الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٨

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 397

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
تصنيف: الصفحات: 397
المشاهدات: 139936
تحميل: 5988


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 139936 / تحميل: 5988
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقوله تعالى:( قُل لّعِبَادِيَ الّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصّلاةَ وَيُنفِقُوا مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ) . «إبراهيم ٣١».

وقوله تعالى:( الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) . «البقرة ٣».

وقوله تعالى:( الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) . «الأنفال ٣».

وقوله تعالى:( وَالْمُقِيمِي الصّلاَةِ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) . «الحج ٣٥».

وقوله تعالى:( وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السّيّئَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) «القصص ٥٤».

وقوله تعالى:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْنَاكُم ) «البقرة ٢٥٤».

وقوله تعالى:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) «البقرة ٢٦٧».

وقوله تعالى:( وَأَنفِقُوا مِن مَا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) «المنافقون ١٠».

على إنَّ غير واحد من تلكم الآيات تومي إلى الإنفاق المندوب كما نصَّ عليه علماء التفسير وحفّاظ الحديث، ومع ذلك لم يدعها سبحانه على ما يتوهّم منها من جمعها المضاف حتّى جعل لها حدّاً بقوله عزوجل:( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى‏ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مّحْسُوراً ) . «الاسراء ٢٩». وقوله تعالى:( وَالّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً ) . «الفرقان ٦٧».

أترى أنَّ أبا ذر سلام الله عليه عزب عنه كلُّ هذه الآيات الكريمة والأُصول المسلّمة، أو كان له رأيٌ خاصٌّ في تأويلها تجاه الحقائق الراهنة؟ حتّى جاء بعد لأي من عمر الدنيا رعرعةٌ تجشّأهم الدهر فقائهم وقفوا على تلكم الكنوز المخبّأة.

ولو كان لأبي ذر أدنى شذوذ عن الطريقة المثلى في حكم إلهي، شذوذاً يخلُّ بنظام المجتمع ويقلق السَّلام والوئام، وتكثر حوله القلاقل، وفيه إنارة العواطف والإخلال بالأمن أو التزحزح عن مبادئ الاسلام؟ لكان مولانا أمير المؤمنين عليه السلام أوَّل من يردعه ويحبسه عن قصده السيِّئ وأبو ذر أطوع له من الظلِّ لديه؟ لكنه عليه السلام بدلاً عن ذلك يقول: غضبتَ لله فارج مَن غضبت له. ويقول: والله ما أردت تشييع أبي ذر إلّا لله. ويقول لعثمان: إتَّق الله فإنّك سيَّرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك. وأمير المؤمنين مَن تعرفه بتنمُّره في ذات الله لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو مع الحقِّ

٣٤١

والحقُّ معه في كلِّ ما يقول ويفعل.

وهل ترى؟ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله مع أنَّه كان يعلم أنّ أبا ذر سوف ينوء في أُخرياته بدعوة باطلة كهذه طفق ينوّه به، ويعرِّفه بني الملأ بصفات فاضلة تكبر مقامه، وتعظّم مكانته عند الجامعة، وتمكّنه من القلوب الصالحة ويول عمر له صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله! فتعرف ذلك له؟ فيقول صلى الله عليه وآله: نعم فاعرفوه له؟ فيكون صلى الله عليه وآله مؤيِّداً له على عيثه، ومؤسِّساً لباطله، ومعرِّفاً لضلاله؟ حاشا رسول العظمة من مثل ذلك.

( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى‏ عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلّ النّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ -

قُلْ هَلْ عِندَكُم مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا، إِذْ تَلَقّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ -

وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ، مَا لَهُم بِهِ مِنْ -

عِلْمٍ وَلاَ لِآبَائِهِمْ، إِن يَتّبِعُونَ إِلّا الظّنّ -

وَإِنْ هُمْ إِلّا يَخْرُصُونَ )

٣٤٢

أبوذر والاشتراكيّة

لقد عرفت كلَّ ما في كنانة الأوَّلين من نِبال مرشوقة إلى العبد الصالح شبيه عيسى في أُمَّة محمّد صلى الله عليه وآله فهلمَّ هاهنا إلى رجرجة الآخرين من مقلّدة الدور الأخير الخابطين خبط عشواء، الذين رَموا أبا ذر - وأُجلّه - بالإشتراكيَّة تارةً وبالشيوعيَّة أُخرى.

هل أحاط علماً هؤلاء الأغرار بمبادئ الشيوعيَّة التعيشة، وموّاد الإشتراك الذي هو بمقربة من رديفته المبغوضة؟

وهل أُتيح لهم عرفان مغازي أبي ذر المصلح العظيم فيما قال ودعا إليه؟ حتّى طفقوا يوفِّقوا بين المبدأين.

لا أحسب إنَّهم عرفوا شيئاً من تلكم المغازي وإنَّهم في ظنِّي الغالب بهم شيوعيَّةٌ خونةٌ يُديفون السمَّ في الدسم، ويُسرُّون حسواً في ارتغاء، إتَّخذوا ما قالوه بل تقوَّلوه أكبر دعاية إلى تلكم المبادئ الهدّامة لأُسس المدنيَّة والحضارة، المضادَّة لناموس الطبيعة، فضلاً عن حدود الاسلام، بجعل مثل أبي ذر العظيم شيوعيّاً أو إشتراكيّاً، وقد صافقه على ما هتف به ونقم على مَن ناوءه وآذاه مِن القوم جلّ الصحابة إن لم نقل كلّهم ممَّن يعبأ به وبرأيه، واستاءوا لما نُكب به من جرّاء ذلك الهتاف وفي مقدّمهم مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وإبناه الإمامان إن قاما وإن قعدا، وعمّار الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله: إنَّ عمّاراً مع الحقِّ والحقّ معه يدور عمَّار مع الحقِّ أينما دار(١) إلى كثيرين وافقوا هؤلاء على النقمة والإستياء، فلم يكن أبو ذر شاذّاً في رأيه، ولا أُنهي إلينا إنّه خالفه أحدٌ من الصحابة فدونك صحايف التاريخ وزبر الحديث.

نعم: خالفه الذين يريدون أن يخضموا مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، وكانوا يكنزون الذهب والفضَّة ولا يُنفقون منها ما يجب عليهم إنفاقه، ويُحرمون الأُمّة عن أعطياتهم وما ينمو منها، ويريدون للضعفاء أن يرزحوا تحت نير الاضهاد، ويرسفوا

____________________

١ - سيوافيك في محله في الجزء التاسع بإذن الله تعالى.

٣٤٣

في قيود الفاقة والضعة، خاضعين لهم مستعبَدين، وللقوم من أموالهم قصورٌ مشيَّدة ونمارق مصفوفة، وزرابيُّ مبثوثة، يأكلون فيها مال الله أكلاً لما، ويحبُّون إحتكاره حبّاً جمّا.

نعم: خالفه أولئك الذين عرَّفهم يزيد بن قيس الأرحبيُّ يوم صفين بقوله من خطبة له: يحدِّث أحدهم في مجلسه بذيت وذيت، ويأخذ مال الله، ويقول: لا إثم عليَّ فيه، كأنَّما أُعطي تراثه من أبيه، كيف؟ إنَّما هو مال الله أفاءه علينا بأسيافنا ورماحنا قاتلوا. عباد الله! القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله ولا تأخذكم فيهم لومة لائم، إنَّهم إن يظهروا عليكم يُفسدوا عليكم دينكم ودنياكم، وهم مَن قد عرفتم وجرَّبتم(١)

فأيّ إنسان يبلغه إنَّ العظماء الذين نوَّهنا بذكرهم وهم أهل الفضائل والعلوم اعتنقوا مبدءاً لا يروقه أن يقتصَّ أثرهم؟ وهو لا يعلم أنَّ ذلك العزو المختلق تقوَّلوه دعاية إلى ضلالهم وترويجاً لباطلهم وستراً على عوارهم.

دع ذلك كلّه وهلمَّ معي إلى النظر في مبادئ الشيوعيَّة والفرَق الاشتراكيِّين، إنَّ القوم على تعدُّد فرقهم إلى الإشتراكيَّة «الديمقراطية» والإشتراكيَّة «الوطنيَّة النازيَّة» والشيوعيَّة، والماركسيَّة «اشتراكيَّة رأس المال» وبالرغم من تباينهم الكثير في شتَّى النواحي لا يختلفون في موادّ ثلاثة تجمع شملهم المبدَّد «بدَّد الله شملهم».

١ - تقويض النظام الحالي، وتشييد نظام جديد على أنقاضه يضمن توزيع الثروة توزيعاً عادلاً بين الأفراد.

٢ - إلغاء الملكيَّة الخاصَّة «ثروات الإنتاج» كرأس المال، والأرض، والمصانع على أن تستولي الدولة على هذه الملكيَّات جميعها، وتجعلها ملكيَّة عامَّة تديرها للمصلحة العامَّة.

٣ - يشتغل الأفراد لحساب الدولة بأجور تُعطى لهم بالتساوي؛ على أساس قيمة العمل الذي ينتجه كلٌّ منهم، وتبعاً لذلك لا يكون هناك دخل للأفراد سوى الأُجور.

وتنفرد الشيوعيَّة عن بقيَّة الإشتراكيِّين بأمرين: أحدهما إلغاء الملكيَّة الخاصَّة إلغاءً نهائيّاً من غير فرق بين (ثروات الانتاج وثروات الإستهلاك).

____________________

١ - تاريخ الطبري ٦: ١٠، كامل ابن الأثير ٣: ١٢٨، شرح ابن أبي الحديد ١: ٤٨٥.

٣٤٤

وثانيهما: توزيعها المال بين الأفراد لكلٍّ على حسب حاجته، ويستخدم من كلّ على حسب قدرته، فيكلّف العامل بالعمل على قدر استطاعته، ويدِّر عليه المعاش بما يسدُّ حاجته.

فعلينا هاهنا أن نعيد ذكر ما هتف به أبو ذر في شتّى مواقفه، وما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله في باب الأموال، وما قال في حقِّه عظماء الصحابة في الإطراء له والدفاع عنه بعد هتافه بما هتف، وما يُؤثر فيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله من الثناء الجميل وعهده إليه بما ينتابه من النكبات فنظر إليها نظرة مُستشفّ للحقيقة فنرى هل ينطبق شيءٌ منها على مواد (الشيوعيَّة والإشتراكيَّة)؟ أو ينحسر عنه ذلك الإفك المفترى داحراً إلى حضيض البهت والإفتراء؟.

إنَّ من قول أبي ذر لعثمان: ويحك يا عثمان! أما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله ورأيت أبا بكر وعمر؟ هل رأيت هذا هديهم؟ إنك لتبطش بي بطش الجبّار.

ومن قوله له أيضاً: إتَّبع سنَّة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلامٌ. قال عثمان: مالك وذلك؟ لا أُمَّ لك. قال أبو ذر: والله ما وجدت لي عذراً إلّا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

تجد أبا ذر هاهنا يلفت نظر عثمان إلى عهد الرسالة ثمَّ إلى عهد الشيخين ويدعوه إلى اتّباع تلكم السير؛ ومن جليّة الحال عند هاتيك الأدوار الثلاثة إطّراد الملكيَّة الخاصّة، ووجود أهل اليسار من الملّاكين، والتجَّار، وحُريّتهم في ثروتي الإنتاج والاستهلاك، واختصاص كلِّ ماليّة من نقود أو عقار أو ضياع أو مصانع أو أطعمة بأربابها ومن النواميس المسلّمة عند نبيِّ الإسلام صلى الله عليه وآله إنّه لا يحلُّ مال امرء إلّا بطيب نفسه(١) وفي الذكر الحكيم: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلّا أن تكون تجارةً عن تراض؛ فتجده يعزو الأموال إلى أربابها ويحرّم أكلها بالباطل إلّا أن تستباح بتجارة شرعيّة تستتبع رضا المالك الخاصّ، وهناك آياتٌ كريمةٌ كثيرةٌ تربو على خمسين آية لم يعدها عزو الأموال إلى مالكيها تقدَّم شطرٌ منها في صفحة ٣٤٠.

فأبو ذر في هذا الموقف يدعو إلى ضدّ الدعوة الإشتراكيّة الملغية للملكيَّة

____________________

١ - مرَّ الحديث ص ١٢٩.

٣٤٥

الخاصَّة، ويرى مخالفة ذلك من المنكر الذي يجب النهي عنه، فلم يردعه عمّا مضى فيه قول عثمان: مالك وذلك؟ لا أُمَّ لك.

ومن قوله لمعاوية لما بنى الخضراء، إن كانت هذه الدار من مال الله؟ فهي الخيانة وإن كانت من مالك؟ فهذا الإسراف.

فأبو ذر هاهنا يجوِّز أن يكون المال مقسوماً إلى مال الله وإلى ما يخصُّ للإنسان نفسه، فيرتِّب على الأوَّل الخيانة، وعلى الثاني السرف، ولم ينقم على معاوية نفس تصرّفه في المال وإنَّما نقم عليه أحد الأمرين الخيانة أو الإسراف، ولو كان ملغياً للملكيَّة لكان الواجب عليه أن ينتقد منه أصل تصرّفه في تلكم الأموال.

وتراه يسمِّي مال المسلمين من الفئ والصدقات والغنائم مال الله؛ وقد روى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله أيضاً لعثمان حيث قال له: أشهد إنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إذا بلغ بنوا أبي العاص ثلاثين رجلاً جعلوا مال الله دولاً، وعباده خولاً، ودينه دخلا وصدَّقه في حديثه مولانا أمير المؤمنين عليه السلام.

وهذه التسمية لم تكن قصراً على عهد أبي ذر ومعاوية وإنَّما كانت دارجة قبله وبعده، هذا عمر بن الخطّاب وقوله لأبي هريرة لما قدم من البحرين: يا عدوَّ الله وعدوَّ كتابه! أسرقتَ مال الله؟ قال: لست بعدو الله ولا بعدوِّ كتابه؛ ولكنِّي عدوّ من عاداهما ولم أسرق مال الله(١) .

وقال الأحنف بن قيس: كنّا جلوساً بباب عمر فخرجت جاريةٌ فقلنا: هذه سُريَّة عمر فقالت: إنَّها ليست بسُريَّة عمر إنَّها لا تحلُّ لعمر، إنَّها من مال الله. قال: فتذاكرنا بيننا ما يحلُّ له من مال الله قال: فرُقي ذلك إليه فأرسل إلينا فقال: ما كنتم تذاكرون؟ فقلنا: خرجت علينا جارية فقلنا: هذه سُريَّة عمر. فقالت: إنَّها ليست بسُريَّة عمر إنَّها لا تحلُّ لعمر، إنَّها من مال الله؟ فتذاكرنا بيننا ما يحلُّ لك من مال الله. فقال: ألا أُخبركم بما استحلُّ من مال الله؟ حُلّتين حلّة الشتاء والقيظ(٢) .

وقال عمر: لا يترخَّصنّ أحدُكم في البرذعة أو الحبل أو القتب فإنَّ ذلك للمسلمين

____________________

١ - الأموال لأبي عبيد ص ٢٦٩، راجع ما أسلفناه في ج ٦ ص ٢٥٤ ط ١ و ٢٧١ ط ٢.

٢ - الأموال لأبي عبيد ص ٢٦٨.

٣٤٦

ليس أحدٌ منهم إلّا وله فيه نصيبٌ، فإن كان لإنسان واحد؟ رآه عظيماً، وإن كان لجماعة المسلمين؟ إرتخص فيه وقال: مال الله(١) .

ومن قوله في حديث: البلاد بلاد الله، وتحمى لنعم مال الله، يحمل عليها في سبيل الله(٢) .

وفي حديث من قوله: المال مال الله، والعباد عباد الله، والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبراً في شبر(٣) .

وكان عمر كلّما مرَّ بخالد قال: يا خالد! أُخرج مال الله من تحت إستك(٤) .

وهذا مولانا أمير المؤمنين يقول في خطبته الشقشقيَّة(٥) : إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع.

وفي خطبة له عليه السلام: لو كان المال لي لسوَّيت بينهم، فكيف؟ والمال مال الله، ألا وإنَّ إعطاء المال في غير حقِّه تبذيرٌ وإسراف(٦) .

ومن كتاب له إلى عامله بآذربيجان: ليس لك أن تقتات في رعيَّة، ولا تخاطر إلّا بوثيقة، وفي يديك مال من مال الله عزَّوجلَّ وأنت من خزّانه(٧) .

ومن كتاب له إلى أهل مصر: ولكنني آسي أن يلي أمر هذه الأُمَّة سفهاؤها وفجّارها فيتَّخذوا مال الله دولاً، وعباده خولاً، والصالحين حَرباً، والفاسقين حزبا(٨)

ومن كتاب له إلى عبد الله بن العباس: وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى مَن قِبلك من ذوي العيال والمجاعة(٩) .

وروي أنّه عليه السلام رفع إليه رجلان سَرقا من مال الله أحدهما عبدٌ من مال الله والآخر

____________________

١ - الأموال لأبي عبيد س ٢٦٨.

٢ و ٣ - الأموال لأبي عبيد ص ٢٩٩.

٤ - راجع ما أسلفناه في الجزء السادس ص ٢٥٧ ط ١ و ٢٧٤ ط ٢.

٥ - أسلفنا مصادرها في الجزء السابع ص ٨٧٨٢.

٦ - نهج البلاغة ١: ٢٤٢.

٧ - نهج البلاغة ٢: ٦، العقد الفريد: ٢: ٢٨٣.

٨ - نهج البلاغة ٢: ١٢٠.

٩ - نهج البلاغة ٢: ١٢٨.

٣٤٧

من عُروض الناس. فقال عليه السلام: أمّا هذا فهو من مال الله ولا حدَّ عليه، مال الله أكل بعضه بعضاً. الحديث (نهج البلاغة ٢: ٢٠٢).

كما أنَّ التسمية بمال المسلمين أيضاً كان مطَّرداً قبل هذا العهد وبعده، قال عمر ابن الخطاب لعبد الله بن الأرقم: أقسم بيت مال المسلمين في كلِّ شهر مرَّة، أقسم مال المسلمين في كلِّ جمعة مرَّة. ثمَّ قال: أقسم بيت المال في كلِّ يوم مرَّة. قال: فقال رجلٌ من القوم: يا أمير المؤمنين! لو أبقيت في مال المسلمين بقيَّة تعدُّها لنائبة. سنن البيهقي ٦: ٣٥٧.

وقال عمر في خالد لما أعطى الأشعث بن قيس عشرة آلاف: إن كان دفعها من ماله؟ فهو سرفٌ، وإن كان من مال المسلمين؟ فهي خيانةٌ. الغدير ٦: ٢٧٤ ط ٢.

وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له في ذكر أصحاب الجمل: فقدموا على عاملي بها وخزّان بيت المسلمين وغيرهم من أهلها. ونهج البلاغة ١: ٣٢٠.

وقال لعبد الله بن زمعة: إنَّ هذا المال ليس لي ولا لك وإنّما هو فئٌ للمسلمين نهج البلاغة ١: ٤٦١.

ومن كتاب له إلى زياد بن أبيه: وإنِّي أُقسم بالله قسماً صادقاً لئن بلغني أنّك خُنت من فئ المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً لأشدنَّ عليك شدَّة. نهج البلاغة ٢: ١٩.

وفي كتاب لعبد الحميد بن عبد الرحمن إلى عمر بن عبد العزيز: إنِّي قد أخرجت للناس أعطياتهم وقد بقي في بيت المال مالٌ. فكتب إليه: انظر كلَّ من أدان في غير سفهٍ ولا سرفٍ فاقض عنه. فكتب إليه: إنِّي قد قضيت عنهم وبقي في بيت مال المسلمين مالٌ. فكتب إليه: أن انظر كلَّ بكر ليس له مالٌ فشاء أن تزوّجه وأصدق عنه. فكتب إليه: إنِّي قد زوَّجت كلَّ من وجدت وقد بقي في بيت مال المسلمين مالٌ. (الأموال لأبي عبيد ص ٢٥١).

ولكلّ من التسميتين وجهٌ معقولٌ، أمّا التسمية بمال الله فلأنّه لله سبحانه و هو الآمر بإخراجه ومعيّن النُصب، ومبيّن الكمّيات المخرجة، ومشخّص المصارف و المستحقين، وأمّا التسمية بمال المسلمين فلأنّهم المصرف والمدَرُّ له، فلا غضاضه على أبي ذر لو سمّاه بأيّ من الإسمين، ولا يعرب أيٌّ منهما عن مبدء سوء.

٣٤٨

وما رواه الطبري في تاريخه ٥: ٦٦ من طريق عرَّفناك رجاله في ص ٣٣٧ - ٣٣٣ وإنّه باطلٌ لا يُعوّل عليه من إنّه لما ورد ابن السوداء(١) الشام لقي أبا ذر فقال: يا أبا ذر! ألا تعجب إلى معاوية يقول: المال مال الله، ألا إنَّ كلَّ شئ لله؟ كأنّه يريد أن يحتجنه دون المسلمين ويمحو اسم المسلمين. فأتاه أبو ذر فقال: ما يدعوك إلى أن تسمِّي مال المسلمين مال الله: قال: يرحمك الله يا أبا ذر! ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق خلقه والأمر أمره؟ قال: فلا تقله. قال: فإنِّي لا أقول: إنّه ليس لله ولكن سأقول: مال المسلمين.

فهذا بعد الغضِّ عن إسناده الباطل ومتنه الركيك وبعد الإغضاء عنْ أنّ مثل أبي ذر الذي هو من أوعية العلم وعلب الفضائل وحملة الرأي السديد ليس بالذي يحرِّكه ابن السوداء اليهوديّ فيعيره أُذناً واعية ثمَّ يمضي لما ألقاه عليه من التلبيس فيخبط الجوَّ ويعكِّر الصفو. فقصارى ما فيه إنَّ أبا ذر وجد معاوية متدرِّعاً بهذه التسمية إلى الحيف في أموال المسلمين والتقلّب فيها على حسب الميول والشهوات بإيهام إنَّ المال مال الله فهو مباحٌ لعبيده يتصرّف كلٌّ منهم فيه كيف شاء ويتملّك منه ما شاء كالمباحات الأصليَّة، فأراد أبو ذر أن يدحر حجَّته الداحضة ورأيه الضئيل بأنَّ المال للمسلمين كافّة بأمر من مالكه الأصليِّ جلّت آلائه فليس لأحد أن يستبدَّ بشيء منه دونهم، ويستغلّه بحرمانهم واكتناز الذهب والفضّة، وفيهم أمسُّ الحاجة إلى مقدَّراتهم.

ويُعرب عن رأي معاوية ما جرى بينه وبين صعصعة بن صوحان، رواه المسعودي في مروج الذهب ٢: ٧٩ من طريق إبراهيم بن عقيل البصري قال: قال معاوية يوماً وعنده صعصعة وكان قدم عليه بكتاب عليّ وعنده وجوه الناس: الأرض لله، وأنا خليفة الله، فما آخذ من مال الله فهو لي، وما تركت منه كان جائزاً لي، فقال صعصعة:

تمنّيك نفسك ما لا يكو

ن جهلاً معاوي! لا تأثم

فهذا الحوار بين أبي ذر ومعاوية في منتأى عن إثبات المالكيَّة ونفيها، وليس فيه إلى المبدأ الاشتراكيِّ أيّ طَرفٍ رامقٍ، وتُعرف عن رأي معاوية خطبة الأرحبي المذكورة ص ٣٤٤.

____________________

١ - يعني عبد الله بن سبأ اليهودي الممقوت لكافة فرق المسلمين خصوصاً الشيعة منهم فإنّه محكوم عليه عندهم بالكفر وقد نقم عليه وعلى أصحابه مولانا أمير المؤمنين عليه السلام لإلحادهم.

٣٤٩

ومن كلمات أبي ذر قوله لمعاوية لما بعث إليه بثلاثمائة دينار: إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها.

فإنَّك تشهد هاهنا أبا ذر يقسّم المال إلى العطاء المفترض الذي مُنع منه عامه ذلك «لأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر» وإلى المال المملوك الذي يُخرج منه الصلة بطوع من صاحبه ورغبة، فإنَّ الصلة من المروءات وهي لا تكون إلّا من خالص مال الرجل، ومن غير الحقوق الإلهيَّة، ومن غير الأموال المسروقة، فأين هو عن إلغاء الملكيَّة الذي هو الحجر الأساسي للاشتراكيِّين؟ على أنَّه ليس عندهم صِلة ولا غيرها من حقوق الإنسانيَّة وإنَّما هي عندهم أُجورٌ على قِيَم أعمال الرعيَّة.

رواياته في الأموال

وأمّا ما رواه أبو ذر في باب الأموال عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فينادي بما لا يلائم الاشتراكيَّة قطُّ وإليك جملةٌ منه:

١ - ما من مسلم ينفق من كلِّ مال له زوجين في سبيل الله عزَّوجلَّ إلّا إستقبلته حجبة الجنَّة كلّهم يدعوه إلى ما عنده. قلت: وكيف ذلك؟ قال صلى الله عليه وآله: إن كانت رجالاً فرجلين، وإن كانت إبلاً فبعيرين، وإن كانت بقراً فبقرتين.

وفي لفظ: من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله ابتدرته حجبة الجنَّة(١) .

ففيه إثبات المال لكلِّ إنسان بالرغم من المبدأ الاشتراكيِّ، والترغيب بالتطوُّع بالإنفاق في سبيل الله من كلِّ نوع زوجين.

٢ - في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي البرّ صدقته.

٣ - ما من رجل يموت فيترك غنماً أو إبلاً أو بقراً لم يؤدّ زكاته إلّا جاءت يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمن حتّى تطأه بأظلافها وتنطحه بقرونها.

وفي لفظ: ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدِّي زكاتها إلّا جاءت يوم القيامة الحديث(٢) .

____________________

١ - أخرجه أحمد في مسنده ٥: ١٥١، ١٥٣، ١٥٩، ١٦٤.

٢ - مسند أحمد ٥: ١٥٢، ١٥٨، ١٦٩، ١٧٩، الأموال لأبي عبيد ص ٣٥٥، سنن ابن ماجة ١: ٥٤٤.

٣٥٠

فهي تثبت الماليَّة وإنَّه لا فريضة على الإنسان في ماله غير الزكاة، وهي من بعضها وإنَّ الباقي لصاحبه، رضي الإشتراكيُّ أو غضب.

وأمّا ما وقع له مع كعب الأحبار في مشهد عثمان - وهو من عمدة ما تشبَّث به المتحاملون على أبي ذر وقاذفوه - ممّا أخرجه الطبري بإسناده الواهي عن السريّ الكذّاب الوضّاع، عن شعيب المجهول الذي لا بعرف، عن سيف بن عمر الوضّاع المتَّهم بالزندقة الذين عرفت حالهم في صفحة ٣٢٧ - ٣٢٦ من طريق ابن عبّاس قال: كان أبو ذر يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الإعرابيَّة وكان يحبُّ الوحدة والخلوة فدخل على عثمان وعنده كعب الأحبار فقال لعثمان: لا ترضوا من الناس بكفِّ الأذى حتّى يبذلوا المعروف، وقد ينبغي لمؤدّي الزكاة أن لا يقتصر عليها حتّى يحسن إلى الجيران والإخوان ويصل القرابات فقال كعب: من أدَّى الفريضة فقد قضى ما عليه. فرفع أبو ذر محجنه فضربه فشجّه فاستوهبه عثمان فوهبه له وقال: يا أبا ذر! إتّق الله واكفف يدك ولسانك. وقد كان قال له: يا ابن اليهوديَّة ما أنت وما هاهنا؟ والله لتسمعنَّ منّي أو لأدخل عليك(١) .

ومرَّ ص ٢٩٥ في لفظ المسعودي: إنَّ أبا ذر حضر مجلس عثمان ذات يوم فقال عثمان: أرأيتم من زكّى ماله هل فيه حقٌّ لغيره؟ فقال كعب: لا يا أمير المؤمنين! فدفع أبو ذر في صدر كعب وقال له: كذبت يا ابن اليهوديّ ثمَّ تلا:( لَيْسَ الْبِرّ أَنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنّبِيّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى‏ حُبّهِ ذَوي الْقُرْبَى‏ وَالْيَتَامَى‏ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ الْسّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرّقابِ وَأَقَامَ الصّلاَةَ وَآتَى الزّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ) . الآية(٢) فقال عثمان: أترون بأساً أن نأخذ مالاً من بيت مال المسلمين فننفقه فيما ينوبنا من أُمورنا ونعطيكموه؟ فقال كعب: لا باس بذل. فرفع أبو ذر العصا فدفع بها في صدر كعب وقال: يا ابن اليهوديّ! ما أجرأك على القول في ديننا؟ فقال له عثمان: ما أكثر أذاك لي؟ غيِّب وجهك عنِّي فقد آذيتني فخرج أبو ذر إلى الشام(٣)

____________________

١ - تاريخ الطبري ٥: ٦٧.

٢ - سورة البقرة: ١٧٧.

٣ - هذه القضية كما ترى وقعت قبل إخراج أبي ذر إلى الشام وهي السبب الوحيد في نفيه إليها فهذا اللفظ يكذب ما في رواية الطبري من أن أبا ذر كان يختلف من الربذة إلى المدينة.. الخ.

ولم يختلف اثنان في أن أبا ذر في مدة نفيه إلى الربذة لم يأت قط إلى المدينة كما مرَّ في ص ٣٣٣.

٣٥١

فإنَّما دعا أبو ذر في هذه الواقعة إلى العطاء المندوب المدلول عليه بقوله: «ينبغي» الوارد في رواية الطبري، وبالآية الكريمة الواردة في حديث المسعودي، وهو من واجبات البشريَّة وفروض الإنسانيَّة التي ضيَّعتها الشيوعيَّة الممقوتة، و الأحاديث المرغِّبة لكلّ ممّا ذكر أبو ذر أكثر من أن تحصى.

جاء من طريق فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى الله عليه وآله إنَّه قال: إنَّ في المال حقّاً سوى الزكاة ثمَّ قرأ: ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البرّ مَن آمن بالله واليوم الآخر. الآية المذكورة. وروى بيان وإسماعيل هذا الحديث عن الشعبي.

أخرجه ابن أبي حاتم والترمذي وابن ماجة وابن عدي وابن مردويه والدار قطني وابن جرير وابن المنذر. راجع سنن البيهقي ٤: ٨٤، أحكام القرآن للجصّاص ١: ١٥٣، تفسير القرطبي ٢: ٢٢٣، تفسير ابن كثير ١: ٢٠٨، شرح سنن ابن ماجة ١: ٥٤٦ تفسير الشوكاني ١: ١٥١، تفسير الآلوسي ٤٧٢.

وأخرج البخاري في الصحيح في كتاب الزكاة ٣: ٢٩ من طريق أنس قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل وكان أحبّ أمواله إليه بيرحاء(١) وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب قال أنس: فلمّا أنزلت هذه الآية:( لَن تَنَالُوا البّرّ حَتّى‏ تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ ) قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله! إنَّ الله تبارك وتعالى يقول:( لَن تَنَالُوا البّرّ حَتّى‏ تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ ) . وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بيرحاء وإنَّها صدقةٌ لله أرجو برّها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله! حيث أراك الله قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: بخٍ ذلك مالٌ رابح، ذلك مالٌ رابح، وقد سمعت ما قلت وإنّي أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله! فقسَّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمِّه.

وأخرجه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي مختصراً.

وأخرج أبو عبيد في الأموال ص ٣٥٨ من طريق ابن جريج قال: سال المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وآله: ماذا ينفقون؟ فنزلت:( يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ )

____________________

١ - بيرحاء. بفتح الموحدة والراء المهملة: موضع بقرب المسجد بالمدينة يعرف بقصر بنى جديلة.

٣٥٢

( وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى‏ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ ) . قال: فتلك التطوُّع والزكاة سوى ذلك.

وقال أبو عبيد في الأموال ص ٣٥٨: إنَّ هذا مذهب ابن عمر وأبي هريرة، وأصحاب رسول الله أعلم بتأويل القرآن وأولى بالإتّباع، ومذهب طاوس والشعبي إنَّ في المال حقوقاً سوى الزكاة مثل برِّ الوالدين، وصلة الرحم، وقرى الضيف، مع ما جاء في المواشي من الحقوق.

وفي الأموال ص ٣٥٨ من طريق أبي حمزة قال: قلت للشعبي: إذا أدَّيت زكاة مالي؟ قال: فقرأ عليَّ هذه الآية:( لَيْسَ الْبِرّ أَنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ) . إلى آخر الآية المذكورة.

فنداء أبي ذر في موقفه هذا نداء القرآن الكريم ونداء المشرِّع الأعظم ونداء تابعيهما من الصحابة والتابعين، ولا يردُّ ذلك إلّا مثل كعب الأحبار الذي هو حديث عهد باليهوديَّة، وقد اعتنق الإسلام أمس، على حين إنَّه لم يسلم طيلة عهد النبوَّة وإنَّما سالم على عهد عمر، ولا أدري هل حدته إلى ذلك الحقيقة؟ أو الفَرق من بطش المسلمين وشوكتهم؟ أو الطمع في العطاء الجاري؟ ولا أدري أيضاً إنَّه في مدَّة إسلامه القصيرة هل أحاط خبراً بنواميس الإسلام وفروضه وسننه أو لا؟ ولا أحسب. كما أوعز إليه أبو ذر الناظر إليه من كَثَب حيث قال له: يا ابن اليهوديَّة ما أنت وما هاهنا؟ وكان من حقِّه أن يؤدَّب بالمحجن كما فعله سيِّد غفار - ساء الخليفة أم سرَّه - لأنَّه لم يكن أهلاً للفتيا فأفتى تجاه عالم من علماء الصحابة الذي مِلأ إهابه العلم بالكتاب والسنَّة، و حَشو ردائه الفروض والسنن، ولا يفرغ إلّا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وما أظلّت الخضراء وما أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق وأوفى من أبي ذر.

( الّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْصّدَقَاتِ وَالّذِينَ لاَيَجِدُونَ إِلّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) . «التوبة ٧٩».

وإثبات العطاء مندوباً ومفترضاً فرع إثبات الماليَّة للأشخاص، ولا تتَّفق معه الشيوعيَّة بحال، وأين يقع أبو ذر منها؟.

٤ - ثلاثة يبغضهم الله: الشيخ الزاني، والفقير المختال، والغنيُّ الظلوم.

وفي لفظ: إنّ الله يبغض الشيخ الزاني، والفقير المختال، والمكثر البخيل.

٣٥٣

وفي لفظ:( إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) ، والبخيل المنّان، والتاجر الحلّاف(١) .

في هذه الروايات ذكر إختلاف طبقات الناس وحدودهم بما يملكون، فقيرٌ وغنيٌّ ومكثرٌ وتاجرٌ الذي تتقوَّم تجارته برأس ماله، والإشتراكيّ يرى إنَّ الناس شرعٌ سواءٌ بالنسبة إلى الأموال.

٥ - قلت: يا رسول الله! ذهب الأغنياء بالأجر يصلّون ويصومون ويحجُّون قال: وأنتم تصلّون وتصومون وتحجُّون. قلت: يتصدَّقون ولا نتصدَّق. قال: وأنت فيك صدقة: رفعك العظم عن الطريق صدقة، وهدايتك الطريق صدقه، وعونك الضعيف بفضل قوتك صدقة، وبيانك عن الأرتم صدقة، ومباضعتك امرأتك صدقة. قال: قلت: يا رسول الله! نأتي شهوتنا ونؤجر؟ قال: أرأيت لو جعلته في حرام أكان تأثم؟ قال: قلت: نعم. قال: فتحتسبون بالشرِّ، ولا تحتسبون بالخير؟

وفي لفظ: قالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأُجور يضلّون كما نصلّي و يصومون كما نصوم ويتصدَّقون بفضول أموالهم قال: فقال رسول الله: أوَ ليس قد جعل الله لكم ما تصدَّقون؟ إنَّ بكلِّ تسبيحة صدقة وبكلِّ تحميدة صدقة.الحديث.

وفي لفظ: قيل للنبيِّ صلى الله عليه وآله: ذهب أهل الأموال بالأجر. فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله: إنَّ فيك صدقة كثيرة فذكر فضل سمعك فضل بصرك.الحديث.

وفي لفظ: على كلِّ نفس في كلِّ يوم طلعت فيه الشمس صدقة عنه على نفسه. قلت: يا رسول الله: من أين أتصدَّق وليس لنا أموال؟ قال: لأنَّ من أبواب الصدقة: التكبير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، واستغفر الله، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعزل الشوكة عن طريق الناس والعظم والحجر، وتهدي الأعمى وتُسمع الأصمَّ والأبكم حتّى يفقه، وتدلُّ المستدلَّ على حاجة له وقد علمت مكانها، وتسعى بشدَّة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدَّة ذراعيك مع الضعيف. كلُّ ذلك

____________________

١ - مسند أحمد ٥: ١٥٣، ١٧٦، وأخرجه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه والنسائي والترمذي في باب كلام الحور العين وصحّحه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصحّحه، راجع الترغيب والترهيب للمنذري ١: ٢٤٧، و ج ٢، ٢٣٠، ٢٣٨.

٣٥٤

من أبواب الصدقة منك على نفسك(١) .

وفي هذه الأحاديث تقرير الأغنياء وأهل الدثور والأموال على أحوالهم المنوطة بالوفر المخصوص بهم واليسار الممنوح لهم وإنَّه ليس منهم، وذكر الصدقة من فضول أموال المثرين، والتأسف على ما يفوت الفقراء من صدقاتهم بالأموال فرضاً وتطوُّعاً، وأين يثبت الإشتراكيُّ مالاً لأحد فيثبت له فضولاً؟ ومتى يرى في العالم غنيّاً غير غاصب؟ وأنَّى يبقى موضوعاً للصّلات والصدقات وفروض الإنسانيَّة؟ لكن روايات أبي ذر تُثبت كلَّ ذلك.

٦ - أمرني خليلي صلى الله عليه وآله بسبع أمرني بحبِّ المساكين والدنوِّ منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي.

وفي لفظ: أوصاني حِبيّ بخمس: أرحم المساكين وأُجالسهم وأنظر إلى مَن هو تحتي ولا أنظر إلى مَن هو فوقي(٢) .

وممّا لا غبار عليه أنَّ المراد من الدون والتحت في الحديثين: مَن هو دونه في المال ليشكر الله سبحانه على تفضيله عليهم، ولا ينظر إلى مَن فوقه لئلّا يشغله الإستياء أو الحسد على تفضيل غيره عليه عن الذكر والشكر والنشاط في العبادة، وأمّا الأعمال والطاعات والملكات الفاضلة، فينبغي للانسان أن ينظر إلى مَن هو فوقه فيها ليتنشَّط على مثل عمله فيتحرّى شأوه، ولا ينظر إلى مَن هو دونه فيفتر عن العمل ويقعد عن اكتساب الفضائل والفواضل، وربَّما داخله العجب.

ففي الحديثين إثبات الماليَّة والتفاضل فيها بالرغم من المبدأ الشيوعيِّ.

٧ - ليس من فرس عربيّ إلّا يؤذن له مع كلِّ فجر يدعو بدعوتين يقول: اللهمَّ خوَّلتني من خوَّلتني مِن بني آدم فاجعلني من أحبِّ أهله وماله إليه. أو: أحبَّ أهله وماله إليه(٣) .

نحن لا نحتجُّ هنا بدعوة الفرس ورأيه لكن بما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله من إلهام

____________________

١ - مسند أحمد ٥: ١٥٤، ١٦٧، ١٧٨، صحيح مسلم ٣: ٨٢، سنن البيهقي ٤: ١٨٨.

٢ - مسند أحمد ٥: ١٥٩، ١٧٣، حلية أبي نعيم ١: ١٦٠.

٣ - مسند أحمد ٥: ١٧٠.

٣٥٥

الله سبحانه إيّاه أنَّه يدعو بتلك الدعوة وفيها إثبات التخويل والماليَّة وإن ازورَّ عنهما الشيوعيُّ.

هذه جملة من روايات أبي ذر الصدوق المصدَّق تضادُّ بنصِّها ما اتًّهم به من المبدأ الممقوت، وإن هي إلّا نداء القرآن الكريم وما صدع به الرَّسول الأمين.

( الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الّذِينَ هَدَاهُمُ اللّهُ ،

وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ، فَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ،

فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ،

وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ )

سورة الزمر ١٨، سورة آل عمران ٧

٣٥٦

نظرة في الكلمات

الواردة في إطراء أبي ذر هل تلائم ما اتُّهم به؟

أمَّا ثناء الصحابة عليه بعد نفيه ودؤبه على ما هتف به فحسبك من ذلك قول مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: إنَّك غضبتَ لله فارج من غضبت له، إنَّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك. إلى آخر ما مرَّ في صفحة ٣٠٠.

صدرت هذه الكلمة الذهبيَّة من الإمام عليه السلام في منصرم ما صعَّد به أبو ذر وصوَّب فليس له بعد هذا إلّا طفائف سمعها منه من زاره بالمنفى - الربذة - فلم يكن لها شأنٌ كبيرٌ، وفي الكلمة صراحةٌ بأنَّ غضب أبي ذر كان لله فعليه أن يرجو مَن عضب له، وهو فرع رضا الله سبحانه على ما ناء به ودعا إليه، وإنَّ ما لهج به ممّا أغضب القوم كانت كلمة دينيَّة محضة تجاه الدنيويَّة المحضة التي خافها أبو ذر على دينه وخافها القوم على دنياهم، فامتحنوه بالقلى ونفوه إلى الفلا، وإنَّه هو الرابح غداً، وإنّما القوم حاسدوه، وأيٌّ مِن هذه تلتئم مع الشيوعيَّة التي هي ماديَّةٌ محضة ليس بينهما وبين مرضاة الله تعالى أيَ صِلة؟.

أتحسب إنَّ مولانا امير المؤمنين عليه السلام أطرى أبا ذر بهذا الإطراء البالغ ويقول في كلمته الأُخرى لعثمان: إتَّق الله سيَّرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك فيراه صالحاً ويرى هلاكه في ذلك التسيير حوباً لا يصدر من المتَّقي، إنّه أطراه وهو غير مستشفّ لنظريَّته؟ ولا عارف بنفسيَّته؟ وهو كروحه التي بين جنبيه، أو أنَّه يوافقه على المذهب الشيوعيِّ؟ أو أنَّه يراغم أعداءه مع حيطته بباطله؟ وقد قال لعثمان «وهو الصّادق الأمين»: والله ما أردت مساءت ولا الخلاف عليك ولكن أردت به قضاء حقِّه. وأيّ حقٍّ للشيوعيِّ مُتحرِّي الفساد في الجامعة وباخش حقوق الأُمّة؟ وإنّما الحقُّ للمؤمن الكامل في نفسه، المحقِّ في دعاءه، الصالح في رأيه.

وهناك ما هو أصرح من ذلك في كون أبي ذر محقّاً وإنَّ نظريّة من خالفه من الباطل المحض وهو قول الإمام في ذيل كلمته في توديع أبي ذر! يا أبا ذر! لا يؤنسنّك إلّا

٣٥٧

الحقّ، ولا يوحشنَّك إلّا الباطل، وأيّ إشتراكيّ. يكون هكذا؟ نعوذ بالله من السفاسف

أضف إلى كلمة الإمام قول ولده الإمام الزكيِّ السبط المجتبى أبي محمّد الحسن لأبي ذر: قد أتى من القوم إليك ما ترى فضع عنك الدنيا بتذكّر فراغها، واصبر حتّى تلقى نبيّك وهو عنك راض. راجع ص ٣٠١.

فترى الإمام المعصوم يتذمّر ممّا أصاب أبا ذر من القوم ويأمره بالصبر المقابل بالأجر الجزيل، وأنّه سيلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو عنه راض، وهل تجد توفيقاً بين الرسول ومعتقد الإمام المجتبى وبين الشيوعيّة؟ ذلك المعول الهدّام لأساس دين المصطفى وسنّة الله التي لن تجد لها تحويلا.

واشفع الكلمتين بقول الإمام السبط الشهيد أبي عبد الله لأبي ذر: قد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك، فاسأل الله الصبر والنصر.

وهذه الكلمة لدة كلمات أبيه وأخيه صلوات الله عليهم في المصارحة بأنَّ دعوة أبي ذر كانت دينيّة ولم يكن فيها أيُّ شذوذ، ودعوة مناوئيه دنيويّة، والمرجع في الإفراج عنه إزاء ما انتابه من المحن هو الله، لرضاه سبحانه بدعوة المنكوب وسخطه على من نال منه، ولا يحسب عاقلٌ إنَّ شيئاً من ذلك يلتأم مع الإشتراكيّة الممقوتة

وبعد تلكم الكلمات الذهبيّة خطاب عمّار بن ياسر أبا ذر بقوله: لا آنس الله من أوحشك ولا آمن من أخافك، والله لو أردت دنياهم لآمنوك، ولو رضيت أعمالهم لأحبّوك.

أيجوز لمسلم عاديّ فضلاً عن مثل عمّار الذي لا يفارق الحقَّ ولا يفارقه نصّاً من النبيَّ الكريم أن يدعو على أُناس نكبوا بعائثٍ في المجتمع الدينيِّ المقلق فيهم السّلام بذلك الدعاء المجهد؟ ويحكم عليهم بأنّهم أهل دنيا غرَّتهم الأمانيُّ، وإنَّ أعمالهم غير مرضيّة، وانّهم خسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين؟.

يدعو عليهم بذلك في مشهد إمام معصوم خشن في ذات الله كمولانا أمير المؤمنين وشبليه السبطين الحسنين ثمَّ لا ينكر ذلك عليه احدٌ منهم. إنَّ هذا لا يكون.

وإنَّ مشايعة القوم لأبي ذر قبل هذه الكلمات كلّها مع العلم بنهي الخليفة عنها إشادة بأمره، وتصديقٌ لمقاله، والإمام يرى إنَّ النهي عن مشايعته معصية أو أنّه خلاف

٣٥٨

الحقِّ لا يُتّبع كما قاله لعثمان(١) ولا يجتمع شيءٌ من ذلك مع ما قذفوه به من الطامَّة الكبرى.

كانت الصحابة كلّهم المهاجرون منهم والأنصار ينقمون ما نيل به أبو ذر من النفي والتعذيب؛ وكان قيل النقمة بين شفافهم، وفي طيّات قلوبهم، وأسطر خطاباتهم، يوم التجمهر ويوم الدار، وكانت إحدى العلل المعدَّة لِما جرى هنالك من مغبّات الأعمال، فلم تكن الغضبة عمّن ذكرنا أسماءهم بدعاً من جمهرة الأصحاب غير أنَّ منهم من صبَّها في بوتقة الإطراء لأبي ذر؛ ومنهم من أفرغها في قالب العيب على من نال منه، ولهم هنالك لهجاتٌ مختلفةٌ في الصورة متَّحدةٌ في المآل، ولذلك عدَّ المؤرِّخون ممّا أنكر الصحابة من سيرة عثمان تسييره أبا ذر. وقال البلاذري: قد كانت من عثمان قبل هنات إلى عبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمّار فكان في قلوب هذيل وبني زهرة وبني غفار وأحلافها مِن غضب لأبي ذر(٢)

وهذه النقمة العامَّة المنبعثة عن مودَّة القوم لأبي ذر مودَّةً خالصة دينيَّة وإخاءً في الإيمان وولاءً في الطريقة المثلى كلُّ ذلك أخذاً بما وعوه عن رسول الله صلى الله عليه وآله في أبي ذر وهديه وسمته ونسكه وتقواه وإيمانه وصدقه. لا تلتأم مع شيء ممّا قذفوا به أبا ذر من الشيوعيّة، أو تقول: أنَّ الصحابة كلّهم شيوعيُّون. أعوذ بالله من الفرية الشاينة ولو كان أبو ذر شيوعيّاً؟ كان في الحقِّ نفيه عن أديم الأرض لا عن المدينة فحسب، و كان من واجب الصحابة أن يرضوا بذلك الحكم البات. قال الله تعالى:( إِنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتّلُوا أَوْ يُصَلّبُوا أَوْ تُقَطّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (٣) وأيُّ فساد في الأرض أعظم من هذا المبدأ التعيس المضادِّ للكتاب والسنَّة؟ وفي الكتاب الكريم قوله سبحانه:( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُمْ )

____________________

١ - راجع صفحة ٢٩٧ و ٣٠٣.

٢ - أنساب البلاذري ٥: ٢٦، تاريخ اليعقوبي ٢: ١٥٠، مروج الذهب ١: ٤٣٨، ٤٤١، الرياض النضرة ٢: ١٢٤، تاريخ ابن خلدون ٢: ٣٨٥، الصواعق ص ٦٨، تاريخ الخميس ٢: ٢٦١.

٣ - سورة المائدة: ٣٣.

٣٥٩

( فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ ) (١) وأما السنَّة الشريفة فحدِّث عنها في باب الأموال والإختصاص فيها وتقرير ميسرة الأغنياء ولا حرج. وبذلك كلّه تقوم دعائم المدنيَّة، وتشاد علالي الحضارة الراقية.

ثناء النبيِّ صلى الله عليه وآله عليه وعهده إليه

أمّا ما أُثر عن نبيِّ الإسلام من ذلك فقد قدَّمنا شطراً منه في صفحة ٣١٩ - ٣١٢ ولا منتدح من أن نقول: إنَّ نبيَّ العظمة كان جِدّ عليم بواسع علم النبوَّة بما سوف ينوء به أبو ذر في خواتيم أيّامه بأقوال وأعمال تبهظ مناوئيه، وكان يعلم أيضاً أنَّ أُمَّته سيتَّخذون كلّ ما لهج به أصولاً متّبعة، فلو كان يعلم في أبي ذر شذوذاً. لَما أغرى الأُمَّة بموافقته بتلكم الكلم الدريَّة، على أنَّه صلى الله عليه وآله عهد إليه وأخبره أنَّ ما يصيبه من الكوارث من جرّاء ما يدعو إليه في الله وبعينه؛ فلا يعقل أن يكون في رأيه شذوذٌ عن طريقة الدين، بل كان من واجبه صلى الله عليه وآله أن يُنبّهه على خطأه في الرأي وغلطه في الدعوة، فإذ لم يفعل واشفع ذلك بثنائه البالغ عليه وعهده إليه علمنا أنَّ أبا ذر هو ذلك البرُّ التقيُّ، ورجل الإصلاح، ومثال العطف والحنوِّ على ضعفاء الأُمَّة، وطالب الخير والسعادة لأقوياءها، ولقد تحمّل الشدائد لينقذ المكبّين على الدنيا من مغبَّة العمل السئِّ، وليسعد آخرين برغد العيش وبُلهنية الحياة، موصولة حلقات حياتهم الدنيا بدرجات الآخرة العليا، لكن جهلوه وجهلوا أمره وجهلوا حقَّه، وأضاعوه وأيَّ فتى أضاعوا؟ وأضاعوا فيه وصيَّة نبيِّه صلى الله عليه وآله وناوءه قومٌ ليسوا له بأكفاء.

ولو أنّي بُليت بهاشميّ

خؤولته بنو عبد المدانِ

لهان عليَّ ما ألقى ولكن

تعالوا وانظروا بمن ابتلاني

( فَأَيّدْنَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَى‏ عَدُوّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ )

«الصف آية ١٤»

____________________

١ - سورة زخرف: ٣٢.

٣٦٠