الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٨

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 397

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
تصنيف: الصفحات: 397
المشاهدات: 139959
تحميل: 5988


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 139959 / تحميل: 5988
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المؤمنين: أوَ لم يبايعني قبل قتل عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته، إنّها كفّ يهوديّة لو بايعني بيده لغدر بسبّته، أما إنَّ له إمرةٌ كلعقة الكلب أنفه، وهو أبو الأكبش الأربعة(١) وستلقى الأُمّة منه ومن ولده يوماً أحمر «نهج البلاغة».

قال ابن أبي الحديد في الشرح ٢: ٥٣: قد روي هذا الخبر من طريق كثيرة ورويت فيه زيادة لم يذكرها صاحب «نهج البلاغة» وهي قوله عليه السلام في مروان: يحمل راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه وإنَّ له إمرة. الخ.

هذه الزيادة أخذها ابن أبي الحديد من ابن سعد ذكرها في طبقاته ٥: ٣٠ ط ليدن قال: قال عليُّ بن أبي طالب يوماً ونظر إليه: ليحملنَّ راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه، وله إمرةٌ كلحسة الكلب أنفه. وهذا الحديث كما ترى غير ما في «نهج البلاغة» وليس كما حسبه ابن أبي الحديد زيادة فيه، ولا توجد تلك الزيادة في رواية السبط أيضاً في تذكرته ص ٤٥. والله العالم.

قال البلاذري في الأنساب ٥: ١٢٦: كان مروان يلقّب خيط باطل لدقَّته وطوله شبه الخيط الأبيض الذي يُرى في الشمس، فقال الشاعر ويقال: إنَّه عبد الرحمن بن الحَكم أخوه:

لعمرك ما أدري وإنِّي لسائلٌ

حليلة مضروب القفا كيف يصنعُ(٢)

لحى الله قوماً أمّروا خيط باطل

على الناس يُعطي ما يشاء ويمنعُ(٣)

وذكر البلاذري في الأنساب ٥: ١٤٤ في مقتل عمرو بن سعيد الأشدق الذي قتله عبد الملك بن مروان ليحيى بن سعيد أخي الأشدق قوله:

غدرتم بعمرو يا بني خيط باطل

ومثلكمُ يبني البيوت على الغَدرِ

وذكر ابن أبي الحديد في شرحه ٢: ٥٥ لعبد الرحمن بن الحكَم في أخيه قوله:

____________________

١ - هم بنو عبد الملك: الوليد. سليمان. يزيد. هشام. كذا فسّره الناس وعند ابن أبي الحديد هم أولاد مروان: عبد الملك. بشر. محمد. عبد العزيز.

٢ - أشار بقوله: مضروب القفا إلى ما وقع يوم الدار، فإن مروان ضرب يوم ذاك على قفاه كما يأتي حديثه في الجزء التاسع إن شاء الله تعالى.

٣ - ورواهما وما قبلهما ابن الأثير في أسد الغابة ٤: ٣٤٨.

٢٦١

وهبت نصيبي منك يا مرو كلّه

لعمرو ومروان الطويل وخالدِ

وربّ ابن أمّ زائد غير ناقص

وأنت ابن أمّ ناقص غير زائدِ

ومن شعر مالك الريب «المترجم في الشعر والشعراء لابن قتيبة» يهجو مروان قوله:

لعمرك ما مروان يقضي أمورنا

ولكنَّ ما تقضي لنا بنت جعفرِ(١)

فياليتها كانت علينا أميرة

وليتك يا مروان أمسيت ذاحرِ

وروى الهيثمي في مجمع الزوائد ١٠: ٧٢ من طريق أبي يحيى قال: كنت بين الحسن والحسين ومروان يتسابّان فجعل الحسن يسكِّت الحسين فقال مروان: أهل بيت ملعونون. فغضب الحسن وقال: قلت أهل بيت ملعونون. فوالله لقد لعنك الله وأنت في صلب أبيك. أخرجه الطبراني وذكره السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه ٦: ٩٠ نقلاً عن ابن سعد وأبي يعلى وابن عساكر.

إنَّ الذي يستشفّه المنقّب من سيرة مروان وأعماله إنَّه ما كان يقيم لنواميس الدين الحنيف وزناً، وإنَّما كان يلحظها كسياسات زمنيَّة فلا يبالي بإبطال شئ منها أو تبديله إلى آخر حسب ما تقتضيه ظروفه وتستدعيه أحواله، وإليك من شواهد ذلك عظائم وعليها فقس ما لم نذكره:

١ - أخرج إمام الحنابلة أحمد في مسنده ٤: ٩٤ من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير قال: لما قدم عينا معاوية حاجّاً، قدمنا معه مكّة قال: فصلّى بنا الظهر ركعتين ثمَّ انصرف إلى دار الندوة قال: وكان عثمان حين أتمَّ الصَّلاة فإذا قدم مكّة صلّى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً أربعاً، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصَّر الصَّلاة، فإذا فرغ من الحجِّ وأقام بمنى أتمَّ الصَّلاة حتّى يخرج من مكة، فلمّا صلّى بنا الظهر ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له: ما عاب أحدٌ ابن عمّك بأقبح ما عبته به. فقال لهما: وما ذاك؟ قال: فقال له: ألم تعلم أنَّه أتمَّ الصَّلاة بمكّة؟ قال: فقال لهما: ويحكما وهل كان غير ما صنعت؟ قد صلّيتهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. قالا: فإنَّ ابن عمِّك قد أتمَّها وإنَّ خلافك إيّاه

____________________

١ - بنت جعفر هي الهاشمية الشهيرة بأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب زوجة عبد الملك بن مروان. ثمَّ طلقها فتزوجها علي بن عبد الله بن عبّاس.

٢٦٢

له عيبٌ. قال: فخرج معاوية إلى العصر فصلّاها بنا أربعاً.

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٢: ١٥٦ نقلاً عن أحمد والطبراني فقال: رجال أحمد موثقون.

فإذا كان لعب مروان وخليفة وقته معاوية بالصَّلاة التي هي عماد الدين إلى درجة يقدّم فيها التحفُّظ على عثمان في عمله الشاذِّ عن الكتاب والسنَّة على العمل بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وآله حتّى أخضع معاوية لما ارتآه من الرأي الشائن في صلاة العصر، فما ذا يكون عبثهما بالدين فيما هو دون الصَّلاة من الأحكام؟.

وإن تعجب فعجبٌ إنَّه يَعدُّ مخالفة عثمان في رأيه الخاصِّ له عيباً عليه يغيّر لأجله الحكم الدينيُّ الثابت، ولا يَعدّ مخالفة رسول الله وما جاء به محظورة تترك لأجلها الأباطيل والأحداث.

ومن العجب أيضاً أن يُنهى معاوية عن مخالفة عثمان، ولا يُنهى من خالف رسول الله صلى الله عليه وآله عن مخالفته. أهؤلاء من خير أُمّة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله؟ وأعجب من كلِّ ذلك حسبان أُولئك العابثين بدين الله عدولاً وهذه سيرتهم ومبلغهم من الدين الحنيف.

٢ - أخرج البخاري من طريق أبي سعيد الخدري قال: خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلمّا أتينا المصلّى إذا منبر بناه كثير بن الصلت فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلّي فجبذت ثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصّلاة فقلت: غيَّرتم والله. فقال: أبا سعيد! قد ذهب ما تعلم. فقلت: ما أعلم والله خيرٌ ممّا لا أعلم. فقال: إنَّ الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصّلاة فجعلتها قبل الصَّلاة. وفي لفظ الشافعي: يا أبا سعيد تُرك الذي تعلم.

أترى مروان كيف يغيِّر السنَّة؟ وكيف يفوه ملأ فمه بما لا يسوغ لمسلم أن يتكلّم به؟ كأنَّ ذلك مفوَّضٌ إليه، وكأنَّ تركها المنبعث عن التجرّي على الله ورسوله يكون مبيحاً لإدامة الترك، لماذا ذهب ما كان يعلمه أبو سعيد من السنّة؟ ولماذا تُرك؟

نعم: كان لمروان في المقام ملحوظتان: الأُولى اقتصاصه أثر ابن عمّه عثمان، والآخر إنَّه كان يقع في الخطبة في مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ويسبُّه ويلعنه فتتفرَّق عنه

٢٦٣

الناس لذلك فقدَّمها على الصَّلاة لئلّا يجفلوا فيسمعوا العظائم ويصيخوا إلى ما يلفظ به من كبائر وموبقات. راجع تفصيلاً أسلفناه صفحة ١٦٤ ١٧١ من هذا الجزء.

ويستظهر ممّا سبق ص ١٦٦ من كلام عبد الله بن الزبير: كلُّ سنن رسول الله صلى الله عليه وآله قد غيّرت حتّى الصَّلاة. إنَّ تسرّب التغيير ولعب الأهواء بالسنن لم يكن مقصوراً على الخطبة قبل الصَّلاة فحسب، وإنَّما تطرَّق ذلك إلى كثير من الأحكام كما يجده الباحث السابر أغوار السير والحديث.

٣ - سبّه لمولانا أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وكان الرجل كما قال أُسامة بن زيد: فاحشاً متفحّشاً(١) .

الحجر الأساسي في ذلك هو عثمان جرَّأ الوزغ اللعين على أمير المؤمنين يوم قال له: أقد مروان من نفسك. قال عليه السلام ممَّ ذا؟ قال: من شتمه وجذب راحلته. وقال له: لِمَ لا يشتمك؟ كأنَّك خيرٌ منه؟(٢) وعلّاه معاوية بكلِّ ما عنده من حول وطول، لكن مروان تبعه شرَّ متابعة، ولم يأل جهداً في تثبيت ذلك كلّما أقلّته صهوة المنبر، أو وقف على منصَّة خطابة، ولم يزل مجدّاً في ذلك وحاضّاً عليه حتّى عاد مطَّرداً بعد كلِّ جمعة وجماعة في أيِّ حاضرة يتولّى أمرها، وبين عمّاله يوم تولّى خلافة هي كلعقة الكلب أنه «تسعة أشهر» كما وصفها مولانا أمير المؤمنين، ولم تكن هذه السيرة السيّئة إلّا لسياسة وقتيّة، وقد أعرب عمّا في سريرته بقوله فيما أخرجه الدارقطني من طريقه عنه قال: ما كان أحدٌ أدفع عن عثمان من عليّ. فقيل له: مالكم تسبُّونه على المنبر؟ قال: إنَّه لا يستقيم لنا الأمر إلّا بذلك(٣) .

م - [قال ابن حجر في تطهير الجنان هامش الصواعق ص ١٤٢: وبسند رجاله ثقات: إنّ مروان لما ولي المدينة كان يسبُّ عليّاً على المنبر كلَّ جمعة، ثمَّ ولي بعده سعيد بن العاص فكان لا يسبّ، ثمَّ أُعيد مروان فعاد للسبِّ، وكان الحسن يعلم ذلك فيسكت ولا يدخل المسجد إلّا عند الأقامة، فلم يرض بذلك مروان حتّى أرسل للحسن في بيته

____________________

١ - الاستيعاب في ترجمة أسامة.

٢ - يأتي حديثه تفصيلاً في قصة أبي ذر في هذا الجزء إن شاء الله تعالى.

٣ - الصواعق لابن حجر ص ٣٣.

٢٦٤

بالسبّ البليغ لأبيه وله، ومنه: ما وجدت مثلك إلّا مثل البغلة يقال لها: مَن أبوك؟ فتقول: أبي الفرس. فقال للرسول: إرجع إليه فقل له: والله لا أمحو عنك شيئاً ممّا قلت بأنِّي أسبّك، ولكن موعدي وموعدك الله، فإن كنت كاذباً فالله أشدُّ نقمة، قد أكرم جدّي أن يكون مثلي مثل البغلة. إلخ].

ولم يختلف من المسلمين إثنان في إنّ سبّ الإمام ولعنه من الموبقات، وإذا صحَّ ما قاله ابن معين كما حكاه عنه ابن حجر في تهذيب التهذيب ١: ٥٠٩ من إنَّ كلَّ من شتم عثمان أو طلحة أو أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله دجّال لا يكتب عنه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ا هـ.

فما قيمة مروان عندئذ؟ ونحن مهما تنازلنا فإنَّا لا نتنازل عن أنَّ مولانا أمير المؤمنين كأحد الصحابة الذين يشملهم حكم كلِّ من سبَّهم ولعنهم، فكيف ونحن نرى إنَّه عليه السلام سيّد الصحابة على الإطلاق، وسيّد الأوصياء، وسيِّد من مضى ومن غبر عدا ابن عمِّه صلى الله عليه وآله وهو نفس النبيِّ الأقدس بنصّ الذكر الحكيم، فلعنه وسبُّه لعنه وسبُّه وقد قال: صلى الله عليه وآله: من سبَّ عليّاً فقد سبَّني ومن سبَّني فقد سبَّ الله(١) .

وكان مروان يتربَّص الدوائر على آل بيت العصمة والقداسة، ويغتنم الفرص في إيذائهم قال ابن عساكر في تاريخه ٤: ٢٢٧: أبى مروان أن يُدفن الحسن في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما كنت لأدع ابن أبي تراب يُدفن مع رسول الله، قد دفن عثمان بالبقيع. ومروان يومئذ معزول يريد أن يرضي معاوية بذلك، فلم يزل عدوّاً لبني هاشم حتّى مات.

أيّ خليفة هذا يُجلب رضاه بإيذاء عترة رسول الله؟ ومَن ومَن أولى بالدفن في الحجرة الشريفة من السبط الحسن الزكيِّ؟ وبأيِّ كتاب وبأيَّة سنَّة وبأيِّ حقّ ثابت كان لعثمان أن يُدفن فيها؟ ومن جرّاء ذلك الضغن الدفين على بني هاشم كان ابن الحكم يحثُّ ابن عمر على الخلافة والقتال دونها. أخرج أبو عمر من طريق الماجشون وغيره: إنَّ مروان دخل في نفر على عبد الله بن عمر بعد ما قُتل عثمان رضي الله عنه فعرضوا عليه أن يبايعوا له قال: وكيف لي بالناس؟ قال: تقاتلهم ونقاتلهم معك. فقال:

____________________

١ - مستدرك الحاكم ٣: ١٢١، مسند أحمد ٦: ٣٢٣. وسيوافيك تفصيل طريقه.

٢٦٥

والله لو اجتمع عليَّ أهل الأرض إلّا فدك ما قاتلتهم، قال: فخرجوا من عنده ومروان يقول:

والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا(١)

لماذا ترك الوزغ سنَّة الإنتخاب الدستوري في الخلافة بعد إنتهاء الدور إلى سيِّد العترة؟ وما الذي سوَّغ له ذلك الخلاف؟ وحضَّ ابن عمر على الأمر، وتثبيطه على القتال دونه، بعد إجماع الأُمَّة وبيعتهم مولانا أمير المؤمنين؟ نعم: لم يكن من يوم الأوَّل هناك قطُّ انتخاب صحيح، ورأي حرٌّ لأهل الحلِّ والعقد، أنّى كان ثمَّ أنَّى؟

والملك بعد أبي الزهراء لمن غلبا

هذا مروان

فهلمَّ معي إلى الخليفة نستحفيه الخبر عن هذا الوزغ اللعين في صلب أبيه وبعد مولده بماذا استباح إيواءه وتأمينه على الصدقات والطمأنينة به في المشورة في الصالح العامّ؟ ولِمَ استكتبه وضمَّه إليه فستولي عليه؟(٢) ونصب عينيه ما لهج به النبيُّ الأعظم صلى الله عليه وآله، وما ناء به هو من المخاريق والمخزيات، ومن واجب الخليفة تقديم الصلحاء من المؤمنين وإكبارهم شكراً لأعمالهم لا الإحتفال بأهل المجانة والخلاعة كمروان الذي يجب الانكار والتقطيب تجاه عمله الشائن، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من رأى منكراً فاستطاع أن يغيّره بيده فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان(٣) وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام أدنى الإنكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرَّة.

وهب أنَّ الخليفة تأوَّل وأخطأ لكنَّه ما هذا التبسّط إليه بكلّه؟ وتقريبه وهو ممّن يجب إقصاءه، وإيواءه وهو ممّن يستحقُّ الطرد، وتأمينه وهو أهلٌ بأن يُتَّهم، ومنحه بأجزل المنح من مال المسلمين ومن الواجب منعه، وتسليطه على أعطيات المسلمين ومن المحتَّم قطع يده عنها؟.

أنا لا أعرف شيئاً من معاذير الخليفة في هذه المسائل - لعلَّ لها عذراً وأنت تلومها -

____________________

١ - الاستيعاب ترجمة عبد الله بن عمر.

٢ - كما ذكره أبو عمر في الاستيعاب، وابن الأثير في أسد الغابة ٤: ٣٤٨

٣ - مرَّ الحديث في ص ١٦٩.

٢٦٦

لكنَّ المسلمين في يومه ما عذروه وهم الواقفون على الأمر من كَثب، والمستشفّون للحقايق الممعنون فيها، وكيف يعذره المسلمون ونصب أعينهم قوله عزَّ من قائل: واعلموا أنَّما غنمتم من شيء فإنَّ لله خمسه ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله؟ أليس إعطاء الخمس لمروان اللعين خروجاً عن حكم القرآن؟ أليس عثمان هو الذي فاوض بنفسه ومعه جبير بن مطعم رسول الله صلى الله عليه وآله أن يجعل لقومه نصيباً من الخمس فلم يجعل ونصَّ على أنَّ بني عبد شمس وبني نوفل لا نصيب لهم منه؟.

قال جبير بن مطعم: لما قسَّم رسول الله سهم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب(١) أتيته أنا وعُثمان فقلت: يا رسول الله! هؤلاء بنو هاشم لا يُنكر فضلهم لمكانك الَّذي وضعك الله به منهم، أرأيت بني المطلب أعطيتهم ومنعتنا؟ وإنَّما نحن وهم منك بمنزلة واحدة. فقال: إنَّهم لم يفارقوني - أو: لم يفارقونا - في جاهليَّة ولا إسلام وإنَّما هم بنو هاشم وبنو المطلب شيءٌ واحدٌ وشبّك بين أصابعه، ولم يقسِّم رسول الله لبني عبد الشمس ولا لبني نوفل من ذلك الخمس شيئاً كما قسَّم لبني هاشم وبني المطلب.(٢)

ومن العزيز على الله ورسوله أن يُعطى سهم ذوي قربى الرسول صلى الله عليه وآله لطريده ولعينه، وقد منعه النبيُّ صلى الله عليه وآله وقومه من الخمس، فما عذر الخليفة في تزحزحه عن حكم الكتاب والسنَّة، وتفضيل رحمه أبناء الشجرة الملعونة في القرآن على قربى رسول الله صلى الله عيه وآله وسلم الذين أوجب الله مودَّتهم في الذكر الحكيم؟ أنا لا أدري. والله من ورائهم حسيب.

- ٣٣ -

إقطاع الخليفة وعطيّته الحارث

أعطى الحارث بن الحكم بن العاص - أخا مروان وصهر الخليفة من ابنته عائشة - ثلاثمائة ألف درهم كما في أنساب البلاذري ٥: ٥٢، وقال في ص ٢٨: قدمت إبل الصدقة على عثمان فوهبها للحارث بن الحكم.

____________________

١ - المطلب أخو هاشم لأب وأم وأمهما عاتكة بنت مرّة.

٢ - صحيح البخاري ٥: ٢٨، الأموال ص ٣٣١، سنن البيهقي ٦: ٣٤٠، ٣٤٢، سنن أبي داود ٢: ٣١، مسند أحمد ٤: ٨١، المحلى ٧: ٣٢٨.

٢٦٧

وقال ابن قتيبة في المعارف ص ٨٤، وابن عبد ربِّه في العقد الفريد ٢: ٢٦١، وابن أبي الحديد في شرحه ١: ٦٧، والراغب في المحاضرات ٢: ٢١٢: تصدَّق رسول الله صلى الله عليه وآله بموضع سوق بالمدينة يعرف بمهزون(١) على المسلمين فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم.

وقال الحلبي في السيرة ٢: ٨٧: أعطى الحارث عُشر ما يباع في السوق، أي سوق المدينة.

قال الأميني: لقد إصطنع الخليفة لهذا الرجل ثلاثاً لا أظنّه يخرج من عهدة النقد عليها:

١ - إعطاءه ثلاثمائة ألف ولم يكن من حرَّ ماله.

٢ - هبته إبل الصدقة إيّاه وحده.

٣ - إقطاعه إيّاه ما تصدَّق به رسول الله صلى الله عليه وآله على عامَّة المسلمين.

أنا لا أدري بماذا استحقَّ الرجل هذه الأعطيات الجزيلة؟ وكيف خصَّ به ما تصدَّق به رسول الله صلى الله عليه وآله على كافَّة أهل الإسلام، وحرمه الباقون؟ ولو كان الخليفة موفّراً عليه بهذه الكمِّيَّة من مال أبيه لاستكثر ذلك نظراً إلى حاجة المسلمين وجيوشهم ومرابطيهم، فكيف به؟ وقد وهبه ما يملك من مال المسلمين ومن الأوقاف والصدقات، وما كان الرجل يعرف بشيء من الأعمال البارَّة والمساعي المشكورة في سبيل الدعوة الإلهيَّة وخدمة المجتمع الديني حتّى يحتمل فيه استحقاق زيادة في عطاءه، وهب أنّا نجَّزنا ذلك الإستحقاق لكنَّه لا يعدو أن يكون مخرج الزيادة ممّا يسوغ للخليفة التصرف فيه لا ممّا لا يجوز تبديله من إقطاع ما تصدَّق به النبيُّ صلى الله عليه وآله وجعله وقفاً عامّاً على المسلمين لا يخصُّ به واحدٌ دون آخر، ومن بدَّله بعد ما سمعه فإنَّما إثمه على الذين يبدِّلونه.

فلم يبق مبرِّرٌ لتلكم الصنايع أو الفجايع إلّا الصهر بينه وبين الخليفة والنسب لأنَّه ابن عمِّه. ولك حقّ النظر في صنيع كلّ من الخليفتين: ١ - عثمان وقد علمت ما ارتكبه هاهنا وفي غيره ٢ - مولانا علي عليه السلام يوم جاءه عقيل يستميحه صاعاً من البُرِّ

____________________

١ - في المعارف: مهزوز. وفى شرح ابن أبي الحديد: تهروز. وفي محاضرات الراغب: مهزور.

٢٦٨

للتوسيع له ولعياله ممّا قدّر له في العطاء، فأدّى عليه السلام ما هو حقُّ الأخوَّة والتربية، ولا سيما في مثل عقيل من الأشراف والأعاظم الذي يجب فيهم التهذيب أكثر من غيرهم فأدنى إليه الحديدة المحماة فتأوّه فقال عليه السلام: تجزع من هذه وتعرضني لنار جهنَّم؟(١) .

وفي رواية ابن الأثير في أُسد الغابة ٣: ٤٢٣ من طريق سعد: إنَّ عقيل بن أبي طالب لزمه دينٌ فقدم على عليِّ بن أبي طالب الكوفة فأنزله وأمر ابنه الحسن فكساه فلمّا أمسى دعا بعشائه فإذا خبزٌ وملحٌ وبقلٌ فقال عقيل: ما هو إلّا ما أرى. قال: لا. قال: فتقضي ديني؟ قال وكم دينك؟ قال: أربعون ألفاً. قال: ما هي عندي ولكن اصبر حتّى يخرج عطائي فإنَّه أربعة آلاف فأدفعه إليك. فقال له عقيل: بيوت المال بيدك وأنت تسوِّفني بعطائك؟. فقال: أتأمرني أن أدفع إليك أموال المسلمين وقد ائتمنوني عليها؟. إقرأ، فاحكم بين الناس بالحقِّ ولا تتَّبع الهوى.

- ٣٤ -

حظوة سعيد من عطيَّة الخليفة

أعطى سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أميَّة مائة ألف درهم قال أبو مخنف والواقدي: أنكر الناس على عثمان إعطاءه سعيد بن العاص مائة ألف درهم فكلّمه عليٌّ والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن بن عوف في ذلك فقال: إنَّ له قرابةً ورحماً. قالوا: أفما كان لأبي بكر وعمر قرابة وذو رحم؟ فقال: إنَّ أبا بكر وعمر كانا يحتسبان في منع قرابتهما وأنا أحتسب في إعطاء قرابتي؛ قالوا: فهديهما والله أحبُّ إلينا من هديك. فقال: لا حول ولا قوَّة إلّا بالله(٢) .

قال الأميني: كان العاص أبو سعيد من جيران رسول الله صلى الله عليه وآله الذين كانوا يؤذونه، وقتله مولانا أمير المؤمنين عليه السلام يوم بدر مشركاً(٣) .

وأما خلفه (بالسكون) سعيد فهو ذلك الشابُّ المترف كما في رواية ابن سعد(٤)

____________________

١ - الصواعق لابن حجر ص ٧٩.

٢ - أنساب البلاذري ٥: ٢٨.

٣ - طبقات ابن سعد ١: ١٨٥ ط مصر، أسد الغابة ٢: ٣١٠.

٤ - الطبقات ٥: ٢١ ط ليدن. وننقل عنه كلما يأتي في سعيد بن العاص، وذكره ابن عساكر في تاريخه ٦: ١٣٥.

٢٦٩

ورد الكوفة من غير سابقة والياً من قبل عثمان بعد عزله الوليد ولم يحمل أيّ حنكة فطفق يلهج من أوَّل يومه بما يثير العواطف ويجيش الأفؤدة، فنسبهم إلى الشقاق والخلاف وقال: إنَّ هذا السواد بستانٌ لأُغيلمة من قريش.

ولقد أزرى هذا الغلام بهاشم بن عتبة المرقال الصحابيِّ العظيم صاحب راية مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بصفّين العبد الصالح الذي فقئت إحدى عينيه في سبيل الله يوم اليرموك ومات شهيداً في الجيش العلوي.

قال ابن سعد: قال سعيد مرَّة بالكوفة: من رأى الهلال منكم؟ وذلك في فطر رمضان فقالوا له: ما رأيناه. فقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص: أنا رأيته. فقال له سعيد: بعينك هذه العوراء رأيته من بين القوم؟ فقال هاشم: تعيِّرني بعيني وإنّما فُقئت في سبيل الله؟ وكانت عينه أصيبت يوم اليرموك، ثمَّ أصبح هاشم في داره مفطراً وغدّى الناس عنده، فبلغ ذلك سعيداً فأرسل إليه فضربه وحرَّق داره.

ما أجرأ ابن العاص على هذا العظيم من عظماء الصحابة فيضربه ويحرِّق داره لعمله بالسنَّة الثابتة في الأهلّة بقوله صلى الله عليه وآله: إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا. وفي لفظ: صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته(١) ؟

لم يكن يعلم هاشم المرقال بأنَّ آراء الولاة وأهوائهم لها صولةٌ وجولةٌ في رؤية الهلال أيضاً، وإنَّ الشهادة بها قد تكون من الجرائم التي لا تُغفر، وإنَّ السياسة الوقتيَّة لها دخلٌ في شهادات الرجال، وإنّ حملة النزعة العلويَّة لا تقبل شهاداتهم.

قد شكاه إلى الخليفة الكوفيّون مرَّة فلم يعبأ بها فقال: كلّما رأى أحدكم من أميره جفوة أرادنا أن نعزله، فانكفئ سعيد إلى الكوفة، وأضرّ بأهلها إضراراً شديداً(٢) ونفى في سنة ٣٣ بأمر من خليفته جمعاً من صلحاء الكوفة وقرّائها إلى الشام كما يأتي تفصيله. ولم يفتأ على سيرته السيِّئة إلى أن رحل من الكوفة إلى عثمان مرَّة ثانية ٣٤ والتقى هنالك بالفئة الشاكية إلى عثمان وهم:

الأشتر بن الحارث. يزيد بن مكفّف. ثابت بن قيس. كميل بن زياد. زيد بن

____________________

١ - صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، سنن الدارمي، سنن النسائي ٧ سنن ابن ماجة، سنن البيهقي.

٢ - أنساب البلاذري ٥.

٢٧٠

صوحان. صعصعة بن صوحان. الحارث الأعور. جندب بن زهير. أبو زينب الأزدي أصغر بن قيس الحارثي.

وهم يسألون الخليفة عزل سعيد، فأبى وأمره أن يرجع إلى عمله، وقفل القوم قبله إلى الكوفة واحتلّوها ودخلها من ورائهم، وركب الأشتر مالك بن الحارث في جيش يمنعه من الدخول فمنعوه حتّى ردّوه إلى عثمان، فجرى هناك ما جرى، ويأتي نبأه بعد حين إنشاء الله تعالى.

لقد أراد الخليفة أن يصل رحمه من هذا الشبابِّ المجرم بإعطاء تلك الكميَّة الزائدة على حدّه وحقّه من بيت المال، إن كان له ثمَّة نصيب، ولو كان هذا العطاء حقاً لَما نقده عليه أعاظم الصحابة وفي طليعتهم مولانا أمير المؤمنين سلام الله عليه.

وأمّا ما تترَّس به من المعذرة من الاحتساب بصلة الرحم كما احتسب مَن قبله بمنع رحمهم عن الزيادة في إعطياتهم من بيت المال فتافهٌ، لأنّ الصلة إنَّما تستحسن من الإنسان إن كان الإنفاق من خالص ماله لا المال المشترك بين آحاد المسلمين؛ ومن وهب مالا يملكه لا يُعدُّ أميناً على أرباب المال، فهو إلى الوزر أقرب منه إلى الأجر.

- ٣٥ -

هبة الخليفة للوليد من مال المسلمين

أعطى الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أميَّة أخا الخليفة من أمّه ما استقرض عبد الله بن مسعود من بيت مال المسلمين ووهبه له. قال البلاذري في الأنساب ٥: ٣٠: لما قدم الوليد الكوفة ألفى ابن مسعود على بيت المال فاستقرضه مالاً وقد كانت الولاة تفعل ذلك ثمَّ تردُّ ما تأخذ، فأقرضه عبد الله ما سأله، ثمَّ إنَّه إقتضاه إيّاه فكتب الوليد في ذلك إلى عثمان فكتب عثمان إلى عبد الله بن مسعود: إنَّما أنت خازنٌ لنا فلا تعرَّض للوليد فيما أخذ من المال. فطرح ابن مسعود المفاتيح وقال: كنت أظنُّ أنِّي خازنٌ للمسلمين فأمّا إذ كنت خازناً لكم فلا حاجة لي في ذلك، وأقام بالكوفة بعد إلقائه مفاتيح بيت المال.

وعن عبد الله بن سنان قال: خرج علينا ابن مسعود ونحن في المسجد وكان على بيت مال الكوفة وفي الكوفة الوليد بن عقبة بن أبي معيط فقال: يا أهل الكوفة! فقدت

٢٧١

من بيت مالكم الليلة مائة ألف لم يأتني بها كتاب أمير المؤمنين ولم يكتب لي بها برائة. قال فكتب الوليد بن عقبة إلى عثمان في ذلك فنزعه عن بيت المال. العقد الفريد ٢: ٢٧٢.

الوليد ومن ولده

أمّا أبوه عقبة بن أبي معيط. فكان أشدَّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله في إيذائه من جيرانه، أخرج ابن سعد بالإسناد من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كنت بين شرِّ جارين بين أبي لهب وعقبة بن معيط، إن كانا ليأتيان؟ فيطرحانها على بابي، حتّى أنَّهم ليأتون ببعض ما يطرحون من الأذى فيطرحونه على بابي(١) .

وقال ابن سعد في طبقات ١: ١٨٥: كان أهل العداوة والمناواة لرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين يطلبون الخصومة والجدل أبو جهل، أبو لهب «إلى أن عدَّ» عقبة بن أبي معيط، والحكم بن أبي العاص فقال: وذلك إنَّهم كانوا جيرانه، والذي كان تنتهي عداوة رسول الله صلى الله عليه وآله إليهم: أبو جهل، أبو لهب، وعقبة بن أبي معيط.

وقال ابن هشام في سيرته ٢: ٢٥: كان النفر الذي يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته: أبو لهب، والحكم بن أبي العاص بن أميَّة، وعقبة بن أبي معيط.

وقال في ج ١: ٣٥٨: كان أُبيّ بن خلف وعقبة بن أبي معيط متصافيين حَسَناً ما بينهما، فكان عقبة قد جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه فبلغ ذلك أُبيّاً فأتى عقبة فقال له: ألم يبلغني إنّك جالست محمَّداً وسمعت منه؟ ثمَّ قال: وجهي من وجهك حرام أن أكلّمك، واستغلظ له من اليمين إن أنت جلست إليه أو سمعت منه أو لم تأته فتتفل في وجهه. ففعل ذلك عدوّ الله عقبة بن أبي معيط لعنه الله، فأنزل الله تعالى فيهما:( وَيَوْمَ يَعَضّ الظّالِمُ عَلَى‏ يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتّخَذْتُ مَعَ الرّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى‏ لَيْتَنِي لَمْ أَتّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلّنِي عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً ) (٢) .

وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل بإسناد صحَّحه السيوطي من طريق

____________________

١ - طبقات ابن سعد ١: ١٨٦ ط مصر.

٢ - سورة الفرقان ٢٨ ٢٩.

٢٧٢

سعيد بن جبير عن ابن عبّاس: إنَّ عقبة(١) بن أبي معيط كان يجلس مع النبيِّ بمكّة لا يؤذيه وكان له خليل(٢) غائب عنه بالشام فقالت قريش: صبا عقبة. وقدم خليله من الشام ليلاً فقال لامرأته: ما فعل محمّد ممّا كان عليه؟ فقالت: أشدّ ما كان أمراً. فقال: ما فعل خليلي عقبة؟ فقالت: صبا. فبات بليلة سوء فلمّا أصبح أتاه عقبة فحيّاه فلم يردَّ عليه التحيَّة فقال: مالك لا تردَّ عليَّ تحيَّتي؟ فقال: كيف أردُّ عليك تحيَّتك وقد صبوت، قال: أو قد فعلتها قريش؟ قال: نعم، قال: فما يبرئ صدورهم إن أنا فعلته؟ قال: تأتيه في مجلسه فتبزق في وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلم من الشتم، ففعل، فلم يردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن مسح وجهه من البزاق ثمَّ التفت إليه فقال: إن وجدتك خارجاً من جبال مكّة أضرب عنقك صبراً. فلمّا كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج فقال له أصحابه: أخرج معنا قال: وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجاً من جبال مكّة أن يضرب عنقي صبراً، فقالوا: لك جملٌ أحمر لا يدرك فلو كانت الهزيمة طرَت عليه. فخرج معهم فلمّا هزم الله المشركين وحمل به جمله في جدود من الأرض فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيراً في سبعين من قريش وقدم إليه عقبة فقال: أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال: نعم، بما بزقت في وجهي. وفي لفظ الطبري: بكفرك وفجورك وعتوِّك على الله ورسوله. فأمر عليّاً فضرب عنقه فأنزل الله فيه: ويوم يعضُّ الظالم على يديه. إلى قوله تعالى:( وَكَانَ الشّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً ) .

وقال الضحّاك: لما بزق عقبة رسول الله صلى الله عليه وآله رجع بزاقه على وجهه لعنه الله تعالى ولم يصل حيث أراد فأحرق خدَّيه وبقي أثر ذلك فيهما حتّى ذهب إلى النار.

وفي لفظ: كان عقبة يكثر مجالسة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتَّخذ ضيافة فدعا إليها رسول الله صلى الله عليه وآله فأبى أن يأكل من طعامه حتّى ينطق بالشهادتين ففعل، وكان أُبيُّ بن خلف صديقه فعاتبه وقال: صبأت يا عقبة؟ قال: لا ولكن آلى أن لا يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له والشهادة ليست في نفسي فقال: وجهي من وجهك

____________________

١ - وقع في الدر المنثور الاشتباه في اسم الرجل فجعله أبا معيط وتبعه على علاته من حكاه عنه كالشوكاني وغيره.

٢ - هو أبيّ بن خلف كما سمعت وفي غير واحد من المصادر: أمية بن خلف

٢٧٣

حرام إن لقيت محمَّداً فَلم تطأ قفاه وتبزق وجهه وتلطم عينه. فوجده ساجداً في دار الندوة ففعل ذلك فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله: لا ألقاك خارجاً من مكّة إلّا علوت رأسك بالسيف الحديث.

وقال الطبري في تفسيره: قال بعضهم عني بالظالم عقبة بن أبي معيط لأنَّه ارتدَّ بعد إسلامه طلباً منه لرضا أُبيّ بن خلف وقالوا: فلان هو أُبيّ.

وروي عن ابن عبّاس أنَّه قال: كان أُبيُّ بن خلف يحضر النبيَّ صلى الله عليه وآله فزجره عقبة بن ابن معيط فنزل: ويوم يعضُّ الظالم على يديه. الخ. قال: الظالم: عقبة. وفلان: أُبيّ. وروي مثله عن الشعبي وقتادة وعثمان ومجاهد.

أخرج نزول الآيات الكريمة يوم يعضُّ الظالم إلى قوله: خذولا. في عقبه و إنَّ الظالم هو. ابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل، وابن المنذر، وعبد الرزاق في المصنف وابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، والفريابي، وعبد بن حميد، وسعيد بن منصور، وابن جرير. راجع تفسير الطبري ١٩: ٦، تفسير البيضاوي ٢: ١٦١، تفسير القرطبي ١٣: ٢٥، تفسر الزمخشري ٢: ٣٢٦، تفسير ابن كثير ٣: ٣١٧، تفسير النسابوري هامش الطبري ١٩، ١٠، تفسير الرازي ٦: ٣٦٩، تفسير ابن جزي الكلبي ٣: ٧٧، إمتاع المقريزي ص ٦١، ٩٠، الدرّ المنثور للسيوطي ٥: ٦٨، تفسير الخازن ٣: ٣٦٥، تفسير النسفي هامش الخازن ٣: ٣٦٥، تفسير الشوكاني ٤: ٧٢، تفسير الآلوسي ١٩: ١١.

هذا الوالد، وما أدراك ما ولد؟

أمَّا الوليد الفاسق بلسان الوحي المبين، الزاني، الفاجر، السكّير، المدمن للخمر المتهتِّك في أحكام الدين وتعاليمه، المهتوك بالجلد على رؤس الأشهاد، فسل عنه قوله تعالى:( إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا ) (١) فإنَّ من المجمع عليه بين أهل العلم بتأويل القرآن نزوله فيه كما مرَّ في ص ١٢٤.

وسل عنه قوله تعالى:( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ ) . وهذه الآية كسابقتها تومي بالفاسق إليه كما أسلفناه في الجزء الثاني ٤٢، ٤٣ ط ١، و ٤٦، ٤٧ ط ٢.

وسل عنه محراب جامع الكوفة يوم قاء فيه من السكر وصلّى الصبح أربعاً وأنشد فيها رافعاً صوته:

____________________

١ - سورة الحجرات ٦.

٢٧٤

علق القلب الربابا

بعد ما شابت وشابا

وقال: هل أزيدكم؟ فضربه ابن مسعود بفردة خفِّه، وأخذه الحصباء من المصلّين ففرَّ عنهم حتّى دخل داره والحصباء من وراءه، كما فصَّلناه في هذا الجزء ص ١٢٤ - ١٢٠

وسل عنه سوط عبد الله بن جعفر لما جلده حدَّ الشارب بأمر مولانا أمير المؤمنين وهو يسبّه بمشهد عثمان بعد ضوضاء من المسلمين على تأخير الحدِّ كما مرَّ ص ١٢٤.

وسل عنه إبن عمِّه سعيد بن العاص لما غسل منبر جامع الكوفة ومحرابه تطهيراً من أقذار الفاسق حين ولّاه عثمان على الكوفة بعد الوليد.

وسل عنه الإمام السبط الحسن المجتبى يوم تكلّم عليه في مجلس معاوية فقال عليه السلام: وأمّا أنت يا وليد! فوالله ما ألومك على بغض عليّ وقد جلدك ثمانين في الخمر وقتل أباك بين يدي رسول الله صبراً، وأنت الذي سمّاه الله الفاسق، وسمّى عليّاً المؤمن حيث تفاخرتما فقلت له: اسكت يا عليُّ! فأنا أشجع منك جناناً، وأطول منك لساناً، فقال لك عليٌّ: اسكت يا وليد! فأنا مؤمنٌ، وأنت فاسق. فأنزل الله تعالى في موافقته قوله:( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ) . ثمَّ أنزل فيك على موافقة قوله أيضاً:( إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا ) . ويحك يا وليد! مهما نسيت فلا تنس قول الشاعر(١) فيك وفيه:

أنزل الله والكتاب عزيزُ

في عليٍّ وفي الوليد قرآنا

فتبوّأ الوليد إذ ذاك فسقاً

وعليٌّ مبوَّءٌ إيمانا

ليس من كان مؤمناً عمرك الله

كمن كان فاسقاً خوّانا

سوف يُدعى الوليد بعد قليل

وعليٌّ إلى الحساب عيانا

فعليٌّ يُجزى بذاك جناناً

ووليدٌ يُجزى بذاك هوانا

ربَّ جدٍّ لعقبة بن أبان(٢)

لابسٌ في بلادنا تبّانا

وما أنت وقريش؟ إنَّما أنت علجٌ من أهل صفوريَّة، وأُقسم بالله لأنت أكبر في الميلاد وأسنّ ممَّن تُدعى إليه. «شرح ابن أبي الحديد ٢: ١٠٣».

____________________

١ - هو حسان بن ثابت. راجع الجزء الثاني ص ٤٢ ط ١، و ٤٦ ط ٢.

٢ - أبان اسم أبي معيط جد الوليد.

٢٧٥

وإن شئت فسل الخليفة عثمان عن تأهيله إيّاه للولاية على صدقات بني تغلب ثمَّ للإمارة على الكوفة، وإئتمانه على أحكام الدين وأعراض المسلمين، وتهذيب الناس ودعوتهم إلى الدين الحنيف، وإسقاط ما عليه من الدين لبيت مال المسلمين وإبراء ذمَّته عمّا عليه من مال الفقراء، هل في الشريعة الطاهرة تسليط مثل الرجل على ذلك كلّه؟ أنا لا أعرف لذلك جواباً، ولعلّك تجد عند الخليفة ما يبرِّر عمله، أو تجد عند ابن حجر بعد اعترافه بصحَّة ما قلناه وإنَّه جاء من طريق الثقات جواباً منحوتاً لا نعرف المحصَّل منه قال في تهذيب التهذيب ١١: ١٤٤: قد ثبتت صحبته وله ذنوبٌ أمرها إلى الله تعالى والصواب السكوت. اهـ

أمّا نحن فلا نرى السكوت صواباً بعد أن لم يسكت عنه الذكر الحكيم وسمّاه فاسقاً في موضعين، أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون، ومهما سكتنا عن أمر بينه وبين الله سبحانه فليس من السائغ أن نسكت عن ترتيب آثار العدالة عليه والرواية عنه وهو فاسقٌ في القرآن، متهتّكٌ بالجرائم على رؤس الاشهاد، متعدٍّ حدود الله ومَن يتعدَّ حدود الله فأُولئك هم الظالمون.

- ٣٦ -

هبة الخليفة لعبد الله من مال المسلمين

أعطى لعبد الله بن خالد بن أُسيد بن أبي العيص بن أميَّة ثلاثمائة ألف درهم و لكلِّ رجل من قومه ألف درهم. وفي العقد الفريد ٢: ٢٦١، والمعارف لابن قتيبة ص ٨٤، وفي شرح ابن أبي الحديد ١: ٦٦: إنَّه أعطى عبد الله أربعمائة ألف درهم.

قال أبو مخنف: كان على بيت مال عثمان عبد الله بن الأرقم فاستسلف عثمان من بيت المال مائة ألف درهم وكتب عليه بها عبد الله بن الأرقم ذكر حقّ للمسلمين وأشهد عليه عليّاً وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر، فلمّا حلَّ الأجل ردَّه عثمان ثمَّ قدم عليه عبد الله بن خالد بن أُسيد من مكّة وناس معه غزاةً فأمر لعبد الله بثلاثمائة ألف درهم ولكلِّ رجل من القوم بمائة ألف درهم، وصكّ بذلك إلى ابن أرقم فاستكثره وردَّ الصكّ له. ويقال: إنَّه سأل عثمان أن يكتب عليه به ذكر حقّ فأبى ذلك فامتنع ابن الأرقم من أن يدفع المال إلى الأرقم، فقال له عثمان: إنَّما أنت خازنٌ لنا فما

٢٧٦

حمَلك على ما فعلت؟ فقال ابن الأرقم: كنت أراني خازناً للمسلمين وإنَّما خازنك غلامك والله لا ألي لك بيت المال أبداً. وجاء بالمفاتيح فعلّقها على المنبر، ويقال: بل ألقاها إلى عثمان فدفعها عثمان إلى ناتل مولاه، ثمَّ ولّى زيد بن ثابت الأنصاري بيت المال وأعطاه المفاتيح. ويقال: إنَّه ولّى ببيت المال معيقيب بن أبي فاطمة، وبعث إلى عبد الله بن الأرقم ثلاثمائة ألف درهم فلم يقبلها «أنساب البلاذري ٥: ٥٨».

وذكر أبو عمر في «الإستيعاب» وابن حجر في «الإصابة» حديث عبد الله بن أرقم في ترجمته وردّه ما بعث إليه عثمان من ثلاثمائة ألف. وفي رواية الواقدي: قال عبد الله: مالي إليه حاجة وما عملت لأن يثيبني عثمان والله لئن كان هذا من مال المسلمين ما بلغ قدر عملي أن أُعطى ثلاثمائة ألف درهم، ولئن كان من مال عثمان ما أُحبّ أن آخذ من ماله شيئاً.

وقال اليعقوبي في تاريخه ٢: ١٤٥: زوَّج عثمان ابنته من عبد الله بن خالد بن أُسيد و أمر له بستمائة ألف درهم، وكتب إلى عبد الله بن عامر أن يدفعها إليه من بيت مال البصرة.

قال الأميني: أنا لا أدري هل قرَّرت الشريعة لبيت مال المسلمين حساباً وعدداً؟ أو أنَّها أمرت أن يُكال ويوزن لأيِّ أحد بغير حساب؟ إذن فمن ذا الذي أمرته بالقسمة على السويَّة، والعدل في الرعيَّة؟ لقد بلغ الفوضى في الأموال على عهد هذا الخليفة حدّاً لم يسطع معه أُمناءه على بيت المال أن تستمرّوا على عملهم، فكانوا يلقون مفاتيحه إليه لما كانوا يجدونه من عدم تمكّنهم من الجري على النواميس المطَّردة في الأموال الثابتة في السنَّة الشريفة، ولا على ما مضى الأوّلان عليه من الحصول على مرضاة العامَّة في تقسيمها، فرأوا التنصُّل من هذه الوظيفة أهون عليهم من تحمّل تبعاتها الوبيلة وقد ناقشوا الحساب فلم يجدوا لعبد الله بن خالد أيَّ جدارة للتخصّص بهذه الكميّات فهو لو عُدَّ في عداد غيرهم لم يحظ بغير عطاءه زنة أعطيات المسلمين، لكن صهر الخلافة والإتصال بالنسب الأمويِّ لعلّهما يبرِّران ما هو فوق الناموس الماليّ المطّرد في الشريعة.

- ٣٧ -

عطيَّة الخليفة أبا سفيان

٧ - أعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال! قاله ابن أبي الحديد في الشرح ١: ٦٧،

٢٧٧

قال الأميني: لا أرى لأبي سفيان المستحقِّ للمنع عن كلِّ خير أيّ موجب لذلك العطاء الجزل من بيت مال المسلمين وهو كما في «الاستيعاب» لأبي عمر عن طائفة: كان كهفاً للمنافقين منذ أسلم وكان في الجاهليَّة ينسب إلى الزندقة. قال الزبير يوم اليرموك لما حدَّثه ابنه أنَّ أبا سفيان كان يقول: إيه بني الأصفر: قاتله الله يأبى إلّا نفاقاً أوَ لسنا خيراً له من بني الأصفر؟. وقال له عليٌّ عليه السلام: ما زلت عدوّاً للإسلام وأهله. ومن طريق ابن المبارك عن الحسن: إنَّ أبا سفيان دخل على عثمان حين صارت الخلافة إليه فقال: صارت إليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني أميَّة فإنَّما هو الملك ولا أدري ما جنَّة ولا نار. فصاح به عثمان: قم عنِّي فعل الله بك وفعل «الاستيعاب» ٢: ٦٩٠.

وفي تاريخ الطبري ١١ ص ٣٥٧: يا بني عبد مناف! تلقفوها تلقف الكرة، فما هناك جنَّة ولا نار.

وفي لفظ المسعودي: يا بني أُميَّة! تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرنَّ إلى صبيانكم وراثة. (مروج الذهب ١: ٤٤٠).

م - وأخرج ابن عساكر في تاريخه ٦: ٤٠٧ عن أنس: إنَّ أبا سفيان دخل على عثمان بعد ما عمي فقال: هل هنا أحد؟ فقالوا: لا. فقال: اللّهم اجعل الأمر أمر جاهليَّة، والملك ملك غاصبيَّة، واجعل أوتاد الأرض لبني أميَّة].

وقال ابن حجر: كان رأس المشركين يوم أُحد ويوم الأحزاب، وقال ابن سعد في إسلامه: لما رأى الناس يطؤن عقب رسول الله حسده فقال في نفسه: لو عاودت الجمع لهذا الرجل. فضرب رسول الله في صدره ثمَّ قال: إذا يخزيك الله: وفي رواية: قال في نفسه: ما أدري لِمَ يغلبنا محمَّد؟ فضرب في ظهره وقال: بالله يغلبك. الإصابة ٢: ١٧٩.

وإن سألت مولانا أمير المؤمنين عن الرجل فعلى الخبير سقطت قال في حديث له: معاوية طليق ابن طليق، حزب من هذه الأحزاب، لم يزل لله عزَّوجلَّ ولرسوله صلى الله عليه وآله وللمسلمين عدوّاً هو وأبوه حتّى دخلا في الاسلام كارهين(١) .

وحسبك ما في كتاب له إلى معاوية بن أبي سفيان من قوله: يا ابن صخر يا ابن

____________________

١ - تاريخ الطبري ٦: ٤.

٢٧٨

اللعين(١) ولعلّه عليه السلام يوعز بقوله هذا إلى ما رويناه من إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله لعنه وابنيه معاوية ويزيد لما رآه راكباً وأحد الولدين يقود والآخر يسوق فقال: اللهمَّ اللعن الراكب والقائد والسائق(٢) .

وذكر ابن أبي الحديد في الشرح ٤: ٢٢٠ من كتاب للإمام عليه السلام كتبه إلى معاوية قوله: فلقد سلكت طرائق أبي سفيان أبيك وعتبة جدِّك وأمثالهما من أهلك ذوي الكفر والشقاق والأباطيل.

ويعرِّفك أبا سفيان قول أبي ذر لمعاوية لما قال له (يا عدوَّ الله وعدو رسوله): ما أنا بعدوّ لله ولا لرسوله بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله، أظهرتما الإسلام و أبطنتما الكفر. إلى آخر ما يأتي في البحث عن مواقف أبي ذر مع عثمان.

هذا حال الرجل يوم كفره وإسلامه ولم يغيّر ما هو عليه حتّى لفظ نفسه الأخير فهل له في أموال المسلمين قطميرٌ أو نقيرٌ فضلاً عن الآلاف؟ لولا أنَّ النسب الأمويَّ برَّر الخليفة أن يخصَّه بمنائحه الجمَّة من مال الناس، وافق السنَّة أم خالفها.

- ٣٨ -

عطاء الخليفة من غنائم افريقية

أعطى عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخاه من الرضاعة الخمس من غنائم افريقيَّة في غزوها الأوَّل كما مرَّ في صفحة ٢٥٩ وقال ابن كثير: أعطاه خمس الخمس. وكان مائة ألف دينار على ما ذكره أبو الفدا من تقدير ذلك الخمس بخمسمائة ألف دينار. وكان حظُّ الفارس من تلك الغنيمة العظيمة ثلاثة آلاف، ونصيب الراجل ألف كما ذكره ابن الأثير في أُسد الغابة ٣: ١٧٣، وابن كثير في تاريخه ٧، ١٥٢.

وقال ابن أبي الحديد في شرحه ١: ٦٧: أعطى عبد الله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح افريقية بالمغرب، وهي من طرابلس الغرب إلى طنجة، من غير أن يشركه فيه أحدٌ من المسلمين.

وقال البلاذري في الأنساب ٥، ٢٦: كان (عثمان) كثيراً ما يولي من بني أميَّة

____________________

١ - شرح ابن أبي الحديد ٣: ٤١١، و ج ٤: ٥١.

٢ - راجع ما أسلفناه في الجزء الثالث صفحة ٢٢٢ ط ١، و ٢٥٢ ط ٢.

٢٧٩

من لم يكن له مع النبيِّ صلى الله عليه وآله صحبة فكان يجئ من اُمرأته ما ينكره أصحاب محمَّد صلى الله عليه وآله وكان يستعتب فيهم فلا يعزلهم، فلمّا كان في الستِّ الأواخر استأثر ببني عمِّه فولّاهم وولّى عبد الله بن أبي سرح مصر، فمكث عليها سنين فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلّمون منه (إلى أن قال:) فلمّا جاء أهل مصر يشكون ابن أبي سرح كتب إليه كتاباً يتهدّده فيه فأبى أن ينزع عمّا نهاه عثمان عنه، وضرب بعض من كان شكاه إلى عثمان من أهل مصر حتّى قتله، فخرج من أهل مصر سبع مائة إلى المدينة فنزلوا المسجد وشكوا ما صنع بهم إبن أبي سرح في مواقيت الصلاة إلى أصحاب محمَّد، فقام طلحة إلى عثمان فكلّمه بكلام شديد، وأرسلت إليه عائشة رضي الله عنها تسأله أن ينصفهم من عامله، ودخل عليه عليُّ بن أبي طالب وكان متكلّم القوم فقال له: إنّما يسئلك القوم رجلاً مكان رجل وقد ادَّعوا قِبَله دماً فاعزله عنهم واقض بينهم، فإن وجب عليه حقٌّ فأنصفهم منه. فقال لهم: اختاروا رجلاً أُولِّيه عليكم مكانه. فأشار الناس عليهم بمحمَّد بن أبي بكر الصدّيق فقالوا: استعمل علينا محمَّد بن أبي بكر فكتب عهده على مصر ووجَّه معهم عدَّة من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن أبي سرح. وسيأتي تمام الخبر وكتاب عثمان إلى ابن أبي سرح يأمره بالتنكيل بالقوم.

قال الأميني: ابن أبي سرح هذا هو الذي أسلم قبل الفتح وهاجر ثمَّ ارتدَّ مشركاً وصار إلى قريش بمكّة فقال لهم: إنِّي أضرب محمّداً حيث أُريد. فلمّا كان يوم الفتح أمر صلى الله عليه وآله بقتله وأباح دمه ولو وجد تحت أستار الكعبة، ففرَّ إلى عثمان فغيَّبه حتّى أتى به رسول الله بعد ما اطمأنَّ أهل مكّة فاستأمنه له فصمت رسول الله صلى الله عليه وآله طويلاً ثمَّ قال: نعم فلمّا انصرف عثمان قال صلى الله عليه وآله لمن حوله: ما صمتُّ إلّا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه وقال رجلٌ من الأنصار: فهلّا أومأت إليَّ يا رسول الله؟ فقال: إنَّ النبيَّ لا ينبغي أن يكون له خائنة الأعين(١) .

ونزل القرآن بكفره في قوله تعالى:( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى‏ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ

____________________

١ - سنن أبي داود ٢: ٢٢٠، أنساب البلاذري ٥. ٤٩، مستدرك الحاكم ٣: ١٠٠، الاستيعاب ١: ٣٨١، تفسير القرطبي ٧: ٤٠، أسد الغابة ٣: ١٧٣، الإصابة ٢: ٣١٧، تفسير الشوكاني ٢: ١٣٤.

٢٨٠