الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٨

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 397

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
تصنيف: الصفحات: 397
المشاهدات: 139918
تحميل: 5988


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 139918 / تحميل: 5988
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال: إنَّ بني أُميَّة تُهدِّدني بالفقر والقتل، ولبطن الأرض أحبُّ إليَّ من ظهرها، وللفقر أحبُّ إليَّ من الغنى، فقال له رجلٌ: يا أبا ذر! مالك إذا جلست إلى قوم قاموا وتركوك؟ قال: إنِّي أنهاهم عن الكنوز.

وفي فتح الباري ٣: ٢١٣ نقلاً عن غيره: الصحيح إنَّ إنكار أبي ذر كان على السَّلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه. وتعقَّبه النووي بالإبطال لأنَّ السلاطين حينئذ كانوا مثل أبي بكر وعمر وعثمان وهؤلاء لم يخونوا.

وفي هذا التعقيب تدجيلٌ ظاهرٌ فإنَّ يوم هتاف أبي ذر بمناويه لم يكن العهد لأبي بكر وعمر، وإنَّما كان ذلك يوم عثمان المخالف لهما في السيرة مخالفة واضحة، والمبائن للسيرة النبويَّة في كل ما ذكرناه، ولذلك كلّه كان سلام الله عليه ساكتاً عن هتافه في العهدين وكان يقول لعثمان: ويحك يا عثمان! أما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله؟ ورأيت أبا بكر وعمر؟ هل رأيت هذا هديهم؟ إنَّك تبطش بي بطش الجبّار. ويقول: إتَّبع سنَّة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام. راجع ص ٢٩٨ و ٣٠٦.

ولم يكن لأبي ذر مُنتدحٌ من نداءه والدعوة إلى المعروف الضايع، والنهي عن المنكر الشايع وهو يتلو آناء الليل وأطراف النهار قوله تعالى:( وَلِتَكُن مِنكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) . قال ابن خراش: وجدت أبا ذر بالربذة في مظلّة شعر فقال: ما زال بي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى لم يترك الحقُّ لي صديقاً(٢) .

وكان ينكر مع ذلك على معاوية المتَّخذ شناشن الأكاسرة والقياصرة بالترفُّه والتوسُّع والاستيثار بالأموال وكان في العهد النبويِّ صعلوكاً لا مال له ووصفه به رسول الله صلى الله عليه وآله(٣) وفي لفظ: إنَّ معاوية تِربٌ خفيف الحال(٤)

____________________

١ - سورة آل عمران ١٠٤.

٢ - الأنساب ٥: ٥٥، ومرّ مثله من طريق آخر ص ٣٠١.

٣ - صحيح مسلم كتاب النكاح والطلاق ٤: ١٩٥، سنن النسائي ٦: ٧٥، سنن البيهقي ٧: ١٣٥.

٤ - صحيح مسلم ٤: ١٩٩.

٣٢١

فما واجب أبي ذر عندئذ؟ وقد أمره النبيُّ الأعظم في حديث(١) السبعة التي أوصاه بها، بأن يقول الحقَّ وإن كان مرّاً، وأمره بأن لا يخاف في الله لومة لائم. وما الذي يجديه قول عثمان: مالك وذلك؟ لا أُمَّ لك؟ ولأبي ذر أن يقول له كما قال: والله ما وجدت لي عذراً إلّا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولم تكن لِما رفع به أبو ذر عقيرته جدَّة ليس لها سلف من العهد النبويِّ، فلم يهتف إلّا بما تعلّمه من الكتاب والسنَّة، وقد أخذه من الصادع الكريم من فَلق فيه، ولم يكن صلى الله عليه وآله يسلب ثروة أحد من أصحابه وكان فيهم تجّار وملّاك ذوو يسار، ولم يأخذ منهم زيادة على ما عليهم من الحقوق الإلهيَّة، وعلى حذوه حذا أبو ذر في الدعوة والتبليغ.

كان صلى الله عليه وآله أخبره بما يجري عليه من البلاء والعناء وما يصنع به من طرده من الحواضر الإسلاميّة: مكّة والمدينة والشام والبصرة والكوفة. ووصفه عند ذلك بالصلاح وأمره بالصبر وأنَّ ما يصيبه في الله، فقال أبو ذر: مرحباً بأمر الله. فصلاح أبي ذر يمنعه عن الأمر بخلاف السنَّة بما يخلُّ نظام المجتمع، وكون بلاءه في الله يأبى أن يكون ما جرَّ إليه ذلك البلاء غير مشروع.

وإن كان ذلك خلاف الصالح العام ولم تكن فيه مرضاة الله ورسوله لوجب عليه صلى الله عليه وآله أن ينهاه عمّا سينوء به من الإنكار وهو يعلم أنَّ تلك الدعوة تجرُّ عليه الأذى والبلاء الفادح، وتشوِّه سمعة خليفة المسلمين، وتسوّد صحيفة تاريخه، وتبقى وصمة عليه مع الأبد.

وما كانت الشريعة السمحاء تأتي بذلك الحكم الشاقّ الذي اُتّهم به أبو ذر؛ ولم يكن قطُّ يقصده وهو شبيه عيسى في أُمَّة محمّد صلى الله عليه وآله زهداً ونسكاً وبرّاً وهدياً وصدقاً وجدّاً وخلقاً.

هكذا وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله غير أنَّ عثمان قال لما غضب عليه: أشيروا عليَّ

____________________

١ - أخرجه ابن سعد في الطبقات ١٦٤ من طريق عبادة بن الصامت عن أبي ذر قال: أوصاني خليلي بسبع: بحب المساكين والدنو منهم. وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي. وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً. وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت. وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرّاً. وأمرني أن لا أخاف لومة لائم. وأمرني أن أكثر من لا حول ولا قوة إلّا بالله. فإنهنّ من كنز تحت العرش.

٣٢٢

في هذا الشيخ الكذّاب إمّا أن اضربه أو أحبسه أو أقتله. وكذَّبه حين رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله حديث بني العاص، عجباً هذا جزاء مَن نصح لله ورسوله وبلّغ عنهما صادقاً؟ لاها الله هذا أدبٌ يخصُّ بالخليفة. وأعجب من هذا جواب عثمان لمولانا أمير المؤمنين لما دافع عن أبي ذر بقوله: أُشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون. أجابه بجواب غليظ أخفاه الواقدي وما أحبَّ أن يذكره ونحن وإن وقفنا عليه من طريق آخر لكن ننزِّه الكتاب عن ذكره.

وقد تجهَّم عثمان مرَّة أُخرى إمام المؤمنين عليه السلام بكلام فظّ لما شيَّع هو و ولداه السبطان أبا ذر في سبيله إلى المنفى ومروان يراقبه وقد مرَّ تفصيله ص ٢٩٤، ٢٩٧ وفيه قوله لعليّ عليه السلام: ما أنت بأفضل عندي من مروان.

إنَّ مِن هوان الدنيا على الله أن يقع التفاضل بين عليّ ومروان الوزغ ابن الوزغ اللعين ابن اللعين، أنا لا أدري هل كان الخليفة في معزل عن النصوص النبويَّة في مروان؟ أو لم يكن مروان ونزعاته الفاسدة بمرأى منه ومسمع؟ أو القرابة والرحم بعثته إلى الإغضاء عنها فرأى ابن الحَكَم عدلاً لمن طهَّره الجليل ورآه نفس النبيِّ الأعظم في الذكر الحكيم. كبرت كلمةً تخرج من أفواهم...

( أَفَحُكْمَ

الْجَاهِلِيّةِ يَبْغُونَ ؟

وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )

٣٢٣

جناية التاريخ

ما أكثر جناية التاريخ على ذوي الفضل والأحساب الذين تستفيد الأُمَّة من تاريخ حياتهم، ورائم أخلاقهم وآثار مآثرهم، ونفسيّاتهم الكاملة، ومعاقد أقوالهم وبوالغ عظاتهم، ودُرر حكمهم، وموارد إقدامهم وإحجامهم.

تجد التاريخ هنا يسرع السير فيُنسي ذكرهم، ويغمط فضلهم، أو يأتي بمجمل من القول في صورة مصغَّرة، أو يحوّر الكلام ومزيجه الخبر المائن أو رواية شائنة، كلُّ ذلك تأييداً لمبدأ، وأخذاً بناصر نزعة، وستراً على أقوام آخرين تمسُّ الحقيقة الراهنة بهم وبكرامتهم، وتبعاً لأهواء وشهوات من ساسة الوقت أو زعماء الزمن.

فمن هذه النواحي كلّها أغفل التاريخ عن التبسّط في حياة أبي ذر الماثلة بالفضائل والفواضل الشاخصة بالعبقريّة والكمال، التي يجب أن تُتَّخذ قدوة في السلوك و التهذيب، وأن تكون للأُمَّة بها أُسوة وقُدوة في التقوى والمبدأ.

البلاذري

فتجد البلاذري يذكر حديث إخراج أبي ذر إلى الربذة من عدَّة طرق بصورة مرَّت في صفحة ٢٩٢ ويروي قول أبي ذر لحوشب الفزاري «وأبوذر هو الذي ما أظلّت الخضراء. الخ». أُخرجتُ كارهاً. ثمَّ عقَّبه بأُكذوبة سعيد بن المسيِّب «الذي كان من مناوي العترة الطاهرة وشيعتهم» من إنكار إخراج عثمان إيّاه، وإنَّه خرج إليها راغباً في سكناها.

ولا يعلم المغفَّل إنَّ في ذلك تكذيباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخبر أبا ذر بأنَّه يُخرج من المدينة كما مرَّ ص ٣١٦ بطرق صحيحة. وتكذيباً لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال لعثمان بعد وفاة أبي ذر في المنفى وقد صمَّم عثمان أن يتَّبع ذلك بنفي عمّار: يا عثمان! إتّق الله فإنَّك سيرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسيير(١) وتكذيباً

____________________

١ - سيوافيك الحديث بتمامه إن شاء الله تعالى.

٣٢٤

لأبي ذر في قوله الآنف فيما رواه البلاذري نفسه من طريق صحيح: ردَّني عثمان بعد الهجرة أعرابياً.

وتكذيباً لعثمان الذي روى عنه البلاذري أيضاً إنَّه لما انهى إليه نعي أبي ذر قال: رحمه الله. فقال عمّار: نعم فرحمه الله من كلِّ أنفسنا فقال عثمان: يا عاضَّ أير أبيه أتراني ندمتُ على تسييره «يأتي تمام الحديث في مواقف عمّار».

وتكذيباً لما رواه البلاذري أيضاً عن كميل بن زياد النخعي في حديث أسلفناه ص ٢٩٤ وتكذيباً، وتكذيباً.

ولا يعلم المسكين إنَّ تلك الحادثة الفجيعة المتعلّقة بعظيم من عظماء الصحابة كأبي ذر وقد كثر حوله الحوار أو الأخذ والردُّ وتوفَّرت النقمة والنقد حتّى عُدَّت من عظائم الحوادث، وسار بحديثها الركبان، وتذمَّر لها المؤمنون، وشمت فيها من شمت، و نقم بها على الخليفة، وكان ممّا استتبعها: إنَّ ناساً من أهل الكوفة قالوا لأبي ذر وهو بالربذة: إنَّ هذا الرجل فعل بك وفعل، هل أنت ناصبٌ لنا راية؟ يعني نقاتله. فقال: لا، لو أنّ عثمان سيّرني من المشرق إلى المغرب سمعت وأطعت(١) .

وقال ابن بطّال كما في عمدة القاري للعيني ٤: ٢٩١: إنَّما كتب معاوية يشكو أبا ذر لأنَّه كان كثير الاعتراض عليه والمنازعة له وكان في جيشه مَيْلٌ إلي أبي ذر فأقدمه عثمان خشية الفتنة لأنَّه كان رجلاً لا يخاف في الله لومة لائم.

فما كنتَ يومئذ تمرُّ بحاضرة من الحواضر الإسلاميَّة إلّا وتجد توغُّلاً من أهلها في هذا الحديث، وتغلغلاً بين أرجائها من جرّاء ذلك الحادث الجلل.

إنَّ حادثةً كمثلها لا تستر بإنكار مثل ابن المسيب المنبعث عن الولاء الأمويِّ لكنه شاء أن يقول فقال، ذاهلاً عن إنَّه لا يقبل منه ذو مسكة أن يترك مثل أبي ذر دار هجرته ومهجر شرفه ويعرض عن جوار نبيِّه ويختار الربذة منزلاً له ولأهله مع جدبها وقفرها، ولو كانت له خيرةٌ في الأمر، فما تلك المدامع الجارية من لوعة المصاب وغصَّة الإكتئاب؟ وما تلكم النفثات الملفوظة منه ومن مُشيِّعيه في ذلك الوادي الوعر لما حان التوديع وآن الفرقان بين الأحبَّة؟.

____________________

١ - طبقات ابن سعد ٣: ٢١٢.

٣٢٥

ومن أمانة البلاذري في النقل: أنَّه عند سرد قصَّة أبي ذر ومشايعة مولانا أمير المؤمنين له قال: جرى بين عليّ وعثمان في ذلك كلام. ولم يذكر ما جرى لأنَّ فيه نيلاً من صاحبه.

ابن جرير الطبري

وإنَّك تجد الطبري في التاريخ لما بلغ إلى تاريخ أبي ذر يقول: في هذه السنة أعني سنة ٣٠ كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة، وقد ذكر في سبب إشخاصه إيّاه منها إليها أمورٌ كثيرة كرهت ذكر أكثرها، فأمّا العاذرون معاوية في ذلك فإنَّهم ذكروا في ذلك قصَّة.

لِماذا ترك الطبري تلكم الأُمور الكثيرة ولم يذكر منها إلّا قصَّة العاذرين؟ التي افتعلوها معذرةً لمعاوية وتبريراً لعمل الخليفة، وأمَّا الحقائق الراهنة التي كانت تمسُّ كرامة الرجلين، وكانت حديث أُمَّة محمّد وقتئذ وهلّم جرّا من ذلك اليوم حتّى عصرنا الحاضر فكره إيرادها، وحسب إنَّها تبقى مستورةً إن لم يلهج هو بها، وقد ذهب عليه إنَّ في فجوات الدهر، وثنايا التاريخ، وغضون كتب الحديث منها بقاياً كافية لمن تروقه معرفة نفسيّات مُناوي أبي ذر، وتحقّق أعلام النبوَّة التي جاء بها النبيُّ الأعظم في قصَّة أبي ذر من المغيَّبات.

ثمَّ ذكر القصَّة بصورة مكذوبة مختلقة لا يصحُّ شيءٌ منها، وكلُّ جملة منها يكذِّبه التاريخ الصحيح أو الحديث المتسالم على صحَّته، وكفاها وهناً ما في سندها من الغمز وإليك رجاله

١ - السريّ. مرَّ الكلام فيه في هذا الجزء ص ١٤٠ وإنَّه مشتركٌ بين اثنين عُرفا بالكذب والوضع.

٢ - شعيب بن إبراهيم الأسيدي الكوفي، أسلفنا صفحة ١٤٠ من هذا الجزء قول الحافظين: ابن عدي والذهبي فيه وإنَّه مجهولٌ لا يُعرف.

٣ - سيف بن عمر التيمي الكوفي، ذكرنا في صفحة ٨٤ من هذا الجزء أقوال الحفّاظ وأئمَّة الجرح والتعديل حول الرجل وإنَّه ضعيفٌ، متروكٌ، ساقطٌ، وضّاعٌ، عامَّة حديثه منكرٌ، يروي الموضوعات عن الأثبات، كان يضع الحديث، واتّهم بالزندقة.

٣٢٦

أضف إلى المصادر السابقة: «الاستيعاب» ترجمة القعقاع ٢: ٥٣٥، «الإصابة» ٣: ٢٣٩، مجمع الزوائد للهيثمي ١٠: ٢١.

٤ - عطيّة بن سعد العوفي الكوفي. للقوم فيه آراءٌ متضاربةٌ بين توثيق وتضعيف وقال الساجي: ليس بحجَّة وكان يقدِّم عليّاً على الكلِّ. وقال ابن سعد: كتب الحجّاج إلى محمّد بن القاسم أن يعرضه على سبِّ عليّ فإن لم يفعل فاضربه أربعمائة سوط واحلق لحيته فاستدعاه فأبى أن يسبَّ فأمضى حكم الحجّاج فيه(١) وذكر ابن كثير في تفسيره ١: ٥٠١ عن صحيح الترمذي من طريق عطيَّة في عليٍّ مرفوعاً: لا يحلُّ لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك. فقال: ضعيفٌ لا يثبت فإنَّ سالماً متروكٌ وشيخه عطيَّة ضعيفٌ.وكون الرجل في الإسناد آية كذب الرواية إذ الشيعيُّ الجلد كالعوي لا يروي حديث الخرافة.

٥ - يزيد الفقعسي. لا أعرفه ولا أجد له ذكراً في كتب التراجم.

فانظر إلى أمانة الطبري على ودايع التاريخ فإنَّه يصفح عن ذلك الكثير الثابت الصحيح ويقتصر على هذه المكاتبة المكذوبة المفتعلة. حيّا الله الأمانة.

نظرة قيّمة في تاريخ الطبري

شوَّه الطبري تاريخه بمكاتبات السريّ الكذّاب الوضّاع، عن شعيب المجهول الذي لا يُعرف، عن سيف الوضّاع، المتروك، الساقط، المتَّهم بالزندقة، وقد جاءت في صفحاته بهذا الاسناد المشوَّه ٧٠١ رواية وُضعت للتمويه على الحقايق الراهنة في الحوادث الواقعة من سنة ١١ إلى ٣٧ عهد الخلفاء الثلاثة فحسب، ولا يوجد شيءٌ من هذا الطريق الوعر في أجزاء الكتاب كلّها غير حديث واحد ذكره في السنة العاشرة، وإنَّما بدأ برواية تلكم الموضوعات من عام وفاة النبيِّ الأقدس، وبثّها في الجزء الثالث والرابع والخامس، وانتهت بانتهاء خامس الأجزاء.

ذكر في الجزء الثالث من ص ٢١٠ في حوادث سنة ١١

أخرج في الجزء الرابع في حوادث السنة الثانية عشر

أورد في الجزء الخامس في حوادث السنة ال‍ ٣٧ - ٢٣

٥٧ حديثاً

٤٢٧ حديثاً

٢٠٧ حديثاً

المجموع ٧٠١ حديثاً

____________________

١ - تهذيب لابن حجر ٧: ٢٢٦.

٣٢٧

وممّا يهمُّ لفت النظر إليه إنَّ الطبري من صفحة ٢١٠ من الجزء الثالث إلى ص ٢٤١ يروي عن السريِّ بقوله: حدَّثني. المعرب عن السماع منه، ومن ص ٢٤١ يقول: كتب إليَّ السريُّ. إلى آخر ما يروي عنه إلّا حديثاً واحداً في الجزء الرابع ص ٨٢ يقول فيه: حدَّثنا.

ولست أدري إنَّ السريَّ، وسيف بن عمر هل كان علمهما بالتاريخ مقصوراً على حوادث تلكم الأعوام المحدودة فقط؟ ومن حوادثها على ما يرجع إلى المذهب فحسب لا مطلقا؟ أو كانت موضوعاتهما تنحصر بالحوادث الخاصَّة المذهبيَّة الواقعة في الأيّام الخالية من السنين المعلومة؟ لكونها الحجر الأساسي في المبادئ والآراء والمعتقدات، وقد أرادوا خلط التاريخ الصحيح وتعكير صفوه بتلكم المفتعلات تزلّفاً إلى أناس، واختذالاً عن آخرين، ومن أمعن النظر في هذه الروايات يجدها نسيج يد واحدة، ووليد نفس واحد، ولا أحسب إنَّ هذه كلّها تخفى على مثل الطبري، غير إنَّ الحبَّ يعمي ويصم.

وقد سوَّدت هاتيك المخاريق المختلفة صحائف تاريخ ابن عساكر، وكامل ابن الأثير، وبداية ابن كثير، وتاريخ ابن خلدون، وتاريخ أبي الفدا إلى كتب أُناس آخرين إقتفوا أثر الطبري على العمى، وحسبوا أنَّ ما لفَّقه هو في التاريخ أصلٌ متَّبعٌ لا غمز فيه، مع إنَّ علماء الرجال لم يختلفوا في تزييف أيِّ حديث يوجد فيه أحدٌ من رجال هذا السند فكيف إذا اجتمعوا في إسناد رواية.

والتآليف المتأخِّرة اليوم المشحونة بالتافهات التي هي من ولائد الأهواء و الشهوات كلّها متَّخذةٌ من هذه السفاسف التي عرفت حالها وسنوقفك على نماذج منها في الجزء التاسع إنشاء الله تعالى.

ابن الأثير الجزري

وأنت ترى ابن الأثير في الكامل - الناقص - تبعاً للطبري في الذكر والإهمال كما هو كذلك في كلِّ ما توافقا عليه من التاريخ لكنَّه زاد ضغثاً على أُبّالة فقال: وفي هذه السنة كان ما ذكر في أمر أبي ذر وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة، وقد ذكر في سبب ذلك أمورٌ كثيرة من سبِّ معاوية إيّاه وتهديده بالقتل وحمله إلى المدينة

٣٢٨

من الشام بغير وطاء، ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع لا يصحُّ النقل به، ولو صحَّ لكان ينبغي أن يعتذر عن عثمان، فإنَّ للإمام أن يؤدِّب رعيَّته، وغير ذلك من الأعذار لا أن يجعل ذلك سبباً للطعن عليه كرهت ذكرها. اهـ

إنَّ الذي لم يصحّح الرجل نقله صحَّحه آخرون فنقلوه قبله وبعده فلم ينل المسكين مبتغاه، وكان قد حسب أنَّ الحقائق الثابتة تخفى عن أعين الناس إن سترها هو بذيل أمانته، وقد ذهب عليه إنَّ أهل النصفة من المؤلّفين وروّاد الحقايق من الرواة سوف لا يدعون صغيرةً ولا كبيرةً إلّا ويحصونها على الأُمَّة، وإنَّ مدوَّنة التاريخ ليست قصراً على كتابه.

هب إنَّه ستر التاريخ بالإهمال لكنَّه ماذا يصنع بالمحدِّثين؟ الذين أثبتوا حديث إخراجه من المدينة وطرده عن مكّة والشام في باب الفتن وفي باب أعلام النبوَّة(١) أوَلا يبهظ ذلك أبا ذر وزملائه من رجالات أهل البيت عليهم السّلام ومن يرى رأيه من صلحاء الأُمَّة، ولا سيّما إنَّ سابقة الطرد من عاصمة النبوَّة لم تكن إلّا لمثل الحَكَم «عمِّ الخليفة» وابنه وعائلته زبانية العيث والفساد تنزيهاً للعاصمة عن معرَّتهم، وتطهيراً لها عن لوث بقائهم فيها، أفهل يساوي أبو ذر ذلك العظيم عند الله ورسوله شبيه عيسى بن مريم في أُمَّة محمّد صلى الله عليه وآله الذي ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء ذا لهجة أصدق منه، وقد أمر الله سبحانه رسوله بحبّه، وهو من الثلاثة الذين تشتاق إليهم الجنَّة، والثلاثة الذين يحبّهم الله تعالى.

أفهل يساوي من هو هذا بالطريد اللعين، فيشوَّه ذكره بهذه التسوية، ويشهر بين الملأ موصوماً بذلك، ويُمنع الناس عن التقرّب إليه، وينادي عليه بذلِّ الاستخفاف، ويُحرم الناس عن علومه الجمَّة التي هو وعائها، ولعمر الحقِّ، وشرف الإسلام، ومجد الإنسانيَّة، وقداسة أبي ذر، إنَّ النشر بالمناشير، والقرض بالمقاريض أهون على الدينيِّ الغيور من بعض هاتيك الشنايع.

ثمَّ إنَّ تأديب الخليفة للرعيَّة إنَّما يقع على مَن فقد الآداب الدينيَّة وطوَّحت به طوائح الجهل إلى مساقط الضعة. وأمَّا مثل أبي ذر الذي أطراه رسول الله صلى الله عليه وآله

____________________

١ - راجع ص ٣٢٨٣٢٤.

٣٢٩

بما لم يَطرِ به غيره وقرَّ به وأدناه وعلّمه وإذا غاب عنه تفقَّده، وشهد إنَّه شبيه عيسى بن مريم هدياً وسمتاً وخُلقاً وبرّاً وصدقاً ونُسكاً وزهداً. فبماذا يؤدَّب؟ ولِما؟ وأي تأديب هذا يراه النبيُّ الأعظم بلاءً في الله؟ ويأمر أبا ذر بالصبر وهو يقول: مرحباً بأمر الله. وبِمَ ولِمَ استحقَّ أبو ذر التأديب؟ وعمله مبرورٌ مشكورٌ عند المولى سبحانه، ويراه مولانا أمير المؤمنين غضباً لله ويقول له: فارج مَن غضبت له(١) .

نعم: يجب أن يكون أبو ذر هو المؤدِّب للناس لِما حمله من علم النبوَّة وأحكام الدين وحِكَمه، والنفسيّات الكريمة، والملكات الفاضلة التي تركته شبيهاً بعيسى بن مريم في أُمَّة محمّد صلى الله عليه وآله.

ما بال الخليفة يتحرّى تأديب أبي ذر وهو هذا، ويبهظه تأديب الوليد بن عقبة السكّير على شرب الخمر واللعب بالصَّلاة المفروضة؟.

ويبهظه تأديب عبيد الله بن عمر على قتل النفوس المحترمة.

ويبهظه تأديب مروان وهو يتَّهمه بالكتاب المزوَّر عليه.

ويبهظه تأديب الوقّاح المستهتر المغيرة بن الأخنس وهو يقول له: أنا أكفيك عليَّ بن أبي طالب. فأجابه الإمام بقوله: يا ابن اللعين الأبتر والشرة التي لا أصل لها ولا فرع أنت تكفيني؟ فوالله ما أعزَّ الله من أنت ناصره الخ(٢) .

ما بال الخليفة يطرد أبا ذر ويردفه بصلحاء آخرين ويرى الإمام الطاهر أمير المؤمنين أحقّ بالنفي منهم(٣) ويأوي طريد رسول الله الحَكَم وابنه ويُرفدهما وهما هما؟.

ما بال الخليفة يخوِّل مروان مهمّات المجتمع؟ ويلقي إليه مقاليد الصالح العام؟ ولم يُصخ إلى قول صالح الأُمَّة مولانا أمير المؤمنين له: أما رضيتَ من مروان ولا رضي منك إلّا بتحرُّفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يُقاد حيث يُسار به؟ والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا في نفسه، وأيم الله إنِّي لأراه سيوردك ثمَّ لا يصدرك وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك، وغُلبت على أمرك، يأتي تمام الحديث في الجزء التاسع إن شاء الله تعالى.

____________________

١ - راجع ما مرَّ في هذا الجزء صفحة ٣٠٠.

٢ - نهج البلاغة ١: ٢٥٣.

٣ - سيوافيك حديثه في مواقف عمار إن شاء الله تعالى.

٣٣٠

ما بال الخليفة يعطي مروان أزمَّه أُموره ويشذُّ عن السيرة الصالحة حتّى توبِّخه زوجته نائلة بنت الفرافصة؟ وتقول: قد أطعت مروان يقودك حيث شاء، قال: فما اصنع قالت. تتقي الله وتتَّبع سنَّة صاحبيك، فإنَّك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند الناس قَدْرٌ ولا هيبةٌ ولا محبَّة، وإنَّما تركك الناس لمكانه، فأرسل إلى عليّ فاستصلحه فإنَّ له قرابةٌ وهو لا يعصى(١) ليت الخليفة كانت له أُذنٌ واعيةٌ تسمع من بنت الفرافصة كلمتها الحكميَّة التي كانت فيها نجاته في النشأتين.

كان من صالح الخليفة أن يدني إليه أبا ذر فيستفيد بعلمه وخُلقه ونسكه وأمانته وثقته وتقواه وزهده لكنَّه لم يفعل، وماذا كان يجديه لو فعل؟ وحوله الأمويُّون وهو المتفاني في حبِّهم وهم لا يرون ذلك الرأي السديد سديداً لأنَّه على طرف النقيض ممّا حملوه من النهمة والشرّه، واكتناز الذهب والفضَّة، والسير مع الهوى والشهوات، وهم المسيطرون على رأي الخليفة وأبو سفيان يقول: يا بني أُميّة تلقفوها تلقُّف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرنَّ إلى صبيانكم وراثة. أو يقول لعثمان: صارت إليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة واجعل أوتادها بني أمية فإنَّما هو الملك ولا أدري ما جنَّة ولا نار. «راجع ص ٢٨٥».

وعثمان وإن زبره تلك السّاعة لكنَّه لم يعدُ رأيه في بني أُميَّة المتلاعبين بالدين لعبهم بالاُكر، ولا أدري هل تهجَّس في تأديب أبي سفيان على ذلك القول الإلحادي الشائن كما تهجَّس وفعل في أبي ذر البرِّ التقي، ومَن يماثله مِن الصلحاء الأتقياء؟.

لقد فات ابن الأثير كلُّ هذا فاعتذر عن الرجل بأنَّ الخليفة يؤدِّب رعيَّته.

عماد الدين ابن كثير

جاء ابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية ٧: ١٥٥ فبنى على أساس ما علّاه مَن قبله في حذف ما كان هنالك من هنات وزاد في الطنبور نغمات قال: كان أبو ذر ينكر على من يقتني مالاً من الأغنياء ويمنع أن يدَّخر فوق القوت ويوجب أن يتصدَّق بالفضل ويتأوَّل قول الله سبحانه وتعالى:( وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) . فينهاه معاوية عن إشاعة ذلك فلا يمتنع فبعث يشكوه إلى عثمان

____________________

١ - تاريخ الطبري ٥: ١١٢، الكامل لابن الأثير ٣ ٦٩.

٣٣١

فكتب عثمان إلى أبي ذر أن يقدم عليه المدينة فقدمها فلامه عثمان على بعض ما صدر منه واسترجعه فلم يرجع فأمره بالمقام بالربذة - وهي شرقي المدينة - ويقال: إنَّه سال عثمان أن يقيم بها وقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال لي: إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج منها. وقد بلغ البناء سلعاً، فأذن له عثمان بالمقام بالربذة وأمره أن يتعاهد المدينة في بعض الأحيان حتّى لا يرتدَّ أعرابيّاً بعد هجرته ففعل فلم يزل مقيماً بها حتّى مات. اه‍.

وقال في ص ١٦٥ عند ذكر وفاته: جاء في فضله أحاديث كثيرة من أشهرها ما رواه الأعمش عن أبي اليقظان عثمان بن عمير عن أبي حرب بن أبي الأسود عن عبد الله ابن عمرو إنَّ رسول الله قال: ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر. وفيه ضعفٌ. ثمَّ لما مات رسول الله صلى الله عليه وآله ومات أبو بكر خرج إلى الشام فكان فيه حتّى وقع بينه وبين معاوية فاستقدمه عثمان إلى المدينة ثمَّ نزل الربذة فأقام بها حتّى مات في ذي الحجَّة من هذه السنة، وليس عنده سوى امرأته وأولاده فبينما هم كذلك لا يقدرون على دفنه إذ قدم عبد الله بن مسعود من العراق في جماعة من أصحاب فحضروا موته وأوصاهم كيف يفعلون به، وقيل: قدموا بعد وفاته فولّوا غسله ودفنه، وكان قد أمر أهله أن يطبخوا لهم شاة من غنمه ليأكلوه بعد الموت، وقد أرسل عثمان بن عفان إلى أهله فضمّهم مع أهله. ا هـ.

هذا كلُّ ما في عيبة ابن كثير من المخاريق في المقام. وفيه مواقع للنظر:

١ - إتّهامه أبا ذر بأنَّه كان ينكر اقتناء المال على الأغنياء. الخ. هذه النظريّة قديماً ما عزوه إلى الصحابيِّ العظيم إختلاقاً عليه وزوراً، وقد تحوَّلت في الأدوار الأخيرة بصورة مشوَّهة أُخرى من نسبة الإشتراكيَّة إليه وسنفصّل القول عنها تفصيلا إنشاء الله تعالى.

٢ - إنَّه حسب نزوله الشام وهبوطه الربذة بخيرة منه بعد ما أوعز إلى أنَّ عثمان أمره بالمقام بالربذة، أمّا حديث الربذة فقد أوقفناك آنفاً على أنَّه كان منفيّاً إليها، و أُخرج من مدينة الرسول بصورة منكرة، ووقع هنالك ما وقع بين عليّ عليه السلام ومروان، وبينه وبين عثمان، وبين عثمان وبين عمّار، واعتراف عثمان بتسييره، وتسجيل عليّ أمير المؤمنين عليه ذلك، وسماع غير واحد من أبي ذر الصّادق نفسه حديثه، وإنَّ عثمان

٣٣٢

جعله أعرابيّاً بعد الهجرة، وهو مقتضى إعلام النبوَّة في إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله إيّاه بأنَّه سوف يُخرج من المدينة، ويُطرد من مكّة والشّام؛ وأمّا خبر الشام فقد مرَّ إخراجه إليها ولم يكن ذلك باختياره أيضاً.

٣ - وأمّا حديث بلوغ البناء السلع فإفكٌ مفترى على أمِّ ذر وقد جاء في مستدرك الحاكم ٣: ٣٤٤، وذكره البلاذري كما مرَّ في ص ٢٩٣ ورآه سبب خروج أبي ذر إلى الشام بإذن عثمان لا سبب خروجه إلى الربذة كما في حديث الطبري.

على أنَّ ابن كثير أخذه من الطبري في التاريخ وجلُّ ما عنده إنَّما هو ملخَّص ما فيه مع التصرُّف فيه على ما يروقه؛ وإسناد الرواية في التاريخ رجاله بين كذّاب وضّاع وبين مجهول لا يُعرف إلى ضعيف متَّهم بالزندقة كما أسلفناه في ص ٨٤، ١٤٠، ١٤١ ٣٢٧ وهم:

١ - السريّ ٢ - شعيب ٣ - سيف ٤ - عطيَّة ٥ - يزيد الفقعسي.

وحديثٌ يكون في إسناده أحدٌ من هؤلاء لا يعوَّل عليه، وعلى فرض إعتباره فإنَّه لا يقاوم الصحاح المعارضة له الدالة على إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله بأنَّه يُخرج ويُطرد من مكّة والمدينة والشام: راجع ص ٣١٦ - ٣١٩ وهي معتضدةٌ بما مرَّ عن أبي ذر وعثمان وغيرهما في تسيير عثمان إيّاه، أضف إليها الأعذار الباردة الواردة عن أعلام القوم في تبرير عثمان عن هذا الوزر الشائن.

٤ - وأمّا ما ذكره من أمر عثمان أبا ذر أن يتعاهد المدينة حتّى لا يرتدَّ أعرابيّاً فإنَّه من جملة تلك الرواية المكذوبة التي تشمل على حديث السلع، وقد مرَّ من طريق البلاذري بإسناد صحيح في ص ٢٩٤ قول أبي ذر: ردَّني عثمان بعد الهجرة أعرابيّاً. على إنَّه لم يذكر أحدٌ إنَّ أبا ذر قدم المدينة خلال أيّام نفيه من سنة ثلاثين إلى وفاته سنة إثنتين وثلاثين حتّى يكون ممتثلاً لأمر عثمان بالتعاهد.

٥ - ما ذكره من إنّه جاء في فضله أحاديث كثيرة من أشهرها. الخ.

إنَّ شنشنة الرجل في الفضائل إنَّه إذا قدم لسرد تاريخ مَن يهواه من الأمويِّين ومَن انضوى إليهم من رُوّاد النُهم جاء بأشياء كثيرة وسرد التافه الموضوع في صورة الصِّحاح من غير تعرُّض لإسنادها أو تعقيب لمضامينها، ولا يملُّ من تسطيرها وإن

٣٣٣

سوَّدت أضابير من القراطيس، لكنّه إذا وصلت النوبة إلى ذكر فضل أحد من أهل البيت عليهم السّلام أو شيعتهم وبطانتهم من عظماء الأُمّة وصلحائها كأبي ذر تضييق عليه الأرض برحبها، وتلكّأ وتلعثم كأنَّ في لسانه عقلة وفي شفتيه عقدة، أو إنّه كان في أُذنه وقراً عن سماعها فلم تُنه إليه؛ وإن اضطرَّته الحالة إلى ذكر شيء منها جاء به في صورة مُصغَّرة كما تجده هاهنا حيث جعل ما هو من أشهر فضائل أبي ذر ضعيفاً، وهو يعلم أنَّ طريق هذا الاسناد ليس منحصراً بما ذكره هو من طريق ابن عمرو الذي أخرجه ابن سعد والترمذي وابن ماجة والحاكم، وإنَّما جاء من طريق عليّ أمير المؤمنين وأبي ذر وأبي الدرداء وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وأبي هريرة؛ وحسَّن الترمذي غير واحد من طرقه في صحيحه ٢: ٢٢١.

وإسناد أحمد من طريق أبي الدرداء في مسنده ٥: ١٩٧ صحيحٌ رجاله كلّهم ثقات.

وإسناد الحاكم من طريق أبي ذر صحَّحه هو وأقرَّه الذهبي كما في «المستدرك» ٣: ٣٤٢.

وإسناد الحاكم من طريق عليّ عليه السلام وأبي ذر أيضاً صحَّحه هو وأقرَّه الذهبي كما في «المستدرك» ٤: ٤٨٠.

وأمّا إسناد ما أخرجه ابن كثير من طريق ابن عمرو فقال الذهبي فيما نقله عنه المناوي في شرح الجامع الصغير: سنده جيّدٌ. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال أحمد وثقوا وفي بعضهم خلافٌ. وحسّنه السيوطي في الجامع الصغير. فأين الضعف المزعوم؟

ولا يهمّنا التعرُّض لبقيّة ما رمى القول فيه على عواهنه فإنّها مأخوذةٌ من الطبري مع عدم الإجادة في الأخذ؛ لعلّه أراد إصلاح ما في روايته من التهافت فزاد عواراً على عواره؛ وروايته هي من جملة أساطير أوقفناك على وضعها ص ٣٢٧.

والممعن في كتب المحدِّثين يعلم أنَّ هذه الجنايات التي أوعزنا إلى بعضها لم تعدُ كتب الحديث فتجدها تثبت ما مِن حقِّه الحذف؛ وتحذف ما يجب أن يذكر، ونكل عرفان ذلك إلى سعة باعك أيّها القارئ الكريم!؟

( لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ

فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ )

«سور ق ٢٢»

٣٣٤

نظرية أبي ذر في الأموال

وافى سيِّدنا أبو ذر كغيره من قرناءه المقتصِّين أثر الكتاب والسنَّة يبغي صالح قومه ونجاح أمَّته، يبغي بهم أن لا يتخلّفوا عنهما قيد ذرَّة، يريد أن ينفي عن الناس البخل الذميم، وأن تكون لضعفاء الأمَّة لُماظة من منائح الأغنياء، وأن لا يُمنعوا حقوقهم التي إفترضها الله لهم، وكان نكيره الشديد متوجِّهاً إلى مغتصبي أموال الفقراء، والى أهل الأثرة الذين كانت القناطير المقنطرة من الذهب والفضَّة منضَّدة في دورهم؛ و كانت سبائك التبر تُقسّم بكسرها بالفؤوس، من دون أن تُخرج منها الحقوق المفروضة من أخماس وزكوات، ومن غير إغاثة للملهوفين الذين كان قوتهم السَغَب، وريّهم الظمأ وراحتهم النكَد، وعند القوم أموالٌ لهم متكدَّسة لا تنتفع بها العُفاة، ولا يستفيد من نماءها المجتمع، ولا يُصرف شيءٌ منها في الصالح العام، وقد شاء الله سبحانه للذهب والفضّة أن تتداول بهما الأيدي؛ ويتقلّبا في وجوه الحِرَف والمهن والصنايع، فتنتجع العامّة بهما فأربابهما بالأرباح، والضعفاء بالأُجور، والبلاد بالعمران، والأراضي بالإحياء والمعالم والمعارف بالدعاية والنشر، والملأ العلمي بالجوامع والكلّيات والكتب و الصحف، والمضطرّون بحقوقهما الإلهيّة واستحكامات تقتضيها الظروف، حتّى تكون الأمّة سعيدة بما يتسنّى لها من تلكم الجهات من السعي وراء مناجحها، ولذلك حرَّم المولى سبحانه إتخاذ الأواني من الذهب والفضّة لئلّا يبقيا جامدين يعدوهما أعظم الفوائد وأكثرها المرقومة فيهما المترقِّبة منهما من الوجوه التي ذكرناها.

كان نكير سيِّدنا أبي ذر موجّها إلى أمثال من ذكرناهم كمعاوية الذي كان يرفع أبو ذر عقيرته على بابه كلَّ يوم ويتلو قوله تعالى:( وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) . وكان يرى الأموال تُجبى إليه فيقول: جاءت القطار تحمل النار.

وكمروان الذي كان إحدى منايح عثمان له خُمس افريقيَّة وهو خمسمائة ألف دينار.

٣٣٥

وكعبد الرحمن بن عوف وقد خلّف ذهباً قُطّع بالفؤوس حتّى مجلت أيدي الرجال منه، وترك أربع نسوة فأصاب كلَّ امرأة ثمانون ألفاً، فتكون ثرَوته من هذا الذهب المكنوز فحسب ما مرَّ في صفحة ٢٨٤.

وكزيد بن ثابت المخلّف من الذهب والفضَّة غير الأموال المكردسة والضياع العامرة ما كان يُكسر عند تقسيمه بالفؤوس.

وكطلحة التارك بعده مائة بُهار في كلِّ بُهار ثلاث قناطر ذهب، والبُهار جلد ثور وهذه هي التي قال عثمان فيها: ويلي على ابن الحضرميَّة (يعني طلحة) أعطيته كذا وكذا بُهار ذهباً وهو يروم دمي يحرِّض على نفسي(١) أو طلحة التارك مائة جمل ذهباً كما مرَّ عن ابن الجوزي.

وأمثال هؤلاء البخلاء على المجتمع الديني، وهو يرى إنَّ خليفة الوقت يأتيه أبو موسى بكيلة ذهب وفضَّة فيقسِّمها بين نسائه وبناته من دون أيِّ إكتراث لمخالفة السنَّة الشريفة، وهو يعلم الكميَّة المدَّخرة من النقود التي نهبت يوم الدار.( زُيّنَ لِلنّاسِ حُبّ الشّهَوَاتِ مِنَ النّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) (٢) .

فما ظنّك بالرجل الدينيِّ الواقف على كلِّ هذه الكنوز من كَثَب؟ وهو يعلم بواسع ما وعاه من رسول الله صلى الله عليه وآله من المغيَّبات، وممّا يشاهده من نفسيّات القوم، أنَّ تلكم الأموال المكتنزة سوف يُصرف أكثرها في الدعوة إلى الباطل، وفي تجهيز العساكر من ناكثي بيعة الإمام الطاهر والخارجين عليه والمزحزحين حليلة المصطفى عن خدرها عن عقر داره صلى الله عليه وآله وسلم، وفي أُجور الوضّاعين للأحاديث في فضائل بني أُميَّة والوقيعة في رجالات أهل البيت عليهم السَّلام، وفي محرِّ في الكلم عن مواضعه، وفي منائح لاعني مولانا أمير المؤمنين وقاتلي الصلحاء الأبرياء من موالي العترة الطاهرة، ويُصرف شيءٌ كثيرٌ منها في الخمور والفجور، إلى غير ذلك من وجوه الشرِّ.

ما ظنّك بالرجل؟ وفي أُذنه نداء الصادع الكريم: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين

____________________

١ - شرح ابن أبي الحديد ٢: ٤٠٤.

٢ - سورة آل عمران: ١٤.

٣٣٦

رجلاً إتَّخذوا مال الله دولاً، وعباد الله خولاً، ودين الله دغلاً. ويرى بين عينيه آل أبي العاص بلغوا ثلاثين وجاءوا يلعبون بالملك تلاعب الصبيان بالأُكر، وقد إتّخذوا مال الله دولا..

فهل تراه يخفق على ذلك كلّه، كأنّه لا يبصر ولا يسمع ولا يعلم؟ أو أنَّه يُدوّخ العالَم بعقيرته؟ ويلفت الأنظار إلى جهات الحكمة ووجوه الفساد. عساه يَكسح شيئاً من الشرِّ الحاضر، ويسدُّ عادية المعرَّة المقبلة وإنَّ أُسس هذا الدين الحنيف الدعوة إلى الحقِّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،( وَلِتَكُن مِنكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) .

لقد ناء أبو ذر بهذه المهمَّة الدينيّة وهو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، وما كان يلهج إلّا بقوله تعالى:( وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) . ولم يشذّ في تأويل الآية عمّا يقتضيه ظاهرها لأنَّ مطمح نظره كان هؤلاء الذين ذكرناهم ممَّن جمعوا من غير حلّه؛ وادَّخروا على غير حقِّه، ولم يؤدُّوا المفترض ممّا استباحوه من المال واكتنزوه، ولذلك لم يوجِّه نكيره إلى ناس آخرين من زملائه ومعاصريه من أهل اليسار كقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الذي كان يهب غير الحقوق الواجبة عليه آلافاً مؤلَّفة وقد عرفت شطراً من يساره في الجزء الثاني ٨٨ - ٨٥.

وكأبي سعيد الخدري الذي كان يقول: ما أعلم أهل بيت من الأنصار أكثر أموالاً منّا(٢) .

وكعبد الله بن جعفر الطيار الذي دوَّخ الأجواء ذكر ثروته وعطاياه وقد فصلّها ابن عساكر في تاريخه ٧: ٣٤٤ - ٣٢٥ وغيره.

وعبد الله بن مسعود الذي خلّف تسعين ألفاً كما في صفة الصفوة.

وحكيم بن حزام الذي كانت بيده دار الندوة فباعها من معاوية بمائة ألف درهم فقال له عبد الله بن الزبير: بعت مكرمة قريش. فقال حكيم: ذهبت المكارم إلّا التقوى يا ابن أخي إنِّي اشتريت بها داراً في الجنَّة أشهدك أنَّي قد جعلتها في سبيل الله. وحجَّ

____________________

١ - سورة آل عمران آية: ١٠٤.

٢ - صفة الصفوة لابن الجوزي ١: ٣٠٠.

٣٣٧

حكيم ومعه مائة بدنة قد أهداها وجلّلها الحبرة؛ وقف مائة وَصيف يوم عرفة في أعناقهم أطوقة الفضَّة قد نقش في رؤسها:- عتقاء الله عزَّوجلَّ عن حكيم - وأعتقهم، وأهدى ألف شاة(١) .

إلى أُناس آخرين لدة هؤلاء من أهل اليسار. فلم تسمع أُذن الدنيا إنَّ أبا ذر وجّه إلى أحد من هؤلاء الأثرياء لوماً لأنّه كان يعلم بأنَّهم اقتنوها من طرقها المشروعة وأدّوا ما عليهم منها وزادوا، وراعوا حقوق المروءة حقَّ رعايتها، وما كان يبغي بالناس إلّا هذه.

لِماذا يرى أبو ذر بناء معاوية الخضراء في دمشق فيقول: يا معاوية! إن كانت هذه الدار من مال الله؟ فهي الخيانة، وإن كانت من مالك؟ فهذا الإسراف. فسكت معاوية ويقول أبو ذر: والله لقد حدثت أعمالٌ ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سنّة نبيِّه، والله إنّي لأرى حقّاً يُطفأ، وباطلاً يحيى، وصادقاً يكذَّب، وأثرةً بغير تقى، وصالحاً مستأثرٌ عليه(٢) .

ويرى بناء المقداد داره بالمدينة بالجرف وقد جعلها مجصّصة الظاهر والباطن كما في مروج الذهب ١: ٤٣٤ فلا ينكره عليه ولا ينهاه عنه ولا ينبس ببنت شفة، وليس ذلك إلّا لِما كان يراه من الفرق الواضح بين المالين والبنائين وصاحبيهما.

وأمّا وجوب إنفاق المال الزائد على القوت كلّه الذي عزاه إلى سيِّدنا أبي ذر المختلقون فمن أفائكم المفتريات، لم يدَّعه أبو ذر ولا دعا إليه وكيف يكون ذلك؟ وأبو ذر يعي مِن شريعة الحق وجوب الزكاة؟ وهل يمكن ذلك إلّا بعد اليسار والوفر الزائد على المؤَن؟ والله سبحانه يقول:( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِم ) ، وفي تنكير الصدقة و (مِن) التبعيض دلالة على أنَّ المأخوذ بعض المال لأكلّه.

على أنَّ النُصب الزكويّة المضروبة في النقدين والأنعام والغلّات كلّها نصوصٌ على أنَّ الباقي من المال مباحٌ لأربابه، ولأبي ذر نفسه في آداب الزكاة أحاديث أخرجها البخاري ومسلم وغيرها من رجال الصحاح وأحمد والبيهقي وغيرهم.

____________________

١ - صفة الصفوة لابن الجوزي ١: ٣٠٤.

٢ - راجع ما مرَّ ص ٣٠٤.

٣٣٨

فلو كان يجب إنفاقٌ بعد إخراج الزكاة فما معنى التحديد بالنُصب والإخراج منها؟ وهذا معنى واضح لا يخفى على كلِّ مسلم فضلاً عن مثل أبي ذر الذي هو وعاء العلم والمحيط بالسنّة الشريفة.

ولو كانت على المكلف بقيّةٌ من الواجب بعد الزكاة لم يؤدِّها فما معنى الفلاح؟ الذي وصف الله تعالى به المؤمنين بقوله:( أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالّذِينَ هُمْ عَنِ اللّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لِلزّكَاةِ فَاعِلُونَ ) . سورة المؤمنون ٤١

وليت شعري إن كان من المفترض إنفاق كلِّ ما للانسان من المال بعد المؤَن فبماذا يحترف أو يمتهن؟ وليس عنده فاضلٌ على المؤن. أبما ادَّخره لقوته؟ أم بما رجع عنه بخفّي حنين؟ وممّاذا يخرج الزكاة؟ فيسدُّ بها خلّة الضعفاء ويقتات هو في مستقبله الذي هو أوان فاقته. أمِن المحتمل إنَّ أبا ذر كان يوجب ترك كلّ هذه؟ ويريد أن تكون الدنيا مشحونةً بالعفاة المتكفّفين؟ فلا يرى المتسوّل إلّا شحّاذاً مثله، ولا يجد العافي مُنتجعاً لكشف كربته وتسديد إعوازه إن دامت الحالة على ما يُتقوّل به على أبي ذر سنة أو دون سنة.

تالله لا يبغي أبو ذر بالمجتمع الديني هذه الضعة وهو لا يحبُّ لهم إلّا الخير كلّه، ولا يريد هذا أيُّ مصلح أو صالح في نفسه فضلاً عن أبي ذر المعدود في علماء الصحابة ومصلحيهم وصلحائهم.

نعم: غضب أبو ذر لله كما قاله مولانا أمير المؤمنين(١) وغضب للمسلمين حيث رأى فيئهم مدَّخراً عنهم تتمتَّع به سماسرة النُهمة والجشع.

يَرى فيئهم في غيرهم متقسمّاً

وأيديهمُ من فيئهم صفرات

فكان كلّ ما انتابه من جرّاء هذا الأخذ والرَّد بعين الله وفي سبيله كما عهد إليه رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: أنت رجلٌ صالحٌ وسيصيبك بلاءٌ بعدي قال: في الله؟ قال: في الله. قال: مرحباً بأمر الله. راجع ص ٣١٦ من هذا الجزء.

ثمَّ إنَّ ما شجر من الخلاف بين أبي ذر ومعاوية في قوله تعالى:( الّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) - فخصَّه معاوية بأهل

____________________

١ - راجع ص ٣٠٠ من هذا الجزء.

٣٣٩

الكتاب وعمَّمه أبو ذر عليهم وعلى المسلمين كما أخرجه البخاري ومرَّ بلفظه ص ٢٩٥ وهذه الرواية هي المستند الوحيد لجملة من الأفّاكين على أبي ذر - ظاهرٌ في أنّه لا خلاف بينهما في المقدار المنفق من المال وإنّما هو في توجيه الخطاب، فارتأى معاوية إنَّ المخاطب به أهل الكتاب، وعلم أبو ذر من مستقي الوحي ولحن الآية الكريمة إنّها تعمُّ كلَّ مكلّف. إذن فيجب إمّا أن يُعزى هذا الشذوذ إليهما جميعاً، أو تبرّئان عنه جميعاً، فإفراد أبي ذر بالقذف من ولائد الضغائن والأحن.

وأيّاً ما كان فالمراد إنفاق البعض لا الكلّ، وإن كان النظر القاصر قد يجنح إلى الأخير لأوَّل وهلة. وليست هذه الآية بدعاً من آيات أُخرى تماثلها في السياق كقوله تعالى:( مَثَلُ الّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ) . الآية «البقرة ٢٦١».

وقوله تعالى:( الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللّيلِ وَالنّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ ) . «البقرة ٢٧٤».

وقوله تعالى:( الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلاَ أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ ) . «البقرة ٢٦٢».

وقوله تعالى:( وَمَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ ) . الآية «البقرة ٢٦٥»

على أنَّ هذه الآيات أصرح من هاتيك في العموم لمكان الجمع المضاف فيها، لكن المعلوم بالضرورة من دين الاسلام إنَّه نزَّلها إلى البعض، ولعلَّ النكتة في الإتيان بالجمع المضاف فيها: إنَّ الموصوفين بها بلغوا من نزاهة النفس وكرم الطباع وعلوِّ الهمَّة حدّاً لا يُبالون معه لو توقّفت الحالة على إنفاق كلِّ أموالهم. أو إنَّهم حين يسمحون بإنفاق البعض في سبيل الله تعالى يجعله سبحانه في مكان إنفاق الكلِّ بفضل منه ويثيبهم على ذلك. وبهذا يُعلم السرُّ في قوله تعالى:( إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدّوا عَن سَبِيلِ اللّهِ ) «الأنفال ٣٦». وقوله تعالى:( وَالّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النّاسِ ) . الآية «النساء ٣٨».

فليست هذه الآيات في منتأى عن قوله تعالى:( لَن تَنَالُوا البّرّ حَتّى‏ تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ ) . «آل عمران ٩٢».

٣٤٠