الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٨

الغدير في الكتاب والسنة والأدب15%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 397

الجزء ١ المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146045 / تحميل: 7071
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

منها، فاضطربوا بالنعال، وكان ذلك أوَّل قتال بين المسلمين بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وأخرج من عدَّة طرق: إنَّ طلحة والزبير أتيا عثمان فقالا له: قد نهيناك عن تولية الوليد شيئاً من أمور المسلمين فأبيت وقد شُهد عليه بشرب الخمر والسكر فاعزله وقال له عليٌّ: اعزله وحُدّه إذا شهد الشهود عليه في وجهه. فولّى عثمان سعيد بن العاص الكوفة وأمره بإشخاص الوليد، فلمّا قدم سعيد الكوفة غسل المنبر ودار الإمامة وأشخص الوليد، فلمّا شُهد عليه في وجهه وأراد عثمان أن يحدّه ألبسه جبَّة حبر وأدخله بيتاً فجعل إذا بعث إليه رجلاً من قريش ليضربه قال له الوليد: أنشدك الله أن تقطع رحمي وتغضب أمير المؤمنين عليك. فيكفّ. فلمّا رأى ذلك عليُّ بن أبي طالب أخذ السوط ودخل عليه ومعه إبنه الحسن فقال له الوليد مثل تلك المقالة فقال له الحسن: صَدق يا أبت، فقال عليٌّ: ما أنا إذاً بمؤمن. وجلده بسوط له شعبتان؛ وفي لفظ: فقال عليٌّ للحسن ابنه: قم يا بنيَّ فاجلده، فقال عثمان: يكفيك ذلك بعض مَن ترى فأخذ عليٌّ السوط ومشى إليه فجعل يضربه والوليد يسبُّه؛ وفي لفظ الأغاني: فقال له الوليد: نشدتك بالله وبالقرابة، فقال له عليٌّ: اسكت أبا وهب! فإنَّما هلكت بنو إسرائيل بتعطيلهم الحدود فضربه وقال: لتدعوني قريش بعد هذا جلّادها.

قالوا: وسئل عثمان أن يحلق، وقيل له: إنَّ عمر حلق مثله، فقال: قد كان فَعَل ذلك ثمَّ تركه.

وقال أبو مخنف وغيره: خرج الوليد بن عقبة لصلاة الصبح وهو يميل فصلّى ركعتين ثمَّ التفت إلى الناس فقال: أزيدكم؟ فقال له عتاب بن علاق أحد بني عوافة ابن سعد وكان شريفاً: لا زادك الله مزيد الخير، ثمَّ تناول حفنة من حصى فضرب بها وجه الوليد وحصبه الناس وقالوا: والله ما العجب إلّا ممَّن ولّاك، وكان عمر بن الخطاب فرض لعتَّاب هذا مع الأشراف في ألفين وخمسمائة. وذكر بعضهم: إنَّ القي غلب على الوليد في مكانه، وقال يزيد بن قيس الأرحبي ومعقل بن قيس الرياحي: لقد أراد عثمان كرامة أخيه بهوان أمَّة محمّد صلى الله عليه وسلم. وفي الوليد يقول الحطيئة جرول بن أوس بن مالك العبسي:

شهد الحطيئة يوم يلقى ربَّه

إنَّ الوليد أحقّ بالعذرٍ

١٢١

نادى وقد نفدت(١) صلاتهمُ

أأزيدكم؟ ثملاً وما يدري

ليزيدهم خيراً ولو قبلوا

منهُ لزادهمُ على عشرِ

فأبوا أبا وهبٍ! ولو فعلوا

لقرنتَ بين الشفع والوترِ

حبسوا عنانك إذ جَريت ولو

خلّوا عنانك لم تزل تجري(٢)

وذكر أبو الفرج في «الأغاني» ٤: ١٧٨، وأبو عمر في «الاستيعاب» بعد هذه الأبيات لحطيئة أيضاً قوله:

تكلّمَ في الصَّلاة وزاد فيها

علانيةً وجاهرَ بالنِّفاقِ

ومجَّ الخمر في سنن المصلّي

ونادى والجميع إلى افتراقِ

أزيدكمُ؟ على أن تحمدوني

فمالكُم وما لي من خلاقِ

ثمَّ قال أبو عمر: وخبر صلاته بهم وهو سكران وقوله: أزيدكم؟ بعد أن صلّى الصبح أربعاً مشهورٌ من رواية الثقات من نقل أهل الحديث وأهل الأخبار.

وهكذا جاء في مسند أحمد ١: ١٤٤، سنن البيهقي ٨: ٣١٨، تاريخ اليعقوبي ٢: ١٤٢ وقال: تهوَّع في المحراب، كامل ابن الأثير ٣: ٤٢، أُسد الغابة ٥: ٩١، ٩٢ وقال: قوله لهم: أزيدكم؟ بعد أن صلّى الصبح أربعاً مشهورٌ من رواية الثقات من أهل الحديث، ثمَّ ذكر حديث الطبري(٣) في تعصُّب القوم على الوليد وقول عثمان له: يا أخي أصبر فإنَّ الله يأجرك ويبوء القوم بإثمك. فقال: قال أبو عمر: والصحيح عند أهل الحديث أنَّه شرب الخمر وتقيَّأها وصلّى الصبح أربعاً.

تاريخ أبي الفدا ج ١٧٦، الإصابة ٣: ٦٣٨ وقال: قصّة صلاته بالناس الصبح أربعاً وهو سكران مشهورةٌ مخرجةٌ: تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٠٤، السيرة الحلبية ٢: ٣١٤ وقال: صلّى بأهل الكوفة أربع ركعات وصار يقول في ركوعه وسجوده: إشرب واسقني. ثمَّ قاء في المحراب ثمَّ سلّم وقال: هل أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود

____________________

١ - في الأغاني ٤: ١٧٨، ١٧٩: تمت. بدل نفدت.

٢ - وفي الأغاني ٤: ١٧٩ حول هذه الأبيات رواية لا تخلو عن فائدة.

٣ - أخرجه في تاريخه ٥: ٦٠، ٦١ من طريق مجمع على بطلانه عن كذاب عن مجهول عن وضاع متهم بالزندقة وهم: السري عن شعيب عن سيف بن عمر وسيوافيك تفصيل القول في هذا الطريق الوعر وإنه شوه تاريخ الطبري.

١٢٢

رضي الله عنه: لا زادك الله خيراً ولا مَن بعثك إلينا وأخذ فردة خفِّه وضرب به وجه الوليد وحصبه الناس فدخل القصر والحصباء تأخذه وهو مترنِّح.. الخ.

وحكى أبو الفرج في الأغاني ٤: ١٧٨ عن عبيد والكلبي والأصمعي: إنَّ وليد بن عقبة كان زانياً شرِّيب الخمر فشرب الخمر بالكوفة وقام ليصلّي بهم الصبح في المسجد الجامع فصلّى بهم أربع ركعات ثمَّ التفت إليهم وقال لهم: أزيدكم؟ وتقيَّأ في المحراب وقرأ بهم في الصَّلاة وهو رافعٌ صوته:

علق القلب الربابا

بعد ما شابت وشابا

وذكره في ص ١٧٩ نقلاً عن عمر بن شبة، وروى من طريق المدائني في صفحة ١٨٠ عن الزهري أنَّه قال: خرج رهطٌ من أهل الكوفة إلى عثمان في أمر الوليد فقال: أكلّما غضب رجلٌ منكم على أميره رماه بالباطل؟ لئن أصبحت لكم لأنكلنَّ بكم، فاستجاروا بعائشة وأصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتاً وكلاماً فيه بعض الغلظة فقال: أما يجد مرّاق أهل العراق وفسّاقهم ملجأ إلّا بيت عائشة. فسمعت فرفعت نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: تركت سنَّة رسول الله صاحب هذا النعل. فتسامع الناس فجاءوا حتّى ملأوا المسجد فمن قائل: أحسنت، ومن قائل: ما للنساء ولهذا؟ حتّى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال، ودخل رهطٌ من أصحاب رسول الله على عثمان فقالوا له: إتَّق الله لا تعطِّل الحدَّ واعزل أخاك عنهم فعزله عنهم.

وأخرج من طريق مطر الورّاق قال: قدم رجل المدينة فقال لعثمان رضي الله عنه: إنِّي صلّيت الغداة خلف الوليد بن عقبة فالتفت إلينا فقال: أزيدكم؟ إنِّي أجد اليوم نشاطاً، وأنا أشمُّ منه رائحة الخمر. فضرب عثمان الرجل، فقال الناس: عطَّلت الحدود، وضربت الشهود.

وروى ابن عبد ربِّه قصَّة الصَّلاة في العقد الفريد ٢: ٢٧٣ وفيه: صلّى بهم الصبح ثلاث ركعات وهو سكران.. الخ.

وجاء في صحيح البخاري في مناقب عثمان في حديث. قد أكثر الناس فيه.

قال ابن حجر في فتح الباري ٧: ٤٤ في شرح الجملة المذكورة: ووقع في رواية معمر: وكان أكثر الناس فيما فعل به، أي من تركه إقامة الحدِّ عليه «على مروان»

١٢٣

وإنكارهم عليه عزل سعد بن أبي وقاص.

قال الأميني: الوليد هو هذا الذي تسمع حديثه وسنوقفك في هذا الجزء والأجزاء الآتية إن شاء الله على حقيقته حتّى كأنّك مطلٌّ عليه من أمم، تراه يشرب الخمر، ويقئ في محرابه، ويزيد في الصَّلاة من سورة السكر، وينتزع خاتمه من يده فلا يشعر به من شدَّة الثمل، وقد عرَّفه الله تعالى قبل يومه هذا بقوله عزَّ من قائل:( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ) «سورة السجدة ١٨»(١) . وبقوله:( إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (٢) . وقال ابن عبد البرّ في الاستيعاب ٢: ٦٢٠: لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أنَّ قوله عزَّوجلَّ: إن جاءكم فاسقٌ بنبأ. نزلت في الوليد. وحكاها عنه ابن الأثير في أُسد الغابة ٥: ٩٠.

فهل من الممكن أن يجوز مثله حنكة الولاية عن إمام المسلمين؟ فيحتنك النفوس ويستحوذ على الأموال، ويستولي على النواميس والأعراض، وتؤخذ منه الأحكام وتُلقى إليه أزمَّة البسط والقبض في حاضرة المسلمين، ويأمُّهم على الجمعة والجماعة؟ هل هذا شيءٌ يكون في الشريعة؟ أعزب عنّي واسأل الخليفة الذي ولّاه وزبر الشهود عليه وتوعَّدهم أو ضربهم بسوطه.

وهب إنَّ الولاية سبقت منه لكنَّ الحدَّ الذي ثبت موجبه وليمَ على تعطيله ما وجه إرجاءه إلى حين إدخال الرجل في البيت مجلّلاً بجبَّة حبر وقايةً له عن ألم السياط؟ ثمَّ من دخل عليه ليحدَّه دافعه المحدود بغضب الخليفة وقطع رحمه، فهل كان الخليفة يعلم بنسبة الغضب إليه على إقامة حدِّ الله وإيثار رحمه على حكم الشريعة؟ فيغضَّ الطرف عنه رضاً منه بما يقول، أو لا يبلغه؟ وهو خلاف سياق الحديث الذي ينمُّ عن إطِّلاعه بكلِّ ما هنالك، وكان يتعلَّل عن إقامة الحدِّ بكلِّ تلكم الأحوال، حتّى إنَّه مَنع السبط المجتبى الحسن عليه السلام لِما علم إنَّه لا يجنح إلى الباطل بالرقَّة عليه وأحبَّ أن يجلده زبانيته الَّذين يتحرَّون مرضاته، لكن غلب أمر الله ونفذ حكمه بمولانا أمير المؤمنين الذي باشر الحدَّ بنفسه والظالم يسبُّه وهو سلام الله عليه لا تأخذه

____________________

١ - راجع الجزء الثاني صفحة ٤٢ ط ١ و ٤٦ ط ٢.

٢ - سورة الحجرات آية ٦.

١٢٤

في الله لومة لائم، أو أمر سلام الله عليه عبد الله بن جعفر فجلده وهو عليه السلام يعدُّ كما في الصحيح لمسلم(١) والأغاني وغيرهما.

وهل الحدُّ يعطَّل بعد ثبوت ما يوجبه، حتّى يقع عليه الحِجاج، ويحتدم الحوار فيعود الجدال جلاداً، وتتحوَّل المكالمة ملاكمة، وتعلو النعال والأحذية، ويُشكَّل أوَّل قتال بين المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وعقيرة أمّ المؤمنين مرتفعة: أنَّ عثمان عطَّل الحدود وتوعَّد الشهود. ويوبِّخه على ذلك سيِّد العترة صلوات الله عليه بقوله: عطَّلت الحدود وضربت قوماً شهدوا على أخيك؟ وهل بعد هذه كلّها يستأهل مثل هذا الفاسق المهتوك بلسان الكتاب العزيز أن يبعث على الأموال؟ كما فعله عثمان وبعث الرجل بعد إقامة الحدّ عليه على صدقات كلب وبلقين(٢) ، وهل آصرة الإخاء تستبيح ذلك كلّه؟.

ليست ذمَّتي رهينة بالجواب عن هذه الاسؤلة وإنَّما عليَّ سرد القصَّة مشفوعة بالتعليل والتحليل، وأمّا الجواب فعلى عهدة أنصار الخليفة، أو أنَّ المحكّم فيه هو القارئ الكريم.

- ٤ -

النداء الثالث بأمر الخليفة

أخرج البخاري وغيره بالإسناد عن السائب بن يزيد: إنَّ النداء يوم الجمعة كان أوَّله في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي زمان أبي بكر وفي زمان عمر إذا خرج الإمام، وإذا قامت الصَّلاة حتّى كان زمان عثمان فكثر الناس فزاد النداء الثالث على الزوراء فثبتت حتّى الساعة(٣) .

وفي لفظ البخاري وأبي داود: إنَّ الأذان كان أوَّله حين يجلس الإمام على المنبر يوم الجمعة في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلمّا كان خلافة عثمان

____________________

١ - راجع الجزء الثاني من صحيح مسلم صفحة ٥٢.

٢ - تاريخ اليعقوبي ٢: ١٤٢.

٣ - صحيح البخاري ٢: ٩٥، ٩٦، صحيح الترمذي ١: ٦٨، سنن أبي داود ١: ١٧١، سنن ابن ماجة ١: ٣٤٨، سنن النسائي ٣: ١٠٠، كتاب الأم للشافعي ١: ١٧٣، سنن البيهقي ١: ٤٢٩، ج ٣: ١٩٢، ٢٠٥، تاريخ الطبري ٥: ٦٨، كامل ابن الأثير ٣: ٤٨، فيض الإله المالك للبقاعي ١: ١٩٣.

١٢٥

وكثر الناس، أمَرَ عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث، فأذَّن به على الزوراء فثبت الأمر على ذلك.

وفي لفظ النسائي: أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث فأذَّن به على الزوراء.

وفي لفظ له أيضاً: كان بلال يؤذِّن إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة فإذا نزل أقام، ثمَّ كان كذلك في زمن أبي بكر وعمر.

وفي لفظ الترمذي: كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر إذا خرج الإمام أُقيمت الصَّلاة، فلمّا كان عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء.

وفي لفظ البلاذري في الأنساب ٥: ٣٩ عن السائب بن يزيد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج للصَّلاة أذّن المؤذِّن ثمَّ يقيم، وكذلك كان الأمر على عهد أبي بكر وعمر، وفي صدر من أيّام عثمان، ثمَّ إنَّ عثمان نادى النداء الثالث في السنة السابعة(١) فعاب الناس ذلك وقالوا: بدعةٌ.

وقال ابن حجر في فتح الباري ٢: ٣١٥: والذي يظهر إنَّ الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه خليفة مطاع الأمر، ولكن ذكر الفاكهاني: إنَّ أوَّل من أحدث الأذان الأوَّل بمكّة الحجَّاج وبالبصرة زياد، وبلغني أنَّ أهل الغرب الأدنى الآن لا تأذين عندهم سوى مرَّة؛ وروى إبن أبي شيبة من طريق إبن عمر قال: الأذان الأوَّل يوم الجمعة بدعة. فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الانكار، ويحتمل أن يريد إنَّه لم يكن في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وكلّ ما لم يكن في زمنه يسمَّى بدعة.

وحكى ما في الفتح الشوكاني في نيل الأوطار ٣: ٣٣٢، وذكر العيني في عمدة القاري حديث ابن عمر من إنّ: الأذان الأوَّل يوم الجمعة بدعةٌ؛ وروى عن الزهري قوله: إنَّ أوَّل من أحدث الأذان الأوَّل عثمان يؤذِّن لأهل الأسواق. وقال: وفي لفظ: فأحدث عثمان التأذينة الثالثة على الزوراء ليجتمع الناس - إلى أن قال -: وقيل: إنَّ أوَّل من أحدث الأذان الأوَّل بمكّة الحجّاج وبالبصرة زياد.

قال الأميني: إنَّ أوَّل ما يُستَفهَم مِنْ رُواة هذه الأحاديث إنَّ المراد من

____________________

١ - يعني السنة السابعة من خلافة عثمان توافق الثلاثين من الهجرة كما في تاريخ الطبري وغيره.

١٢٦

كثرة الناس الموجبة لتكرّر الأذان هل هو كثرتهم في مركز الخلافة المدينة المنوَّرة أو كثرتهم في العالم؟ أمّا الثاني فلم يكن يُجديهم فيه ألف أذان، فإنَّ صوت مؤذِّن المدينة لا يبلغ المدن والأمصار؛ ولا أنَّ أُولئك مكلَّفون بالإصغاء إلى أذان المدينة ولا الصَّلاة معه.

وأمّا كثرة الناس في المدينة نفسها لو تمَّ كونها مصحِّحاً للزيادة في النّداء فإنَّما يصحِّح تكثير المؤذِّنين في أنحاء البلد في وقت واحد لا الأذان بعد الإقامة الفاصل بينهما وبين الصَّلاة، وقد ثبت في السنَّة خلافه في الترتيب، وأُحدوثة الخليفة إنَّما هي الزيادة في النداء بعد الإقامة لا إكثار المؤذِّنين كما نبَّه إليه التركماني في شرح السنن الكبرى للبيهقي ١: ٤٢٩، ولذلك عابه عليه الصحابة، وحسبوه بدعة، ولا يخصُّ تعدُّد المؤذِّنين بأيّام عثمان فحسب، وقد كان في أيّام رسول الله صلى الله عليه وآله يؤذّن بلال وابن أمّ مكتوم، واتَّخذ عثمان أربعة للحاجة إليها حين كثر الناس كما في شرح الآبي على صحيح مسلم ٢: ١٣٦، ولا أجد خلافاً في جواز تعدُّد المؤذّنين، بل رتّبوا عليه أحكاماً مثل قولهم هل الحكاية المستحبَّة أو الواجبة كما قيل تتعدَّد بتعدد المؤذّنين أم لا؟ وقولهم: إذا أذَّن المؤذِّن الأوَّل، هل للإمام أن يبطئ بالصَّلاة ليفرغ مَن بعده؟ أو له أن يخرج ويقطع مَن بعده أذانه؟ وقولهم: إذا تعدَّد المؤذّنون لهم أن يؤذّن واحدٌ بعد واحد، أو يؤذّن كلهم في أوَّل الوقت؟ وقال الشافعي في كتاب الأُم ١: ٧٢: إن كان مسجداً كبيراً له مؤذّنون عدد فلا بأس أن يؤذّن في كلِّ منارة له مؤذّن فيسمع مَن يليه في وقت واحد.

وظاهر ما مرَّ في الصحيح من إنَّه زاد النداء الثالث هو إحداث الأذان بعد الأذان والإقامة لا الأذان قبلهما كما يأتي عن الطبراني، ويومي إليه قول بعض شرَّاح الحديث من أنَّ النداء الثالث ثالثٌ باعتبار الشرعيَّة لكونه مزيداً على الأذان بين يدي الإمام وعلى الإقامة للصَّلاة(١) ، نعم: قال ابن حجر في فتح الباري ٢: ٣١٥: تواردت الشرّاح على إنَّ معنى قوله «الأذان الثالث» إنَّ الأوَّلين الأذان والإقامة، فتسمية ما أمر به عثمان ثالثاً يستدعي سبق اثنين قبله. وقال العيني في عمدته ٢: ٢٩٠: إنّما أطلق الأذان على الإقامة لأنّها إعلامٌ كالآذان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: بين كلِّ أذانين صلاةٌ لمن

____________________

١ - شرح الترمذي في هامشه ٢: ٦٨.

١٢٧

شاء(١) ، ويعني به بين الأذان والإقامة.

وعلى تقدير إيجاب كثرة الناس الزيادة في النداء يلزم كما قلنا أن يكون الأذان الزايد في أطراف البلد وأقاصيه عن المسجد ليبلغ من لا يبلغه أذان المسجد الذي كان يؤذّن به على باب المسجد على العهد النبويِّ ودور الشيخين، كما ورد في سنن أبي داود ١: ١٧١، لا في الزوراء التي هي دارٌ بقرب المسجد كما في القاموس، وتاج العروس، سواءٌ كانت هي دار عثمان بن عفان التي ذكرها الحموي في المعجم ٤: ٤١٢، وقال الطبراني: فأمر عثمان بالنداء الأوَّل على دار له يقال لها: الزوراء فكان يؤذّن له عليها(٢) أو موضع عند سوق المدينة بقرب المسجد كما ذكره الحموي أيضاً، أو حجر كبير عند باب المسجد على ما جزم به ابن بطّال كما في فتح الباري ٢: ٣١٥، وعمدة القاري ٣: ٢٩١. فالنداء في الزوراء على كلّ حال كالنداء في باب المسجد في مدى الصوت ومبلغ الخبر، فأيُّ جدوى في هذه الزيادة المخالفة للسنّة؟

ثمَّ إنَّ كثرة الناس على فرضها في المدينة هل حصلت فجائيَّة في السابعة من خلافة عثمان؟ أو أنَّ الجمعيّة كانت إلى التكثّر منذ عادت عاصمة الخلافة الإسلاميَّة؟ فما ذلك الحدّ الذي أوجب مخالفة السنّة؟ أو إبتداع نداء ثالث؟ وهل هذه السنّة المبتدعة يجري ملاكها في العواصم والأوساط الكبيرة التي تحتوي أضعاف ما كان بالمدينة من الناس فيكرّر فيها الأذان عشرات أو مئات؟ سل الخليفة وأنصاره المبرّرين لعمله.

على أنَّ كثرة الناس في المدينة إن كانت هي الموجبة للنداء الثالث فلماذا أخذ فعل الخليفة أهل البلاد جمعاء وعمل به؟ ولم يكن فيها التكثّر، وكان على الخليفة أن ينهاهم عنه وينوِّه بأنَّ الزيادة على الأذان المشروع تخصُّ بالمدينة فحسب، أو يؤخذ بحكمها في كلِّ بلدة كثر الناس بها.

نعم: فتح الخليفة باب الجرأة على الله فجاء بعده معاوية ومروان وزياد والحجّاج ولعبوا بدين الله على حسب ميولهم وشهواتهم والبادي أظلم.

____________________

١ - أخرجه البخاري في صحيحه ٢: ٨.

٢ - فتح الباري لابن حجر ٢: ٣١٥، عمدة القاري ٣: ٢٩١.

١٢٨

- ٥ -

توسيع الخليفة المسجد الحرام

قال الطبري في تاريخه ج ٥: ٤٧ في حوادث سنة ٢٦ الهجريَّة: وفيها زاد عثمان في المسجد الحرام ووسَّعه وابتاع من قوم وأبى آخرون فهدم عليهم ووضع الأثمان في بيت المال فصاحوا بعثمان فأمر بهم الحبس وقال: أتدرون ما جرأكم عليَّ؟ ما جرأكم عليَّ إلّا حلمي، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به. ثمَّ كلّمه فيهم عبد الله بن خالد ابن أسيد فأخرجوا. وذكره هكذا اليعقوبي في تاريخه ٢: ١٤٢، وابن الأثير في الكامل ٣ ص ٣٦.

وأخرج البلاذري في الأنساب ٥: ٣٨ من طريق مالك عن الزهري قال: وسَّع عثمان مسجد النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأنفق عليه من ماله عشرة آلاف درهم فقال الناس: يوسّع مسجد رسول الله ويغيّر سنَّته.

قال الأميني: كأنَّ الخليفة لم يكن يرى لليد ناموساً مطَّرداً في الإسلام ولا للملك والمالكيَّة قيمة ولا كرامة في الشريعة المقدَّسة، وكأنَّه لم يقرع سمعه قول نبيِّ العظمة صلى الله عليه وآله: لا يحلُّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفس منه(١) م- وفي لفظ الجصاص في أحكام القرآن ١: ١٧٥: إلّا بطيب نفسه. وفي الشفاء للقاضي عياض، ونيل الأوطار ٤: ١٨٢: إلّا بطيبة من نفسه. وفي صحيح ابن حبان: لا يحلُّ لمسلم أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه](٢) .

وإنَّ من العجب العجاب إنَّ الخليفة نفسه أدرك عهد عمر وزيادته في المسجد، وشاهد محاكمة العبّاس بن عبد المطلب وإباءه عن إعطاء داره، ورواية أُبيّ بن كعب وأبي ذر الغفاري وغيرهما حديث بناء بيت المقدس عن داود عليه السلام، وقد خصمه العبّاس بذلك، وثبتت عند عمر السنَّة الشريفة فخضع لها، كما مرَّ تفصيله في الجزء السادس ص ٢٦٢ - ٢٦٦ ط ٢ غير إنَّ الرجل لم يكترث لذلك كلّه ويخالف تلك السنَّة الثابتة،

____________________

١ - ذكره بهذا اللفظ الحافظ ابن أبي جمرة الأزدي في بهجة النفوس ٢: ١٣٤، و ج ٤: ١١١.

٢ - البحر الزاخر ١: ٢١٨.

١٢٩

ثمَّ يحتجّ بفعل عمر وهيبة الناس لكنّه حلم فلم يهابوه، فهدم دور الناس من دون رضاهم وسجن من حاوره أو فاوضه في ذلك، ووضع الأثمان في بيت المال حتّى قال الناس: يوسّع مسجد رسول الله ويغيّر سنّته.

- ٦ -

رأي الخليفة في متعة الحجِّ

أخرج البخاري في الصحيح بالإسناد عن مروان بن الحكم قال: سمعت عثمان وعليّ رضي الله عنهما بين مكَّة والمدينة وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما فلمّا رأى ذلك عليٌّ أهلَّ بهما جميعاً قال: لبَّيك عمرة وحجَّة معاً قال: فقال عثمان: تراني أنهى الناس عن شيء وتفعله أنت؟ قال: لم أكن لأدع سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس.

وفي لفظ أحمد: كنّا نسير مع عثمان رضي الله عنه فإذا رجلٌ يلبّي بهما جميعاً قال عثمان رضي الله عنه: من هذا؟ فقالوا: عليٌّ. فقال: ألم تعلم أنَّي قد نهيت عن هذا؟ قال بلى. ولكن لم أكن لأدع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولك.

وأخرج الشيخان بالإسناد عن سعيد بن المسيب قال: اجتمع عليٌّ وعثمان رضي الله عنهما بعسفان وكان عثمان ينهى عن المتعة فقال له عليٌّ: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟ قال: دعنا منك، قال: إنِّي لا أستطيع أن أدعك. فلمّا رأى ذلك عليٌّ أهلَّ بهما جميعاً.

وأخرج مسلم من طريق عبد الله بن شقيق قال: كان عثمان رضي الله عنه ينهى عن المتعة وكان عليٌّ رضي الله عنه يأمر بها، فقال عثمان لعليّ كلمة، ثمَّ قال عليٌّ: لقد علمت أنّا قد تمتَّعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أجل ولكنّا كنّا خائفين.

راجع صحيح البخاري ٣: ٦٩، ٧١، صحيح مسلم ١: ٣٤٩، مسند أحمد ١: ٦١، ٩٥ سنن النسائي ٥: ١٤٨، ١٥٢، سنن البيهقي ٤: ٣٥٢، ج ٥: ٢٢، مستدرك الحاكم ١: ٤٧٢، تيسير الوصول ١: ٢٨٢.

قال الأميني: لقد فصَّلنا القول في هذه المسألة في نوادر الأثر من الجزء السادس ص ١٩٨ ١٣٠ و ٢١٣ ٢٢٠ ط ٢ تفصيلاً وذكرنا هنالك أحاديث جمّة إنَّ متعة الحجِّ

١٣٠

ثابتة بالكتاب والسنّة ولم تنزل آية تنسخ متعة الحجِّ ولم ينه عنها رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم حتّى مات، وإنّما النهي عنها رأيٌ رآه الخليفة الثاني كما أخرجه الشيخان وجمع من أئمَّة الحديث من طرقهم المتكثّرة، ولقد شاهد عثمان تلكم المواقف وما وقع فيها من الحوار وما أنكره الصحابة على مَن نهى عنها وكان كلّ حجّته: إنِّي لو رخّصت في المتعة لهم لعرَّسوا بهنَّ في الأراك ثمَّ راحوا بهنَّ حجّاجاً. وأنت ترى أنَّ هذه الحجَّة الداحضة لم تكن إلّا رأياً تافهاً غير مدعوم ببرهنة، بل منقوضٌ بالكتاب والسنَّة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله أعرف من صاحب هذا الرأي بهذه الدقيقة التي اكتشفها بنظّارته المقرِّبة، والله سبحانه قبله يعلم كلَّ ذلك، فلم ينهيا عن متعة الحج بل أثبتاها.

ما العلم إلّا كتاب الله والأثر

وما سوى ذلك لا عينٌ ولا أثر

إلّا هوى وخصومات ملفَّقة

فلا يغرَّنك من أربابها هدر(١)

نعم: شهد عثمان كلِّ ذلك لكنَّه لم يكترث لشئ منها، وطفق يقتصُّ أثر مَن قبله، وكان حقّاً عليه أن يتَّبع كتاب الله وسنَّة نبيِّه والحقُّ أحقُّ أن يتّبع، ولم يقنعه كلّ ذلك حتّى أخذ يعاتب أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام - الذي هو نفس الرسول، وباب مدينة علمه، وأقضى أُمّته وأعلمها - على عدم موافقته له في رأيه المجرد الشاذّ عن حكم الله، حتّى وقع الحوار بينهما في عسفان وفي الجحفة وأمير المؤمنين عليه السلام متمتّع بالحجِّ، وكاد من جرّاء ذلك يقتل عليٌّ سلام الله عليه كما مرَّ حديثه في الجزء السادس ص ٢٠٥ ط ١ و ٢١٩ ط ٢.

ونحن لا ندري مغزى جواب الرجل لمولانا علي عليه السلام لما قاله: لقد علمت أنّا تمتَّعنا مع رسول الله. من قوله: أجل ولكنّا كنّا خائفين. أيّ خوف كان في سنة حجّة التمتع مع رسول الله صلى الله عليه وآله؟ وهي الحجَّة الوداع والنبيُّ الأقدس كان معه مائة ألف أو يزيدون، وأنت تجد أعلام الأُمّة غير عارفين بهذا العذر التافه المختلق أيضاً وقال إمام الحنابلة أحمد في المسند بعد ذكر الحديث: قال شعبة لقتادة: ما كان خوفهم قال: لا أدري.

____________________

١ - البيتان للفقيه أبي زيد على الزبيدي المتوفى ٨١٣ ذكرهما صاحب شذرات الذهب ٧: ٢٠٣.

١٣١

أنا لا أدري، هذا مبلغ علم الخليفة؟ أو مدى عقليَّته؟ أو كميّة إصراره على تنفيذ ما أراد؟ أو حدّ اتّباعه كتاب الله وسنّة نبيِّه؟ أو مقدار أمانته على ودائع الدين؟ وهو خليفة المسلمين. فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.

أليس من الغلوِّ الممقوت الفاحش عندئذ ما جاء به البلاذري في الأنساب ٥: ٤ من قول ابن سيرين: كان عثمان أعلمهم بالمناسك وبعده ابن عمر.

إن كان أعلم الأُمّة هذه سيرته وهذا حديثه؟ فعلى الإسلام السّلام.

- ٧ -

تعطيل الخليفة القصاص

أخرج الكرابيسي في أدب القضاء بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب إنَّ عبد الرحمن بن أبي بكر قال: لما قتل عمر إنِّي مررت بالهرمزان وجفينة وأبي لؤلؤة وهم نجى فلمّا رأوني ثاروا فسقط من بيتهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه فانظروا إلى الخنجر الذي قتل به عمر فإذا هو الذي وصفه فانطلق عبيد الله بن عمر فأخذ سيفه حتّى سمع ذلك من عبد الرحمن فأتى الهرمزان فقتله وقتل جفينة بنت أبي لؤلؤة صغيرة وأراد قتل كلِّ سبيّ بالمدينة فمنعوه؛ فلمّا استخلف عثمان قال له عمرو بن العاص: إنَّ هذا الأمر كان وليس لك على الناس سلطانٌ فذهب دم الهرمزان هدراً.

وأخرجه الطبري في تاريخه ٥: ٤٢ بتغيير يسير والمحب الطبري في الرياض ٢. ١٥٠، وذكره ابن حجر في الإصابة ٣: ٦١٩ وصحّحه باللفظ المذكور.

وذكر البلاذري في الأنساب ٥: ٢٤ عن المدائني عن غياث بن إبراهيم: إن عثمان صعد المنبر فقال: أيّها الناس إنّا لم نكن خطباء وإن نعش تأتكم الخطبة على وجهها إن شاء الله، وقد كان من قضاء الله إنَّ عبيد الله بن عمر أصاب الهرمزان وكان الهرمزان من المسلمين(١) ولا وارث له إلّا المسلمون عامَّة وأنا إمامكم وقد عفوت أفتعفون؟ قالوا: نعم. فقال عليٌّ: أقد الفاسق فإنَّه أتى عظيماً قتل مسلماً بلا ذنب. وقال لعبيد الله: يا فاسق! لئن ظفرتُ بك يوماً لأقتلنَّك بالهرمزان.

وقال اليعقوبي في تاريخه ٢: ١٤١ أكثر الناس في دم الهرمزان وإمساك عثمان

____________________

١ - أسلم على يد عمر وفرض له في الفين كما في الإصابة وغيرها.

١٣٢

عبيد الله بن عمر فصعد عثمان المنبر فخطب الناس ثمَّ قال: ألا إنِّي وليُّ دم الهرمزان وقد وهبته لله ولعمر وتركته لدم عمر. فقام المقداد بن عمرو فقال: إنَّ الهرمزان مولى لله ولرسوله وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله. قال: فننظر وتنظرون، ثمَّ أخرج عثمان عبيد الله بن عمر من المدينة إلى الكوفة وأنزل داراً له فنسب الموضع إليه «كويفة ابن عمر» فقال بعضهم.

أبا عمرو! عبيد الله رهنٌ

فلا تشكك بقتل الهرمزان

وأخرج البيهقي في السنن الكبرى ٨: ٦١ بإسناد عن عبيد الله بن عبيد بن عمير قال: لما طعن عمر رضي الله عنه وثب عبيد الله بن عمر على الهرمزان فقتله فقيل لعمر: إنَّ عبيد الله بن عمر قتل الهرمزان. قال ولم قتله؟ قال: إنّه قتل أبي. قيل: وكيف ذلك؟ قال: رأيته قبل ذلك مستخلياً بأبي لؤلؤة وهو أمره بقتل أبي. وقال عمر: ما أدري ما هذا انظروا إذا أنا مُتُّ فاسألوا عبيد الله البيِّنة على الهرمزان، هو قتلني؟ فإن أقام البيِّنة فدمه بدمي، وإن لم يقم البيِّنة فأقيدوا عبيد الله من الهرمزان. فلمّا ولي عثمان رضي الله عنه قيل له: ألا تمضي وصيَّة عمر رضي الله عنه في عبيد الله؟ قال: ومَن وليُّ الهرمزان؟ قالوا: أنت يا أمير المؤمنين! فقال: قد عفوت عن عبيد الله بن عمر.

وفي طبقات ابن سعد ٥: ١٠٨ ط ليدن: انطلق عبيد الله فقتل إبنة أبي لؤلؤة وكانت تدَّعي الاسلام، وأراد عبيد الله ألا يترك سبيّاً بالمدينة يومئذ إلّا قتله فاجتمع المهاجرون الأوَّلون فأعظموا ما صنع عبيد الله من قبل هؤلاء واشتدّوا عليه وزجروه عن السبي فقال: والله لأقتلنَّهم وغيرهم. يعرِّض ببعض المهاجرين، فلم يزل عمرو ابن العاص يرفق به حتّى دفع إليه سيفه فأتاه سعد فأخذ كلُّ واحد منهما برأس صاحبه يتناصيان، حتّى حجز بينهما الناس، فأقبل عثمان وذلك في الثلاثة الأيّام الشورى قبل أن يبايع له، حتّى أخذ برأس عبيد الله بن عمر وأخذ عبيد الله برأسه ثمَّ حُجز بينهما وأظلمت الأرض يومئذ على الناس، فعظم ذلك في صدور الناس وأشفقوا أن تكون عقوبة حين قتل عبيد الله جفينة والهرمزان وابنة أبي لؤلؤة.

وعن أبي وجزة عن أبيه قال: رأيت عبيد الله يومئذ وإنَّه ليناصي عثمان وإنَّ عثمان ليقول: قاتلك الله قتلتَ رجلاً يُصلّي وصبيَّةً صغيرةً، وآخر من ذمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم

١٣٣

ما في الحقِّ تركك. قال: فعجبت لعثمان حينُ ولي كيف تركه؟ ولكن عرفتُ إنَّ عمرو بن العاص كان دخل في ذلك فلفته عن رأيه.

وعن عمران بن منّاح قال جعل سعد بن أبي وقّاص يناصي عبيد الله بن عمر حيث قتل الهرمزان وابنة أبي لؤلؤة، وجعل سعد يقول وهو يناصيه:

لا أسد إلّا أنت تنهت واحداً

وغالت أُسود الأرض عنك الغوائل(١)

فقال عبيد الله:

تعلّم أنِّي لحم ما لا تسيغه

فكلْ من خشاش الأرض ما كنت آكلا

فجاء عمرو بن العاص فلم يزل يكلّم عبيد الله، ويرفق به حتّى أخذ سيفه منه، وحبس في السجن حتّى أطلقه عثمان حين ولي.

عن محمود بن لبيد: كنت أحسب إنَّ عثمان إن وُلّي سيقتل عبيد الله لما كنت أراه صنع به، كان هو وسعد أشدَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه.

وعن المطَّلب بن عبد الله قال: قال عليٌّ لعبيد الله بن عمر: ما ذنب بنت أبي لؤلؤة حين قتلتها؟ قال: فكان رأي عليّ حين استشاره عثمان ورأي الأكابر من أصحاب رسول الله على قتله، لكن عمرو بن العاص كلّم عثمان حتّى تركه، فكان عليٌّ يقول: لو قدرت على عبيد الله بن عمر ولي سلطان لاقتصصت منه.

وعن الزهري: لما استخلف عثمان دعا المهاجرين والأنصار فقال: أشيروا عليَّ في قتل هذا الذي فتق في الدين ما فتق. فاجمع رأي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجّعون عثمان على قتله وقال: جلُّ الناس: أبعد الله الهرمزان وجفينة يريدون يُتبعون عبيد الله أباه. فكثر ذلك القول، فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين! إنَّ هذا الأمر قد كان قبل أن يكون لك سلطانٌ على الناس فاعرض عنه، فتفرَّق الناس عن كلام عمرو بن العاص.

وعن ابن جريج: إنَّ عثمان استشار المسلمين فاجمعوا على ديتها، ولا يقتل بهما عبيد الله بن عمر، وكانا قد أسلما، وفرض لهما عمر، وكان عليُّ بن أبي طالب لما بويع له أراد قتل عبيد الله بن عمر، فهرب منه إلى معاوية بن أبي سفيان، فلم يزل معه فقتل بصفين(٢) .

____________________

١ - الشعر لكلاب بن علاط أخي الحجاج بن علاط.

٢ - حذفنا أسانيد هذه الأحاديث روماً للاختصار وهي كلها مستندة.

١٣٤

وذكر الطبري في تاريخه ٥: ٤١ قال: جلس عثمان في جانب المسجد - لما بويع - ودعا عبيد الله بن عمر، وكان محبوساً في دار سعد بن أبي وقاص، وهو الذي نزع السيف من يده بعد قتله جفينة والهرمزان وابنة أبي لؤلؤة، وكان يقول: والله لأقتلنَّ رجالاً ممَّن شرك في دم أبي. يعرض بالمهاجرين والأنصار فقام إليه سعد فنزع السيف من يده، وجذب شعره حتّى أضجعه إلى الأرض وحبسه في داره حتّى أخرجه عثمان إليه فقال عثمان لجماعة من المهاجرين والأنصار: أشيروا عليَّ في هذا الذي فتق في الاسلام ما فتق، فقال عليٌّ: أرى أن تقتله. فقال بعض المهاجرين: قُتل عمر أمس ويُقتل ابنه اليوم؟ فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين! إنَّ الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطانٌ، إنَّما كان هذا الحدث ولا سلطان لك، قال عثمان: أنا وليُّهم وقد جعلتها دية واحتملتها في مالي، قال: وكان رجلٌ من الأنصار يقال له: زياد بن لبيد البياضي إذا رأى عبيد الله بن عمر قال:

ألا يا عبيد الله! ما لَك مهرب

ولا ملجأ من ابن أروى(١) ولا خفرْ

أصبتَ دما والله في غير حلّه

حراماً وقتل الهرمزان له خطرْ

على غير شيء غير أنْ قال قائلٌ

أتتَّهمون الهرمزان على عمرْ؟

فقال سفيهُ والحوادث جمَّة:

نعم اتّهمه قد أشار وقد أمرْ

وكان سلاح العبد في جوف بيته

يقلّبها والأمر بالأمر يعتبرْ

قال: فشكا عبيد الله بن عمر إلى عثمان زياد بن لبيد وشعره فدعا عثمان زياد بن لبيد فنهاه قال: فأنشأ زياد يقول في عثمان:

أبا عمرو عبيد الله رهنٌ

فلا تشكك بقتل الهرمزانِ

فإنَّك إن غفرت الجرم عنه

وأسباب الخطا فرسا رهانِ

أتعفو؟ إذ عفوت بغير حقِّ

فما لك بالّذي تحكي بدانِ

فدعا عثمان زياد بن لبيد فنهاه وشذَّ به. وذكره ابن الأثير في الكامل ٥: ٣١.

قال الأميني: الذي يُعطيه الأخذ بمجامع هذه النقول أنَّ الخليفة لم يقد عبيد الله قاتل الهرمزان وجفينة وإبنة أبي لؤلؤة الصغيرة، مع إصرار غير واحد من الصحابة

____________________

١ - أروى بنت كريز أم عثمان كما مرَّ في ١٢٠.

١٣٥

على القصاص، ووافقه على ذلك مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام، لكنه قدَّم على رأيه الموافق للكتاب والسنَّة، وهو أقضى الأُمّة بنص النبيِّ الأمين وعلى آراء الصحابة إشارة عمرو ابن العاصي ابن النابغة - المترجم في الجزء الثاني صفحة ١٢٠ - ١٧٦ ط ٢ بترجمة ضافية تعلمك حسبه ونسبه وعلمه ودينه - حيث قال له: إنَّ هذا الأمر كان وليس لك على الناس سلطان.. الخ. على حين إنَّ من كانت له السلطة عندئذ وهو الخليفة المقتول في آخر رمق من حياته حكم بأن يقتصَّ من إبنه إن لم يقم البينة العادلة بأنَّ هرمزان قتل أباه، ومن الواضح إنّه لم يقمها، فلم يزل عبيد الله رهن هذا الحكم حتّى أُطلق سراحه، وكان عليه مع ذلك دم جفينة وابنة أبي لؤلؤة.

وهل يشترط ناموس الإسلام للخليفة في إجرائه حدود الله وقوع الحوادث عند سلطانه؟ حتّى يصاخ إلى ما جاء به ابن النابغة، وإنْ صحّت الأحلام؟ فاستيهاب الخليفة لماذا؟ وهب إنَّ خليفة الوقت له أن يهب أو يستوهب المسلمين حيث لا يوجد وليٌّ للمقتول، ولكن هل له إلغاء الحكم النافذ من الخليفة قبله؟ وهل للمسلمين الذين استوهبهم فوهبوا ما لا يملكون ردّ ذلك الحكم البات؟ وعلى تقدير أن يكون لهم ذلك فهل هبة أفراد منهم وافيةٌ لسقوط القصاص، أو يجب أن يوافقهم عليها عامَّة المسلمين؟ وأنت ترى إنَّ في المسلمين من ينقم ذلك الاسقاط وينقد من فعله، حتّى إنَّ عثمان لما رأى المسلمين إنّهم قد أبوا إلّا قتل عبيد الله أمره فارتحل إلى الكوفة وأقطعه بها داراً وأرضاً، وهي التي يقال لها: كويفة ابن عمر، فعظم ذلك عند المسلمين وأكبروه وكثر كلامهم فيه(١) .

وكان أمير المؤمنين علي عليه السلام وهو سيِّد الأُمَّة وأعلمها بالحدود والأحكام يكاشف عبيد الله ويهدِّده بالقتل على جريمته متى ظفر به، ولما ولي الأمر تطلّبه ليقتله فهرب منه إلى معاوية بالشام، وقتل بصفّين، كما في «الكامل» لابن الأثير ٣: ٣٢، وفي «الاستيعاب» لابن عبد البرّ: إنَّه قتل الهرمزان بعد أن أسلم وعفا عنه عثمان، فلمّا ولي عليٌّ خشي على نفسه فهرب إلى معاوية فقتل بصفّين، وفي مروج الذهب ٢: ٢٤: إنّ عليّاً ضربه فقطع ما عليه من الحديد حتّى خالط سيفه حشوة جوفه، وإنَّ

____________________

١ - راجع ما مرَّ في ص ١٣٣، ومعجم البلدان ٧: ٣٠٧.

١٣٦

عليّاً قال حين هرب فيطلبه ليقيد منه بالهرمزان: لئن فاتني في هذا اليوم، لا يفوتني في غيره.

هذه كلّها تنمُّ عن إنَّ أمير المؤمنين عليه السلام كان مستمرّا على عدم العفو عنه، وإنَّه لم يكن هناك حكمٌ نافذٌ بالعفو يُتّبع، وإلّا لما طلبه ولا تحرّى قتله، وقد ذكّره بذلك يوم صفِّين لما برز عبيد الله أمام الناس فناداه عليٌّ: ويحك يا ابن عمر! علام تقاتلني؟ والله لو كان أبوك حيّا ما قاتلني. قال: أطلب بدم عثمان. قال أنت تطلب بدم عثمان، والله يطلبك بدم الهرمزان، وأمر على الأشتر النخعي بالخروج إليه(١) .

إلى هنا انقطع المعاذير في إبقاء عبيد الله والعفو عنه، لكن قاضي القضاة اطّلع رأسه من ممكن التمويه، فعزى إلى شيخه أبي علي أنّه قال(٢) : إنّما أراد عثمان بالعفو عنه ما يعود إلى عزِّ الدين، لأنَّه خاف أن يبلغ العدوَّ قتله فيقال: قتلوا إمامهم، وقتلوا ولده، ولا يعرفون الحال في ذلك فيكون فيه شماتة. اهـ

أوَلا تسائل هذا الرجل؟ عن أيِّ شماتة تتوجَّه إلى المسلمين في تنفيذهم حكم شرعهم وإجرائهم قضاء الخليفة الماضي في ابنه الفاسق قاتل الأبرياء، وإنَّهم لم تأخذهم عليه رأفةٌ في دين الله لتعدِّيه حدوده سبحانه ومن يتعدَّ حدود الله فأولئك هم الظالمون، ولم يكترثوا لأنَّه في الأمس أُصيب بقتل أبيه واليوم يُقتل هو فتشتبك المصيبتان على أهله، هذا هو الفخر المرموق إليه في باب الأديان لأنَّه منبعثٌ عن صلابة في إيمان، ونفوذ في البصيرة، وتنمّر في ذات الله، وتحفّظ على كتاب الله وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وآله؟ وأخذ بمجاميع الدين الحنيف، فأيُّ أمّة هي هكذا لا تنعقد عليها جمل الثناء ولا تفد إليها ألفاظ المدح والإطراء؟ وإنَّما الشماتة في التهاون بالأحكام، وإضاعة الحدود بالتافهات، واتّباع الهوى والشهوات، لكن الشيخ أبا علي راقه أن يكون له حظّاً من الدفاع فدافع.

ثمَّ إنَّ ما ارتكبه الخليفة خلق لمن يحتذي مثاله مشكلة ارتبكوا في التأوّل في

____________________

١ - مروج الذهب ٢: ١٢.

٢ - راجع شرح ابن أبي الحديد ١: ٢٤٢.

١٣٧

تبرير عمله الشاذّ عن الكتاب والسنَّة. فمن زاعم إنَّه عفى عنه ولوليِّ الأمر ذلك. وهم يقولون: إنَّ الإمام له أن يصالح على الدية إلّا إنّه لا يملك العفو، لأنَّ القصاص حقُّ المسلمين بدليل إنَّ ميراثه لهم وإنَّما الإمام نائبٌ عنهم في الإقامة وفي العفو إسقاط حقّهم أصلاً ورأساً وهذا لا يجوز، ولهذا لا يملكه الأب والجدّ وإن كانا يملكان استيفاء القصاص وله أن يصلح على الدية(١) .

وثانٍ يحسب إنَّه استعفى المسلمين مع ذلك وأجابوه إلى طلبته وهم أولياء المقتول إذ لا وليَّ له. ونحن لا ندري أنَّهم هل فحصوا عن وليِّه في بلاد فارس؟ والرجل فارسيٌّ هو وأهله، أو إنَّهم إكتفوا بالحكم بالعدم؟ لأنَّهم لم يشاهدوه بالمدينة، وهو غريبٌ فيها ليس له أهلٌ ولا ذووا قرابة، أو أنَّهم حكموا بذلك من تلقاء أنفسهم؟ وما كان يضرُّهم لو أرجعوا الأمر إلى أولياءه في بلاده فيؤمنوهم حتّى يأتوا إلى صاحب ترتهم فيقتصُّوا منه أو يعفوا عنه؟.

ثمَّ متى أجاب المسلمون إلى طلبة عثمان؟ وسيِّدهم يقول: أقد الفاسق فإنّه أتى عظيماً. وقد حكم خليفة الوقت قبله بالقصاص منه، ولم يكن في مجتمع الاسلام من يدافع عنه ويعفو إلّا ابن النابغة، وقد مرَّ عن ابن سعد قول الزهري من إنّه أجمع رأي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجِّعون عثمان على قتله.

وثالث يتفلسف بما سمعته عن الشيخ أبي علي، وهل يتفلسف بتلك الشماتة والوصمة والمسبّة على بني أميّة في قتلهم من العترة الطاهرة والداً وما ولد وذبحهم في يوم واحد منهم رضيعاً ويافعاً وكهلاً وشيخاً سيِّد شباب أهل الجنَّة؟.

وهناك مَن يصوغ لهرمزان وليّاً يسمِّيه «القماذبان» ويحسب إنَّه عفى بإلحاح من المسلمين أخرج الطبري في تاريخه ٥: ٤٣ عن السري وقد كتب إليه شعيب عن سيف بن عمر عن أبي منصور قال سمعت القماذبان يحدِّث عن قتل أبيه قال: كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض فمرَّ فيروز بأبي ومعه خنجر له رأسان فتناوله منه وقال: ما تصنع في هذه البلاد؟ فقال: أبسّ به. فرآه رجلٌ فلمّا أُصيب عمر قال: رأيت هذا مع الهرمزان دفعه إلى فيروز، فأقبل عبيد الله فقتله فلمّا ولي عثمان دعاني فأمكنني

____________________

١ - بدايع الصنايع لملك العلماء الحنفي ٧: ٢٤٥.

١٣٨

منه ثمَّ قال: يا بنيَّ هذا قاتل أبيك وأنت أولى به منّا فاذهب فاقتله. فخرجت به وما في الأرض أحدٌ إلّا معي إلّا أنَّهم يطلبون إليَّ فيه فقلت لهم: ألي أقتله؟ قالوا: نعم. وسبّوا عبيد الله، فقلت: أفلكم أن تمنعوه؟ قالوا: لا، وسبَّوه. فتركته لله ولهم فاحتملوني، فوالله ما بلغت المنزل إلّا على رؤوس الرجال وأكفّهم.

ولو كان هذا الوليُّ المزعوم موجوداً عند ذاك فما معنى قول عثمان في الصحيح المذكور على صهوة المنبر: لا وارث له إلّا المسلمون عامة وأنا إمامكم؟ وما قوله الآخر في حديث الطبري نفسه: أنا وليُّهم وقد جعلته دية واحتملتها في مالي؟ ولو كان يعلم بمكان هذا الوارث فَلِمَ حوَّل القصاص إلى الدية قبل مراجعته؟ ثمَّ لما حوَّله فَلِمَ لم يدفع الدية إليه واحتملها في ماله؟ ثمَّ أين صارت الدية وما فعل بها؟ أنا لا أدري.

ولو كان المسلمون يعترفون بوجود القماذبان وما في الأرض أحدٌ إلّا معه وهو الذي عفى عن قاتل أبيه فما معنى قول الخليفة: وقد عفوت، أفتعفون؟ وقوله في حديث البيهقي: قد عفوت عن عبيد الله بن عمر؟ وما معنى استيهاب خليفة المسلمين ووليُّ المقتول حي يرزق؟ وما معنى مبادرة المسلمين إلى موافقته في العفو والهبة؟ وما معنى تشديد مولانا أمير المؤمنين في النكير على من تماهل في القصاص؟ وما معنى قوله عليه السلام لعبيد الله يا فاسق! لئن ظفرت بك يوماً لأقتلنّك بالهرمزان؟ وما معنى تطلّبه لعبيد الله ليقتله أبّان خلافته؟ وما معنى هربه من المدينة إلى الشام خوفاً من أمير المؤمنين؟ وما معنى قول عمرو بن العاصي لعثمان: إنّ هذا الأمر كان وليس لك على الناس سلطان؟ وما معنى قول سعيد بن المسيب: فذهب دم الهرمزان هدراً؟ وما معنى قول لبيد بن زياد وهو يخاطب عثمان. أتعفو إذ عفوت بغير حقّ. الخ؟. وما معنى ما رواه ملك العلماء الحنفي في بدائع الصنائع ٧: ٢٤٥ وجعله مدرك الفتوى في الشريعة؟ قال: روي إنَّه لما قتل سيِّدنا عمر رضي الله عنه خرج الهرمزان والخنجر في يده فظنَّ عبيد الله إنَّ هذا هو الذي قتل سيِّدنا عمر رضي الله عنه فقتله فرفع ذلك إلى سيِّدنا عثمان رضي الله عنه فقال سيِّدنا عليّ رضي الله عنه لسيِّدنا عثمان: اقتل عبيد الله. فامتنع سيِّدنا عثمان رضي الله عنه وقال: كيف أقتل رجلاً قُتل أبوه أمس؟ لا أفعل، ولكن هذا رجلٌ من أهل الأرض وأنا وليُّه أعفو عنه وأودي ديته.

١٣٩

وما معنى قول الشيخ أبي علي؟: إنَّه لم يكن للهرمزان وليٌّ يطلب بدمه والإمام وليُّ من لا وليَّ له، وللوليِّ أن يعفو.

ولبعض ما ذُكر زيَّفه ابن الأثير في الكامل ٣: ٣٢ فقال: الأوَّل أصحُّ في إطلاق عبيد الله لأنَّ عليّاً لما ولي الخلافة أراد قتله فهرب منه إلى معاوية بالشام، ولو كان إطلاقه بأمر وليِّ الدم لم يتعرّض له عليٌّ.

وقبل هذه كلّها ما في إسناد الرواية من الغمز والعلّة، كتبها إلى الطبري السري ابن يحيى الذي لا يوجد بهذه النسبة له ذكرٌ قطٌ، غير إنَّ النسائي أورد عنه حديثاً لسيف بن عمر فقال: لعلَّ البلاء من السري(١) وابن حجر يراه السري بن إسماعيل الهمداني الكوفي الذي كذَّبه يحيى بن سعيد وضعَّفه غير واحد من الحفّاظ، ونحن نراه السري بن عاصم الهمداني نزيل بغداد المتوفّى ٢٥٨، وقد أدرك ابن جرير الطبري شطراً من حياته يربو على ثلاثين سنة، كذَّبه ابن خراش، ووهّاه ابن عدي، وقال: يسرق الحديث وزاد ابن حبان: ويرفع الموقوفات لا يحلُّ الاحتجاج به، وقال النقاش في حديث: وضعه السري(٢) فهو مشتركٌ بين كذّابين لا يهمّنا تعيين أحدهما.

والتسمية بابن يحيى محمولة على النسبة إلى أحد أجداده كما ذكره ابن حجر في تسميته بابن سهل(٣) هذا إن لم تكن تدليساً، ولا يحسب القارئ إنَّه السري بن يحيى الثقة لقِدَم زمانه وقد توفّي سنة ١٦٧(٤) قبل ولادة الطبري - الراوي عنه المولود سنة ٢٢٤ - بسبع وخمسين سنة.

وفي الاسناد شعيب بن إبراهيم الكوفي المجهول، قال ابن عدي: ليس بالمعروف وقال الذهبي: راوية كتب سيف عنه فيه جهالة(٥) .

وفيه سيف بن عمر التميمي راوي الموضوعات، المتروك، الساقط، المتسالم على

____________________

١ - تهذيب التهذيب ٣: ٤٦٠.

٢ - تاريخ الخطيب ٩: ١٩٣، ميزان الاعتدال ١: ٣٨٠، لسان الميزان ٣: ١٣، وما مرَّ في ج ٥: ٢٣١ ط ٢.

٣ - لسان الميزان ٣: ١٣.

٤ - تهذيب التهذيب ٣: ٤٦١.

٥ - ميزان الاعتدال ١: ٤٤٨، لسان الميزان ٣: ١٤٥.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وعمل يونس بن أبى فروة كتابا في مثالب العرب وعيوب الإسلام بزعمه، وصار به إلى ملك الروم، فأخذ منه مالا. وقال أحمد بن يحيى النحوي قال رجل يهجو حمّاد الراوية:

نعم الفتى لو كان يعرف ربّه

ويقيم وقت صلاته حمّاد

بسطت مشافره الشّمول فأنفه

مثل القدوم يسنّها الحدّاد

وابيضّ من شرب المدامة وجهه

فبياضه يوم الحساب سواد

لا يعجبنّك بزّه ولسانه

إنّ المجوس يرى لها أسباد(١)

وكان حمّاد مشهورا بالكذب في الرواية وعمل الشعر، وإضافته إلى الشعراء المتقدمين ودسّه في أشعارهم؛ حتى إن كثيرا من الرواة قالوا: قد أفسد حمّاد الشعر، لأنه كان رجلا يقدر على صنعته فيدس في شعر كل رجل منهم(٢) ما يشاكل طريقته، فاختلط لذلك الصحيح بالسقيم؛ وهذا الفعل منه، وإن لم يكن دالاّ على الإلحاد فهو فسق وتهاون بالكذب في الرواية(٣) .

***

[أخبار حمّاد بن الزّبرقان]

وأما حمّاد بن الزّبرقان فهذه طريقته في التخرّم(٤) والتهتك؛ أخبرنا أبو الحسن عليّ

____________________

 - قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ فغلط، فلما سلم، فقال أبو نواس:

أكثر يحيى غلطا

في (قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ)

فقال والبة:

قام طويلا ساكتا

حتّى إذا أعيا سجد

فقال علي بن الخليل:

يزحر في محرابه

زحير حبلى للولد

فقال الحسين بن الخليع:

كأنّما لسانه

شدّ بحبل من مسد

(١) حاشية الأصل: (جمع سبد؛ وهو المال، وهاهنا كناية عن الثياب واللباس).

(٢) ساقطة من م.

(٣) توفي حماد الراوية سنة ١٥٥. (وانظر ترجمته في ابن خلكان ١: ١٦٤ - ١٦٥).

(٤) حاشية ت (من نسخة): (الفجور)، وفي حواشي الأصل، ت، ف: (التخرم:

التهتك، وهو أيضا التدين بدين الخرمية؛ وهم أهل التناسخ).

١٦١

ابن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا الأشنانداني قال: دعا حمّاد بن الزبرقان(١) أبا الغول النّهشلي إلى منزله وكانا يتقارضان(٢) ، فانتهره أبو الغول، فلم يزل المفضّل به حتى أجابه، وانطلق معه، فلما رجع إلى المفضّل قال: ما صنعت أنت وحماد؟ قال: اصطلحنا على ألاّ آمره بالصلاة، ولا يدعوني إلى شرب الخمر، وأنشد المفضّل قوله:

* نعم الفتى لو كان يعرف ربّه*

وذكر الأبيات التي تقدّمت في الرواية الأخرى منسوبة إلى هجاء حماد الرواية.

***

[أخبار حمّاد عجرد]

فأما حمّاد عجرد فشهرته في الضّلالة كشهرة الحمّادين، وكان يرمى مع ذلك بالتّثنية.

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني عليّ بن عبد الله الفارسي قال أخبرني أبي قال حدّثني ابن مهرويه(٣) قال حدثني عليّ بن عبد الله بن سعد قال حدّثني السّري بن الصّباح الكوفي قال: دخلت على بشّار بالبصرة، فقال لي: ياأبا عليّ، أما إنّي قد أوجعت صاحبكم، وبلغت منه - يعني حمّاد عجرد - فقلت: بماذا ياأبا معاذ؟ فقال: بقولي فيه:

ياابن نهيا رأس عليّ ثقيل

واحتمال الرّأسين خطب جليل

فادع غيري إلى عبادة ربّين

فإني بواحد مشغول

فقلت لم(٤) أدعه في عماه؟ ثم قلت له: قد بلغ حمادا هذا الشعر، وهو يرويه على خلاف هذا قال: فما يقول؟ قلت يقول:

فادع غيري إلى عبادة ربّين

فإني عن واحد مشغول

قال فلما سمعه أطرق وقال: أحسن والله ابن الفاعلة! ثم قال: إنني لا أحتشمك، فلا تنشد أحدا هذين البيتين؛ وكان إذا سئل عنهما بعد ذلك قال: ما هما لي!

____________________

(١) انظر ترجمته ومراجعها في (إنباه الرواة ١: ٣٣٠ - ٣٣٢).

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (يتقارضان: يتجازيان؛ ويقال ذلك في الخير والشر جميعا، أي يقرض بعضهم بعضا الهجاء).

(٣) ص: (مهرويه)، بفتح الميم وسكون الهاء وضم الراء وبعدها واو ساكنة وياء مفتوحة).

(٤) م: (لن أدعه).

١٦٢

وأخبرنا المرزباني قال أخبرني عليّ بن هارون عن عمه يحيى بن عليّ عن عمر بن شبّة قال حدّثني خلاّد الأرقط قال قال بشار: بلغني أن رجلا كان يقرأ القرآن وحمّاد ينشد الشعر، فاجتمع الناس على القارئ فقال حمّاد: علام تجتمعون؟ فو الله ما أقول(١) أحسن مما يقول! فمقته الناس على هذا.

وروى ابن شبّة عن أبي عبيدة قال: كان حمّاد عجرد يعيّر بشارا بالقبح؛ لأنه كان عظيم الجسم، مجدورا، طويلا، جاحظ العينين، قد تغشّاهما لحم أحمر؛ فلما قال حماد فيه:

والله ما الخنزير في نتنه

بربعه في النّتن أو خمسه

بل ريحه أطيب من ريحه

ومسّه ألين من مسّه

ووجهه أحسن من وجهه

ونفسه أفضل من نفسه

وعوده أكرم من عوده

وجنسه أكرم من جنسه

 فقال بشار: ويلي على الزّنديق! لقد نفث بما في صدره، قيل: وكيف ذاك؟ قال:

ما أراد الزّنديق إلا قول الله تعالى:( لَقَدْ خَلَقْنَا الآنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) ؛ [التين: ٤]، فأخرج الجحود بها مخرج هجائي، وهذا خبث من بشار وتغلغل شديد لطيف.

وأول من جعل نفي الإلحاد تأكيدا للوصف به، وأخرج ذلك مخرج المبالغة مساور الوراق في حمّاد عجرد فقال:

لو أنّ ماني وديصانا وعصبتهم

جاءوا إليك لما قلناك زنديق

أنت العبادة والتّوحيد مذ خلقا

وذا التّزندق نيرنج مخاريق(٢)

[أخبار ابن المقفع، وإيراد بعض كلامه]

فأما ابن المقفع(٣) فإنّ جعفر بن سليمان روى عن المهدي أنه قال: ما وجدت كتاب

____________________

(١) ش: (لما أقول).

(٢) توفي حماد عجرد سنة ١٦١؛ (وانظر ترجمته في ابن خلكان ١: ١٦٥ - ١٦٦)

(٣) حاشية ف: (هو الّذي يقول:

قد سلم السّاكت الصّموت

كلام راعي الكلام قوت

لا تفش سرّا إلى جدار

فربّما نمّت البيوت

وا عجبا لامرئ ضحوك!

مستيقن أنّه يموت

١٦٣

زندقة قط إلاّ وأصله ابن المقفع. روى ابن شبّة قال: حدّثني من سمع ابن المقفع وقد مر ببيت نار المجوس(١) بعد أن أسلم، فلمحه وتمثّل:

يابيت عاتكة الّذي أتعزّل

حذر العدا وبه الفؤاد موكّل(٢)

إنّي لأمنحك الصّدود وإنني

قسما إليك مع الصّدود لأميل(٣)

وروى أحمد بن يحيى ثعلب قال: قال ابن المقفع يرثي يحيى بن زياد - وقال الأخفش:

والصحيح أنه يرثي بها ابن أبي العوجاء:

رزئنا أبا عمرو ولا حي مثله

فلله ريب الحادثات بمن وقع!

فإن تك قد فارقتنا وتركتنا

ذوي خلّة ما في انسداد لها طمع

لقد جرّ نفعا فقدنا لك أنّنا

أمنّا على كلّ الرّزايا من الجزع

قال ثعلب: البيت الأخير يدلّ على مذهبهم في أن الخير ممزوج بالشر، والشرّ ممزوج بالخير.

وأخبرني عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدّثني المغيرة بن محمد المهلّبي من حفظه قال حدثنا خالد بن خداش قال: كان الخليل بن أحمد يحب أن يرى

____________________

(١) ش: (نار) للمجوس.

(٢) حاشية الأصل: (هذان البيتان للأحوص بن محمد بن عاصم بن أبي الأفلح حمي الدبر، وكان حمي الدبر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبلى ذات يوم بلاء حسنا فاضطغن المشركون عليه، ولما قتل أراد المشركون أن يمثلوا بجثته، وكان قبل المحاربة، قد رفع يديه وقال: اللهم احفظ جثتي من المشركين، فلما قتل رحمه الله بعث الله جماعة من النحل، فلم تزل عنده تحميه حتى هجم عليه الليل، فجاء سيل فاحتمله، فلم ير المشركون جثته).

والبيتان من قصيدة له يمدح فيهما عمر بن عبد العزيز؛ وهي في (الأغاني ١٨: ١٩٦ - ١٩٧) وأبيات منها في الخزانة (١: ٢٤٨)؛ وهي عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية. وأنعزل:

أتجنب وأكون بمعزل، والعدا: جمع عدو؛ يقال بالضم والكسر.

(٣) أمنحك: أعطيك؛ والبيت من شواهد الكافية، على أن (قسما) تأكيد للقسم المفهوم من قوله: (إني لأمنحك الصدود).

١٦٤

عبد الله بن المقفّع، وكان ابن المقفّع يحب ذلك، فجمعهما عبّاد بن عبّاد المهلبي فتحادثا ثلاثة أيام ولياليهنّ، فقيل للخليل: كيف رأيت عبد الله؟ قال: ما رأيت مثله، وعلمه أكبر من عقله، وقيل لابن المقفّع: كيف رأيت الخليل؟ قال: ما رأيت مثله، وعقله أكبر من علمه. قال المغيرة: فصدقا، أدّى(١) عقل الخليل الخليل إلى أن مات أزهد الناس(١) ، وجهل ابن المقفّع أدّاه إلى أن كتب أمانا لعبد الله بن عليّ فقال فيه: ومتى غدر أمير المؤمنين بعمّه عبد الله فنساؤه طوالق؛ ودوابّه حبس(٢) ، وعبيده أحرار، والمسلمون في حلّ من بيعته. فاشتد ذلك على المنصور جدّا وخاصة أمر البيعة، وكتب إلى سفيان بن معاوية المهلّبي وهو أمير البصرة من قبله بقتله، فقتله.

وكان ابن المقفع مع قلّة دينه جيّد الكلام، فصيح العبارة، له حكم وأمثال مستفادة؛ من ذلك ما روي من أن يحيى بن زياد الحارثي كتب إليه يلتمس معاقدة الإخاء والاجتماع على المودّة والصفاء، فأخّر جوابه، فكتب إليه كتابا آخر يسترثيه، فكتب إليه عبد الله:

إنّ الإخاء رقّ؛ فكرهت أن أملّكك رقّي قبل أن أعرف حسن ملكتك.

وكان يقول: (ذلّل نفسك بالصبر على الجار السوء، والعشير السوء، والجليس السوء، فإنّ ذلك لا يكاد يخطئك).

وكان يقول: (إذا نزل بك أمر مهمّ فانظر؛ فإن كان ممّا له حيلة فلا تعجز، وإن كان مما لا حيلة فيه فلا تجزع).

ودعاه عيسى بن عليّ إلى الغداء فقال: (أعزّ الله الأمير! لست يومي هذا للكرام بأكيل)، قال: ولم؟ قال: (لأنّي مزكوم والزّكمة قبيحة الجوار، مانعة من عشرة الأحرار).

وكتب إلى بعض إخوانه: (أمّا بعد، فتعلّم العلم ممّن هو أعلم به منك، وعلّمه من

____________________

(١ - ١) حاشية الأصل (من نسخة): (فإن عقل الخليل أداه إلى أن مات أزهد الناس).

(٢) الحبس، بالضم: ما وقف؛ وهو جمع الحبيس؛ وفي الحديث: (ذلك حبيس في سبيل الله)، أي موقوف على الغزاة، يركبونه في الجهاد.

١٦٥

أنت أعلم به منه، فإنك إذا فعلت ذلك علمت ما جهلت، وحفظت ما علمت).

وقال لبعض الكتّاب: (إياك والتتبّع لوحشي الكلام طمعا في نيل البلاغة، فإن ذلك هو العي الأكبر).

وقال لآخر: (عليك بما سهل من الألفاظ؛ مع التجنّب لألفاظ السّفلة).

وقيل له: ما البلاغة؟ فقال: (التي إذا سمعها الجاهل ظنّ أنه يحسن مثلها).

وقال: (لا تحدّث من تخاف تكذيبه، ولا تسأل من تخاف منعه، ولا تعد بما لا تقدر على(١) إنجازه، ولا تضمن ما لا تثق بالقدرة عليه، ولا ترج ما تعنّف برجائه، ولا تقدم(٢) على ما تخاف العجز عنه).

وقال لبعض إخوانه: (إذا صاحبت ملكا فاعلم أنّهم قد ينسبون إلى قلة الوفاء، فلا تشعرنّ قلبك استبطاءه، فإنه لم يشعر أحد قلبه إلاّ ظهر على لسانه إن كان سخيفا(٣) ، وعلى وجهه إن كان حليما).

وكان يقول: (إنّ مما سخّى بنفس العالم عن الدنيا علمه بأن الأرزاق لم تقسم فيها على قدر الأخطار)(٤) .

***

[أخبار ابن أبي العوجاء]

فأما ابن أبي العوجاء فقد ذكرنا ما روى من اعترافه بدسّه في أحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أحاديث مكذوبة. وروي أنه رأى عدلا قد كتب عليه آية الكرسي فقال لصاحبه:

لم كتبت هذا عليه؟ فقال: لئلا يسرق، فقال: قد رأينا مصحفا سرق!.

ولبشّار فيه:

قل لعبد الكريم ياابن أبي العو

جاء بعت الإسلام بالكفر موقا(٥)

____________________

(١) ش: (ولا تعد ما لا تقدر عليه).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (لا تتقدم).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (سفيها).

(٤) توفي ابن المقفع سنة ١٤٢، وانظر ترجمته وأخباره في كتاب أمراء البيان (١: ٩٩ - ١٢٩).

(٥) الأبيات في الأغاني (٣: ٢٥)، والموق: الحمق في غباوة.

١٦٦

لا تصلّي ولا تصوم فإن صم

ت فبعض النّهار صوما رقيقا(١)

لا تبالي إذا أصبت من الخم

ر عتيقا ألاّ تكون عتيقا

ليت شعري غداة حلّيت في الجن

د حنيفا حلّيت أم زنديقا(٢)

***

[أخبار بشّار بن برد]

فأمّا بشّار بن برد فروى المازني قال: قال رجل لبشّار: أتأكل اللحم وهو مباين لديانتك؟ - يذهب إلى أنّه ثنوي(٣) - فقال بشار: إنّ هذا اللحم يدفع عنّي شرّ هذه الظلمة.

قال المبرّد: ويروى أنّ بشارا كان يتعصّب للنار على الأرض، ويصوّب رأي إبليس في الامتناع عن السجود، وروي له:

النّار مشرقة والأرض مظلمة

والنّار معبودة مذ كانت النّار

وروى بعض أصحابه قال: كنا إذا حضرت الصلاة نقوم إليها، ويقعد بشار، فنجعل حول ثيابه(٤) ترابا؛ لننظر: هل يصلّي، فنعود والتراب بحاله ولم يقم إلى الصّلاة.

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدّثني علي بن عبد الله الفارسي قال: أخبرني أبي قال: حدّثني ابن مهرويه عن أحمد بن خلاّد قال: حدثني أبي قال: كنت أكلّم بشارا وأردّ عليه سوء مذهبه بميله إلى الإلحاد، فكان يقول: لا أعرف إلا ما عاينت أو عاينه معاين؛ وكان الكلام يطول بيننا، فقال لي: ما أظنّ الأمر(٥) ياأبا مخلد إلا كما يقال: إنه خذلان؛ ولذلك أقول:

____________________

(١): ت، وحاشية الأصل (من نسخة): (رفيقا).

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (المحلى: العارض للجيش، أي أن العارض إذا كتب اسمه كتبه مسلما أو زنديقا).

(٣) الثنوية: فرقة من الكفرة تزعم باثنينية الإله؛ إله للخير وهو النور، وإله للشر وهو الظلمة، وانظر (الملل والنحل للشهرستاني ١٤٣، وكشاف اصطلاحات الفنون ١: ١٩٨ - ١٩٩).

(٤) ت، وحاشية الأصل (من نسخة) (حوالي ثوبه).

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (ما أظن ما الأمر ).

١٦٧

طبعت على ما في غير مخيّر

هواي ولو خيّرت كنت المهذّبا

أريد فلا أعطى وأعطى ولم أرد

وغيّب عنّي أن أنال المغيّبا

وأصرف عن قصدي وعلمي مبصر

فأمسي وما أعقبت إلاّ التّعجّبا

قال الجاحظ: كان بشّار صديقا لواصل بن عطاء الغزّال قبل أن يظهر مذاهبه المكروهة، وكان بشّار مدح واصل بن عطاء، وذكر خطبته التي نزع منها الراء(١) ، وكانت على البديهة فقال:

تكلّف القول والأقوام قد حفلوا

وحبّروا خطبا ناهيك من خطب!

فقام مرتجلا تغلي بداهته

كمرجل القين لما حفّ باللهب(٢)

وجانب الرّاء لم يشعر به أحد

قبل التّصفّح والإغراق في الطّلب

ومثل ذلك قول بعضهم في واصل بن عطاء:

ويجعل البرّ قمحا في تكلّمه

وجانب الرّاء حتّى احتال للشّعر

ولم يقل مطرا والقول يعجله

فعاذ بالغيث إشفاقا من المطر

فلما أظهر بشار مذاهبه هتف(٣) به واصل، وقام بذكره وتكفيره وقعد، فقال بشار فيه:

ما لي أشايع غزّالا له عنق

كنقنق الدّوّ إن ولى وإن مثلا(٤)

عنق الزّرافة ما بالي وبالكم

تكفّرون رجالا أكفروا رجلا(٥)

____________________

(١) نشرها الأستاذ عبد السلام هارون في المجموعة الثانية من نوادر المخطوطات.

(٢) حاشية الأصل: (من نسخة): (فقال مرتجلا)؛ والقين في الأصل: الحداد؛ ثم قيل لكل عامل بالنار: قين، وأراد بالقين هاهنا الصباغ).

(٣) هتف به: فضحه، والهتاف في الأصل الصياح.

(٤) النقنق بكسر النونين: ذكر النعام، والدو والدوية والداوية: الفلاة.

(٥) حواشي الأصل، ت، ف: (عنق، نصب على الذم؛ شبه واصلا بالزرافة، والزرافة: الحيوان المعروف، وعنقه أصحابه؛ يقال: هم إليه عنق؛ أي متتابعون).

١٦٨

فلما تتابع على واصل ما يشهد بإلحاده قال عند ذلك: أما لهذا الأعمى الملحد! أما لهذا المشنّف المكتنى(١) بأبي معاذ من يقتله! أما والله لولا أنّ الغيلة سجية من سجايا الغالية لدسست إليه من ييعج بطنه في جوف منزله على مضجعه، أو في يوم حفله، ثم كان لا يتولّى ذلك إلاّ عقيلي أو سدوسي، فعدل واصل بن عطاء من الضّرير إلى الأعمى، ومن الكافر إلى الملحد، ومن المرعّث إلى المشنّف، ومن بشّار إلى أبي معاذ، ومن الفراش إلى المضجع وزاد قوم فقالوا: ومن أرسلت إلى دسست، ومن يبقر إلى يبعج، ومن داره إلى منزله، ومن المغيريّة(٢) إلى الغالية، والأول أشبه بأن يكون مقصودا، وما ذكرت(٣) ثانيا قد يتّفق استعماله من غير عدول عن استعمال الراء.

فأما قوله: (لا يتولّى ذلك إلا عقيلي(٤) أو سدوسي)(٤) فلأن بشارا كان مولى لهم، وذكره بني سدوس لأن بشارا كان ينزل فيهم. فأما لقب بشّار بالمرعّث فقد قيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه لقّب بذلك لبيت قاله وهو:

قال ريم مرعّث

فاتر الطّرف والنّظر

لست والله قاتلي(٥)

قلت أو يغلب القدر

والقول الثاني أنّه كان لبشّار ثوب له جيبان: أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، فكان إذا أراد لبسه يضمّه عليه ضمّا، من غير أن يدخل رأسه فيه، فشبّه استرسال الجيبين وتدلّيهما بالرّعاث، وهي القرطة، فقيل: المرعّث، وقال أبو عبيدة: إنّما سمّي المرعّث لأنه كان يلبس في صباه رعاثا، وهذا هو القول الثالث.

وكان بشّار مقدما في الشعر جدا حتى إن كثيرا من الرّواة يلحقه بمن تقدّم عصره عليه

____________________

(١) ت، د، حاشية الأصل (من نسخة): (المكنى).

(٢) المغيرية: فرقة من غلاة الشيعة، أصحاب المغيرة بن سعيد العجلي، وكان مولى لخالد بن عبد الله القسري، وادعى النبوة لنفسه. (وانظر مفاتيح العلوم ٢٠، والفرق بين الفرق ٢٢٩).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (وما ذكر).

(٤ - ٤) ساقط من م.

(٥) ت، ج، ش: (نائلي).

١٦٩

من المجوّدين. وأخبرنا المرزباني عن محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا محمد بن الحسين اليشكريّ(١) قال: قيل لأبي حاتم: من أشعر الناس؟ قال الّذي يقول:

ولها مبسم كغرّ الأقاحي

وحديث كالوشي وشي البرود

نزلت في السّواد من حبّة القل

ب ونالت زيادة المستزيد

عندها الصّبر عن لقائي وعندي

زفرات يأكلن صبر الجليد

- يعني بشارا؛ قال: وكان يقدّمه على جميع الناس، ولما قال بشار:

بني أميّة هبّوا طال نومكم

إنّ الخليفة يعقوب بن داود(٢)

ضاعت خلافتكم ياقوم فالتمسوا

خليفة الله بين الزّقّ والعود(٣)

فبلغ ذلك المهدي فوجد عليه، وكان ذلك سبب قتله(٤) .

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي ت، ف: (محمد الحسن السكري).

(٢) هو أبو عبد الله يعقوب بن داود وزير المهدي، (وانظر أخباره وتفصيل أسباب قتله، في الفخري ١٦٠ - ١٦٣).

(٣) ت، ج، د، ف: (الناي والعود).

(٤) حواشي الأصل، ت، ف: (كان حماد عجرد قال في بشار:

له مقلة عمياء واست بصيرة

إلى الأير من تحت الثّياب تشير

فقال بشار: - وكتب بها إلى العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان حماد يعلم ولده:

ياأبا الفضل لا تنم

وقع الذّئب في الغنم

إنّ حمّاد عجرد

إن رأى سوءة هجم

بين فخذيه حربة

في غلاف من الأدم

كلّما غبت ساعة

مجمج الميم بالقلم

فقال العباس: ما لي ولبشار! اصرفوا حمادا عني، فقال حماد: لقد فرق بيني وبين رزقي بشعره، وسوف أفرق بينه وبين حياته بشعر أقوله، فقال:

بني أميّة هبّوا طال نومكم

إنّ الخليفة يعقوب بن داود

ضاعت خلافتكم ياقوم فالتمسوا

خليفة الله بين الزّقّ والعود

ونسبهما إلى بشار، فبلغ ذلك المهدي فقتله (وكان مقتل بشار سنة ١٦٧. (وانظر ترجمته ومراجعها في الشعر والشعراء: ٧٣٣ - ٧٣٦).

١٧٠

[١٠]

مجلس آخر [المجلس العاشر:]

[أخبار مطيع بن إياس:]

فأما مطيع بن إياس الكناني(١) فأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني عن عليّ بن هارون عن عمه يحيى بن عليّ عن أبي أيوب المدني عن أحمد بن إبراهيم الكاتب قال أخبرني أبي قال: رأيت بنتا لمطيع بن إياس قد أتى بها في أول أيام الرشيد، فأقرّت بالزّندقة وقراءتها وتابت، وقالت: هذا شيء علمنيه أبي، فقبل الرشيد توبتها، وردها إلى أهلها.

وقال محمد بن داود بن الجراح في أخبار مطيع بن إياس أنه كان يرمى بالزّندقة، وروي أنه لما حضرته الوفاة أحاط به أهل بيته، فأقبلوا يقولون له: قل يامطيع: لا إله إلا الله، فلا يقول حتى إذا صارت نفسه في(٢) ثغرته كرّ يتنفس(٢) ، ثم أهوى إلى الكلام، فقالوا له:

قل لا إله إلا الله، فتكلم كلاما ضعيفا فتسمّعوا له، فإذا هو يقول:

لهف نفسي على الزّمان وفي

أي زمان دهتني الأزمان

حين جاء الرّبيع واستقبل الصّي

ف وطاب الطّلاء والريحان(٣)

قال المرزباني: وهذا الحديث يرويه(٤) الهيثم بن عدي ليحيى بن زياد.

***

[أخبار يحيى بن زياد الحارثي:]

فأما يحيى بن زياد الحارثي(٥) فهو يحيى بن زياد بن عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان

____________________

(١) انظر مطيع بن إياس وأخباره في (الأغاني ١٢ - ٧٥ - ١٠٥).

(٢) ت، د، ف: (ثغرته تنفس)، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (في ثغرة نحره تنفس). ط: (في ثغراته تنفس).

(٣) الطلاء: الخمر.

(٤) حاشية ت (من نسخة): (رواه).

(٥) انظر يحيى بن زياد في (معجم الشعراء للمرزباني ٤٩٧ - ٤٩٨).

١٧١

ابن الديان الحارثي الكوفي. وزياد بن عبيد الله هو خال أبي العباس السّفاح، ويكنى يحيى أبا الفضل، وكان يعرف بالزّنديق: وكانوا إذا وصفوا إنسانا بالظّرف قالوا: هو أظرف من الزّنديق - يعنون يحيى - لأنه كان ظريفا، وهذا المعنى قصد أبو نواس بقوله:

* تيه مغنّ وظرف زنديق*(١)

قال الصولي: وإنما قال ذلك لأن الزّنديق لا يرع عن شيء(٢) ولا يمتنع ممّن يدعى(٣) إليه، فنسبه إلى الظّرف لمساعدته على كل شيء، وقلة خلافه.

وروي أنه قيل ليحيى بن زياد - وهو يجود بنفسه - قل: لا إله إلا الله، فقال:

* لم يبق إلاّ الغبط والجلاجل(٤) *

ثم أغمى عليه، فلما أفاق أعيد عليه القول فقال:

* وبازل تغلي به المراجل*(٥)

وروى محمد بن يزيد قال: قال مطيع بن إياس يرثي يحيى بن زياد - وكانا جميعا مرميّين بالخروج عن الملة:

يا أهل بكّوا لقلبي القرح

وللدّموع الهوامل السّفح(٦)

راحوا بيحيى إلى مغيّبة

في القبر بين التّراب والصّفح(٧)

____________________

(١) ديوانه: ٨٩، وصدره:

* وصيف كأس محدّثه ملك*

(٢) في حاشيتي ت، ف: (يقال: ورع يرع ورعا، ورعة، فهو ورع؛ أي تقي).

(٣) م: (لا يدع شيئا).

(٤) ت، ش، ف: (والخلاخل)، د: (القرط والخلاخل). والغبيط: الرحل؛ وهو للنساء يشد على الهودج. وفي حاشيتي الأصل: (الغبيط: قنب يأخذ جميع ظهر البعير).

(٥) البازل: البعير إذا كان في التاسعة؛ سمي بذلك لأنه يبزل نابه؛ أي ينشق.

(٦) ت، ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (السواكب).

(٧) الصفح: جمع صفيحة؛ وهي الحجارة العراض.

١٧٢

راحوا بيحيى ولو تساعدني ال

أقدار لم يبتكر ولم يرح(١)

ياخير من يحسن البكاء له ال

يوم ومن كان أمس للمدح

قد ظفر الحزن بالسّرور وقد

أديل مكروهنا من الفرح

ولمطيع يرثيه:

انظر إلى الموت كيف بادهه

والموت مقدامة على البهم(٢)

لو قد تدبّرت ما صنعت به

قرعت سنّا عليه من ندم

فاذهب بمن شئت إذ ذهبت به

ما بعد يحيى للرّزء من ألم

***

[أخبار صالح بن عبد القدّوس:]

وأمّا صالح بن عبد القدّوس فكان متظاهرا بمذاهب الثّنوية، ويقال إن أبا الهذيل العلاّف ناظره فقطعه، ثم قال له: على أي شيء تعزم ياصالح؟ فقال: أستخير الله وأقول بالاثنين، فقال أبو الهذيل: فأيهما استخرت لا أمّ لك!!

وروي أنّ أبا الهذيل ناظره في مسألة مشهورة في الامتزاج الّذي ادّعوه بين النور والظلمة فأقام عليه الحجة فانقطع، وأنشأ يقول:

أبا الهذيل هداك الله يارجل

فأنت حقّا لعمري معضل جدل

وروي أنّه رؤي يصلي صلاة تامة الرّكوع والسجود، فقيل له: ما هذا ومذهبك معروف! قال: سنّة البلد، وعادة الجسد، وسلامة الأهل والولد.

ويقال إنّه لما أراد المهدي قتله على الزندقة دحا إليه بكتاب وقال له: اقرأ هذا، قال:

وما هو؟ قال: كتاب الزّندقة، قال صالح: أو تعرفه أنت ياأمير المؤمنين إذا قرأته؟ قال:

لا، قال: أفتقتلني على ما لا تعرف! قال: فإني أعرفه، قال صالح: فقد عرفته ولست بزنديق؛ وكذلك أقرؤه ولست بزنديق

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (لم تبتكر ولم ترح).

(٢) البهم: جمع بهمة؛ وهو الشجاع.

١٧٣

وذكر محمد بن يزيد المبرّد قال: ذكر بعض الرواة أنّ صالحا لما نوظر فيما قذف به من الزندقة بحضرة المهدي قال له المهدي: ألست القائل في حفظك ما أنت عليه:

ربّ سرّ كتمته فكأنّي

أخرس أو ثنى لساني خبل

ولو أنّي أبديت للنّاس علمي

لم يكن لي في غير حبسي أكل

قال صالح: فإني أتوب وأرجع، فقال له المهدي: هيهات! ألست القائل:

والشّيخ لا يترك أخلاقه

حتّى يوارى في ثرى رمسه

إذا ارعوى عاوده جهله(١)

كذي الضّنى عاد إلى نكسه(٢)

ثم قدّم فقتل، ويقال إنه صلبه على الجسر ببغداذ.

ومن شعره(٣) وهو في الحبس:

خرجنا من الدّنيا ونحن من أهلها

فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى

إذا دخل السّجّان يوما لحاجة

عجبنا وقلنا جاء هذا من الدّنيا

ونفرح بالرّؤيا فجلّ حديثنا

إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرّؤيا(٤)

____________________

(١) ف، حاشية ت (من نسخة): (عاد إلى جهله).

(٢) حاشية الأصل: (عاد إلى نكسه؛ أي عاد إلى غيه رجوع الناقة من المرض).

(٣) وردت هذه المقطوعة في إنباه الرواة ١: ٦٢، ومعجم الأدباء ٣: ١٥٥، منسوبة إلى صالح ابن عبد القدوس، وفي المحاسن والأضداد ٤٥ - ٤٦ منسوبة إلى عبد الله بن معاوية، وفي عيون الأخبار ١: ٨١ - ٨٢، من غير عزو، وورد منها البيت الأول والثاني في رسالة الغفران ١٤٢ منسوبين لولد صالح، وفي مقدمة اللزوميات: ٢٧ منسوبين لرجل كان في السجن على عهد ملوك بني العباس، يقال إنه من ولد صالح بن عبد القدوس، ومطلعها:

إلى الله أشكو إنّه موضع الشّكوى

وفي يده كشف المضرّة والبلوى

(٤) حواشي الأصل، ت، ف: (هذا المعنى للأحنف العكبري وإن كان قريب اللفظ:

وأعلم في المنام بكلّ خير

فأصبح لا أراه ولا يراني

وإن أبصرت شرّا في منامي

لقيت الشّرّ من قبل الأذان

١٧٤

فإن حسنت لم تأت عجلى وأبطأت

وإن قبحت لم تحتبس وأتت عجلى

طوى دوننا الأخبار سجن ممنّع

له حارس تهدا العيون ولا يهدا

قبرنا ولم ندفن فنحن بمعزل

من النّاس لا نخشى، فنغشى ولا نغشى

ألا أحد يأوي لأهل محلّة

مقيمين في الدّنيا وقد فارقوا الدّنيا

قال سيدنا الشريف المرتضى ذو المجدين أدام الله علوّه: وأظنّ أن ابن الجهم لحظ قول صالح: (فنغشى ولا نغشى(١) ) في قوله يصف الحبس:

بيت يجدّد للكريم كرامة

ويزار فيه ولا يزور ويحفد(٢)

***

[أخبار علي بن الخليل:]

وأما عليّ بن الخليل فذكر محمد بن داود قال: كان عليّ بن الخليل - وهو مولى يزيد بن مزيد الشّيباني، ويكنى أبا الحسن، وهو كوفي - متّهما بالزّندقة، فطلبه الرشيد عند قتله الزنادقة، فاستتر طويلا، ثم قصد الرّقة(٣) وبها الرشيد، فمدحه ومدح الفضل بن الربيع.

وروي(٤) أنّه لما قعد الرشيد للمظالم بالرّقة حضر شيخ حسن الهيئة، حسن الخضاب، معه قصيدة، فأشار بها، فأمر الرشيد بأخذها منه، فقال: ياأمير المؤمنين، أنا أحسن قراءة لها من غيري، فأذن لي في قراءتها، ففعل، فقال: إني شيخ كبير، ولا آمن

____________________

(١) حواشي الأصل، ت، ف: (حمله السيدرضي‌الله‌عنه على أن قوله: (فغشى ) كلام مستأنف، وأن الغشيان واقع، والبيت الّذي ذكر أنه نظر إليه يدل على ذلك؛ ومراد الشاعر غير هذا والله أعلم؛ وهو أن يكون (تغشى) منصوبا بإضمار أن بعد الفاء التي تجيء بعد النفي، ويكون غشيان الناس إياهم منفيا).

(٢) يحفد: يخدم، وفي م: (يحمد)، والبيت من قصيدة قالها في الحبس حين حبسه المتوكل؛ وهي في ديوانه ص ٤٥، والمحاسن والأضداد ٤٣، وأولها:

قالت حبست فقلت ليس بضائري

حبسي وأي مهنّد لا يغمد

(٣) الرقة: مدينة مشهورة على الجانب الأيسر للفرات بولاية حلب؛ وهي وطن ربيعة الرقي الشاعر المشهور.

(٤) الخبر في (الأغاني ١٣: ١٣ - ١٤).

١٧٥

الاضطراب إذا قمت، فإن رأيت أن تأذن لي في الجلوس فعلت، فقال: اجلس، فجلس، ثم أنشأ يقول:

ياخير من وخدت بأرحله

نجب الرّكاب بمهمه جلس(١)

تطوى السّباسب في أزمّتها

طي التّجار عمائم البرس(٢)

لما رأتك الشّمس طالعة

سجدت لوجهك طلعة الشّمس

خير الخلائف(٣) أنت كلّهم

في يومك الماضي وفي أمس

وكذاك لا تنفكّ خيرهم

تمسي وتصبح فوق ما تمسي

من عصبة طابت أرومتها

أهل العفاف ومنتهى القدس

فوق النّجوم فروع نبعتهم

ومع الحضيض منابت الغرس

إنّي رحلت إليك من فزع

كان التّوكّل عنده ترسي

ما ذاك إلاّ أنّني رجل

أصبو إلى بقر من الإنس

بقر أوانس لا قرون لها

يقتلن بالتّطويل والحبس

وأجاذب الفتيان بينهم

صهباء مثل مجاجة الورس

للماء في حافاتها حبب

نظم كطي صحائف الفرس(٤)

والله يعلم في بنيّته

ما إن أضعت إقامة الخمس

فقال له هارون: من أنت؟ قال: عليّ بن الخليل الّذي يقال إنه زنديق، قال: أنت آمن، وكتب إلى حمدويه ألاّ يعرض له.

ومن تركنا ذكره من هؤلاء أكثر ممن ذكرناه، وإنما اعتمدنا من كان بهذه البليّة

____________________

(١) وخدت: أسرعت، ونجب: جمع نجيب، وهو وصف للناقة الخفيفة السريعة، والمهمّة: البلد الفقر، والجلس: الغليظ من الأرض.

(٢) السباسب: جمع سبسب؛ وهي الفلاة، والتجار: جمع تجر، وتجر: جمع تاجر؛ كقولهم:

صاحب وصحب وصحاب، والبرس: القطن.

(٣) م: (الخلائق).

(٤) حاشية الأصل: (ذكر س: الحباب طرائق الماء، والحبب ما يعلو المائعات من النفاخات).

١٧٦

أشهر، وأمره فيها أظهر، وأوردنا مع ذلك قليلا من كثير، وجملة من تفصيل.

***

[الكلام على أن أصول مذهب أهل العدل مأخوذة من كلام علي بن أبي طالب:]

وإذ قد ذكرنا جملة من أخبار أهل الضلالة، والمنقادين للجهالة، حسب ما سئلنا، فنحن نتبعها بشيء من أخبار أهل التوحيد والعدل، وملح حكاياتهم، ومستحسن ألفاظهم، ليعلم الفرق بين من ربحت بيعته، وبين من خسرت صفقته، فقد سألنا أيضا ذلك.

اعلم أن أصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - وخطبه، فإنها تتضمّن من ذلك ما لا زيادة عليه، ولا غاية وراءه، ومن تأمل المأثور في ذلك من كلامه علم أنّ جميع ما أسهب المتكلمون من بعد في تصنيفه وجمعه، إنما هو تفصيل لتلك الجمل، وشرح لتلك الأصول، وروي عن الأئمة من أبنائهعليهم‌السلام من ذلك ما يكاد لا يحاط به كثرة، ومن أحب الوقوف عليه، وطلبه من مظانه أصاب منه الكثير الغزير، الّذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة، ونتاج للعقول العقيمة؛ ونحن نقدّم على ما نريد ذكره شيئا مما روي عنهم في هذا الباب.

[فقر من كلام علي بن أبي طالب والأئمة من أبنائه]

فمن ذلك ما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام (١) وهو يصف الله تعالى: (بمضادّته(٢) بين الأشياء علم أن لا ضدّ له، وبمقارنته بين الأمور علم أن لا قرين له، ضادّ النور بالظلمة، والخشونة باللين، واليبوسة بالبلل، والصّرد(٣) بالحرور؛ مؤلّف بين متعادياتها(٤) ، مفرّق بين متدانياتها).

____________________

(١) ت: (عليه‌السلام أنه قال وهو يصف ).

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (أي بنصب المضادة بين الضدين يستدل على أن لا ضد له؛ لأن من يقدر على ذلك لا بد أن يكون متوحدا بصفات الجلال، التي تحيل أن يكون للموصوف بها ضد).

(٣) في حاشيتي ت، ف: (الصرد: البرد؛ وهو فارسي معرب، يقال: يوم صرد وصرد [بسكون الراء وفتحها]، وصرد الرجل [بكسر الراء] يصرد صردا [بفتحها]).

(٤) ف، ونسخة بحاشيتي الأصل، ف: (متباعداتها).

١٧٧

وروي عنهعليه‌السلام أنه سئل: بم عرفت ربك؟ فقال: بما عرّفني به، قيل: وكيف عرّفك؟ فقال: (لا تشبهه صورة، ولا يحسّ بالحواسّ الخمس، ولا يقاس بقياس الناس). وقيل لهعليه‌السلام : كيف يحاسب الله الخلق؟ فقال: كما يرزقهم، فقيل: كيف يحاسبهم ولا يرونه؟

فقال؛ كما يرزقهم ولا يرونه.

وسأله رجل فقال: أين كان ربّك قبل أن يخلق السماء والأرض؟ فقالعليه‌السلام :

أين سؤال عن مكان، وكان الله ولا مكان.

وروي عن أبي عبد الله الصّادق(١) عليه‌السلام أنه سأله محمد الحلبي فقال له: هل رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ربّه؟ قال: نعم رآه بقلبه، فأما ربّنا جلّ جلاله فلا تدركه أبصار الناظرين، ولا تحيط به أسماع السامعين.

وروى صفوان بن يحيى قال: دخل أبو قرّة المحدّث على أبي الحسن الرّضا(٢) عليه‌السلام فسأله(٣) عن أشياء من الحلال والحرام والأحكام والفرائض، حتى بلغ إلى التوحيد، فقال له أبو قرّة: إنا روينا أن الله تعالى قسم الكلام والرؤية، فقسم لموسى الكلام، ولمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الرؤية، فقال الرّضاعليه‌السلام : فمن المبلّغ عن الله تعالى إلى الثّقلين: الجنّ والإنس أنه لا تدركه الأبصار، ولا يحيطون به علما، وليس كمثله شيء؟ أليس محمدعليه‌السلام نبيا صادقا؟

قال: بلى، قال: فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله تعالى يدعوهم إليه بأمره، ويقول: لا تدركه الأبصار، ولا يحيطون به علما، وليس كمثله شيء، ثم يقول:

____________________

(١) هو الإمام ابو عبد الله جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، ولد بالمدينة سنة ٨٠، وروى عن أبيه وجده القاسم وطبقتهما، وقد ألف تلميذه جابر بن حيات الصوفي كتابا في ألف ورقة يتضمن رسائله؛ وتوفي سنة ١٤٨، ودفن بالبقيع؛ (شذرات الذهب ١: ٢٢٠).

(٢) هو الإمام أبو الحسن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، ثامن الأئمة الاثنى عشر، توفي بطوس سنة ٢٠٤، وصلى عليه المأمون؛ ودفن بجانب الرشيد. (شذرات الذهب ٢: ٦).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (فساء له).

١٧٨

سأراه بعيني وأحيط به علما؛ أما تستحيون ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي عن الله تعالى بشيء، ثم يأتي بخلافه من وجه آخر! قال أبو قرّة: فإنه يقول:( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ) ؛ [النجم: ١٣، ١٤]، فقالعليه‌السلام : ما بعد هذه الآية يدلّ على ما رأى؛ حيث يقول:( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ) ؛ [النجم: ١١]، يقول ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه، ثم أخبر بما رأى، فقال:( لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) ؛ [النجم: ١٨]، وآيات الله غير الله، وقد قال الله تعالى:( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) ؛ [طه: ١١٠]، فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم. فقال أبو قرّة: فأكذّب بالرؤية؟ فقال الرضاعليه‌السلام : إذن القرآن كذّبها، وما أجمع عليه المسلمون أنه لا يحاط به علما، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شيء.

وأتى أعرابي أبا جعفر محمد بن عليّعليهما‌السلام (١) فقال له: هل رأيت ربّك حين(٢) عبدته؟ فقال: لم أكن لأعبد شيئا لم أره، فقال: كيف رأيته؟ فقال: لم تره الأبصار بمشاهدة العيان، بل رأته القلوب بحقائق الإيمان؛ لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالنّاس، معروف بالآيات، منعوت بالعلامات، لا يجور في قضيّته؛ هو الله الّذي لا إله إلا هو. فقال الأعرابي: الله أعلم حيث يجعل رسالاته!

وروي أنّ شيخا حضر صفّين مع أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال له: أخبرنا ياأمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام، أكان بقضاء من الله تعالى وقدر؟ قال له: نعم ياأخا أهل الشام، والّذي فلق الحبّة، وبرأ النّسمة، ما وطئنا موطئنا، ولا هبطنا واديا، ولا علونا تلعة إلا بقضاء من الله وقدر، فقال الشامي: عند الله أحتسب عنائي ياأمير المؤمنين، وما أظنّ أن لي أجرا في سعيي إذ كان الله قضاه عليّ وقدّره! فقال لهعليه‌السلام : إن الله قد أعظم

____________________

(١) هو الإمام أبو جعفر محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم؛ أحد الأئمة الاثنى عشر؛ توفي ببغداد سنة ٢٢٠؛ (شذرات الذهب ٢: ٤٨).

(٢) ش: (حتى).

١٧٩

لكم الأجر على مسيركم وأنتم سائرون، وعلى مقامكم وأنتم مقيمون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين، ولا إليها مضطرين، ولا عليها مجبرين.

فقال الشامي: وكيف ذاك والقضاء والقدر ساقانا، وعنهما كان مسيرنا وانصرافنا؟

فقال لهعليه‌السلام : ياأخا أهل الشام، لعلّك ظننت قضاء لازما، وقدرا حتما؛ لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، والأمر من الله والنهي، وما كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المسيء، والمسيء أولى بعقوبة الذنب من المحسن؛ تلك مقالة عبدة الأوثان، وحزب الشيطان، وخصماء الرحمن، وشهداء الزور، وقدريّة هذه الأمة ومجوسها؛ إنّ الله أمر عباده تخييرا، ونهاهم تحذيرا، وكلّف يسيرا، وأعطى على القليل كثيرا، ولم يطع مكرها، ولم يعص مغلوبا، ولم يكلّف عسيرا، ولم يرسل الأنبياء لعبا، ولم ينزّل الكتب إلى عباده عبثا، ولا خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا؛ ذلك ظنّ الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار!

قال الشامي: فما القضاء والقدر الّذي كان مسيرنا بهما وعنهما؟ قال: الأمر من الله بذلك والحكم، ثم تلا:( وَكانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَقْدُوراً ) ؛ [الأحزاب: ٣٨]، فقام الشامي فرحا مسرورا لما سمع هذا المقال، وقال: فرّجت عني فرّج الله عنك ياأمير المؤمنين، وأنشأ يقول:

أنت الإمام الّذي نرجو بطاعته

يوم الحساب من الرّحمن غفرانا(١)

أوضحت من أمرنا(٢) ما كان ملتبسا

جزاك ربّك بالإحسان إحسانا(٣)

وروي أنّ أبا حنيفة النعمان بن ثابت قال: دخلت المدينة، فرأيت أبا عبد الله [جعفر ابن عليّ](٤) عليه‌السلام ، فسلّمت عليه، وخرجت من عنده، فرأيت(٥) ابنه موسى(٦) عليه‌السلام

____________________

(١) حاشية ف: (في رواية* يوم النشور من الرحمن رضوانا*).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أوضحت من ديننا).

(٣) حاشية ف: (في رواية:* جزاك ربك عنا فيه إحسانا*).

(٤) تكملة من ت.

(٥) ت، ش: (فأتيت).

(٦) هو المعروف بموسى الكاظم، أحد الأئمة الاثنى عشر؛ توفي سنة ١٨٣؛ (شذرات الذهب ١: ٣٠٤)

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397