الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٨

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 397

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
تصنيف: الصفحات: 397
المشاهدات: 139950
تحميل: 5988


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 139950 / تحميل: 5988
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أُوحِيَ إِلَيّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ‏ءٌ وَمَن قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَاأَنْزَلَ اللّهُ ) . الآية (الأنعام ٩٣).

أطبق المفسِّرون على إنَّ المراد بقوله: سأُنزل مثل ما أنزل الله هو عبد الله بن أبي سرح وسبب ذلك فيما ذكروه: أنَّه لما نزلت الآية التي في المؤمنين:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِن طِينٍ ) . دعاه النبيُّ صلى الله عليه وآله فأملاها عليه فلمّا انتهى إلى قوله: ثمَّ أنشأناه خلقاً آخر. عجب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان فقال: تبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هكذا أُنزلت عليَّ، فشكَّ عبد الله حينئذٍ وقال: لئن كان محمَّد صادقاً لقد أوحي إليَّ كما أوحي إليه، وإن كان كاذباً لقد قلت كما قال. فارتدَّ عن الإسلام ولحق بالمشركين فذلك قوله: ومن قال سأُنزل مثل ما أنزل الله.

راجع الأنساب للبلاذري ٥: ٤٩، تفسير القرطبي ٧: ٤٠، تفسير البيضاوي ١: ٣٩١، كشَّاف الزمخشري ١: ٤٦١، تفسير الرازي ٤: ٩٦، تفسير الخازن ٢: ٣٧، تفسير النسفي هامش الخازن ٢؟ ٣٧، تفسير الشوكاني ٢: ١٣٣، ١٣٥ نقلاً عن ابن أبي حاتم، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن جريج، وابن جرير، وأبي الشيخ.

كان الرجل أمويَّ النزعة والنشأة أرضعته وعثمان ثدي الأشعريَّة فقرَّبته الأُخوَّة من الرضاعة إلى الخليفة، وآثرته نزعاته الأمويَّة على المسلمين، وأوصلته إلى الحظوة والثروة من حطام الدنيا، وحلّلت له تلك المنحة الطائلة وإن لم تساعد الخليفة على ذلك النواميس الدينيَّة، إذ لم يكن أمر الغنائم مفوَّضاً إليه وإنَّما خمسها لله ولرسوله ولذي القربى، أدّى الرجل شكر تلكم الأيادي بامتناعه عن بيعة عليّ أمير المؤمنين بعد قتل أخيه الخليفة، والله يعلم منقلبهم ومثواهم.

هذه يسيرة عثمان وسنَّته في الأموال وفي لسانه قوله على صهوة الخطابة: هذا مال الله أعطيه من شئت وأمنعه من شئت، فأرغم الله أنف من رغم. ولا يصيخ إلى قول عمّار يوم ذاك: أشهد الله أنَّ أنفي أوَّل راغم من ذلك.

وبين شفتيه قوله: لنأخذنَّ حاجتنا من هذا الفئ وإن رغمت أُنوف أقوام. ولا يعبأ بقول مولانا أمير المؤمنين في ذلك الموقف: إذاً تُمنع من ذلك ويُحال بينك وبينه(١) .

نعم: هذا عثمان وهذا قيله، والمشرِّع الأعظم صلى الله عليه وآله يقول فيما أخرجه البخاري

____________________

١ - سيوافيك تفصيل الحديثين في الجزء التاسع إن شاء الله تعالى.

٢٨١

في صحيحه ٥: ١٥: إنَّما أنا قاسمٌ وخانٌ والله يُعطي. ويقول: ما أعطيكم ولا أمنعكم إنَّما أنا قاسمُ حيث أُمرت. وفي لفظ: والله ما أوتيكم من شيء ولا أمنعكموه، إن أنا إلّا خازن أضع حيث أُمرت(١) . وقد حذَّر صلى الله عليه وآله أمَّته من التصرف في مال الله بغير حقّ بقوله: إنَّ رجالاً يتخوَّضون في مال الله بغير حقّ فلهم النار يوم القيامة(٢) .

تلك حدود الله فلا تقربوها، ومن يتعدَّ حدود الله فأُولئك هم الظالمون.

- ٣٨ -

الكنوز المكتنزة ببركة الخليفة

إقتنى جماعةٌ من رجال سياسة الوقت، وأصحاب الفتن والثورات من جرّاء الفوضى في الأموال ضياعاً عامرة، ودوراً فخمة، وقصوراً شاهقة، وثروة طائلة، ببركة تلك السيرة الأمويَّة في الأموال الشاذَّة عن الكتاب والسنَّة الشريفة وسيرة السلف، فجمعوا من مال المسلمين مالاً جمّاً، وأكلوه أكلاً لما.

*(منهم)*: الزبير بن العوام خلّف كما في صحيح البخاري في كتاب الجهاد باب بركة الغازي في ماله ج ٥: ٢١: لحدي عشرة داراً بالمدينة، ودارين بالبصرة، وداراً بالكوفة، وداراً بمصر، وكان له أربع نسوة فأصاب كلَّ امرأة بعد رفع الثلث ألف ألف ومائتا ألف. قال البخاري: فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف. وقال ابن الهائم: بل الصواب أنَّ جميع ماله حسبما فرض: تسعة وخمسون ألف ألف وثمانمائة ألف(٣) وصرَّح ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما: بأنَّ الصواب ما قاله ابن الهائم، وإنَّ البخاري غلط في الحساب.

كذا نجدها في صحيح البخاري وغيره من المصادر غير مقيَّدة بالدرهم أو الدينار غير أنَّ في تاريخ ابن كثير ٧: ٢٤٩ قيَّدها بالدرهم.

وقال ابن سعد في الطبقات ٣: ٧٧ طليدن: كان للزبير بمصرِ خطط، وبالاسكندرية خِطط، وبالكوفة خِطط، وبالبصرة دور، وكانت له غلّات تقدم عليه من أعراض المدينة.

____________________

١ - صحيح البخاري ٥: ١٧، سنن أبي داود ٢: ٢٥، طرح التثريب ٧: ١٦٠.

٢ - صحيح البخاري ٥: ١٧.

٣ - ذكره شرّاح البخاري، راجع فتح الباري، إرشاد الساري، عمدة القاري، شذرات الذهب ١: ٤٣.

٢٨٢

وقال المسعودي في المروج ١: ٤٣٤، خلف ألف فرس وألف عبد وألف أمة وخِططاً.

*(ومنهم)*: طلحة بن عبيد الله التيمي: إبتنى داراً بالكوفة تعرف بالكناس بدار الطلحتين، وكانت غلّته من العراق كلّ يوم ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك وله بناحية سراة(١) أكثر ممّا ذكر، وشيَّد داراً بالمدينة وبناها بالآجر والجصّ والساج.

وعن محمَّد بن إبراهيم قال: كان طلحة يغلُّ بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف، ويغلُّ بالسراة عشرة آلاف دينار أو أكثر أو أقلّ.

وقال سفيان بن عيينة: كان غلّته كلَّ يوم ألف وافياً. والوافي وزنه وزن الدينار، وعن موسى بن طلحة: إنَّه ترك ألفي ألف درهم ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار، وكان ماله قد اغتيل.

وعن إبراهيم بن محمّد بن طلحة قال: كان قيمة ما ترك طلحة من العقار والأموال وما ترك من الناضّ(٢) ثلثين ألف ألف درهم، ترك من العين ألفي ألف ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار والباقي عروض.

وعن سعدى أمّ يحيي بن طلحة: قتل طلحة وفي يد خازنه ألفا ألف درهم ومائتا ألف درهم، وقوِّمت أصوله وعقاره ثلاثة ألف ألف درهم.

وعن عمرو بن العاص: أنَّ طلحة ترك مائة بُهار في كلِّ بُهار ثلاث قناطر ذهب وسمعت إنَّ البُهار جلد ثور. وفي لفظ ابن عبد ربِّه من حديث الخشني: وجدوا في تركته ثلاثمائة بُهار من ذهب وفضة.

وقال ابن الجوزي: خلّف طلحة ثلثمائة جمل ذهباً.

[وأخرج البلاذري من طريق موسى بن طلحة قال: أعطى عثمان طلحة في خلافته مائتي ألف دينار].

راجع طبقات ابن سعد ٣: ١٥٨ ط ليدن، الأنساب للبلاذري ٥: ٧، مروج الذهب ١: ٤٣٤، العقد الفريد ٢: ٢٧٩، الرياض النضرة ٢: ٢٥٨، دول الاسلام للذهبي ١: ١٨. الخلاصة للخزرجي ص ١٥٢.

____________________

١ - بين تهامة ونجد أدناها الطائف وأقصاها قرب صنعاء.

٢ - الناضّ: الدرهم والدينار.

٢٨٣

وسيأتي عن عثمان قوله: ويلي على ابن الحضرميَّة (يعني طلحة) أعطيته كذا وكذا بُهاراً ذهباً وهو يروم دمي يحرِّض على نفسي.

*(ومنهم)*: عبد الرَّحمن بن عوف الزهري. قال ابن سعد: ترك عبد الرحمن ألف بعير، وثلاثة آلاف شاة، ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً.

وقال: وكان فيما خلّفه ذهبٌ قُطّع بالفؤوس حتّى مجلت أيدي الرجال منه، وترك أربع نسوة فأصاب كلَّ إمرأة ثمانون ألفاً. وعن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن قال: صالحنا إمرأة عبد الرحمن التي طلّقها في مرضه من ربع الثُمن بثلاثة وثمانين ألفاً.

وقال اليعقوبي: ورَّثها عثمان فصولحت عن ربع الثمن على مائة ألف دينار. وقيل: ثمانين ألف. وقال المسعودي: إبتنى داره ووسَّعها وكان على مربطه مائة فرس، وله ألف بعير، وعشرة آلاف من الغنم، وبلغ بعد وفاته ثمن ماله أربعة وثمانين ألفاً.

راجع طبقات ابن سعد ٣: ٩٦ ليدن، مروج الذهب ١: ٤٣٤، تاريخ اليعقوبي ٢: ١٤٦، صفة الصفوة لابن الجوزي ١، ١٣٨، الرياض النضرة لمحبِّ الطبري ٢: ٢٩١

*(ومنهم)*: سعد بن أبي وقّاص، قال ابن سعد: ترك سعد يوم مات مائتي ألف وخمسين ألف درهم، ومات في قصره بالعقيق. وقال المسعودي: بني داره بالعقيق فرفع سمكها ووسَّع فضاءها وجعل أعلاها شرفات. طبقات ابن سعد ٣: ١٠٥، مروج الذهب ١: ٤٣٤.

*(ومنهم)*: يعلى بن أُميَّة. خلّف خمسمائة ألف دينار. وديوناً على الناس وعقارات وغير ذلك من التركة ما قيمته مائة ألف دينار. كذا ذكره المسعودي في مروج الذهب ١: ٤٣٤.

*(ومنهم)*: زيد بن ثابت المدافع الوحيد عن عثمان، قال المسعودي: خلّف من الذهب والفضَّة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار. «مروج الذهب ١: ٤٣٤».

هذه نبذٌ ممّا وقع فيه التفريط المالي على عهد عثمان، ومن المعلوم إنَّ التاريخ لم يحص كلّما كان هنا من عظائم شأنه في أكثر الحوادث والفتن ولا سيما المتدرِّجة منها في الحصول.

٢٨٤

وأمَّا ما اقتناه الخليفة لنفسه فحدِّث عنه ولا حرج، كان ينضِّد أسنانه بالذهب ويتلبَّس بأثواب الملوك قال محمّد بن ربيعة: رأيت على عثمان مطرف خزّ ثمن مائة دينار فقال: هذا لنائلة(١) كسوتها إيّاه، فأنا ألبسه أسرّها به. وقال أبو عامر سليم: رأيت على عثمان برداً ثمنه مائة دينار(٢) .

قال البلاذري: كان في بيت المال بالمدينة سفطٌ فيه حليٌّ وجوهرٌ فأخذ منه عثمان ما حلّى به بعض أهله، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك وكلَّموه فيه بكلام شديد حتّى أغضبوه فقال: هذا مال الله أعطيه من شئت وأمنعه من شيءت فأرغم الله أنف من رغم وفي لفظ: لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفئ وإن رغمت أنوف أقوام. فقال له عليّ: إذاً تُمنع من ذلك ويُحال بينك وبينه. إلى آخر الحديث الآتي في مواقف الخليفة مع عمّار

وجاء إليه أبو موسى بكيلة ذهب وفضَّة فقسَّمها بين نسائه وبناته، وأنفق أكثر بيت المال في عمارة ضياعه ودوره(٣) .

وقال ابن سعد في الطبقات ٣: ٥٣ ط ليدن: كان لعثمان عند خازنه يوم قُتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة درهم، وخمسون ومائة ألف دينار فانتبهت وذهبت.

وترك ألف بعير بالربذة وصدقات ببراديس وخيبر ووادي القرى قيمة مائتي ألف دينار.

وقال المسعودي في المروج ١: ٤٣٣: بنى في المدينة وشيَّدها بالحجر والكلس وجعل أبوابها من الساج والعرعر، واقتنى أموالاً وجناناً وعيوناً بالمدينة، وذكر عبد الله بن عتبة: إنَّ عثمان يوم قُتل كان عند خازنه من المال خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحُنين وغيرهما مائة ألف دينار، وخلّف خيلاً كثيراً وإبلاً.

وقال الذهبي في دول الاسلام ١: ١٢ كان قد صار له أموال عظيمة رضي الله عنه وله ألف مملوك.

____________________

١ - هي حليلة عثمان بنت الفرافصة.

٢ - طبقات ابن سعد ٣: ٤٠ ط ليدن، أنساب البلاذري: ٣: ٤، الاستيعاب في ترجمة عثمان ٢: ٤٧٦.

٣ - الصواعق المحرقة ص ٦٨، السيرة الحلبية ٢: ٨٧.

٢٨٥

صورة متخذة

من أعطيات الخليفة والكنوز العامرة ببركته

الدينار

الأعلام

٥٠٠٠٠٠

مروان

١٠٠٠٠٠

ابن أبي سرح

٢٠٠٠٠٠

طلحة

٢٥٦٠٠٠٠

عبدالرحمن

٥٠٠٠٠٠

يعلى بن أمية

١٠٠٠٠٠

زيد بن ثابت

١٥٠٠٠٠

عثمان الخليفة

٢٠٠٠٠٠

عثمان الخليفة

٤.٣١٠.٠٠٠

الجمع

أربعة ملايين وثلاثمائة وعشرة آلاف دينار.

إقرأ ولا تنس قول مولانا أمير المؤمنين في عثمان: قام نافجا حضينه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع.

وقوله الآتي بُعيد هذا: ألا إنَّ كلَّ قطيعة أقطعها عثمان، وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردودٌ في بيت المال.

الدرهم

الأعلام

٣٠٠٠٠٠

الحكَم

٢٠٢٠٠٠٠

آل الحكَم

٣٠٠٠٠٠

الحارث

١٠٠٠٠٠

سعيد

١٠٠٠٠٠

الوليد

٣٠٠٠٠٠

عبدالله

٦٠٠٠٠٠

عبدالله

٢٠٠٠٠٠

أبوسفيان

١٠٠٠٠٠

مروان

٢٢٠٠٠٠٠

طلحة

٣٠٠٠٠٠٠٠

طلحة

٥٩٨٠٠٠٠٠

الزبير

٢٥٠٠٠٠

ابن أبي وقاص

٣٠٥٠٠٠٠٠

عثمان الخليفة

١٢٦.٧٧٠.٠٠٠

المجموع

مائة وستة وعشرون مليوناً وسبعمائة وسبعون ألف درهماً.

٢٨٦

بقي هنا أن نسأل الخليفة عن علّة قصر هذه الأثرة على المذكورين ومن جرى مجراهم من زبانيته؛ أهل خلقت الدنيا لأجلهم؟ أو أنّ الشريعة منعت عن الصِلات وإعطاء الصدقات للصلحاء الأبرار من أمَّة محمَّد صلى الله عليه وآله كأبي ذر الغفاري، وعمّار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود إلى نظرائهم؟ فيجب عليهم أن يقاسوا الشدَّة، ويعانوا البلاء، ويشملهم المنع بين منفيّ ومضروب ومهان، وهذا سيّدهم أمير المؤمنين يقول: إنَّ بني أُميّة ليُفوقونني تراث محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم تفويقا(١) أي يعطونني من المال قليلاً قليلاً كفواق الناقة.

وهل الجود هو بذل الرجل ماله وما تملكه ذات يده؟ أو جدحه من سويق غيره؟(٢) كما كان يفعل الخليفة. ليتني وجدت مَن يحير جواباً عن مسئلتي هذه؟ أمّا الخليفة فلم أدركه حتّى استحفي منه الخبر، ولعلّه لو كنت مستحفياً منه لسبقت الدِرَّة الجواب.

نعم يُعلم حُكم تلكم الأعطيات والقطائع - وقد أقطع أكثر أراضي بيت المال(٣) - من خطبة لمولانا أمير المؤمنين، ذكرها الكلبي مرفوعة إلى ابن عبّاس قال: إنَّ عليّاً عليه السلام خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال: ألا إنَّ كلَّ قطيعة أقطعها عثمان، وكلَّ مال أعطاه من مال الله؛ فهو مردودٌ في بيت المال، فإنَّ الحق القديم لا يبطله شيءٌ، ولو وجدته قد تزوَّج به النساء، وفرَّق في البلدان، لرددته إلى حاله، فإنَّ في العدل سعة، ومن ضاق عنه الحقّ فالجور عنه أضيق(٤) .

قال الكلبي: ثمَّ أمر عليه السلام بكلِّ سلاح وُجد لعثمان في داره ممّا تقوّى به على المسلمين فقبض، وأمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة فقضبت، وأمر بقبض سيفه ودرعه، وأمر أن لا يعرض لسلاح وُجد له لم يقاتل به المسلمين، وبالكفِّ عن جميع أمواله التي وجدت في داره وغير داره، وأمر أن ترجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث أُصيبت أو أُصيب أصحابها، فبلغ ذلك عمرو بن العاص وكان بأيلة من

____________________

١ - نهج البلاغة ١: ١٢٦.

٢ - يقال: جدح جوين من سويق غيره. مثل يضرب لمن يجود بأموال الناس.

٣ - السيرة الحلبية ٢: ٨٧.

٤ - نهج البلاغة ١. ٤٦، شرح ابن أبي الحديد ١: ٩٠.

٢٨٧

أرض الشام أتاها حيث وثب الناس على عثمان فنزلها، فكتب إلى معاوية: ما كنت صانعاً فاصنع إذ قشرك ابن أبي طالب من كلِّ مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها. وقال الوليد بن عقبة «المذكور آنفاً» يذكر قبض عليّ عليه السلام نجائب عثمان وسيفه وسلاحه:

بني هاشم! ردّوا سلاح ابن أختكم

ولا تنهبوه لا تحلُّ مناهبه

بني هاشم! كيف الهوادة بيننا؟

وعند عليّ درعه ونجائبه

بني هاشم! كيف التودُّد منكمُ؟

وبزّ ابن أروى فيكمُ وحرائبه

بني هاشم! إلّا تردّوا فإنَّنا

سواءٌ علينا قاتلاه وسالبه

بني هاشم! إنّا وما كان منكمُ

كصدع الصفا لا يشعب الصدع شاعبه

قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه

كما غدرت يوماً بكسرى مرازبه

فأجابه عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بأبيات طويلة من جملتها:

فلا تسألونا سيفكم إنَّ سيفكم

أُضيع وألقاه لدى الروع صاحبه

وشبَّهته كسرى وقد كان مثله

شبيهاً بكسرى هديه وضرائبه

قال: أي كان كافراً كما كان كسرى كافراً؛ وكان المنصور رحمه الله تعالى إذا انشد هذا البيت يقول: لعن الله الوليد هو الذي فرَّق بين نبي عبد مناف بهذا الشعر(١) .

هذه الأبيات المعزوَّة إلى عبد الله نسبها المسعودي في مروج الذهب ١: ٤٤٣ إلى الفضل بن العباس بن أبي لهب وذكر منها:

سلوا أهل مصر عن سلاح ابن أختنا

فهم سلبوه سيفه وحرائبه

وكان وليَّ العهد بعد محمَّد

عليٌّ وفي كلِّ المواطن صاحبه

عليٌّ وليُّ الله أظهر دينه

وأنت مع الأشقين فيما تحاربه

وأنت امرؤٌ من أهل صيفور مارحٌ

فما لك فينا من حميم تعاتبه

وقد أنزل الرَّحمن إنَّك فاسقٌ

فما لك في الإسلام سهمٌ تطالبه

- ٣٩ -

الخليفة والشجرة الملعونة في القرآن

كان مزيج نفس الخليفة حبّ بني أبيه آل أميَّة الشجرة الملعونة في القرآن و

____________________

١ - شر ابن أبي الحديد ١: ٩٠.

٢٨٨

تفضيلهم على الناس، وقد تنشَّب ذلك في قلبه وكان معروفاً منه من أوَّل يومه، وعرفه بذلك مَن عرفه قال عمر بن الخطاب لابن عبّاس: لو وليها عثمان لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس ولو فعلها لقتلوه(١) .

وفي لفظ الإمام أبي حنيفة: لو وليتُها عثمان لحمل آل أبي معيط على رقاب الناس، والله لو فعلت لفعل، ولو فعل لأوشكوا أن يسير وإليه حتّى يجزّوا رأسه، ذكره القاضي أبو يوسف في الآثار ص ٢١٧.

ووصَّى إلى عثمان بقوله: إن وليتَ هذا الأمر فاتَّق الله ولا تحمل آل أبي معيط على رقاب الناس(٢) .

وبهذه الوصيَّة أخذه عليٌّ وطلحة والزبير لما ولّى الوليد بن عقبة على الكوفة وقالوا له: ألم يوصك عمر ألّا تحمل آل أبي معيط وبني أميَّة على رقاب الناس؟ فلم يجبهم بشيء. (أنساب البلاذري ٥: ٣٠).

كان يبذل كلَّ جهده في تأسيس حكومة أمويَّة قاهرة في الحواضر الإسلاميَّة كلّها تقهر مَن عداهم، وتنسي ذكرهم في القرون الغابرة، غير أنَّ القَدَر الحاتم راغمه على منويّاته فجعل الذكر الجميل الخالد والبقيَّة المتواصلة في الحقب والأجيال كلّها لآل عليّ عليه وعليهم السَّلام، وأمّا آل حرب فلا تجد من ينتمي إليهم غير متوارٍ بانتسابه، متخافت عند ذكر نسبه، فكأنَّهم حديث أمس الدابر، فلا ترى لهم ذكراً، ولا تسمع لأحد منهم رِكزاً.

كان الخليفة يمضي وراء نيَّته هاتيك قُدما؛ وراء أمل أبي سفيان فيما قال له يوم استخلف: فأدرها كالكرة واجعل أوتادها بني أميَّة. فولّى على الأمر في المراكز الحسّاسة والبلاد العظيمة أغلمة بني أميَّة، وشبابهم المترَف المتبختر في شرح الشبيبة وغلوائها وأمَّر فتيانهم الناشطين للعمل، الذين لم تحنّكهم الأيّام ولم يأدّبهم الزمان، وسلّطهم على رقاب الناس، ووطَّد لهم السبل، وكسح عن مسيرهم العراقيل، وفتح باب الفتن والجور بمصراعيه على الجامع الصالح في الأمصار الإسلاميَّة، وجرَّ الويلات بيد أُولئك الطغام

____________________

١ - أنساب البلاذري ٥: ١٦.

٢ - طبقات ابن سعد ٣: ٢٤٧، أنساب البلاذري ٥: ١٦، الرياض النضرة ٢: ٧٦.

٢٨٩

على نفسه وعلى الأُمَّة المرحومة من يومه وهلمَّ جرّا.

قال أبو عمر: دخل شبل بن خالد على عثمان رضي الله عنه حين لم يكن عنده غير أمويّ فقال: ما لكم يا معشر قريش؟ أما فيكم صغيرٌ تريدون. أن ينبل؟ أو فقيرٌ تريدون غناه؟ أو خاملٌ تريدون التنويه باسمه؟ عَلام أقطعتم هذا الأشعري - يعني أبا موسى - العراق يأكلها هضما؟ فقال عثمان: ومَن لها؟ فأشاروا بعبد الله(١) بن عامر وهو ابن ستَّة عشر سنة(٢) فولّاه حينئذ.

وكان هؤلاء الأغلمة لا يبالي أحدهم بما يفعل، ولا يكترث لما يقول، والخليفة لا يصيخ إلى شكاية المشتكي، ولا يعي عذل أيِّ عاذل، ومن أولئك الأغلمة والي الكوفة سعيد بن العاص ذاك الشاب المترف، كان يقول كما مرَّ في ص ٢٧٠ على صهوة المنبر إنَّ السواد بستانٌ لأغلمة من قريش.

وهؤلاء الأغلمة هم الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله: إنَّ فساد أُمَّتي على يدي غلمة سفهاء من قريش(٣) .

وبقوله صلى الله عليه وآله: هلاك هذه الأُمَّة على يد أُغيلمة من قريش(٤) .

وأولئك السُّفهاء الأُمراء هم المعنيّون بقوله صلى الله عليه وآله لكعب بن عجزة: أعاذك الله يا كعب! من إمارة السُّفهاء. قال: وما إمارة السُّفهاء يا رسول الله؟ قال: أُمراء يكونون بعدي لا يهدون بهديي ولا يستنّون بسنّتي. الحديث مرَّ في صفحة ٢٥٦.

وأُولئك هم المعنيّون بقوله صلى الله عليه وآله: إسمعوا هل سمعتم؟ إنَّه سيكون بعدي

____________________

١ - كان ابن خال عثمان لأن أمّ عثمان أروى بنت كريز. وعبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس.

٢ - أحسبه تصحيفاً قال أبو عمر في ترجمة عبد الله بن عامر: عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة وعثمان بن أبي العاص عن فارس وجمع ذلك كله لعبد الله. قال صالح: وهو ابن أربع و عشرين سنة. وقال أبو اليقظان: قدم ابن عامر البصرة والياً عليها وهو ابن أربع أو خمس وعشرين سنة.

٣ - أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الفتن ١٠: ١٤٦، والحاكم في المستدرك ٤: ٤٧٠ صحّحه هو والذهبي وقال الحاكم: شهد حذيفة بن اليمان بصحّة هذا الحديث.

٤ - مستدرك الحاكم ٤: ٤٧٩: فقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ولهذا الحديث توابع وشواهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الطاهرين والأئمّة من التابعين لم يسعني إلّا ذكرها ثمَّ ذكر بعض ما أسلفنا في الحكام ومروان وبني أبي العاص.

٢٩٠

أُمراء فمن دخل عليهم فصدَّقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس منِّي ولست منه وليس بوارد عليَّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يصدِّقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو منِّي وأنا منه وسيرد عليَّ الحوض، وفي لفظ: سيكون أمراء يكذبون ويظلمون فمن صدَّقهم بكذبهم.. الخ(١) .

وفي لفظ أحمد في المسند ٤: ٢٦٧: ألا إنّه سيكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون، فمن صدّقهم بكذبهم ومالاهم على ظلمهم فليس منِّي ولا أنا منه، ومن لم يصدّقهم بكذبهم ولم يمالئهم على ظلمهم فهو منِّي وأنا منه.

وهم المعنيّون بقوله صلى الله عليه وآله: سيكون أُمراء بعدي يقولون ما لا يفعلون، و يفعلون ما لا يُؤمرون (مسند أحمد ١: ٤٥٦).

[يستعملهم عثمان وهو أعرف بهم من أيِّ ابن أُنثى وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أنّ فيهم أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنَّة نبيِّه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين(٢) . وفي تمهيد الباقلاني ص ١٩٠ من تقدّم على قوم من المسلمين وهو يرى أنّ فيهم من هو أفضل منه فقد خان الله ورسوله والمسلمين]

فعهد أُولئك الأُغيلمة عهد هلاك أُمَّة محمَّد ودور فسادها، منهم بدأت الفتن وعليهم عادت، فترى الولادة يوم ذاك من طريدٍ لعين إلى وزغٍ مثله، ومن فاسقٍ مهتوك بالذكر الحكيم إلى طليق منافق، ومن شابّ مترف إلى أُغيلمة سفهاء.

وكان للخليفة وراء ذلك كلّه أملٌ بأنّه لو بيده مفاتيح الجنَّة ليعطيها بني أميَّة حتّى يدخلوها من عند آخرهم؛ أخرج أحمد في المسند ١: ٦٢ من طريق سالم بن أبي الجعد قال: دعا عثمان رضي الله عنه ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فيهم عمّار بن ياسر فقال: إنِّي سائلكم وإنِّي أُحبّ أن تصدقوني، نشدتكم الله أتعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يؤثر قريشاً على سائر الناس، ويؤثر بني هاشم على سائر قريش؟ فسكت القوم فقال عثمان رضي الله عنه: لو أنَّ بيدي مفاتيح الجنَّة لأعطيتها بني أميّة حتّى يدخلوا من عند آخرهم. (إسناده صحيحٌ رجاله كلّهم ثقات رجال الصحيح).

____________________

١ - تاريخ الخطيب البغدادي ٢: ١٠٧، ج ٥: ٣٦٢.

٢ - سنن البيهقي ١٠: ١١٨. مجمع الزوائد: ٢١١.

٢٩١

فكأنَّ الخليفة يحسب إنَّ الهرج الموجود في العطاء عنده سوف يتسرَّب معه إلى باب الأجنّة يحابي قومه بالنعيم كما حاباهم في الدنيا بالأموال، فما حظي الخليفة بما أحبَّ لهم في الدنيا يوم طحنهم بكلكله البلا، وأجهزت عليهم المآثم والجرائم، وأمّا الآخرة فإنَّ بينهم وبين الجنَّة لَسدّاً بما اقترفوه من الآثام، فلا أرى الخليفة يحظى بأمنيَّته هنالك؛ ونحن لا نعرف نظريَّة الخليفة في أمر الثواب والعقاب؛ ولا ما يأوّل به الآي الواردة فيهما في الذكر الحكيم، ولا رأيه في الجنَّة والنار وأهلهما، أيطمع كلُّ امرء منهم أن يُدخل جنَّة نعيم؟ أم حسب الذين اجترحوا السيِّئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء؟ كلّا إنَّ الأبرار لفي نعيم وإنّ الفجّار لفي جحيم يصلونها يوم الدين. كلّا إنَّ كتاب الفجّار لفي سجِّين. كلّا لينبذنَّ في الحطمة وما أدراك ما الحطمة؟ نار الله الموقدة التي تطّلع على الأفئدة. أُزلفت الجنَّة للمتقين وبرِّزت الجحيم للغاوين،( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ) .

فهؤلاء الأمويّون لم يكونوا في أمل الخليفة ولا أغنوا عنه شيئاً يوم ضحّى نفسه وجاهه وملكه لأجلهم حتّى قُتل من جرّاء ذلك، ولا أحسب أنهم مغنون عنه شيئاً غداً عند الله يوم لا يغني عنه مالٌ ولا بنون.

[ألا تعجب من خليفة لا يروقه إيثار نبيِّه بني هاشم على سائر قريش وتدعوه عصبيَّته العمياء إلى أن يعارض بمثل هذا التافه المخزي قوله صلى الله عليه وآله فيما أخرجه أحمد: يا معشر بني هاشم والذي بعثني بالحقِّ نبيّا لو أخذت بحلقة الجنَّة ما بدأت إلّا بكم](١) .

- ٤٠ -

تسيير الخليفة أبا ذر إلى الربذة

روى البلاذري: لما أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه، وأعطى الحارث ابن الحَكَم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت الأنصاري مائة ألف درهم جعل أبو ذر يقول: بشِّر الكانزين بعذاب أليم ويتلو قولَ الله عزَّوجلَّ:( وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (٢) فرفع ذلك

____________________

١ - الصواعق ص ٩٥.

٢ - سورة التوبة. آية ٣٤.

٢٩٢

مروان بن الحكم إلى عثمان فأرسل إلى أبي ذر ناتلاً مولاه أن انته عمّا يبلغني عنك فقال: أينهاني عثمان عن قرائة كتاب الله، وعيب من ترك أمر الله؟ فوالله لأن أُرضي الله بسخط عثمان أحبُّ إليَّ وخيرٌ لي من أن أُسخط الله برضاه. فأغضب عثمان ذلك وأحفظه فتصابر وكفَّ؛ وقال عثمان يوماً: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك. فقال أبو ذر: يا ابن اليهوديَّين أتعلّمنا ديننا؟ فقال عثمان: ما أكثر أذاك لي وأولعك بأصحابي؟ إلحق بمكتبك وكان مكتبه بالشام إلّا أنَّه كان يقدم حاجّاً ويسأل عثمان الإذن له في مجاورة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله فيأذن له في ذلك، وإنّما صار مكتبه بالشام لأنَّه قال لعثمان حين رأى البناء قد بلغ سلعاً: إنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إذا بلغ البناء سلعاً فالهرب. فأذن لي آتي الشام فأغزو هناك. فأذن له، وكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها وبعث إليه معاوية بثلاث مائة دينار فقال: إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا؟ قبلتها، وإن كانت صلةً؟ فلا حاجة لي فيها. وبعث إليه حبيب بن مسلمة الفهري بمائتي دينار فقال: أما وجدت أهون عليك منِّي حين تبعث إليَّ بمال؟ وردّها.

وبنى معاوية الخضراء بدمشق فقال: يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله؟ فهي الخيانة، وإن كانت من مالك؟ فهذا الإسراف. فسكت معاوية، وكان أبو ذر يقول: والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سنَّة نبيِّه، والله إنِّي لأرى حقّاً يُطفأ، وباطلاً يُحيى، وصادقاً يُكذِّب، وأثرةً بغير تقى، وصالحاً مستأثراً عليه. فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية: إنَّ أبا ذر مُفسدٌ عليك الشام فتدارك أهله إن كانت لكم به حاجة. فكتب معاوية إلى عثمان فيه فكتب عثمان إلى معاوية: أمّا بعد فاحمل جندباً إليَّ على أغلظ مركب وأوعره فوجّه معاوية مَن سار به الليل والنهار، فلمّا قدم أبو ذر المدينة جعل يقول: تستعمل الصبيان، وتجمي الحمى، وتقرِّب أولاد الطلقاء. فبعث إليه عثمان: إلحق بأيِّ أرض شئت. فقال: بمكّة. فقال: لا. قال: فبيت المقدس. قال: لا. قال: فبأحد المصرين. قال: لا. ولكنِّي مُسيّرك إلى الربذة. فسيِّره إليها فلم يزل بها حتّى مات.

ومن طريق محمّد بن سمعان قال لعثمان: إنَّ أبا ذر يقول: إنَّك أخرجته إلى

٢٩٣

الربذة. فقال: سبحان الله ما كان من هذا شيء قطُّ، وإنِّي لأعرف فضله، وقديم إسلامه وما كنّا نعدُّ في أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وآله أكلَّ شوكة منه.

ومن طريق كميل بن زياد قال: كنت بالمدينة حين أمر عثمان أبا ذر باللحاق بالشام وكنت بها في العام المقبل حين سيَّره إلى الربذة.

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: تكلّم أبو ذر بشيء كرهه(١) عثمان فكذَّبه(٢) فقال: ما ظننت إنَّ أحداً يكذِّبني بعد قول رسول الله صلى الله عليه وآله: ما أقلّت الغبراء وما أطبقت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، ثمَّ سيَّره إلى الربذة فكان أبو ذر يقول: ما ترك الحقُّ لي صديقاً. فلمّا سار إلى الربذة قال: ردّني عثمان بعد الهجرة أعرابيّاً.

قال: وشيَّع عليٌّ أبا ذر فأراد مروان منعه منه فضرب عليٌّ بسوطه بين أُذني راحلته، وجرى بين عليّ وعثمان في ذلك كلام حتّى قال عثمان: ما أنت بأفضل عندي منه. وتغالظا فأنكر الناس قول عثمان ودخلوا بينهما حتّى اصطلحا.

وقد روي أيضاً: إنه لما بلغ عثمان موت أبي ذر بالربذة قال: رحمه الله. فقال عمّار بن ياسر: نعم. فرحمه الله من كلِّ أنفسنا. فقال عثمان: يا عاضّ أير أبيه أتراني ندمت على تسييره؟ «يأتي تمام الحديث في ذكر مواقف عمّار».

ومن طريق ابن حراش الكعبي قال: وجدت أبا ذر بالربذة في مظلّة شعرٍ فقال: ما زالا بي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى لم يترك الحقُّ لي صديقاً.

ومن طريق الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: قلت لأبي ذرّ: ما أنزلك الربذة؟ قال: أنصح لعثمان ومعاوية.

ومن طريق بشر بن حوشب الفزاري عن أبيه قال: كان أهلي بالشربَّة(٣) فجلبت غنماً لي إلى المدينة فمررت بالربذة وإذا بها شيخٌ أبيض الراس واللحية قلت. مَن هذا؟ قالوا: أبو ذرّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وإذا هو في حِفش(٤) ومعه قطعة من غنم فقلت:

____________________

١ - في رواية الواقدي والمسعودي كما يأتي: أنه قال: لسمعت رسول الله يقول: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً الحديث.

٢ - في لفظ الواقدي: قال عثمان: ويلك يا أبا ذر أتكذب على رسول الله؟.

٣ - الشربّة بفتح أوله وثانيه وتشديد الموحّدة: موضع بين السليلة والربذة في طريق مكة.

٤ - الحفش بكسر المهملة: البيت الصغير، أو هو من الشعر.

٢٩٤

والله ما هذا البلد بمحلّة لبني غفار فقال أُخرجت كارهاً. فقال بشر بن حوشب: فحدَّثت بهذا الحديث سعيد بن المسيب فأنكر أن يكون عثمان أخرجه وقال: إنّما خرج أبو ذر إليها راغباً في سكناها(١) .

وأخرج البخاري في صحيحه من حديث زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فقلت لأبي ذر: ما أنزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية:( وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ ) . فقال: نزلت في أهل الكتاب. فقلت: فينا وفيهم. فكتب يشكوني إلى عثمان فكتب عثمان: إقدِم المدينة. فقدمت فكثر الناس علي كأنَّهم لم يروني قبل ذلك فذكر ذلك لعثمان فقال: إن شئت تنحيّت فكنت قريباً. فذلك الذي أنزلني هذا المنزل.

قال ابن حجر في فتح الباري في شرح الحديث: وفي رواية الطبري إنَّهم كثروا عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشام فخشي عثمان على أهل المدينة ما خشيه معاوية على أهل الشام. وقال بعد قوله: إن شئت تنحيّت. في رواية الطبري: تنحَّ قريباً. قال: والله لن أدع ما كنت أقوله. ولابن مردويه: لا أدع ما قلت.

وذكر المسعودي أمر أبي ذر بلفظ هذا نصُّه: إنَّه حضر مجلس عثمان ذات يوم فقال عثمان: أرأيتم من زكّى ماله هل فيه حقٌّ لغيره؟ فقال كعب: لا يا أمير المؤمنين فدفع أبو ذر في صدر كعب وقال له: كذبت يا ابن اليهوديِّ ثمَّ تلا:( لَيْسَ الْبِرّ أَنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنّبِيّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى‏ حُبّهِ ذَوي الْقُرْبَى‏ وَالْيَتَامَى‏ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ الْسّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرّقابِ وَأَقَامَ الصّلاَةَ وَآتَى الزّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ) . الآية(٢) . فقال عثمان: أترون بأساً أن نأخذ مالاً من بيت مال المسلمين فننفقه فيما ينوبنا من أمورنا ونعطيكموه؟ فقال كعب: لا بأس بذلك. فرفع أبو ذر العصا فدفع بها في صدر كعب وقال: يا ابن اليهوديِّ ما أجرأك على القول في ديننا؟ فقال له عثمان: ما أكثر أذاك لي غيّب وجهك عنِّي فقد آذيتني. فخرج أبو ذر إلى الشام فكتب معاوية إلى عثمان: إنّ أبا ذر تجتمع إليه الجموع ولا آمن أن يفسدهم عليك، فإن كان في

____________________

١ - انظر إلى ابن المسيب يكذّب أبا ذر لتبرير عثمان من تسييره ولا يكترث لاستلزامه تكذيب رسول الله صلى الله عليه وآله، وسيوافيك البحث عنه.

٢ - سورة البقرة: ١٧٧.

٢٩٥

القوم حاجة فاحمله إليك. فكتب إليه عثمان يحمله فحمله على بعير عليه قتبٌ يابس معه خمسة من الصقالبة يطيرون به حتّى أتوا به المدينة قد تسلّخت بواطن أفخاذه وكاد أن يتلف، فقيل له: إنَّك تموت من ذلك. فقال: هيهات لن أموت حتّى أُنفى، وذكر جوامع ما نزل به بعدُ ومَن يتولّى دفنه، فأحسن إليه في داره أيّاماً ثمَّ دخل إليه فجلس على ركبتيه وتكلّم بأشياء وذكر الخبر في ولد أبي العاص: إذا بلغوا ثلاثين رجلاً اتَّخذوا عباد الله خولا. ومرَّ في الخبر بطوله وتكلّم بكلام كثير وكان في ذلك اليوم قد أُتي عثمان بتركة عبد الرحمن بن عوف الزهري من المال فنضت البدر حتّى حالت بين عثمان وبين الرجل القائم فقال عثمان: إنّي لأرجو لعبد الرحمن خيراً لأنَّه كان يتصدَّق ويقري الضيف وترك ما ترون. فقال كعب الأحبار: صدقت يا أمير المؤمنين! فشال أبو ذر العصا فضرب بها رأس كعب ولم يشغله ما كان فيه من الألم وقال: يا ابن اليهوديِّ! تقول لرجل مات وترك هذا المال إنَّ الله أعطاه خير الدنيا وخير الآخرة وتقطع على الله بذلك وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ما يسرُّني أن أموت وأدع ما يزن قيراطاً. فقال له عثمان: وارِ عنّي وجهك. فقال: أسير إلى مكّة. قال: لا والله. قال: فتمنعني من بيت ربّي أعبده فيه حتّى أموت؟ قال: أي والله. قال: فإلى الشام. قال: لا والله. قال: البصرة. قال: لا والله فاختر غير هذه البلدان. قال: لا والله ما أختار غير ما ذكرت لك ولو تركتني في دار هجرتي ما أردت شيئاً من البلدان، فسيّرني حيث شئت من البلاد. قال: فإنّي مُسيّرك إلى الربذة. قال: الله أكبر صدق رسول الله صلى الله عليه وآله قد أخبرني بكلّ ما أنا لاقٍ. قال عثمان: وما قال لك؟ قال: أخبرني بأنِّي اُمنع عن مكّة والمدينة وأموت بالربذة ويتولّى مواراتي نفرٌ ممَّن يردون من العراق نحو الحجاز وبعث أبو ذر إلى جمل له فحمل عليه امرأته وقيل ابنته، وأمر عثمان أن لا يتجافاه الناس حتّى يسير إلى الربذة، فلمّا طلع عن المدينة ومروان يسيّره عنها إذ طلع عليه عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه ومعه ابناه وعقيل أخوه وعبد الله بن جعفر وعمّار بن ياسر فاعترض مروان فقال: يا عليُّ إنَّ أمير المؤمنين قد نهى الناس أن يصحبوا أبا ذر في مسيره ويشيِّعوه فإن كنت لم تدر بذلك فقد أعلمتك. فحمل عليه عليُّ بن أبي طالب بالسوط بين أُذني راحلته وقال: تنحَّ نحّاك الله إلى النار: ومضي مع أبي ذر فشيَّعه ثمَّ ودَّعه وانصرف، فلمّا أراد الإنصراف بكى أبو ذر وقال:

٢٩٦

رحمكم الله أهل البيت إذا رأيتك يا أبا الحسن! وولدك ذكرت بكم رسول الله صلى الله عليه وآله فشكا مروان إلى عثمان ما فعل به عليُّ بن أبي طالب فقال عثمان: يا معشر المسلمين! مَن يعذرني من عليّ، ردَّ رسولي عمّار وجَّهته له وفعل كذا والله لنعطينَّه حقّه. فلمّا رجع عليٌّ استقبله الناس(١) فقالوا: إنَّ أمير المؤمنين عليك غضبان لتشييعك أبا ذر. فقال عليٌّ: غضب الخيل على اللجم. ثمَّ جاء فلمّا كان بالعشيِّ جاء إلى عثمان فقال له: ما حملك على ما صنعت بمروان واجترأت عليَّ ورددت رسولي وأمر؟ قال: أمَّا مروان فإنَّه استقبلني يردُّني فرددته عن ردِّي؟ وأمَّا أمرك فلم أردُّه، قال عثمان: أوَلم يبلغك إنِّي قد نهيت الناس عن أبي ذر وعن تشييعه؟ فقال عليٌّ: أوَ كلّ ما أمرتنا به من شيء يرى طاعة لله والحقّ في خلافه اتَّبعنا فيه أمرك؟ بالله لا نفعل. قال عثمان: أقِد مروان. قال: وما أقيده؟ قال: ضربتَ بين أُذني راحلته(٢) قال عليّ: أمّا راحلتي فهي تلك فإن أراد أن يضربها كما ضربت راحلته فليفعل، وأمّا أنا فوالله لئن شتمني لأشتمنَّك أنت مثلها بما لا أكذب فيه ولا أقول إلّا حقّاً. قال عثمان: ولِمَ لا يشتمك إذا شتمته فوالله ما أنت عندي بأفضل منه. فغضب عليُّ بن أبي طالب وقال: إليَّ تقول هذا القول؟ وبمروان تعدلني؟ فأنا والله أفضل منك، وأبي أفضل من أبيك، وأُمِّي أفضل من أُمِّك، وهذه نبلي قد نثلتها وهلمَّ فأقبل بنبلك. فغضب عثمان واحمرَّ وجهه فقام ودخل داره وانصرف عليٌّ فاجتمع إليه أهل بيته ورجالٌ من المهاجرين والأنصار، فلمّا كان من الغد واجتمع الناس إلى عثمان شكا إليهم عليّاً وقال: إنَّه يعيبني ويظاهر من يعيبني يريد بذل أبا ذر وعمّار بن ياسر وغيرهما فدخل الناس بينهما وقال له عليٌّ: والله ما أردت تشييع أبي ذرّ إلّا لله.

وفي رواية الواقدي من طريق صهبان مولى الأسلميِّين قال: رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان فقال له: أنت الذي فعلت ما فعلت؟ فقال له أبو ذر: نصحتك فاستغششتني ونصحت صاحبك فاستغشَّني. فقال عثمان: كذبت ولكنَّك تريد الفتنة وتحبّها قد أنغلت

____________________

١ - هذه الجملة تعرب عن غيبة الإمام عليه السلام عن المدينة المشرفة في تشييع أبي ذر أيّاماً وتقرّب ما قاله الأستاذ عبد الحميد جودت السحار المصري في كتابه (الاشتراكي الزاهد) ص ١٩٢ ومضى علي ورفقائه مع أبي ذر حتّى بلغوا الربذة فنزلوا عن رواحلهم وجلسوا يتحدّثون.

٢ - في العبارة سقط يظهر من الجواب وسيأتي صحيحها بعيد هذا إن شاء الله.

٢٩٧

الشام علينا فقال له أبو ذر: إتَّبع سنَّة صاحبك لا يكن لأحد عليك كلامٌ. قال عثمان: مالك وذلك؟ لا أُمَّ لك قال أبو ذر: والله ما وجدت لي عذراً إلّا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فغضب عثمان وقال: أشيروا عليَّ في هذا الشيخ الكذّاب إمّا أن اضربه أو أحبسه أو أقتله فإنَّه قد فرَّق جماعة المسلمين أو أنفيه من أرض الإسلام. فتكلّم عليٌّ عليه السلام وكان حاضراً وقال: أُشير عليك بما قاله مؤمن آل فرعون: فإن يك كاذباً فعليه كذبه؛ وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم إنَّ الله لا يهدي من هو مسرفٌ كذّاب. قال: فأجابه عثمان بجواب غليظ لا أُحبّ ذكره وأجابه عليٌّ بمثله. قال:

ثمَّ إنَّ عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر ويكلّموه فمكث كذلك أيّاماً ثمَّ أمر أن يؤتى به فأُتي به فلمّا وقف بين يديه قال: ويحك يا عثمان! أما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله ورأيت أبا بكر وعمر؟ هل رأيت هذا هديهم؟ إنّك لتبطش بي بطش الجبّار فقال: أخرج عنّا من بلادنا. فقال أبو ذر: ما أبغض إليَّ جوارك فإلى أين أخرج؟ قال: حيث شئت. قال: فأخرج إلى الشام أرض الجهاد. قال: إنَّما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها؛ أفأردُّك إليها؟ قال: فأخرج إلى العراق. قال: لا. قال: ولِمَ؟ قال: تقدم على قوم أهل شبه وطعن في الأُمّة؟ قال: فأخرج إلى مصر. قال: لا. قال: فإلى أين أخرج؟ قال: حيث شئت. قال أبو ذر. فهو إذن التعرُّب بعد الهجرة أخرج إلى نجد فقال عثمان: الشرف الأبعد أقصى فالأقصى إمض على وجهك هذا ولا تعدونّ الربذة فسر إليها فخرج إليها.

وقال اليعقوبي: وبلغ عثمان أنَّ أبا ذر يقعد في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله ويجتمع إليه الناس فيحدِّث بما فيه الطعن عليه وأنّه وقف بباب المسجد فقال: أيُّها الناس مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري، أنا جندب بن جنادة الربذيّ؛ إنَّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذريَّة بعضها من بعض والله سميع عليم. محمَّد الصفوة من نوح فالأوَّل من إبراهيم والسلالة من إسماعيل والعترة الهادية من محمَّد، إنَّه شرف شريفهم واستحقوا الفضل في قوم هم فينا كالسَّماء المرفوعة، وكالكعبة المستورة، أو كالقبلة المنصوبة، أو كالشمس الضاحية، أو كالقمر الساري، أو كالنجوم الهادية، أو كالشجر الزيتونيَّة أضاء زيتها وبورك زيدها(١) ومحمَّد

____________________

١ - ولعلّ الصحيح زندها. كما في بعض المصادر.

٢٩٨

وارث علم آدم وما فضلت به النبيّون إلى أن قال:

وبلغ عثمان أنَّ أبا ذر يقع فيه ويذكر ما غيَّر وبدَّل من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسنن أبي بكر وعمر فسيّره إلى الشام إلى معاوية، وكان يجلس في المجلس فيقول كما كان يقول ويجتمع إليه الناس حتّى كثر من يجتمع إليه ويسمع منه، وكان يقف على باب دمشق إذا صلّى صلاة الصبح فيقول: جاءت القطار تحمل النار، لعن الله الآمرين بالمعروف والتاركين له، ولعن الله الناهين عن المنكر والآتين له. فقال:

وكتب معاوية إلى عثمان إنَّك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر فكتب إليه أن احمله على قتب بغير وطاء فقدم به إلى المدينة وقد ذهب لحم فخذيه، فلمّا دخل إليه وعنده جماعةٌ قال: بلغني أنك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إذا كملت بنو أميَّة ثلاثين رجلاً اتّخذوا بلاد الله دولا؛ وعباد الله خولا؛ ودين الله دغلا؟ فقال: نعم سمعت رسول الله يقول ذلك. فقال لهم: أسمعتم رسول الله يقول ذلك؟ فبعث إلى عليِّ بن أبي طالب فأتاه فقال: يا أبا الحسن! أسمعت رسول الله يقول ما حكاه أبو ذر؟ وقصَّ عليه الخبر فقال عليٌّ: نعم. قال: فكيف تشهد؟ قال لقول رسول الله: ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر. فلم يقم بالمدينة إلّا أيّاماً حتّى أرسل إليه عثمان: والله لتخرجنَّ عنها، قال: أتُخرجني من حرم رسول الله؟ قال: نعم وأنفك راغم، قال: فإلى مكّة؟ قال: لا. قال: فإلى البصرة؟ قال: لا. قال: فإلى الكوفة؟ قال: لا. ولكن إلى الربذة التي خرجت منها حتّى تموت فيها. يا مروان! أخرجه ولا تدع أحداً يكلّمه حتّى يخرج. فأخرجه على جمل ومعه امرأته وابنته فخرج عليٌّ والحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعمّار بن ياسر ينظرون فلمّا رأى أبو ذر عليّاً قام إليه فقبّل يده ثمَّ بكى وقال: إنِّي إذا رأيتك ورأيت ولدك ذكرت قول رسول الله فلم أصبر حتّى أبكي. فذهب عليٌّ يكلّمه؛ فقال مروان: إنَّ أمير المؤمنين قد نهى أن يكلّمه أحدٌ. فرفع عليٌّ السوط فضرب وجه ناقة مروان وقال: تنحَّ نحّاك الله إلى النار. ثمَّ شيعه وكلّمه بكلام يطول شرحه، وتكلّم كلُّ رجل من القوم وانصرفوا وانصرف مروان إلى عثمان، فجرى بينه وبين عليّ في هذا بعض الوحشة وتلاحيا كلاماً.

وأخرج ابن سعد من طريق الأحنف بن قيس قال: أتيت المدينة ثمَّ أتيت الشام

٢٩٩

فجمَّعت فإذا أنا برجل لا ينتهي إلى سارية إلّا خرَّ أهلها يصلّي ويخفُّ صلاته. قال: فجلست إليه فقلت له: يا عبد الله من أنت؟ قال: أنا أبو ذر. فقال لي: فأنت من أنت؟ قال: قلت أنا الأحنف بن قيس. قال: قم عنِّي لا أعدك بشرّ. فقلت له: كيف تعدني بشرّ؟ قال: إنَّ هذا يعني معاوية نادى مناديه ألّا يجالسني أحدٌ.

وأخرج أبو يعلى من طريق ابن عبّاس قال: استأذن أبو ذر عثمان فقال: إنَّه يؤذينا فلمّا دخل قال له عثمان: أنت الذي تزعم إنَّك خيرٌ من أبي بكر وعمر؟ قال: لا، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إنَّ أحبّكم إليَّ وأقربكم منِّي من بقي على العهد الذي عاهدته عليه وأنا باق على عهده(١) قال: فأمره أن يلحق بالشام وكان يحدِّثهم ويقول: لا يبيتنَّ عند أحدكم دينارٌ ولا درهمٌ إلّا ما ينفقه في سبيل الله أو يعدُّه لغريم. فكتب معاوية إلى عثمان: إن كان لك بالشام حاجة فابعث إلى أبي ذر. فكتب إليه عثمان: أن أقدم عليَّ فقدم.

راجع الأنساب ٥: ٥٢ - ٥٤، صحيح البخاري في كتابي الزكاة والتفسير، طبقات ابن سعد ٤: ١٦٨، مروج الذهب ١: ٤٣٨، تاريخ اليعقوبي ٢: ١٤٨، شرح ابن أبي الحديد ١: ٢٤٠ - ٢٤٢ فتح الباري ٣: ٢١٣، عمدة القاري ٤: ٢٩١.

كلمة أمير المؤمنين

لما أُخرج أبو ذر إلى الربذة

يا أبا ذر إنَّك غضبتَ لله فارج مَن غضبت له، إنَّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عمّا منعوك، وستعلم مَن الرابح غَداً، والأكثر حسداً، ولو إنَّ السَّماوات والأرضين كانتا على عبد رتقاً ثمَّ اتّقى الله لجعل الله له منهما مخرجاً، لا يؤنسنَّك إلّا الحقّ، ولا يوحشنّك إلّا الباطل، فلو قبلت دُنياهم لأحبّوك، ولو قرضت منها لأمَّنوك(٢) .

ذكر ابن أبي الحديد في الشرح ٢: ٣٨٧ - ٣٧٥ تفصيل قصَّة أبي ذر ورآه

____________________

١ - حديث العهد أخرجه أحمد في مسنده.

٢ - نهج البلاغة ١: ٢٤٧.

٣٠٠