الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٨

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 397

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
تصنيف: الصفحات: 397
المشاهدات: 139971
تحميل: 5988


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 139971 / تحميل: 5988
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أيمانكم وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.

*(قول آخر في الآية المحلّلة)*

قال ملك العلماء في بدايع الصنايع ٢: ٢٦٤، والزمخشري في تفسيره ١: ٣٥٩: عني عثمان بآية التحليل قوله عزّوجلّ:( إِلّا عَلَى‏ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (١) .

وهذا إنَّما يتمُّ بالتمسُّك بعموم ملك اليمين لكن الممعن في لحن القول يجد إنّه لا يجوز الأخذ بهذا العموم لأنَّه في مقام بيان ناموس العفَّة للمؤمنين بأنّ صاحبها يكون حافظاً لفرجه إلّا فيما أباح له الشارع في الجملة من زوجة أو ملك يمين فقال:( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) ولا ينافي هذا وجود شروط في كلّ منهما، فإنَّ العموم لا يبطل تلكم الشروط الثابتة من الشريعة، وإنَّما هي التي تضيِّق دائرة العموم وهي الناظرة عليه، مثلاً لا يقتضي هو إباحة وطي الزوجة في حال الحيض والنفاس وفي أيّام شهر رمضان وفي الإحرام والايلاء والظهار والمعتدّة من وطء بشبهة، ولا إباحة وطي الأُختين ولا وطء الأمَة ذات الزوج فإنّ هذه شرايط جاء بها الإسلام لا يخصّصها أيُّ شيء، ولا يعارض أدلّتها عموم إلّا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم.

ولو وسّعنا عموم الآية لوجب أن نبيح كلّ هذه أو نراها تعارض أدلَّتها، ولنا عندئذ أن نقول في نكاح الأُختين وفي بقيّة ما ورد في الكتاب ممّا ذكر: أحلّته آيةٌ وحرّمته آيةٌ. فقد استثنيا «الزوجة وملك اليمين» بنسق واحد وهذا ممّا لا يفوه به أيّ متفقِّه.

وكذلك لو أخذنا بعمومها في الرجال والنساء كما جوّزه الجصّاص لوجب أن نبيح للمرأة المالكة أن يطأها مَن تملكه، وهذا لا يحلُّ إجماعاً من أئمَّة المذاهب. وقال ابن حزم في المحلّى ٩: ٥٢٤: لا خلاف بين أحد من الأُمَّة كلّها قطعاً متيقِّناً في أنَّه ليس على عمومه، بل كلهم مجمعٌ قطعاً على أنّه مخصوصٌ، لأنّه لا خلاف ولا شكَّ

____________________

١ - سورة المؤمنين آية ٦.

٢٢١

في أنَّ الغلام من ملك اليمين وهو حرامٌ لا يحلُّ، وإنَّ الأُمَّ من الرضاعة من ملك اليمين والأُخت من الرضاعة من ملك اليمين، وكلتاهما متّفق على تحريمهما، أو الأمة يملكها الرجل قد تزوّجها أبوه ووطأها وولد منها حرامٌ على الإبن.

وقال: ثمَّ نظرنا في قوله تعالى:( وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَأُمّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُم مِن نِسَائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُم بِهِنّ. وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتّى‏ يُؤْمِنّ ) . ولم يأت نصٌّ ولا إجماعٌ على أنَّه مخصوصٌ حاش زواج الكتابيّات فقط، فلا يحلُّ تخصيص نصّ لا برهان على تخصيصه، وإذ لا بدَّ من تخصيص ما هذه صفتها أو تخصيص نصٍّ آخر لا خلاف في أنَّه مخصَّصٌ، فتخصيص المخصوص هو الذي لا يجوز غيره. اهـ.

وأما ما قيل(١) من أنَّ الآية المحلّلة قوله تعالى:( وَأُحِلّ لَكُم مَا وَرَاءَ ذلِكُمْ ) . في ذيل آية عدِّ المحرَّمات فباطلٌ أيضاً فإنَّه بمنزلة الاستثناء ممّا قبله من المحرّمات ومنها الجمع بين الأُختين، وقد عرفت إنَّ الأُمَّة صحابيّها وتابعيّها وفقهائها مجمعةٌ على عدم الفرق في حرمة الجمع بين الأُختين في الوطء نكاحاً وملك يمين، ولم يفرِّقوا بينهما قطُّ، وهو الحجَّة، على أنَّ ملاك التحريم في النكاح وهو الوطي موجودٌ في ملك اليمين فالحكم فيهما شرعٌ سواء في المراد ممّا وراء ذلك هو ما وراء المذكورات كلّها من الأُمّهات والبنات إلى آخر ما فيها، ومنها الجمع بين الأُختين بقسميه.

وعلى فرض الإغضاء عن كلِّ هذه وعن أسباب نزول الآيات وتسليم إمكان المعارضة بين الآيتين فإنَّ دليل الحظر مقدَّمٌ على دليل الإباحة في صورة التعارض ووحدة سبب الدليلين كما بيّنه علماء علم الأُصول ونصَّ عليه في هذه المسألة الجصّاص في أحكام القرآن ٢: ١٥٨، والرازي في تفسيره ٣: ١٩٣.

لكن عثمان كان لا يعرف كلِّ هذا، ولا أحاط بشيء من أسباب نزول الآيات فطفق يغلب دليل الإباحة في مزعمته على دليل التحريم المتسالم عليه عند الكلِّ، وقد عزب عنه حكم العقل المستدعي لتقديم أدلَّة الحرمة دفعاً للضرر المحتمل، وقد شذَّ بذلك عن جميع الأُمَّة كما عرفت تفصيله ولم يوافقه على هذا الحسبان أيّ أحد إلّا ما يعزى

____________________

١ - تفسير القرطبي ٥: ١١٧، تفسير ابن كثير ١: ٤٧٤.

٢٢٢

إلى ابن عبّاس بنقل مختلف فيه كما مرَّ عن أبي عمر في الاستذكار.

وفي كلام الخليفة شذوذٌ آخر وهو قوله: كلُّ شيء حرَّمه الله تعالى من الحرائر حرَّمه الله تعالى من الإماء إلّا الجمع بالوطء بملك اليمين. فهو باطلٌ في الاستثناء والمستثنى منه، أمّا الاستثناء فقد عرفت إطباق الكلِّ على حرمة الجمع بين الأُختين بالوطء بملك اليمين معتضداً بالكتاب والسنَّة، وأمَّا المستثنى منه فقد أبقى فيه ما هو خارجٌ منه بالاتِّفاق من الأُمَّة جمعاء وهو العدد المأخوذ في الحرائر دون الإماء.

لقد فتحت أمثال هذه المزاعم الباطلة الشاذَّة عن الكتاب وفقه الإسلام باب الشجار على الأُمَّة بمصراعيه، فإنَّها في الأغلب لا تفقد متابعاً أو مجادلاً قد ضلّوا وأضلّوا وهم لا يشعرون، وهناك شرذمةٌ سبقها الإجماع ولحقها من أهل الظاهر لا يُأبه بهم لم يزالوا مصرِّين على رأي الخليفة في هذه المسألة، لكنهم شذّاذٌ عن الطريقة المثلى، قال القرطبي في تفسيره ٥: ١١٧: شذَّ أهل الظاهر فقالوا: يجوز الجمع بين الأُختين بملك اليمين في الوطء كما يجوز الجمع بينهما في الملك، واحتجّوا بما روي عن عثمان في الأُختين من ملك اليمين: حرَّمتهما آيةٌ وأحلّتهما آيةٌ.

( وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنّكَ إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ ) .

«البقرة ١٤٥».

- ٢٤ -

رأي الخليفة في ردِّ الأخوين الأُمّ عن الثلث

أخرج الطبري في تفسيره ٤: ١٨٨ من طريق شعبة عن ابن عبّاس: إنّه دخل على عثمان رضي الله عنه فقال: لِمَ صار الأخوان يردّان الأمَّ إلى السدس وإنَّما قال الله: فإن كان له إخوة. والأخوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بأخوة؟ فقال عثمان رضي الله عنه: هل أستطيع نقض أمر كان قبلي وتوارثه الناس ومضى في الأمصار.

وفي لفظ الحاكم والبيهقي: لا أستطيع أن أردَّ ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس.

أخرجه الحاكم في المستدرك ٤: ٣٣٥ وصحَّحه، والبيهقي في سنن الكبرى ٦: ٢٢٧، وابن حزم في المحلّى ٩: ٢٥٨، وذكره الرازي في تفسيره ٣: ١٦٣، وابن

٢٢٣

كثير في تفسيره ١: ٤٥٩، والسيوطي في الدر المنثور ٢: ١٢٦، والآلوسي في روح المعاني ٤: ٢٢٥.

قال الأميني: ما أجاب به الخليفة ابن عبّاس ينمُّ عن عدم تضلّعه في العربيَّة مع إنَّها لسان قومه، ولو كان له قسطٌ منها لأجاب ابن عبّاس بصحَّة إطلاق الجمع على الاثنين وإنَّه المطرَّد في كلام العرب، لا بالعجز عن تغيير ما غلط فيه الناس كلّهم - العياذ بالله - وما هو ببدع في ذلك عمَّن تقدَّماه يوم لم يعرفا معنى «الأبِّ« وهو من صميم لغة الضاد ومشروحٌ بما بعده في الذكر الحكيم، فإنَّ إطلاق الأخوة على الأخوين قد لهج به جمهور العرب ولذلك لا تجد أيَّ خلاف في حجب الأخوين الأمّ عن الثلث إلى السدس بين الصحابة العرب الأقحاح، والتابعين الذين نزلوا منزلتهم من العربيَّة الفصحاء، والفقهاء من مذاهب الاسلام، ولا استناد لهم في الحكم إلّا الآية الكريمة، وما ذلك إلّا لتجويزهم إطلاق الجمع على الإثنين سواءٌ كان ذلك أقلّه أو توسّعاً مطَّرداً في الإطلاق.

قال الطبري في تفسيره ٤: ١٨٧: قال جماعةٌ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان ومن بعدهم من علماء أهل الاسلام في كلِّ زمان: عني الله جلَّ ثناؤه بقوله: فإن كان له إخوةٌ فلامِّه السدس. إثنين كان الأخوة أو أكثر منهما، أُنثيين كانتا أو كنَّ إناثاً، أو ذكرين كانا أو ذكوراً، أو كان أحدهما ذكراً والآخر أنثى، واعتلَّ كثيرٌ ممّن قال ذلك بأنَّ ذلك قالته الأُمَّة عن بيان الله جلَّ ثناؤه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقلته أُمَّة نبيِّه نقلاً مستفيضاً قطع العذر مجيئه، ودفع الشك فيه عن قلوب الخلق وروده (ثمَّ نقل حديث ابن عبّاس المذكور فقال): والصواب من القول في ذلك عندي أنَّ المعنيَّ بقوله: فإن كان له إخوة. إثنان من أُخوة الميت فصاعداً على ما قاله أصحاب رسول الله دون ما قاله إبن عبّاس رضي الله عنه(١) لنقل الأمَّة وراثة صحَّة ما قالوه من ذلك عن الحجَّة وإنكارهم ما قاله ابن عبّاس في ذلك. قال:

فإن قال قائلٌ: وكيف قيل في الأخوين إخوة؟ وقد علمت أنَّ الأخوين في منطق العرب مثالاً لا يشبه مثال الأخوة في منطقها؟ قيل: إنَّ ذلك كان كذلك فإنَّ من شأنها التأليف بين الكلامين بتقارب معنييهما وإن اختلفا في بعض وجوههما فلمّا كان ذلك

____________________

١ - سيوافيك فساد عزو الخلاف إلى ابن عباس.

٢٢٤

كذلك وكان مستفيضاً في منطقها، منتشراً مستعملاً في كلامها: ضربت من عبد الله وعمرو رؤسهما، وأوجعت منهما ظهورهما، وكان ذلك أشدّ إستفاضة في منطقها من أن يقال: أوجعت منهما ظهرهما، وإن كان مقولا أوجعت ظهرهما كما قال الفرزدق:

بما في فؤادينا من الشوق والهوى

فيبرأ منهاض الفؤاد المشغَّف

غير أنَّ ذلك وإن كان مقولاً فأفصح منه بما في أفئدتنا كما قال جلَّ ثناؤه: إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما. فلمّا كان ما وصفت من إخراج كلِّ ما كان في الانسان واحداً إذا ضمَّ إلى الواحد منه آخر من إنسان آخر فصارا اثنين من اثنين فلفظ الجمع أفصح في منطقها وأشهر في كلامها، وكان الأخوان شخصين كلّ واحد منهما غير صاحبه من نفسين مختلفين أشبه معناها معنى ما كان في الانسان من أعضائه واحداً لا ثاني له، فأخرج أنثييهما بلفظ أنثي العضوين اللذين وصفت، فقيل: إخوة. في معنى الأخوين، كما قيل: ظهور. في معنى الظهرين، وأفواه في معنى فموين، وقلوب في معنى قلبين. وقد قال بعض النحويِّين إنَّما قيل: إخوة، لأنَّ أقلَّ الجمع اثنان. الخ.

وأخرج الحاكم بإسناد صحَّحه في المستدرك ٤: ٣٣٥، والبيهقي في السنن ٦: ٢٢٧ عن زيد بن ثابت إنَّه كان يحجب الأُمّ بالأخوين فقال: إنَّ العرب تسمّي الأخوين إخوة. وذكره الجصّاص في أحكام القرآن ٢: ٩٩.

وأخرج ابن جرير في تفسيره ٤: ١٨٩ وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى:( فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ) . قال: أضرّوا بالأُمِّ، ولا يرثون ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ويحجبها ما فوق ذلك. (الدر المنثور ٢: ١٢٦)

وذكر الجصّاص في أحكام القرآن ٢: ٩٨ قول الصحابة بحجب الأخوين الأُمَّ عن الثلث كالأُخوة فقال: والحجَّة: إنَّ اسم الأُخوة قد يقع على الإثنين كما قال تعالى:( إِن تَتُوبَا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) . وهما قلبان. وقال تعالى:( هَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ إِذْ تَسَوّرُوا الْمِحْرَابَ ) . ثمَّ قال تعالى:( خَصْمانِ بَغَى‏ بَعْضُنَا عَلَى‏ بَعْضٍ ) . فأطلق لفظ الجمع على إثنين. وقال تعالى:( وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلْذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ ) . فلو كان أخاً وأُختاً كان حكم الآية جارياً فيهما. الخ(١) .

____________________

١ - بقية كلامه لا تخلو عن فوائد. فراجع الجصاص أحد أئمة الحنفية.

٢٢٥

قال مالك في الموطأ ١: ٣٣١: فإن كان له إخوةٌ فلامِّه السدس فمضت السنَّة أنَّ الأُخوة إثنان فصاعداً.

وفي عمدة السالك وشرحه فيض المالك ٢: ١٢٢: فإن كان معها أي الأُمّ ولدٌ أو كان معها ولد ابن ذكر أو أنثى أو كان معها عدد اثنان فأكثر من الأُخوة ومن الأخوات فلها السدس لقوله تعالى:( فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمّهِ السّدُسُ ) . والمراد بهم إثنان فأكثر إجماعاً(١) .

وقال الشافعي كما في مختصر المزني هامش كتاب الأُم ٣: ١٤٠: وللأُمِّ الثلث فإن كان للميّت ولدٌ أو ولد ولد أو اثنان من الأُخوة أو الأخوات فصاعداً فلها السدس.

وقال ابن كثير في تفسيره ١: ٤٥٩: حكم الأخوين كحكم الأخوة عند الجمهور ثمَّ ذكر حديث زيد بن ثابت من إنَّ أخوين تسمّي إخوة.

وقال الشوكاني في تفسيره ١: ٣٩٨: قد أجمع أهل العلم على أن الإثنين من الأُخوة يقومون مقام الثلاثة فصاعداً في حجب الأُمِّ إلى السدس.

هذا رأي الأُمّة في الأخوة فقد عزب عن الخليفة صحَّة الإطلاق في الآية الكريمة في لسان قومه، وإنَّ السلف لم يعرف من الأُخوة معنى إلّا ما يعمُّ الأخوين وزعم أنَّ من كان قبله شذّوا عن لسان قومه، وذهبوا إلى حجب الأمِّ بالأخوين خلاف كتاب الله، وجاء يأسف على أنَّه لم يستطع تغيير ما وقع ونقض ما كان من الناس، هذا مبلغ علم الرجل بالكتاب وأدلَّة الأحكام والفروض المسلّمة بين الأُمَّة.

وأمّا ابن عبّاس فإنَّه لم يشذَّ عن لغة قومه وهو من جبهة العرب وعلى سنام قريش ومن بيت هم أفصح من نطق بالضاد، وإنَّما أراد باستفهامه من الخليفة أن يعرِّف الملأ مقداره من أبسط شيء يجب أن يكون في مثله فضلاً عن معضلات المسائل وهو الحيطة باللغة وعرفان موارد الاستعمال حتّى يتسنّى له أخذ الحكم من الكتاب والسنَّة اللذّين جاءا بهذه اللغة الكريمة، ولذلك أتى في قوله بصورة الاستفهام عن مُدرك الحكم لاعن أصله، فإنَّ الحكم كان مسلّماً عنده لا أنَّ ما قاله للخليفة كان رأياً له في الخلاف في حجب الأخوين، وإلّا لتبعه أصحابه المقتصِّين أثره، لكنهم كلّهم موافقون للأمَّة وعلمائها

____________________

١ - هذا مذهب الحنابلة والكتاب لأحد أئمتهم.

٢٢٦

في حجب الأخوين كما ذكره ابن كثير في تفسيره ١: ٤٥٩ فعدُّ ابن عبّاس مخالفاً في المسألة بهذه الرواية كما فعله الطبري في تفسيره ٤: ١٨٨، وابن رشد في البداية ٢: ٣٢٧ وغير واحد من الفقهاء وأئمّة الحديث ورجال التفسير أُغلوطةٌ نشأت من عدم فهم مغزى كلامه.

- ٢٥ -

رأي الخليفة في المعترفة بالزنا

عن يحيى بن حاطب قال: توفّي حاطب فأعتق مَن صلَّى مِن رقيقه وصام وكانت له أمةٌ نوبيّة قد صلّت وصامت وهي أعجميّة لم تفقه فلم ترعه إلّا بحبلها وكانت ثيِّباً فذهب إلى عمر رضي الله عنه فحدَّثه فقال: لأنت الرجل لا تأتي بخير، فأفزعه ذلك فأرسل إليها عمر رضي الله عنه فقال: أحبلت؟ فقالت: نعم من مرعوش بدرهمين. فإذا هي تستهلُّ بذلك لا تكتمه قال: وصادف عليّاً وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم فقال: أشيروا عليَّ وكان عثمان رضي الله عنه جالساً فاضطجع فقال عليٌّ وعبد الرحمن: قد وقع عليها الحدُّ. فقال: أشر عليَّ يا عثمان! فقال: قد أشار عليك أخواك، قال: أشر عليَّ أنت. قال: أراها تستهلُّ به كأنَّها لا تعلمه وليس الحدُّ إلّا على من علمه فقال: صدقت صدقت والذي نفسي بيده، ما الحدُّ إلّا على من علمه. فجلدها عمر مائة وغرَّبها عاماً.

قال الأميني: أسلفنا هذا الحديث في الجزء السادس(١) وتكلّمنا هنالك حول رأي الخليفة الثاني وما أمر به من الجَلد والاغتراب وإنَّه خارجٌ عن نطاق الشرع، وهاهنا ننظر إلى رأي عثمان وفتياه بعدم الحدِّ.

ولو كان ما يقوله الخليفة حقّاً لبطلت الأقارير والاعترافات في أمثال المورد فيقال في كلّها إنَّه لا يعلم الحدَّ ولو علمه لأخفاه خيفة إجرائه عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يحدُّ بالإقرار ولو بعد استبراء الخبر والتريُّث في الحكم رجاء أن تكون هناك شبهة يدرأ بها الحدّ فكان صلى الله عليه وآله يقول للمعترف بالزنا: أبك جنونٌ؟(٢) أو يقول: لعلّك قبَّلت

____________________

١ - صفحة ١٦١ ط ١، و ١٧٤ ط ٢.

٢ - كما في صحيح أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي في السنن ٨: ٢٢٥.

٢٢٧

أو غمزت أو نظرت؟(١) وكذلك مولا نا أمير المؤمنين عليّ وقبله الخليفة الثاني كانا يدافعان المعترف رجاء أن ينتج الأخذ والردُّ لشبهة في الاقرار، لكنَّهما بعد ثبات المعترف على ما قال كانا يجريان عليه الحدَّ، ألا ترى قول عمر للزانية: ما يبكيك؟ إنَّ المرأة ربما استكرهت على نفسها. فأخبرت إنَّ رجلاً ركبها وهي نائمة فخلّى سبيلها، وإنَّ عليّاً عليه السلام قال لشراحة حين أقرَّت بالزنا: لعلّك عصيت نفسك؟ قالت: أُتيت طائعة غير مكرهة فرجمها(٢)

ولعلَّ من جرّاء أمثال هذه القضايا طرق سمع الخليفة إنَّ الحدود تدرأ بالشبهات، والحدود تدفع ما وجد لها مدفع، غير أنَّه لم يدر أنّ للإقرار ناموساً في الشريعة لا يعدوه ولا سيما في مورد الزنا فإنَّه يؤاخذ به المعترف في أوَّل مرَّة كما تعطيه قصَّة العسيف الواردة في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما، أو بعد أربع أقارير إمّا في مجلس واحد كما ورد في قصَّة الماعز في لفظ الشيخين في الصحيحين، أوفي عدَّة مجالس كما يظهر من حديث زاني بني ليث الوارد في سنن البيهقي ٨: ٢٢٨، فتقوم تلكم الأقارير مقام أربع شهادات، كما وقع في سارق جاء إلى عليّ فقال: إنِّي سرقت، فردَّه فقال: إنِّي سرقت. فقال: شهدت على نفسك مرَّتين فقطعه(٣) . وقد عزب عن الخليفة فقه المسألة كما بيَّناه، وهي على ما جاءت في الأحاديث المذكورة يختلف حكمها عند أئمة المذاهب قال القاضي ابن رشد في بداية المجتهد ٢: ٤٢٩: أمّا عدد الاقرار الذي يجب به الحدُّ فإنَّ مالكاً(٤) والشافعي(٥) يقولان يكفي في وجوب الحدِّ عليه إعترافه به مرَّة واحدة وبه قال داود وأبو ثور الطبري وجماعة، وقال أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى: لا يجب الحدُّ إلّا بأقارير أربعة مرَّة بعد مرَّة، وبه قال أحمد واسحاق، وزاد أبو حنيفة وأصحابه في مجالس متفرِّقة.

____________________

١ - كما في حديث ماعز وقد أخرجه غير واحد من أصحاب الصحاح وفي مقدمهم البخاري في صحيحه ١٠: ٣٩.

٢ - أخرجهما الجصاص في أحكام القرآن ٣: ٣٢٥.

٣ - كنز العمال ٣: ١١٧ نقلا عن عبد الرزاق وابن المنذر والبيهقي.

٤ - ذكر تفصيل ما ذهب إليه في الموطأ والمدونة الكبرى.

٥ - يوجد تفصيل قوله في كتابه الأم ٧: ١٦٩.

٢٢٨

ثمَّ ماذا يعني الخليفة بقوله: أراها تستهلُّ به كأنَّها لا تعلمه، وليس الحدُّ إلّا على من علمه؟ هل يريد جهلها بالحدِّ أو بحرمة الزنا؟ أمَّا العلم بثبوت الحدِّ فليس له أيّ صلة بإجراء حكم الله فإنَّه يتَّبع تحقُّق الزنا في الخارج عَلِم الزاني أو الزانية بترتُّب الحدِّ عليهما أم لم يعلما.

على إنَّه ليس من الممكن في عاصمة النبوَّة أن يجهل ذلك أيُّ أحد وهو يشاهد في الفينة بعد الفينة مجلوداً تنال منه السياط، ومرجوماً تتقاذفه الأحجار.

وأمّا حرمة الزنا فلا يقبل من المتعذَّر بالجهل بها إلّا حيث يمكن صدقه كمن عاش في أقاصي البراري والفلوات والبقاع النائية عن المراكز الإسلاميَّة، فيمكن أن يكون الحكم لم يبلغه بعدُ، وأمّا المدنيُّ يومئذ الكائن بين لوائح النبوَّة ومجاري الأحكام والحدود وتحت سيطرة الخلفاء، وهو يعي كلَّ حين التشديد في الزنا وحرمته، ويشاهد العقوبات الجارية على الزناة من جرّاء حرمة السفاح، فعقيرةٌ ترتفع من ألم السياط، وجنازةٌ تُشال بعد الرجم، فليس من الممكن في حقِّه عادةً أن يجهل حرمة الزنا فلا تقبل منه دعواه الجهل، ولعلَّ هذا ممّا اتَّفقت عليه أئمَّة المذاهب، قال مالك في المدوَّنة الكبرى ٤: ٣٨٢ في الرجل يطأ مكاتبته يغتصبها أو تطاوعه: لا حدَّ عليه وينكل إذا كان ممَّن لا يُعذر بالجهالة.

وقال فيمن يطلّق امرأته تطليقة قبل البناء بها فيطؤها بعد التطليقة ويقول: ظننت أنَّ الواحدة لا تبينها منِّي وإنّه لا يبرأها منّي إلّا الثلاث: قال ابن القاسم: ليس عليه الحدّ إن عذر بالجهالة، فأرى في مسألتك إن كان ممَّن يُعذر بالجهالة أن يدرأ عنه الحدّ لأنَّ مالكاً قال في الرجل يتزوَّج الخامسة: إن كان ممَّن يُعذر بالجهالة وممَّن يظنُّ إنّه لم يعرف أنَّ ما بعد الأربع ليس ممّا حرّم الله، أو يتزوَّج أُخته من الرضاع على هذا الوجه، فإنَّ مالكاً درأ عنه الحدَّ وعن هؤلاء.

وفي ص ٤٠١: من وطئ جارية هي عنده رهن إنَّه يقام عليه الحدُّ، قال ابن القاسم: ولا يعذر في هذا أحدٌ ادّعى الجهالة. قال مالك: حديث التي قالت زينب بمرعوش بدرهمين(١) إنَّه لا يؤخذ به. وقال مالك: أرى أن يقام الحدُّ ولا يُعذر العجم بالجهالة.

____________________

١ - يعني الحديث المذكور في عنوان المسألة الذي نبحث عما فيه.

٢٢٩

وقال الشافعي في كتاب الأُمّ ٧: ١٦٩ في زناء الرجل بجارية امرأته: إنَّ زناه بجارية امرأته كزناه بغيرها إلّا أن يكون ممَّن يُعذر بالجهالة ويقول: كنت أرى أنّها لي حلال.

قال شهاب الدين أبو العبّاس ابن النقيب المصري في عمدة السالك: ومن زنى و قال: لا أعلم تحريم الزنا وكان قريب العهد بالاسلام أو نشأ ببادية بعيدة لا يحدّ، وإن لم يكن كذلك حدّ(١) .

ولو قُبل من كلِّ متعذرٍ بالجهالة لعطّلت حدود الله، وتترَّس به كلُّ زانٍ وزانية، وشاع الفساد، وساد الهرج، وارتفع الأمن على الفروج والنواميس، ولو راجعت ما جاء في مدافعة النبيِّ صلى الله عليه وآله والخلفاء عن المعترف بالزنا لإلقاء الشبهة لدرء الحدِّ تراهم يذكرون الجنون والغمز والتقبيل وما شابه ذلك، ولا تجد ذكر الجهل بالحرمة في شيء من الروايات، فلو كان لمطلق الجهل تأثير في درء الحدِّ لذكروه لا محالة من غير شك.

على أنَّ الجهل حيث يُسمع يجب أن يكون بادّعاء من الرجل لا بالتوسُّم من وجناته وأسارير جبهته واستهلاله في إقراره كما زعمه الخليفة وهو ظاهر كلمات الفقهاء المذكورة.

ولِما قلناه كلّه لم يعبأ الحضور بذلك الاستهلال، فأخذها مولانا أمير المؤمنين وعبد الرحمن فقالا: قد وقع عليها الحدُّ. وأمَّا عمر فالذي يظهر من قوله لعثمان؟ صدقت. إلخ. وفعله من إجراء الجلد والإغتراب إنَّه هزأ بهذا القول، ولو كان مصدِّقاً لما جلدها لكنَّه جلدها وهي تستحقُّ الرجم كما مرَّ في الجزء السادس.

- ٢٦ -

شراء الخليفة صدقة رسول الله

أخرج الطبراني في الأوسط من طريق سعيد بن المسيب قال: كان لعثمان آذنٌ فكان يخرج بين يديه إلى الصَّلاة قال: فخرج يوماً فصلّى والآذن بين يديه ثمَّ جاء فجلس الآذن ناحية ولفَّ ردائه فوضعه تحت رأسه واضطجع ووضع الدِرَّة بين يديه، فأقبل عليٌّ في إزار ورداء وبيده عصا، فلمَّا رآه الآذن من بعيد قال: هذا عليٌّ قد أقبل.

____________________

١ - راجع فيض الإله المالك في شرح عمدة السالك ٢، ٣١٢.

٢٣٠

فجلس عثمان فأخذ عليه رداءه فجاء حتّى قام على رأسه فقال: اشتريت ضيعة آل فلان و لِوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائها حقٌّ، أما إنّي قد علمت إنَّه لا يشتريها غيرك. فقام عثمان وجرى بينهما كلامٌ حتّى ألقى الله عزَّوجلَّ وجاء العباس فدخل بينهما، ورفع عثمان على عليّ الدِرّة ورفع عليٌّ على عثمان العصا، فجعل العباس يسكّنهما ويقول لعليّ: أمير المؤمنين. ويقول لعثمان: ابن عمّك. فلم يزل حتّى سكتا. فلمّا أن كان من الغد رأيتهما وكلٌّ منهما آخذٌ بيد صاحبه وهما يتحدَّثان. مجمع الزوائد ٧: ٢٢٧.

قال الأميني: يُعلمنا الحديث إنَّ الخليفة إبتاع الضيعة ومائها وفيه حقٌّ لِوقف رسول الله لا يجوز إبتياعه، فإن كان يعلم بذلك؟ وهو المستفاد من سياق الحديث حيث إنَّه لم يعتذر بعدم العلم، وهو الذي يلمح إليه قول الإمام عليه السلام: وقد علمت أنَّه لا يشتريها غيرك. فأي مبرّر إستساغ ذلك الشراء؟ وإن كان لا يعلم؟ فقد أعلمه الإمام عليه السلام فما هذه المماراة والتلاحي ورفع الدِرَّة؟ الذي إضطرَّ الإمام إلى رفع العصا، حتّى فصل بينهما العبّاس، أوَفي الحقِّ مغضبة؟ وهل يكون تنبيه الغافل أو إرشاد الجاهل مجلبةً لغضب الإنسان، الديني؟ فضلاً عمّن يُقلّه أكبر مَنصَّة في الاسلام.

وأحسب إنَّ ذيل الرواية مُلصقٌ بها لإصلاح ما فيها، وعلى فرض صحَّته فإنَّه لا يجديهم نفعاً، فإنَّ الإمام عليه السلام لم يأل جهداً في النهي عن المنكر سواءٌ ارتدع فاعله أو إنَّه عليه السلام يأس من خضوعه للحقِّ، وعلى كلّ فإنّه عليه السلام كان يماشيهم على ولاء الاسلام ولا يثيره إلّا الحقّ إذا لم يُعمل به، فيجري في كلِّ ساعة على حكمها من مكاشفة أو مُلاينة، وهكذا فليكن المصلح المنزَّه عن الأغراض الشخصيَّة الذي يغضب لله وحده ويدعو إلى الحقِّ للحقِّ.

- ٢٧ -

الخليفة في ليلة وفاة أمّ كلثوم

أخرج البخاري في صحيحه في الجنائز باب يعذَّب الميت ببكاء أهله. وباب من يدخل قبر المرأة ج ٢: ٢٢٥، ٢٤٤ بالإسناد من طريق فليح بن سليمان عن أنس بن مالك قال: شهدنا بنت(١) رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ على القبر فرأيت

____________________

١ - الصحيح عند شراح الحديث إنها أمّ كلثوم زوجة عثمان بن عفان، وجاء في لفظ أحمد وغيره إنها رقية. وعقبه السهيلي وقال: هو وهم بلا شك. راجع الروض الآنف ٢: ١٠٧، فتح الباري ٣: ١٢٢، عمدة القاري ٤: ٨٥.

٢٣١

عينيه تدمعان فقال: هل فيكم مِن أحد لم يقارف الليلة؟ فقال أبو طلحة «زيد بن سهل الأنصاري»: أنا، قال: فأنزل في قبرها. قال: فنزل في قبرها فقبرها. قال ابن مبارك: قال فليح: أراه يعني الذنب. قال أبو عبد الله «يعني البخاري نفسه»: ليقترفوا ليكتسبوا(١) وفي مسند أحمد: قال سريج: يعني ذنباً.

وأخرجه ابن سعد في الطبقات ٨: ٣١ ط ليدن، وأحمد في مسنده ٣: ١٢٦، ٢٢٨، ٢٢٩، ٢٧٠، والحاكم في المستدرك ٤: ٤٧، والبيهقي في السنن الكبرى ٤: ٥٣ من طريقين، وذكره السهيلي في الروض الأُنف ٢: ١٠٧ نقلاً عن تاريخ البخاري وصحيحه وعن الطبري فقال: قال ابن بطّال: أراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يحرم عثمان النزول في قبرها وقد كان أحقَّ الناس بذلك لأنَّه كان بعلها وفقد منها علقاً لا عوض منه لأنَّه حين قال عليه السلام: أيّكم لم يقارف الليلة أهله. سكت عثمان ولم يقل أنا لأنَّه كان قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه ولم يشغله الهمُّ بالمصيبة وانقطاع صهره من النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن المقارفة فحرم بذلك ما كان حقّاً له وكان أولى من أبي طلحة وغيره، وهذا بيّن في معنى الحديث ولعلَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد كان علم ذلك بالوحي فلم يقل له شيئاً لأنّه فعل فعلاً حلالاً غير إنَّ المصيبة لم تبلغ منه مبلغاً يشغله حتّى حرم ما حرم من ذلك بتعريض غير تصريح والله أعلم.

ويوجد الحديث في نهاية ابن الأثير ٣: ٢٧٦، لسان العرب ١١: ١٨٩، الإصابة ٤: ٤٨٩، تاج العروس ٦: ٢٢٠.

قال الأميني: إضطربت كلمات العلماء حول هذا الحديث غير إنَّ فليحاً المتوفّي سنة ١٦٣، الذي فسَّر المقارفة بالذنب، وأيَّد البخاري كلامه بقوله: ليقترفوا ليكتسبوا وسريجاً المتوفّى سنة ٢١٧ هم أقدم مَن تكلّم فيه، وقال الخطابي(٢) : معناه لم يذنب(٣) وجاء ابن بطّال(٤) وخصّه بمقارفة النساء، وجمع بينهما العيني(٥) ، وأيّاً ما كان

____________________

١ - إيعاز إلى قوله تعالى:( وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُقْتَرِفُونَ ) . كما في فتح الباري ٣: ١٦٣، وفي قوله تعالى:( إِنّ الّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمِ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ) .

٢ - أبو سليمان حمد بن محمّد البستي صاحب التآليف القيمة المتوفى ٣٨٨.

٣ - ذكره العيني في عمدة القاري ٤: ٨٥.

٤ - ذكر كلامه السهيلي في الروض الأنف ٢: ١٠٧ كما مرَّ بلفظه.

٥ - عمدة القاري ٤: ٨٥.

٢٣٢

فلا شكَّ في إنّه أمرٌ استحقّ من جرّائه عثمان الحرمان من النزول في قبر زوجته ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أولى الناس بها، والمسلمون كلّهم كانوا يعلمون ذلك، لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الداعي إلى الستر على المؤمنين والإغضاء عن العيوب، الناهي عن إشاعة الفحشاء في كتابه الكريم، والمانع عن التجسُّس عمّا يقع في الخلوات، المبعوث لإعزاز أهل الدين، شاءَ وما ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحيٌ يوحى أن يستثني مورداً واحداً تلوّح بأمر عظيم حرم لأجله عثمان من الحظوة بالنزول في قبر حليلته أو معقد شرفه بصهر رسول الله صلى الله عليه وآله وواسطة مفخره بهاتيك الصلة، فعرف المسلمون ذلك المقتضي بالطبع الأوَّل وهذا المانع من المقارفة المختلف في تفسيرها، فإن كان ذنباً أثَّر في رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حطَّ من رتبته بما قلناه؟ ولو كانت صغيرة وهي غير ظاهرة تستّرها، لكنها بلغت من الكبر حدّاً لم ير صلى الله عليه وآله سترها، ولا رعى حرمةً ولا كرامةً لمقترفها، فإن كانت سيّئة هذا شأنها؟ فلا خير فيمن يجترح السيِّئآت.

وإن أريدت مقارفة النساء على الوجه المحلّل فهي من منافيات المروءة ومن لوازم الفظاطة ولغلظة فأيّ إنسان تحبَّذ له نفسه التمتع بالجواري في أعظم ليلة عليه هي ليلة تصرُّم مجده، وانقطاع فخره، وانفصام عرى شرفه، فكيف هان ذلك على الخليفة؟ فلم يراع حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله واستهانت تلك المصيبة العظيمة فتلذَّذ بالرّفث إلى جارية(١) والمطلوب من الخلفاء معرفةٌ فوق هذه من أوَّل يومهم، ورأفةٌ أربى ممّا وقع، ورقَّة تنيف على ما صدر منه، وحياءٌ يفضل على ما ناء به.

ومن العسير جدّاً الخضوع للإعتقاد بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله ارتكب ذلك الهتك والإهانة على أمر مباح مع رأفته الموصوفة على أفراد الأُمَّة وإغراقه نزعاً في الستر عليهم، وكيف في حقِّ رجل يعلم صلى الله عليه وآله إنَّه سيشغل منصَّة الخلافة.

هذا ما عندنا وأمَّا أنت فظنّ خيراً ولا تسأل عن الخبر.

أيحكم ضميرك الحرُّ عندئذ في رجل هذا شأنه وهذه سيرته مع كريمة رسول الله صلى الله عليه وآله بصحَّة ما أخرجه ابن سعد في طبقاته ٣: ٣٨ من القول المعزوّ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يوم قارف الرجل، يوم سمع من النبيِّ الأعظم تلك القارصة: لو كان عندي ثالثةٌ

____________________

١ - كما في عمدة قاري ٤: ٨٥.

٢٣٣

زوَّجتهما عثمان، قاله لما ماتت أُمُّ كلثوم. كذا قال ابن سعد.

أو قوله: لو كنَّ (يعني بناته) عشراً لزوجتهنَّ عثمان(١)

أو قوله فيما أخرجه ابن عساكر: لو إنَّ لي أربعين بنتاً لزوَّجتك واحدة بعد واحدة حتّى لا تبقى منهنَّ واحدة(٢) .

أو قوله فيما جاء به ابن عساكر(٣) من طريق أبي هريرة قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقي عثمان بن عفان على باب المسجد فقال: يا عثمان! هذا جبريل يخبرني إنَّ الله قد زوَّجك أُمّ كلثوم بمثل صداق رقيَّة على مثل مصاحبتها.

أكانت مصاحبة عثمان هذه أُمّ كلثوم لدة مصاحبتها رقيَّة وكانت مرضيَّة للمولى سبحانه؟ أو ترى عثمان متخلّفاً عن شرط الله في أمّ كلثوم؟ أنا لا أدري.

على أنَّ إسناد هذا الحديث معلولٌ من جهات، وكفاه علّة عبد الرحمن بن أبي الزناد القرشي وقد ضعَّفه ابن معين وابن المديني وابن أبي شيبة وعمرو بن عليّ والساجي وابن سعد، وقال ابن معين والنسائي: لا يحتجُّ بحديثه(٤)

- ٢٨ -

إتِّخاذ الخليفة الحمى له ولذويه

لقد جعل الإسلام منابت العشب من مساقط الغيث والمروج كلّها شرعاً سواء بين المسلمين إذا لم يكن لها مالكٌ مخصوصٌ كما هو الأصل في المباحات الأصليَّة من أجواز الفلوات وأطراف البراري؛ فترتع فيها مواشيهم وترعى إبلهم وخيلهم من دون أيِّ مزاحمة بينهم، وليس لأيِّ أحد أن يحمى لنفسه حمى فيمنع الناس عنه؛ فقال صلى الله عليه وآله: المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ والماء والنار.

وقال: ثلاثٌ لا يُمنعن: الماء والكلأ والنار.

وقال: لا يُمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ. وفي لفظ: لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ. وفي لفظ: من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضله يوم

____________________

١ - طبقات ابن سعد ط ليدن ٨: ٢٥.

٢ - تاريخ ابن كثير ٧: ٢١٢ وقال: إسناد ضعيف، أخبار الدول للقرماني ص ٩٨.

٣ - راجع تاريخ ابن كثير ٧: ٢١١.

٤ - تهذيب التهذيب ٦: ١٧١.

٢٣٤

القيامة(١) نعم كان في الجاهليَّة يحمي الشريف منهم ما يروقه من قِطَع الأرض لمواشيه وإبله خاصَّة فلا يشاركه فيه أحدٌ وإن شاركهم هو في مراتعهم، وكان هذا من مظاهر التجبُّر السائد عندئذ، فاكتسح رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك فيما اكتسحه من عادات الطواغيت وتقاليد الجبابرة فقال صلى الله عليه وآله: لا حمى إلّا لله ولرسوله(٢)

وقال الشافعي في تفسير الحديث: كان الشريف من العرب في الجاهليّة إذا نزل بلداً في عشيرته استعوى كلباً فحمى لخاصَّته مدى عُواء الكلب لا يشركه فيه غيره فلم يرعه معه أحدٌ، وكان شريك القوم في سائر المراتع حوله. قال: فنهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُحمى على الناس حمىً كما كانوا في الجاهليَّة يفعلون. قال:

وقوله: إلّا لله ولرسوله. يقول: إلّا ما يُحمى لخيل المسلمين وركابهم التي تُرصد للجهاد ويُحمل عليها في سبيل الله وإبل الزكاة كما حمى عمر النقيع(٣) لنعم الصدقة والخيل المعدَّة في سبيل الله(٤) .

واستعمل عمر على الحمى مولىً له يُقال له هنّى فقال له: يا هنّى ضم جناحك للناس، واتّق دعوة المظلوم فإنَّ دعوة المظلوم مجابة، وادخل ربَّ الصريمة وربَّ الغنيمة، وإيَّاي ونعم ابن عفان(٥) ونعم ابن عوف فإنَّهما إن تهلك يرجعان إلى نخل وزرع، وإنَّ ربَّ الغنيمة والصريمة يأتي بعياله فيقول: يا أمير المؤمنين! أفتاركهم أنا؟ لا أبا لك. الخ(٦)

كان هذا الناموس متسالماً عليه بين المسلمين حتّى تقلّد عثمان الخلافة فحمى لنفسه دون إبل الصدقة كما في أنساب البلاذري ٥: ٣٧، والسيرة الحلبيَّة ٢: ٨٧، أو له و لحكم ابن أبي العاص كما في رواية الواقدي، أو لهما ولبني أُميَّة كلّهم كما في شرح

____________________

١ - توجد هذه الأحاديث في صحيح البخاري ٣: ١١٠، الأموال لأبي عبيد ص ٢٩٦، سنن أبي داود ٢: ١٠١، سنن ابن ماجة ٢: ٩٤.

٢ - صحيح البخاري ٣: ١١٣، الأموال لأبي عبيد ص ٢٩٤، كتاب الأم للشافعي ٣: ٢٠٧، وفي الأخيرين تفصيل ضاف حول المسألة.

٣ - على عشرين فرسخاً أو نحو ذلك من المدينة «معجم البلدان».

٤ - راجع كتاب الأم ٣: ٢٠٨، معجم البلدان ٣: ٣٤٧، نهاية ابن الأثير ١: ٢٩٧، لسان العرب ١٨: ٢١٧، تاج العروس ١٠: ٩٩.

٥ - في لفظ أبي عبيد: ودعني من نعم ابن عفان. بدل (وإيّاي ونعم ابن عفان).

٦ - صحيح البخاري ٤: ٧١، الأموال لأبي عبيد ص ٢٩٨، كتاب الأم ٣: ٢٧١.

٢٣٥

إبن أبي الحديد ١: ٦٧ قال: حمى (عثمان) المرعى حول المدينة كلّها من مواشي المسلمين كلّهم إلّا عن بني أُميّة. وحكى في ص ٢٣٥ عن الواقدي أنَّه قال: كان عثمان يحمي الربذة والشرف والنقيع، فكان لا يدخل الحمى بعيرٌ له ولا فرس ولا لبني أميَّة حتّى كان آخر الزمان، فكان يحمي الشرف(١) لإبله: وكانت ألف بعير ولإبل الحكم بن أبي العاص، ويحمي الربذة(٢) لإبل الصدقة، ويحمي النقيع لخيل المسلمين وخيله وخيل بني أُميَّة.

نقم ذلك المسلمون على الخليفة فيما نقموه عليه وعدَّته عائشة ممّا أنكروه عليه فقالت: وإنّا عتبنا عليه كذا وموضع الغمامة المحماة(٣) وضربه بالسوط والعصا، فعمدوا إليه حتّى إذا ماصوه كما يماص الثوب(٤) . قال ابن منظور في ذيل الحديث: الناس شركاء فيما سقته السّماء من الكلأ إذا لم يكن مملوكاً فلذلك عتبوا عليه.

كانت في إتِّخاذ الخليفة الحمى جِدَّة وإعادة لعادات الجاهليَّة الأولى التي أزاحها نبيُّ الإسلام صلى الله عليه وآله وجعل المسلمين في الكلأ مشتركين، وقال: ثلاثةٌ يبغضهم الله. وعدَّ فيهم! من استنَّ في الإسلام سنَّة الجاهليَّة(٥) وكان حقّاً على الرجل أن يحمي حمى الإسلام قبل حمى الكلأ، ويتَّخذ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله سنَّة متَّبعة ولا يحيي سنَّة الجاهليَّة، ولن تجد لسنّة الله تحويلاً، ولن تجد لسنّة الله تبديلا. ولكنّه...

- ٢٩ -

قطع الخليفة فدك لمروان

عدَّ ابن قتيبة في المعارف ص ٨٤، وأبو الفدا في تاريخه ١: ١٦٨ ممّا نقم الناس على عثمان قطعه فدك لمروان وهي صدقة رسول الله، فقال أبو الفدا: وأقطع مروان

____________________

١ - كذا نجد. عند البخاري بالسين المهملة. وفي موطأ ابن وهب: الشرف. بالشين المعجمة وفتح الراء وهذا الصواب (معجم البلدان).

٢ - الربذة في الشرف «المذكورة » هي الحمى الأيمن.

٣ - يسمى العشب بالغمامة كما يسمى بالسماء. المحماة من أحميت المكان فهو محمى. أي جعلته حمى. (الفائق للزمخشري).

٤ - راجع الفائق للزمخشري ٢: ١١٧، نهاية ابن الأثير ١: ٢٩٨، ج ٤: ١٢١، لسان العرب ٨: ٣٦٣: ج ١٨: ٢١٧، تاج العروس ١٠: ٩٩.

٥ - بهجة النفوس للحافظ الأزدي ابن أبي جمرة ٤: ٧ ١٩.

٢٣٦

ابن الحكم فدك وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي طلبتها فاطمة ميراثاً فروى أبو بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث ما تركناه صدقه، ولم تزل فدك في يد مروان وبنية إلى أن تولّى عمر بن عبد العزيز فانتزعها من أهله وردّها صدقة.

وأخرج البيهقي في السنن الكبرى ٦: ٣٠١ من طريق المغيرة حديثاً في فدك وفيه: إنَّها أقطعها مروان لَمّا مضى عمر لسبيله. فقال: قال الشيخ: إنَّما أقطع مروان فدكاً في أيّام عثمان بن عفان رضي الله عنه وكأنّه تأوَّل في ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أطعَم الله نبيّاً طعمة فَهي للذي يَقوم مِن بَعده، وكانَ مستغنياً عنها بماله فجعلها لأقربائه ووصل بها رحمهم، وذهب آخرون إلى أنَّ المراد بذلك التولية وقطع جريان الإرث فيه، ثمَّ تصرف في مصالح المسلمين كما كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يفعلان.

وفي العقد الفريد ٢: ٢٦١ في عدِّ ما نقم الناس على عثمان: إنَّه أقطع فدك مروان وهي صدقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وافتتح افريقيَّة وأخذ خمسه فوهبه لمروان.

وقال ابن الحديد في شرحه ١: ٦٧: وأقطع عثمان مروان فدك، وقد كانت فاطمة عليها السلام طلبتها بَعد وفاة أبيها صلوات الله علَيه تارة بالميراث وتارة بالنحلة فدفعت عنها.

قال الأميني: أنا لا أعرف كنه هذا الأقطاع وحقيقة هذا العمل فإنَّ فدك إن كان فئ للمسلمين؟ كما ادَّعاه أبو بكر، فما وجه تخصيصه بمروان؟ وإن كان ميراثاً لآل رسول الله صلى الله عليه وآله؟ كما احتجَّت له الصديقة الطاهرة في خطبتها، واحتجَّ له أئمَّة الهُدى مِن العِترة الطاهرة وفي مقدَّمهم سيِّدهم أمير المؤمنين عليه وعليهم السَّلام، فليس مروان منهم، ولا كان للخليفة فيه رفعٌ ووضعٌ. وإن كانَ نحلة من رسول الله صلى الله عليه وآله لبضعته الطاهرة فاطمة المعصومة صلوات الله عليها؟ كما ادَّعته وشهد لها أمير المؤمنين وإبناها الإمامان السبطان وأمّ أيمن المشهود لها بالجنَّة فردّت شهادتهم بما لا يُرضي الله ولا رسوله، وإذا رُدَّت شهادة أهل آية التطهير فبأيِّ شيء يُعتمد؟ وعلى أيِّ حجَّة يُعوَّل؟.

إن دام هذا ولم يحدث به غيرٌ

لم يُبك ميتٌ ولم يفرح بمولودِ

٢٣٧

فإن كان فدك نحلة؟ فأيّ مساس بها مروان؟ وأيُّ سلطة عليها لعثمان؟ حتّى يقطعها لأحد. ولقد تضاربت أعمال الخلفاء الثلاثة في أمر فدك فانتزعها أبو بكر من أهل البيت عليهم السَّلام، وردَّها عمر إليهم، وأقطعها عثمان لمروان، ثمَّ كان فيها ما كان في أدوار المستحوذين على الأمر منذ عهد معاوية وهلمَّ جرّا فكانت تؤخذ وتعطى، ويفعلون بها ما يفعلون بقضاء من الشهوات كما فصَّلناه في الجزء السابع ص ١٩٥ - ١٩٧ ط ٣ ولم يُعمل برواية أبي بكر في عصر من العصور، فإن صانعه الملأ الحضور على سماع ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وحابوه وجاملوه؟ فقد أبطله مَن جاء بعده بأعمالهم وتقلُّباتهم فيها بأنحاء مختلفة.

بل إنَّ أبا بكر نفسه أراد أن يبطل روايته بإعطاء الصكِّ للزهراء فاطمة غير أنَّ ابن الخطاب منعه وخرق الكتاب كما مرَّ في الجزء السابع عن السيرة الحلبيَّة، وبذلك كلّه تعرف قيمة تلك الرواية ومقدار العمل عليها وقيمة هذا الأقطاع، وسيوافيك قول مولانا أمير المؤمنين في قطائع عثمان.

- ٣٠ -

رأي الخليفة في الأموال والصدقات

لم تكن فدك ببدع من ساير الأموال من الفئ والغنائم والصدقات عند الخليفة بل كان له رأي حرٌّ فيها وفي مستحقيها، كان يرى المال مال الله، ويحسب نفسه وليَّ المسلمين، فيضعه حيث يشاء ويفعل فيه ما يريد، فقام كما قال مولانا أمير المؤمنين نافجاً حضنيه بَين نثيله ومُعتلفه، وقام مَعه بنو أبيه يَخضمون مال الله خَضمة الأبل نبتة الربيع(١) .

كان يصل رحمه بمال يستوي فيه المسلمون كلّهم، ولكلِّ فرد من الملأ الدينيّ منه حقٌّ معلوم للسائل والمحروم، لا يسوغ في شرعة الحق وناموس الإسلام المقدّس حرمان أحد من نصيبه وإعطاء حقِّه لغيره من دون مرضاته.

جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله في الغنائم: لله خمسه وأربعة أخماس للجيش، وما أحدٌ أولى به من أحد، ولا السهم تستخرجه من جنبك، ليس أنت أحقّ به من أخيك المسلم(٢) .

____________________

١ - نهج البلاغة ١: ٣٥.

٢ - سنن البيهقي ٦: ٣٢٤، ٣٣٦.

٢٣٨

وكان صلى الله عليه وآله إذا جاءه فيءٌ قسَّمه من يومه فأعطى ذا الأهل حظّين، وأعطى العزب حظّاً(١) .

والسنّة الثابتة في الصدقات إنّ أهل كلّ بيئة أحقّ بصدقتهم ما دام فيهم ذو حاجة، وليست الولاية على الصدقات للجباية وهملها إلى عاصمة الخلافة وإنّما هي للأخذ من الأغنياء والصرف في فقراء محالّها، وقد ورد في وصيَّة رسول الله صلى الله عليه وآله معاذاً حين بعثه إلى اليمن يدعوهم إلى الإسلام والصَّلاة أنَّه قال: فإذا أقرُّوا لك بذلك فقل لهم: إنَّ الله قد فرض عليكم صدقة أموالكم تُؤخذ من أغنيائكم فتردّ في فقرائكم(٢)

قال عمرو بن شعيب: إنَّ معاذ بن جبل لم يزل بالجند إذ بعثه رسول الله إلى اليمن حتّى مات النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثمَّ قدم على عمر فردَّه على ما كان عليه فبعث إليه معاذ بثلث صدقة الناس فأنكر ذلك عمر وقال: لم أبعثك جابياً ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فتردّها على فقرائهم. فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحداً يأخذه منّي. الحديث(٣) .

ومن كتاب لمولانا أمير المؤمنين إلى قثم بن العبّاس يوم كان عامله على مكّة: «وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى مَن قِبلك من ذوي العيال والمجاعة مصيباً به مواضع الفاقة والخلّات، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسّمه فيمن قِبلنا» نهج البلاغة ٢: ١٢٨.

وقال عليه السلام لعبد الله بن زمعة لما قدم عليه في خلافته يطلب منه مالاً: «إنَّ هذا المال ليس لي ولا لك، وإنَّما هو فئٌ للمسلمين وجلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظِّهم، وإلّا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم.» نهج البلاغة ١: ٤٦١.

ومن كلام له عليه السلام: «إنّ القرآن أُنزل على النبيِّ صلى الله عليه وآله والأموال أربعة: أموال المسلمين فقسَّمها بين الورثة في الفي الفرائض، والفئ فقسَّمه على مستحقِّيه، و

____________________

١ - سنن أبي داود ٢: ٢٥، مسند أحمد ٦: ٢٩، سنن البيهقي ٦: ٣٤٦.

٢ - صحيح بخاري ٣: ٢١٥، الأموال لأبي عبيد ص ٥٨٠، ٥٩٥، ٦١٢، المحلى ٦: ١٤٦.

٣ - الأموال ص ٥٩٦.

٢٣٩

والخمس فوضعه الله حيث وضعه، والصدقات فجعلها الله حيث جعلها.» راجع ما أسلفناه في ج ٦: ٧٧ ط ٢.

وأتى عليّاً أمير المؤمنين مالٌ من أصبهان فقسَّمه بسبعة أسباع ففضل رغيفٌ فكسره بسبع فوضع على كلِّ جزء كسرة ثمَّ أقرع بين الناس أيُّهم يأخذ أوّل(١) .

وأتته عليه السلام إمرأتان تسألانه عربيَّة ومولاة لها فأمر لكلِّ واحد منها بكرّ من طعام وأربعين درهماً أربعين درهماً، فأخذت المولاة الذي أُعطيت وذهبت، وقالت العربيَّة يا أمير المؤمنين! تعطني مثل الذي أعطيت هذه وأنا عربيَّة وهي مولاة؟ قال لها عليٌّ رضي الله عنه: إنِّي نظرت في كتاب الله عزَّوجلَّ فلم أرَ فيه فضلاً لولد إسماعيل على ولد إسحاق(٢) .

ولذلك كلّه كانت الصحابة لا ترتضي من الخليفة الثاني تقديمه بعضاً من الناس على بعض في الأموال بمزيَّة معتبرة كان يعتبرها فيمن فضَّله على غيره كتقديم زوجات النبيِّ صلى الله عليه وآله أمِّهات المؤمنين على غيرهنَّ، والبدريّ على من سواه، والمهاجرين على الأنصار، والمجاهدين على القاعدين، من دون حرمان أيِّ أحدٍ منهم(٣) ، وكان يقول على صهوات المنبر: من أراد المال فليأتني فإنَّ الله جعلني له خازناً(٤) .

ويقول بعد قراءة آيات الأموال: والله ما من أحد من المسلمين إلّا وله حقٌّ في هذا المال أُعطي منه أو منع حتّى راع بعدن(٥) .

ويقول أبدأ برسول الله صلى الله عليه وآله ثمَّ الأقرب فالأقرب إليه. فوضع الديوان على ذلك.

وفي لفظ أبي عبيد: إنَّ رسول الله إمامنا فبرهطه نبدأ، ثمَّ بالأقرب فالأقرب(٦) .

____________________

١ - سنن البيهقي ٦: ٣٤٨.

٢ - سنن البيهقي ٦: ٣٤٩.

٣ - الأموال لأبي عبيد ص ٢٢٤ ٢٢٧، فتوح البلدان للبلاذري ص ٤٥٣ ٤١٦، سنن البيهقي ٦: ٣٤٩، ٣٥٠، تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ٧٩ ٨٣.

٤ - راجع ج ٦ من كتابنا هذا ٩٢ ط ٢.

٥ - الأموال ص ٢١٣، سنن البيهقي ٦: ٣٥١.

٦ - الأموال ٢٢٤، سنن البيهقي ٦: ٣٦٤.

٢٤٠