الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٨

الغدير في الكتاب والسنة والأدب10%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 397

الجزء ١ المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 145752 / تحميل: 7036
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

والقول الفصل: إنَّ حبر الأُمّة لم يلهج بتلكم الخزاية، وإن لهج بشئ من أمر ذلك المشهد عن أحد فأولى له أن يقول ما قاله أبوه من إنّه سمع أبا طالب يشهد بالشهادتين عند وفاته(١) . أو يفوه بما أسلفناه عن ابن عمِّه الأقدس رسول الله صلى الله عليه وآله(٢) أو يروي ما جاء عن ابن عمِّه الطاهر أمير المؤمنين(٣) أليس ابن عبّاس راوي ما ثبت عنه من قول أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وآله كما مرَّ في ج ٧: ص ٣٥٥ ط ٢: قم يا سيِّدي فتكلّم بما تحبّ وبلّغ رسالة ربِّك فإنِّك الصادق المصدَّق.

ومنها: ما أخرجه أبو سهل السري الكذّاب المذكور من طريق عبد القدوس الكذَّاب أيضاً عن نافع عن ابن عمر قال:( إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) . الآية. نزلت في أبي طالب عند موته، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم عند رأسه وهو يقول: يا عمُّ! قل لا إله إلّا الله أشفع لك بها يوم القيامة. قال أبو طالب: لا تعيّرني نساء قريش بعدي إنِّي جزعت عند موتي فأنزل الله تعالى:( إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) . الحديث(٤)

لعلَّ ابن عمر لا يدَّعي في روايته الحضور في ذلك المحضر. وليس له أن يدَّعي ذلك لأنَّه كان وقتئذ ابن سبع سنين تقريباً فإنَّ مولده كان بعد البعثة بثلاث(٥) ومن طبع الحال إنَّ مَن بهذا السنِّ لا يُطلق صراحه إلى ذلك المنتدى الرهيب، والمسجَّى فيه سيِّد الأباطح ويلي أمره نبيُّ العظمة، ويحضره مشيخة قريش، فلا بدَّ من أنَّه سمع من يقول ذلك ممن حضر واطَّلع، ولا يخلو أن يكون ذلك إمّا ولد المتوفّى وهو مولانا أمير المؤمنين والثابت عنه ما مرَّ في الجزء السابع، أو عن بقيَّة أولاده من طالب وجعفر وعقيل ولم ينبسوا في هذا الأمر ببنت شفة، أو عن أخيه العبّاس وقد صحَّ عنه ما أسلفناه في الجزء السابع، أو عن ابن أخيه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله فقد عرفت قوله فيه فيما مرَّ، فممَّن أخذ ابن عمر؟ ولماذا حذف اسمه؟ ولما شرَّك أبا جهل مع أبي طالب في إحدى روايتيه، ولم يقل به أحدٌ غيره؟ وهل في الرواة مَن تقوَّل عليه

____________________

١ - راجع ما أسلفناه في صفحة ٣٧٠ من الجزء السابع.

٢ - راجع ما مرَّ في صحيفة ٣٧٣ من ج ٧ ط ٢.

٣ - راجع ما سبق في صفحة ٣٧٩ ج ٧.

٤ - الدر المنثور ٥: ١٣٣.

٥ - الإصابة ٢: ٣٤٧.

٢١

كلَّ ذلك؟ فظنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبر.

واعطف على هذه ما عزوه إلى مجاهد وقتادة في شأن نزول الآية(١) فإنَّ مستند أقوالهما أمّا هذه الرِّوايات؟ أو إنَّهما سمعاها من أناس مجهولين؟ فمراسيل كهذه لا يحتجُّ بها على أمر خطير مثل تكفير أبي طالب بعد ثبوت إيمانه بما صَدَح به الصادع الكريم وتفانيه دونه والذبَ عنه بالبرهنة القاطعة.

ومن التفسير بالرأي والدعوى المجرَّدة ما عن قتادة ومن يشاكله مرسلاً من تبعيض الآية بين أبي طالب والعبّاس فجعل صدرها لأبي طالب وذيلها للعبّاس(٢) الذي أسلم بعد نزول الآية بعدَّة سنين كما هو المتسالم عليه عنه الجمهور.

وأنت تعرف بعد هذه كلّها قيمة قول الزجاج: أجمع المسلمون على أنَّها نزلت في أبي طالب. وما عقَّبه به القرطبي من قوله: والصواب أن يقال: أجمع جلُّ المفسِّرين على إنَّها نزلت في شأن أبي طالب(٣)

( انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى‏ بِهِ إِثْماً مُبِيناً )

(النساء: ٥٠)

____________________

١ - تاريخ ابن كثير ٣: ١٢٤.

٢ - تفسير القرطبي ١٣: ٢٩٩، الدر المنثور ٥: ١٣٣.

٣ - تفسير القرطبي ١٣: ٢٩٩.

٢٢

( حديث الضحضاح)

إلى هنا انتهى كلّ ما للقوم من نَبل تقلُّه كنانة الأحقاد، أو ذخيرة في علبة الضغائن رموا بها أبا طالب، وقد أتينا عليها فجعلناه ها هباءً منثورا، ولم يبق لهم إلّا رواية الضحضاح، وما لأعداء أبي طالب حولها من مكاء وتصدية، وهي على ما يلي:

أخرج البخاري ومسلم من طريق سفيان الثوري عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن الحارث قال: حدّثنا العبّاس بن عبد المطلب أنَّه قال: قلت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمِّك فإنَّه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: «هو» في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل.

وفي لفظ آخر: قلت: يا رسول الله! إنَّ أبا طالب كان يحفظك وينصرك فهل نفعه ذلك؟ قال نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح.

ومن حديث الليث حدَّثني ابن الهاد عن عبد الله بن خباب عن أبي سعيد إنَّه سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذكر أبو طالب عنده فقال: لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه.

وفي صحيح البخاري من طريق عبد العزيز بن محمّد الدارا وردي عن يزيد بن الهاد نحوه غيرانَّ فيه تغلي منه أمّ دماغه.

راجع صحيح البخاري في أبواب المناقب (باب قصَّة أبي طالب) ج ٦: ٣٣، ٣٤، وفي كتاب الأدب باب كنية المشرك ج ٩: ٩٢، صحيح مسلم كتاب الإيمان، طبقات ابن سعد ١: ١٠٦ ط مصر، مسند أحمد ١: ٢٠٦، ٢٠٧، عيون الأثر ١: ١٣٢، تاريخ ابن كثير ٣: ١٢٥.

قال الأميني: نحن لا تروقنا المناقشة في الأسانيد لمكان سفيان الثوري وبما مرَّ فيه ص ٤ من إنِّه كان يدلّس عن الضعفاء ويكتب عن الكذّابين. ولا لمكان عبد الملك بن عمير اللخمي الكوفي الذي طال عمره وساء حفظه، قال أبو حاتم: ليس بحافظ تغيّر

٢٣

حفظه، وقال أحمد: ضعيفٌ يغلط، وقال ابن معين مخلطٌ، وقال ابن خراش: كان شعبة لا يرضاه، وذكر الكوسج عن أحمد: إنه ضعَّفه جدّاً(١) .

ولا لمكان عبد العزيز الدراوردي، قال أحمد بن حنبل: إذا حدَّث من حفظه يهم ليس هو بشيء، وإذا حدّث من كتابه فنعم، وإذا حدَّث جاء ببواطيل، وقال أبو حاتم: لا يحتجّ به، وقال أبو زرعة: سيِّء الحفظ(٢) .

كما أنّا لا نناقش بتضارب متون الرواية بأنّ قوله: لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة يعطي أنَّ الضحضاح مأجّلٌ له إلى يوم القيامة بنحو من الرجاء المدلول عليه لقوله: لعلّه. وإنَّ قوله: وجدته في غمرات النار فأخرجته إلى ضحضاح. هو واضحٌ في تعجيل الضحضاح له وثبوت الشفاعة قبل صدور الكلام.

لكن لنا هنا هنا كلمة واحدة وهي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله أناط شفاعته لأبي طالب عند وفاته بالشهادة بكلمة الإخلاص بقوله صلى الله عليه وآله: يا عمّ! قل لا إله إلّا الله كلمة استحلّ لك بها الشفاعة يوم القيامة(٣) كما إنِّه صلى الله عليه وآله أناطها بها في مطلق الشفاعة، وجاء ذلك في أخبار كثيرة جمع جملة منها الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب ج ٤ ص ١٥٠ - ١٥٨ منها في حديث عن عبد الله بن عمر مرفوعاً: قيل لي: سل فإنَّ كلَّ نبيّ قد سأل فأخَّرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم لمن شهد أن لا إله إلّا الله. فقال: رواه أحمد بإسناد صحيح.

ومنها: عن أبي ذر الغفاري مرفوعاً في حديث: أُعطيت الشفاعة وهي نائلة من أمَّتي مَن لا يشرك بالله شيئاً. فقال: رواه البزّار وإسناده جيِّد إلّا أنَّ فيه انقطاعاً.

ومنها: عن عوف بن مالك الأشجعي في حديث: إنَّ شفاعتي لكلِّ مسلم. فقال: رواه الطبري بأسانيد أحدها جيِّد، وابن حبان في صحيحه وفي لفظه:

____________________

١ - ميزان الاعتدال ٢: ١٥١.

٢ - ميزان الاعتدال ٢: ١٢٨.

٣ - مستدرك الحاكم ٢: ٣٣٦ صححه هو والذهبي في التلخيص، تاريخ أبي الفدا ج ١: ١٢٠، المواهب اللدنية ١: ٧١، كشف الغمة للشعراني ٢: ١٤٤، كنز العمال ٧: ١٢٨، شرح المواهب للزرقاني ١: ٢٩١.

٢٤

الشفاعة لمن مات لا يشرك بالله شيئاً.

ومنها: عن أنس في حديث: أوحى الله إلى جبريل عليه السلام أن اذهب إلى محمّد فقل له: ارفع رأسك سل تُعط واشفع تُشفَّع «إلى قوله»: أدخل من أُمَّتك من خلق الله من شهد أن لا إله إلّا الله يوماً واحداً مخلصاً ومات على ذلك.

فقال المنذري: رواه أحمد ورواته محتجٌّ بهم في الصحيح.

ومنها: عن أبي هريرة مرفوعاً في حديث: شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلّا الله مخلصاً، وأنَّ محمَّداً رسول الله، يصدِّق لسانه قلبه وقلبه لسانه. رواه أحمد وابن حبّان في صحيحه.

ومنها: ما مرَّ في ص ١٣ من طريق أبي هريرة وابن عبّاس من أنَّه صلى الله عليه وآله دعا ربَّه واستأذنه أن يستغفر لأُمّه ويأذن له في شفاعتها يوم القيامة فأبى أن يأذن.

وقال السهيلي في الروض الأنف ١: ١١٣: وفي الصحيح أنَّه صلى الله عليه وآله قال: استأذنت ربِّي في زيارة قبر أمِّي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي. وفي مسند البزّار من حديث بريدة إنَّه صلى الله عليه وسلم حين أراد أن يستغفر لأُمّه ضرب جبريل عليه السلام في صدره وقال له: لا تستغفر لمن كان مشركاً فرجع وهو حزين.(١)

فالمنفيُّ في صورة إنتفاء الشهادة جنس الشفاعة بمعنى عدمها كليَّة لعدم أهليَّة الكافر لها حتّى في بعض مراتب العذاب، فالشفاعة للتخفيف في العذاب من مراتبها المنفيَّة كما إنَّها نفيت كذلك في كتاب الله العزيز بقوله تعالى:( وَالّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنّمَ لاَ يُقْضَى‏ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُم مِنْ عَذَابِهَا كَذلِكَ نَجْزِي كُلّ كَفُورٍ ) .

فاطر ٣٦.

وبقوله تعالى:( وَإِذَا رَأَى الّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ ) .

النحل ٨٥.

وبقوله تعالى:( خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ ) . البقرة ١٦٢، آل عمران ٨٨.

____________________

١ - نحن لا نقيم لمثل هذه الرواية وزناً ولا كرامة، غير أن خضوع القوم لها يلجأنا إلى الحجاج بها.

٢٥

وبقوله تعالى:( وَقَالَ الّذِينَ فِي النّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنّمَ ادْعُوا رَبّكُمْ يُخَفّفْ عَنّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيّنَاتِ قَالُوا بَلَى‏ قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلّا فِي ضَلَالٍ ) . غافر ٤٩، ٥٠.

وبقوله تعالى:( أُوْلئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ) . البقرة ٨٦.

وبقوله تعالى:( وَذَرِ الّذِينَ اتّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَذَكّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلّ عَدْلٍ لاَيُؤْخَذْ مِنْهَا أُولئِكَ الّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِن حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) . الأنعام: ٧٠.

وبقوله تعالى:( كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) (إلى قوله تعالى)( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشّافِعِينَ ) . المدثر ٣٨ - ٤٨

وبقوله تعالى:( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ) . غافر ١٨.

وبقوله تعالى:( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى‏ جَهَنّمَ وِرْداً * لاّ يَمْلِكُونَ الشّفَاعَةَ إِلّا مَنِ اتّخَذَ عِندَ الرّحْمنِ عَهْداً ) . مريم ٨٧.

الاستثناء في الآية الشريفة منقطع، والعهد: شهادة أن لا إله إلّا الله والقيام بحقّها. أي لا يشفع إلّا للمؤمن.

راجع تفسير القرطبي ١١: ١٥٤، تفسير البيضاوي ٢: ٤٨، تفسير ابن كثير ٣: ١٣٨، تفسير الخازن ٣: ٢٤٣.

فرواية الضحضاح على تقدير أنَّ أبا طالب عليه السلام مات مشركاً - العياذ بالله - وما فيها من الشفاعة لتخفيف العذاب عنه بجعله في الضحضاح منافيةٌ لكلِّ ما ذكرناه من الآيات والأحاديث، فحديثٌ يخالف الكتاب والسنَّة الثابتة يضرب به عرض الحائط وقد جاء في الصحيح مرفوعاً: تكثر لكم الأحاديث من بعدي فإذا روي لكم حديث فأعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافق كتاب الله فاقبلوه وما خالفه فردّوه(١)

____________________

١ - أخرجه البخاري في صحيحه.

٢٦

ولا يغرَّنَّك إخراج البخاري لها فإنَّ كتابه المعبّر عنه بالصحيح هو علبة السفاسف وعيبة السقطات، وسنوقفك على جليَّة الحال في البحث عنه إنشاء الله تعالى.

نختم البحث هاهنا عن إيمان سيِّدنا أبي طالب سلام الله عليه بقصيدة شيخ الفقه والفلسفة والأخلاق شيخنا الأكبر آية الله الشيخ محمّد الحسين الاصبهاني النجفي(١) قال:

نور الهدى في قلب عمِّ المصطفى

في غاية الظهور في عين الخفا

في سرِّه حقيقة الإيمان

سرُّ تعالى شأنه عن شانِ

إيمانه يمثِّل الواجب في

مقام غيب الذات والكنز الخفي

إيمانه المكنون سام اسمه

إلّا المطهّرون لا يمسّه

إيمانه بالغيب غيب ذاته

له التجلّي التامّ في آياته

آياته عند أُولي الأبصارِ

أجلى من الشمس ضحى النهارِ

وهو كفيل خاتم النبوَّة

وعنه قد حامى بكلِّ قوَّة

ناصره الوحيد في زمانه

وركنه الشديد في أوانه

عميد أهله زعيم أُسرته

وكهفه الحصين يوم عسرته

حجابه العزيز عن أعدائه

وحرزه الحريز في ضرّائه

فما أجلَّ شرفاً وجاها

من حرز ياسين وكهف طاها

قام بنصرة النبيِّ السامي

حتّى استوت قواعد الإسلامِ

جاهد عنه أعظم الجهادِ

حتّى علا أمر النبيِّ الهادي

حماه عن أذى قريش الكفره

بصولة ذلَّت لها الجبابره

صابر كلَّ محنة وكربه

والشعب من تلك الكروب شعبه

أكرم به من ناصر وحامى

وكافل لسيِّد الأنامِ

كفاه فخراً شرف الكفاله

لصاحب الدَّعوة والرِّسالة

لسانه البليغ في ثنائه

أمضى من السيف على أعدائه

له من المنظوم والمنثورِ

ما جعل العالم ملاء النورِ

ينبئ عن إيمانه بقلبه

وإنَّه على هدىً من ربِّه

____________________

١ - أحد شعراء الغدير في القرن الرابع عشر تأتي ترجمته إن شاء الله تعالى.

٢٧

وأشرقت أُمّ القرى بنوره

وكلُّ نور هو نور طوره

وكيف لا؟ وهو أبو الأنوارِ

ومطلع الشموس والأقمارِ

مبدأ كلِّ نيّر وشارقِ

وكيف وهو مشرق المشارقِ؟

بل هو بيضاء سماء المجدِ

مليك عرشه أباً عن جدِّ

له السموّ كابراً عن كابرِ

فهو تراثه من الأكابرِ

أزكى فروع دوحة الخليلِ

فياله من شرفٍ أصيلِ

بل شرف الأشراف من عدنانِ

ملاذها في نوب الزمانِ

له من السموِّ ما يسمو على

ذرى الصراح والسَّماوات العلى

وكيف لا؟ وهو كفيل المصطفى

أبو الميامين الهداة الخلفا

ووالد الوصيِّ والطيّارِ

وهو لعمري منتهى الفخارِ

بضوئه أضاءت البطحاءُ

لا بل به أضاءت السَّماءُ

والنيِّر الأعظم في سمائه

مثل السهى في النور من سيمائه

كيف؟ ومن غرَّته تجلّى

لأهله نور العليِّ الأعلى

ساد الورى بمكَّة المكرَّمه

فحاز بالسؤدد كلّ مكرمه

بل هو فخر البلد الحرامِ

بل شرف المشاعر العظامِ

وقبلة الآمال والأماني

بل مستجار كعبة الإيمانِ

وفي حمى سؤدده وهيبته

تمَّ لداع الحقِّ أمر دعوته

ما تمَّت الدعوة للمختارِ

لولاه فهو أصل دين الباري

كيف؟ وظل الله في الأنامِ

في ظلّه دعى إلى الاسلامِ

وانتشر الاسلام في حماهُ

مكرمة ما نالها سواهُ

رايته علت بعالي همَّته

كفاه هذا في علوِّ رتبته

مفاخرٌ يعلو بها الفخارُ

مآثرٌ تحلو بها الآثارُ

ذاك أبو طالب المنعوتُ

مَن قصرت عن شأنه النعوتُ

يجلُّ عن أيِّ مديح قدره

لكنَّه يُحيي القلوب ذكره

«القصيدة»

٢٨

ومن قصيدة للعلّامة الحجَّة شيخنا الشيخ عبد الحسين صادق العاملي قدّس سرّه قوله:

لولاه ما شدَّ أزر المسلمين ولا

عين الحنيفة سالت في مجاريها

آوى وحامى وساوى قيد طاقته

عن خير حاضرها طرّاً وباديها

ما كان ذاك الحفاظ المرّأطة أر

حام وضرب عروق فار غاليها

بل للإله كما فاهت روائعه الـ

عصماء في كلِّ شطر من قوافيها

ضاقت بما رحبت أُم القرى برسو

ل الله من بعده واسودَّ ضاحيها

فانصاع يدعو له بالخير مبتهلاً

بدعوة ليس بالمجبوه داعيها

لو لم تكن نفس عمِّ المصطفى طهرت

ما فاه فوهٌ بما فيه يُنجّيها

عاماً قضى عمّه فيه وزوجته

قضاه بالحزن يبكيه ويبكيها

أعظم بإيمان مبكي المصطفى سنة

أيّامها البيض أدجى من لياليها

من صلبه ايبثَّت الأنوار قاطبة

فالمرتضى بدؤها والذخر تاليها

هذا أبو طالب شيخ الأباطح وهذه نبذة من آيات إيمانه الخالص،( مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللّهِ ) (١) ( لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ) (٢) ( وَالّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلّذِينَ آمَنُوا رَبّنَا إِنّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ ) (٣) .

____________________

١ - سورة الحديد: ٢٧.

٢ - سورة المدثر: ٣١.

٣ - سورة الحشر: ١٠.

٢٩

( عود إلى بدء)

أحاديث الغلوِّ في فضائل أبي بكر

- ٢٩ -

ملَكٌ يردُّ على شاتم الخليفة

أخرج يوسف بن أبي يوسف في الآثار ص ٢٠٨ عن أبيه يعقوب بن إبراهيم القاضي عن أبي حنيفة قال: بلغني أنَّ رجلاً شتم أبا بكر فحلم أبو بكر رضي الله عنه والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قاعدٌ ثمَّ إنَّ أبا بكر ردَّ عليه فقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: شتمني فلم تقم وقمت حين رددت عليه؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ ملكاً كان يردّ عنك فلمّا رددت أنت ذهب فقمت.

وأخرجه أحمد في مسنده ٢: ٤٣٦ من طريق أبي هريرة: إنَّ رجلاً شتم أبا بكر والنبيُّ صلى الله عليه وسلم جالسٌ فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسَّم فلمّا أكثر ردَّ عليه بعض قوله فغضب النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقام فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله! كان يشتمني وأنت جالسٌ فلمّا رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت؟ قال: إنَّه كان معك مَلَك يردُّ عنك فلمّا رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان.

قال الأميني: لم نعرف طريق بلاغ الحديث أبا حنيفة حتّى نقف على مبلغه من الصحَّة ولعلَّ أبا يوسف القاضي بمفرده يكفيه وهناً نظراً إلى بعض ما قيل فيه كقول الفلاس: صدوقٌ كثير الخطاء.

وقول أبي حفص: صدوقٌ كثير الغلط.

وقول البخاري: تركوه.

وقول يحيى بن آدم: شهد أبو يوسف عند شريك فردّه وقال: لا أقبل من يزعم أنَّ الصَّلاة ليست من الإيمان.

وقول ابن عدي: يروي عن الضعفاء.

٣٠

وقول ابن المبارك بسند صحيح: إنَّه وهّاه، وقوله لرجل: إن كنت صلَّيت خلف أبي يوسف صلوات تحفظها فأعدها وقوله: لإن أخرّ من السماء إلى الأرض فتخطفني الطير أو تهوى بي الريح في مكان سحيق أحبُّ إليَّ من أن أروي عن ذلك. وقال رجلٌ لابن المبارك: أيّهما أصدق؟ أبو يوسف أو محمَّد؟ قال: لا تقل أيّهما أصدق. قل: أيّهما أكذب.

وقول عبد الله بن إدريس: كان أبو يوسف فاسقاً من الفاسقين.

وقول وكيع لرجل قال: أبو يوسف يقول كذا وكذا: أما تتقي الله بأبي يوسف تحتجُّ عند الله عزَّوجلّ؟.

وقول أبي نعيم الفضل بن دكين: سمعت أبا حنيفة يقول لأبي يوسف: ويْحَكُم كم تكذبون عليَّ في هذه الكتب ما لم أقل؟.

وقول يحيى ين معين: لا يكتب حديثه. وقوله: كان ثقةً إلّا إنَّه كان ربما غلط.

وقول يزيد بن هارون: لا تحلُّ الرواية عنه كان يُعطي أموال اليتامى مضاربة ويجعل الربح لنفسه.

وقول ابن أبي كثير مولى بني الحارث أو النظام لما دفن أبو يوسف:

سقى جدثا به يعقوب أمسى

من الوسمي منبجس ركام

تلطف في القياس لنا فأضحت

حلالا بعد حرمتها المدام

ولولا أن مدته تقضت

وعاجله بميتته الحمام

لاعمل في القياس الفكر حتّى

تحل لنا الخريدة والغلام(١)

وأمّا طريق أحمد ففيه سعيد بن أبي سعيد المدني وقد اختلطه قبل موته بأربع سنين كما في تهذيب التهذيب ٤: ٣٩، ٤٠، ومتن الرواية يشهد على صدورها منه في أيّام اختلاطه.

وممّا لا ريب فيه إساءة الأدب من كلا المتسابّين بحضرة رسول الله صلى الله عليه وآله ورفع أصواتهما بطبع من حال المتشاتم فإنَّه لا يؤتي به همساً والله يقول:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ) . الآية وقد نزلت في

____________________

١ - تاريخ الخطيب البغدادي ١٤: ٢٥٧، ميزان الاعتدال، لسان الميزان ٦: ٣٠٠.

٣١

أبي بكر وعمر لما تماريا عند رسول الله صلى الله عليه وآله كما مرَّ حديثه في الجزء السابع ص ٢٢٣.

وماذا على أبي بكر لو بقي متحلّماً مراعياً لأدب حضرة النبيّ إلى آخر مجلسه؟ كما فعله أوّلاً لذلك - أوانَّ ما فعله أوّلاً كان منه رمية من غير رامٍ؟ - فلا ينقلب إلى الإساءة وإزعاج رسول الله صلى الله عليه وآله حتّى قام عنه.

وماذا عليه لو قام معه فيقطع مادَّة البغضاء؟ وماذا عليه لو سكت عن النبيّ صلى الله عليه وآله ولم يُسئ الأدب بالاعتراض والنقد على قيامه؟.

وماذا عليه لو أبقى الملَك وهو يحسبه مظلوماً فيسبُّ الرجل ردّاً عليه؟ لكنَّه رآه مكافئ الظالم فتركه.

وعجبي ممّا في لفظ أحمد من قول النبيِّ لأبي بكر: فلمّا رددتَ عليه بعض قوله وقع الشيطان.. الخ. كيف كان ذلك المحفل خلواً من الشيطان إلى أن ردَّ عليه أبو بكر والرجل كان يشتم أبا بكر ويُكثر، ولما ردَّ عليه وقع الشيطان؟ فكأنَّ ردَّ أبي بكر كان من همزات الشيطان دون سبِّ الرجل إيّاه، وكأنَّ النبيُّ الأعظم لم تكن له مندوحةٌ عن سماع شتم الرجل أبا بكر، أو لم تكن فيه مغضبةٌ دون ردِّ أبي بكر إيّاه؟ إنَّ هذا لشئٌ عجابٌ.

ثمَّ هل في عالم الملكوت من يقابل البذاءة بمثلها؟ أو إنَّ هناك عالم القداسة لا يطرقه الفحش والسباب المقذع لقبحهما الذاتي؟ وهل لله سبحانه ملائكة قيَّضهم لذلك العمل القبيح؟ وهل هذا التقييض مخصوصٌ بأبي بكر فحسب؟ أو إنَّه يكون لكل متسابّين من المؤمنين إذا سكت أحدهما؟ وهل قُيّضت الملائكة للردِّ على من هجا رسول الله من المشركين؟ أنا لم أقف على أثر في هذه كلّها، وليست المسألة عقليَّة فتعضدها البرهنة، مع قطع النظر عن استهجان العقل السليم لذلك، والمتيقَّن: إنَّ جزاء الشاتم إن كان ظالماً مرجئٌ إلى يوم الجزاء، وأمّا ردُّه بقول لا يسمعه الظالم فيتأدَّب ويرتدع، ولا المظلوم فيشفي غليله، ولا أيّ أحد فيكون فضيحة لمرتكب القبيح فعساه يترك شنعته، فمن التافهات، نعم: أخرج الخطيب في تاريخه ٥: ٢٨٠ من طريق سهل بن صقين عن أبي هريرة مرفوعاً: أنَّ لله تعالى في السَّماء سبعين ألف ملَك يلعنون من شتم أبا بكر وعمر.

٣٢

غير أنَّ الخطيب نفسه أردفه بقوله: سهل يضع. راجع ما أسلفناه في الجزء الخامس صفحة ٢٨٠ ط ٢.

- ٣٠ -

خطبة النبي صلى الله عليه وآله في فضل الخليفة

أخرج البخاري في المناقب باب قول النبيِّ: سدُّوا الأبواب إلّا باب أبي بكر ج ٥: ٢٤٢ وباب الهجرة ج ٦: ٤٤ من طريق أبي سعيد الخدري قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: إنَّ الله خيّر عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله قال: فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيِّر فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متَّخذاً خليلاً غير ربِّي لاتّخذت أبا بكر، ولكن إخوَّة الاسلام ومودَّته، لا يبقين في المسجد باب إلّا سدَّ إلّا باب أبي بكر.

وزاد في لفظ ابن عساكر: فعلمنا أنَّه مستخلفه. وفي لفظ الرازي في تفسيره ٢: ٣٤٧: ما من الناس أحدٌ أمنّ علينا في صحبته ولا ذات يده من ابن أبي قحافة.

قال الأميني: راجع الجزء الثالث من كتابنا هذا صفحة ١٧٦ - ١٨٧ ط ٢ تزدد وثوقاً بما تضمَّنته هذه الرواية من أُكذوبة حديث الأبواب وسدِّها، وما لابن تيميَّة هنالك من مكاء وتصدية.

وأمَّا بقيَّة الحديث فممّا فيه قول أبي سعيد: وكان أبو بكر أعلمنا. لم يخصّ هذا العلم بأبي بكر وإنَّما تحمَّله كلّ من سمعه صلى الله عليه وآله ووعى أقواله في حجَّة الوداع الذي كان يقول فيها: يوشك أن أُدعى فأُجيب. إلى ما يقارب ذلك ممّا هو مذكور في الجزء الأوَّل. وهب أنَّ العلم بذلك كان مقصوراً على الخليفة لكنّه أيّ علم هذا يباهى به؟ أهو حلُّ عويصة من الفقه؟ أو بيان مشكلة من الفلسفة؟ أو شرح غوامض من علوم الدين؟ أو كشف مخبَّأ من أسرار الكون؟ لم يكن في هذا العلم شيءٌ من ذلك كلّه وإنّما هو على فرض الصحَّة تنبّهٌ منه إلى أنَّه صلى الله عليه وآله يريد نفسه، ولعلّه سمعه قبل ذلك فتذكَّره عندئذ، وقد أسلفناه في الجزء السابع عند البحث عن أعلميَّة الرجل بما لا مزيد عليه. فراجع.

٣٣

وأمَّا قوله: إنَّ أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر. فأيَّ منٍّ لأيِّ أحد في صحبته. صلى الله عليه وآله وسلم وإنفاق ماله في دعوته؟( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ) (١) ،( إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ) (٢) ، وكانت لرسول الله المنَّة على البشر عامَّة بالدعوة والهداية والتهذيب، وإنّ صاحبه أحدٌ وناصره فلنفسه نظر ولها نصح،( يَمُنّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَ تَمُنّوا عَلَيّ إِسْلاَمَكُم بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (٣) ،( لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمَهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ) (٤) .

على أنَّ منَّة المال لأبي بكر سالبةٌ بانتفاء الموضوع وسنوقفك على جليَّة الحال، وقصَّة الخلّة في ذيل الرواية أوقفناك عليها في الجزء الثالث وإنَّها موضوعةٌ، ويعارضها موضوعٌ آخر أخرجه الحافظ السكري من طريق أُبيِّ بن كعب أنَّه قال: إنَّ أحدث الناس عهدي بنبيِّكم صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بخمس ليال دخلت عليه وهو يقلّب يديه وهو يقول: إنَّه لم يكن نبيٌّ إلّا وقد اتَّخذ من أُمَّته خليلاً وأنَّ خليلي من أمَّتي أبو بكر ابن أبي قحافة، ألا وإنَّ الله قد اتّخذني خليلاً كما اتّخذ إبراهيم خليلاً(٥) .

وموضوعٌ آخر أخرجه الطبراني من طريق أبي أمامة إنَّ الله اتّخذني خليلاً كما اتّخذ إبراهيم خليلاً وإنَّ خليلي أبو بكر. كنز العمال ٦: ١٣٨.

وموضعٌ آخر أخرجه أبو نعيم من طريق أبي هريرة: لكلِّ نبيّ خليلٌ في أمَّته وإنَّ خليلي أبو بكر. كنز العمال: ١٤٠.

هكذا تعارض سلسلة الموضوعات بعضها بعضاً لجهل كلٍّ من واضعيها بما أتى به الآخر. ولكلّ مُنَّته وسعة باعه في نسج الأكاذيب،( وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ ) .

وقبل هذه كلّها ما في رجال سند الرواة من الآفة لمكان إسماعيل بن عبد الله

____________________

١ - سورة فصلت: ٤٦.

٢ - سورة الاسراء: ٧.

٣ - سورة الحجرات: ١٧.

٤ - سورة آل عمران: ١٦٤.

٥ - الرياض النضرة للمحب الطبري ١: ٨٣، إرشاد الساري للقسطلاني ٦: ٨٣.

٣٤

أبي عبد الله بن أبي أويس ابن أُخت مالك ونسيبه والراوي عنه.

قال ابن أبي خيثمة: صدوقٌ، ضعيف العقل ليس بذاك يعني إنَّه لا يحسن الحديث ولا يعرف أن يؤدِّيه أو يقرأ من غير كتابه.

وقال معاوية بن صالح: هو وأبوه ضعيفان.

وقال ابن معين: هو وأبوه يسرقان الحديث. وقال إبراهيم بن الجنيد عن يحيى ابن معين: مخلطٌ يكذب ليس بشيء.

وقال النسائي: ضعيفٌ. وقال في موضع آخر: غير ثقة. وقال اللالكائي: بالغ النسائي في الكلام عليه إلى أن يؤدِّي إلى تركه، ولعلّه بان له ما لم يبن لغيره لأنَّ كلام هؤلاء كلّهم يؤل إلى أنَّه ضعيفٌ.

وقال ابن عدي: روى عن خاله أحاديث غرائب لا يتابعه عليها أحدٌ. قال الأميني هذه الرواية التي رواها عن خاله من تلك الغرائب.

وذكره الدولابي في الضعفاء وقال: سمعت النصر بن سلمة المروزي يقول: ابن أبي أويس كذّابٌ كان يحدِّث عن مالك بمسائل ابن وهب.

وقال العقيلي في الضعفاء عن يحيى بن معين أنَّه قال: ابن أبي أويس لا يسوى فلسين

وقال الدارقطني: لا أختاره في الصحيح.

وذكره الاسماعيلي في المدخل فقال: كان ينسب في الخفَّة والطيش إلى ما أكره ذكره.

وقال بعضهم: جانبناه للسنَّة.

وقال ابن حزم في المحلّى: قال أبو الفتح الأزدي حدَّثني سيف بن محمَّد: إنَّ ابن أبي أويس كان يضع الحديث.

وأخرج النسائي من طريق سلمة بن شبيب أنَّه قال: سمعت إسماعيل بن أبي أويس يقول: ربما كنت أضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم(١) .

أليس من الجزاف والقول الزور، قول النووي في مقدِّمة شرح صحيح مسلم: إتَّفق العلماء رحمهم الله على أنَّ أصحّ الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان: البخاري ومسلم؟.

____________________

١ - تهذيب التهذيب ١: ٣١٢.

٣٥

أكتابٌ هذا حديثه وهذه ترجمة رجال إسناده وهو أخفُّ ما فيه من الطامَّات يصلح أن يكون أصحَّ الكتب بعد القرآن؟ كبرت كلمةً تخرج من أفواههم، ولو كان هذا شأن الأصحِّ المتفق عليه فما قيمة غيره في سوق الاعتبار؟.

- ٣١ -

ثناء أمير المؤمنين عليه السلام على الخليفة

أخرج ابن الجوزي في صفة الصفوة ١: ٩٧ من طريق الحسن قال قال عليٌّ عليه السلام: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد قدَّم أبا بكر في الصَّلاة، فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فقدَّمنا أبا بكر.

وأخرجه مرسلاً أيضاً المحبُّ الطبري في الرياض النضرة ١: ١٥٠ فقال: وعنه قال: قال عليٌّ: قدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يصلّي بالناس وقد رأى مكاني وما كنت غائباً ولا مريضاً، ولو أراد أن يقدِّمني لَقدَّمني فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا.

وعن قيس بن عبادة قال قال لي عليُّ بن أبي طالب: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرض ليالي وأيّاماً ينادي بالصَّلاة فيقول: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس، فلمّا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرت فإذا الصَّلاة علم الاسلام، وقوام الدين، فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فبايعنا.

قال الأميني: ما أجرأ الحفّاظ على رواية هذه الأكاذيب الفاحشة، وإغراء بسطاء الأُمّة المسكينة بالجهل، والتمويه على الحقائق بأمثال هذه الأفائك؟ وهم مهرة الفنِّ ولا يغرب عن أيِّ أحد منهم عرفان ما في تلكم المختلقات من الغمز والاعتلال.

نعم: وكم وكم يجد الباحث في طيّات أجزاء كتابنا هذا ممّا يكذِّب هذه الأفيكة من التاريخ المتسالم عليه، والحديث الصحيح، والنصوص الصريحة من كلمات مولانا أمير المؤمنين، وشتّان بينه وبين كلمات الحفّاظ والمؤرِّخين حول تخلّف عليّ عليه السلام عن بيعة أبي بكر؟ مثل قول القرطبي في المفهم شرح صحيح مسلم في شرح حديث منه. قوله: كان لعليّ من الناس جهة حياة فاطمة قال: جهة أي جاه واحترام كان الناس يحترمون عليّاً في حياتها كرامةً لها كأنَّها بضعة من رسول الله وهو مباشر

٣٦

لها فلمّا ماتت وهو لم يبايع أبا بكر. انصرف الناس عن ذلك الاحترام ليدخل فيما دخل فيه الناس ولا يفرّق جماعتهم.

نعم: أكثر الوضّاعون في الكذب على سيِّد العترة أمير المؤمنين وبان ذلك في الملاء حتّى قال عامر بن شراحيل: أكثر من كُذِب عليه من الأُمَّة الإسلاميَّة هو أمير المؤمنين عليه السلام(١) وإليك نماذج ممّا يُعزى إليه وهو سلام الله عليه برئٌ منه، أضفها إلى أحاديث الغلوِّ في فضائل أبي بكر.

٣٢ - عن عليّ: أوَّل من يدخل من الأمَّة الجنَّة أبو بكر وعمر وإنِّي لموقوفٌ مع معاوية للحساب.

٣٣ - عن عليّ مرفوعاً: يا عليُّ! لا تكتب جوازاً لمن سبَّ أبا بكر وعمر فإنَّهما سيِّدا كهول أهل الجنَّة بعد النبيِّين. ويأتي بلفظ آخر.

٣٤ - عن عليّ مرفوعاً: الخليفة بعدي أبو بكر وعمر ثمَّ يقع الاختلاف.

٣٥ - عن عليّ مرفوعاً: يا عليُّ! سألت الله ثلاثاً أن يقدِّمك فأبى عليٌّ إلّا أن يقدِّم أبا بكر.

٣٦ - عن عليّ: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى أسرَّ إليَّ: أنَّ أبا بكر سيتولّى بعده ثمَّ عمر ثمَّ عثمان ثمَّ أنا.

٣٧ - عن عليّ: إنَّ الله فتح هذه الخلافة على يدي أبي بكر وثنّاه عمر وثلّثه عثمان وختمها بي بخاتمة نبوَّة محمّد صلى الله عليه وسلم.

٣٨ - عن عليّ: ما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله من الدنيا حتّى عهد إليَّ: إنَّ أبا بكر يلي الأمر بعده ثمَّ عمر ثمَّ عثمان ثمَّ إليَّ فلا يجتمع عليَّ.

٣٩ - عن عليّ مرفوعاً: أتاني جبرئيل فقلت: من يهاجر معي؟ قال: أبو بكر، ويلي أمر أمّتك من بعدك وهو أفضل أمَّتك من بعدك.

٤٠ - عن عليّ مرفوعاً: أعزُّ أصحابي إليَّ، وخيرهم عندي، وأكرمهم على الله، وأفضلهم في الدنيا والآخرة أبو بكر الصدِّيق. الحديث بطوله.

٤١ - عن عليّ إنّا نرى أبا بكر أحقَّ الناس بها بعد رسول الله، إنَّه لصاحب

____________________

١ - تذكرة الحفاظ للذهبي ١: ٧٧.

٣٧

الغار، وثاني اثنين، وإنّا لنعلم بشرفه وكبره. الحديث.

٤٢ - عن عليّ مرفوعاً: يا عليُّ إنَّ الله أمرني أن اتَّخذ أبا بكر وزيراً، وعمر مشيراً وعثمان سنداً، وإيّاك ظهيراً، أنتم أربعة فقد أخذ الله ميثاقكم في أمِّ الكتاب، لا يحبّكم إلّا مؤمنُ ولا يبغضكم إلّا فاجرٌ، أنتم خلائف نبوَّتي، وعقدة ذمَّتي، وحجَّتي على أمَّتي، لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تعافوا.

٤٣ - قيل لعليّ: يا أمير المؤمنين! مَن خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو بكر. قيل: ثمَّ مَن؟ قال عمر. قيل: ثمَّ مَن؟ قال: عثمان. قيل: ثمَّ من؟ قال: أنا.

٤٤ - خطب عليٌّ خطبة وقال في آخرها: واعلموا إنَّ خير الناس بعد نبيِّهم صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصدِّيق، ثمَّ عمر الفاروق، ثمَّ عثمان ذو النورين، ثمَّ أنا. وقد رميت بها في رقابكم وراء ظهوركم فلا حجَّة لكم عليَّ.

٤٥ - سُئل عليٌّ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله قالوا: أخبرنا عن أبي بكر ابن أبي قحافة قال: ذاك امرؤ سمّاه الله الصدّيق على لسان جبريل عليه السلام وعلى لسان محمّد صلى الله عليه وآله كان خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله رضيه لديننا فرضينا لدنيانا.

٤٦ - عن عليّ: إنَّه كان يحلف بالله إنَّ الله تعالى أنزل اسم أبي بكر من السَّماء: الصدِّيق.

٤٧ - عن عليّ: أوَّل من أسلم من الرجال أبو بكر، وأوَّل من صلّى إلى القبلة عليُّ بن أبي طالب.

٤٨ - عن عبد الرَّحمن(١) بن أبي الزناد عن أبيه قال: أقبل رجلٌ فتخلّص الناس حتّى وقف على عليِّ بن أبي طالب فقال: يا أمير المؤمنين! ما بال المهاجرين والأنصار قدَّموا أبا بكر وأنت أورى منقبة، وأقدم إسلاماً، وأسبق سابقة؟ قال: إن كنت قرشيّاً فأحسبك من عائذة، قال نعم. قال: لولا إنَّ المؤمن عائذ الله لقتلتك. ويحك إنَّ أبا بكر سبقني لأربع لم أوتهنَّ ولم اعتض منهنَّ: سبقني إلى الإمامة. أو تقدّم الإمامة. و

____________________

١ - قال ابن معين. ليس ممن يحتج به أصحاب الحديث، ليس بشيء. وعن ابن المدني: كان عند أصحابنا ضعيفا. وكان عبد الرحمن يخطّ على حديثه، وضعفه الساجي وابن شيبة، وقال النسائي لا يحتج بحديثه.تهذيب التهذيب ٦: ١٧١.

٣٨

تقدّم الهجرة، وإلى الغار، وإفشاء الاسلام. الحديث بطوله وفي آخره: ثمَّ قال: لا أجد أحداً يفضّلني على أبي بكر إلّا جلدته جلد المفتري.

٤٩ - عن عليّ: جاء جبريل عليه السلام إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: من يهاجر معي؟ فقال: أبو بكر، وهو الصدِّيق. مرَّ بلفظ آخر.

٥٠ - جاء أبو بكر وعليٌّ يزوران النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بستة أيّام فقال عليٌّ لأبي بكر: تقدَّم يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: ما كنت لأتقدَّم رجلاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: عليٌّ منِّي كمنزلتي من ربِّي. فقال عليٌّ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما منكم من أحد إلّا وقد كذَّبني غير أبي بكر، وما منكم من أحد يصبح إلّا على بابه «على باب قلبه» ظلمةٌ إلّا باب أبي بكر. فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله؟ قال: نعم. فأخذ أبو بكر بيد عليّ ودخلا جميعاً.

٥١ - عن عليّ مرفوعاً: ما طلعت شمسٌ ولا غربت على أحد بعد النبيِّين والمرسلين أفضل من أبي بكر.

٥٢ - عن عليّ: دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! ألا تستخلف؟ فقال: إن يعلم الله فيكم خيراً إستعمل عليكم خيركم. فعلم الله فينا خيراً فأستعمل علينا أبا بكر.

٥٣ - عن عليّ قال: أفضلنا أبو بكر.

٥٤ - عن عليّ مرفوعاً: ينادي مناد يوم القيامة: أين السابقون الأوَّلون؟ فيقال مَن؟ فيقول: أين أبو بكر الصديق؟ فيتجلّى الله لأبي بكر خاصَّة وللناس عامَّة.

٥٥ - عن عليّ مرفوعاً: الخير ثلثمائة وسبعون خصلة إذا أراد الله بعبد خيراً جعل فيه واحدةً منهنَّ فدخل بها الجنَّة قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله! هل فيَّ شيءٌ منها؟ قال: نعم جمع من كلّ.

٥٦ - عن عليّ مرفوعاً: يا أبا بكر! إنَّ الله أعطاني ثواب من آمن به منذ خلق آدم إلى أن بعثني، وإنَّ الله أعطاك ثواب مَن آمن بي منذ بعثني إلى أن تقوم الساعة.

٥٧ - إلتقى أبو بكر الصدِّيق وعليُّ بن أبي طالب فتبسَّم أبو بكر في وجه عليّ فقال له عليٌّ: مالك تبسَّمت؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يجوز أحدٌ الصراط

٣٩

إلّا مَن كتب له عليُّ بن أبي طالب الجواز. فضحك عليٌّ وقال: ألا أبشَّرك يا أبا بكر! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكتب الجواز إلّا لمن أحبَّ أبا بكر.

٥٨ - عن عليّ مرفوعاً: نازلت ربِّي فيك ثلاثاً فأبى إلّا أبا بكر

٥٩ - عن عليّ: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا عهداً نأخذ به في الإمارة، ولكنّه شيءٌ رأيناه من قِبَل أنفسنا، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمن قِبَل أنفسنا. ثمَّ استخلف أبو بكر فأقام واستقام، ثمَّ استخلف عمر فأقام واستقام، حتّى ضرب الدين بجرانه.

٦٠ - قال أبو بكر لعليِّ بن أبي طالب: قد علمتَ أنِّي كنت في هذا الأمر قبلك؟ قال: صدقت يا خليفة رسول الله! فمدَّ يده فبايعه.

٦١ - قام أبو بكر بعد ما بويع له وبايع له عليٌّ وأصحابه فأقام ثلاثاً يقول: أيُّها الناس قد أقتلكم بيعتكم، هل من كاره؟ قال: فيقوم عليٌّ في أوائل الناس يقول: لا والله لا نقيلك ولا نستقيلك قدَّمك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذا الذي يؤخِّرك؟.

وفي لفظ: ولولا إنّا رأيناك أهلاً ما بايعناك.

وفي لفظ سويد بن غفلة: لما بايع الناس أبا بكر قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال: أيّها الناس أذكر بالله أيّما رجل ندم على بيعتي لما قام على رجليه، قال: فقام إليه عليُّ بن أبي طالب ومعه السيف فدنا منه حتّى وضع رجلاً على عتبة المنبر والأُخرى على الحصى وقال: والله لا نقيلك. الحديث.

٦٢ - عن عليّ مرفوعاً: خير أُمَّتي بعدي أبو بكر وعمر.

٦٣ - عن عليّ إنَّه دخل على أبي بكر وهو مسجّى فقال: ما أحدٌ لقي الله بصحيفة أحبّ إليَّ من هذا المسجّى.

٦٤ - عن عليّ: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى عرفنا أنَّ أفضلنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى عرفنا إنَّ أفضلنا بعد أبي بكر عمر رضي الله تعالى عنهما.

٦٥ - عن عليّ: مرفوعاً: يا عليُّ! هذان سيّدا كهول أهل الجنَّة من الأوَّلين و الآخرين إلّا النبيِّين والمرسلين، لا تخبرهما يا عليّ. قال: فما أخبرتهما حتّى ماتا.

٤٠

٦٦ - عن عليّ مرفوعاً: أوَّل من يحاسب يوم القيمة أبو بكر. يأتي بطوله.

هذه غياهب الإفك والإحن، وأغشية التمويه والدجل، ظلماتٌ بعضها فوق بعض، أو قل: هي أساطير الأوَّلين التي اكتتبوها، أحاديث الغلوِّ وقصص الخرافة لفَّقتها يد الأمانة الخائنة على السنَّة النبويَّة تقوُّلاً على مولانا أمير المؤمنين، لقد فصَّلنا القول فيها في طيّات أجزاء(١) كتابنا هذا، وإنَّهم ليقولون منكراً من القول وزورا.

- ٦٧ -

ليلة الغار والخليفة فيها

أخرجها أبو نعيم الإصبهاني في حلية الأولياء ١: ٢٢ عن عبد الله بن محمّد بن جعفر عن محمّد بن العباس بن أيوب عن أحمد بن محمّد بن حبيب المؤدب عن أبي معاوية عن هلال بن عبد الرحمن عن عطاء بن أبي ميمونة أبي معاذ عن أنس بن مالك قال: لما كان ليلة الغار قال: أبو بكر يا رسول الله! دعني فلأدخل قبلك فإن كانت حيّة أو شيء كانت لي قبلك. قال: ادخل، فدخل أبو بكر فجعل يلتمس بيديه، فكلما رأى جحراً جاء بثوبه فشقَّه ثمَّ ألقمه الجحر حتّى فعل ذلك بثوبه أجمع، قال: فبقي جحر فوضع عقبه عليه، ثمَّ أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فلمّا أصبح قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: فأين ثوبك يا أبا بكر؟ فأخبره بالذي صنع، فرفع النبيُّ صلى الله عليه وسلم يده فقال: اللهمَّ اجعل أبا بكر معي في درجتي يوم القيامة. فأوحى الله تعالى إليه: إنَّ الله قد استجاب لك.

وقال ابن هشام في السيرة ٢: ٩٨: حدَّثني بعض أهل العلم إنَّ الحسن البصري قال: إنتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلاً فدخل أبو بكر رضي الله عنه قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمس الغار لينظر أفيه سبعٌ أو حيّةٌ يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه.

وذكره ابن كثير في تاريخه ٣: ١٧٩ فقال: فيه إنقطاعٌ من طرفيه.

وفي مرسل المحبِّ الطبري في الرياض ١: ٦٥: دخل أبو بكر الغار فلم يرَ فيه جحراً إلّا أدخل إصبعه فيه حتّى أتى على جحر كبير فأدخل رجله فيه إلى فخذه ثمَّ قال: اُدخل يا رسول الله! فقد مهَّدت لك الموضع تمهيداً.

وبات أبو بكر بليلة منكرة من الأفعى فلمّا أصبح قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما

____________________

١ - تجد بسط المقال حول جلها في الجزء الخامس ص ٢٩٧ ٣٧٥ ط ٢.

٤١

هذا يا أبا بكر؟ وقد تورَّم جسده فقال: يا رسول الله! الأفعى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلّا أعلمتني؟ فقال أبو بكر: كرهت أن أفسد عليك، فأمرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على أبي بكر فاضمحلَّ ما كان بجسده من الألم وكأنّه أُنشط من عقال.

وقال في مرسل آخر عن عمر في ص ٦٨: كان في الغار خروقٌ فيها حيّات وأفاعي فخشي أبو بكر أن يخرج منها شيءٌ يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقمه قدمه فجعلن يضربنه ويلسعنه الحيّات والأفاعي، وجعلت دموعه تتحادر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: يا أبا بكر! لا تحزن إنَّ الله معنا فأنزل الله سكينته وهي الطمأنينة لأبي بكر.

والذي صحّحه الحاكم في المستدرك من طريق عمر من الحديث قوله: فلمّا انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله! حتّى استبرئ الحجرة فدخل واستبرأ ثمَّ قال: أنزل يا رسول الله! فنزل فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خيرٌ من آل عمر. فقال الحاكم: صحيحٌ لولا إرسالٌ فيه.

وفي حديث زيَّفه ابن كثير بالإرسال أيضاً: قال أبو بكر: كما أنت حتّى أدخل يدي فأحسَّه وأقصه فإن كانت فيه دابَّة أصابتني قبلك. قال نافع: فبلغني إنَّه كان في الغار جحرٌ فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر تخوّفاً أن يخرج منه دابَّةٌ أو شيءٌ يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي لفظ: لما دخل الغار سدَّد تلك الأجحر كلّها وبقي منها جحرٌ واحدٌ، فألقمه كعبه فجعلت الأفاعي تنهشه ودموعه تسيل «تاريخ ابن كثير ٣: ١٨٠» فقال: في هذا السياق غرابة ونكارة.

وزاد عليه الحلبي في السيرة: قد كان صلى الله عليه وسلم وضع رأسه في حجر أبي بكر رضي الله تعالى عنه ونام فسقطت دموع أبي بكر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مالك يا أبا بكر؟ قال لدغت فداك أبي وأُمِّي، فتفل رسول الله على محلِّ اللدغة فذهب ما يجده.

وقال: زاد في رواية: وإنَّه رأى على أبي بكر أثر الورم فسأل عنه فقال: من لدغة الحية فقال: هلّا أخبرتني؟ قال: كرهت أن أوقظك فمسحه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فذهب ما به من الورم والألم.

٤٢

وقال: قال بعضهم: والسرُّ في اتخاذ رافضة العجم اللباد المقصص على رؤوسهم تعظيماً للحيَّة التي لدغت أبا بكر في الغار، لأنَّهم يزعمون أنَّ ذلك على صورة تلك الحيَّة.

السيرة الحلبيّة ٢: ٣٩، ٤٠، السيرة النبويَّة لزيني دحلان هامش الحلبيَّة ١: ٣٤٢.

قال الأميني: للباحث حقُّ النظر في هذه الرواية من عدَّة نواحي، أوّلاً من حيث رجال السند ولا إسناد لها منذ يوم وضعت، ولا تروى في كتب السلف والخلف إلّا مرسلة إمّا من الطرفين كرواية ابن هشام، وإمّا من طرف واحد كإسناد الحاكم وأبي نعيم، ومن الغريب جدّاً أنَّ القضيَّة مشتركةٌ بين اثنين ليس إلّا، وهما: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وروايتها بطبع الحال تنحصر بهما غير أنَّها لم تنقل عنهما ولم يوجد لهما ذكرٌ في أيِّ سند، والدواعي في مثلها متوفّرةٌ لأن يذكر مع الأبد، وتتداولها الألسن، إذ فيها من أعلام النبوَّة، وكرامة مع ذلك لأبي بكر.

وإسناد أبي نعيم المذكور لا يعوَّل عليه لمكان عبد الله بن محمّد بن جعفر، قال ابن يونس: خلط في الآخر، ووضع أحاديث على متون معروفة، وزاد في نسخ مشهورة فافتضح وحرقت الكتب في وجهه.

وقال الحاكم عن الدار قطني: كذّابٌ ألَّف كتاب سنن الشافعي وفيها نحو مائتي حديث لم يحدِّث بها الشافعي.

وقال الدارقطني: وضع في نسخة عمرو بن الحارث أكثر من مائة حديث.

وقال عليُّ بن رزيق: كان إذا حدَّث يقول: لأبي جعفر ابن البرقي في حديث بعد حديث: كتبت هذا عن أحد. فكان يقول نعم عن فلان وفلان. فاتّهمه الناس بأنَّه يفتعل الأحاديث، ويدَّعيها ابن البرقي كعادته في الكذب. قال: وكان يصحِّف أسماء الشيوخ(١) .

على أنَّ عبد الله بن محمّد توفي سنة ٣١٥ كما في لسان الميزان فلا تتمُّ رواية أبي نعيم عنه وهو من مواليد ٣٣٦.

____________________

١ - لسان الميزان ٣: ٣٤٥.

٤٣

وفيه: محمّد بن العباس بن أيّوب الحافظ الشهير بابن الأخزم، قال أبو نعيم نفسه: اختلط قبل موته بسنة كما في لسان الميزان ٥: ٢١٦ ولما لم يُعلم تاريخ صدور الرواية منه أهو قبل الاختلاط أم بعده؟ - إن لم تعدّ الرواية من بيِّنات الاختلاطه - سقطت عن الاعتبار كما هو الشأن في رواية كلِّ من اختلط. عن:

أحمد بن محمّد بن حبيب المؤدّب، أحسبه السرخسي، أخرج الخطيب في تاريخه ٥: ١٤٠ حديثاً من طريقه فقال: رجاله كلهم ثقات معروفون بالثقة إلّا المؤدّب. عن:

أبي معاوية محمّد بن خازم، مرجئٌ مدلِّسٌ رئيس المرجئة بالكوفة كما في تهذيب التهذيب ٩: ١٣٩. عن:

هلال بن عبد الرحمن قال العقيلي: منكر الحديث، وقال بعد ما ذكر له أحاديث: كلّ هذه مناكير لا أُصول لها ولا يتابع عليها. وقال الذهبي: الضعف على أحاديثه لائحٌ فليترك. «لسان الميزان ٦: ٢٠٢» عن:

عطاء بن أبي ميمون. ثقةٌ صالحٌ قدريٌّ لا يحتجُّ بحديثه، راجع تهذيب التهذيب ٧: ٢١٥.

ولَمَّا لم يصحّ شيءٌ من أسانيد الرواية ومتونها لم يوعز إليها السيوطي في الخصايص الكبرى في باب ما وقع في الهجرة النبويَّة من الآيات والمعجزات، وقد ذكر فيه أحاديث ضعيفة مع النصِّ على ضعفها، فكأنَّه عرف بأنَّ ذكر هذه الرواية تمسُّ كرامة المؤلِّف وتحطّ مكانة تأليفه عن الأنظار، وهكذا لم يذكرها أحدٌ ممَّن ألَّف في أعلام النبوَّة ومعاجز النبيِّ الأعظم.

ثانياً: إنَّ الأُصول القديمة في القرون الأُولى لا يوجد فيها إلّا أنَّ أبا بكر دخل الغار قبل النبيِّ صلى الله عليه وآله لينظر أفيه سبعُ أو حيَّة كما في سيرة ابن هشام، ولم يصحّ عند الحاكم من القصّة إلّا هذا المقدار كما سمعت ولو صحَّ شيء زايدٌ على هذا لما فاتته روايته ولو مرسلة.

وزيدت في القرن الرابع قصّة الثوب وبقاء جحر وإتّكاء أبي بكر عليه بعقبه ودعاء النبيِّ صلى الله عليه وآله له لاتّقائه عنه صلى الله عليه وآله بثوبه عن لدغ الحشرات المزعومة.

٤٤

وجدِّدت النغمات في قرن المحبِّ الطبري المتخصّص الفنّان في رواية الموضوعات وجمع شتاتها، فجاء في روايته ما سمعت غير أنَّ ألفاظه مع وجازته مضطربةٌ جدًّا لا يلتئم شيءٌ منها مع الآخر.

ثمَّ جاء الحلبي فنوَّم رسول الله صلى الله عليه وآله ورأسه في حجر أبي بكر، وسقى وجه رسوله الكريم بدموع أبي بكر المتساقطة من الألم، كلُّ هذه لم يبرّد كبد الحلبي وما شافي غليله، فوجه قوارصه على الرافضة وألبس رؤوسهم لباداً مقصّصاً على صورة تلك الحيّة الموهومة التي لم يزعن رافضيّ قطُّ بوجوده.

ثمَّ لما أدخل أبو بكر رجله في الجحر ونزل النبيُّ صلى الله عليه وآله ووجده قاعداً لا يتحرَّك، ورام أن ينام، ووضع رأسه الشريف في حجره، هلّا سأل صلى الله عليه وآله صاحبه عن حالته العجيبة وجلوسه المستغرب الذي لا يقوم عنه؟ وهل يمكن له أن يستر على صاحبه كلّما فعل وهو معه ينظر إليه من كَثب؟.

وأيّ لديغ هذا؟ وأيّ تصبّر وتجلّد؟ وأيّ منظر مهول؟ رِجل الرجل في الجحر إلى فخذه ولا ثوب عليه، ورأس النبيِّ العظيم في حجره، والأفاعي والحيّات تلدغه وتلسعه من هنا وهنا، لا اللديغ يتململ السليم، حتّى يحرِّك رِجله أو عقبه فتجد تلكم الحشرات مسرحاً فتبعد عنه، ولا يأنُّ ولا يحنُّ ولا تُسمع له زفرةٌ وإن الدموع تتحادر حتّى يستيقظ النبيّ الذي تنام عينه ولا ينام قلبه(١) فينجي صاحبه الذي اختاره لصحبته من لسعة الحيّات والأفاعي.

وهل من العدل والعقل والمنطق أن يحفظ الله نبيَّه عن كلِّ هاتيك النوازل؟ ويري له في الدرأ عنه آيةً بعد آيةً في سويعات؟ مِن ستره عن أعين مشركي قريش لما مرَّ بهم من بين أيديهم، وإنباته شجرةً في وجهه تستره بها، وإيقاعه حمامتين وحشيَّتين بفم الغار، ونسج العناكيب باب الغار بأمر منه تعالى شأنه(٢) ، ويدع صاحبه الذي اتَّخذه بأمره، وتفانى في حبِّ النبيِّ صلى الله عليه وآله، وعرَّض نفسه للمهالك دونه بدخوله الغار قبله، فلم يدفع عنه لدغ الحيّات والأفاعي، ولا يرحمه في تلك الحالة التي تكسر

____________________

١ - أخرج الشيخان في الصحيحين مرفوعاً: إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي، وأخرجا أيضاً مرفوعاً: إن الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.

٢ - طبقات ابن سعد ١: ٢١٣، الخصايص الكبرى ١: ١٨٥: ١٨٦.

٤٥

القلوب، وتشجي الأفؤدة، وينظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله، ويقول له: لا تحزن إنَّ الله معنا. والمسكين يبكي وتسيل دموعه.

م- وهلّا كان يعلم أبو بكر أنَّ الله الذي أمر نبيَّه بالهجرة وأدخله الغار يكلأه عن لدغ الحيات والأفاعي بقدرته كما أعمى عنه عيون البشر الضاري، وقصَّر عن النيل منه مخالب تلك الفئة الجاهلة؟.

وهلّا كان يؤمن بأنَّ صاحبه المفدّى لو اطّلع على حاله لينجيه بمسحة مسيحيَّة أو بدعوة مستجابة؟ فكلّ ما حُكي عنه لماذا؟]

نعم: أعمى الحبُّ مختلق الرواية وأصمَّه فجاء بالتافهات غلوّاً في الفضائل.

- ٦٨ -

الشيطان لا يتمثّل بأبي بكرِ

أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه ٨: ٣٣٤ عن محمّد بن الحسين قطيط أبي الفتح شيباني الذي ترجمه في تاريخه ولم يذكره بثقة. عن:

٢ - خلف بن عامر الضرير، قال الذهبي في ميزانه ١: فيه جهالةٌ، قال ابن الجوزي: روى حديثاً منكراً «يعني هذا الحديث»(١) . عن:

٣ - محمّد بن إسحاق بن مهران أبي بكر الشافعي قال الخطيب في تاريخه ١: ٢٥٨: حديثه كثير المناكير. وحسبك في عرفان حاله حديثه الذي أخرجه الخطيب في ترجمته مرفوعاً: إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقبلوه فإنَّه أمينٌ مأمونٌ. فراوٍ يكون هذا حديثه لا يرتاب من كذبه ووضعه. عن:

٤ - أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي ذكره ياقوت في المعجم ٣: ٢٢٨ وقال: قالوا: كان ضعيفاً فيما يرويه. قال ابن عدي الحافظ: يحدِّث عن الأصمعي والقرقساني بمناكير

وقال أبو أحمد الحافظ: لا يتابع على جلِّ حديثه.

وحكى ابن حجر في تهذيب التهذيب ١: ٦٠ كلمة ابن عدي وأبي أحمد وزاد عليها: قال الحاكم أبو عبد الله: سكت مشايخنا عن الرواية عنه، وقال ابن حبّان: ربّما خالف، قال الذهبي: ليس بعمدة.

____________________

١ - لسان الميزان ٢: ٤٠٣.

٤٦

وقال السيوطي في بغية الوعاة ٥: ١٤٤: قال ابن عيسى: يحدِّث بمناكير. عن رجال ثقات عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رآني في المنام فقد رآني فإنَّ الشيطان لا يتمثّل بي، ومن رأى أبا بكر الصدِّيق في المنام فقد رآه فإنّ الشيطان لا يتمثل به.

قال الأميني: لم يدع القوم خاصَّة للأنبياء أماثل البشر إلّا وقد أشركوا بهم فيها أناساً ليسوا أمثالهم في العصمة والقداسة والنفسيات الكريمة والملكات الفاضلة، أخرج الشيخان حديث من رآني في المنام فقد رآني فإنَّ الشيطان لا يتمثَّل بي. ورواه الحفّاظ من طرق صحيحة لا مغمز لها، ونصَّ السيوطي كما في شرح المناوي على تواتره، ورآه أئمة الفنِّ من خاصَّة رسول الله صلى الله عليه وآله ومن فضائله التي تخصُّ به، وفصَّلوا القول في بيان أسراره، وعدَّه السيوطي من خصائصه صلى الله عليه وآله في الخصايص الكبرى ٢: ٢٥٨ تحت عنوان «باب ومن خصائصه إنَّ رويته في المنام حقّ» ولم أجد أحداً من شرّاح الحديث سلفاً وخلفاً يوعز إلى هذه الموضوعة التي جاء بها الخطيب في القرن الخامس، فكأنَّ الكلَّ ضربوا عنها صفحاً وعرفوا إنَّها مكذوبةٌ مختلقةٌ، غير انَّ الخطيب راقه أن يرويها ويسكت عمّا في إسنادها من العلل شأنه في فضائل غير العترة الطاهرة، وأعجب منه إن ابن حجر ذكرها في لسان الميزان ٢: ٤٠٣ في ترجمة خلف بن عامر فقال: روى عن محمّد بن إسحاق بن مهران بسند صحيح. وهو الذي ترجم ثلاثةً من رجال السند بما سمعت، هكذا تخطُّ يد الغلوِّ في الفضائل الجانبية على ودايع العلم والدين،( فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ ) (١) .

- ٦٩ -

أبو بكر لم يسؤ النبيَّ قطُّ

أخرج الخلعي وابن مندة وغيرهما من طريق سهل بن مالك قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجَّة الوداع صعد المنبر فقال: أيّها الناس إنَّ أبا بكر لم يسؤني قطُّ فاعرفوا له ذلك(٢) .

____________________

١ - سورة البقرة: ٧٩.

٢ - الرياض النضرة ١: ١٢٧، الإصابة ٢: ٩٠.

٤٧

قال ابن منده: غريبٌ لا نعرفه إلّا من وجه خالد بن عمرو الأموي. وقال ابن حجر بعد نقله: قلت: خالد بن عمرو متروكٌ واهي الحديث إلى أن قال نقلاً عن أبي عمر: ومدار حديثه(١) على خالد بن عمرو وهو متروكٌ وإسناد حديثه مجهولون ضعفاء يدور على سهل بن يوسف أو مالك بن يوسف(٢) .

وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب ٣: ١٠٩ في ترجمة خالد بن عمرو: قال أحمد منكر الحديث، ليس بثقة يروي أحاديث بواطيل، وعن يحيى بن معين قال: ليس حديثه بشيء، كان كذّاباً يكذب، حدَّث عن شعبة أحاديث موضوعة، وقال البخاري والساجي وأبو زرعة: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: متروك الحديث ضعيفٌ. وقال أبو داود: ليس بشيء وقال النسائي: ليس بثقة. وقال صالح بن محمّد البغدادي: كانَ يضع الحديث. وقال ابن حبّان: كان يتفرَّد عن الثقات بالموضوعات لا يحلُّ الاحتجاج بخبره. وقال ابن عدي: روى عن الليث وغيره أحاديث مناكير وأورد له أحاديث من روايته عن الليث عن يزيد ثمَّ قال: وهذه الأحاديث كلّها باطلةٌ، وعندي إنّه وضعها على الليث ونسخة الليث عن يزيد عندنا ليس فيها من هذا شيءٌ وله غير ما ذكرت وعامّتها أو كلّها موضوعةٌ، وهو بيّن الأمر من الضعفاء، وعن أحمد بن حنبل أنّه قال: أحاديثه موضوعةٌ. الخ.

قال الأميني: إقرأ ثمَّ انظر إلى أمانة الحافظ المحبّ الطبري يروي هذه الأُكذوبة محذوف الاسناد مرسِلاً إيّاها إرسال المسلّم ويعدّها من فضائل أبي بكر، وتبعه في جنايته هذه غير واحد من المؤلِّفين، وهم يحسبون إنّهم يحسنون صنعاً، ويحسبون إنّهم على شيء ألا إنّهم هم الكاذبون.

- ٧٠ -

الآيات النازلة في أبي بكر

قال العبيدي المالكي في عمدة التحقيق ص ١٣٤: عن الشيخ زين العابدين البكري إنّه لما قرأت عليه قصيدة جدِّه محمّد البكري ومنها:

____________________

١ - يعني حديث سهل.

٢ - الإصابة ٢: ٩٠.

٤٨

لإن كان مدح الأوَّلين صحائفاً

فإنّا لِآيات الكتاب فواتحُ

قال المراد: بأوَّل الكتاب: ألم ذلك الكتاب. فالألف أبو بكر، واللام لله، والميم محمّد.

وذكر البغوي: إنَّ المراد من قوله تعالى:( وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيّ ) (١) هو أبو بكر

وذكر أهل التفسير في قوله تعالى:( وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ ) : إنّه الصدّيق. قال الشيخ محمّد زين العابدين: كان للصدِّيق ثلثمائة كرسي وستون كرسيّاً على كلِّ كرسي حلّة بألف دينار.

قال الأميني: هاهنا نُنهي البحث عن فضائل أبي بكر، ولا يسعنا الولوج في الكلام حول الآيات التي تقوَّل القوم نزولها فيه، وقد حرَّفوا آياً كثيرة، وقالوا في كتاب الله ما سوَّلت لهم الميول والشهوات، وراقهم الغلوُّ في الفضائل لدة ما سمعت من المخازي، كما لا نفيض القول في الغلوِّ الفاحش فيه بالقريض مثل قول الشاعر العلّامة الملّا حسن أفندي البزّاز الموصلي في ديوانه ص ٤٢:

إنَّ قدر الصدِّيق جلَّ فأضحى

كلُّ مدحٍ مقصَّراً عن عُلاهُ

ليت شعري ما قيمة الشعر فيمن

جاء في محكم الكتاب ثناهُ؟

كلُّ من في الوجود يبغي رضا

الله تعالى والله يبغي رضاهُ

وقوله في مدحه أيضا:

إنَّ ذكر الصدِّيق ما دار إلّا

ملأ الكون هيبةً ووقارا

صاحب الغار كان للسيِّد

المختار والله صاحباً مختارا

تاهَ في ذكره الوجود فلولا

هيبة منه أو قرته لطارا

نعم لنا حقّ النظر في ثروة أبي بكر التي منحوه بها، فكانت من جرّائها له المنن على رسول الله وعلى الدين والمسلمين، تلك الثروة الطائلة التي هيئت له ألف ألف أوقية - كما جاء فيما أخرجه النسائي(٢) عن عائشة قالت: فخرت بمال أبي في الجاهليَّة وكان ألف ألف

____________________

١ - سورة لقمان: ١٥.

٢ - ميزان الاعتدال ٢: ٣٤١، تهذيب التهذيب ٨: ٣٢٥.

٤٩

أوقية(١) - ونضَّدت له ثلثماة وستّين كرسيّاً في داره، وأسدلت على كلِّ كرسي حلّة بألف دينار، كما سمعته عن الشيخ محمّد زين العابدين البكري، وأنت تعلم ما يستتبع هذا التجمّل من لوازم وآثار، وأثاث ورياش، ومناضد وأواني وفرش، لا تقصر عنها في القيمة، وما يلزم من خَدم وحشم، وقصور شاهقة، وغرف مشيَّدة، وما يلازم هذه البسطة في المال من خيل وركاب وأغنام ومواشي وضيعة وعقار، إلى غيرها من توابع الجاه والمال.

أنا لا أدري أيّ باحة كانت تقلّ ذلك كلّه؟ ولم يفز بمثلها يومئذ أحدٌ من ملوك الدنيا، وهل كانت الكراسي المذكورة منضَّدة في غرفة واحدة؟ فما أكبرها من غرفة؟ تضاهي ميادين القتال، ومفازات البراري، وما أكبر الدار التي هي إحدى غرفها؟ وأيّ يوم كان يوم قبول أبي بكر؟ تزدلف إليه فيه الرجال فتجلس على تلكم الكراسي، ولِمَ لا نسمع من السير والتواريخ عن ذلك اليوم ركزا؟ أكان في أفواه الجالسين عليها أوكية عن نقل شيء من حديثه؟ وطبع الحال يقضي أن يكون في ذلك المحتشد العظيم المتكرّر في كلِّ أسبوع، وعلى الأقلِّ في كلِّ شهر. وأقلّ منه في كلِّ سنة، ولا أقلّ من إنعقاده في العمر مرَّة، من الأنباء ما لا يلهو التاريخ عن ذكره، ولا يستسهل المؤرّخ تركه، لكنك بالرغم من ذلك كلّه لا تجد عنه إلّا همساً يتخافت به العبيدي بعد لأي من عمر الدهر.

ومن أيِّ حرفة أو مهنة أو صنعة أو ضياع حصل على الرجل مليون أوقية من النقود؟ وكان يومئذ يوم فاقة لقريش، وكانوا كما وصفتهم الصديقة الطاهرة في خطبتها مخاطبة أبا بكر والقوم معه: كنتم تشربون الطرق(٢) وتقتالون الورق، أذلَّة خاشعين تخافون أن يتخطَّفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله برسوله(٣) .

ولعلَّ في ذلك اليوم كان ما رواه الماوردي في أعلام النبوَّة ص ١٤٦ من طريق مالك بن أنس إنَّه بلغه إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فوجد أبا بكر وعمر رضي الله

____________________

١ - الأوقية: أربعون درهماً.

٢ - الطرق بفتح المهملة: الماء المجتمع الذي خيض فيه وبيل وبعر فكدر. لسان العرب.

٣ - بلاغات النساء ص ١٣، أعلام النساء ٣: ١٢٠٨.

٥٠

عنهما فسألهما فقال: ما أخرجكما؟ فقالا: أخرجنا الجوع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أخرجني الجوع فذهبوا إلى أبي الهيثم بن التيها فأمر له بحنطة أو شعير عنده يعمل. الحديث.

ثمَّ متى أدركت عائشة العهد الجاهلي؟ وقد ولدت بعد المبعث بأربع أو خمس سنين(١) وهل كانت تفخر في دور الاسلام بثروة بائدة في الجاهليَّة وصاحبها جائعٌ في الحال الحاضر؟.

ولست أدري ما الذي قضى على تلكم الآلاف المؤلَّفة؟ وما الذي أفناها وأبادها وأفقر صاحبها؟ حتّى أصبح ولا يملك شيئاً، أو كان لا يملك يوم هجرته إلّا أربعة أو خمسة أو ستة آلاف من الدراهم - إن كان ملكها - ولو كان أنفق أيّ أحدُ عشر معشار ذلك المال لدوَّخ العالم صيته، وكان يومئذ يُعدُّ في الرعيل الأوَّل من أجواد الدنيا ولم يوجد في صحيفة التاريخ ذكر من تلكم الآلاف والكراسي والحلل، هب أنّ الذهبي قال في حديث عائشة: ألف الثانية باطلة قطعاً فإنَّ ذلك لا يهيَّأ لسلطان العصر. وأقرَّ ابن حجر تعقيبه في تهذيب التهذيب(٢) فأين قصَّة ألف أوقية الصحيحة في صحائف التاريخ؟.

وإن صحَّت الأحلام، وصُدِّقت هذه القصص الوهميَّة، وكان لأبي بكر ذلك المال الطائل الخيالي لَما افتقر أبو قحافة والده لأن يكون أجير عبد الله بن جذعان للنداء على طعامه، ولم يكن يقتني بتلك الخسَّة لماظةً من العيش كما قاله الكلبي في المثالب وأشار إليه أُميَّة بن الصلت في قصيدة يمدح بها ابن جذعان بقوله:

له داعٍ بمكّة مشمعلّ

وآخر فوق دارته ينادي

إلى ردحٍ من الشيزى عليها

لباب البرّ يلبك بالشهادِ(٣)

قال الكلبي: المشمعل هو: سفيان بن عبد الأسد. وآخر: أبو قحافة، وفي تعليق مسامرة الأوائل ص ٨٨: يقال: إنَّ الداعي هو أبو قحافة والد الصدِّيق.

____________________

١ - الإصابة ٤: ٣٥٩، ويستفاد ذلك من صحيح البخاري في باب زواج عائشة، وتاريخ ابن عساكر ١: ٣٠٤، والاستيعاب.

٢ - ميزان الاعتدال للذهبي ٢: ٣٤١، تهذيب التهذيب ٨: ٣٢٥.

٣ - مثالب الكلبي، الأغاني لأبي الفرج الاصبهاني ٨: ٤، مسامرة الأوائل ص ٨٨.

٥١

بل يحقُّ على صاحب ألف ألف أوقية، وثلثمائة وستين كرسيّاً محلّىً بالديباج أن ينادي على الطعام في دور ضيافته عشرة مثل أبي قحافة فضلاً عن أن يكون أجير أناس آخرين بدراهم زهيدة، أو بشبع من الطوى.

وإن كان لأبي بكر عندئذ ما حسبوه من الثروة أو شطرٌ منها لما احتاج إلى أن يبتاع للهجرة مع صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم راحلتين بثمانمائة درهم(١) ثمَّ قدَّم إحديهما لرسول الله صلى الله عليه وآله فلم يقبلها إلّا بالثمن، وقال صلى الله عليه وآله: إنِّي لا أركب بعيراً ليس لي، قال أبو بكر: فهو لك يا رسول الله! بأبي أنت وأُمِّي قال: لا، ولكن ما الثمن الذي إبتعتها به؟ قال: كذا وكذا قال: قد أخذتها بذلك(٢) .

ولم يكن ردَّ رسول الله صلى الله عليه وآله إيّاها إلّا لضعف حال أبي بكر من ناحية المال، أو إنَّه لم يرقه أن يكون لأحد عليه منّة حتّى لا يُفتعل عليه بعد ملاوة من الدهر بقول مَن افتعل عليه: إنَّ أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر. كما مرَّ في ص ٣٣ من هذا الجزء.

على إنَّ للنظر في رواية الراحلتين مجالاً واسعاً بما رواه ابن الصباغ في الفصول المهمَّة والحلبي في السيرة ٢: ٤٤ من أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله أمر أسماء بنت أبي بكر أن تأتي عليّاً وتخبر بموضعهما وتقول له: يستأجر لهما دليلاً ويأتي معه بثلاث من الإبل بعد مضيِّ ساعة من الليلة الآتية وهي الليلة الرابعة، فجاءت أسماء إلى عليّ كرّم الله وجهه فأخبرته بذلك، فاستأجر لهما رجلاً يقال له: الأُريقط بن عبد الله الليثي، وأرسل معه بثلاث من الإبل، فجاء بهنَّ إلى أسفل الجبل ليلاً فلمّا سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم رغاء الإبل نزل من الغار هو وأبو بكر فعرفاه.

وفيه صراحة بأنَّه لم تكن هناك راحلتين لأبي بكر معبَّأتين بركوبهما، وإنَّما جئ بالرواحل مستأجرة، وقد جمع الحلبي بين هذا وبين حديث الراحلتين بأنَّ المراد باستيجار عليّ رضي الله عنه إعطاؤه الأجرة. وهذا الجمع يأباه لفظ الحديثين كما ترى.

____________________

١ - طبقات ابن سعد ١: ٢١٢ تاريخ ابن كثير ٣: ١٧٧، ١٧٨.

٢ - صحيح البخاري ٦: ٤٧ تاريخ الطبري ٢: ٢٤٥، سيرة ابن هشام ٣: ٩٨، ١٠٠، طبقات ابن سعد ١: ٢١٣، تاريخ ابن كثير ٣: ١٨٤ ١٨٨.

٥٢

ولقد روي كما يأتي إنَّ الذي استصحبه أبو بكر من المال - يوم هاجر من المدينة - وهو كلُّ ما يملكه أربعة أو خمسة أو ستة آلاف درهم، فأين هذا من الألف ألف أُوقية؟ والكراسي المذكورة وحللها المقوَّمة بثلاثمائة وستين ألف دينار وما يتبعها؟ وأيّ نسبة بين صاحب تلك الثروة وبين ما لا يملك إلّا هذه الدراهم المعدودة؟

وأيّ نسبة بينها وبين أيَّامه وأيَّام أبيه بمكّة وبين ما كان يحترف به في المدينة من بيع الابراد والأقمشة على عنقه وعلى صاعده وحرفةً ضئيلة يدور بها في الأزقَّة و الأسواق من دون أن يستقرَّ في متجر أو حانوت.

أخرج ابن سعد من طريق عطاء قال: لما استخلف أبو بكر أصبح غادياً إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتَّجر بها فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة الجراح فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق. قالا: تصنع ماذا؟ وقد وليت أمر المسلمين. قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالا له: انطلق حتّى نفرض لك شيئاً. فانطلق معهما ففرضوا له كلَّ يوم شطر شاة وما كسوه في الرأس والبطن.

وروى من طريق عمير بن إسحاق: إنَّ رجلاً رأى على عنق أبي بكر الصديق عباءة فقال: ما هذا؟ هاتها أكفيكها. فقال: إليك عنّي لا تغرَّني أنت وابن الخطاب من عيالي.

وفي لفظ آخر لابن سعد أيضاً: إنَّ أبا بكر لما استخلف راح إلى السوق يحمل أبراداً له وقال: لا تغرّوني من عيالي.

وفي لفظ الحلبي. لَمّا بويع أبو بكر بالخلافة أصبح رضي الله عنه على ساعده قماشٌ وهو ذاهبٌ إلى السوق فقال له عمر: أين تريد؟. الخ(١) .

ثمَّ متى كان إنفاقه لثروته الطائلة على النبيِّ صلى الله عليه وآله وفي مناجحه ومصالحه، حتّى كان به أمنَّ الناس عليه بماله؟ وكيف أنفق ولم يره أحد ولا رواه أيّ ابن أُنثى؟ ولِمَ لم يذكر التاريخ مورداً من موارد نفقاته؟ وقد حفظ له تقديم راحلة واحدة للنبيِّ صلى الله عليه وآله مع ردِّه إيّاها وأخذه ثمنها، كما حفظ لكلِّ مَن أنفق شيئاً في مهمّات الرسول

____________________

١ - راجع طبقات ابن سعد ط ليدن ٣: ١٣٠: ١٣١، صفة الصفوة لابن الجوزي ١: ٩٧، السيرة الحلبية ٢: ٣٨٨.

٥٣

صلى الله عليه وآله وسلم وغزواته ومصالح الاسلام والمسلمين.

ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحتاجه في شخصيّاته وما يتعلّق بها بمكّة قبل الهجرة فإنَّ عمَّه أبا طالب سلام الله عليه كان متكفِّلاً لذلك كلّه قبل زواجه بخديجة، وبعده كان مال خديجة تحت يده وهي في طوعه، وإنَّما وقعت الحاجة بعد الهجرة لتوسّع نطاق الاسلام، وتمطُّط أمره فكان يحتاج إلى تجهيز الجيوش وقيادة العساكر، وهؤلاء رجال بني سالم بن عوف، ورجال بني بياضة، ورجال بني ساعدة وفي مقدّمهم سعيد بن عبادة، ورجال بني الحرث بن الخزرج، ورجال بني عديّ أخوال رسول الله الأكرمين كلٌّ منهم رفع عقيرته يوم دخوله صلى الله عليه وآله المدينة بقوله هلّم إلينا إلى العَدَد والعُدّة والمنعة(١) .

ولم يكن عند أبي بكر يومئذ من المال غير ما جاء به من مكة أربعة أو خمسة أو ستة آلاف درهماً - إن كان جاء به وأنّى لك بإثباته؟ - وما عساها أن تجدي نفعاً وما هي وما قيمتها تجاه ذلك السلطان العظيم؟ لكنّا مع غضّ النظر عن ذلك نسائل أيضاً مدَّعي الانفاق إنَّه متى أنفقها؟ وفي أيِّ مصرف أدرَّها؟ وفي أيِّ أمر بذلها؟ ولأيِّ حاجة سمح بها؟ ولِمَ خفي ذلك على خلق الله من أولئك الصحابة؟ ولماذا عزب عن المؤرِّخين؟ فلم يسطروها في صحائف التاريخ ولا ذكروها في فضائل الخليفة، وهل قام عمود الاسلام وتمَّ أمره بهذه الدريهمات المجهول مصرفها؟ وعاد أبو بكر أمنَّ الناس على رسول الله بماله؟.

والعجب كلّ العجب إنَّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام كانت له أربعة دراهم فتصدّق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سرّاً، وبدرهم جهراً، فأنزل الله فيه القرآن فقال:( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٢) سورة البقرة ٢٧٤.

____________________

١ - أسلفنا حديثه في الجزء السابع ص ٢٦٩.

٢ - أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن عساكر وابن جرير. راجع تفسير القرطبي ٣: ٣٤٧، تفسير البيضاوي ١: ١٨٥، تفسير الزمخشري ١: ٢٨٦، تفسير الرازي ٢: ٣٦٩، تفسير ابن كثير ١: ٣٢٦، تفسير الدر المنثور ١: ٣٦٣، تفسير الخازن ١: ٢٠٨، تفسير الشوكاني ١: ٢٦٥، تفسير الآلوسي ٣: ٤٨.

٥٤

وهو سلام الله عليه تصدَّق بخاتمه للسائل فذكره تعالى في كتابه العزيز بقوله:( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (١) سورة المائدة: ٥٥.

وأطعم هو وأهله مسكيناً ويتيماً وأسيراً فأنزل الله فيهم قوله:( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) «سورة هل أتى» وقد أسلفنا تفصيل أمرهم هذا في الجزء الثالث ص ١٠٦ - ١١١ ط ٢.

وأمّا أبو بكر فينفق جميع ماله في سبيل الله ويراه النبيُّ الأعظم أمنَّ الناس عليه في صحبته وماله، ولم يوجد له مع ذلك كلّه ذكرٌ في الكتاب العزيز، هذا لماذا؟ أنت تدري.

والأعجب: أنَّ أبا بكر غدا أمنَّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله بإنفاق أربعة أو خمسة أو ستة آلاف درهماً - إن كانت له - ولم يكن عثمان كذلك وقد أنفق أضعاف ما أنفقه أبو بكر، وبعث إلى رسول الله في غزوة بعشرة آلاف دينار كما جاء في مكذوبة أبي يعلى(٢) فوضعها بين يديه فجعل صلى الله عليه وآله وسلم يقلّبها ويدعو له بقوله: غفر الله لك يا عثمان! ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما هو كائنٌ إلى يوم القيامة(٣) ، ما يبالي عثمان ما فعل بعدها.

وإنِّي أرى الأنجح للمدَّعي أن يسحب كلامه ويقول: لا أعلم بشيء من ذلك، ولا أُثبت شيئاً منه، وإنّما اختلقه الغلوُّ في الفضائل.

ولعلَّ الباحث يقف على ما أخرجه الحافظان: الحاكم وأبو نعيم أو على ما جاء به البيضاوي والزمخشري، فيقع ذلك منه موقعاً حسناً ويطالبني المخرج منه، فإليك البيان:

أمّا الأخيران فقد ذكر البيضاوي في تفسيره ١: ١٨٥، والزمخشري في الكشاف ١: ٢٨٦: إنَّ قوله تعالى:( الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللّيلِ وَالنّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ

____________________

١ - راجع ما مرَّ في الجزء الثاني ص ٤٧ و ج ٣: ١٥٥ - ١٦٣ ط ٢.

٢ - أخرجه بإسناد واه وذكره ابن كثير في تاريخه ٧: ٦١٢.

٣ - هذه الجملة توهن متن الرواية، وتعرب عن إنها مكذوبة على رسول الله:

٥٥

عِندَ رَبّهِمْ ) . الآية. نزلت في أبي بكر حين تصدّق بأربعين ألف دينار، عشرة بالليل، وعشرة بالنهار، وعشرة بالسرِّ، وعشرة بالعلانية.

هذه المرسلة التي لم أعرف قائلها ومن الصحابة والتابعين ولم أقف على عزوها إلى أحد من السلف في كتب القوم إلّا سعيد بن المسيّب المعروف بانحرافه عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، اختلقتها يد الوضع تجاه ما أخرجه الحفّاظ من نزولها في عليّ أمير المؤمنين ومنحت فيها لأبي بكر أربعين ألف دينار لتقريب نزول الآية فيمن أنفق كميَّة كبيرة كهذه إلى فهم بسطاء الأُمَّة دون مُنفق أربعة دراهم، ذاهلاً عمّا هو المتسالم عليه عند القوم من أخذ أبي بكر يوم هجرته إلى المدينة أربعة أو خمسة أو ستة آلاف درهم، وهي جميع ما كان يملكه. والآية المذكورة في سورة البقرة، وقد أصفقت أئمَّة الحديث والتفسير على نزولها بالمدينة في أُوليات الهجرة(١) . قال ابن كثير في تفسيره: هكذا قال غير واحد من الأئمَّة والعلماء والمفسِّرين، ولا خلاف فيه. فأنّى لأبي بكر عند نزول الآية الأربعون ألف ديناراً؟ تصدَّق بها أم لم يتصدَّق، ولم يكن يملك إلّا دريهمات إن صحَّ حديثها أيضاً، وستعرف إنَّه لا يصحُّ.

تعقّب السيوطي هذه المرسلة بقوله: خبر إنَّ الآية نزلت فيه لم أقف عليه، وكأنَّ من ادَّعى ذلك فهمه ممّا أخرجه ابن المنذر عن ابن إسحاق قال: لما قُبض أبو بكر رضي الله تعالى عنه واستخلف عمر خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثمَّ قال: أيّها الناس إنَّ بعض الطمع فقرٌ، وإنَّ بعض اليأس غنى، وإنَّكم تجمعون ما لا تأكلون، وتؤملون ما لا تدركون، واعلموا أنَّ بعضاً من الشحِّ شعبةٌ من النفاق، فأنفقوا خيراً لأنفسكم، فأين أصحاب هذه الآية؟ وقرأ الآية الكريمة، وأنت تعلم أنَّها لا دلالة فيها على المدَّعى.اهـ(٢)

وجاء مختلقٌ آخر(٣) فروى عن سعيد بن المسيِّب مرسلاً من الطرفين: إنَّ الآية

____________________

١ - تفسير القرطبي ١، ١٣٢، تفسير ابن كثير ١: ٣٥، تفسير الخازن ١: ٩١، تفسير الشوكاني ١: ٦١.

٢ - راجع تفسير الآلوسي ٣: ٤٨.

٣ - راجع تفسير الشوكاني ١: ٢٦٥، تفسير الآلوسي ٣: ٤٨.

٥٦

المذكورة نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرَّحمن بن عوف في نفقتهم في جيش العسرة يوم غزوة تبوك.

وذكر الرازي في تفسيره ٢: ٣٤٧ فقال: إنَّ اللتي نزلت في عثمان لإنفاقه جيش العسرة هي قوله تعالى:( الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلاَ أَذىً ) . الآية.

وقد أعمى الحبُّ بصائر القوم، فحرَّفوا الكلم عن مواضعه، وقالوا في كتاب الله ما زيَّن لهم الشيطان، خفي على المغفَّلين إنَّ الآيتين من سورة البقرة آية ٢٦٢ و٢٧٤ وهي أوَّل سورة نزلت بالمدينة المشرَّفة كما قاله المفسِّرون(١) وقد نزلت قبل غزوة تبوك وجيشها - جيش العسرة الواقعة في شهر رجب سنة تسع - بعدَّة سنين، فلا يصحُّ نزول أيّ من الآيتين في عثمان.

*(وأمّا ما أخرجه الحافظان)*

١ - فأخرج أبو نعيم في الحلية ١: ٣٣ عن محمّد بن أحمد بن محمّد الورّاق عن إبراهيم بن عبد الله بن أيوب المخرمي عن سلمة بن حفص السعدي عن يونس بن بكير عن محمّد بن إسحق عن هشام بن عروة عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: كانت يد النبيِّ صلى الله عليه وسلم في مال أبي بكر ويد أبي بكر واحدة حين حجّا.

*(رجال السند)*:

١ - محمّد بن أحمد الورّاق. كذَّبه أبو بكر بن إسحاق قاله الحاكم. لسان الميزان ٥: ٥١.

٢ - إبراهيم بن عبد الله المخرمي قال الدار قطني: ليس بثقة حدَّث عن الثقات بأحاديث باطلة. لسان الميزان ١: ٧٢.

٣ - سلمة بن حفص السعدي، شيخٌ كوفيٌّ قال ابن حبان: كان يضع الحديث فذكر له حديثاً منكراً. وقال: لا يحلُّ الاحتجاج به ولا الرواية عنه. وروى عنه حديثاً فقال: لا أصل له. لسان الميزان ٣: ٦٧.

____________________

١ - راجع تفسير القرطبي ١: ١٣٢، تفسير الخازن ١: ١٩، تفسير الشوكاني ١: ١٦.

٥٧

٢ - أخرج الحاكم في المستدرك ٣: من طريق أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن محمّد بن إسحاق عن يحيى بن عباد عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: لما توجَّه رسول الله صلى الله عليه وآله من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر حمل أبو بكر معه جميع ماله خمسة ألف أو ستة ألف(١) درهم فأتاني جدّي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال: إنَّ هذا والله قد فجعكم بماله مع نفسه، فقلت: كلّا يا أبت! قد ترك لنا خيراً كثيراً، فعمدت إلى أحجار فجعلتهنَّ في كوَّة البيت، وكان أبو بكر يجعل أمواله فيها وغطَّيت على الأحجار بثوب ثمَّ جئت فأخذت بيده فوضعتها على الثوب فقال: أمّا إذا ترك هذا فنعم قالت: ووالله ما ترك قليلاً ولا كثيراً.

*(رجال السند)*:

١ - أحمد بن عبد الجبار أبو عمر الكوفي. قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه وأمسكت عن الرواية عنه لكثرة كلام الناس فيه، وقال مطين: كان يكذب. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقويِّ عندهم تركه ابن عقدة. وقال ابن عدي: رأيت أهل العراق مجمعين على ضعفه، وكان ابن عقدة لا يحدِّث عنه. وكان أحمد يلعب بالحمام الهدّى(٢) .

٢ - محمّد بن إسحاق. أسلفنا في الجزء السابع صفحة ٣١٩ ط ٢ كلمات الحفّاظ فيه وإنَّه كذّابٌ دجّالٌ مدلّسٌ لا يحتجُّ به.

٣ - أخرج أبو نعيم في حلية الأولياء ١: ٣٢: من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أرقم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدَّق ووافق ذلك مال عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً قال: فجئت بنصف مالي قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: ما أبقيت لأهلك؟ قال: فقلت: مثله وأتى أبو بكر بكلِّ ما عنده. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قال أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أُسابقك إلى شيء أبداً.

ورواه من طريق عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر.

كفى الاسناد ضعفاً هشام بن سعد أبو عباد المدني. كان يحيى بن سعد لا يروي عنه

____________________

١ - كذا في الموضعين والصحيح: آلاف. كما في جميع المصادر.

٢ - تاريخ الخطيب ٤: ٢٦٣، تهذيب التهذيب ١: ٥١.

٥٨

وعن أحمد قال: ليس هو محكم الحديث. وقال حرب: لم يرضه أحمد، وقال ابن معين: ضعيفٌ، ليس بذلك القوي. ليس بشيء حديثه مختلط، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتجُّ به. وقال النسائي: ضعيفٌ. وقال مرّة: ليس بالقويِّ. وقال ابن سعد: كثير الحديث يستضعف وكان متشيِّعاً. وقال ابن المديني: صالحٌ وليس بالقويِّ. وقال الخليلي: أنكر الحفّاظ حديثه في المواقع. وذكره ابن سفيان في الضعفاء(١) .

وأمّا عبد الله بن عمر العمري فقال أبو زرعة الدمشقي عن أحمد: كان يزيد في الأسانيد ويخالف وكان رجلاً صالحاً. وقال ابن المديني: ضعيفٌ. وعن يحيى بن سعيد: لا يحدَّث عنه. وقال صالح جزرة: لين مختلط الحديث. وقال النسائي: ضعيف الحديث. وقال ابن سعد. كثير الحديث يستضعف. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتجُّ به. وقال ابن حبان: كان ممَّن غلب عليه الصَّلاح حتّى غفل عن الضبط فاستحق الترك. وقال البخاري: كان يحيى بن سعيد يضعفه. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال ابن شيبة: يزيد في الأسانيد كثيراً(٢)

وأمّا زيد بن أرقم فالصحيح: زيد بن أسلم مولى عمر ففي النسخة تصحيفٌ.

( لَقَدْ وَصّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ

ـ وَإِذَا سَمِعُوا اللّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ

سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ )

«القصص: ٥١، ١٥٥»

____________________

١ - تهذيب التهذيب ١١: ٤٠.

٢ - تهذيب التهذيب ٥: ٣٢٧.

٥٩

الغلو في فضايل عمر

قدَّمنا في الجزء السّادس من نفسيّات الخليفة الثاني وملكاته من فقهه وعلمه وعمله وخطواته الواسعة في شتَّى النواحي ما يوقفك على أنَّ كلّ ما نسرد هاهنا من ولائد الغلوّ في الفضائل، وقد إلتمط بحياته الروحيَّة من أوَّل يومه إلى أن تسنَّم عرش الخلافة بإدلاء من الخليفة الأوَّل إليه حصوله على لماظة من العيش يقتاب بها.

كان ردحاً من الزمن يرعى الإبل في وادي ضجنان(١) يُرعب ويُتعب إذا عمل. ويُضرب إذا قصر(٢) .

وآونةً كان يحتطب ويحمل فوق رأسه حزمة من الحطب مع أبيه الخطاب وما منهما إلّا في نمرة(٣) لا يبلغ(٤) رسغيه(٥) .

وكان مدّةً يقف في سوق عكاظ وبيده عصا ترع الصبيان به، وكان يوم ذاك يُسمّى عميراً(٦) .

وكان برهةً من أيّام إسلامه يمتهن بالبرطشة، وكان مبرطشاً يلهيه عن أخذ الكتاب والسَّنة الصفق بالأسواق(٧) .

____________________

١ - جبل بناحية مكة.

٢ - الاستيعاب ٢: ٤٢٨، الرياض النضرة ٢: ٥٠، تاريخ أبي الفدا ج ١: ١٦٥، الخلفاء للنجار ص ١١٣، وأوعز إلى حديثه ابن منظور في لسان العرب ١٧: ١١٢، والزبيدي في تاج العروس ٩: ٢٦٢.

٣ - النمرة في القاموس: بردة من صوف تلبسها الأعراب. وفي الفائق للزمخشري: بردة تلبسها الإماء فيها تخطيط.

٤ - الرسغ: مفصل ما بين الساعد والكتف، والساق والقدم.

٥ - العقد الفريد ١: ٩١، شرح ابن أبي الحديد ١: ٥٨، فائق الزمخشري ٢: ٢٨.

٦ - الاستيعاب هامش الإصابة ٤: ٢٩١، الإصابة ٤: ٢٩، الفتوحات الإسلامية ٢: ٤٢٣، وفيه تحريف نلفت إليه الأنظار.

٧ - مرَّ تفصيله في الجزء السادس ص ١٤٦، ٢٨٧، ٣٠٢ ط ١.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397