الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٨

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 397

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
تصنيف: الصفحات: 397
المشاهدات: 139982
تحميل: 5988


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 139982 / تحميل: 5988
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مشهوراً متضافراً وإليك نصُّه قال:

واقعة أبي ذر وإخراجه إلى الربذة أحد الأحداث التي نقمت على عثمان وقد روى هذا الكلام أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة عن عبد الرزاق عن أبيه عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: لما أُخرج أبو ذر إلى الربذة أمر عثمان فنودي في النّاس: أن لا يُكلّم أحدٌ أبا ذر ولا يشيّعه، وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به فخرج به وتحاماه الناس إلّا عليّ بن أبي طالب عليه السلام وعقيلاً أخاه وحسناً وحسيناً عليهما السَّلام وعمّاراً فإنَّهم خرجوا معه يشيّعونه فجعل الحسن عليه السلام يُكلّم أبا ذر فقال له مروان: أيهاً يا حسن! ألا تعلم أنَّ أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل؟ فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك. فحمل عليٌّ عليه السلام على مروان فضرب بالسوط بين أُذني راحلته وقال: تنحَّ نحاك الله إلى النار. فرجع مروان مغضباً إلى عثمان فأخبره الخبر فتلظّى على عليّ عليه السلام ووقف أبو ذر فودَّعه القوم ومعه ذكوان مولى أُم هاني بنت أبي طالب قال ذكوان: فحفظت كلام القوم وكان حافظاً فقال عليٌّ عليه السلام:

يا أبا ذر! إنَّك غضبت لله أنَّ القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فامتحنوك بالقلى ونفوك إلى القلا، والله لو كانت السَّموات والأرض على عبد رتقاً ثمَّ اتَّقى الله لجعل له منها مخرجاً؛ يا أبا ذر! لا يؤنسنَّك إلّا الحقّ، ولا يوحشنَّك إلّا الباطل.

ثمَّ قال لأصحابه: ودِّعوا عمَّكم. وقال لعقيل: ودِّع أخاك فتكلّم عقيل فقال: ما عسى ما نقول يا أبا ذر؟! وأنت تعلم أنّا نحبّك وأنت تحبّنا، فاتَّق الله فإنَّ التقوى نجاة، واصبر فإنَّ الصبر كرم، واعلم أنَّ استثقالك الصبر من الجزع، واستبطاءك العافية من اليأس، فدع الياس والجزع.

ثمَّ تكلّم الحسن فقال: يا عمّاه لولا إنَّه لا ينبغي للمودّع أن يسكت وللمشيّع أن ينصرف لقصر الكلام وإن طال الأسف، وقد أتى من القوم إليك ما ترى، فضع عنك الدنيا بتذكّر فراغها، وشدَّة ما اشتدَّ منها برجاء ما بعدها، واصبر حتّى تلقى نبيَّك صلى الله عليه وآله وهو عنك راضٍ.

ثمَّ تكلّم الحسين عليه السلام فقال: يا عمّاه إنَّ الله تعالى قادرٌ أن يغيّر ما قد ترى، الله كلّ يوم هو في شأن، وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك، فما أغناك عمّا منعوك، وأحوجهم.

٣٠١

إلى ما منعتهم؟ فاسأل الله الصبر والنصر، واستعذبه من الجشع والجزع، فإنَّ الصبر من الدين والكرم، وإنَّ الجشع لا يُقدم رزقاً، والجزع لا يؤخّر أجلاً.

ثمّ تكلّم عمّار مغضباً فقال: لا آنس الله من أوحشك، ولا آمن من أخافك، أما و الله لو أردت دنياهم لأمّنوك، ولو رضيت أعمالهم لأحبّوك، وما منع الناس أن يقولوا بقولك إلّا الرضا بالدنيا والجزع من الموت، ومالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه، والملك لمن غلب، فوهبوا لهم دينهم ومنحهم القوم دنياهم، فخسروا الدنيا والآخرة، إلّا ذلك هو الخسران المبين.

فبكى أبو ذر رحمه الله وكان شيخاً كبيراً وقال: رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة! إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلى الله عليه وآله، مالي بالمدينة سكنٌ ولا شجن، غيركم، إنّي ثقلتُ على عثمان بالحجاز كما ثقلتُ على معاوية بالشام، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين(١) فافسد الناس عليهما فسيِّرني إلى بلد ليس لي به ناصرٌ ولا دافع إلّا الله، والله ما أُريد إلّا الله صاحباً، وما أخشى مع الله وحشة.

ورجع القوم إلى المدينة فجاء عليٌّ عليه السلام إلى عثمان فقال له: ما حملك على ردِّ رسولي وتصغير أمري؟ فقال عليٌّ عليه السلام: أمّا رسولك فأراد أن يردَّ وجهي فرددته، وأمَّا أمرك فلم أصغّره، قال: أما بلغت نهيي عن كلام أبي ذر؟ قال: أو كلّما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه؟ قال عثمان: أقد مروان من نفسك. قال: مِمَّ ذا؟ قال: من شتمه وجذب راحلته. قال: أمَّا راحلته فراحلتي بها، وأمَّا شتمه إيّاي فوالله لا يشتمني شتمة إلّا شتمتك مثلها لا أكذب عليك. فغضب عثمان وقال: لِمَ لا يشتمك؟ كأنَّك خيرٌ منه؟ قال عليٌّ: أي والله ومنك. ثمَّ قام فخرج فأرسل عثمان إلى وجوه المهاجرين والأنصار وإلى بني أُميَّة يشكو إليهم عليّاً عليه السلام فقال القوم: أنت الوالي عليه وإصلاحه أجمل. قال: وددت ذاك. فأتوا عليّاً عليه السلام فقالوا: لو اعتذرت إلى مروان وأتيته. فقال: كلّا أمّا مروان فلا آتيه ولا أعتذر منه، ولكن إن أحبَّ عثمان أتيته. فرجعوا إلى عثمان فأخبروه فأرسل عثمان إليه فأتاه ومعه بنو هاشم فتكلّم عليٌّ عليه السلام فحمد الله وأثنى عليه

____________________

١ - يعني مصر والبصرة، كان والي مصر عبد الله بن سعيد بن أبي سرح أخا عثمان من الرضاعة وكان على البصرة عبد الله بن عامر ابن خاله كما مرَّ ص ٢٩٠.

٣٠٢

ثمَّ قال: أمّا ما وجدت عليَّ فيه من كلام أبي ذر ووداعه فوالله ما أردت مساءتك ولا الخلاف عليك ولكن أردت به قضاء حقِّه، وأمَّا مروان فإنَّه اعترض يريد ردِّي عن قضاء حقِّ الله عزَّوجلَّ فرددته، ردّ مثلي مثله، وأمَّا ما كان منّي إليك فإنَّك أغضبتني فأخرج الغضب منِّي ما لم أرده.

فتكلّم عثمان فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال: أمَّا ما كان منك إليَّ فقد وهبته لك، وأمَّا ما كان منك إلى مروان فقد عفى الله عنك، وأمَّا ما حلفت عليه فأنت البرُّ الصادق، فادنُ يدك. فأخذ يده فضمَّها إلى صدره، فلمّا نهض قالت قريش وبنو أميَّة لمروان: أأنت رجلٌ جبهك عليٌّ وضرب راحلتك؟ وقد تفانت وائل في ضرع ناقة، وذبيان وعبس في لطمة فرس، والأوس والخزرج في نِسعة(١) أفتحمل لعليّ عليه السلام ما أتاه اليك؟ فقال مروان: والله لو أردت ذلك لما قدرت عليه.

فقال ابن أبي الحديد: واعلم أنَّ الذي عليه أكثر أرباب السيرة وعلماء الأخبار والنقل: إنَّ عثمان نفى أبا ذر أوَّلاً إلى الشام ثمَّ استقدمه إلى المدينة لما شكى منه معاوية، ثمَّ نفاه من المدينة إلى الربذة لَمّا عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام، أصل هذه الواقعة: إنَّ عثمان لما أعطى مروان بن الحكم وغيره بيوت الأموال واختصَّ زيد بن ثابت بشيء منها جعل أبو ذر يقول بين الناس وفي الطرقات والشوارع: بشِّر الكانزين(٢) بعذاب أليم، ويرفع بذلك صوته ويتلو قوله تعالى:( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) . فرفع ذلك إلى عثمان مراراً وهو ساكتٌ ثمَّ إنَّه أرسل إليه مولى من مواليه أن انته عمّا بلغني عنك فقال أبو ذر: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى، وعيب من ترك أمر الله تعالى؟ فوالله لإن أُرضي الله بسخط عثمان أحبّ إليَّ وخيرٌ لي من أن أُسخط الله برضا عثمان، فأغضب عثمان ذلك واحفظ فتصابر وتماسك إلى أن قال عثمان يوماً والناس حوله: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال شيئاً قرضاً فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك. فقال أبو ذر: يا ابن اليهوديَّين أتعلّمنا ديننا؟ فقال عثمان: قد كثر أذاك لي وتولّعك بأصحابي، إلحق بالشام. فأخرجه إليها فكان

____________________

١ - النسعة بكسر النون: حبل عريض طويل تشدّ به الرحال.

٢ - في النسخة: الكافرين. والصحيح ما ذكرناه كما مرَّ عن البلاذري.

٣٠٣

أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها فبعث إليه معاوية يوماً ثلثمائة دينار فقال أبو ذر لرسوله: إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا؟ اقبلها، وإن كانت صلة؟ فلا حاجة لي فيها. وردَّها عليه، ثمَّ بنى معاوية الخضراء بدمشق فقال أبو ذر: يا معاوية! إن كانت هذه من مال الله؟ فهي الخيانة، وإن كانت من مالك؟ فهي الإسراف، وكان أبو ذر يقول بالشام، والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سنَّة نبيِّه صلى الله عليه وآله، والله إنِّي لأرى حقّاً يُطفأ، وباطلاً يُحيا، وصادقاً مكذَّباً، وأثرةً بغير تقى، وصالحاً مستأثراً عليه. فقال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية: إنَّ أبا ذر لمفسدٌ عليكم الشام فتدارك أهله إن كان لك فيه حاجةٌ.

وروى شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب السفيانيَّة عن جلام بن جندل الغفاري قال: كنت غلاماً لمعاوية على قنسرين والعواصم في خلافة عثمان فجئت إليه يوماً أسأله عن حال عملي إذ سمعت صارخاً على باب داره يقول: أتتكم القطار بحمل النار، اللهمَّ العن الآمرين بالمعروف والتاركين له، اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له. فازبأرَّ(١) معاوية وتغيَّر لونه وقال: يا جلام! أتعرف الصارخ؟ فقلت: اللهمَّ لا. قال: من عَذيري من جندب بن جنادة يأتينا كلَّ يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت ثمَّ قال: ادخلوه عليّ فجئ بأبي ذر قومٌ يقودونه حتّى وقف بين يديه فقال له معاوية: يا عدوَّ الله وعدوَّ رسوله! تأتينا في كلِّ يوم فتصنع ما تصنع، أما إنّي لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمَّد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك ولكنِّي استأذن فيك. قال جلام: وكنت أُحبُّ أن أرى أبا ذر لأنَّه رجلٌ من قومي فالتفت إليه فإذا رجلٌ أسمر ضرب(٢) من الرّجال خفيف العارضين في ظهره حناء فأقبَل على معاوية وقال: ما أنا بعدوّ لله ولا لرسوله، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله، أظهرتما الإسلام وأبطنتُما الكُفر، ولقد لعنك رسول الله صلى الله عليه وآله ودعا عليك مرّات أن لا تشبع، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إذا ولي الأُمَّة الأعين(٣) الواسع البلعوم الذي يأكل

____________________

١ - ازبأر الرجل ازبئراراً: تهيأ للشرّ.

٢ - الضرب: الرجل الماضي الندب.

٣ - في لفظ الحديث سقط كما لا يخفى.

٣٠٤

ولا يشبع فلتأخذ الأُمَّة حذرها منه(١) . فقال معاوية: ما أنا ذاك الرجل. قال أبو ذر: بل أنت ذلك الرجل أخبرني بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسمعته يقول وقد مررت به: اللهمَّ العنه ولا تشبعه إلّا بالتراب. وسمعته صلى الله عليه وآله يقول: إست معاوية في النار. فضحك معاوية وأمر بحبسه وكتب إلى عثمان فيه فكتب عثمان إلى معاوية: أن احمل جندباً إليَّ على أغلظ مركب وأوعره. فوجَّه به مع من سار به الليل والنهار وحمله على شارف ليس عليها إلّا قتب حتّى قدم به المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد فلمّا قدم بعث إليه عثمان: الحق بأيِّ أرض شئت قال: بمكّة. قال: لا. قال: بيت المقدس. قال: لا. قال: بأحد المصرين. قال: لا، ولكني مسيِّرك إلى الربذة فسيَّره إليها فلم يزل بها حتّى مات.

وفي رواية الواقدي: أنَّ أبا ذر لما دخل على عثمان قال له:

لا أنعم الله بقَين عينا

نعم ولا لقاه يوماً زينا

تحيّة السخط إذا التقينا

فقال أبو ذر: ما عرفت إسمي قيناً قطُّ. وفي رواية أُخرى: لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب. فقال أبو ذر: أنا جندب وسمّاني رسول الله صلى الله عليه وآله عبد الله فاخترت اسم رسول لله صلى الله عليه وآله الذي سمّاني به على اسمي، فقال له عثمان: أنت الذي تزعم إنا نقول: يد الله مغلولة وإنَّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء؟ فقال أبو ذر: لو كنتم لا تقولون هذا؟ لأنفقتم مال الله على عباده، ولكنِّي أشهد أنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً جعلوا مال الله دولاً، وعباده خولاً، ودينه دخلاً. فقال عثمان لمن حضر: اسمعتوها من رسول الله؟ قالوا: لا. قال عثمان: ويلك أبا ذر! أتكذب على رسول الله؟ فقال أبو ذر لمن حضر: أما تدرون أنِّي صدقت؟ قالوا: لا والله ما ندري. فقال عثمان: ادعوا لي عليّاً. فلمّا جاء قال عثمان لأبي ذر: اقصص عليه حديثك في بني أبي العاص. فأعاده فقال عثمان لعليٍّ عليه السلام: أسمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: لا وقد صدق أبو ذر فقال: كيف عرفت صدقه؟ قال: لأنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما أظلّت

____________________

١ - وفي حديث علي عليه السلام: لا يذهب أمر هذه الأمة الأعلى رجل واسع السرم، ضخم البلعوم.

ذكره ابن الأثير في النهاية ١: ١١٢، لسان العرب ١٤: ٣٢٢، تاج العروس ٨: ٢٠٦.

٣٠٥

الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر. فقال من حضر: أمّا هذا فسمعناه كلّنا من رسول الله. فقال أبو ذر: أُحدِّثكم إنّي سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله فتتَّهموني؟ ما كنت أظنُّ أنِّي أعيش حتّى أسمع هذا من أصحاب محمَّد صلى الله عليه وآله.

وروى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان مولى الأسلميين قال: رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان فقال له: أنت الذي فعلت وفعلت؟ فقال أبو ذر: نصحتك فاستغششتني ونصحت صاحبك فاستغشَّني قال عثمان: كذبت ولكنَّك تريد الفتنة وتحبّها قد انغلت الشام علينا قال له أبو ذر: إتَّبع سنَّة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلامٌ فقال عثمان: مالك وذل؟ لا أُمَّ لك. قال أبو ذر: والله ما وجدت لي عذراً إلّا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. فغضب عثمان وقال: أشيروا عليَّ في هذا الشيخ الكذّاب، إمَّا أن أضربه أو أحبسه أو أقتله فإنَّه قد فرَّق جماعة المسلمين، أو أنفيه من أرض الإسلام. فتكلّم عليٌّ عليه السلام وكان حاضراً فقال: أُشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون فإن يك كاذباً؟ فعليه كذبه؛ وإن يك صادقاً؟ يصبكم بعض الذي يعدكم؛ إنَّ الله يهدي من هو مسرفٌ كذّاب. فأجابه عثمان بجواب غليظ وأجابه عليٌّ عليه السلام بمثله ولم نذكر الجوابين تذمّماً منهما.

قال الواقدي: ثمَّ إنَّ عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر ويكلّموه فمكث كذلك أيّاماً ثمَّ أُتي به فوقف بين يديه فقال أبو ذر: ويحك يا عثمان! أما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله؟ ورأيت أبا بكر وعمر؟ هل هديك كهديهم؟ أما إنَّك لتبطش بي بطش جبّار. فقال عثمان: أخرج عنّا من بلادنا. فقال أبو ذر: ما أبغض إليَّ جوارك فإلى أين أخرج؟ قال: حيث شئت. قال: أخرج إلى الشام أرض الجهاد. قال: إنَّما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها، أفأردّك إليها؟ قال: أفأخرج إلى العراق؟ قال: لا إنَّك إن تخرج إليها تقدم على قوم أُولي شقَّة وطعن على الأئمَّة والولاة. قال: أفأخرج إلى مصر؟ قال: لا، قال: فإلى أين أخرج؟ قال: إلى البادية. قال أبو ذر: أصير بعد الهجرة أعرابيّاً؟ قال: نعم. قال أبو ذر: فأخرج إلى بادية نجد. قال عثمان: بل إلى الشرق الأبعد أقصى فأقصى امض على وجهك هذا فلا تَعدونَّ الربذة فخرج إليها.

وروى الواقدي أيضاً عن مالك بن أبي الرجال عن موسى بن ميسرة: إنَّ أبا الأسود

٣٠٦

الدؤلي قال: كنت أُحبُّ لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذة فجئته فقلت له: ألا تخبرني أخرجت منا المدينة طائعاً؟ أم أُخرجت كرهاً؟ فقال كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم فأُخرجت إلى المدينة فقلت: دار هجرتي وأصحابي، فأُخرجت من المدينة إلى ما ترى، ثمَّ قال: بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إذ مرَّ بي عليه السلام فضربني برجله وقال: لا أراك نائماً في المسجد. فقلت: بابي أنت وأمِّي غلبتني عيني فنمت فيه. قال: فكيف تصنع إذا أخرجوك منه؟ قلت: إذا الحق بالشام فإنَّها أرض مقدَّسة وأرض الجهاد. قال: فكيف تصنع إذا أُخرجت منها؟ قلت: أرجع إلى المسجد. قال: فكيف تصنع إذا أخرجوك منه؟ قلت: آخذ سيفي فأضربهم به فقال: ألا أدلُّك على خير من ذلك؟ انسق معهم حيث ساقوك وتسمع وتطيع. فسمعت وأطعت و أنا أسمع وأطيع، والله ليلقينَّ الله عثمان وهو آثمٌ في جنبي.

ثمَّ ذكر ابن أبي الحديد الخلاف في أمر أبي ذر وحكى عن أبي علي حديث البخاري الذي أسلفناه ص ٢٩٥ فقال: ونحن نقول: هذه الأخبار وإن كانت قد رويت لكنَّها ليست في الاشتهار والكثرة كتلك الأخبار، والوجه أن يقال في الإعتذار عن عثمان و حسن الظنِّ بفعله: إنَّه خاف الفتنة واختلاف كلمة المسلمين فغلب على ظنِّه إنَّ إخراج أبي ذر إلى الربذة أحسم للشغب وأقطع لأطماع من يشرئبُّ إلى شقِّ العصا، فأخرجه مراعاةً للمصلحة ومثل ذلك يجوز للإمام، هكذا يقول أصحابنا المعتزلة وهو الأليق بمكارم الأخلاق فقد قال الشاعر:

إذا ما أتت من صاحب لك زلَّة

فكن أنت محتالاً لزلَّته عذرا

وإنَّما يتأوَّل أصحابنا لمن يحتمل حاله التأويل كعثمان، فأمَّا من لم يحتمل حاله التأويل وإن كانت له صحبةٌ سالفةٌ كمعاوية وأضرابه فإنَّهم لا يتأوَّلون لهم، إذا كانت أفعالهم وأحوالهم لا وجه لتأويلها ولا تقبل العلاج والإصلاح. انتهي.

من المستصعب جدّاً التفكيك بين الخليفتين وبين أعمالهما، فإنَّهما من شجرةٍ واحدة، وهما في العمل صنوان، لا يشذُّ أحدهما عن الآخر، فتربّص حتّى حين، وسنوقفك على جليَّة الحال.

٣٠٧

هلمّ معي إلى نظارة التنقيب

قال الأميني: هل تعرف موقف أبي ذر الغفاري من الإيمان، وثباته على المبدأ، ومحلّه من الفضل، ومبلغه من العلم، ومقامه من الصدق، ومُبوّأه من الزهد، ومُرتقاه من العظمة، وخشونته في ذات الله، ومكانته عند صاحب الرسالة الخاتمة؟ فإن كنت لا تعرف؟ فإلى الملتقى.

تعبده قبل البعثة. سبقه في الاسلام. ثباته على المبدأ

١ - أخرج ابن سعد في الطبقات ٤، ١٦١ من طريق عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر. صلّيت قبل الإسلام قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاث سنين. فقلت: لمن؟ قال. لله. فقلت: أين توجَّه؟ قال: أتوجَّه حيث يوجّهني الله.

وأخرج من طريق أبي معشر نجيح قال: كان أبو ذر يتألَّه في الجاهليَّة ويقول: لا إله إلّا الله، ولا يعبد الأصنام، فمرَّ عليه رجلٌ من أهل مكّة بعد ما أُوحي إلى النبيِّ صلى الله عليه وآله فقال: يا أبا ذر! إنَّ رجلاً بمكّة يقول مثل ما تقول: لا إله إلّا الله. ويزعم إنَّه نبيٌّ. وذكر حديث إسلامه ص ١٦٤.

وفي صحيح مسلم في المناقب ٧: ١٥٣، بلفظ ابن سعد الأوَّل، وفي ص ١٥٥ بلفظ: صلّيت سنتين قبل مبعث النبيِّ، قال: قلت: فأين كنت توجّه؟ قال: حيث و وجّهني الله.

وفي لفظ أبي نعيم في الحلية ١: ١٥٧: يا ابن أخي صلّيت قبل الإسلام بأربع سنين.

وذكره ابن الجوزي في صفوة الصفوة ١: ٢٣٨.

[وفي حديث أخرجه ابن عساكر في تاريخه ٧: ٢١٨: أخذ أبو بكر بيد أبي ذر وقال: يا أبا ذر! هل كنت تتألّه في جاهليَّتك؟ قال: نعم لقد رأيتني أقوم عند الشمس فما أزال مصلّياً حتّى يؤذيني حرّها فأخرّ كأنِّي خفاء، فقال: فأين كنت تتوجَّه؟ قال: لا أدري إلّا حيث وجّهني الله.

٢ - أخرج ابن سعد في الطبقات ٤: ١٦١ من طريق أبي ذر قال: كنت في الإسلام خامساً. وفي لفظ أبي عمر وابن الأثير: أسلم بعد أربعة. وفي لفظ آخر. يقال: أسلم بعد ثلاثة. ويقال: بعد أربعة. وفي لفظ الحاكم: كنت ربع الإسلام، أسلم قبلي ثلاثة نفر

٣٠٨

وأنا الرابع. وفي لفظ أبي نعيم: كنت رابع الاسلام، أسلم قبلي ثلاثة وأنا الرابع. وفي لفظ المناوي: أنا رابع الإسلام. وفي لفظ ابن سعد من طريق ابن أبي وضّاح البصري: كان إسلام أبي ذر رابعاً أو خامساً.

راجع حلية الأولياء ١: ١٥٧، مستدرك الحاكم ٣: ٣٤٢، الاستيعاب ١: ٨٣، ج ٢: ٦٦٤، أُسد الغابة ٥: ١٨٦، شرح الجامع الصغير للمناوي ٥: ٤٢٣، الإصابة ٤: ٦٣.

٣ - أخرج ابن سعد في الطبقات ٤: ١٦١ من طريق أبي ذر قال: كنت أوَّل من حيّاه صلى الله عليه وآله وسلم بتحيَّة الإسلام فقلت: السّلام عليك يا رسول الله! فقال: وعليك ورحمة الله. وفي لفظ أبي نعيم: انتهيت إلى النبيِّ صلى الله عليه وآله حين قضى صلاته فقلت: السَّلام عليك فقال: وعليك السَّلام.

وأخرجه مسلم في «المناقب» من الصحيح ٧: ١٥٤، ١٥٥، وأبو نعيم في «الحلية» ١: ١٥٩، وأبو عمر في «الاستيعاب» ٢: ٦٦٤.

٤ - أخرج ابن سعد والشيخان في الصحيحين من طريق ابن عبّاس واللفظ للأوَّل قال: لما بلغه أنَّ رجلاً خرج بمكّة يزعم إنَّه نبيَّ أرسل أخاه فقال: إذهب فائتني بخبر هذا الرجل وبما تسمع منه. فانطلق الرجل حتّى أتى مكّة فسمع من رسول الله صلى الله عليه وآله فرجع إلى أبي ذر فأخبره إنَّه: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويأمر بمكارم الأخلاق فقال أبو ذر: ما شفيتني. فخرج أبو ذر ومعه شنَّة فيها ماءه وزاده حتّى أتى مكّة ففرق أن يسأل أحداً عن شيء ولما يلق رسول الله صلى الله عليه وآله فأدركه الليل فبات في ناحية المسجد فلمّا اعتمّ مرَّ به عليٌّ فقال: ممّن الرجل؟ قال: رجلٌ من بني غفار. قال: قم إلى منزلك قال: فانطلق به إلى منزله ولم يسأل واحدٌ منهما صاحبه عن شيء وغدا أبو ذر يطلب فلم يَلقه وكره أن يسأل أحداً عنه، فعاد فنام حتّى أمسى فمرَّ به عليٌّ فقال: أما آن للرجل أن يعرف منزله؟ فانطلق به فبات حتّى أصبح لا يسأل واحدٌ منهما صاحبه عن شيء فأصبح اليوم الثالث فأخذ على عليّ لئن أفشي إليه الذي يريد ليكتمنَّ عليه وليسترنّه، ففعل فأخبره إنَّه بلغه خروج هذا الرجل يزعم إنَّه نبيّ فأرسلت أخي ليأتيني بخبره وبما سمع منه فلم يأتيني بما يشفيني من حديثه فجئت بنفسي لألقاه، فقال له عليٌّ إنِّي غاد فاتَّبع أثري

٣٠٩

فإنِّي إن رأيتُ ما أخاف عليك إعتللت بالقيام كأنّي اُهريق الماء فآتيك، وإن لم أر أحداً فاتَّبع أثري حتّى تدخل حيث أدخل. ففعل حتّى دخل على أثر عليّ على النبيِّ صلى الله عليه وآله فأخبره الخبر وسمع قول رسول الله صلى الله عليه وآله فأسلم من ساعته ثمَّ قال: يا نبيَّ الله ما تأمرني؟ قال: ترجع إلى قومك حتّى يبلغك أمري. قال: فقال له: والذي نفسي بيده لا أرجع حتّى أصرخ بالإسلام في المسجد. قال: فدخل المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنَّ محمَّداً عبده ورسوله. قال: فقال المشركون: صبأ الرجل، صبأ الرجل، فضربوه حتّى صرع فأتاه العبّاس فأكبَّ عليه وقال: قتلتم الرجل يا معشر قريش! أنتم تجّار وطريقكم على غفار فتريدون أن يقطع الطريق فأمسكوا عنه. ثمَّ عاد اليوم الثاني فصنع مثل ذلك ثمَّ ضربوه حتّى صُرع فأكبَّ عليه العبَّاس وقال لهم مثل ما قال في أوَّل مرَّة فأمسكوا عنه.

وذكر ابن سعد في حديث إسلامه: ضربه لإسلامه فتيةٌ من قريش فجاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله! أمّا قريش فلا أدعهم حتّى أثأر منهم، ضربوني، فخرج حتّى أقام بعسفان وكلّما أقبلت عِيرٌ لقريش يحملون الطعام ينفّر لهم على ثنيَّة غزال فتلقّى أحمالها فجمعوا الحنَط فقال لقومه: لا يمسُّ أحدٌ حبَّة حتّى تقولوا: لا إله إلّا الله. فيقولون: لا إله إلّا الله، ويأخذون الغرائر.

راجع طبقات ابن سعد ٤: ١٦٥، ١٦٦، صحيح البخاري كتاب المناقب باب إسلام أبي ذر ٦: ٢٤، صحيح مسلم كتاب المناقب ٧: ١٥٦، دلائل النبوَّة لأبي نعيم ٢: ٨٦، حلية الأولياء له ١: ١٥٩، مستدرك الحاكم ٣: ٣٣٨، الإستيعاب ٢: ٦٦٤.

وأخرج أبو نعيم في الحلية ١: ١٥٨ من طريق ابن عبّاس عن أبي ذر قال: أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وآله بمكّة فعلّمني الإسلام وقرأت من القرآن شيئاً، فقلت: يا رسول الله! إنِّي أُريد أن أُظهر ديني. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنِّي أخاف عليك أن تُقتل. قلت: لا بدَّ منه وإن قُتلت. قال: فسكت عنِّي فجئت وقريش حلق يتحدَّثون في المسجد فقلت أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله. فانتقضت الحلق فقاموا فضربوني حتّى تركوني كأنِّي نصب أحمر، وكانوا يرون إنَّهم قد قتلوني فأفقت فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأى ما بي من الحال فقال لي: ألم أنهك. فقلت: يا رسول الله! كانت حاجة في

٣١٠

نفسي فقضيتها، فأقمت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إلحق بقومك فإذا بلغك ظهور فأتني.

وأخرج من طريق عبد الله بن الصامت قال: قال لي أبو ذر رضي الله عنه: قدمت مكّة فقلت: أين الصابئ؟ فقالوا: الصابئ الصابئ. فأقبلوا يرمونني بكلِّ عظم وحجر حتّى تركوني مثل النصب الأحمر.

وأخرجه أحمد في «المسند» ٥: ١٧٤ بصورة مفصَّلة، ومسلم في «المناقب»، و الطبراني كما في مجمع الزوائد ٩: ٣٢٩.

حديث علمه

١ - أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى ٥: ١٧٠ طليدن من طريق زاذان سُئل عليٌّ عن أبي ذر فقال: وعى علماً عجز فيه، وكان شحيحاً حريصاً على دينه، حريصاً على العلم، وكان يكثر السؤال فيُعطى ويُمنع، أما أن قد ملئ له في وعائه حتّى امتلأ.

وقال أبو عمر: روى عنه جماعةٌ من الصحابة وكان من أوعية العلم المبرَّزين في الزهد والورع والقول بالحقِّ، سُئل عليٌّ عن أبي ذر فقال: ذلك رجلٌ وعى علماً عجز عنه الناس، ثمَّ أوكأ فيه فلم يخرج شيئاً منه «الاستيعاب ١: ٨٣، ج ٢: ٦٦٤».

وحديث عليّ عليه السلام ذكره ابن الأثير في أُسد الغابة ٥: ١٨٦، والمناوي في شرح الجامع الصغير ٥: ٤٢٣ ولفظه: وعاءٌ ملئ علماً ثمَّ أوكأ عليه، وابن حجر في الإصابة ٤: ٦٤ وقال: أخرجه أبو داود بسند جيِّد.

٢ - أخرج المحاملي في أماليه والطبراني من طريق أبي ذر قال: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله شيئاً ممّا صبَّه جبرئيل وميكائيل في صدره إلّا وقد صبَّه في صدري. الحديث.

مجمع الزوائد ٩: ٣٣١، الإصابة ٣: ٤٨٤.

قال أبو نعيم في الحلية ١: ١٥٦: العابد الزهيد، القانت الوحيد، رابع الاسلام ورافض الأزلام قبل نزل الشرع والأحكام، تعبّد قبل الدعوة بالشهور والأعوام، وأوَّل من حيّا الرَّسول بتحيَّة الإسلام، لم يكن تأخذه في الحقِّ لائمة اللوّام، ولا تفزعه سطوة الولاة والحكّام، أوّل من تكلّم في علم البقاء والفناء، وثبت على المشقَّة والعناء، وحفظ العهود والوصايا، وصبر على المحن والرزايا، واعتزل مخالطة البرايا، إلى أن حلَّ بساحة المنايا. أبو ذر الغفاري رضي الله عنه. خدم الرسول، وتعلّم الأُصول، ونبذ الفضول.

٣١١

وفي ص ١٦٩: قال الشيخ رحمه الله تعالى: كان أبو ذر رضي الله تعالى عنه للرسول صلى الله عليه وآله ملازماً وجليساً، وعلى مسائلته والإقتباس منه حريصاً، وللقيام على ما استفاد منه أنيساً، سأله عن الأصول والفروع، وسأله عن الإيمان والإحسان، وسأله عن رؤية ربِّه تعالى، وسأله عن أحبِّ الكلام إلى الله تعالى، وسأله عن ليلة القدر أترفع مع الأنبياء أم تبقى؟ وسأله عن كلِّ شيء حتّى مسّ الحصى في الصّلاة. ثمَّ أخرج من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عن كلّ شيئ حتّى سألته عن مسِّ الحصى. فقال: مسَّه مرَّة أودع.

وأخرج أحمد في «مسند» ٥: ١٦٣ عن أبي ذر قال: سألت النبيَّ صلى الله عليه وآله عن كلِّ شيء حتّى سألته عن مسح الحصي فقال: واحدة أودع.

وقال ابن حجر في الإصابة ٤: ٦٤: كان يوازي ابن مسعود في العلم.

حديث صدقه وزهده

١ - أخرج ابن سعد والترمذي من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر، وأبي الدرداء مرفوعاً: ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق من أبي ذر.

وأخرج الترمذي بلفظ: ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر، شبه عيسى بن مريم. فقال عمر بن الخطّاب كالحاسد: يا رسول الله! أفتعرّف ذلك له؟ قال: نعم فاعرفوه.

وفي لفظ الحاكم. ما تقلُّ الغبراء ولا تظلُّ الخضراء من ذي لهجة أصدق ولا أو في من أبي ذر شبيه عيسى بن مريم. فقام عمر بن الخطّاب فقال: يا رسول الله! فنعرف ذلك له؟ قال: نعم فاعرفوه له.

وفي لفظ ابن ماجة من طريق عبد الله بن عمرو: ما أظلّت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء بعد النبيِّين أصدق من أبي ذر.

وفي لفظ أبي نعيم من ريق أبي ذر: ما تظلُّ الخضراء ولا تقلُّ الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر شبيه إبن مريم.

وفي لفظ ابن سعد من طريق أبي هريرة: ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، مَن سرَّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر.

٣١٢

وفي لفظ لأبي نعيم: أشبه الناس بعيسى نسكاً وزهداً وبرّاً.

وفي لفظ من طريق الهجنع بن قيس: ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ثمَّ رجل بعدي، من سرَّه أن ينظر إلى عيسى بن مريم زهداً وسمتاً فلينظر إلى أبي ذر.

وفي لفظ من طريق عليّ عليه السلام: ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر، يطلب شيئاً من الزهد عجز عنه الناس.

وفي لفظ من طريق أبي هريرة: ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر؛ فإذا أردتم أن تنظروا إلى أشبه الناس بعيسى بن مريم هدياً وبرّاً ونسكاً فعليكم به.

وفي لفظ من طريق أبي الدرداء: ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر.

وفي لفظ ابن سعد من طريق مالك بن دينار: ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، مَن سرَّه أن ينظر إلى زهد عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر.

أخرجه على اختلاف ألفاظه. ابن سعد، الترمذي، ابن ماجة، أحمد، ابن أبي شيبة، ابن جرير، أبو عمر، أبو نعيم، البغوي، الحاكم، ابن عساكر، الطبراني، ابن الجوزي.

راجع طبقات ابن سعد ٤: ١٦٧، ١٦٨ ط ليدن، صحيح الترمذي ٢: ٢٢١، سنن ابن ماجة ١: ٦٨، مسند أحمد ٢: ١٦٣، ١٧٥، ٢٢٣، ج ٥: ١٩٧، ج ٦: ٤٤٢، مستدرك الحاكم ٣: ٣٤٢ صحّحه وأقرّه الذهبي، و ج ٤: ٤٨٠ صحّحه أيضاً وأقرَّه الذهبي، مصابيح السنَّة ٢: ٢٢٨، صفة الصفوة ١ ٢٤٠، الإستيعاب ١: ٨٤، تمييز الطيب لابن الديبع ص ١٣٧، مجمع الزوائد ٩: ٣٢٩، الإصابة لابن حجر ٣: ٦٢٢، و ج ٤: ٦٤، الجامع الصغير للسيوطي من عدَّة طرق، شرح الجامع الصغير للمناوي ٥: ٤٢٣ فقال: قال الذهبي: سنده جيِّدٌ وقال الهيثمي: رجال أحمد وثقوا وفي بعضهم خلاف، كنز العمّال ٦: ١٦٩، و ج ٨: و ج ٨: ١٧ - ١٥.

٢ - أخرج الترمذي في صحيحه ٢: ٢٢١ مرفوعاً: أبو ذر يمشي في الأرض بزهد عيسى بن مريم.

٣١٣

وفي لفظ أبي عمر في «الاستيعاب» ٢: ٦٦٤: أبو ذر في أمَّتي على زهد عيسى بن مريم وفي ص ٨٤ من ج ١: أبو ذر في أمَّتي شبيه عيسى بن مريم في زهده. وبلفظ: من سرَّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر.

وذكره ابن الأثير في أُسد الغابة ٥: ١٨٦ بلفظ أبي عمر الأوَّل.

٣ - أخرج الطبراني مرفوعاً: من أحبَّ أن ينظر إلى المسيح عيسى بن مريم إلى برِّه وصدقه وجدِّه فلينظر إلى أبي ذر.

كنز العمّال ٦: ١٦٩. مجمع الزوائد ٩: ٣٣٠.

٤ - أخرج الطبراني من طريق ابن مسعود مرفوعاً: من سرَّه أن ينظر إلى شبه عيسى خَلقاً وخُلقاً فلينظر إلى أبي ذر.

مجمع الزوائد ٩: ٣٣٠، كنز العمّال ٦: ١٦٩.

٥ - أخرج الطبراني من طريق ابن مسعود مرفوعاً: إنَّ أبا ذر ليباري عيسى بن مريم في عبادته. كنز العمّال ٦: ١٦٩.

حديث فضله

١ - عن بريدة عن النبيِّ صلى الله عليه وآله: إنَّ الله عزَّوجلَّ أمرني بحبِّ أربعة وأخبرني إنَّه يحبّهم: عليٌّ وأبو ذر والمقداد وسلمان.

أخرجه الترمذي في صحيحه ٢: ٢١٣، وابن ماجة في سننه ١: ٦٦، والحاكم في المستدرك ٣: ١٣٠ وصحَّحه، وأبو نعيم في الحلية ١: ١٧٢، وأبو عمر في الإستيعاب ٢: ٥٥٧، وذكره السيوطي في الجامع الصغير وصحَّحه وأقرَّ تصحيحه المناوي في شرح الجامع ٢: ٢١٥، وابن حجر في الإصابة ٣: ٤٥٥، وقال السندي في شرح سنن ابن ماجة: الظاهر إنَّه أمر إيجاب ويحتمل الندب، وعلى الوجهين فما أُمر به النبيُّ صلى الله عليه وآله فقد أمر به أمَّته، فينبغي للناس أن يحبّوا هؤلاء الأربعة خصوصاً.

٢ - أخرج ابن هشام في السيرة ٤: ١٧٩ مرفوعاً: رحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده.

وأخرج ابن هشام في السيرة، وابن سعد في الطبقات الكبرى ٤: ١٧٠ في حديث دفنه قال: فاستهلَّ عبد الله بن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول الله: تمشي وحدك،

٣١٤

وتموت وحدك، وتبعث وحدك.

وذكره أبو عمر في «الاستيعاب» ١: ٨٣، وابن الأثير في «أسد الغابة» ٥: ١٨٨، وابن حجر في «الإصابة» ٤: ١٦٤.

٣ - أخرج البزّار من طريق أنس بن مالك مرفوعاً: الجنَّة تشتاق إلى ثلاثة: عليّ وعمّار وأبي ذر.

ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٩: ٣٣٠ فقال: إسناده حسن.

٤ - أخرج أبو يعلى من طريق الحسين بن علي قال: أتى جبرئيل النبيَّ صلى الله عليه وآله فقال: يا محمَّد! إنَّ الله يحبُّ من أصحابك ثلاثة فأحبّهم: عليُّ بن أبي طالب، وأبو ذر، والمقداد بن الأسود. مجمع الزوائد ٩: ٣٣٠.

٥ - أخرج الطبري من طريق أبي الدرداء إنَّه ذكر أبا ذر فقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يأتمنه حين لا يأتمن أحداً، ويسرُّ إليه حين لا يسرُّ إلى أحد. كنز العمّال ٨: ١٥.

وأخرج أحمد في المسند ٥: ١٩٧ من طريق عبد الرحمن بن غنم قال: إنَّه زار أبا الدرداء بحمص فمكث عنده ليالي وأمر بحماره فأوكف فقال أبو الدرداء: ما أراني إلّا متَّبعك فأمر بحماره فأُسرج فسارا جميعاً على حماريهما فلقيا رجلاً شهد الجمعة بالأمس عند معاوية بالجابية فعرفهما الرجل ولم يعرفاه فأخبرهما خبر الناس، ثمَّ إنَّ الرجل قال: وخبر آخر كرهت أن أخبركما أراكما تكرهانه. فقال أبو الدرداء: فلعلَّ أبا ذر نُفي؟ قال: نعم والله، فاسترجع أبو الدرداء وصاحبه قريباً من عشر مرّات ثمَّ قال: أبو الدرداء: إرتقبهم واصطبر. كما قيل لأصحاب الناقة، اللهمَّ إن كذَّبوا أبا ذر فإنِّي لا أُكذَّبه، اللهمَّ وإن اتَّهموه فإنِّي لا أتَّهمه، اللهمَّ وإن استغشُّوه فأنِّي لا استغشُّه، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يأتمنه حين لا يأتمن أحداً، ويسرُّ إليه حين لا يسرُّ إلى أحد، أما والذي نفس أبي الدرداء بيده لو أنَّ أبا ذر قطع يميني ما أُبغضه بعد الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ما أظلّت الخضراء. الحديث.

وأخرجه الحاكم ملخّصاً في المستدرك ٣ ٣٤٤ وصحَّحه وقال الذهبي: سندٌ جيَدٌ.

٣١٥

٦ - من طريق ابن الحارث عن أبي الدرداء أنَّه قال وذكرت له أبا ذر: والله إن كان رسول الله صلى الله عليه وآله ليدنيه دوننا إذا حضر، ويتفقّده إذا غاب، ولقد علمت أنَّه قال: ما تحمل الغبراء ولا تظلُّ الخضراء للبشر بقول أصدق لهجة من أبي ذر.

كنز العمّال ٨: ١٥، مجمع الزوائد ٩: ٣٣٠، الإصابة ٤: ٦٣، نقلاً عن الطبراني لفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يبتدئ أبا ذر إذا حضر ويتفقَّده إذا غاب.

٧ - أخرج أحمد في مسنده ٥: ١٨١ من طريق أبي الأسود الدؤلي أنَّه قال: رأيت أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وآله فما رأيت لأبي ذر شبيهاً.

وذكره الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ٩: ٣٣١.

٨ - روى شهاب الدين الأبشيهي في المستطرف ١: ١٦٦ قال: مرَّ أبو ذر على النبيِّ صلى الله عليه وآله ومعه جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي فلم يسلّم فقال جبريل: هذا أبو ذر لو سلّم لرددنا عليه. فقال: أتعرفه يا جبريل؟ قال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً لهو في ملكوت السَّماوات السبع أشهر منه في الأرض قال: بِمَ نال هذه المنزلة؟ قال: بزهده في هذه الحطام الفانية. وذكره الزمخشري في ربيع الأبرار باب ٢٣.

عهد النبي الأعظم إلى أبي ذر

١ - أخرج الحاكم في «المستدرك» ٣: ٣٤٣ من طريق صحّحه عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا ذر! كيف أنت إذا كنت في حثالة؟ وشبَّك بين أصابعه، قلت: يا رسول الله! فما تأمرني؟ قال: اصبر اصبر اصبر، خالقوا الناس بأخلاقهم، وخالفوهم في أعمالهم.

٢ - أخرج أبو نعيم في الحلية ١: ١٦٢ من طريق سلمة بن الأكوع عن أبي ذر رضي الله عنه قال: بينا أنا واقفٌ مع رسول الله صلى الله عليه وآله فقال لي: يا أبا ذر! أنت رجلٌ صالحٌ وسيصيبك بلاءٌ بعدي. قلت: في الله؟ قال: في الله. قلت: مرحباً بأمر الله.

٣ - أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى ٤ ص ١٦٦ ط ليدن من طريق أبي ذر قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وآله: يا أبا ذر! كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يستأثرون بالفئ؟ قال: قلت: إذا والذي بعثك بالحقِّ أضرب بسيفي حتّى الحق به. فقال: أفلا أدلّك على ما هو خيرٌ من ذلك؟ إصبر حتّى تلقاني.

٣١٦

وفي لفظ أحمد وأبي داود: كيف أنت وأئمَّة من بعدي يستأثرون بهذا الفئ؟ قال: قلت: إذا والذي بعثك بالحقِّ أضع سيفي على عاتقي ثمَّ أضرب به حتّى ألقاك؟ أو: الحق بك. قال: أوَلا أدلُّك على ما هو خيرٌ من ذلك؟ تصبر حتّى تلقاني وفي لفظ: كيف أنت عند ولاة يستأثرون بهذا الفئ؟.

مسند أحمد ٥: ١٨٠، سنن أبي داود ٢: ٢٨٢، لأحمد طريقان كلاهما صحيحان رجالهما كلّهم ثقات، وهم:

١ - يحيى بن آدم، مجمع على ثقته من رجال الصحاح الستِّ.

٢ - زهير بن معاوية الكوفي، متَّفقٌ على ثقته من رجال الصحاح الستِّ.

٣ - يحيى بن أبي بكير الكوفي مجمعٌ على ثقته من رجال الصحاح الستِّ.

٤ - مطرف بن طريف، متَّفقٌ على ثقته من رجال الصحاح الستِّ.

٥ - أبو الجهم سليمان بن الجهم الحارثي تابعيٌّ لا خلاف في ثقته.

٦ - خالد بن وهبان، تابعيٌّ ثقةٌ.

٤ - أخرج أحمد في المسند ٥: ١٧٨ من طريق أبي السليل في حديث عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: يا أبا ذر! كيف تصنع إن أُخرجت من المدينة؟ قال: قلت: إلى السعة والدعة انطلق حتّى أكون حمامة من حمام مكّة. قال: كيف تصنع إن أُخرجت من مكّة؟ قال: قلت: إلى السعة والدعة إلى الشام والأرض المقدَّسة. قال: وكيف تصنع إن أُخرجت من الشام؟ قال: إذاً والذي بعثك بالحقّ أضع سيفي على عاتقي قال: أو خيرٌ من ذلك؟ قال: قلت: أوَ خيرٌ من ذلك؟ قال: تسمع وتطيع وإن كان عبداً حبشيّاً.

رجال الاسناد كلّهم ثقات وهم:

١ - يزيد بن هارون بن وادي. مجمعٌ على ثقته من رجال الصحيحين.

٢ - كهمس بن الحسن البصري. ثقةٌ من رجال الصحيحين.

٣ - أبو السليل ضريب بن نقير البصري. ثقةٌ من رجال مسلم والصحاح الأربعة غير البخاري.

وفي لفظ: كيف تصنع إذا خُرجت منه؟ أي المسجد النبويِّ. قال: آتي الشام.

٣١٧

قال: كيف تصنع إذا خُرجت منها؟ قال: أعود إليه أي المسجد. قال: كيف تصنع إذا خُرجت منه؟ قال: أضرب بسيفي. قال: أدلّك على ما هو خيرٌ لك من ذلك وأقرب رشداً؟ قال: تسمع وتطيع وتنساق لهم حيث ساقوك.

فتح الباري ٣: ٢١٣، عمدة القاري ٤: ٢٩١.

٥ - أخرج الواقدي من طريق أبي الأسود الدؤلي قال: كنت أُحبُّ لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه فنزلت الربذة فقلت له: ألا تخبرني أخرجتَ من المدينة طائعاً، أم خرجتَ مكرهاً؟ فقال: كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغنى عنهم فأُخرجت إلى مدينة الرسول عليه السلام فقلت: أصحابي ودار هجرتي فأُخرجت منها إلى ما ترى ثمَّ قال: بينا أنا ذات ليلة نائمٌ في المسجد إذ مرَّ بي رسول الله فضربني برجله وقال: لا أراك نائماً في المسجد فقلت: بأبي أنت وأُمِّي غلبتني عيني فنمت فيه فقال: كيف تصنع إذا أخرجوك منه؟ فقلت: إذن الحق بالشام فإنَّها أرضٌ مقدَّسة وأرض بقيّة الإسلام وأرض الجهاد فقال: فكيف تصنع إذا أُخرجت منها؟ فقلت: أرجع إلى المسجد قال: فكيف تصنع إذا أخرجوك منه؟ قلت: إذن آخذ سيفي فأضرب به فقال صلى الله عليه وآله: ألا أدلُّك على خير من ذلك؟ انسق معهم حيث ساقوك وتسمع وتطيع. فسمعت واطع وأنا أسمع وأُطيع والله ليلقينَّ الله عثمان وهو آثمٌ في جنبي. شرح ابن أبي الحديد ١: ٢٤١.

وبهذا الطريق واللفظ أخرجه أحمد في المسند ٥: ١٥٦ والإسناد صحيحٌ رجاله كلّهم ثقاتٌ وهم:

١ - عليّ بن عبد الله المديني، وثَّقه جماعة وقال النسائي: ثقةٌ مأمونٌ أحد الأئمَّة في الحديث.

٢ - معمّر بن سليمان أبو محمَّد البصري، متَّفقٌ على ثقته من رجال الصحاح الستِّ.

٣ - داود بن أبي الهند أبو محمَّد البصري، مجمعٌ على ثقته من رجال الصحاح غير البخاري وهو يروي عنه في التاريخ من دون غمز فيه.

٤ - أبو الحرب بن الأسود الدؤلي، ثقةٌ من رجال مسلم.

٥ - أبو الأسود الدؤلي، تابعيٌّ متَّفقٌ على ثقته من رجال الصحاح الستِّ.

٦ - مرَّ في ص ٢٩٦ في حديث تسيير أبي ذر: قال «عثمان»: فإنِّي مسيِّرك

٣١٨

إلى الربذة. قال «أبوذر» الله أكبر صدق رسول الله صلى الله عليه وآله قد أخبرني بكلِّ ما أنا لاقٍ قال عثمان: وما قال لك؟ قال: أخبرني بأنِّي أُمنع عن مكّة والمدينة وأموت بالربذة. الحديث.

هذا أبوذر

وفضايله وفواضله وعلمه وتقواه وإسلامه وإيمانه ومكارمه وكرائمه ونفسيّاته وملكاته الفاضلة وسابقته ولاحقته وبدء أمره ومنتهاه، فأيّاً منها كان ينقمه الخليفة عليها فطفق يُعاقبه ويُطارده من مُعتقل إلى مَنفي، ويستجلبه على قتب بغير وطاء، يطير مركبه خمسة من الصقالبة الأشدّاء حتّى أتوا به المدينة وقد تسلّخت بواطن أفخاذه وكاد أن يتلف، ولم يفتأ يسومه سوء العذاب حتّى سالت نفسه في منفاه الأخير «الربذة» على غير ماء ولا كلاء يلفحه حرُّ الهجير، وليس له من وليّ حميم يمرِّضه، ولا أحدٌ من قومه يواري جثمانه الطاهر، مات رحمه الله وحده، وسيحشر وحده كما أخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي خوَّله بتلكم الفضائل، والله سبحانه من فوقهما نعم الخصيم للمظلوم، فانظر لِمن الفَلَج يومئذ.

لقد كان الخليفة يباري الريح في العطاء لحامَّته ومن ازدلف إليه ممَّن يجري مجراهم، فملكوا من عطاياه وسماحه الملايين، وليس فيهم من يبلغ شأوأبي ذر في السوابق والفضائل، ولا يشقُّ له غباراً في أُكرومة، فماذا الذي أخَّر أبا ذر عنهم حتّى قطعوا عنه عطائه الجاري؟ ومنعوه الحظوة بشيء من الدعة، وأجفلوه عن عقر داره وجوار النبيِّ الأعظم، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولِماذا نودي عليه في الشام أن لا يجالسه أحدٌ(١) ؟ ولِماذا يفرُّ الناس منه في المدينة؟ ولِماذا حظر عثمان على الناس أن يقاعدوه ويكلّموه؟ ولِماذا يمنع الخليفة عن تشييعه ويأمر مروان أن لا يدع أحداً يكلّمه؟ فلم يحلّ ذلك الصحابي العظيمُّ إلّا محلّاً وعراً، ولم يرتحل إلّا إلى متبوَّأ الإرهاب، كأنَّما خُلق أبوذر للعقوبة فحسب، وهو من عرَّفته الأحاديث التي ذكرناها، وقصَّته لعمر الله وصمةٌ على الإسلام وعلى خليفته لا تُنسى مع الأبد.

____________________

١ - أخرجه ابن سعد في الطبقات ٤: ١٦٨.

٣١٩

نعم إنَّ أبا ذر ينقم ما كان مطرَّداً عند ذاك من السرف في العطاء من دون أيِّ كفائة في المعطى (بالفتح) ومخالفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك وفي كلّما يخالف السنَّة الشريفة وإضطهاد أهل السوابق من الأمَّة بيد أُمراء البيت الأمويِّ رجال العيث والعبث، وكانوا يحسبون عرش ذلك اليوم قد استقرَّ على تلكم الأعمال، فرأوا أنَّ في الإصاخة إلى قيل أبي ذر وشاكلته من صلحاء الصحابة تزحزحاً لذلك العرش عن مستقرِّه، أو أنَّ مهملجة الجشع الذين حصَّلوا على تلكم الثروات الطائلة خافوه أن يُسلب ما في أيديهم إن وَعى واعٍ إلى هتافه، فتألَّبوا عليه وأغرّوا خليفة الوقت به بتسويلات متنوِّعة حتّى وقع ما وقع، والخليفة أسير هوى قومه، ومسيَّرٌ بشهواتهم، مدفوعٌ بحبِّ بني أبيه وإن كانوا من الشجرة المنعوتة في القرآن.

وما كان أبو ذر يمنعهم عن جلب الثروة من حقِّها، ولا يبغي سلب السلطة عمّن ملك شيئاً ملكاً مشروعاً، لكنَّه كان ينقم أهل الأثرة على اغتصابهم حقوق المسلمين، وخضمهم مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، وما كان يتحرّى إلّا ما أراد الله سبحانه بقوله عزَّ من قائل:( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله في الجهات الماليَّة.

أخرج أحمد في مسنده ٥: ١٦٤، ١٧٦ من طريق الأحنف بن قيس قال: كنت بالمدينة فإذا أنا برجل يفرُّ الناس منه حين يرونه قال: قلت: مَن أنت؟ قال: أنا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله قال: قلت: ما يفرُّ الناس منك؟ قال: إنِّي أنهاهم عن الكنوز بالذي كان ينهاهم عنه رسول الله.

وفي لفظ مسلم في صحيحه ٣: ٧٧ قال الأحنف بن قيس: كنت في نفر من قريش فمرَّ أبو ذر رضي الله عنه وهو يقول: بشِّر الكانزين بكيّ في ظهورهم يخرج من جنوبهم، وبكيّ من أقفيتهم بخرج من جباههم قال: ثمَّ تنحّى فقعد إلى سارية فقلت: مَن هذا؟ قالوا: هذا أبو ذر فقمت إليه فقلت: ما شيء سمعتك تقول قبيل؟ قال: ما قلت إلّا شيئاً سمعته من نبيِّهم صلى الله عليه وآله قال: قلت: ما تقول في هذا العطاء؟ قال: خذه فإنَّ فيه اليوم معونة فإذا كان ثمناً لدينك فدعه. «سنن البيهقي ٦: ٣٥٩».

وأخرج أبو نعيم في الحلية ١: ١٦٢ من طريق سفيان بن عيينة بإسناده عن أبي ذر

٣٢٠