الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٨

الغدير في الكتاب والسنة والأدب10%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 397

الجزء ١ المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 145912 / تحميل: 7049
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

يسجد الأُخرى كما وصفت، ثمَّ يقوم حتّى يفعل ذلك في كلِّ ركعة، ويجلس في الرابعة ويتشهَّد ويصلّي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ويسلّم تسليمه يقول: السَّلام عليكم، فإذا فعل ذلك أجزأته صلاته وضيّع حظَّ نفسه فيما ترك، وإن كان يحسن أُمّ القرآن فيحمد الله ويكبّره مكان أُمّ القرآن لا يجزئه غيره، وإن كان يحسن غير أُمِّ القرآن قرأ بقدرها سبع آيات لا يجزئه دون ذلك، فإن ترك من أُمِّ القرآن حرفاً وهو في الركعة رجع إليه وأتمَّها، وإن لم يذكر حتّى خرج من الصَّلاة وتطاول ذلك أعاد.

وقال في كتاب «الأمّ» ١: ٢١٧: إنَّ مَن ترك أُمَّ القرآن في ركعة من صلاة الكسوف في القيام الأوَّل أو القيام الثاني لم يعتدّ بتلك الركعة، وصلّى ركعة أُخرى وسجد سجدتي السهو، كما إذا ترك أُمَّ القرآن في ركعة واحدة من صلاة المكتوبة لم يعتدّ بها.

(رأي مالك )

وقال إمام المالكية كما في المدوَّنة الكبرى ١: ٦٨: ليس العمل على قول عمر حين ترك القراءة(١) فقالوا له: إنَّك لم تقرأ؟ فقال: كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا حسنٌ. قال: فلا بأس إذن. وأرى أن يعيد من فعل هذا وإن ذهب الوقت. وقال في رجل ترك القراءة في ركعتين من الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة: لا تجزئه الصَّلاة و عليه أن يُعيد، ومن ترك القراءة في جلِّ ذلك أعاد، وإنْ قرأ في بعضها وترك في بعضها أعاد أيضاً، وإذا قرأ في ركعتين وترك القراءة في ركعتين، فإنه يعيد الصَّلاة من أيِّ الصَّلوات كانت.

وقال: من نسي قراءة أُمِّ القرآن حتّى قرأ سورة فإنَّه يرجع فيقرأ أُمَّ القرآن ثمَّ يقرأ سورة أيضاً بعد قراءته أُمِّ القرآن. وقال: لا يقضي قراءة نسيها من ركعة في ركعة أُخرى. وقال فيمن ترك أُمَّ القرآن في الركعتين وقد قرأ بغير أُمِّ القرآن: يعيد صلاته، وقال في رجل ترك القراءة في ركعة في الفريضة. يلغي تلك الركعة بسجدتيها ولا يعتدَّ بها.

____________________

١ - مرَّ حديثه في الجزء السادس صفحة ١٠٠ ط ١ و ١٠٨ ط ٢.

١٨١

(رأي الحنابلة)

قال ابن حزم في المحلّى ٣: ٢٣٦: وقراءة أُمِّ القرآن فرضٌ في كلِّ ركعة من كلِّ صلاة إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً، والفرض والتطوُّع سواءٌ، والرجال والنساء سواءٌ. ثمَّ ذكر جملة من أدلَّة المسألة.

وذكر في ص ٢٤٣ فعل عمر وما يعزى إلى عليِّ - وحاشا من ذلك - فقال: لا حجَّة في قول أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال في ص ٢٥٠: من نسي التعوّذ أو شيئاً من أُمِّ القرآن حتّى ركع أعاد متى ذكر فيها وسجد للسهو إن كان إماماً أو فذّاً، فإن كان مأموماً ألغى ما قد نسي إلى أن ذكر، وإذا أتمَّ الإمام قام يقضي ما كان ألغى ثمَّ سجد للسهو، ولقد ذكرنا برهان ذلك في من نسي فرضاً في صلاته فإنَّه يعيد ما لم يصلِّ كما أُمر، ويعيد ما صلّى كما أُمر. قال:

ومن كان لا يحفظ أُمَّ القرآن وقرأ ما أمكنه من القرآن إن كان يعلمه، لا حدَّ في ذلك وأجزأه، وليسع في تعلّم أُمِّ القرآن فإن عرف بعضها ولم يعرف البعض قرأ ما عرف منها فأجزأه، وليسع في تعلّم الباقي، فإن لم يحفظ شيئاً من القرآن صلّى كما هو يقوم ويذكر الله كما يحسن بلغته ويركع ويسجد حتّى يتمَّ صلاته ويجزيه، وليسع في تعلّم أُمِّ القرآن.

وقال الشوكاني في نيل الأوطار ٢: ٢٣٣: إختلف القائلون بتعيين الفاتحة في كلِّ ركعة هل تصحُّ صلاة من نسيها؟ فذهبت الشافعيَّة وأحمد بن حنبل إلى عدم الصحَّة وروى ابن القاسم عن مالك: إنَّه إن نسيها في ركعة من صلّى ركعتين فسدت صلاته، وإن نسيها في ركعة من صلّى ثلاثيَّة أو رباعيَّة فروي عنه إنَّه يعيدها ولا تجزئه، وروي عنه: إنَّه يسجد سجدتي السهو، وروي عنه: إنَّه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام، ومقتضى الشرطيَّة التي نبَّهناك على صلاحيّة الأحاديث للدلالة عليها: إنَّ الناسي يعيد الصَّلاة كمن صلّى بغير وضوء ناسياً. اه‍.

وأمّا أبو حنيفة إمام الحنفيَّة فإنَّ له في مسائل الصَّلاة آراءٌ ساقطةٌ تشبه أقوال المستهزأ بها وحسبك برهنةً صلاة القفال(١) ، وسنفصِّل القول في تلكم الآراء الشاذَّة

____________________

١ - ذكرها ابن خلكان في تاريخه في ترجمة السلطان محمود السبكتكين.

١٨٢

عن الكتاب والسنَّة، وقد اجتهد في المسألة تجاه تلكم النصوص قال الجصّاص في «أحكام القرآن» ١: ١٨: قال أصحابنا - الحنفيَّة - جميعاً رحمهم الله: يقرأ بفاتحة الكتاب وسورة في كلِّ ركعة من الأوليين، فإن ترك قراءة فاتحة الكتاب وقرأ غيرها فقد أساء وتجزيه صلاته. اهـ

قال ابن حجر في فتح الباري: إنَّ الحنفيَّة يقولون بوجوب قراءة الفاتحة لكن بنوا على قاعدتهم إنَّها مع الوجوب ليست شرطاً في صحَّة الصَّلاة لأنَّ وجوبها إنَّما ثبت بالسنَّة والذي لا تتمُّ الصَّلاة إلّا به فرضٌ والفرض عندهم لا يثبت بما يزيد على القرآن وقد قال تعالى:( فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ) . فالفرض قراءة ما تيسَّر، وتعيّن الفاتحة إنَّما يثبت بالحديث فيكون واجباً يأثم من يتركه وتجزئ الصّلاة بدونه، وهذا تأويلٌ على رأي فاسد، حاصله ردُّ كثير من السنَّة المطهَّرة بلا برهان ولا حجَّة نيِّرة، فكم موطن من المواطن يقول فيها الشارع: لا يجزئ كذا، لا يُقبل كذا، لا يصحُّ كذا، و يقول المتمسِّكون بهذا الرأي يُجزئ، ويُقبل، ويصحّ؛ ولمثل هذا حذَّر السلف من أهل الرأي. وذكره الشوكاني في نيل الأوطار ٢: ٢٣٠.

ونظراً إلى الأهميَّة الواردة في قراءة أُمِّ الكتاب في الصَّلوات كلِّها، وأخذاً بظاهر: لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب، ذهب مَن ذهب من القوم إلى وجوبها على المأموم أيضاً مطلقاً أو في الصَّلوات الجهريَّة؛ قال الترمذي في الصحيح ١: ٤٢: قد اختلف أهل العلم في القراءة خلف الإمام، فرأى أكثر أهل العلم من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم والتابعين من بعدهم القراءة خلف الإمام، وبه يقول مالك وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، وروي عن عبد الله بن المبارك إنَّه قال: أنا أقرأ خلف الإمام والناس يقرأون إلّا قومٌ من الكوفيِّين، وأرى أنَّ من لم يقرأ صلاته جائزة، وشدَّد قومٌ من أهل العلم في ترك قراءة فاتحة الكتاب وإن كان خلف الإمام فقالوا: لا تُجزئ صلاةٌ إلّا بقراءة فاتحة الكتاب وحده كان أو خلف الإمام.اهـ

وقد جاء مع ذلك عن عبادة بن الصامت مرفوعاً: إنِّي أراكم تقرأون وراء إمامكم فلا تفعلوا إلّا بأُمِّ القرآن فإنَّه لا صلاة لمن لم يقرأها.

وفي لفظ أبي داود: لا تقرؤا بشيء من القرآن إذا جهرت إلّا بأُمِّ القرآن.

١٨٣

وفي لفظ النسائي وابن ماجة: لا يقرأنَّ أحدٌ منكم إذا جهرت بالقراءة إلّا بأُمِّ القرآن.

وفي لفظ الحاكم: إذا قرأ الإمام فلا تقرأوا إلّا بأُمِّ القرآن فإنَّه لا صلاة لمن لم يقرأ بها.

وفي لفظ الطبراني: من صلّى خلف الإمام فليقرأ بفاتحة الكتاب.

وعن أنس بن مالك مرفوعاً: أتقرأون في صلاتكم خلف الإمام بقرآن والإمام يقرأ؟ فلا تفعلوا وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه.

وعن أبي قلابة مرسلاً: أتقرأون خلفي وأنا أقرأ فلا تفعلوا ذلك، ليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه سرّاً(١) .

قال ابن حزم في المحلّى ٣: ٢٣٩: اختلف أصحابنا فقالت طائفةٌ: فرضٌ على المأموم أن يقرأ أُمَّ القرآن في كلِّ ركعة أسرَّ الإمام أو جهر، وقالت طائفةٌ: هذا فرضٌ عليه فيما أسرَّ فيه الإمام خاصَّة ولا يقرأ فيما جهر فيه الإمام، ولم يختلفوا في وجوب قراءة أُمِّ القرآن فرضاً في كلِّ ركعة على الإمام والمنفرد.

وأخرج البيهقي أحاديث صحاح تدلُّ على إنَّ القراءة تسقط مع الإمام جهر أو لم يجهر. وذكر قول من قال: يُقرأ خلف الإمام مطلقاً ثمَّ قال: هو أصحُّ الأقوال على السنَّة وأحوطها. راجع السنن الكبرى ٢: ١٥٩ ١٦٦.

هذا تمام القول في الناحية الأولى من ناحيتي مخالفة عمل الخليفتين في الصَّلاة للسنَّة الشريفة، ومن ذلك كلِّه، يُعلم حكم الناحية الثانية وإنَّ الأُمَّة مطبقةٌ على إنَّ تدارك الفائتة من قراءة ركعة في ركعة أُخرى لم يرد في السنَّة النبويَّة، وإنَّ رأي الرجلين غير مدعوم بحجَّة، لا يُعمل به، ولا يُعوَّل عليه، ولا يستنُّ به قطُّ أحدٌ من رجال الفتوى، والحقُّ أحقُّ أن يُتَّبع.

____________________

١ - مسند أحمد ٢: ٣٠٢، ٣٠٨، ج ٥: ٣١٣، ٣١٦، ٣٢٢، سنن الترمذي ١: ٤٢، المحلى لابن حزم ٣: ٢٣٦، مستدرك الحاكم ١: ٢٣٨، ٢٣٩، سنن النسائي ٢: ١٤١، سنن البيهقي ٢: ١٦٤، ١٦٥، مصابيح السنة ١: ٦٠.

١٨٤

- ١٤ -

رأي الخليفة في صلاة المسافر

أخرج أبو عبيد في الغريب وعبد الرزاق والطحاوي وابن حزم عن بي المهلب قال: كتب عثمان: إنَّه بلغني إنَّ قوماً يخرجون إمّا لتجارة أو لجباية أو لحشريَّة(١) يقصِّرون الصَّلاة وإنَّما يقصِّر الصَّلاة من كان شاخصاً أو بحضرة عدوّ.

ومن طريق قتادة عن عياش المخزومي: كتب عثمان إلى بعض عمّاله: إنَّه لا يصلّي الركعتين المقيم ولا البادي ولا التاجر، إنَّما يصلي الركعتين من معه الزاد والمزاد.

وفي لفظ ابن حزم: إنَّ عثمان كتب إلى عمّاله: لا يصلّي الركعتين جابٍ ولا تاجر ولا تان(٢) إنَّما يصلّي الركعتين. الخ.

وفي لسان العرب: في حديث عثمان رضي الله عنه أنّه قال: لا يغرَّنكم جشركم من صلاتكم فإنَّما يقصِّر الصَّلاة مَن كان شاخصاً أو يحضره عدوّ. قال أبو عبيد: الجشر القوم يخرجون بدوابِّهم إلى المرعى، ويبيتون مكانهم ولا يأوون إلى البيوت(٣) .

وفي هامش سنن البيهقي ٣: ١٣٧: شاخصاً: يعني رسولاً في حاجة، وفي النهاية: شاخصاً: أي مسافراً ومنه حديث أبي أيوب: فلم يزل شاخصاً في سبيل الله.

قال الأميني: مِن أين جاء عثمان بهذا القيد في السفر؟ والأحاديث المأثورة في صلاته مطلقات كلّها كما أوقفناك عليها في ص ١١١ - ١١٥، وقبلها عموم قوله تعالى:( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاَةِ ) (٤) ولأبي حنيفة وأصحابه والثوريّ وأبي ثور في عموم الآية نظرٌ واسع لم يخصِّوه بالمباح من السفر بل قالوا بأنَّه يعمّ سفر المعصية أيضاً كقطع الطريق والبغي كما ذكره ابن حزم في المحلّى ٤: ٢٦٤، والجصّاص في أحكام القرآن ٢: ٣١٢، وابن رشد في بداية المجتهد ١: ١٦٣، وملك العلماء في البدايع ١: ٩٣، والخازن في تفسيره ١: ٤١٣.

____________________

١ - كذا في النسخ بالمهملة والصحيح كما يأتي، الجشر. بالمعجمة.

٢ - التناية: هي الفلاحة والزراعة «نهاية ابن الأثير».

٣ - سنن البيهقي ٣: ١٢٦، المحلى لابن حزم ٥: ١، نهاية ابن الأثير ٢: ٣٢٥، لسان العرب ٥: ٢٠٧، كنز العمال ٤: ٢٣٩، تاج العروس: ١٠٠ و ج ٤: ٤٠١.

١٨٥

وليس لحضور العدوِّ أيّ دخل في القصر والاتمام وإنَّما الخوف وحضور العدوِّ لهما شأنٌ خاصٌّ في الصَّلوات، وأحكام تخصُّ بهما، وناموسٌ مقرَّرٌ لا يعدوهما.

فمقتضى الأدلَّة كما ذهبت إليه الأُمَّة جمعاء: إنَّ التاجر والجابي والتاني والجشرية وغيرهم إذا بلغوا مبلغ السفر فحكمهم القصر، فهم وبقيَّة المسافرين شرعٌ سواء، وإلّا فهم جميعاً في حكم الحضور يتمُّون صلاتهم من دون أيِّ فرق بين الأصناف، وليس تفصيل الخليفة إلّا فتوىً مجرَّدة ورأياً يخصُّ به، وتقوُّلاً لا يؤبه له تجاه النصوص النبويَّة، وإطباق الصحابة، واتِّفاق الأُمَّة، وتساند الأئمَّة والعلماء، وإنَّما ذكرناه هنا لإيقافك على مبلغ الرجل من الفقاهة، أو تسرّعه في الفتيا من غير فحص عن الدليل، أو أنَّه عرف الدليل لكنَّه لم يكترث له وقال قولاً أمام قول رسول الله صلى الله عليه وآله.

كناطح صخرة يوماً ليقلعها

فلم يضرها فأوهى قرنه الوعل

على أنَّ التاجر جاء فيه ما أخرجه ابن جرير الطبري وغيره من طريق علي كرَّم الله وجهه قال: سأل قومٌ من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنّا نضرب في الأرض فكيف نصلّي؟ فأنزل الله تعالى: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصَّلاة(١) .

وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال: جاء رجلٌ فقال: يا رسول الله! إنِّي رجلٌ تاجرٌ أختلف إلى البحرين فأمره أن يصلّي بركعتين(٢) .

- ١٥ -

رأي الخليفة في صيد الحرم(٣)

أخرج إمام الحنابلة أحمد وغيره بإسناد صحيح عن عبد الله بن الحارث بن نوفل

____________________

١ - تفسير ابن جرير ٥: ١٥٥، مقدمات المدوّنة الكبرى لابن رشد ١: ١٣٦، تفسير ابن عطية كما في تفسير القرطبي ٥: ٣٦٢، الدر المنثور ٢: ٢٠٩، تفسير الشوكاني ١: ٤٧١ تفسير الآلوسي ٥: ١٣٤.

٢ - تفسير ابن كثير ١: ٥٤٤، الدر المنثور ٢: ٢١٠.

٣ - مسند أحمد ١: ١٠٠، ١٠٤، كتاب الأم للشافعي ٧: ١٥٧، سنن أبي داود ١: ٢٩١، سنن البيهقي ٥: ١٩٤، تفسير الطبري ٧: ٤٥، ٤٦ المحلى لابن حزم ٨: ٢٥٤، كنز العمال ٣: ٥٣، نقلاً عن أحمد وأبي داود وابن جرير وقال: صححه، وعن الطحاوي و أبي يعلى والبيهقي.

١٨٦

قال: أقبل عثمان إلى مكّة فاستقبلت بقديد فاصطاد أهل الماء حجلاً فطبخناه بماء وملح فقدَّمناه إلى عثمان وأصحابه فأمسكوا فقال عثمان: صيدٌ لم نصده ولم نأمر بصيده اصطاده قومٌ حلَّ فأطعموناه فما بأس به. فبعث إلى عليّ فجاء فذكر له فغضب عليٌّ وقال: انشد رجلاً شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أُتي بقائمة حمار وحشٍ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّا قومٌ حرم فأطعموه أهل الحلِّ؟ فشهد إثني عشر رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ قال عليٌّ: أُنشد الله رجلاً شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أُتي ببيض النعام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّا قومٌ حرم أطعموه أهل الحلِّ؟ فشهد دونهم من العدَّة من الإثنى عشر قال: فثنى عثمان وركه من الطعام فدخل رحله وأكل الطعام أهل الماء.

وفي لفظ آخر لأحمد عن عبد الله بن الحرث: إنَّ أباه ولي طعام عثمان قال: فكأنّي أنظر إلى الحجل حوالي الجفان فجاء رجلٌ فقال: إنَّ عليّاً رضي الله عنه يكره هذا فبعث إلى عليّ وهو ملطّخٌ يديه بالخبط فقال: إنَّك لكثير الخلاف علينا فقال عليٌّ: أذكِّر الله من شهد النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتي بعجز حمار وحش وهو محرم فقال: إنّا محرمون فأطعموه أهل الحلِّ. فقام رجالٌ فشهدوا ثمَّ قال: أذكِّر الله رجلاً شهد النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتي بخمس بيضات بيض نعام فقال: إنّا محرمون فأطعموه أهل الحلِّ فقام رجالٌ فشهدوا، فقام عثمان فدخل فسطاطه وتركوا الطعام على أهل الماء.

وفي لفظ الإمام الشافعي: إنَّ عثمان أُهديت له حجلٌ وهو محرمٌ فأكل القوم إلّا عليّاً فإنَّه كره ذلك.

وفي لفظ لابن جرير: حجَّ عثمان بن عفان فحجَّ عليٌّ معه فأتي عثمان بلحم صيد صاده حلالٌ فأكل منه ولم يأكله عليٌّ فقال عثمان: والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا فقال عليٌّ: وحرَّم عليكم صيد البرَّ ما دمتم حرما. «سورة المائدة: ٩٦».

وفي لفظ: إنَّ عثمان بن عفان رضي الله عنه نزل قديداً فأتي بالحجل في الجفان شائلة بأرجلها فأرسل إلى عليّ رضي الله عنه وهو يضفر(١) بعيراً له فجاء والخبط ينحات من يديه، فأمسك عليٌّ وأمسك الناس فقال عليٌّ: مَن هاهنا من أشجع؟ هل تعلمون

____________________

١ - ضفر الدابة يضفر ها ضفراً: ألقى اللجام في فيها. والضفر: ما شددت به البعير من الشعر المضفور. والمضفور والضفير: الحبل المفتول. الضفائر: الدوائب المضفورة.

١٨٧

أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جاء أعرابيٌّ ببيضات نعام وتتمير(١) وحش فقال: أطعمهنَّ أهلك فإنّا حرم؟ قالوا: بلى. فتورَّك عثمان عن سريره ونزل فقال: خبثت علينا.

وفي لفظ البيهقي: كان الحارث خليفة عثمان رضي الله عنه على الطائف، فصنع لعثمان رضي الله عنه طعاماً وصنع فيه من الحجل واليعاقيب ولحوم الوحش قال: فبعث إلى عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه فجاء الرَّسول وهو يخبط لأباعر له، فجاءه وهو ينفض الخبط من يده فقالوا له: كُل. فقال: اطعموه قوماً حلالاً فإنّا قومٌ حرم، ثمَّ قال عليٌّ رضي الله عنه: أُنشد الله مَن كان هاهنا من أشجع، أتعلمون أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أُهدى إليه رجل حمار وحش وهو محرمٌ فأبى أن يأكله؟ قالوا: نعم.

وأخرج الطبري من طريق صبيح بن عبد الله العبسي قال: بعث عثمان بن عفان أبا سفيان بن الحرث على العروض فنزل قديداً فمرَّ به رجلٌ من أهل الشام معه باز وصقر فاستعار منه فاصطاد به من اليعاقيب فجعلهنَّ في حظيرة فلمّا مرَّ به عثمان طبخهنَّ ثمَّ قدَّمهنَّ إليه فقال عثمان: كلوا فقال بعضهم: حتّى يجئَ عليُّ بن أبي طالب. فلمّا جاء فرأى ما بين أيديهم قال عليٌّ: إنّا لا نأكل منه. فقال عثمان مالك لا تأكل؟ فقال: هو صيدٌ لا يحلُّ أكله وأنا محرمٌ. فقال عثمان: بيِّن لنا. فقال عليٌّ:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ) . فقال عثمان: أوَ نحن قتلناه؟ فقرأ عليه: أُحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحُرِّم عليكم صيد البرِّ ما دمتم حرُماً.

وأخرج سعيد بن منصور كما ذكره ابن حزم من طريق بسر بن سعيد قال: إنَّ عثمان بن عفان كان يصاد له الوحش على المنازل ثمَّ يذبح فيأكله وهو محرمٌ سنتين من خلافته، ثمَّ إنَّ الزبير كلّمه فقال: ما أدري ما هذا يُصاد لنا ومِن أجلنا، لو تركناه فتركه.

قال الأمينيّ: هذه القصّة تشفُّ عن تقاعُس فقه الخليفة عن بلوغ مدى هذه المسألة، أو أنَّه راقه إتّباعِ الخليفة الثاني في الرأي حيث كان يأمر المحرم بأكل لحم الصيد، ويحذّر أهل الفتوى عن خلافِهِ مُهدّداً بالدِرَّة إنْ فعل وسيوافيك

____________________

١ - التتمير: التقديد. والتتمير: التيبيس. والتتمير: أن يقطع اللحم صغاراً ويجفف. واللحم المتمر: المقطع (لسان العرب).

١٨٨

تفصيله إنشاء الله تعالى، غير أنَّ عثمان أفحمه مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بالكتاب والسنّة فلم يجد ندحةً من الدخول في فسطاطه والاكتفاء بقوله: إنَّك لكثير الخلاف علينا. وهذا القول ينمُّ عن توفُّر الخلاف بين مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وبين الخليفة، ومن الواضح الجليِّ إنَّ الحقَّ كلّما شجر خلاف بين مولانا عليّ عليه السلام وبين غيره كائناً مَن كان لا يعدو كفَّة الإمام صلوات الله عليه للنصِّ النبويِّ: عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع علي ولن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة(١) وقوله: عليٌّ مع القرآن والقرآن معه لا يفترقان حتّى يردا عليَّ الحوض(٢) وإنّه باب مدينة علم النبيِّ صلى الله عليه وآله، ووارث علمه، وعيبة علمه وأقضى أُمّته(٣) وكان سلام الله عليه منزَّهاً عن الخلاف لاتّباع هوى أو احتدام بغضاء بينه وبين غيره، فإنَّ ذلك من الرِّجس الذي نفاه الله عنه عليه السلام في آية التطهير. وقد طأطأ كلُّ عيلم لعلمه، وكان من المتسالم عليه إنَّه أعلم النّاس بالسنّة؟ ولذلك لما نهى عمر عبد الله بن جعفر عن لبس الثياب المعصفرة في الإحرام جابهه الإمام عليه السلام بقوله: ما أخال أحداً يعلّمنا السنّة(٤) فسكت عمر إذ كان لم يجد منتدحاً عن الإخبات إلى قوله، ولو كان غيره عليه السلام لعلاه بالدِرَّة، ولذلك كان عمر يرجع إليه في كلِّ أمر عصيب فإذا حلّه قال: لولا عليٌّ لهلك عمر(٥) أو نظير هذا القول وسيوافيك عن عثمان نفسه قوله: لولا عليٌّ لهلك عثمان.

فرأي الإمام الطاهر هو المتّبع وهو المعتضد بالكتاب بقوله تعالى: وحُرِّم عليكم صيد البرِّ ما دُمتم حُرُماً، كما استدلَّ به عليه السلام على عثمان، فبعمومه كما حكاه ابن حزم في المحلّى ٧: ٢٤٩ عن طائفة ظاهرٌ في أنَّ الشئ المتصيَّد هو المحرَّم ملكه وذبحه وأكله كيف كان، فحرّموا على المحرم أكل لحم الصيد وإن صاده لنفسه حلال، وإن ذبحه حلال، وحرَّموا عليه ذبح شيء منه وإن كان قد ملكه قبل إحرامه.

____________________

١ - راجع ما مرَّ في الجزء الثالث ص ١٥٥ ١٥٨ ط ١، و ١٧٦ ١٨٠ ط ٢.

٢ - راجع ما أسلفناه في الجزء الثالث ص ١٥٨ ط ١، و ١٨٠ ط ٢.

٣ - راجع ما فصلناه في الجزء السادس ص ٥٤ ٧٣ ط ١، و ٦١ ٨١ ط ٢.

٤ - كتاب الأم للإمام الشافعي ٢: ١٢٦، المحلى لابن حزم ٧: ٢٦٠.

٥ - راجع نوادر الأثر في علم عمر في الجزء السادس من كتابنا هذا.

١٨٩

وقال القرطبي في تفسيره ٦: ٣٢١: التحريم ليس صفة للأعيان، وإنّما يتعلّق بالأفعال فمعنى قوله:( وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدَ الْبَرّ ) . أي فعل الصيد، وهو المنع من الإصطياد، أو يكون الصيد بمعنى المصيد على معنى تسمية المفعول بالفعل، وهو الأظهر لإجماع العلماء على إنَّه لا يجوز للمحرم قبول صيد وُهب له، ولا يجوز له شراؤه ولا اصطياده ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه، ولا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك لعموم قوله تعالى:( وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدَ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ) ، ولحديث الصعب بن جثامة. وقال في ص ٣٢٢: وروي عن علي بن أبي طالب وابن عبّاس وابن عمر: إنَّه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال، سواءٌ صيد من أجله أولم يصد لعموم قوله تعالى:( وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدَ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ) . قال ابن عبّاس: هي مبهمةٌ. وبه قال طاووس، وجابر بن زيد وأبو الشعثاء، وروي ذلك عن الثوري، وبه قال إسحاق، واحتجّوا بحديث ابن جثامة ه‍

ويُعتضد رأي الإمام عليه السلام ومن تبعه بالسنّة الشريفة الثابتة بما ورد في الصحاح والمسانيد وإليك جملة منه:

١ - عن ابن عبّاس قال: يا زيد بن أرقم! هل علمت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أُهدي إليه عضد صيد فلم يقبله وقال: إنّا حُرُم؟ قال: نعم.

وفي لفظ: قدم زيد بن أرقم فقال له ابن عبّاس يستذكره: كيف أخبرتني عن لحم صيد أُهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حرام؟ قال: نعم أهدى له رجلٌ عضواً من لحم صيد فردَّه وقال: إنّا لا نأكل إنّا حُرم.

وفي لفظ مسلم: إنَّ زيد بن أرقم قدم فأتاه ابن عبّاس رضي الله عنه فاستفتاه في لحم الصيد فقال: أُتي رسول الله بلحم صيد وهو محرمٌ فردَّه.

راجع صحيح مسلم ١: ٤٥٠، سنن أبي داود ١: ٢٩١، سنن النسائي ٥: ١٨٤، سنن البيهقي ٥: ١٩٤، المحلّى لابن حزم ٧: ٢٥٠ وقال: رويناه من طرق كلّها صحاح.

٢ - عن الصعب بن جثامة قال: مرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بالأبواء أو بودان(١) وأهديت له لحم حمار وحش فردَّه عليَّ فلمّا رأى في وجهي الكراهية قال: إنَّه

____________________

١ - ودان بفتح الواو قرية جامعة بين مكة والمدينة، بينها وبين الأبواء نحو من ثمانية أميال من الجحفة، ومنها الصعب بن جثامة «معجم البلدان»

١٩٠

ليس بنا ردٌّ عليك ولكنّنا حُرُم. وفي لفظ: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتي بلحم حمار وحش فردَّه وقال: إنَّا حُرُم لا نأكل الصيد.

راجع صحيح مسلم ١: ٤٤٩، مسند أحمد ٤: ٣٧، سنن الدارمي ٢: ٣٩، سنن ابن ماجة ٢: ٢٦٢، سنن النسائي ٥: ١٨٤، سنن البيهقي ٥: ١٩٢ بعدّة طرق، أحكام القرآن للجصاص ٢: ٥٨٦، تفسير الطبري ٧: ٤٨، تيسير الوصول ١: ٢٧٢.

٣ - عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: أُهدي للنبيِّ صلى الله عليه وسلم شقُّ حمار وحش وهو محرمٌ فردَّه. وفي لفظ أحمد: إنَّ الصعب بن جثامة أهدى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو محرمٌ عجز حمار فردَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقطر دماً.

وفي لفظ طاووس في حديثه: عضداً من لحم صيد.

وفي لفظ مقسم: لحم حمار وحش.

وفي لفظ عطاء في حديثه: أُهدي له صيد فلم يقبله وقال: إنّا حُرُم.

وفي لفظ النسائي: أهدى الصعب بن جثامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل حمار وحش تقطر دماً وهو محرمٌ وهو بقديد فردَّها عليه.

وفي لفظ ابن حزم: إنَّه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل حمار وحش فردَّه عليه وقال: إنَّا حُرمٌ لا نأكل الصيد. وفي لفظ: لولا إنّا محرمون لقبلناه منك.

راجع صحيح مسلم ١: ٤٤٩، مسند أحمد ١: ٢٩٠، ٣٣٨، ٣٤١، مسند الطيالسي ص ١٧١، سنن النسائي ٥: ١٨٥، سنن البيهقي ٥: ١٩٣، المحلّى لابن حزم،: ٢٤٩ وقال: رويناه من طرق كلّها صحاح، أحكام القرآن للجصّاص ٢: ٥٨٦، تفسير القرطبي ٦: ٣٢٢.

*(لفت نظر)* أخرج البيهقي في تجاه هذا الصحيح المتسالم عليه في السنن الكبرى ٥: ١٩٣ من طريق عمرو بن أميَّة الضميري إنَّ الصعب بن جثامة أهدى للنبيِّ عجز حمار وحش وهو بالجحفة فأكل منه وأكل القوم. ثمَّ قال: وهذا إسنادٌ صحيح، فإن كان محفوظاً فكأنَّه ردَّ الحيَّ وقبل اللحم والله أعلم.اهـ

لا أحسب هذا مبلغ علم البيهقي وإنَّما أعماه حبُّه لتبرير الخليفة في رأيه الشاذّ عن الكتاب والسنَّة، فرأى الضعيف صحيحاً، وأتى في الجمع بينه وبين الصحيح المذكور بما

١٩١

يأباه صريح لفظه، ولهذه الغاية أخرج البخاري ذلك الصحيح المتسالم عليه في صحيحه ٣: ١٦٥ وحذف منه كلمة: الشقّ. والعجز. والرجل. والعضد. واللحم. وتبعه في ذلك الجصّاص في أحكام القرآن ٢: ٥٨٦ حيّا الله الأمانة.

وعقَّب ابن التركماني رأي البيهقي فيما أخرجه فقال في سنن الكبرى: قلت: هذا في سنده يحيى بن سليمان الجعفي عن ابن وهب أخبرني يحيى بن أيّوب هو الغافقي المصري، ويحيى بن سليمان ذكره الذهبي في الميزان والكاشف عن النسائي إنَّه ليس بثقة. وقال ابن حبّان: ربما أغرب. والغافقي قال النسائي ليس بذلك القوي. وقال أبو حاتم: لا يحتجُّ به. وقال أحمد: كان سيِّئ الحفظ يخطئ خطئاً كثيراً، وكذَّبه مالك في حديثين، فعلى هذا لا يشغل بتأويل هذا الحديث لأجل سنده ولمخالفته للحديث الصحيح، وقول البيهقي: ردَّ الحيَّ وقبل اللحم يردُّه ما في الصحيح إنَّه عليه السلام ردَّه. اهـ

٤ - عن عبد الله بن الحرث عن ابن عبّاس عن عليِّ بن أبي طالب قال: أتي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بلحم صيد وهو محرمٌ فلم يأكله.

مسند أحمد ١: ١٠٥، سنن ابن ماجة ٢: ٢٦٣.

٥ - عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أُمّ المؤمنين إنّها قالت له: يا ابن أختي إنَّما هي عشر ليال فإن يختلج في نفسك شيءٌ فدعه. يعني أكل لحم الصيد.

موطأ مالك ١: ٢٥٧، سنن البيهقي ٥: ١٩٤، تيسير الوصول ١: ٢٧٣.

٦ - عن نافع قال: أهدي إلى ابن عمر ظبياً مذبوحة بمكّة فلم يقبلها، وكان ابن عمر يكره للمحرم أن يأكل من لحم الصيد على كلِّ حال.

رواه ابن حزم في المحلّى ٧: ٢٥٠ من طريق رجاله كلّهم ثقاتٌ.

ولو كان عند الخليفة علمٌ بسنَّة نبيِّه لعلّه لم يك يخالفها، ولو كان عنده ما يجديه في الحجاج تجاه هذه السنَّة الثابتة لأفاضه وما ترك النوبة لأتباعه ليحتجّوا له بعد لأي من عمر الدهر بما لا يُغني من الحقِّ شيئاً، قال البيهقي في سننه ٥: ١٩٤: أمَّا عليٌّ وابن عبّاس رضي الله عنهما فإنَّهما ذهبا إلى تحريم أكله على المحرم مطلقاً، وقد خالفهما عمر وعثمان وطلحة والزبير وغيرهم ومعهم حديث أبي قتادة وجابر والله أعلم. اهـ

١٩٢

أمّا حديث أبي قتادة قال: انطلقت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبيَّة فأحرم أصحابي ولم أحرم فانطلق النبيُّ صلى الله عليه وسلم وكنت مع أصحابي فجعل بعضهم يضحك إلى بعض فنظرت فإذا حمار وحش فحملت عليه فطعنته فأثبته فاستعنت بهم فأبوا أن يعينوني فأكلنا منه، فلحقت برسول الله وقلت: يا رسول الله! إنّي أصبت حمار وحش ومعي منه فاضلةٌ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم للقوم: كلوا. وهم محرمون(١) .

فهو غير وافٍ بالمقصود لأنَّ قصَّته كانت عام الحديبيَّة السادس من الهجرة كما هو صريح لفظه وكثيرٌ من أحكام الحجِّ شرّعت في عام حجَّة الوداع السنة العاشرة ومنها تعيين المواقيت ولذلك ما كان أبو قتادة محرماً عند ذا، مع إحرام رسول الله وإحرام أصحابه. قال ابن حجر في فتح الباري ٤: ١٩: قيل كانت: هذه القصّة قبل أن يوقّت النبيُّ المواقيت. وقال السندي في شرح سنن النسائي ٥: ١٨٥ عند ذكر حديث أبي قتادة: قوله «عام الحديبيَّة» بهذا تبيَّن أنَّ تركه الإحرام ومجاوزته الميقات بلا إحرام كان قبل أن تُقرَّر المواقيت، فإنَّ تقرير المواقيت كان سنة حجِّ الوداع كما روي عن أحمد.

ومنها أحكام الصيد النازلة في سورة المائدة التي هي آخر ما نزل من القرآن، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وآله: إنَّه قرأها في حجّة الوداع وقال: يا أيّها الناس إنَّ سورة المائدة آخر ما نزل فأحلّوا حلالها وحرِّموا حرامها. وروي نحوه عن عائشة موقوفاً وصحَّحه الحاكم وأقرَّه ابن كثير، وأخرجه أبو عبيد من طريق ضمرة بن حبيب، وعطية بن قيس مرفوعاً(٢) .

فليس من البدع أن يكون غير واحد من مواضيع الحجِّ لم يشرَّع لها حكم في عام الحديبيَّة ثمَّ شرّع بعده ومنها هذه المسألة، وكان مولانا أمير المؤمنين عليه السلام حاضراً في عام الحديبيَّة وقد شاهد قصَّة أبي قتادة كما شاهد ها غيره «على فرض صحَّتها» ومع ذلك أنكر على عثمان وكذلك الشهود الذين استنشدهم صلوات الله عليه فشهدوا له

____________________

١ - صحيح البخاري ٣: ١٦٣، صحيح مسلم ١: ٤٥٠، سنن النسائي ٥: ١٨٥، سنن ابن ماجة ٢: ٣٦٣، سنن البيهقي ٥: ١٨٨.

٢ - مستدرك الحاكم ٢: ٣١١، تفسير القرطبي ٦: ٣١، تفسير الزمخشري ١: ٤٠٣، تفسير ابن كثير ٢: ٢، تفسير الخازن ٢: ٤٤٨، تفسير الشوكاني ٢: ١.

١٩٣

لم يعزب عنهم ما وقع في ذلك العام، لكنَّهم شهدوا على التشريع الأخير الثابت.

ولو كان لقصَّة أبي قتادة مقيلٌ من الصحَّة أو وزنٌ يُقام لَما ترك عثمان الإحتجاج به لكنَّه كان يعلم أنَّ الشأن فيها كما ذكرناه، وإنَّ العمل قبل التشريع لا حجِّيَّة له، وأفحمه الإمام عليه السلام بحجَّته الداحضة، فتوارى عن الحجاج في فسطاطه وترك الطعام على أهل الماء.

وأمّا حديث جابر فقد أخرجه غير واحد من أئمَّة الفقه والحديث ناصِّين على ضعفه من طريق عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن حنطب عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيد البرِّ لكم حلالٌ وأنتم حُرم إلّا ما اصطدتم وصيد لكم(١)

قال النسائي في سننه: أبو عبد الرحمن عمرو بن أبي عمرو ليس بالقويِّ في الحديث وإن كان قد روى عنه مالك.

وقال ابن حزم في المحلّى: أمّا خبر جابر فساقطٌ لأنَّه عن عمرو بن أبي عمرو وهو ضعيفٌ.

وقال ابن التركماني في شرح سنن البيهقي عند قول الشافعي: إنَّ إبن أبي يحيى أحفظ من الدراوردي(٢) : قلت: الدراوردي احتجّ به الشيخان وبقيَّة الجماعة، وقال ابن معين:

ثقةٌ حجَّةٌ، ووثَّقه القطان وأبو حاتم وغيرهما، وأمّا ابن أبي يحيى فلم يخرج له في شيء من الكتب الخمسة، ونسبه إلى الكذب جماعةٌ من الحفّاظ كابن حنبل وابن معين وغيرهما، وقال بشر بن المفضل: سألت فقهاء المدينة عنه فكلّهم يقولون: كذّابٌ أو نحو هذا، وسُئل مالك: أكان ثقة؟ فقال: لا ولا في دينه، وقال ابن حنبل: كان قدريّاً معتزليّاً جهميّاً كلُّ بلاء فيه، وقال البيهقي في التيمم والنكاح: مختلفٌ في عدالته. ومع هذا كلّه كيف يرجَّح على الدراوردي؟.

قال: ثمَّ لو رجع عليه هو ومن معه فالحديث في نفسه معلول عمرو بن أبي عمرو

____________________

١ - كتاب الأم ٢: ١٧٦، سنن أبي داود ١: ٢٩١، سنن النسائي ٥: ١٨٧، سنن البيهقي ٥: ١٩٠، المحلّى لابن حزم ٧: ٢٥٣.

٢ - الرجلان وردا في طريقي الشافعي للحديث.

١٩٤

مع اضطرابه في هذا الحديث متكلّم فيه. قال ابن معين وأبو داود: ليس بالقويِّ زاد يحيى: وكان مالك يستضعفه. وقال السعدي: مضطرب الحديث.

قال: والمطلب قال فيه ابن سعد: ليس يحتجُّ بحديثه لأنَّه يرسل عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم كثيراً، وعامَّة أصحابه يدلّسون، ثمَّ الحديث مرسل، قال الترمذي: المطلب لا يعرف له سماع من جابر. فظهر بهذا أنَّ الحديث فيه أربع علل: إحداها: الكلام في المطلب. ثانيها: إنَّه ولو كان ثقة فلا سماع له من جابر فالحديث مرسل. ثالثها: الكلام في عمرو. رابعها: إنَّه ولو كان ثقة فقد اختلف عليه فيه كما مرَّ.

ثمَّ ذكر ما استشكل به الطحاوي في الحديث من وجهة النظر من قوله: إنَّ الشيء لا يحرم على إنسان بنيَّة غيره أن يصيد له.

هذا مجمل القول في حديث أبي قتادة وجابر، فلا يصلحان للاعتماد ورفع اليد عن تلكم الصحاح المذكورة الثابتة، ولا يخصَّص بمثلهما عموم، ولا يتمّ بهما تقييد مطلقات الكتاب، والمعوَّل عليه في المسألة هو كتاب الله العزيز والسنَّة الشريفة الثابتة، وما شذَّ عنهما من رأي أيِّ بشرٍ يضرب به عرض الجدار، فاتَّبعها ولا تتّبع أهواء الذين لا يعلمون.

- ١٦ -

خصومة يرفعها الخليفة إلى عليّ

أخرج أحمد والدورقي من طريق الحسن بن سعد عن أبيه إنَّ يحيس(١) وصفيَّة كانا من سبي الخمس فزنت صفيَّة برجلٍ من الخمس وولدت غلاماً فادَّعى الزاني ويحيس فاختصما إلى عثمان فرفعهما عثمان إلى عليِّ بن أبي طالب، فقال عليٌّ: أقضي فيهما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر وجلدهما خمسين خمسين(٢) .

قال الأمينيّ: هل علمتَ أنَّه لِماذا ردَّ الخليفةُ الحكمَ إلى أمير المؤمنين عليه السلام؟ لقد رفعه إليه إنْ كنت لا تدري لأنَّه لم يكن عنده ما يفصل به الخصومة، ولعلّه كان ملأ سمعه قوله تعالى:( الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) (٣) ويعلم في الجملة أنَّ هناك فرقاً في كثير من الأحكام بين الأحرار والمملوكين، لكن عزب عنه

____________________

١ - في مسند أحمد: يحنس.

٢ - مسند أحمد ١: ١٠٤، تفسير ابن كثير ١: ٤٧٨، كنز العمال ٣: ٢٢٧.

٣ - سورة النور آية: ٢.

١٩٥

إنَّ مسألة الحدِّ أيضاً من تلكم الفروع، فكأنَّه لم يلتفت إلى قوله تعالى:( وَمَن لَم يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَا مَلَكَتْ أَيْمَانِكُم مِن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِايِمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنّ وَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ) . الآية(١) .

أو أنَّ الآية الكريمة كانت نصب عينيه لكن لم يسعه فهم حقيقتها لأنَّ قيد ذاكرته إنّ حدّ المحصنات هو الرجم، غير إنَّه لم يتسنّ له تعرّف أنّ الرجم لا يتبعّض، فالذي يمكن تنصيفه من العذاب هو الجَلد، فالآية الشريفة دالَّة بذلك على سقوط الرجم عَن المحصنات من الإماء وإنَّما عَليهنَّ نِصف الجلد الثابت عليها في السنَّة الشريفة(٢) .

وأخرج أحمد في مسنده ١: ١٣٦ من طريق أبي جميلة عن عليّ عليه السلام قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمة له سوداء زنت لأجلدها الحدَّ قال: فوجدتها في دمائها فأتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فقال لي: إذا تعالت من نفاسها فاجلدها خمسين. وذكره ابن كثير في تفسيره ١: ٤٧٦ وفيه: إذا تعافت من نفاسها فاجلدها خمسين. وذكره الشوكاني في نيل الأوطار ٧: ٢٩٢ باللفظ المذكور. وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وصحَّحه وليس في لفظهم «خمسين».

هب أن الخليفة نسيها لبعد العهد لكنه هل نسي ما وقع بمطلع الأُكمة منه على العهد العمري؟ من جلده المحصنات من الإماء خمسين جلدة كما أخرجه الحافظ(٣) أو أنَّ الخليفة وقف على مغازي الآيات الكريمة، ولم تذهب عليه السنَّة النبويّة، وكان على ذكر ممّا صدر على عهد عمر لكن أربكه حكم العبد لأنّه رأى الآية الكريمة نصّاً في الإماء، وكذلك نصوص الأحاديث، ولم يهتدٍ إلى إتّحاد الملاك بين العبيد والإماء

____________________

١ - سورة النساء آية: ٢٥.

٢ - صحيح البخاري ١٠: ٤٨، صحيح مسلم ٢: ٣٧، سنن أبي داود ٢: ٢٣٩، سنن ابن ماجة ٢: ١١٩، سنن البيهقي ٨: ٣٤٢، موطأ مالك ٢: ١٧٠، كتاب الأم للشافعي ٦: ١٢١، تفسير القرطبي ١٢: ١٥٩.

٣ - موطأ مالك ٢: ١٧٠، سنن البيهقي ٨: ٢٤٢، تفسير ابن كثير ١: ٦ ٤٧، كنز العمال ٣: ٨٦.

١٩٦

من المملوكيّة، وهو الذي أصفق عليه أئمة الحديث والتفسير كما في كتاب الأُم للشافعي ٦: ١٤٤، أحكام القرآن للجصّاص ٢: ٢٠٦، سنن البيهقي ٨: ٢٤٣، تفسير القرطبي ٥: ١٤٦، ج ١٢: ١٥٩، تفسير البيضاوي ١: ٢٧٠، تيسير الوصول ٢: ٤، فيض الإله المالك للبقاعي ٢: ٣١١، فتح الباري ١٢: ١٣٧، فتح القدير ١: ٤١٦، تفسير الخازن ١: ٣٦٠، وقال الشوكاني في نيل الأوطار ٧: ٢٩٢: لا قائل بالفرق بين الأمة والعبد كما حكى ذلك صاحب البحر.

أو أنَّ الخليفة حسب أنَّ ولد الزانية لا بدَّ وأن يكون للزاني، ولم يشعر بمقاربة زوجها إيّاها أو إمكان مقاربته منذ مدَّة يمكن أن ينعقد الحمل فيها، وبذلك يتحقَّق الفراش الذي يلحق الولد بصاحبه، كما حكم به مولانا أمير المؤمنين عليه السلام والأصل فيه قوله صلى الله عليه وآله: الولد للفراش وللعاهر الحجر.

لقد أنصف الخليفة في رفع حكم هذه المسألة إلى مَن عنده علم الكتاب والسنَّة فإنَّه كان يعلم علم اليقين إنَّ ذلك عند العترة الطاهرة لا البيت الأموي، وليته أنصف هذا الإنصاف في كلِّ ما يرد عليه من المسائل، وليته علم إنَّ حاجة الأُمَّة إنَّما هي إلى إمام لا يعدوه علم الكتاب والسنَّة فأنصفها، غير أنَّ.....

إذا لم تستطع شيئاً فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيعُ

- ١٧ -

رأي الخليفة في عدَّة المختلعة(١)

عن نافع أنَّه سمع ربيع بنت معوذ بن عفراء وهي تخبر عبد الله بن عمر إنَّها اختلعت من زوجها على عهد عثمان فجاء معاذ بن عفراء إلى عثمان فقال: إنَّ ابنة معوذ اختلعت من زوجها اليوم أتنتقل؟ فقال له عثمان: تنتقل ولا ميراث بينهما ولا عدَّة عليها إلّا أنَّها لا تنكح حتّى حيضة، خشية أن يكون بها حبل. فقال عبد الله عند ذلك: عثمان خيرنا وأعلمنا. وفي لفظ آخر: قال عبد الله: أكبرنا وأعلمنا.

____________________

١ - سنن البيهقي ٧: ٤٥٠، ٤٥١، سنن ابن ماجة ١: ٦٣٤، تفسير ابن كثير ١: ٢٧٦ نقلا عن ابن أبي شيبة، زاد المعاد لابن القيم ٢: ٤٠٣، كنز العمال ٣: ٢٢٣، نيل الأوطار ٧: ٣٥.

١٩٧

وفي لفظ عبد الرزاق عن نافع عن الربيع ابنة معوذ إنَّها قالت: كان لي زوجٌ يقلُّ الخير عليَّ إذا حضر ويحزنني إذا غاب فكانت منِّي زلَّة يوماً فقلت له: اختلعت منك بكلّ شيء أملكه. فقال: نعم. ففعلت فخاصم إبني معاذ بن عفراء إلى عثمان فأجاز الخلع وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه، أو قالت: دون عقاص رأس.

وفي لفظ عن نافع: إنَّه زوَّج إبنة أخيه رجلاً فخلعها فرفع ذلك إلى عثمان فأجاذه فأمرها أن تعتدَّ حيضة. وفي لفظ ابن ماجة من طريق عبادة الصامت: قالت: الربيع: اختلعت من زوجي ثمَّ جئت عثمان فسألت ماذا عليَّ من العدَّة؟ فقال: لا عدَّة عليك إلّا أن يكون حديث عهد بك فتمكثين عنده حتّى تحيضين حيضة.. الخ.

قال الأميني: المطلّقات يتربَّصن بأنفسهنَّ ثلاثة قروء، نصّاً من الله العزيز الحكيم(١) من غير فرق بين أقسام الطلاق المنتزعة من شقاق الزوج والزوجة، فإن كان الكره من قِبَل الزوج فحسب فالطلاق رجعيٌّ. أو من قِبَل الزوجة فقط فهو خلعيٌّ. أو منهما معاً فمباراةٌ. فليس لكلٍّ من هذه الأقسام حكمٌ خاصٌّ في العدَّة غير ما ثبت لجميعها بعموم الآية الكريمة المنتزع من الجمع المحلّى باللام – المطلّقات - وعلى هذا تطابقت فتاوى الصحابة والتابعين والعلماء من بعدهم وفي مقدّمهم أئمَّة المذاهب الأربعة قال ابن كثير في تفسيره ١: ٢٧٦: مسألةٌ وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه في رواية عنهما وهي المشورة إلى أنَّ المختلعة عدَّتها عدَّة المطلّقة بثلاثة قروء إن كانت ممّن تحيض، وروي ذلك عن عمر وعليّ وابن عمر، وبه يقول سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعروة، وسالم، وأبو سلمة، وعمر بن عبد العزيز، وابن شهاب، والحسن، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وأبو عياض، وخلاس بن عمر، وقتادة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبو عبيد، وقال الترمذي(٢) : وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم، ومأخذهم في هذا أنَّ الخلع طلاقٌ فتعتدُّ كسائر المطلّقات. اهـ

هذه آراء أئمَّة المسلمين عند القوم وليس فيها شيءٌ يوافق ما ارتآه عثمان وهي

____________________

١ - راجع سورة البقرة: ٢٢٨.

٢ - قاله في صحيحه ١: ١٤٢.

١٩٨

مصافقة مع القرآن الكريم كما ذكرناه.

وقد اُحتجَّ لعثمان بما رواه الترمذي في صحيحه ١: ١٤٢ من طريق عكرمة عن ابن عباس: إنَّ امرأة ثابت بن قيس رضي الله عنه اختلعت منه فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عدَّتها حيضة.

وهذه الرواية باطلةٌ إذ المحفوظ عند البخاري والنسائي من طريق ابن عبّاس في قصّة امرأة ثابت ما لفظه: قال ابن عبَّاس: جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إنِّي ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكنّي أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردّين عليه حديقته؟ (وكانت صداقها) قالت: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إقبلِ الحديقة وطلّقها تطليقة.

فامرأة ثابت نظراً إلى هذه اللفظة مطلّقة تطليقة والمطلّقات يتربَّصن بأنفسهنَّ ثلاثة قروء.

على أنَّ الاضطراب الهائل في قصَّة إمرأة ثابت يوهن الأخذ بما فيها، ففي لفظ: إنَّها جميلة بنت سلول. كما في سنن ابن ماجة. وفي لفظ أبي الزبير: إنَّها زينب. وفي لفظ: إنَّها بنت عبد الله. وفي لفظ لابن ماجة والنسائي: إنَّها مريم العالية. وفي موطأ مالك: إنَّها حبيبة بنت سهل. وذكر البصريّون: إنَّها جميلة بنت أُبيّ(١) وجلُّ هذه الألفاظ كلفظ البخاري والنسائي يخلو عن ذكر العدَّة بحيضة، فلا يخصَّص حكم القرآن الكريم بمثل هذا.

على إنَّه لو كان لها مقيلٌ في مستوى الصدق والصحَّة لَما أصفقت الأئمَّة على خلافها كما سمعت من كلمة ابن كثير.

وقد يُعاضد رأي الخليفة بما أخرجه الترمذي في صحيحه ١: ١٤٢ عن الربيع بنت معوذ (صاحبة عثمان) أنَّها اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أو أُمرت أن تعتدَّ بحيضة. قال الترمذي: حديث الربيع الصحيح إنَّها أُمرت أن تعتدَّ بحيضة. وبهذا اللفظ جاء في حديث سليمان بن يسار عن الربيع قالت: إنَّها اختلعت من زوجها فأُمرت أن تعتدَّ بحيضة.

وقال البيهقي بعد رواية هذا الحديث: هذا أصحُّ وليس فيه مَن أمرها ولا على

____________________

١ - راجع نيل الأوطار ٧: ٣٤ ٣٧.

١٩٩

عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقد روينا في كتاب الخلع أنَّها اختلعت من زوجها زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه. ثمَّ أخرج حديث نافع المذكور في صدر العنوان فقال: هذه الرواية تصرِّح بأنَّ عثمان رضي الله عنه هو الذي أمرها بذلك، وظاهر الكتاب في عدَّة المطلّقات يتناول المختلعة وغيرها، فهو أولى وبالله التوفيق. هـ(١) .

فليس للنبيِّ صلى الله عليه وآله في قصّة بنت معوذ حكمٌ وما رفعت إليه صلى الله عليه وآله، وإنَّما وقعت في عصر عثمان وهو الحاكم فيها، وقد حرَّفتها عن موضعها يد الأمانة على ودايع العلم والدين لتبرير ساحة عثمان عن لوث الجهل، ولو كان لتعدّد القصَّة وزنٌ يقام عند الفقهاء وروايتها بمشهد منهم ومرأى لَما عدلوا عنها على بكرة أبيهم إلى عموم الكتاب ولَما تركوها مُتدهورة في هوّة الإهمال.

وعلى الباحث أن ينظر نظرة عميقة إلى قول ابن عمر وقد كان في المسألة أوَّلا مصافقاً في رأيه الكتاب ومَن عمل به من الصحابة وعُدّ في عدادهم، ثمَّ لمحض أن بلغه رأي الخليفة المجرَّد عن الحجَّة عَدَل عن فتواه فقال: عثمان خيرنا وأعلمنا. أو قال: أكبرنا وأعلمنا. هكذا فليكن المجتهدون، وهكذا فلتصدر الفتاوى.

- ١٨ -

رأي الخليفة في امرأة المفقود

أخرج مالك من طريق سعيد بن المسيب إنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أيّما امرأة فقدت زوجها فلم تدر أين هو فإنَّها تنتظر أربع سنين، ثمَّ تنتظر أربعة أشهر وعشراً، ثمَّ تحلُّ. وقضى بذلك عثمان بن عفان بعد عمر.

وأخرج أبو عبيد بلفظ: إنَّ عمر وعثمان رضي الله عنهما قالا: امرأة المفقود تربَّص أربع سنين، ثمَّ تعتدُّ أربعة أشهر وعشراً، ثمَّ تنكح.

وفي لفظ الشيباني: إنَّ عمر رضي الله عنه أجّل امرأة المفقود أربع سنين. وفي لفظ شعبة من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلي قال: قضى عمر رضي الله عنه في المفقود تربّص امرأته أربع سنين ثمَّ يطلّقها وليُّ زوجها، ثمَّ تربَّص بعد ذلك أربعة أشهر وعشراً ثمَّ تزوَّج.

____________________

١ - سنن البيهقي ٧: ٤٥١.

٢٠٠

ومن طريق ابن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه في امرأة المفقود قال: إن جاء زوجها وقد تزوّجت خيّر بين امرأته وبين صداقها، فإن اختار الصداق كان على زوجها الآخر، وإن اختار امرأته اعتدّت حتّى تحلّ، ثمَّ ترجع إلى زوجها الأوَّل وكان لها من زوجها الآخر مهرها بما استحلَّ من فرجها. قال ابن شهاب: وقضى بذلك عثمان بعد عمر رضي الله عنهما.

وفي لفظ الشافعي: إذا تزوَّجت فقدم زوجها قبل أن يدخل بها زوجها الآخر كان أحقّ بها فإن دخل بها زوجها الآخر فالأوَّل المفقود بالخيار بين امرأته والمهر.(١)

قال الأميني: من لي بمتفقِّه في المسألة؟ يخبرني عن علّة تريُّث المفقود عنها زوجها أربع سنين، أهو مأخوذٌ من كتاب الله؟ فأين هو؟ أم أُخذ من سنَّة رسول الله صلى الله عليه وآله فمن ذا الذي رواها ونقلها؟ والصحاح والمسانيد للقوم خالية عنها، نعم ربما يُتشبَّث للتقدير بأنّها نهاية مدَّة الحمل قال البقاعي في فيض الإله المالك ٢: ٢٦٣: وسبب التقدير بأربع سنين إنَّها نهاية مدَّة الحمل وقد أخبر بوقوعه لنفسه الإمام الشافعي وكذا الإمام مالك وحكي عنه أيضاً أنَّه قال: جارتنا امرأة صدق وزوجها رجل صدق حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كلَّ بطن أربع سنين، وورد هذا عن غير تلك المرأة أيضاً. ا هـ.

وهذا التعليل حكاه ابن رشد في مقدّمات المدوَّنة الكبرى ٢: ١٠١ عن أبي بكر الأبهري ثمَّ عقَّبه بقوله: وهو تعليلٌ ضعيف لأنَّ العلّة لو كانت في ذلك هذا لوجب أن يستوي فيه الحرُّ والعبد(٢) لاستوائهما في مدَّة لحوق النسب. ولوجب أن يسقط جملةً في الصغيرة التي لا يوطأ مثلها إذا فقد عنها زوجها فقام عنها أبوها في ذلك فقد قال: إنَّها لو أقامت عشرين سنة ثمَّ رفعت أمرها لضرب لها أجل أربعة أعوام وهذا يبطل تعليله إبطالاً ظاهراً. اهـ

وليت هذا المتشبِّث أدلى في حجَّته بذكر أناس تريّثوا في الأرحام النزيهة

____________________

١ - موطأ مالك ٢: ٢٨، كتاب الأم للشافعي ٧: ٢١٩، سنن البيهقي ٧: ٤٤٥، ٤٤٦

٢ - التفصيل بين الحر والعبد بأنّ امرأة الحرّ يضرب لها الأجل أربعة أعوام ولامرأة العبد تربّص عامين كما نصّ عليه ابن رشد رأي مجرّد لا دليل عليه.

٢٠١

عن الخنا أربعاً قبل فتيا الخليفتين وإلّا فما غناء قصَّة وقعت بعدهما بردح طويل من الزمن ولا يُدرى أصحيحةٌ هي أم مكذوبةٌ؟ وعلى فرض الصحَّة فهل كان الخليفتان يعلمان الغيب؟ وإنَّه سينتج المستقبل الكشّاف رجلاً يكون حجَّة لما قدَّراه من مدَّة التربُّص؟ أو كان ما قدَّراه فتوى مجرَّدة؟ فنحتت لها الأيّام علّةً بعد الوقوع.

على أنَّ أقصى مدَّة الحمل محلُّ خلاف بين الفقهاء، ذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى أنّه عامان، ومذهب الشافعي أنّه أربعة أعوام، وأختار ابن القاسم أن أكثره خمسة أعوام(١) وروى أشهب عن مالك سبعة أعوام على ما روى: إنَّ امرأة إبن عجلان ولدت ولداً مرَّة لسبعة أعوام(٢)

ولعلَّ أبناء عجلان آخرين في أرجاء العالم لا يُرفع أمر حلائلهم إلى مالك والشافعي وقد ولدن أولاداً لثمانية أو تسعة أو عشرة أعوام، دع العقل والطبيعة والبرهنة تستحيل ذلك كلّه، ما هي وما قيمتها تجاه ما جاءت به امرأة عجلان وحكم به مالك؟ أو وِجاه ما أتت به أمُّ الإمام الشافعي فأفتى به.

نقل ابن رشد في سبب التقدير بأربعة أعوام عللاً غير هذا وإن ردَّها وفنّدها، منها إنّها المدَّة التي تبلغها المكاتبة في بلد الاسلام مسيراً ورجوعاً، ومنها: إنّه جهل إلى أيِّ جهة سار من الأربع جهات، فلكلِّ جهة تربُّص سنة فهي أربع سنين. هذا مبلغ علمهم بفلسفة آراء جاء بها عمر وعثمان فأين يقع هو من حِكَم ما صدع به النبيُّ الأقدس؟.

ثمَّ يخبرني هذا المتفقّه عن هذه العدَّة التي أثبتها الخليفتان لماذا هي؟ فإن كانت عدَّة الوفاة؟ فإنّها غير جازمة بها، ولا تثبت بمجرَّد مرور أربع سنين أو أكثر وفي رواية عن عمر كما سمعت إنّه قضى في المفقود تربُّص امرأته أربع سنين ثمَّ يطلّقها وليُّ روجها ثمَّ تربّص بعد ذلك أربعة أشهر وعشراً ثمَّ تزوَّج(٣) . فعلى هذا إنّها عدَّة الطلاق فيجب أن تكون ثلاثة قروء، فما هذا أربعة أشهر وعشراً؟ وعلى فرض ثبوت هذه العدَّة ولو بعد الطلاق من باب الأخذ بالحائطة فما علاقة الزوج بها؟ حتّى إنّه إذا جاء

____________________

١ - في الفقه على المذاهب الأربعة ٤: ٥٣٥: إنه خمس سنين على الراجح.

٢ - راجع مقدمات المدوّنة الكبرى للقاضي ابن رشد ٢: ١٠٢.

٣ - سنن البيهقي ٧: ٤٤٥.

٢٠٢

بعد النكاح خُيِّر بين امرأته وبين صداقها، وقد قطع الشرع أيَّ صلة بينهما ورخّص في تزويجها، فنكحت على الوجه المشروع، قال ابن رشد(١) : ألا ترى إنّها لو ماتت بعد العدَّة لم يوقف له ميراث منها، وإن كان لو أتى في هذه الحالة كان أحقَّ بها، ولو بلغ هو من الأجل ما لا يجئ إلى مثله من السنين وهي حيّة لم تورث منه، وإنَّما يكون لها الرضا بالمقام على العصمة ما لم ينقض الأجل المفروض، وأمّا إذا انقضى واعتدَّت فليس ذلك لها وكذلك إن مضت بعد العدَّة.

ثمَّ ما وجه أخذ الصداق من الزوج الثاني عند اختيار الأوَّل الصداق ولم يأت بمأثم وإنّما تزوَّج بامرأة أباحها له الشريعة.

وأعجب من كلِّ هذه أنَّ هذه الروايات بمشهد من الفقهاء كلّهم ولم يفتِ بمقتضاها أئمَّة المذاهب في باب الخيار، قال مالك في الموطأ ٢: ٢٨: إن تزوَّجت بعد انقضاء عدَّتها فدخل بها زوجها أو لم يدخل بها فلا سبيل لزوجها الأوَّل إليها. وقال: وذلك الأمر عندنا، وإن أدركها زوجها قبل أن تتزوَّج فهو أحقُّ بها.

وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: لا تحلُّ امرأة المفقود حتّى يصحَّ موته. قاله القاضي إبن رشد في بداية المجتهد ٢: ٥٢ فقال: وقولهم مرويٌّ عن عليّ وابن مسعود.

وقال الحنفيّة: يُشترط لوجوب النفقة على الزوج شروطٌ: أحدها أن يكون العقد صحيحاً فلو عقد عليها عقداً فاسداً أو باطلاً وأنفق عليها ثمَّ ظهر فساد العقد أو بطلانه فإنَّ له الحقُّ في الرجوع عليها بما أنفقه.

ومن ذلك ما إذا غاب عنها زوجها فتزوَّجت بزوج آخر ودخل بها ثمَّ حضر زوجها الغائب فإنَّ نكاحها الثاني يكون فاسداً، ويفرِّق القاضي بينهما، وتجب عليها العدَّة بالوطئ الفاسد، ولا نفقة لها على الزوج الأوَّل ولا على الزوج الثاني(٢) .

قال الشافعي في كتاب «الأُمّ» ٥: ٢٢١: لم أعلم مخالفاً في أنَّ الرجل أو المرأة لو غابا أو أحدهما برّاً أو بحراً عُلم مغيبهما أو لم يُعلم فماتا أو أحدهما فلم يُسمع لهما بخبر

____________________

١ - مقدمات المدوّنة الكبرى ٢: ١٠٤.

٢ - الفقه على المذاهب الأربعة ٣: ٥٦٥.

٢٠٣

أو أسرهما العدوّ فصيّروهما إلى حيث لا خبر عنهما لم نورِّث وحداً منهما من صاحبه إلّا بيقين وفاته قبل صاحبه، فكذلك عندي امرأة الغائب أيّ غيبة كانت ممّا وصفتُ أو لم أصف بأسار عدوّ أو بخروج الزوج ثمَّ خفي مسلكه أو بهيامٍ من ذهاب عقل أو خروج فلم يُسمع له ذكرٌ أو بمركب في بحر فلم يأتي له خبرٌ أو جاء خبر أن غرق كان يرون إنَّه قد كان فيه ولا يستيقنون إنَّه فيه، لا تعتدُّ إمرأته ولا تنكح أبداً حتّى يأتيها بيقين وفاته، ثمَّ تعتدُّ من يوم استيقنت وفاته وترثه، ولا تعتدُّ امرأة من وفاة ومثلها يرث إلّا ورثت زوجها الذي اعتدّت من وفاته، ولو طلّقها وهو خفيُّ الغيبة بعد أيِّ هذه الأحوال كانت، أو آلى منها، أو تظاهر، أو قذفها، لزم ما يلزم الزوج الحاضر في ذلك كله، وإذا كان هذا هكذا لم يجز أن تكون امرأة رجل يقع عليها ما يقع على الزوجة تعتدُّ لا من طلاق ولا وفاة، كما لو ظننت أنّه طلّقها أو مات عنها لم تعتدّ من طلاق إلّا بيقين، وهكذا لو تربَّصت سنين كثيرة بأمر حاكم واعتدَّت وتزوَّجت فطلّقها الزوج الأوَّل المفقود لزمها الطلاق، وكذا إن آلى منها، أو تظاهر، أو قذفها، لزمه ما يلزم الزوج، وهكذا لو تربَّصت بأمر حاكم أربع سنين ثمَّ اعتدَّت فأكملت أربعة أشهر وعشراً ونكحت ودخل بها أو نكحت ولم يدخل بها أو لم تنكح وطلّقها الزوج الأوَّل المفقود في هذه الحالات لزمها الطلاق لأنّه زوجٌ، وهكذا لو تظاهر منها أو قذفها أو آلى منها لزمه ما يلزم المولى غير إنّه ممنوعٌ من فَرجها بشبهة بنكاح غيره فلا يقال له فئ حتّى تعتدَّ من الآخر إذا كانت دخلت عليه، فإذا أكملت عدَّتها أجّل من يوم تكمل عدَّتها أربعة أشهر، وذلك حين حلَّ له فرْجها وإن أصابها فقد خرج من طلاق الايلاء وكفر وإن لم يصبها قيل له: أصبها أو طلّق.

قال: وينفق عليها من مال زوجها المفقود من حين يُفقد حتّى يعلم يقين موته، وإن أجَّلها حاكمٌ أربع سنين أنفق عليها فيها وكذلك في الأربعة الأشهر والعشر من مال زوجها، فإذا نكحت لم ينفق عليها من مال الزوج المفقود لأنَّها مانعةٌ له نفسها، وكذلك لا ينفق عليها وهي في عدَّة منه لو طلّقها أو مات عنها ولو بعد ذلك، ولم أمنعها النفقة من قِبَل إنَّها زوجة الآخر، ولا إنَّ عليها منه عدَّة، ولا إنَّ بينهما ميراثاً، ولا إنّه يلزمها طلاقه، ولا شيء من الأحكام بين الزوجين إلّا لحوق الولد به إن أصابها وإنّما

٢٠٤

منعتها النفقة من الأوَّل لأنّها مخرجة نفسها من يديه ومن الوقوف عليه، كما تقف المرأة على زوجها الغائب بشبهة، فمنعتها نفقتها في الحال التي كانت فيها مانعة له نفسها بالنكاح والعدَّة، وهي لو كانت في المصر مع زوج فمنعته نفسها منعتها نفقتها بعصيانها، ومنعتها نفقتها بعد عدَّتها من زوجها الآخر بتركها حقِّها من الأوَّل وإباحتها نفسها لغيره، على معنى إنَّها خارجةٌ من الأوَّل، ولو أنفق عليها في غيبته ثمَّ ثبتت البيِّنة على موته في وقت ردَّت كلَّ ما أخذت من النفقة من حين مات فكان لها الميراث.

ولو حكم لها حاكمٌ بأن تزوَّج فتزوَّجت فسخ نكاحها وإن لم يدخل بها فلا مهر لها، وإن دخل بها فأصابها فلها مهر مثلها لا ما سمِّي لها وفسخ النكاح وإن لم يفسخ حتّى مات أو ماتت فلا ميراث لها منه ولا له منها.

قال: ومتى طلّقها الأوَّل وقع عليها طلاقه، ولو طلّقها زوجها الأوَّل أو مات عنها وهي عند الزوج الآخر كانت عند غير زوج فكانت عليها عدَّة الوفاة والطلاق ولها الميراث في الوفاة والسكنى في العدَّة في الطلاق وفيمن رآه لها بالوفاة، ولو مات الزوج الآخر لم ترثه وكذلك لا يرثها لو ماتت.. الخ.

فأنت بعد هذه كلها جِدُّ عليم بأنَّه لو كان على ما أفتى به الخليفتان مسحةٌ من أصول الحكم والفتيا لَما عدل عنه هؤلاء الأئمَّة، ولَما خالفهما قبلهم مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، ولَما قال عليه السلام في أمرأة المفقود إذا قدم وقد تزوَّجت امرأته: هي امرأته إن شاء طلّق وإن شاء أمسك ولا تخيّر.

ولَما قال عليه السلام: إذا فقدت المرأة زوجها لم تتزوَّج حتّى تعلم أمره.

ولَما قال عليه السلام: إنَّها لا تتزوَّج.

ولَما قال عليه السلام: ليس الذي قال عمر رضي الله عنه بشيء، هي امرأة الغائب حتّى يأتيها يقين موته أو طلاقها، ولها الصداق من هذا بما استحلَّ من فَرْجها ونكاحه باطلٌ

ولَما قال عليه السلام: هي امرأة الأوَّل دخل بها الآخر أو لم يدخل بها.

ولَما قال عليه السلام: امرأةٌ ابتليت فلتصبر لا تنكح حتّى يأتيها يقين موته(١) . قال

____________________

١ - كتاب الأم للشافعي ٥: ٢٢٣، البيهقي ٧: ٤ ٤٤، ٤٤٦، مقدّمات المدوّنة الكبرى ٢: ١٠٣.

٢٠٥

الشافعي بعد ذكر الحديث: وبهذا نقول.

وأمير المؤمنين كما تعلم أفقه الصحابة على الإطلاق؛ وأعلم الأُمَّة بأسرها، وباب مدينة العلم النبويِّ، ووارث علم النبيِّ الأقدس على ما جاء عنه صلى الله عليه وآله، فليتهما رجعا إليه صلوات الله عليه في حكم المسألة ولم يستبدَّا بالرأي المجرَّد كما استعلماه في كثير ممّا أربكهما من المشكلات، وأنَّى لهما باقتحام المعضلات وهما هما؟ وأيَّ رأي هذا ضربت عنه الأمَّة صفحا؟ وكم له من نظير؟ وكيف أوصى النبيُّ الأعظم باتِّباع أُناس هذه مقاييس آرائهم في دين الله، وهذا مبلغهم من العلم، بقوله فيهم: عليكم بسنّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين فتمسَّكوا بها؟(١)

خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحقِّ (سورة ص: ٢٢).

- ١٩ -

الخليفة يأخذ حكم الله من أُبيّ

أخرج البيهقي في السنن الكبرى،: ٤١٧ بالإسناد عن أبي عبيد قال: أرسل عثمان رضي الله عنه إلى أُبيّ يسأل عن رجل طلّق امرأته ثمَّ راجعها حين دخلت في الحيضة الثالثة. قال أُبيّ: إنِّي أرى إنَّه أحقّ بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة، وتحلُّ لها الصَّلاة. قال: لا أعلم عثمان رضي الله عنه إلّا أخذ بذلك.

قال الأميني: صريح الرواية إنَّ الخليفة كان جاهلاً بهذا الحكم حتّى تعلّمه من أُبيّ؟ وأخذ بفتياه، ولا شكَّ إنَّ الذي علّمه هو خيرٌ منه، فهلّا ترك المقام له أو لمن هو فوقه؟ وفوق كلِّ ذي علم عليم، ولو ترك الأمر لمن لا يسأل غيره في أيِّ من مسائل الشريعة لدخل مدينة العلم من بابها.

وحسبك في مبلغ علم الخليفة قول العيني في عمدة القاري ٢: ٧٣٣: إنَّ عمر كان أعلم وأفقه من عثمان. وقد أوقفناك على علم عمر في الجزء السادس وذكرنا نوادر الأثر في علمه، فانظر ماذا ترى؟.

- ٢٠ -

الخليفة يأخذ السنَّة من امرأة

أخرج الإمامان: الشافعي ومالك وغيرهما بالإسناد عن فريعة بنت مالك بن سنان

____________________

١ - أسلفنا الحديث في الجزء السادس ص ٣٣٠ ط ٢ وبينا المعنى الصحيح المراد منه.

٢٠٦

أخبرت: إنَّها جاءت النبيَّ صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرَة وإنَّ زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتّى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فانصرفت حتّى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت له قال: فكيف قلت: فرددت عليه القصَّة التي ذكرت له من شأن زوجي فقال: امكثي في بيتك حتّى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً فلمّا كان عثمان أرسل إليَّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتَّبعه وقضى به.

قال الشافعي في (الرسالة): وعثمان في إمامته وفضله وعلمه يقضي بخبر امرأة بين المهاجرين والأنصار.

قال في اختلاف الحديث: أخبرت الفريعة بنت مالك عثمان بن عفان إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرها أن تمكث بيتها وهي متوفّى عنها حتّى يَبلغ الكتاب أجله فأتَّبعه وقضى به.

قال ابن القيِّم في زاد المعاد: حديثٌ صحيحٌ مشهورٌ في الحجاز والعراق وأدخله مالك في موطَّأه، واحتجَّ به وبنى عليه مذهبه، ثمَّ ذكر تضعيف ابن حزم إيَّاه وفنَّده وقال: ما قاله أبو محمّد فغير صحيح. وذكر قول ابن عبد البرِّ في شهرته، وإنَّه معروفٌ عند علماء الحجاز والعراق.

راجع الرسالة للشافعي ص ١١٦، كتاب الأُمّ له ٥: ٢٠٨، اختلاف الحديث له: هامش كتابه الأُمّ ٧: ٢٢، موطأ مالك ٢: ٣٦، سنن أبي داود ١: ٣٦٢، سنن البيهقي ٧: ٤٣٤، أحكام القرآن للجصّاص ١: ٤٩٦، زاد المعاد ٢: ٤٠٤، الإصابة ٤: ٣٨٦، نيل الأوطار ٧: ١٠٠ فقال: رواه الخمسة وصحَّحه الترمذي ولم يذكر النسائي وإبن ماجة إرسال عثمان.

قال الأميني: هذه كسابقتها تكشف عن قصور علم الخليفة عمّا توصَّلت إليه المرأة المذكورة، وهاهنا نعيد ما قلناه هنالك، فارجع البصر كرَّتين، وأعجب من خليفة يأخذ معالم دينه من نساء أمَّته وهو المرجع الوحيد للأمَّة جمعا، يومئذ في كلِّ ما جاء به الاسلام المقدَّس كتاباً وسنَّة، وبه سُدَّ فراغ النبيِّ الأعظم، وعليه يُعوَّل في مشكلات الأحكام وعويصات المسائل فضلاً عن مثل هذه المسألة البسيطة.

٢٠٧

ثمَّ اعجب من ابن عمر أنَّه يرى مَن هذا مبلغ علمه أعلم الصحابة في يومه، ما عشت أراك الدهر عجباً.

- ٢١ -

رأي الخليفة في الاحرام قبل الميقات

أخرج البيهقي في السنن الكبرى ٥: ٣١ بالإسناد عن داود بن أبي هند إنَّ عبد الله(١) بن عامر بن كريز حين فتح خراسان قال: لأجعلنَّ شكري لله أن أخرج من موضعي محرماً فأحرم من نيسابور فلمّا قدم على عثمان لامه على ما صنع قال: ليتك تضبط من الوقت الذي يحرم منه الناس.

لفظ آخر من طريق محمَّد بن إسحاق قال: خرج عبد الله بن عامر من نيسابور معتمراً قد أحرم منها، وخلف على خراسان الأحنف بن قيس، فلمّا قضى عمرته أتى عثمان ابن عفان رضي الله عنه وذلك في السنة التي قتل فيها عثمان رضي الله عنه فقال له عثمان رضي الله عنه: لقد غررت بعمرتك حين أحرمت من نيسابور.

وقال ابن حزم في المحلّى ٧: ٧٧: روينا من طريق عبد الرزاق نامعمر عن أيوب السختياني عن محمّد بن سيرين قال: أحرم عبد الله بن عامر من حيرب(٢) فقدم عثمان بن عفان فلامه فقال له: غررت وهان عليك نسكك. وفي لفظ ابن حجر: غررت بنفسك.

فقال ابن حزم: قال أبو محمَّد (يعني نفسه): وعثمان لا يعيب عملاً صالحاً عنده ولا مباحاً وإنَّما يعيب ما لا يجوز عنده لا سيَّما وقد بيَّن إنَّه هوان بالنسك والهوان بالنسك لا يحلُّ وقد أمر الله تعالى بتعظيم شعائر الحجِّ.

وذكره ابن حجر في الإصابة ٣: ٦١ وقال: أحرم ابن عامر من نيسابور شكراً لله تعالى وقدم على عثمان فلامه على تغريره بالنسك. فقال: كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان، ثمَّ ذكر الحديث من طريق سعيد بن منصور وأبي بكر ابن أبي شيبة وفيه: أنَّ ابن عامر أحرم من خراسان. فذكره من طريق محمَّد بن سيرين والبيهقي فقال: قال البيهقي: هو عن عثمان مشهورٌ(٣)

____________________

١ - هو ابن خال عثمان بن عفان. كما في الإصابة راجع ج ٣: ٦١.

٢ - وفي نسخة: جيرب. ولم أجدهما في المعاجم.

٣ - توجد كلمة البيهقي هذه في سننه الكبرى ٥: ٣١.

٢٠٨

وذكر هذه كلها في تهذيب التهذيب ٥: ٢٧٣ غير كلمة البيهقي في شهرة الحديث وفي تيسير الوصول ١: ٢٦٥: عن عثمان رضي الله عنه: إنَّه كره أن يحرم الرجل من خراسان وكرمان. أخرجه البخاري في ترجمته.

قال الأميني: إنَّ الذي ثبت في الإحرام بالحجِّ أو العمرة إنَّ هذه المواقيت حدٌّ للأقلِّ من مدى الاحرام بمعنى إنَّه لا يعدوها الحاجُّ وهو غير محرم، وأمّا الإحرام قبلها من أيِّ البلاد شيء أو من دويرة أهل المحرم، فإن عقده باتخاذ ذلك المحلِّ ميقاتاً فلا شك إنَّه بدعةٌ محرَّمة كتأخيره عن المواقيت، وأمّا إذا جئ به للأستزادة من العبادة عملاً بإطلاقات الخير والبرّ، أو شكراً على نعمة، أو لنذر عقده المحرم فهو كالصَّلاة والصوم وبقيَّة القرب للشكر أو بالنذر أو لمطلق البرّ، تشمله كلٌّ من أدلَّة هذه العناوين ولم يرد عنه نهي من الشارع الأقدس، وإنَّما المأثور عنه وعن أصحابه ما يلي:

١ - أخرج أئمَّة الحديث بإسناد صحيح من طريق الأخنسي عن أمِّ حكيم عن أمِّ سلمة مرفوعاً: مَن أهلَّ من المسجد الأقصى لعمرة أو بحجَّة غفر الله ما تقدَّم من ذنبه. قال الأخنسي: فركبت أُمُّ حكيم عند ذلك الحديث إلى بيت المقدس حتّى أهلّت منه بعمرة.

وفي لفظ أبي داود والبيهقي والبغوي: من أهلَّ بحجَّة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر. أو: وجبت له الجنَّة. وفي لفظ: ووجبت له الجنَّة.

وفي لفظ ابن ماجة: من أهلَّ بعمرة من بيت المقدس غُفر له.

وفي لفظ له أيضاً: من أهلّ بعمرة من بيت المقدس كانت له كفّارة لِما قبلها من الذنوب. قالت: فخرجت أُمِّي من بيت المقدس بعمرة.

وقال أبو داود بعد الحديث: يرحم الله وكيعاً أحرم من بيت المقدس يعني إلى مكّة.

راجع مسند أحمد ٦: ٢٩٩، سنن أبي داود ١: ٢٧٥، سنن إبن ماجة ٢: ٢٣٥ سنن البيهقي ٥: ٣٠، مصابيح السنَّة للبغوي ١: ١٧٠، والترغيب والترهيب للمنذري ٢: ٦١ ذكره بالألفاظ المذكورة وصحَّحه من طريق ابن ماجة وقال: ورواه ابن حبّان في صحيحه.

٢٠٩

٢ - أخرج ابن عدي والبيهقي من طريق أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:( وَأَتِمّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ ) (١) : إنّ من تمام الحجِّ أن تحرم من دُويرة أهلك.

سنن البيهقي ٥: ٣٠، الدرّ المنثور ١: ٢٠٨، نيل الأوطار ٥: ٢٦ قال: ثبت ذلك مرفوعاً من حديث أبي هريرة.

٣ - أخرج الحفّاظ من طريق عليّ أمير المؤمنين أنَّه قال في قوله تعالى:( وَأَتِمّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ ) : إتمامها أن تحرم بهما من دُويرة أهلك.

أخرجه وكيع، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحّاس في ناسخه ص ٣٤، وابن جرير في تفسيره ٢: ١٢٠، والحاكم في المستدرك ٢: ٢٧٦، وصحَّحه وأقرّه الذهبي، والبيهقي في السنن الكبرى ٦: ٣٠، والجصّاص في أحكام القرآن ١: ٣٣٧، ٣٥٤، تفسير ابن جزي ١: ٧٤، تفسير الرازي ٢: ١٦٢ تفسير القرطبي ٢: ٣٤٣، تفسير ابن كثير ١: ٢٣٠، الدرّ المنثور ١: ٢٠٨، نيل الأوطار ٥: ٢٦.

٤ - قال الجصّاص في أحكام القرآن ١: ٣١٠: رُوي عن عليّ وعمر وسعيد بن جبير وطاوس قالوا: إتمامها أن تحرم بهما من دُويرة أهلك.

وقال في ص ٣٣٧: أمّا الإحرام بالعمرة قبل الميقات فلا خلاف بين الفقهاء فيه. وروي عن الأسود بن يزيد قال: خرجنا عُمّاراً، فلمّا انصرفنا مررنا بأبي ذر فقال: أحلقتم الشعث وقضيتم التفث؟ أما إنّ العمرة من مدركم. وإنَّما أراد أبو ذر: أنّ الأفضل إنشاء العمرة من أهلك، كما رُوي عن عليّ: تمامهما أن تحرم بهما من دُويرة أهلك.

وقال الرازي في تفسيره ٢: ١٦٢: روي عن عليّ وابن مسعود: إنّ إتمامهما أن يحرم من دُويرة أهله. وقال في ص ١٧٢: إشتهر عن أكابر الصحابة إنَّهم قالوا: من إتمام الحجِّ أن يحرم المرء من دُويرة أهله.

وقال القرطبي في تفسيره ٢: ٣٤٣ بعد ذكره حديث عليّ عليه السلام: وروي ذلك عن عمر وسعد بن أبي وقاص وفعله عمران بن حصين. ثمّ قال: أمّا ما روي عن عليّ وما فعله عمران بن حصين في الإحرام قبل المواقيت التي وقَّتها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال به عبد الله

____________________

١ - سورة البقرة: ١٩٥.

٢١٠

ابن مسعود وجماعة من السلف، وثبت أنّ عمر أهلّ من إيلياء(١) وكان الأسود وعلقمة وعبد الرّحمن وأبو إسحاق يُحرمون من بيوتهم، ورخَّص فيه الشافعي. ثمَّ ذكر حديث أُم سلمة المذكورة.

وقال ابن كثير في تفسيره ١: ٢٣٠ بعد حديث عليّ عليه السلام: وكذا قال ابن عبّاس وسعيد بن جبير وطاوس وسفيان الثوري.

٥ - أخرج البيهقي في السنن الكبرى ٥: ٣٠ من طريق نافع عن ابن عمر: إنَّه أحرم من إيلياء عام حكم الحكمين.

وأخرج مالك في الموطأ ١: ٢٤٢: إنّ ابن عمر أهلّ بحجَّة من إيلياء. وذكره ابن الديبع في تيسير الوصول ١: ٢٦٤، وسيوافيك عن ابن المنذر في كلام أبي زرعة: إنَّه ثابتٌ.

قال الشافعي في كتاب «الأُمِّ» ٢: ١١٨: أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن ديناد عن طاوس قال: «ولم يسمِّ عمرو القائل إلّا إنّا نراه ابن عبّاس» الرّجل يهلّ من أهله ومن بعد ما يجاوز أين شاء ولا يجاوز الميقات إلّا محرماً. إلى أن قال:

قلت: إنَّه لا يضيق عليه أن يبتدئ الإحرام قبل الميقات كمالا يضيق عليه لو أحرم من أهله، فلم يأت الميقات إلّا وقد تقدَّم بإحرامه لأنَّه قد أتى بما أُمر به من أن يكون محرماً من الميقات. اهـ

قال ملك العلماء في بدايع الصنايع ٢: ١٦٤: كلّما قدَّم الإحرام على المواقيت هو أفضل وروي عن أبي حنيفة: إنَّ ذلك أفضل إذا كان يملك نفسه أن يمنعها ما يمنع منه الإحرام، وقال الشافعي: الإحرام من الميقات أفضل بناء على أصله أنَّ الإحرام ركنٌ فيكون من أفعال الحجِّ، ولو كان كما زعم لَما جاز تقديمه على الميقات لأنَّ أفعال الحجِّ لا يجوز تقديمها على أوقاتها(٢) وتقديم الاحرام على الميقات جايزٌ بالاجماع إذا كان في أشهر الحجِّ، والخلاف في الأفضليَّة دون الجواز، ولنا قوله تعالى:( وَأَتِمّوا

____________________

١ - إيلياء بالمد وتقصر: اسم مدينة بيت المقدس.

٢ - لا صلة بين ركنية الاحرام وكونه من افعال الحج وبين عدم جواز تقديمه على المواقيت كما زعمه ملك العلماء، بل هو ركن يجوز تقديمه عليها لما مرَّ من الأدلة.

٢١١

الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ ) ، وروي عن عليّ وابن مسعود رضي الله عنهما إنَّهما قالا: إتمامهما أن تحرم بهما من دُويرة أهلك. وروي عن أمِّ سلمة. الخ.

وقال القرطبي في تفسيره ٢: ٣٤٥: أجمع أهل العلم على أنَّ من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنَّه محرمٌ، وإنَّما منع من ذلك مَن رأى الإحرام عند الميقات أفضل كراهية أن يضيّق المرأ على نفسه ما وسَّع الله عليه، وأن يتعرَّض بما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه، وكلّهم ألزمه الإحرام إذا فعل ذلك، لأنَّه زاد ولم ينقص.

وقال الحافظ أبو زرعة في طرح التثريب ٥: ٥ قد بيّنا إنَّ معنى التوقيت بهذه المواقيت منع مجاوزتها بلا إحرام إذا كان مريداً للنسك، أمّا الاحرام قبل الوصول إليها فلا مانع منه عند الجمهور، ونقل غير واحد الإجماع عليه، بل ذهب طائفةٌ من العلماء إلى ترجيح الإحرام من دُويرة أهله على التأخير إلى الميقات وهو أحد قولي الشافعي، ورجَّحه من أصحابه القاضي أبو الطيب والروياني والغزالي والرافعي وهو مذهب أبي حنيفة، وروي عن عمر وعلي إنّهما قالا في قوله تعالى:( وَأَتِمّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ ) : إتمامهما أن تحرم بهما من دُويرة أهلك، وقال ابن المنذر: ثبت إنَّ ابن عمر أهلَّ من إيلياء يعني بيت المقدس، وكان الأسود وعلقمة وعبد الرحمن وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم. إنتهى. لكن الأصحَّ عند النووي من قولي الشافعي: إنَّ الاحرام من الميقات أفضل، ونقل تصحيحه عن الأكثرين والمحقِّقين، وبه قال أحمد وإسحاق، وحكى ابن المنذر فعله عن عوام أهل العلم بل زاد مالك عن ذلك فكره تقدُّم الاحرام على الميقات، وقال ابن المنذر: وروينا عن عمر إنَّه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وكره الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح ومالك الاحرام من المكان البعيد. إنتهى.

وعن أبي حنيفة رواية أنّه إن كان يملك نفسه عن الوقوع في محظور فالإحرام من دويرة أهله أفضل، وإلّا فمن الميقات، وبه قال بعض الشافعيَّة.

وشذَّ ابن حزم الظاهري فقال: إن أحرم قبل هذه المواقيت وهو يمرُّ عليها فلا إحرام له أن ينوي إذا صار الميقات تجديد إحرام، وحكاه عن داود وأصحابه وهو قولٌ مردودٌ بالاجماع قبله على خلافه قاله النووي، وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنَّ مَن أحرم قبل أن يأتي الميقات فهو محرمٌ، وكذا نقل الإجماع في ذلك الخطابي وغيره.

٢١٢

وذكر الشوكاني في نيل الأوطار ٥: ٢٦ جواز تقديم الإحرام على الميقات مستدلّاً عليه بما مرَّ في قوله تعالى:( وَأَتِمّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ ) . ثمَّ قال:

وأمّا قول صاحب المنار: إنَّه لو كان أفضل لَما تركه جميع الصحابة. فكلامٌ على غير قانون الاستدلال، وقد حكى في التلخيص إنَّه فسَّره ابن عيينة فيما حكاه عنه أحمد بأن ينشئ لهما سفراً من أهله. لكن لا يناسب لفظ الإهلال الواقع في حديث الباب ولفظ الإحرام الواقع في حديث أبي هريرة. اهـ

والإمعان في هذه المأثورات من الأحاديث والكلم يُعطي حصول الإجماع على جواز تقديم الإحرام على الميقات، وإنَّ الخلاف في الأفضل من التقديم والاحرام من الميقات، لكن الخليفة لم يعطي النظر حقَّه، ولم يُوف للاجتهاد نصيبه، أو أنَّه عزبت عنه السنّة المأثورة، فطفق يلوم عبد الله بن عامر، أو أنّه أحبَّ أن يكون له في المسألة رأيٌ خاصٌّ، وقد قال شمس الدين أبو عبد الله الذهبي:

العلم قال الله قال رسوله

إن صحَّ والإجماع فاجهد فيهِ

وحذار من نصب الخلاف جهالةً

بين الرّسول وبين رأي فقيهِ

وهلمَّ معي واعطف النظرة فيما ذكرناه عن ابن حزم من أنَّ عثمان لا يعيب عملا صالحاً. الخ. فإنَّه غير مدعوم بالحجَّة غير حسن الظنِّ بعثمان، وهذا يجري في أعمال المسلمين كافّة ما لم يزع عنه وازعٌ، وسيرة الرجل تأبي عن الظنِّ الحسن به، وأمّا مسألتنا هذه فقد عرفنا فيها السنَّة الثابتة وإنَّ نهي عثمان مخالفٌ لها، وليس من الهيّن الفَتُّ في عضد السنَّة لتعظيم إنسان وتبرير عمله، فإنَّ المتَّبع في كافّة القُرَب ما ثبت من الشرع، ومن خالفه عيب عليه كائناً من كان.

وأمّا تشبّثه بالهوان بالنسك فتافهٌ جدّاً، وأيّ هوان بها في التأهّب لها قبل ميقاتها بقربةٍ مطلقة إن لم يكن تعظيماً لشعائر الله، وإنَّما الهوان المحرَّم بالنسك إدخال الآراء فيها على الميول والشهوات، ولا تقولوا لِما تصف ألسنتكم الكذِب هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لتفتروا على الله الكذِب،( إِنّ الّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ) . «النحل ١١٦».

٢١٣

- ٢٢ -

لولا عليٌّ لهلك عثمان

أخرج الحافظ العاصميُّ في كتابه «زين الفتى في شرح سورة هل أتى» من طريق شيخه أبي بكر محمّد بن إسحاق بن محمشاد يرفعه: أنَّ رجلاً أتى عثمان بن عفان وهو أمير المؤمنين وبيده جمجمة إنسان ميِّت فقال: إنَّكم تزعمون النار يعرض على هذا وإنّه يعذَّب في القبر وأنا قد وضعت عليها يدي فلا أحسُّ منها حرارة النار. فسكت عنه عثمان وأرسل إلى عليِّ بن أبي طالب المرتضى يستحضره، فلمّا أتاه وهو في ملأ من أصحابه قال للرجل: أعد المسألة. فأعادها، ثمَّ قال عثمان بن عفان: أجب الرَّجل عنها يا أبا الحسن! فقال عليٌّ: ايتوني بزند وحجر. والرجل السائل والناس ينظرون إليه فأُتي بهما فأخذهما وقدَّح منهما النار، ثمَّ قال للرجل: ضع يدك على الحجر. فوضعها عليه ثمَّ قال: ضع يدك على الزند. فوضعها عليه فقال: هل أحسست منهما حرارة النار فبهت الرجل فقال عثمان: لولا عليٌّ لهلك عثمان.

قال الأميني: نحن لا نرقب من عثمان وليد بيت أُميَّة الحيطة بأمثال هذه العلوم التي هي من أسرار الكون، وقد تقاعست عنها معرفة من هو أرقي منه في العلم، فكيف به؟ وإنَّما تُقلّها عيبة العلوم الإلهيَّة المتلقّاة مِن المبدأ الأعلى منشئ الكون ومُلقي أسراره فيه، وهو الذي أفحم السائل هاهنا وفي كلِّ معضلة أعوز القوم عرفانها.

وإنَّما كان المترقّب من عثمان - بعد ما تسنَّم عرش الخلافة - الحيطة بما كان يسمعه ويراه ويفهم ويعقل من السنّة المفاضة على أفراد الصحابة، لئلّا يرتبك في موارد السؤال، فيرتكب العظائم ويفتي بخلاف الوارد، أو يرتأي رأياً عدت عنه المراشد لكن ويا للأسف..

- ٢٣ -

رأي الخليفة في الجمع بين الأُختين بالملك

أخرج مالك في الموطأ ٢: ١٠ عن ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أنَّ رجلاً سأل عثمان بن عفان عن الأُختين من ملك اليمين هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان: أحلّتهما

٢١٤

آيةٌ وحرَّمتهما آيةٌ، فأمّا أنا فلا أحبُّ أن أصنع ذلك. قال: فخرج من عنده فلقي رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال: لو كان لي من الأمر شيءٌ ثمَّ وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً. قال ابن شهاب: أراه عليَّ بن أبي طالب.

*(لفظ آخر للبيهقي)* عن ابن شهاب قال أخبرني قبيصة بن ذؤيب: إنَّ نياراً الأسلمي سأل رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأُختين فيما ملكت اليمين فقال له: أحلّتهما آية وحرَّمتهما آية، ولم أكن لأفعل ذلك. قال: فخرج نيار مِن عِند ذلك الرجل فلقيه رجلٌ آخر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أفتاك به صاحبك الذي استفيته فأخبره فقال: إنِّي أنهاك عنهما ولو جمعت بينهما ولي عليك سلطانٌ عاقبتك عقوبة منكلة.

قال ملك العلماء في البدايع: وروي عن عثمان رضي الله عنه أنَّه قال: كلُّ شيء حرَّمه الله تعالى من الحرائر حرَّمه الله تعالى من الإماء إلّا الجمع في الوطئ بملك اليمين.

وقال الجصّاص في أحكام القرآن: وروي عن عثمان وابن عبّاس إنّهما أباحا ذلك وقالا: أحلّتهما آية وحرَّمتهما آية. وقال: روي عن عثمان الإباحة، وروي عنه أنّه ذكر التحريم والتحليل وقال: لا آمر به ولا أنهى عنه. وهذا القول منه يدلُّ على أنَّه كان ناظراً فيه غير قاطع بالتحليل والتحريم فيه فجائزٌ أن يكون قال فيه بالإباحة ثمَّ وقف فيه، وقطع عليٌّ فيه بالتحريم.

وقال الزمخشري: أمَّا الجمع بينهما في ملك اليمين فعن عثمان وعليٍّ رضي الله عنهما أنَّهما قالا: أحلّتهما آية وحرَّمتهما آية. فرجَّح عليٌّ التحريم وعثمان التحليل.

قال الرازي: عن عثمان أنَّه قال: أحلّتهما آيةٌ وحرَّمتهما آيةٌ والتحليل أولى.

قال ابن عبد البرِّ في كتاب الاستذكار(١) : إنَّما كنّى قبيصة بن ذؤيب عن عليِّ بن أبي طالب لصحبته عبد الملك بن مروان، وكانوا يستثقلون ذكر عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

راجع السنن الكبرى للبيهقي ٧: ١٦٤، أحكام القرآن للجصّاص ٢: ١٥٨، المحلّى لابن حزم ٩: ٥٢٢، تفسير الزمخشري ١: ٣٥٩، تفسير القرطبي ٥: ١١٧، بدايع الصنايع

____________________

١ - في بيان حديث الموطأ المذكور في أول العنوان في قول قبيصة: فلقي رجلا.

٢١٥

للملك العلماء ٢: ٢٦٤، تفسير الخازن ١: ٣٥٦، الدر المنثور ٢: ١٣٦ نقلاً عن مالك والشافعي وعبد بن حميد وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والبيهقي، تفسير الشوكاني ١: ٤١٨ نقلاً عن الحفّاظ المذكورين.

قال الأميني: يقع البحث عن هذه المسئلة في موردين الأوَّل: في حكم الجمع بين الأُختين بملك اليمين ووطأهما جميعاً فهو محرَّمٌ على المشهور بين الفقهاء كما قاله الرازي في تفسيره ٣: ١٩٣.

وهو المشهور عن الجمهور والأئمَّة الأربعة وغيرهم وإن كان بعض السلف قد توقّف في ذلك كما قاله ابن كثير في تفسيره ١: ٤٧٢.

ولا يجوز الجمع عند عامَّة الصحابة كما في بدايع ٢: ٢٦٤.

كان فيه خلافٌ بين السلف ثمَّ زال وحصل الإجماع على تحريم الجمع بينهما بملك اليمين. واتّفق فقهاء الأمصار عليه كما قاله الجصّاص في أحكام القرآن ٢: ١٥٨.

وذهب كافَّة العلماء إلى عدم جوازه ولم يلتفت أحدٌ من أئمَّة الفتوى إلى خلافه (قول عثمان) لأنَّهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه ولا يجوز عليهم تحريف التأويل وممّن قال ذلك من الصحابة عمر وعليٌّ وابن عبّاس وعمّار وابن عمر وعائشة وابن الزبير وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله فمن خالفهم فهو متعسِّفٌ في التأويل. كذا قاله القرطبي في تفسيره ٥: ١١٦، ١١٧.

وقال أبو عمر في الاستذكار: روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عبّاس ولكن اختلف عَليهم ولم يلتفت إلى ذلك أحدٌ من فقهاء الأمصار والحِجاز والعراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشام والمغرب إلّا من شذَّ عن جماعتهم باتّباع الظاهر ونفي القياس، وقد ترك من يعمل ذلك ظاهراً ما اجتمعنا عليه، وجماعة الفقهاء متَّفقون على أنَّه لا يحلُّ الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطئ كما لا يحلُّ ذلك في النكاح.(١)

وحكيت الحرمة المتسالم عليها بين الأُمَّة جمعاء عن عليٍّ وعمر والزبير وابن عبّاس وابن مسعود وعائشة وعمّار وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وابن منبة وإسحاق

____________________

١ - تفسير ابن كثير ١: ٤٧٣، تفسير الشوكاني ١: ٤١١.

٢١٦

ابن راهويه وإبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة وحمّاد بن أبي سليمان والشعبي والحسن البصري وأشهب والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي حنيفة ومالك(١) .

ومع المجمعين الكتاب والسنَّة فمن الكتاب إطلاق الذكر الحكيم في عدِّ المحرَّمات في قوله تعالى:( وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ) (سورة النساء ٢٣) فقد حرّمت الجمع بينهما بأيِّ صورة من نكاح أو ملك يمين قال ابن كثير في تفسيره ١: ٤٧٣: وقد أجمع المسلمون على أنَّ معنى قوله:( حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ ) . إلى آخر الآية(٢) : أنَّ النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهنَّ سواء وكذلك يجب أن يكون نظراً و قياساً الجمع بين الأُختين وأمّهات النساء والربائب، وكذلك هو عند جمهورهم وهم الحجَّة المحجوج بها «على» من خالفها وشذَّ عنها. ه‍.

وقد تمسّك بهذا الإطلاق الصحابة والتابعون والعلماء وأئمّة الفتوى والمفسِّرون وكان مولانا أمير المؤمنين عليه السلام يشدّد النكير على مَن يفعل ذلك ويقول: لو كان لي من الأمر شيءٌ ثمَّ وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً. أو يقول للسائل: إنِّي أنهاك عنهما ولو جمعت بينهما ولي عليك سلطانٌ عاقبتك عقوبة منكلة.

وروي عن أياس بن عامر أنّه قال: سألت عليَّ بن أبي طالب فقلت: إنَّ لي أختين ممّا ملكت يميني إتّخذت إحداهما سريّة وولدت لي أولاداً ثمَّ رغبت في الأُخرى فما أصنع؟ قال: تعتق التي كنت تطأ ثمَّ تطأ الأُخرى ثمَّ قال: إنّه يحرم عليك ممّا ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله من الحرائر إلّا العدد. أو قال: إلّا الأربع ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب(٣) .

ولو لم يكن في هذا المورد غير كلام الإمام عليه السلام لنهض حجَّة للفتوى فإنّه أعرف الأمّة بمغازي الكتاب وموارد السنّة، وهو باب علم النبيِّ صلّى الله عليهما وآلهما

____________________

١ - راجع أحكام القرآن للجصّاص ٢: ١٥٨، المحلّى لابن حزم ٩: ٥٢٢، ٥٢٣، تفسير القرطبي ٥: ١١٧، ١١٨، تفسير أبي حيان ٣: ٢١٣، تفسير الرازي ٣: ١٩٣، الدر المنثور ٢، ١٣٧.

٢ - هي آية: وأن تجمعوا بين الأختين.

٣ - أخرجه الجصّاص في أحكام القرآن ٢: ١٥٨، وأبو عمر في الاستذكار، وذكره ابن كثير في تفسيره ١: ٤٧٢، والسيوطي في الدر المنثور ٢: ١٣٧.

٢١٧

وهو الذي خلّفه صلى الله عليه وآله عدلاً للكتاب ليتمسّكوا بهما فلا يضلّوا.

وقد أصفق على ذلك أئمَّة أهل البيت عليهم السلام من ولده وهم عترته صلى الله عليه وآله أعدال الكتاب وأبوهم سيِّدهم وقولهم حجّةٌ في كلّ باب.

وبهذه تعرف مقدار ما قد يعزى إلى أمير المؤمنين عليه السلام من موافقته لعثمان في رأيه الشاذّ عن الكتاب والسنّة وقوله: أحلّتهما آية وحرَّمتهما آية. وحاشاه عليه السلام من أن يختلف رأيه في حكم من أحكام الله، غير إنَّ رماة القول على عواهنه راقهم أن يهوِّن على الأُمّة خطب عثمان فكذبوا عليه صلوات الله عليه واختلقوا عليه، قال الجصّاص في أحكام القرآن ٢: ١٥٨: قد روى أياس بن عامر أنّه قال لعليّ: إنّهم يقولون: إنّك تقول: أحلّتهما آية وحرَّمتهما آية. فقال: كذبوا.

ومن السنّة للمجمعين ما استدَّل به على الحرمة ابن نجيم في البحر الرائق ٣: ٩٥، وملك العلماء في بدايع الصنايع ٢: ٢٦٤ وغيرهما من قوله صلى الله عليه وآله: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمعنَّ ماءه في رحم أُختين.

*(المورد الثاني)*: وهل هناك ما يخصّص الحرمة المستفادة من القرآن بالنسبة إلى ملك اليمين؟ يدَّعي عثمان ذلك فقال: أحلّتهما آية وحرَّمتهما آية. ولم يعيّن الآية المحلّلة كما يعيّنها غيره من السلف، نعم: أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن حاتم والطبراني من طريق ابن مسعود إنّه سئل عن الرجل يجمع بين الأُختين الأمتين فكرهه، فقيل: يقول الله تعالى:( إِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) . فقال وبَعِيرك أيضاً ممّا ملكت يمينك. وفي لفظ ابن حزم: إنّ حملك ممّا ملكت يمينك(١)

وقال الجصّاص في أحكام القرآن ٢: ١٥٨: يعنون بالمحلّل قوله تعالى:( وَالُمحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) . والقول بهذا بعيدٌ عن نطاق فهم القرآن وعرفان أسباب نزول الآيات، ولا تساعده الأحاديث الواردة في الآية الكريمة، وأنّى للقائل من ثبوت التعارض بين الآيتين بعد ورودهما في موضوعين مختلفين؟ ولأعلام القوم في المقام بيانات ضافية قيّمة نقتصر منها بكلام الجصّاص قال في «أحكام القرآن» ٢: ١٩٩: إنَّ

____________________

١ - المحلّى لابن حزم ٩: ٥٢٤، تفسير ابن كثير ١: ٤٧٢، الدر المنثور ٢: ١٣٧ نقلاً عن الحفاظ المذكورين.

٢١٨

الآيتين غير متساويتين في إيجاب التحريم والتحليل وغير جائز الاعتراض بأحدهما على الأُخرى إذ كلُّ واحدة منهما ورود ها في سبب غير سبب الأُخرى وذلك: لأنَّ قوله تعالى:( وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ) . واردٌ في حكم التحريم كقوله تعالى:( وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ. وَأُمّهَاتُ نِسَائِكُمْ ) . وسائر من ذكر في الآية تحريمها. وقوله تعالى:( وَالُمحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) . في إباحة المسبيَّة التي لها زوجٌ في دار الحرب، وأفاد وقوع الفرقة وقطع العصمة فيما بينهما، فهو مستعمل فيهما ورد فيه من إيقاع الفرقة بين المسبيّة وبين زوجها وإباحتها لمالكها، فلا يجوز الاعتراض به على تحريم الجمع بين الأُختين، إذ كلُّ واحدة من الآيتين واردة في سبب غير سبب الأُخرى، فيستعمل حكم كلِّ واحدة منهما في السبب الذي وردت فيه. قال:

ويدلُّ على ذلك إنّه لا خلاف بين المسلمين في أنَّها لم تعترض على حلائل الأبناء وأُمَّهات النساء وسائر من ذكر تحريمهنَّ في الآية، وإنّه لا يجوز وطء حليلة الإبن ولا أُمّ المرأة بملك اليمين ولم يكن قوله تعالى:( اِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) موجباً لتخصيصهنَّ لوروده في سبب غير سبب الآية الأُخرى، كذلك ينبغي أن يكون حكمه في اعتراضه على تحريم الجمع وامتناع عليّ رضي الله عنه ومَن تابعه في ذلك من الصحابة من الاعتراض بقوله تعالى:( اِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) . على تحريم الجمع بين الأُختين يدلُّ على أنّ حكم الآيتين إذا وردتا في سببين إحداهما في التحليل والأخرى في التحريم إنّ كلّ واحدة منهما تجري على حكمهما في ذلك السبب ولا يعترض بها على الأُخرى، وكذلك ينبغي أن يكون حكم الخبرين إذا وردا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك. الخ.

ونحن نردف كلام الجصّاص بما ورد في سبب نزول قوله تعالى:( وَالُمحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) . وإنَّه كما سمعت من الجصّاص غير السبب الوارد فيه قوله تعالى:( وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ) .

أخرج مسلم في صحيحه وغيره بالإسناد عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا نساء من سبي أوطاس ولهنّ أزواجٌ فكرهنا أن نقع عليهنّ ولهنّ أزواج فسألنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية:( وَالُمحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) . فاستحللنا بها فروجهنّ

٢١٩

وفي لفظ أحمد: إنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابوا سبايا يوم أطاس لهنّ أزواج من أهل الشرك فكان أُناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفّوا وتأثّموا من من غشيانهنَّ قال: فنزلت هذه الآية في ذلك:( وَالُمحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) .

وفي لفظ النسائي: إنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً إلى أوطاس فلقوا عدوّاً فقاتلوهم وظهروا عليهم فأصابوا لهم سبايا لهنّ أزواجٌ في المشركين فكان المسلمون تحرّجوا من غشيانهنَّ فأنزل الله عزوجل:( وَالُمحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) .

راجع صحيح مسلم ١: ٤١٦، ٤١٧، صحيح الترمذي ١: ١٣٥، سنن أبي داود ١: ٣٣٦، سنن النسائي ٦: ١١٠، مسند أحمد ٣: ٧٢، ٨٤، أحكام القرآن للجصاص ٢: ١٦٥، سنن البيهقي ٧: ١٦٧، المحلّى لابن حزم ٩: ٤٤٧، مصابيح السنّة ٢: ٢٩، تفسير القرطبي ٥: ١٢١، تفسير البيضاوي ١: ٢٦٩، تفسير ابن كثير ١: ٣٧٢، تفسير الخازن ١: ٣٧٥، تفسير الشوكاني ١: ٤١٨.

وعلى ذلك تأوَّله عليٌّ وابن عبّاس وعمر وعبد الرَّحمن بن عوف وابن عمر وابن مسعود وسعيد بن المسيِّب وسعيد بن جبير وقالوا: إنَّ الآية وردت في ذوات الأزواج من السبايا أُبيح وطؤهنَّ بملك اليمين ووجب بحدوث السبي عليها دون زوجها وقوع الفرقة بينهما(١) .

وقال القرطبي في تفسيره ٥: ١٢١: قد اختلف العلماء في تأويل هذه الآية فقال ابن عبّاس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري: المراد بالمحصنات هنا المسبيّات ذوات الأزواج خاصَّة، أي هنَّ محرّمات إلّا ما مملكت اليمين بالسبي من أرض الحرب، فإنَّ تلك حلال للذي تقع في سهمه وإن كان لها زوجٌ. وهو قول الشافعي في أنَّ السباء يقطع العصمة، وقاله ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك، و وقال به أشهب، يدلُّ عليه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري «وذكر الحديث فقال»: وهذا نصٌّ صريحٌ في أنّ الآية نزلت بسبب تحرّج أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن وطئ المسبيّات ذوات الأزواج، فأنزل الله تعالى في جوابهم: إلّا ما ملكت

____________________

١ - أحكام القرآن للجصاص ٢: ١٦٥، سنن البيهقي ٧: ١٦٧، تفسير الشوكاني ١: ٤١٨.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397