ، وأشهر ، وأشغل ، أي اجعلنا من أعظم المرضيين عندك.

فإن قلت : مجيء اسم التفضيل بمعنى المفعول غير قياسيّ ، بل هومقصورعلى السماع.

قلت : لمّا وقع في كلامهعليه‌السلام  كفى ذلك في تجويز هذا الاحتمال ، ولا يحتاج فيه إلى السماع من غيره قطعاً ، فإنهعليه‌السلام  أفصح العرب في زمانه.

هذا ، وفي كلام بعض أصحاب القلوب ، أنّ علامة رضى الله سبحانه عن العبد رضا العبد بقضائه تعالى ، وهذا يشعر بنوع من اللزوم بين الأمرين.

ولو اُريد باسم التفضيل هنا ما يشملهما ، من قبيل استعمال المشترك في معنييه معاً لم يكن فيه كثير بعد ، ومثله في كلام البلغاء غير قليل [٤١ / أ].

وتعدية الرضاء بالقضاء ، على بقية المطالب التسعة ـ التي ختم بهاعليه‌السلام  هذا الدعاء ـ للاعتناء به ، والاهتمام بشأنه ، فإنّ الرضا بالقضاء من أجلّ المقامات ، وَمَنْ حازه فقد حاز أكمل السعادات ، وصحت منه دعوى المحبة ، التي بها يرتقي إلى أرفع الدرجات ، ولم يتشعب خاطره بورود الحادثات ، واعتوار المصيبات ، ولم يزل مطمئنّ البال ، منشرح الصدر ، متفرغ القلب للاشتغال بمايعنيه من الطاعات والعبادات ، ومن لم يرض القضاء دخل في وعيد « من لم يرض بقضائي »(١) الحديث.

________________________

(١) الظاهر انه اشارة للحديث الشريف الذي رواه الشيخ الصدوققدس‌سره بسنده الى الإمام علي بن موسى الرضاعليهما‌السلام عن آبائه عن جده امير المؤمنين قال : « سمعت رسول الله

١٥٩

ومع ذلك لا يزال محزوناً مهموماً ، ملازماً للتلهف والتأسف ، على أنّه لمكان كذا؟ ولِمَ لا يكون كذا؟ ، فلا يستقر خاطره أصلاً ، ولا يتفرغ لما يَعنيه أبداً.

ونعم ما قال بعض العارفين : « إنّ حسرتك على الأمور الفانية ، وتدبيرك للأمور الاتية قد أذهبا بركة ساعتك التي أنت فيها ».

* * *

________________________

صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ( من لم يرض بقضائي ولم يؤمن بقدري فليلتمس إلهاً غيري ). وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( في كل قضاء الله خيرة المؤمن ) ».

انظر : عيون اخبار الرضا ١ : ١٤١ ت ٤٢ / التوحيد : ٣٧١ ت ١١ / وعنهما في البحار ٦٨ : ١٣٨ ت ٢٥ / دعوات الراوندي : ١٦٩ رقم ٤٧١ / وعنه في البحار ٧٩ : ١٣٢ ت ١٦ / وهكذاكنز العمال ١ : ١٠٦ ت ٤٨٢ ، ٤٨٣ ، عن الطبراني في معجمه الكبير والبيهقي في شعب الايمان / والجامع الصغير ٢ : ٦٤٦ ت ٩٠٢٧ / فيض القدير ٦ : ٢٢٤ ت ٩٠٢٧.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401