الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٨

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 397

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
تصنيف: الصفحات: 397
المشاهدات: 139937
تحميل: 5988


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 139937 / تحميل: 5988
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 8

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وكان دهراً يبيع الخيط والقرظة بالبقيع(١) .

أنا لا أدري في أيّ من أيّامه هذه حصل على جدارة لما يخبرنا به ابن الجوزي في سيرة عمر ص ٦: من إنَّه كانت السفارة - في الجاهليَّة - إلى عمر بن الخطاب إن وقعت حربٌ بين قريش وغيرهم بعثوه سفيراً. وزاد عليه أبو عمر في الاستيعاب قوله: وإن نافرهم منافرٌ أو فاخرهم مفاخرٌ رضوا به وبعثوه منافراً ومفاخراً(٢) .

أوَ كانت قريش كلّهم من هذه الطبقة الواطئة؟ فكانوا يبعثون للسفارة والمفاخرة غلاماً هذا شأنه؟ وفيهم الصناديد والعظماء والرؤساء وذوو عارضة ورجال الكلام.

أم كانوا لا يبالون بمن يُرسلونه؟ «والرسول دليل عقل المرسل» لم يكن هذا ولا ذاك ولكن الحبّ يُعمي ويصمّ، وإنَّك تجد من نظاير هذه شيئاً كثيراً، وإليك جملةٌ منه مضافاً على ما مرَّ في الجزء الخامس ممّا وضعته يد الغلوّ في فضائله.

- ١ -

كلمات في عِلم عمر

ورد في علمه عن ابن مسعود: لو وضع علم أحياء العرب في كفَّة الميزان ووضع علم عمر في كفَّة لرجح علم عمر، ولقد كانوا يرون إنَّه ذهب بتسعة أعشار العلم.

وفي لفظ المحبّ الطبري: لو وُضع علم عمر في كفَّة وعلم أهل الأرض في كفَّة لرجح علم عمر.

مستدرك الحاكم ٣: ٨٦ الاستيعاب ٢: ٤٣٠، الرياض النضرة ٢: ٨، أعلام الموقعين لابن القيم ص ٦، تاريخ الخميس ٢: ٢٦٨، عمدة القاري ٥: ٤١٠.

٢ - وقال حذيفة: كان علم الناس كلّهم قد درس في حجر عمر مع علم عمر.

الاستيعاب ٢: ٤٣٠، أعلام الموقعين ص ٦.

٣ - وقال مسروق: شاممت أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم ينتهي إلى ستَّة إلى علي. وعبدالله. وعمر. وزيد بن ثابت. وأبي الدرداء. وأُبيّ. ثمَّ شاممت الستَّة فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله. أعلام الموقعين ص ٦.

____________________

١ - راجع ما أسلفناه في الجزء السادس ص ٣٠٣ ط ٢.

٢ - وذكر ابن عساكر ما رواه أبو عمر وابن الجوزي في تاريخه ٦: ٤٣٢.

٦١

٤ - وقال الشعبي: إذا اختلف الناس في شيء فخذوا بما قال عمر. أعلام الموقعين ص ٦.

٥ - وقال ابن المسيب: ما أعلم أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم من عمر بن الخطاب. أعلام الموقعين ص ٧.

٦ - وقال بعض التابعين: دفعت إلى عمر فإذا الفقهاء عنده مثل الصبيان قد استعلى عليهم في فقهه وعلمه. أعلام الموقعين ص ٧.

٧ - وقال خلد الأسدي: صحبت عمر فما رأيت أحداً أفقه في دين الله ولا أعلم بكتاب الله ولا أحسن مدارسة منه. الرياض النظرة ٢: ٨.

هاهنا لا نطيل القول وإنَّما نحيلك إلى الجزء السادس من هذا الكتاب من صفحة ٨٣ - ٣٢٥ ط ٢ فإنَّ هنالك ما يغني الباحث عن الاسهاب في المقام، وأنت أيّها المخبت إلى هذه الأقاويل هل علمت شيئاً ممّا قدّمناه؟ ودريت فذلكة ذلك البحث الضافي أو لا؟

فإن كنتَ لا تدري فتلك مصيبة

وإن كنتَ تدري فالمصيبة أعظم

وأنت جِدُّ عليم بأنَّ هذه التقوّلات لا تلائم مع ما حفظه التاريخ من نوادر الأثر في علم عمر، والحريّ هو الأخذ بما مرَّ من أقواله نفسه في علمه ج ٦ ص ٣٢٨ ط ٢ وبها تتضح جليَّة الحال، والإنسان على نفسه بصيرة.

- ٢ -

عمر أقرأ الصحابة وأفقههم

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: أُمرت أن أقرأ القرآن على عمر. ذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ٥٨.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان عمر أتقانا للربِّ، وأقرأنا لكتاب الله. أخرجه الحاكم في المستدرك ج ٣ ص ٨٦.

وذكر المحبُّ الطبري نقلاً عن عليِّ بن حرب الطائي من طريق ابن مسعود إنَّه قال لزيد بن وهب: إقرأ بما أقرأكه عمر، إنّ عمر أعلمنا بكتاب الله وأفقهنا في دين الله(١) .

هذه مراسيل مقطوعة عن الاسناد، وانصف الحاكم إذ سكت عن إسناد ما أخرجه أو إنَّه لم يقف عليه فيصحّحه، وسكت عنه الذهبي للعلّة نفسها، وأحسب إنَّ بطلان هذه

____________________

١ - الرياض النضرة ٢: ٨.

٦٢

الروايات في غنىً عن إبطال إسنادها، فإنَّ العناية الإلهيّة لو شملت الخليفة بحيث أمر نبيَّه صلى الله عليه وآله بقراءة القرآن عليه، لا بدَّ وأن تشمله بالتمكّن من تلقيّه وضبطه وحفظه وفقهه والوقوف على مغازيه والعمل به، وأن يكون أقرأ كما في رواية الحاكم، أو أعلم وأفقه كما في رواية الطائي، إذن فما تلكم الجهود المتعبة في تعلّم سورة البقرة فحسب طيلة اثنتي عشر سنة؟ كما مرَّ في الجزء السادس ص ١٩٦ ط ٢.

وهاتيك الأحكام الشاذَّة عن موارد من القرآن الكريم؟ كحكمه للجنب الفاقد للماء بترك الصَّلاة ذاهلاً عن قوله تعالى في سورة النساء: ٤٣، وفي سورة المائدة: ٦.

٢ - وحكمه على إمرأة ولدت لستة أشهر بالرجم، ونصب عينه الآية الكريمة:( حَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ) . وقوله تعالى:( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) .

٣ - ونهيه عن المغالاة في مهور النساء، وبين يديه قوله تعالى:( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ قِنطَاراً ) .

٤ - وجهله بمعنى الأبِّ وهو يتلو:( مَتَاعاً لّكُمْ وَلْأَنْعَامِكُمْ ) .

٥ - وحسبانه إنَّ الحجر الأسعد لا يضرُّ ولا ينفع جهلاً بمغزى قوله تعالى:( وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ) . الآية.

٦ - ونهيه عن الطيِّبات في الحياة الدنيا تمسّكاً بقوله تعالى:( أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدّنْيَا ) ذاهلاً عمّا قبله، غير ملتفت إلى الآية الأخرى:( قُلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطّيّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ ) . الآية.

٧ - وجهله بمعاريض الكلم المتَّخذة من الكتاب.

٨ - وأمره برجم الزانية المضطرَّة، وفي الذكر الحكيم:( فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ) .

٩ - وتجسسّه عن صوت ارتاب به فتسلّق الحائط ودخل البيت ولم يسلّم غير مكترث لآيات ثلاث:( لاَ تَجَسّسُوا. وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن أَبْوَابِهِا. فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلّمُوا ) .

١٠ - وجهله بالكلالة وبمسمع منه آية الصيف.

١١ - وقوله بتعذيب الميت ببكاء الحيِّ كأنَّه لم يقرأ قوله تعالى:( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) .

٦٣

١٢ - وقوله الشاذّ في الطلاق قصوراً منه عن فهم قوله تعالى:( الطّلاَقُ مَرّتَانِ ) .

١٣ - ونهيه عن متعة الحجِّ وهو يتلو قوله تعالى:( وَأَتِمّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ ) . الآية.

١٤ - وتحريمه متعة النساء ذهولاً منه عن قوله تعالى:( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ ) . الآية.

تجد تفاصيل هذه الجمل في نوادر الأثر من الجزء السادس من كتابنا هذا، وهناك موارد كثيرة من القرآن، لم يهتد إليها، وتجد جملة منها في طيّات أجزاء كتابنا هذا.

فهل من السائغ في شريعة الحجى أن يكون الأقرأ والأعلم والأفقه بهذه المثابة من الإبتعاد عن الآي الشريفة، ومراميها الكريمة، ولو كان كما زعموه فما قوله في خطبته الصحيحة الثابتة له بإسناد صحيح رجاله كلهم ثقات: «من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أُبيَّ بن كعب؛ ومن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت». راجع ج ٦: ١٩١ ط ٢.

- ٣ -

الشيطان يخاف ويفرُّ من عمر

١ - عن بريدة: جرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فلمّا انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله! إنّي كنت نذرت إن ردَّك الله صالحاً أن أضرب بين يديك بالدفِّ وأتغنّى؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت نذرت فاضربي وإلّا فلا. فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثمَّ دخل عليٌّ وهي تضرب، ثمَّ دخل عثمان وهي تضرب، ثمَّ دخل عمر فألقت الدفَّ تحت إستها ثمَّ قعدت عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الشيطان ليخاف منك يا عمر! إنِّي كنت جالساً وهي تضرب، ثمَّ دخل عليٌّ وهي تضرب، ثمَّ دخل عثمان وهي تضرب، فلمّا دخلت أنت يا عمر! ألقت الدفَّ.

وفي لفظ أحمد: إنَّ الشيطان ليفرق منك يا عمر!.

وعن جابر قال: دخل أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يُضرب بالدفِّ عنده، فقعد ولم يزجر لما رأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء عمر رضي الله عنه فلمّا سمع رسول الله صوته كفِّ عن ذلك، فلمّا خرجا قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله!

٦٤

كان حلالاً فلمّا دخل عمر صار حراما؟ فقال عليه السلام: يا عائشة! ليس كلّ النّاس مرخاً عليه.

أخرج أحمد في مسنده ٥: ٣٥٣، والترمذي في جامعه ٢: ٢٠٣ فقال هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ص ٥٨ من طريق بريدة وص ١٣٨ من حديث جابر، فقال في الموضع الأوَّل: فلا يظنّ ذو عقل إنَّ عمر في هذا أفضل من أبي بكر، وأبو بكر شبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع الأمرين والدرجتين، فله درجة النبوَّة لا يلحقه أحدٌ، وأبو بكر له درجة الرحمة، وعمر له درجة الحقِّ.

ورواه البيهقي في سننه ١٠: ٧٧، والخطيب التبريزي في مشكاة المصابيح ص ٥٥٠، وابن الأثير في أُسد الغابة ٤: ٦٤، والشوكاني في نيل الأوطار ٨: ٢٧١.

٢ - عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً فسمعنا لغطاً وصوت صبيان، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حبشيَّة تزفن - أي ترقص - والصبيان حولها فقال: يا عائشة! تعالي فانظري. فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: أما شبعت؟ أما شبعت فجعلت أقول: لا. لأنظر منزلتي عنده، إذ طلع العمر فأرفضَّ الناس عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنِّي لأنظر شياطين الجنِّ والإنس قد فرّوا من عمر، قالت: فرجعتُ.

أخرجه الترمذي في صحيحه ٢ ص ٢٩٤ فقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، والبغوي في مصباح السنَّة ٢: ٢٧١، والخطيب العمري التبريزي في مشكاة المصابيح ص ٥٥٠، والمحب الطبري في الرياض ٢: ٢٠٨.

٣ - أخرج أحمد في مسنده ٢: ٢٠٨. من حديث أبي هريرة قال: بينا الحبشة يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحرابهم، دخل عمر فأهوى إلى الحصباء يحصبهم بها فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم دعهم يا عمر!.

وأخرج أبو داود الطيالسي في مسنده ٢٠٤ من حديث عائشة قالت: كانت الحبشة يدخلون المسجد، فجعلوا يلعبون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إليهم جارية حديثة السن، فجاء عمر فنهاهنَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعهنَّ يا عمر!. ثمَّ قال: هنَّ بنات أرفدة.

٦٥

٤ - روى أبو نصر الطوسي في اللمع ص ٢٧٤: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخل بيت عائشة رضي الله عنها، فوجد فيه جاريتين تغنِّيان وتضربان بالدف فلم ينههما عن ذلك وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين غضب: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: دعهما يا عمر! فإنَّ لكلِّ قوم عيدٌ.

قال الأميني: لا حاجة لنا إلى البحث عن إسناد هذه الروايات فإنَّ في متونها من الخزاية ما فيه غنىً عن ذلك. فدع الترمذي يستحسن إسناد ما رواه ويصحِّحه، ودع الحفّاظ يملأون عياب علمهم بعيوب مثلها، ودع شاعر النيل يتَّبع من لا خلاق له من الحفّاظ ويعدُّها من فضائل عمر، ويقول تحت عنوان «مثالٌ من هيبته»:

في الجاهليَّة والاسلام هيبته

تثني الخطوب فلا تعدو عواديها

في طيِّ شدَّته أسرار مرحمةٍ

للعالمين ولكن ليس يُفشيها

وبين جنبيه في أوفى صرامته

فؤاد والدةٍ ترعى ذراريها

أغنت عن الصارم المصقول درَّته

فكم أخافت غويّ النفس عاتيها؟

كانت له كعصا موسى لصاحبها

لا ينزل البطل مجتازاً بواديها

أخاف حتّى الذراري في ملاعبها

وراع حتّى الغواني في ملاهيها

أريت تلك التي لله قد نذرت

أُنشودة لرسول الله تهديها

قالت: نذرت لَئن عاد النبيُّ لنا

من غزوة لعلى دفّي أُغنِّيها

ويمَّمت حضرة الهادي وقد ملأت

أنوار طلعته أرجاء واديها

واستأذنت ومشت بالدف واندفعت

تشجي بألحانها ما شاء مشجيها(١)

والمصطفى وأبو بكر بجانبه

لا ينكران عليها ما أغانيها

حتّى إذا لاح عن بُعد لها عمر

خارت قواها وكاد الخوف يُرديها

وخبَّأت دفّها في ثوبها فرقاً

منه وودَّت لو أنَّ الأرض تطويها

قد كان علم رسول الله يؤنسها

فجاء بطش أبي حفص يخشيِّها

فقال مهبط وحي الله مبتسماً

وفي ابتسامته معنىً يواسيها

____________________

١ - تشجى: تثير الشعور وتشوق.

٦٦

: قد فرَّ شيطانها لما رأى عمراً

إنَّ الشياطين تخشى بأس مخزيها(١)

لقد عزب عن المساكين إنَّ ما تحرَّوه من إثبات فضيلة للخليفة الثاني يجلب الفضايح إلى ساحة النبوَّة «تقدّست عنها» فأيّ نبيّ هذا؟ يروقه النظر إلى الراقصات والاستماع لأهازيجهنَّ وشهود المعازف، ولا يقنعه ذلك كلّه حتّى يُطلع عليها حليلته عائشة، والناس ينظرون إليها من كثَب، وهو يقول لها: شبعتِ؟ شبعتِ؟ وهي تقول: لا لعرفان منزلتها عنده ولا تزعه أُبّهة النبوَّة عن أن يقف مع الصبيان للتتلّع على مشاهد اللهو شأن الذنابا والأوباش وأهل الخلاعة والمجون، وقد جاءت شريعته المقدَّسة بتحريم كلِّ ذلك بالكتاب والسنَّة الشريفة، هذا قوله تعالى:( وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتّخِذَهَا هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) . سورة لقمان آية ٦.

وقد جاء عنه صلى الله عليه وآله، من حديث أبي أمامة: لا تبيعوا القينات، ولا تشتروهنَّ ولا تعلّموهنَّ ولا خير في تجارة فيهنَّ، وثمنهنَّ حرام، في مثل هذا أُنزلت هذه الآية:( وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي ) الآية.

وفي لفظ الطبري والبغوي: لا يحلُّ تعليم المغنِّيات ولا بيعهنَّ، وأثمانهنَّ حرامٌ وفي مثل ذلك نزلت هذه الآية.

أخرجه سعيد بن منصور. أحمد. الترمذي. ابن ماجة. ابن جرير. ابن المنذر. ابن حاتم. ابن أبي شيبة. ابن مردويه. الطبراني. البيهقي، ابن أبي الدنيا. وغيرهم. راجع تفسير الطبري ٢١: ٣٩، تفسير القرطبي ١٤: ٥١، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي ص ٣٤٧، تفسير ابن كثير ٣: ٤٤٢، تفسير الخازن ٣: ٣٦، إرشاد الساري ٩: ١٦٣، الدرّ المنثور ٥: ١٥٩، تفسير الشوكاني ٤: ٢٢٨، نيل الأوطار ٨: ٢٦٣، تفسير الآلوسي ٢١: ٦٨

وأخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه من طريق عائشة مرفوعاً: إنَّ الله تعالى حرَّم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها، ثمَّ قرأ: ومن الناس من يشتري لهو الحديث.

الدر المنثور ٥: ١٥٩، تفسير الشوكاني ٤: ٢٢٨، تفسير الآلوسي ٢١: ٦٨.

____________________

١ - هذه الأبيات من العمرية الشهيرة لشاعر النيل محمّد حافظ إبراهيم، وقد مرَّ الايعاز إليها في الجزء السابع ص ٨٦، ٨٧ ط ٢.

٦٧

وعن ابن مسعود: إنه سأل عن قوله: ومن الناس من يشتري لهو الحديث.

قال: هو والله الغناء. وفي لفظ: هو الغناء والله الذي لا إله إلّا هو، يردّدها ثلاث مرَّات. وعن جابر في الآية قال: هو الغناء والاستماع له. ومعنى يشتري يستبدل كما في قوله تعالى:( أُولئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُا الضّلاَلَةَ بِالْهُدَى ) ، أي استبدلوه منه واختاروه عليه، وقال مطرف: شراء لهو الحديث استحبابه. وقال قتادة: سماعه شراؤه.

وبالغناء فسَّر لهو الحديث في الآية الشريفة وإنَّها نزلت فيه: ابن عبّاس، وعبد الله ابن عمر، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومكحول، وعمرو بن شعيب، وميمون ابن مهران، وقتادة، والنخعي، وعطاء، وعليّ بن بذيمة، والحسن، كما أخرجه: ابن أبي شيبة، ابن أبي الدنيا، ابن جرير، ابن المنذر، الحاكم، البيهقي في شعب الإيمان، ابن أبي حاتم، ابن مردويه، الفريابي، ابن عساكر.

راجع تفسير الطبري ٢١: ٣٩، ٤٠، سنن البيهقي ١٠: ٢٢١، ٢٢٣، ٢٢٥، مستدرك الحاكم ٢: ٤١١، تفسير القرطبي ١٤: ٥١، ٥٢، ٥٣، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي ص ٢٤٦، تفسير ابن كثير ٣: ٤٤١، ٤٤٢، إرشاد الساري للقسطلاني ٩: ١٦٣، تفسير الخازن ٣: ٤٦، تفسير النسفي هامش الخازن ٣: ٤٦٠، تفسير الدر المنثور ٥: ١٥٩، ١٦٠، تفسير الشوكاني ٤: ٢٢٨، تفسير الآلوسي ٢١: ٦٧، نيل الأوطار ٨: ٢٦٣.

٢ - ينذر الله تعالى أُمّة محمّد صلى الله عليه وآله في الكتاب العزيز بقوله:( وَأَنتُمْ سَامِدُونَ ) . (سورة النجم: ٦١) قال عكرمة عن ابن عبّاس أنَّه قال: هو الغناء بلغة حمير. يُقال: سمّد لنا. أي غنِّ لنا. ويقال للقينة: أسمدينا. أي: ألهينا بالغناء.

أخرجه سعيد بن منصور، عبد بن حميد، ابن جرير، عبد الرزاق، الفريا بي، أبو عبيد، ابن أبي الدنيا، البزّار، إبن المنذر، إبن أبي حاتم، البيهقي.

راجع تفسير الطبري ٢٨: ٤٨، تفسير القرطبي ١٧: ١٢٢، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي ص ٢٤٦، نهاية ابن الأثير ٢: ١٩٥، الفائق للزمخشري ١: ٣٠٥، تفسير ابن كثير ٤: ٢٦٠، تفسير الخازن ٤: ٢١٢، الدر المنثور ٦: ١٣٢، تاج العروس ٢: ٣٨١، تفسير الشوكاني ٥: ١١٥، تفسير الآلوسي ٢٧: ٧٢، نيل الأوطار ٨: ٢٦٣.

٦٨

٣ - وفي خطاب الله العزيز قوله تعالى لإبليس:( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ ) . (سورة الاسراء: ٦٤)

قال ابن عبّاس ومجاهد: إنَّه الغناء والمزامير واللهو. كما في تفسير الطبري ١٥: ٨١، تفسير القرطبي ١٠: ٢٨٨، نقد العلم والعالم لابن الجوزي ص ٢٤٧، تفسير ابن كثير ٣: ٤٩، تفسير الخازن ٣: ١٧٨، تفسير النسفي ٣ ص ١٧٨، تفسير ابن جزي الكلبي ٢: ١٧٥، تفسير الشوكاني ٣: ٢٣٣، تفسير الآلوسي ١٥: ١١١.

السنَّة في الغناء والمعازف

قد جاء في السنَّة الشريفة عنه صلى الله عليه وآله: ما من رجل يرفع صوته بالغناء إلّا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذ المنكب والآخر على هذا المنكب، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتّى يكون هو الذي يسكت.

وفي لفظ ابن أبي الدنيا وابن مردويه: ما رفع أحدٌ صوته بغناء إلّا بعث الله تعالى إليه شيطانين يجلسان على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتّى يمسك.

راجع تفسير القرطبي ١٤: ٤٣، تفسير الزمخشري ٢: ٤١١، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي ص ٢٤٨، تفسير الخازن ٣: ٤٦٠، تفسير النسفي هامش الخازن ٣: ٤٦٠، إرشاد الساري ٩: ١٦٤، الدر المنثور ٥: ١٥٩، تفسير الشوكاني ٤: ٢٢٨، تفسير الآلوسي ٢١: ٦٨.

٢ - عن عبد الرحمن بن عوف: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إنَّما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ومزامير الشيطان. وصوت عند مصيبة خمش وجوه، وشقّ جيوب، ورنَّة شيطان.

وفي لفظ الترمذي وغيره من حديث أنس مرفوعاً: صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما: صوت مزمار ورنَّة شيطان عند نغمة ومرح، ورنَّة عند مصيبة، لطم خدود، وشقّ جيوب.

تفسير القرطبي ١٤: ٥٣، نقد العلم والعلماء ص ٢٤٨، الدر المنثور ٥: ١٦٠، كنز العمال ٧: ٣٣٣، تفسير الشوكاني ٤: ٢٢٩ نيل الأوطار ٨: ٢٦٨.

٣ - عن عمر بن الخطاب مرفوعاً: ثمن القينة سُحت، وغناء‌ها حرامٌ، والنظر

٦٩

إليها حرامٌ، وثمنها من ثمن الكلب وثمن الكلب سحتٌ.

أخرجه الطبراني كما في إرشاد الساري للقسطلاني ٩: ١٦٣، ونيل الأوطار للشوكاني ٨: ٢٦٤.

٤ - عن أبي موسى الأشعري مرفوعا: من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيِّين. فقيل: ومَن الروحانيون يا رسول الله؟ قال: قرّاء أهل الجنَّة.

أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والقرطبي في تفسيره ١٤: ٥٤.

٥ - مرفوعاً: ليكوننَّ في أُمَّتي قوم يستحلّون الخزَّ والخمر والمعازف(١)

أخرجه أحمد. وبن ماجة. وأبو نعيم. وأبو داود بأسانيدهم صحيحة لا مطعن فيها، وصحَّحه جماعة آخرون من الأئمَّة، كما قاله بعض الحفّاظ. قاله الآلوسي في تفسيره ٢١: ٧٦، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى ١٠: ٢٢١ فقال: أخرجه البخاري في الصحيح.

٦ - عن ابن عبّاس وأنس وأبي أمامة مرفوعاً: ليكوننَّ في هذه الأُمَّة خسفٌ و قذفٌ ومسخٌ، وذلك إذا شربوا الخمور، واتَّخذوا القينات، وضربوا بالمعازف.

أخرجه ابن أبي الدنيا. وأحمد. والطبراني، كما في الدر المنثور ٢: ٣٢٤، وتفسير الآلوسي ٢١: ٧٦.

٧ - عن عبد الله بن عمر - عمرو - قال: إنَّ قوله تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) . هي في التوراة: إنَّ الله أنزل الحقَّ ليذهب به الباطل، ويبطل به اللعب والزفن والمزامير والكبارات يعني البرابط والزمارات يعني الدف والطنابير.

أخرجه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في سننه ١٠: ٢٢٢، وراجع تفسير ابن كثير ٢: ٩٦، والدر المنثور ٢: ٣١٧.

٨ - عن أنس وأبي أمامة مرفوعاً: بعثني الله رحمةً وهدىً للعالمين، وبعثني بمحق المعازف والمزامير وأمر الجاهليَّة. كتاب العلم لابن عبد البر ١: ١٥٣، الدر

____________________

١ - في حواشي الدمياطي: المعازف: الدفوف وغيرها ممّا يضرب به. ويطلق على الغناء عزف وعلى كل لعب. نيل الأوطار ٨: ٢٦١.

٧٠

المنثور ٢: ٣٢٣، نيل الأوطار ٨: ٢٦٢.

٩ - عن عليّ مرفوعاً: تمسخ طائفةٌ من أُمَّتي قردة، وطائفة خنازير، ويُخسف بطائفة، ويرسل على طائفة الريح العقيم بأنَّهم شربوا الخمر، ولبسوا الحرير، واتَّخذوا القيان، وضربوا بالدفوف. الدر المنثور ٢: ٣٢٤.

١٠ - عن أبي هريرة مرفوعاً: يُمسخ قومٌ من هذه الأُمَّة في آخر الزمان قردةً وخنازير قالوا يا رسول الله! أليس يشهدون أن لا إله إلّا الله وأنَّ محمَّداً رسول الله؟ قال: بلى ويصومون ويصلّون ويحجّون، قالوا: فما بالهم؟ قال: إتَّخذوا المعازف والدفوف والقينات، وباتوا على شربهم ولهوهم، فأصبحوا قد مسخوا قردةً وخنازير.

وقريبٌ من هذا الحديث من حديث عبد الرحمن بن سابط. والغازي بن ربيعة. وصالح بن خالد. وأنس بن مالك. وأبو أمامة. وعمران بن حصين. أخرجها ابن أبي الدنيا. ابن أبي شيبة. ابن عدي. الحاكم. البيهقي. أبو داود. ابن ماجة. راجع الدر المنثور: ٣٢٤.

١١ - عن أنس بن مالك مرفوعاً: من جلس إلى قينة يسمع منها صُبَّ في أُذنه الآنك(١) يوم القيامة. تفسير القرطبي ١٤: ٥٣، نيل الأوطار ٨: ٢٦٤.

١٢ - عن عائشة مرفوعاً: من مات وعنده جاريةٌ مغنَية فلا تصلّوا عليه. تفسير القرطبي ١٤: ٥٣.

١٣ - أخرج الترمذي من حديث عليّ مرفوعاً: إذا فعلت أمَّتي خمس عشرة خصلة حلَّ بها البلاء - فذكرها منها -: إذا اتَّخذت القينات والمعازف. وفي لفظ أبي هريرة: ظهرت القيان والمعازف. نقد العلم والعلماء لابن الجوزي ص ٢٤٩، تفسير القرطبي ١٤: ٥٣، نيل الأوطار ٨: ٢٦٣

١٤ - عن ابن المنكدر: بلغنا إنَّ الله تعالى يقول يوم القيامة: أين عبادي الذين كانوا ينزِّهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان؟ أحلّوهم رياض المسك وأخبروهم أنّي قد أحللت عليهم رضواني. تفسير القرطبي ١٤: ٥٣.

١٥ - عن ابن مسعود: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله سمع رجلاً يتغنّى من الليل فقال: لا

____________________

١ - الآنك: الرصاص.

٧١

صلاة له، لا صلاة له، لا صلاة له. نيل الأوطار ٨: ٢٦٤.

١٦ - قال رسول الله عليه السلام يوم فتح مكّة: إنَّما بعثت بكسر الدف والمزمار، فخرج الصحابة رضوان الله عليهم يأخذونها من أيدي الولدان ويكسرونها. بهجة النفوس شرح مختصر صحيح البخاري لأبي محمّد ابن أبي جمرة الأزدي ٢: ٧٤.

م ١٧ - في حديث من طريق معاوية: يا أيُّها الناس إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله نهى عن تسع وأنا أنهى عنهنَّ. وعدَّ منها: الغناء. تاريخ البخاري ٤ قسم ١: ٢٣٤].

*(الغناء في المذاهب الأربعة )*

١ - حرَّمه إمام الحنفيَّة وعدَّه وسماعه من الذنوب، وهذا مذهب مشايخ أهل الكوفة: سفيان. وحمّاد. وإبراهيم. والشعبي. وعكرمة.

٢ - عن مالك إمام المالكية إنَّه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال: إذا اشترى أحدٌ جارية فوجدها مغنِّية فله أن يردَّها بالعيب. وهو مذهب ساير أهل المدينة إلّا إبراهيم بن سعد وحده.

وسُئل مالك: ما ترخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: إنَّما يفعله عندنا الفسّاق.

وسُئل مالك عن الغناء؟ فقال: قال الله تعالى:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) . أفحقٌ هو؟

٣ - ونقل التحريم عن جمع من الحنابلة على ما حكاه شارح المقنع، وعن عبد الله بن الإمام أحمد إنَّه قال: سألت أبي عن الغناء. فقال: ينبت النفاق في القلب لا يعجبني ثمَّ ذكر قول مالك: إنَّما يفعله عندنا الفسّاق.

٤ - وصرَّح أصحاب الشافعي العارفون بمذهبه بتحريمه وأنكروا على من نسب إليه حلّه كالقاضي أبي الطيّب وله في ذم الغناء والمنع عنه كتابٌ مصنَّف، والطبري والشيخ أبي إسحاق في التنبيه.

وقال أبو الطيب الطبري: أمّا سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم فإنَّ أصحاب الشافعي لا يجوِّزوه سواء كانت حرَّة أو مملوكة. قال: وقال الشافعي: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيهٌ تردُّ شهادته، ثمَّ غلّظ القول فيه فقال: فهي دياثة. وإنَّما جعل صاحبها سفيهاً لأنَّه دعا الناس إلى الباطل ومَن دعا الناس كان سفيهاً.

٧٢

وقال ابن الصلاح: هذا السماع حرامٌ بإجماع أهل الحلِّ والعقد من المسلمين.

وقال الطبري: أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه، وإنَّما فارق الجماعة إبراهيم ابن السعد، وعبيد الله العنبري.

وسئل القاسم بن محمَّد عن الغناء فقال: أنهاك عنه وأكرهه لك. فقال السائل. أحرام هو؟ قال: اُنظر يا بن أخي إذا ميَّز الله تعالى الحقَّ من الباطل في أيِّهما يجعل سبحانه الغناء؟ وقال: لعن الله المغنّي والمغنّى له.

وقال المحاسبي في رسالة الانشاء: الغناء حرامٌ كالميتة.

وفي كتاب التقريب: إنَّ الغناء حرامٌ فعله وسماعه.

وقال النحاس: ممنوعٌ بالكتاب والسنَّة.

وقال القفّال لا تقبل شهادة المغنِّي والرقّاص.

راجع سنن البيهقي ١٠: ٢٢٤، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي ص ٢٤٢ ٢٤٦، تفسير القرطبي ١٤: ٥١، ٥٢، ٥٥، ٥٦، الدر المنثور ٥. ٥٩، عمدة القاري للعيني ٥: ١٦٠، تفسير الآلوسي ٢١: ٦٨، ٦٩.

وفي مفتاح السعادة ١: ٣٣٤: وقد قيل: التلذُّذ بالغناء وضرب الملاهي كفرٌ.

قال الأميني: لعلَّ القائل أخذ بما أخرجه أبو يعقوب النيسابوري من حديث أبي هريرة مرفوعاً: استماع الملاهي معصيةٌ، والجلوس عليها فسقٌ، والتلذّذ بها كفر. نيل الأوطار ٨: ٢٦٤.

وعن إبراهيم بن مسعود: الغناء باطلٌ والباطل في النار. وعنه: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. وعنه: إذا ركب الرجل الدابَّة ولم يسمّ ردفه شيطان فقال: تغنَّه. فإن كان لا يحسن قال: تمنَّه.

ومرَّ ابن عمر رضي الله عنه بقوم محرمين وفيهم رجل يغنِّي قال: ألا! لا سمع الله لكم. ومرَّ بجارية صغيرة تغنِّي فقال: لو ترك الشيطان أحداً لترك هذه.

وقال الضحّاك: الغناء منفدةٌ للمال، مسخطةٌ للربِّ، مفسدةٌ للقلب.

وقال يزيد بن الوليد الناقص: يا بني أميَّة إيّاكم والغناء فإنَّه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وأنَّه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم

٧٣

لا بدَّ فاعلين فجنِّبوه النساء فإنَّ الغناء داعية الزنا.

وفيما كتب عمر بن عبد العزيز إلى سهل مولاه: بلغني عن الثقات من حملة العلم إنَّ حضور المعازف واستماع الأغاني واللهج بهما، ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء العشب.

وقيل: الغناء جاسوس القلب، وسارق المروءة والعقل، يتغلغل في سويداء القلوب، ويطَّلع على سرائر الأفئدة، ويدبُّ إلى بيت التخييل، فينشر ما غرز فيها من الهوى والشهوة والسخافة والرعونة، فبينما ترى الرجل وعليه سمت الوقار، وبهاء العقل، وبهجة الإيمان، ووقار العلم، وكلامه حكمةٌ، وسكوته عبرةٌ، فإذا سمع الغناء نقص عقله وحياؤه، وذهب مروءته وبهاؤه، فيستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه، ويبدي من أسراره ما كان يكتمه، وينتقل من بهاء السكوت والسكون إلى كثرة الكلام والهذيان والاهتزار كأنَّه جانّ وربما صفق بيديه، ودقَّ الأرض برجليه، وهكذا تفعل الخمر إلى غير ذلك.

راجع سنن البيهقي ١: ٢٢٣، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي ص ٢٥٠، تفسير الزمخشري ٢: ٤١١، تفسير القرطبي ١٤: ٥٢، إرشاد الساري ٩. ١٦٤، الدرّ المنثور ٥: ١٥٩، ١٦٠، كنز العمال ٧: ٣٣٣، تفسير الخازن ٣: ٤٦، تفسير الشوكاني ٤: ٢٢٨، نيل الأوطار ٨: ٢٦٤، تفسير الآلوسي ٢١: ٦٧، ٦٨.

*(نظرةٌ في الأحاديث المعنونة )*

هذا شأن الغناء والملاهي، وتلك ما يؤثر عن نبيِّ الاسلام صلى الله عليه وآله أفمن المعقول إذن أن تعزى إليه تلك المسامحة المزرية بعصمته، المسقطة لمحلّه، المسفَّة به إلى هوَّة الجهل؟ ثمَّ يُحسب أنَّ الذي تذمَّر عنهما وتجهَّم أمام الباطل ودحضه هو عمر فحسب دون رسول الله صلى الله عليه وآله؟ وما هذا الشيطان الذي كان يفرق من عمر وما كان يخاف رسول الله صلى الله عليه وآله صلى الله عليه وآله وسلم؟

أيّ نبيّ هذا؟ وهو يسمع الملاهي، وترقص بين يديه الرقّاصة الأجنبيَّة، وتضرب بالدف وتغنّي، أو يوقِف هو حليلة على تلك المواقف المخزية، ثمَّ يقول: لست من دَدٍ ولا الدَد منّي. أو يقول: لست من دَدٍ ولا دَدٌ منِّي أو يقول: لست من الباطل ولا الباطل منّي (١) .

____________________

١ - أخرجه البخاري في الأدب، والبيهقي والخطيب، وابن عساكر. راجع كنز العمال ٧: ٣٣٣، الفيض القدير ٥ ٢٦٥.

٧٤

أيّ عظيم هذا؟ يرى في بيته غناء الجواري وضربهنَّ بالدف ولا ينبس ببنت شفة غير أنَّ عمر يغضبه ذلك ويقول: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟ أليس هذا النبيُّ هو الذي كان سمع مزماراً يضع إصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق؟ قال نافع: سمع عبد الله بن عمر مزماراً فوضع إصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق وقال لي: يا نافع هل تسمع شيئاً؟ فقلت: لا. فرفع إصبعيه من أذنيه وقال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا(١) أليس ابن عبّاس قال أخذاً بالسنَّة الشريفة: الدف حرامٌ، والمعازف حرامٌ، والكوبة حرامٌ، والمزمار حرامٌ؟.

ألا تعجب من رسول الله صلى الله عليه وآله؟ والحبشة تلعب في مسجده الشريف أشرف بقاع الدنيا وتزفن وتغنّي وهو صلى الله عليه وآله وحليلته ينظر إليها، وعمر ينهاهنَّ، ويقول النبيُّ صلى الله عليه وآله: دعهنَّ يا عمر!.

أصحيحٌ ما جاء عن النبيِّ الأقدس صلى الله عليه وآله من قوله بعدَّة طرق: جنِّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراء كم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم؟

وقوله صلى الله عليه وآله: من سمع رجلاً ينشد ضالَّةً في المسجد فليقل: لا ردّها الله عليك. فإنَّ المساجد لم تبن لهذا؟. أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجة والترمذي.

وما أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة عن بريدة: إنَّ رجلاً نشد في المسجد الجمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا وجدت، إنَّما بنيت المساجد لِما بنيت؟.

وقوله صلى الله عليه وآله: سيكون في آخر الزمان قومٌ يكون حديثهم في مساجدهم ليس لله فيهم حاجة؟. أخرجه ابن حبان في صحيحه.

وقوله صلى الله عليه وآله: لا تتخذوا المساجد طرقاً إلّا لذكر أو صلاة؟(٢) .

وما ظنُّك بنبيّ العصمة يحول المولى سبحانه بينه وبين ما يهمه من سماع المعازف والمزامير قبل بعثته تشريفاً له وتعظيماً لمكانته من القداسة، ويخلّيه واسع السرب رخيَّ البال بعد مبعثه الشريف يسمع غناء الأجنبيّات وهي تزفن؟ أخرج الحفّاظ بالإسناد عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما هممت بشيء ممّا كان في

____________________

١ - سنن أبي داود ٢: ٣٠٤، سنن البيهقي ١٠: ٢٢٢، تاريخ ابن عساكر ٧: ٢٠٦، ٢٨٤.

٢ - جمع هذه الأحاديث وأمثالها الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب ١: ٨٩ - ٩٢.

٧٥

الجاهليّة يعملون به غير مرّتين كلُّ ذلك يحول الله تعالى بيني وبين ما أريد فإنّي قلت ليلة غلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت إلى غنمي حتّى أدخل مكة فأسمر بها ما يسمر الشباب؟ فقال: ادخل. فخرجت أُريد ذلك حتّى إذا جئت أوَّل دار من دور مكة سمعت عزفاً بالدفوف والمزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان بن فلان تزوَّج فلانة ابنة فلان، فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلّا مسَّ الشمس، قال: فجئت صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما صنعت شيئاً، وأخبرته الخبر قال ثمَّ قلت له ليلة أُخرى مثل ذلك فقال: أفعل فخرجت فسمعت حين جئت مكّة مثل ما سمعت ودخلت مكة تلك الليلة فجلست أنظر فضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلّا مسّ الشمس، فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر، ثمَّ ما همت بعدهما بسوء حتّى أكرمني الله برسالته.(١)

قال الماوردي في أعلام النبوَّة ١٤٠: هذه أحوال عصمته قبل الرسالة، وصدّه عن دنس الجهالة، فاقتضى أن يكون بعد الرسالة أعظم، ومن الأدناس أسلم، وكفى بهذه الحال أن يكون من الأصفياء الخيرة إن أمهل، ومن الأتقياء البررة إن أغفل، ومن أكبر الأنبياء عند الله تعالى من أرسل مستخلص الفطرة، عليَّ النظرة، وقد أرسله الله تعالى بعد الاستخلاص، وطهَّره من الأدناس، فانتفت عنه تهم الظنون، وسلم من ازدراء العيون، ليكون الناس إلى إجابته أسرع، وإلى الانقياد له أطوع.

وإليَّ نُسائل ذلك الحكيم المتأوِّل الذي مرَّ كلامه ص ٦٥ عن أنَّه كيف خصّ محمَّد صلى الله عليه وآله بالنبوَّة، وأبا بكر بالرحمة، وعمر بالحقّ، وحسب إنَّه فتح باباً مُرتجاً من المعضلات، أو أتي بقَرني حمار، أيّ نبوَّة تفارق الحقَّ؟ وأيّ نبيّ هو أوضع من صاحب الحقِّ؟ وأيّ حقٍّ إقتناه عمر لنفسه وعزب عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عرفانه؟.

وهلمَّ معي إلى طامَّة أُخرى من الزركشي في الإجابة ص ٦٧، الذي عدَّ فيها من خصائص عائشة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتبع رضاها كلعبها باللعب، ووقوفه في

____________________

١ - دلائل النبوَّة لأبي نعيم ١: ٥٨. أعلام النبوة للماوردي ص ١٤٠. تاريخ الطبري ٢: ١٩٦. الكامل لابن الأثير ٢: ١٤. عيون الأثر لابن سيد الناس ١: ٤٤. تاريخ ابن كثير ٢: ٢٨٧. الخصائص الكبرى ١: ٨٨، السيرة الحلبية ١: ١٣٢.

٧٦

وجهها لتنظر إلى الحبشة يلعبون. فقال: واستنبط العلماء من ذلك أحكاماً كثيرة فما أعظم بركتها.

أوَ هل يريد هذا الرجل إثبات مأثرة لعائشة؟ أو ذكر مَزلَّة لبعلها؟ وهل كان صلى الله عليه وآله يتّبع رضاها في المشروع؟ أو كان إتّباعه أعمّ من ذلك؟ «معاذ الله» وهل من الممكن أن يتَّبع رضاها حتّى في نقض ما جاء به هو من الشريعة الإلهيَّة؟ وأيّ حكم يستنبط من مثل هذا المدرك الساقط؟ فمرحباً بالكاتب، وزهٍ بالعلماء المستنبطين، ووكثّر الله أمثال هذه البركات «لأكثَّرها».

ثمَّ هل النذر يبيح المحظور؟ وفي الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وآله: لا نذر في معصية ولا نذر فيما لا يملك ابن آدم(١) .

وقوله صلى الله عليه وآله: من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه(٢) .

وقال عقبة بن عامر: إنَّ أخته نذرت أن تمشي حافية غير مختمرة وإنَّه ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مرها فلتركب ولتختمر(٣) .

وعن ابن عبّاس قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل بمكة وهو قائمٌ في الشمس فقال: ما هذا؟ قالوا: نذر أن يصوم ولا يستظلَّ إلى الليل ولا يتكلّم ولا يزال قائماً. قال: ليتكلّم وليستظلَّ وليجلس وليتمَّ صومه(٤) .

وقال صلى الله عليه وآله: لا نذر إلّا فيما يُبتغى به وجه الله تعالى(٥) .

____________________

١ - صحيح مسلم ٢: ١٧، سنن أبي داود ٢: ٨١، سنن ابن ماجة ١: ٦٥٢، سنن النسائي ٧: ١٩، ٢٩.

٢ - صحيح البخاري ٩: ٢٤٥ ٢٤٦، صحيح الترمذي ١: ٢٨٨، سنن ابن ماجة ١: ٦٥٣ سنن أبي داود ٢: ٧٨، سنن النسائي ٧: ١٧، سنن البيهقي ١٠: ٧٥.

٣ - سنن ابن ماجة ١: ٦٥٤، سنن النسائي ٧: ٢٠، صحيح الترمذي كما في تيسير الوصول ٤: ٢٧٩، سنن البيهقي ١٠: ٨٠.

٤ - سنن ابن ماجة ١: ٦٥٥، صحيح البخاري ٩: ٢٤٧، سنن ابن داود ٢: ٧٩، سنن البيهقي ١٠: ٧٥.

٥ - أخرجه ابن داود كما في تيسير الوصول ٤: ٢٨١، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى ١٠: ٧٥.

٧٧

وقال صلى الله عليه وآله: النذر نذران، فمن كان نذره في طاعة الله فذلك لله وفيه الوفاء، ومن كان نذره في معصية الله فذلك للشيطان ولا وفاء فيه(١) .

أوَ ليس من شرط إنعقاد النذر على هذا الرجحان في متعلّقه وكونه ممّا يُبتغى به وجه الله ليكون مقرّباً إليه سبحانه زلفى، فيصحّ للناذر أن يقول: لله عليَّ كذا؟ فأيّ رجحان في ضرب المرأة الأجنبيّة الدفّ بين يدي الرجل الأجنبيِّ وفي غنائها ورقصها أمامه؟ إلّا أن يقول القائل: إنَّ تلك الجارية أو مسجد النبيِّ الأعظم أباحا تلكم المحضورات أو الغلوّ في الفضائل فضائل الخليفة أباح أن تستساغ.

*(رأي عمر في الغناء )*

إن تعجب فعجبٌ أنَّ هذه المهازئ تشعر بكراهة عمر للغناء وقد عدَّه العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري ٥: ١٦٠ نقلاً عن كتاب التمهيد لأبي عمر صاحب الاستيعاب ممّن ذهب إلى إباحته في عداد عثمان. وعبد الرحمن بن عوف. وسعد بن أبي وقاص. وعبد الله بن عمر. ومعاوية. وعمرو بن العاص. والنعمان بن بشير. وحسّان بن ثابت.

وقال الشوكاني في نيل الأوطار ٨: ٢٦٦: قد روي الغناء وسماعه عن جماعة من الصحابة والتابعين، فمن الصحابة: عمر. كما رواه ابن عبد البرّ وغيره، ثمَّ عدَّ جمعاً منهم: عثمان. عبد الرحمن بن عوف. أبو عبيدة الجراح. سعد بن أبي وقاص. عبد الله ابن عمر.

وروى المبرَّد والبيهقي في المعرفة كما في نيل الأوطار ٨: ٢٧٢ عن عمر: إنَّه إذا كان داخلاً في بيته ترنّم بالبيت والبيتين. واستدلال الشوكاني بهذا على إباحة الغناء في بعض المواقف يومي إلى أنّ المراد من الترنّم: التغنِّي.

وقال ابن منظور في لسان العرب ١٩: ٣٧٤: قد رخَّص عمر رضي الله عنه في غناء الأعراب.

ويُعرب عن جليَّة الحال حديث خوات بن جبير الصحابي قال: خرجنا حُجّاجاً مع عمر فسرنا في ركب فيهم أبو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف فقال القوم:

____________________

١ - أخرجه النسائي كما في التيسير ٤: ٢٨١.

٧٨

غنِّنا من شعر ضرار، فقال عمر: دعوا أبا عبد الله فليغنّ من بنيّات فؤاده. فما زلت أُغنِّيهم حتّى كان السحر، فقال عمر: إرفع لسانك يا خوات فقد أسحرنا(١) .

م - [وزاد ابن عساكر في تاريخه ٧: ١٦٣: فقال أبو عبيدة: هلمّ إلى رجل أرجو أن لا يكون شرّاً من عمر. قال: فتنحَّيت أنا وأبو عبيدة فما زلنا كذلك حتّى صلّينا الفجر].

وفي كنز العمال ٧: ٣٣٦: كلّم أصحاب النبيّ خوات بن جبير أن يغنِّيهم فقال: حتّى أستأذن عمر. فاستأذنه فأذن له فغنّى خوات فقال عمر: أحسن خوات، أحسن خوات.

وفي حديث رباح بن المعترف قال: إنّه كان مع عبد الرحمن بن عوف يوماً في سفر فرفع صوته رباح يغنِّي غناء الركبان فقال له عبد الرحمن: ما هذا؟ قال: غير ما بأس نلهو ونقصِّر عنَّا السفر. فقال عبد الرَّحمن: إن كنتم لا بدَّ فاعلين فعليكم بشعر ضرار بن الخطاب، ويقال: إنَّه كان معهم في ذلك السفر عمر بن الخطاب وكان يُغنِّيهم غناء النصب(٢) . في تاج العروس: النصب ضرب من أغاني الأعراب.

وعن عثمان بن نائل عن أبيه قال: قلنا لرباح بن المعترف: غنِّنا بغناء أهل بلدنا فقال: مع عمر؟ قلنا: نعم، فإن نهاك فانته.

وذكر الزبير بن بكار: إنَّ عمر مرَّ به ورباح يغنِّيهم غناء الركبان(٣) فقال: ما هذا؟ قال عبد الرحمن: غير ما بأس يقصّر عنّا السفر، فقال: إذا كنتم فاعلين فعليكم بشعر ضرار بن الخطاب «الإصابة ١: ٥٠٢».

وعن السائب بن يزيد قال: بينا نحن مع عبد الرحمن بن عوف في طريق مكة إذ قال عبد الرحمن لرباح: غنِّنا. فقال له عمر: إن كنت آخذاً فعليك بشعر ضرار بن الخطاب «الإصابة ٢: ٢٠٩»

____________________

١ - سنن البيهقي ١٠: ٢٢٤، الاستيعاب ١: ١٧٠، الإصابة ١: ٤٥٧، كنز العمال ٧: ٣٣٥.

٢ - سنن البيهقي ١٠: ٢٢٤، الاستيعاب ١: ١٨٦.

٣ - قال ابن الأعرابي: كانت العرب تتغنى بالركباني إذا ركبت وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هجيراهم بالقرآن مكان التغني بالركبان. لسان العرب ١٩: ٣٣٧، تاج العروس ١٠: ٢٧٣.

٧٩

م - [وفي لفظ ابن عساكر في تاريخه ٧: ٣٥: فقال عمر: ما هذا؟ فقال عبد الرحمن: ما بأس بهذا اللهو ونقصِّر عنَّا سفرنا. فقال عمر: إن كنت. إلخ].

وعن العلاء بن زياد: إنَّ عمر كان في مسير فتغنّى فقال: هلّا زجرتموني إذا لغوت «كنز العمال ٧: ٣٣٥».

وعن الحارث بن عبد الله بن عباس: إنَّه بينا هو يسير مع عمر في طريق مكة في خلافته ومعه المهاجرون والأنصار فترنَّم عمر ببيت، فقال له رجلٌ من أهل العراق ليس معه عراقيٌّ غيره: غيرك فليقلها يا أمير المؤمنين! فاستحى عمر وضرب راحلته حتّى انقطعت من الركب أخرجه الشافعي والبيهقي كما في الكنز ٧: ٣٣٦.

هذا عمر وهذا رأيه وهذه سيرته في الغناء، فهل من المعقول أن يهابه المغنُّون فيجفلون عمّا كانوا يقترفونه، ويسمعه النبيّ صلى الله عليه وآله ولا يتحرَّج؟ ويرى أنَّ الشيطان يفرق من عمر، ولا يفرق منه؟ المستعاذ بك يا الله.

م - [قد تروى هذه المنقبة الموهومة لعثمان فيما أخرجه أحمد في مسنده ٤: ٣٥٣ من طريق ابن أبي أوفى قال: استأذن أبو بكر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم وجارية تضرب بالدف فدخل، ثمَّ استأذن عمر رضي الله عنه فدخل، ثمَّ استأذن عثمان رضي الله عنه فأمسكت قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ عثمان رجلٌ حيي.

وأخرجه في ص ٣٥٤ بإسناد آخر بلفظ: كانت جارية تضرب بالدف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبو بكر ثمَّ جاء عمر ثمَّ جاء عثمان رضي الله عنهم فأمسكت فقال. الخ. وسنوقفك على حياء عثمان حتّى تعرف صحَّة هذا الحديث أيضاً].

ثمَّ لنتوجَّه إلى شاعر النيل المشبّه دِرَّة عمر بعصا موسى التي كانت معجزة قاهرة لنبيٍّ معصوم أبطل بها الباطل، وأقام الحقَّ فقال كما مرَّ في ص ٦٦:

أغنت عن الصارم المصقول دِرَّته

فكم أخافت غويَّ النفس عاتيها

كانت له كعصا موسى لصاحبها

لا ينزل البطل مجتازاً بواديها

فنسأل الرجل عن وجه الشبه بين تلك العصا وبين هذه الدِرَّة التي قيل فيها: لعلَّ دِرَّته لم يسلم من خفقتها إلّا القلائل من كبار الصحابة، وكانت الدِرَّة في يده على الدوام أنّى سار، وكان الناس يهابونها أكثر ممّا تخيفهم السيوف، وكان يقول: أصبحت

٨٠