الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٨

الغدير في الكتاب والسنة والأدب10%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 397

الجزء ١ المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 397 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 145938 / تحميل: 7050
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وكان دهراً يبيع الخيط والقرظة بالبقيع(١) .

أنا لا أدري في أيّ من أيّامه هذه حصل على جدارة لما يخبرنا به ابن الجوزي في سيرة عمر ص ٦: من إنَّه كانت السفارة - في الجاهليَّة - إلى عمر بن الخطاب إن وقعت حربٌ بين قريش وغيرهم بعثوه سفيراً. وزاد عليه أبو عمر في الاستيعاب قوله: وإن نافرهم منافرٌ أو فاخرهم مفاخرٌ رضوا به وبعثوه منافراً ومفاخراً(٢) .

أوَ كانت قريش كلّهم من هذه الطبقة الواطئة؟ فكانوا يبعثون للسفارة والمفاخرة غلاماً هذا شأنه؟ وفيهم الصناديد والعظماء والرؤساء وذوو عارضة ورجال الكلام.

أم كانوا لا يبالون بمن يُرسلونه؟ «والرسول دليل عقل المرسل» لم يكن هذا ولا ذاك ولكن الحبّ يُعمي ويصمّ، وإنَّك تجد من نظاير هذه شيئاً كثيراً، وإليك جملةٌ منه مضافاً على ما مرَّ في الجزء الخامس ممّا وضعته يد الغلوّ في فضائله.

- ١ -

كلمات في عِلم عمر

ورد في علمه عن ابن مسعود: لو وضع علم أحياء العرب في كفَّة الميزان ووضع علم عمر في كفَّة لرجح علم عمر، ولقد كانوا يرون إنَّه ذهب بتسعة أعشار العلم.

وفي لفظ المحبّ الطبري: لو وُضع علم عمر في كفَّة وعلم أهل الأرض في كفَّة لرجح علم عمر.

مستدرك الحاكم ٣: ٨٦ الاستيعاب ٢: ٤٣٠، الرياض النضرة ٢: ٨، أعلام الموقعين لابن القيم ص ٦، تاريخ الخميس ٢: ٢٦٨، عمدة القاري ٥: ٤١٠.

٢ - وقال حذيفة: كان علم الناس كلّهم قد درس في حجر عمر مع علم عمر.

الاستيعاب ٢: ٤٣٠، أعلام الموقعين ص ٦.

٣ - وقال مسروق: شاممت أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم ينتهي إلى ستَّة إلى علي. وعبدالله. وعمر. وزيد بن ثابت. وأبي الدرداء. وأُبيّ. ثمَّ شاممت الستَّة فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله. أعلام الموقعين ص ٦.

____________________

١ - راجع ما أسلفناه في الجزء السادس ص ٣٠٣ ط ٢.

٢ - وذكر ابن عساكر ما رواه أبو عمر وابن الجوزي في تاريخه ٦: ٤٣٢.

٦١

٤ - وقال الشعبي: إذا اختلف الناس في شيء فخذوا بما قال عمر. أعلام الموقعين ص ٦.

٥ - وقال ابن المسيب: ما أعلم أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم من عمر بن الخطاب. أعلام الموقعين ص ٧.

٦ - وقال بعض التابعين: دفعت إلى عمر فإذا الفقهاء عنده مثل الصبيان قد استعلى عليهم في فقهه وعلمه. أعلام الموقعين ص ٧.

٧ - وقال خلد الأسدي: صحبت عمر فما رأيت أحداً أفقه في دين الله ولا أعلم بكتاب الله ولا أحسن مدارسة منه. الرياض النظرة ٢: ٨.

هاهنا لا نطيل القول وإنَّما نحيلك إلى الجزء السادس من هذا الكتاب من صفحة ٨٣ - ٣٢٥ ط ٢ فإنَّ هنالك ما يغني الباحث عن الاسهاب في المقام، وأنت أيّها المخبت إلى هذه الأقاويل هل علمت شيئاً ممّا قدّمناه؟ ودريت فذلكة ذلك البحث الضافي أو لا؟

فإن كنتَ لا تدري فتلك مصيبة

وإن كنتَ تدري فالمصيبة أعظم

وأنت جِدُّ عليم بأنَّ هذه التقوّلات لا تلائم مع ما حفظه التاريخ من نوادر الأثر في علم عمر، والحريّ هو الأخذ بما مرَّ من أقواله نفسه في علمه ج ٦ ص ٣٢٨ ط ٢ وبها تتضح جليَّة الحال، والإنسان على نفسه بصيرة.

- ٢ -

عمر أقرأ الصحابة وأفقههم

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: أُمرت أن أقرأ القرآن على عمر. ذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ٥٨.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان عمر أتقانا للربِّ، وأقرأنا لكتاب الله. أخرجه الحاكم في المستدرك ج ٣ ص ٨٦.

وذكر المحبُّ الطبري نقلاً عن عليِّ بن حرب الطائي من طريق ابن مسعود إنَّه قال لزيد بن وهب: إقرأ بما أقرأكه عمر، إنّ عمر أعلمنا بكتاب الله وأفقهنا في دين الله(١) .

هذه مراسيل مقطوعة عن الاسناد، وانصف الحاكم إذ سكت عن إسناد ما أخرجه أو إنَّه لم يقف عليه فيصحّحه، وسكت عنه الذهبي للعلّة نفسها، وأحسب إنَّ بطلان هذه

____________________

١ - الرياض النضرة ٢: ٨.

٦٢

الروايات في غنىً عن إبطال إسنادها، فإنَّ العناية الإلهيّة لو شملت الخليفة بحيث أمر نبيَّه صلى الله عليه وآله بقراءة القرآن عليه، لا بدَّ وأن تشمله بالتمكّن من تلقيّه وضبطه وحفظه وفقهه والوقوف على مغازيه والعمل به، وأن يكون أقرأ كما في رواية الحاكم، أو أعلم وأفقه كما في رواية الطائي، إذن فما تلكم الجهود المتعبة في تعلّم سورة البقرة فحسب طيلة اثنتي عشر سنة؟ كما مرَّ في الجزء السادس ص ١٩٦ ط ٢.

وهاتيك الأحكام الشاذَّة عن موارد من القرآن الكريم؟ كحكمه للجنب الفاقد للماء بترك الصَّلاة ذاهلاً عن قوله تعالى في سورة النساء: ٤٣، وفي سورة المائدة: ٦.

٢ - وحكمه على إمرأة ولدت لستة أشهر بالرجم، ونصب عينه الآية الكريمة:( حَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ) . وقوله تعالى:( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) .

٣ - ونهيه عن المغالاة في مهور النساء، وبين يديه قوله تعالى:( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ قِنطَاراً ) .

٤ - وجهله بمعنى الأبِّ وهو يتلو:( مَتَاعاً لّكُمْ وَلْأَنْعَامِكُمْ ) .

٥ - وحسبانه إنَّ الحجر الأسعد لا يضرُّ ولا ينفع جهلاً بمغزى قوله تعالى:( وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ) . الآية.

٦ - ونهيه عن الطيِّبات في الحياة الدنيا تمسّكاً بقوله تعالى:( أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدّنْيَا ) ذاهلاً عمّا قبله، غير ملتفت إلى الآية الأخرى:( قُلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطّيّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ ) . الآية.

٧ - وجهله بمعاريض الكلم المتَّخذة من الكتاب.

٨ - وأمره برجم الزانية المضطرَّة، وفي الذكر الحكيم:( فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ) .

٩ - وتجسسّه عن صوت ارتاب به فتسلّق الحائط ودخل البيت ولم يسلّم غير مكترث لآيات ثلاث:( لاَ تَجَسّسُوا. وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن أَبْوَابِهِا. فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلّمُوا ) .

١٠ - وجهله بالكلالة وبمسمع منه آية الصيف.

١١ - وقوله بتعذيب الميت ببكاء الحيِّ كأنَّه لم يقرأ قوله تعالى:( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) .

٦٣

١٢ - وقوله الشاذّ في الطلاق قصوراً منه عن فهم قوله تعالى:( الطّلاَقُ مَرّتَانِ ) .

١٣ - ونهيه عن متعة الحجِّ وهو يتلو قوله تعالى:( وَأَتِمّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ ) . الآية.

١٤ - وتحريمه متعة النساء ذهولاً منه عن قوله تعالى:( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ ) . الآية.

تجد تفاصيل هذه الجمل في نوادر الأثر من الجزء السادس من كتابنا هذا، وهناك موارد كثيرة من القرآن، لم يهتد إليها، وتجد جملة منها في طيّات أجزاء كتابنا هذا.

فهل من السائغ في شريعة الحجى أن يكون الأقرأ والأعلم والأفقه بهذه المثابة من الإبتعاد عن الآي الشريفة، ومراميها الكريمة، ولو كان كما زعموه فما قوله في خطبته الصحيحة الثابتة له بإسناد صحيح رجاله كلهم ثقات: «من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أُبيَّ بن كعب؛ ومن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت». راجع ج ٦: ١٩١ ط ٢.

- ٣ -

الشيطان يخاف ويفرُّ من عمر

١ - عن بريدة: جرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فلمّا انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله! إنّي كنت نذرت إن ردَّك الله صالحاً أن أضرب بين يديك بالدفِّ وأتغنّى؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت نذرت فاضربي وإلّا فلا. فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثمَّ دخل عليٌّ وهي تضرب، ثمَّ دخل عثمان وهي تضرب، ثمَّ دخل عمر فألقت الدفَّ تحت إستها ثمَّ قعدت عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الشيطان ليخاف منك يا عمر! إنِّي كنت جالساً وهي تضرب، ثمَّ دخل عليٌّ وهي تضرب، ثمَّ دخل عثمان وهي تضرب، فلمّا دخلت أنت يا عمر! ألقت الدفَّ.

وفي لفظ أحمد: إنَّ الشيطان ليفرق منك يا عمر!.

وعن جابر قال: دخل أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يُضرب بالدفِّ عنده، فقعد ولم يزجر لما رأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء عمر رضي الله عنه فلمّا سمع رسول الله صوته كفِّ عن ذلك، فلمّا خرجا قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله!

٦٤

كان حلالاً فلمّا دخل عمر صار حراما؟ فقال عليه السلام: يا عائشة! ليس كلّ النّاس مرخاً عليه.

أخرج أحمد في مسنده ٥: ٣٥٣، والترمذي في جامعه ٢: ٢٠٣ فقال هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ص ٥٨ من طريق بريدة وص ١٣٨ من حديث جابر، فقال في الموضع الأوَّل: فلا يظنّ ذو عقل إنَّ عمر في هذا أفضل من أبي بكر، وأبو بكر شبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع الأمرين والدرجتين، فله درجة النبوَّة لا يلحقه أحدٌ، وأبو بكر له درجة الرحمة، وعمر له درجة الحقِّ.

ورواه البيهقي في سننه ١٠: ٧٧، والخطيب التبريزي في مشكاة المصابيح ص ٥٥٠، وابن الأثير في أُسد الغابة ٤: ٦٤، والشوكاني في نيل الأوطار ٨: ٢٧١.

٢ - عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً فسمعنا لغطاً وصوت صبيان، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حبشيَّة تزفن - أي ترقص - والصبيان حولها فقال: يا عائشة! تعالي فانظري. فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: أما شبعت؟ أما شبعت فجعلت أقول: لا. لأنظر منزلتي عنده، إذ طلع العمر فأرفضَّ الناس عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنِّي لأنظر شياطين الجنِّ والإنس قد فرّوا من عمر، قالت: فرجعتُ.

أخرجه الترمذي في صحيحه ٢ ص ٢٩٤ فقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، والبغوي في مصباح السنَّة ٢: ٢٧١، والخطيب العمري التبريزي في مشكاة المصابيح ص ٥٥٠، والمحب الطبري في الرياض ٢: ٢٠٨.

٣ - أخرج أحمد في مسنده ٢: ٢٠٨. من حديث أبي هريرة قال: بينا الحبشة يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحرابهم، دخل عمر فأهوى إلى الحصباء يحصبهم بها فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم دعهم يا عمر!.

وأخرج أبو داود الطيالسي في مسنده ٢٠٤ من حديث عائشة قالت: كانت الحبشة يدخلون المسجد، فجعلوا يلعبون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إليهم جارية حديثة السن، فجاء عمر فنهاهنَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعهنَّ يا عمر!. ثمَّ قال: هنَّ بنات أرفدة.

٦٥

٤ - روى أبو نصر الطوسي في اللمع ص ٢٧٤: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخل بيت عائشة رضي الله عنها، فوجد فيه جاريتين تغنِّيان وتضربان بالدف فلم ينههما عن ذلك وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين غضب: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: دعهما يا عمر! فإنَّ لكلِّ قوم عيدٌ.

قال الأميني: لا حاجة لنا إلى البحث عن إسناد هذه الروايات فإنَّ في متونها من الخزاية ما فيه غنىً عن ذلك. فدع الترمذي يستحسن إسناد ما رواه ويصحِّحه، ودع الحفّاظ يملأون عياب علمهم بعيوب مثلها، ودع شاعر النيل يتَّبع من لا خلاق له من الحفّاظ ويعدُّها من فضائل عمر، ويقول تحت عنوان «مثالٌ من هيبته»:

في الجاهليَّة والاسلام هيبته

تثني الخطوب فلا تعدو عواديها

في طيِّ شدَّته أسرار مرحمةٍ

للعالمين ولكن ليس يُفشيها

وبين جنبيه في أوفى صرامته

فؤاد والدةٍ ترعى ذراريها

أغنت عن الصارم المصقول درَّته

فكم أخافت غويّ النفس عاتيها؟

كانت له كعصا موسى لصاحبها

لا ينزل البطل مجتازاً بواديها

أخاف حتّى الذراري في ملاعبها

وراع حتّى الغواني في ملاهيها

أريت تلك التي لله قد نذرت

أُنشودة لرسول الله تهديها

قالت: نذرت لَئن عاد النبيُّ لنا

من غزوة لعلى دفّي أُغنِّيها

ويمَّمت حضرة الهادي وقد ملأت

أنوار طلعته أرجاء واديها

واستأذنت ومشت بالدف واندفعت

تشجي بألحانها ما شاء مشجيها(١)

والمصطفى وأبو بكر بجانبه

لا ينكران عليها ما أغانيها

حتّى إذا لاح عن بُعد لها عمر

خارت قواها وكاد الخوف يُرديها

وخبَّأت دفّها في ثوبها فرقاً

منه وودَّت لو أنَّ الأرض تطويها

قد كان علم رسول الله يؤنسها

فجاء بطش أبي حفص يخشيِّها

فقال مهبط وحي الله مبتسماً

وفي ابتسامته معنىً يواسيها

____________________

١ - تشجى: تثير الشعور وتشوق.

٦٦

: قد فرَّ شيطانها لما رأى عمراً

إنَّ الشياطين تخشى بأس مخزيها(١)

لقد عزب عن المساكين إنَّ ما تحرَّوه من إثبات فضيلة للخليفة الثاني يجلب الفضايح إلى ساحة النبوَّة «تقدّست عنها» فأيّ نبيّ هذا؟ يروقه النظر إلى الراقصات والاستماع لأهازيجهنَّ وشهود المعازف، ولا يقنعه ذلك كلّه حتّى يُطلع عليها حليلته عائشة، والناس ينظرون إليها من كثَب، وهو يقول لها: شبعتِ؟ شبعتِ؟ وهي تقول: لا لعرفان منزلتها عنده ولا تزعه أُبّهة النبوَّة عن أن يقف مع الصبيان للتتلّع على مشاهد اللهو شأن الذنابا والأوباش وأهل الخلاعة والمجون، وقد جاءت شريعته المقدَّسة بتحريم كلِّ ذلك بالكتاب والسنَّة الشريفة، هذا قوله تعالى:( وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتّخِذَهَا هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) . سورة لقمان آية ٦.

وقد جاء عنه صلى الله عليه وآله، من حديث أبي أمامة: لا تبيعوا القينات، ولا تشتروهنَّ ولا تعلّموهنَّ ولا خير في تجارة فيهنَّ، وثمنهنَّ حرام، في مثل هذا أُنزلت هذه الآية:( وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي ) الآية.

وفي لفظ الطبري والبغوي: لا يحلُّ تعليم المغنِّيات ولا بيعهنَّ، وأثمانهنَّ حرامٌ وفي مثل ذلك نزلت هذه الآية.

أخرجه سعيد بن منصور. أحمد. الترمذي. ابن ماجة. ابن جرير. ابن المنذر. ابن حاتم. ابن أبي شيبة. ابن مردويه. الطبراني. البيهقي، ابن أبي الدنيا. وغيرهم. راجع تفسير الطبري ٢١: ٣٩، تفسير القرطبي ١٤: ٥١، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي ص ٣٤٧، تفسير ابن كثير ٣: ٤٤٢، تفسير الخازن ٣: ٣٦، إرشاد الساري ٩: ١٦٣، الدرّ المنثور ٥: ١٥٩، تفسير الشوكاني ٤: ٢٢٨، نيل الأوطار ٨: ٢٦٣، تفسير الآلوسي ٢١: ٦٨

وأخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه من طريق عائشة مرفوعاً: إنَّ الله تعالى حرَّم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها، ثمَّ قرأ: ومن الناس من يشتري لهو الحديث.

الدر المنثور ٥: ١٥٩، تفسير الشوكاني ٤: ٢٢٨، تفسير الآلوسي ٢١: ٦٨.

____________________

١ - هذه الأبيات من العمرية الشهيرة لشاعر النيل محمّد حافظ إبراهيم، وقد مرَّ الايعاز إليها في الجزء السابع ص ٨٦، ٨٧ ط ٢.

٦٧

وعن ابن مسعود: إنه سأل عن قوله: ومن الناس من يشتري لهو الحديث.

قال: هو والله الغناء. وفي لفظ: هو الغناء والله الذي لا إله إلّا هو، يردّدها ثلاث مرَّات. وعن جابر في الآية قال: هو الغناء والاستماع له. ومعنى يشتري يستبدل كما في قوله تعالى:( أُولئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُا الضّلاَلَةَ بِالْهُدَى ) ، أي استبدلوه منه واختاروه عليه، وقال مطرف: شراء لهو الحديث استحبابه. وقال قتادة: سماعه شراؤه.

وبالغناء فسَّر لهو الحديث في الآية الشريفة وإنَّها نزلت فيه: ابن عبّاس، وعبد الله ابن عمر، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومكحول، وعمرو بن شعيب، وميمون ابن مهران، وقتادة، والنخعي، وعطاء، وعليّ بن بذيمة، والحسن، كما أخرجه: ابن أبي شيبة، ابن أبي الدنيا، ابن جرير، ابن المنذر، الحاكم، البيهقي في شعب الإيمان، ابن أبي حاتم، ابن مردويه، الفريابي، ابن عساكر.

راجع تفسير الطبري ٢١: ٣٩، ٤٠، سنن البيهقي ١٠: ٢٢١، ٢٢٣، ٢٢٥، مستدرك الحاكم ٢: ٤١١، تفسير القرطبي ١٤: ٥١، ٥٢، ٥٣، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي ص ٢٤٦، تفسير ابن كثير ٣: ٤٤١، ٤٤٢، إرشاد الساري للقسطلاني ٩: ١٦٣، تفسير الخازن ٣: ٤٦، تفسير النسفي هامش الخازن ٣: ٤٦٠، تفسير الدر المنثور ٥: ١٥٩، ١٦٠، تفسير الشوكاني ٤: ٢٢٨، تفسير الآلوسي ٢١: ٦٧، نيل الأوطار ٨: ٢٦٣.

٢ - ينذر الله تعالى أُمّة محمّد صلى الله عليه وآله في الكتاب العزيز بقوله:( وَأَنتُمْ سَامِدُونَ ) . (سورة النجم: ٦١) قال عكرمة عن ابن عبّاس أنَّه قال: هو الغناء بلغة حمير. يُقال: سمّد لنا. أي غنِّ لنا. ويقال للقينة: أسمدينا. أي: ألهينا بالغناء.

أخرجه سعيد بن منصور، عبد بن حميد، ابن جرير، عبد الرزاق، الفريا بي، أبو عبيد، ابن أبي الدنيا، البزّار، إبن المنذر، إبن أبي حاتم، البيهقي.

راجع تفسير الطبري ٢٨: ٤٨، تفسير القرطبي ١٧: ١٢٢، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي ص ٢٤٦، نهاية ابن الأثير ٢: ١٩٥، الفائق للزمخشري ١: ٣٠٥، تفسير ابن كثير ٤: ٢٦٠، تفسير الخازن ٤: ٢١٢، الدر المنثور ٦: ١٣٢، تاج العروس ٢: ٣٨١، تفسير الشوكاني ٥: ١١٥، تفسير الآلوسي ٢٧: ٧٢، نيل الأوطار ٨: ٢٦٣.

٦٨

٣ - وفي خطاب الله العزيز قوله تعالى لإبليس:( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ ) . (سورة الاسراء: ٦٤)

قال ابن عبّاس ومجاهد: إنَّه الغناء والمزامير واللهو. كما في تفسير الطبري ١٥: ٨١، تفسير القرطبي ١٠: ٢٨٨، نقد العلم والعالم لابن الجوزي ص ٢٤٧، تفسير ابن كثير ٣: ٤٩، تفسير الخازن ٣: ١٧٨، تفسير النسفي ٣ ص ١٧٨، تفسير ابن جزي الكلبي ٢: ١٧٥، تفسير الشوكاني ٣: ٢٣٣، تفسير الآلوسي ١٥: ١١١.

السنَّة في الغناء والمعازف

قد جاء في السنَّة الشريفة عنه صلى الله عليه وآله: ما من رجل يرفع صوته بالغناء إلّا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذ المنكب والآخر على هذا المنكب، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتّى يكون هو الذي يسكت.

وفي لفظ ابن أبي الدنيا وابن مردويه: ما رفع أحدٌ صوته بغناء إلّا بعث الله تعالى إليه شيطانين يجلسان على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتّى يمسك.

راجع تفسير القرطبي ١٤: ٤٣، تفسير الزمخشري ٢: ٤١١، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي ص ٢٤٨، تفسير الخازن ٣: ٤٦٠، تفسير النسفي هامش الخازن ٣: ٤٦٠، إرشاد الساري ٩: ١٦٤، الدر المنثور ٥: ١٥٩، تفسير الشوكاني ٤: ٢٢٨، تفسير الآلوسي ٢١: ٦٨.

٢ - عن عبد الرحمن بن عوف: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إنَّما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ومزامير الشيطان. وصوت عند مصيبة خمش وجوه، وشقّ جيوب، ورنَّة شيطان.

وفي لفظ الترمذي وغيره من حديث أنس مرفوعاً: صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما: صوت مزمار ورنَّة شيطان عند نغمة ومرح، ورنَّة عند مصيبة، لطم خدود، وشقّ جيوب.

تفسير القرطبي ١٤: ٥٣، نقد العلم والعلماء ص ٢٤٨، الدر المنثور ٥: ١٦٠، كنز العمال ٧: ٣٣٣، تفسير الشوكاني ٤: ٢٢٩ نيل الأوطار ٨: ٢٦٨.

٣ - عن عمر بن الخطاب مرفوعاً: ثمن القينة سُحت، وغناء‌ها حرامٌ، والنظر

٦٩

إليها حرامٌ، وثمنها من ثمن الكلب وثمن الكلب سحتٌ.

أخرجه الطبراني كما في إرشاد الساري للقسطلاني ٩: ١٦٣، ونيل الأوطار للشوكاني ٨: ٢٦٤.

٤ - عن أبي موسى الأشعري مرفوعا: من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيِّين. فقيل: ومَن الروحانيون يا رسول الله؟ قال: قرّاء أهل الجنَّة.

أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والقرطبي في تفسيره ١٤: ٥٤.

٥ - مرفوعاً: ليكوننَّ في أُمَّتي قوم يستحلّون الخزَّ والخمر والمعازف(١)

أخرجه أحمد. وبن ماجة. وأبو نعيم. وأبو داود بأسانيدهم صحيحة لا مطعن فيها، وصحَّحه جماعة آخرون من الأئمَّة، كما قاله بعض الحفّاظ. قاله الآلوسي في تفسيره ٢١: ٧٦، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى ١٠: ٢٢١ فقال: أخرجه البخاري في الصحيح.

٦ - عن ابن عبّاس وأنس وأبي أمامة مرفوعاً: ليكوننَّ في هذه الأُمَّة خسفٌ و قذفٌ ومسخٌ، وذلك إذا شربوا الخمور، واتَّخذوا القينات، وضربوا بالمعازف.

أخرجه ابن أبي الدنيا. وأحمد. والطبراني، كما في الدر المنثور ٢: ٣٢٤، وتفسير الآلوسي ٢١: ٧٦.

٧ - عن عبد الله بن عمر - عمرو - قال: إنَّ قوله تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) . هي في التوراة: إنَّ الله أنزل الحقَّ ليذهب به الباطل، ويبطل به اللعب والزفن والمزامير والكبارات يعني البرابط والزمارات يعني الدف والطنابير.

أخرجه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في سننه ١٠: ٢٢٢، وراجع تفسير ابن كثير ٢: ٩٦، والدر المنثور ٢: ٣١٧.

٨ - عن أنس وأبي أمامة مرفوعاً: بعثني الله رحمةً وهدىً للعالمين، وبعثني بمحق المعازف والمزامير وأمر الجاهليَّة. كتاب العلم لابن عبد البر ١: ١٥٣، الدر

____________________

١ - في حواشي الدمياطي: المعازف: الدفوف وغيرها ممّا يضرب به. ويطلق على الغناء عزف وعلى كل لعب. نيل الأوطار ٨: ٢٦١.

٧٠

المنثور ٢: ٣٢٣، نيل الأوطار ٨: ٢٦٢.

٩ - عن عليّ مرفوعاً: تمسخ طائفةٌ من أُمَّتي قردة، وطائفة خنازير، ويُخسف بطائفة، ويرسل على طائفة الريح العقيم بأنَّهم شربوا الخمر، ولبسوا الحرير، واتَّخذوا القيان، وضربوا بالدفوف. الدر المنثور ٢: ٣٢٤.

١٠ - عن أبي هريرة مرفوعاً: يُمسخ قومٌ من هذه الأُمَّة في آخر الزمان قردةً وخنازير قالوا يا رسول الله! أليس يشهدون أن لا إله إلّا الله وأنَّ محمَّداً رسول الله؟ قال: بلى ويصومون ويصلّون ويحجّون، قالوا: فما بالهم؟ قال: إتَّخذوا المعازف والدفوف والقينات، وباتوا على شربهم ولهوهم، فأصبحوا قد مسخوا قردةً وخنازير.

وقريبٌ من هذا الحديث من حديث عبد الرحمن بن سابط. والغازي بن ربيعة. وصالح بن خالد. وأنس بن مالك. وأبو أمامة. وعمران بن حصين. أخرجها ابن أبي الدنيا. ابن أبي شيبة. ابن عدي. الحاكم. البيهقي. أبو داود. ابن ماجة. راجع الدر المنثور: ٣٢٤.

١١ - عن أنس بن مالك مرفوعاً: من جلس إلى قينة يسمع منها صُبَّ في أُذنه الآنك(١) يوم القيامة. تفسير القرطبي ١٤: ٥٣، نيل الأوطار ٨: ٢٦٤.

١٢ - عن عائشة مرفوعاً: من مات وعنده جاريةٌ مغنَية فلا تصلّوا عليه. تفسير القرطبي ١٤: ٥٣.

١٣ - أخرج الترمذي من حديث عليّ مرفوعاً: إذا فعلت أمَّتي خمس عشرة خصلة حلَّ بها البلاء - فذكرها منها -: إذا اتَّخذت القينات والمعازف. وفي لفظ أبي هريرة: ظهرت القيان والمعازف. نقد العلم والعلماء لابن الجوزي ص ٢٤٩، تفسير القرطبي ١٤: ٥٣، نيل الأوطار ٨: ٢٦٣

١٤ - عن ابن المنكدر: بلغنا إنَّ الله تعالى يقول يوم القيامة: أين عبادي الذين كانوا ينزِّهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان؟ أحلّوهم رياض المسك وأخبروهم أنّي قد أحللت عليهم رضواني. تفسير القرطبي ١٤: ٥٣.

١٥ - عن ابن مسعود: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله سمع رجلاً يتغنّى من الليل فقال: لا

____________________

١ - الآنك: الرصاص.

٧١

صلاة له، لا صلاة له، لا صلاة له. نيل الأوطار ٨: ٢٦٤.

١٦ - قال رسول الله عليه السلام يوم فتح مكّة: إنَّما بعثت بكسر الدف والمزمار، فخرج الصحابة رضوان الله عليهم يأخذونها من أيدي الولدان ويكسرونها. بهجة النفوس شرح مختصر صحيح البخاري لأبي محمّد ابن أبي جمرة الأزدي ٢: ٧٤.

م ١٧ - في حديث من طريق معاوية: يا أيُّها الناس إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله نهى عن تسع وأنا أنهى عنهنَّ. وعدَّ منها: الغناء. تاريخ البخاري ٤ قسم ١: ٢٣٤].

*(الغناء في المذاهب الأربعة )*

١ - حرَّمه إمام الحنفيَّة وعدَّه وسماعه من الذنوب، وهذا مذهب مشايخ أهل الكوفة: سفيان. وحمّاد. وإبراهيم. والشعبي. وعكرمة.

٢ - عن مالك إمام المالكية إنَّه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال: إذا اشترى أحدٌ جارية فوجدها مغنِّية فله أن يردَّها بالعيب. وهو مذهب ساير أهل المدينة إلّا إبراهيم بن سعد وحده.

وسُئل مالك: ما ترخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: إنَّما يفعله عندنا الفسّاق.

وسُئل مالك عن الغناء؟ فقال: قال الله تعالى:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) . أفحقٌ هو؟

٣ - ونقل التحريم عن جمع من الحنابلة على ما حكاه شارح المقنع، وعن عبد الله بن الإمام أحمد إنَّه قال: سألت أبي عن الغناء. فقال: ينبت النفاق في القلب لا يعجبني ثمَّ ذكر قول مالك: إنَّما يفعله عندنا الفسّاق.

٤ - وصرَّح أصحاب الشافعي العارفون بمذهبه بتحريمه وأنكروا على من نسب إليه حلّه كالقاضي أبي الطيّب وله في ذم الغناء والمنع عنه كتابٌ مصنَّف، والطبري والشيخ أبي إسحاق في التنبيه.

وقال أبو الطيب الطبري: أمّا سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم فإنَّ أصحاب الشافعي لا يجوِّزوه سواء كانت حرَّة أو مملوكة. قال: وقال الشافعي: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيهٌ تردُّ شهادته، ثمَّ غلّظ القول فيه فقال: فهي دياثة. وإنَّما جعل صاحبها سفيهاً لأنَّه دعا الناس إلى الباطل ومَن دعا الناس كان سفيهاً.

٧٢

وقال ابن الصلاح: هذا السماع حرامٌ بإجماع أهل الحلِّ والعقد من المسلمين.

وقال الطبري: أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه، وإنَّما فارق الجماعة إبراهيم ابن السعد، وعبيد الله العنبري.

وسئل القاسم بن محمَّد عن الغناء فقال: أنهاك عنه وأكرهه لك. فقال السائل. أحرام هو؟ قال: اُنظر يا بن أخي إذا ميَّز الله تعالى الحقَّ من الباطل في أيِّهما يجعل سبحانه الغناء؟ وقال: لعن الله المغنّي والمغنّى له.

وقال المحاسبي في رسالة الانشاء: الغناء حرامٌ كالميتة.

وفي كتاب التقريب: إنَّ الغناء حرامٌ فعله وسماعه.

وقال النحاس: ممنوعٌ بالكتاب والسنَّة.

وقال القفّال لا تقبل شهادة المغنِّي والرقّاص.

راجع سنن البيهقي ١٠: ٢٢٤، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي ص ٢٤٢ ٢٤٦، تفسير القرطبي ١٤: ٥١، ٥٢، ٥٥، ٥٦، الدر المنثور ٥. ٥٩، عمدة القاري للعيني ٥: ١٦٠، تفسير الآلوسي ٢١: ٦٨، ٦٩.

وفي مفتاح السعادة ١: ٣٣٤: وقد قيل: التلذُّذ بالغناء وضرب الملاهي كفرٌ.

قال الأميني: لعلَّ القائل أخذ بما أخرجه أبو يعقوب النيسابوري من حديث أبي هريرة مرفوعاً: استماع الملاهي معصيةٌ، والجلوس عليها فسقٌ، والتلذّذ بها كفر. نيل الأوطار ٨: ٢٦٤.

وعن إبراهيم بن مسعود: الغناء باطلٌ والباطل في النار. وعنه: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. وعنه: إذا ركب الرجل الدابَّة ولم يسمّ ردفه شيطان فقال: تغنَّه. فإن كان لا يحسن قال: تمنَّه.

ومرَّ ابن عمر رضي الله عنه بقوم محرمين وفيهم رجل يغنِّي قال: ألا! لا سمع الله لكم. ومرَّ بجارية صغيرة تغنِّي فقال: لو ترك الشيطان أحداً لترك هذه.

وقال الضحّاك: الغناء منفدةٌ للمال، مسخطةٌ للربِّ، مفسدةٌ للقلب.

وقال يزيد بن الوليد الناقص: يا بني أميَّة إيّاكم والغناء فإنَّه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وأنَّه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم

٧٣

لا بدَّ فاعلين فجنِّبوه النساء فإنَّ الغناء داعية الزنا.

وفيما كتب عمر بن عبد العزيز إلى سهل مولاه: بلغني عن الثقات من حملة العلم إنَّ حضور المعازف واستماع الأغاني واللهج بهما، ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء العشب.

وقيل: الغناء جاسوس القلب، وسارق المروءة والعقل، يتغلغل في سويداء القلوب، ويطَّلع على سرائر الأفئدة، ويدبُّ إلى بيت التخييل، فينشر ما غرز فيها من الهوى والشهوة والسخافة والرعونة، فبينما ترى الرجل وعليه سمت الوقار، وبهاء العقل، وبهجة الإيمان، ووقار العلم، وكلامه حكمةٌ، وسكوته عبرةٌ، فإذا سمع الغناء نقص عقله وحياؤه، وذهب مروءته وبهاؤه، فيستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه، ويبدي من أسراره ما كان يكتمه، وينتقل من بهاء السكوت والسكون إلى كثرة الكلام والهذيان والاهتزار كأنَّه جانّ وربما صفق بيديه، ودقَّ الأرض برجليه، وهكذا تفعل الخمر إلى غير ذلك.

راجع سنن البيهقي ١: ٢٢٣، نقد العلم والعلماء لابن الجوزي ص ٢٥٠، تفسير الزمخشري ٢: ٤١١، تفسير القرطبي ١٤: ٥٢، إرشاد الساري ٩. ١٦٤، الدرّ المنثور ٥: ١٥٩، ١٦٠، كنز العمال ٧: ٣٣٣، تفسير الخازن ٣: ٤٦، تفسير الشوكاني ٤: ٢٢٨، نيل الأوطار ٨: ٢٦٤، تفسير الآلوسي ٢١: ٦٧، ٦٨.

*(نظرةٌ في الأحاديث المعنونة )*

هذا شأن الغناء والملاهي، وتلك ما يؤثر عن نبيِّ الاسلام صلى الله عليه وآله أفمن المعقول إذن أن تعزى إليه تلك المسامحة المزرية بعصمته، المسقطة لمحلّه، المسفَّة به إلى هوَّة الجهل؟ ثمَّ يُحسب أنَّ الذي تذمَّر عنهما وتجهَّم أمام الباطل ودحضه هو عمر فحسب دون رسول الله صلى الله عليه وآله؟ وما هذا الشيطان الذي كان يفرق من عمر وما كان يخاف رسول الله صلى الله عليه وآله صلى الله عليه وآله وسلم؟

أيّ نبيّ هذا؟ وهو يسمع الملاهي، وترقص بين يديه الرقّاصة الأجنبيَّة، وتضرب بالدف وتغنّي، أو يوقِف هو حليلة على تلك المواقف المخزية، ثمَّ يقول: لست من دَدٍ ولا الدَد منّي. أو يقول: لست من دَدٍ ولا دَدٌ منِّي أو يقول: لست من الباطل ولا الباطل منّي (١) .

____________________

١ - أخرجه البخاري في الأدب، والبيهقي والخطيب، وابن عساكر. راجع كنز العمال ٧: ٣٣٣، الفيض القدير ٥ ٢٦٥.

٧٤

أيّ عظيم هذا؟ يرى في بيته غناء الجواري وضربهنَّ بالدف ولا ينبس ببنت شفة غير أنَّ عمر يغضبه ذلك ويقول: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟ أليس هذا النبيُّ هو الذي كان سمع مزماراً يضع إصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق؟ قال نافع: سمع عبد الله بن عمر مزماراً فوضع إصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق وقال لي: يا نافع هل تسمع شيئاً؟ فقلت: لا. فرفع إصبعيه من أذنيه وقال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا(١) أليس ابن عبّاس قال أخذاً بالسنَّة الشريفة: الدف حرامٌ، والمعازف حرامٌ، والكوبة حرامٌ، والمزمار حرامٌ؟.

ألا تعجب من رسول الله صلى الله عليه وآله؟ والحبشة تلعب في مسجده الشريف أشرف بقاع الدنيا وتزفن وتغنّي وهو صلى الله عليه وآله وحليلته ينظر إليها، وعمر ينهاهنَّ، ويقول النبيُّ صلى الله عليه وآله: دعهنَّ يا عمر!.

أصحيحٌ ما جاء عن النبيِّ الأقدس صلى الله عليه وآله من قوله بعدَّة طرق: جنِّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراء كم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم؟

وقوله صلى الله عليه وآله: من سمع رجلاً ينشد ضالَّةً في المسجد فليقل: لا ردّها الله عليك. فإنَّ المساجد لم تبن لهذا؟. أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجة والترمذي.

وما أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة عن بريدة: إنَّ رجلاً نشد في المسجد الجمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا وجدت، إنَّما بنيت المساجد لِما بنيت؟.

وقوله صلى الله عليه وآله: سيكون في آخر الزمان قومٌ يكون حديثهم في مساجدهم ليس لله فيهم حاجة؟. أخرجه ابن حبان في صحيحه.

وقوله صلى الله عليه وآله: لا تتخذوا المساجد طرقاً إلّا لذكر أو صلاة؟(٢) .

وما ظنُّك بنبيّ العصمة يحول المولى سبحانه بينه وبين ما يهمه من سماع المعازف والمزامير قبل بعثته تشريفاً له وتعظيماً لمكانته من القداسة، ويخلّيه واسع السرب رخيَّ البال بعد مبعثه الشريف يسمع غناء الأجنبيّات وهي تزفن؟ أخرج الحفّاظ بالإسناد عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما هممت بشيء ممّا كان في

____________________

١ - سنن أبي داود ٢: ٣٠٤، سنن البيهقي ١٠: ٢٢٢، تاريخ ابن عساكر ٧: ٢٠٦، ٢٨٤.

٢ - جمع هذه الأحاديث وأمثالها الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب ١: ٨٩ - ٩٢.

٧٥

الجاهليّة يعملون به غير مرّتين كلُّ ذلك يحول الله تعالى بيني وبين ما أريد فإنّي قلت ليلة غلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت إلى غنمي حتّى أدخل مكة فأسمر بها ما يسمر الشباب؟ فقال: ادخل. فخرجت أُريد ذلك حتّى إذا جئت أوَّل دار من دور مكة سمعت عزفاً بالدفوف والمزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان بن فلان تزوَّج فلانة ابنة فلان، فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلّا مسَّ الشمس، قال: فجئت صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما صنعت شيئاً، وأخبرته الخبر قال ثمَّ قلت له ليلة أُخرى مثل ذلك فقال: أفعل فخرجت فسمعت حين جئت مكّة مثل ما سمعت ودخلت مكة تلك الليلة فجلست أنظر فضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلّا مسّ الشمس، فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر، ثمَّ ما همت بعدهما بسوء حتّى أكرمني الله برسالته.(١)

قال الماوردي في أعلام النبوَّة ١٤٠: هذه أحوال عصمته قبل الرسالة، وصدّه عن دنس الجهالة، فاقتضى أن يكون بعد الرسالة أعظم، ومن الأدناس أسلم، وكفى بهذه الحال أن يكون من الأصفياء الخيرة إن أمهل، ومن الأتقياء البررة إن أغفل، ومن أكبر الأنبياء عند الله تعالى من أرسل مستخلص الفطرة، عليَّ النظرة، وقد أرسله الله تعالى بعد الاستخلاص، وطهَّره من الأدناس، فانتفت عنه تهم الظنون، وسلم من ازدراء العيون، ليكون الناس إلى إجابته أسرع، وإلى الانقياد له أطوع.

وإليَّ نُسائل ذلك الحكيم المتأوِّل الذي مرَّ كلامه ص ٦٥ عن أنَّه كيف خصّ محمَّد صلى الله عليه وآله بالنبوَّة، وأبا بكر بالرحمة، وعمر بالحقّ، وحسب إنَّه فتح باباً مُرتجاً من المعضلات، أو أتي بقَرني حمار، أيّ نبوَّة تفارق الحقَّ؟ وأيّ نبيّ هو أوضع من صاحب الحقِّ؟ وأيّ حقٍّ إقتناه عمر لنفسه وعزب عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عرفانه؟.

وهلمَّ معي إلى طامَّة أُخرى من الزركشي في الإجابة ص ٦٧، الذي عدَّ فيها من خصائص عائشة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتبع رضاها كلعبها باللعب، ووقوفه في

____________________

١ - دلائل النبوَّة لأبي نعيم ١: ٥٨. أعلام النبوة للماوردي ص ١٤٠. تاريخ الطبري ٢: ١٩٦. الكامل لابن الأثير ٢: ١٤. عيون الأثر لابن سيد الناس ١: ٤٤. تاريخ ابن كثير ٢: ٢٨٧. الخصائص الكبرى ١: ٨٨، السيرة الحلبية ١: ١٣٢.

٧٦

وجهها لتنظر إلى الحبشة يلعبون. فقال: واستنبط العلماء من ذلك أحكاماً كثيرة فما أعظم بركتها.

أوَ هل يريد هذا الرجل إثبات مأثرة لعائشة؟ أو ذكر مَزلَّة لبعلها؟ وهل كان صلى الله عليه وآله يتّبع رضاها في المشروع؟ أو كان إتّباعه أعمّ من ذلك؟ «معاذ الله» وهل من الممكن أن يتَّبع رضاها حتّى في نقض ما جاء به هو من الشريعة الإلهيَّة؟ وأيّ حكم يستنبط من مثل هذا المدرك الساقط؟ فمرحباً بالكاتب، وزهٍ بالعلماء المستنبطين، ووكثّر الله أمثال هذه البركات «لأكثَّرها».

ثمَّ هل النذر يبيح المحظور؟ وفي الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وآله: لا نذر في معصية ولا نذر فيما لا يملك ابن آدم(١) .

وقوله صلى الله عليه وآله: من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه(٢) .

وقال عقبة بن عامر: إنَّ أخته نذرت أن تمشي حافية غير مختمرة وإنَّه ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مرها فلتركب ولتختمر(٣) .

وعن ابن عبّاس قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل بمكة وهو قائمٌ في الشمس فقال: ما هذا؟ قالوا: نذر أن يصوم ولا يستظلَّ إلى الليل ولا يتكلّم ولا يزال قائماً. قال: ليتكلّم وليستظلَّ وليجلس وليتمَّ صومه(٤) .

وقال صلى الله عليه وآله: لا نذر إلّا فيما يُبتغى به وجه الله تعالى(٥) .

____________________

١ - صحيح مسلم ٢: ١٧، سنن أبي داود ٢: ٨١، سنن ابن ماجة ١: ٦٥٢، سنن النسائي ٧: ١٩، ٢٩.

٢ - صحيح البخاري ٩: ٢٤٥ ٢٤٦، صحيح الترمذي ١: ٢٨٨، سنن ابن ماجة ١: ٦٥٣ سنن أبي داود ٢: ٧٨، سنن النسائي ٧: ١٧، سنن البيهقي ١٠: ٧٥.

٣ - سنن ابن ماجة ١: ٦٥٤، سنن النسائي ٧: ٢٠، صحيح الترمذي كما في تيسير الوصول ٤: ٢٧٩، سنن البيهقي ١٠: ٨٠.

٤ - سنن ابن ماجة ١: ٦٥٥، صحيح البخاري ٩: ٢٤٧، سنن ابن داود ٢: ٧٩، سنن البيهقي ١٠: ٧٥.

٥ - أخرجه ابن داود كما في تيسير الوصول ٤: ٢٨١، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى ١٠: ٧٥.

٧٧

وقال صلى الله عليه وآله: النذر نذران، فمن كان نذره في طاعة الله فذلك لله وفيه الوفاء، ومن كان نذره في معصية الله فذلك للشيطان ولا وفاء فيه(١) .

أوَ ليس من شرط إنعقاد النذر على هذا الرجحان في متعلّقه وكونه ممّا يُبتغى به وجه الله ليكون مقرّباً إليه سبحانه زلفى، فيصحّ للناذر أن يقول: لله عليَّ كذا؟ فأيّ رجحان في ضرب المرأة الأجنبيّة الدفّ بين يدي الرجل الأجنبيِّ وفي غنائها ورقصها أمامه؟ إلّا أن يقول القائل: إنَّ تلك الجارية أو مسجد النبيِّ الأعظم أباحا تلكم المحضورات أو الغلوّ في الفضائل فضائل الخليفة أباح أن تستساغ.

*(رأي عمر في الغناء )*

إن تعجب فعجبٌ أنَّ هذه المهازئ تشعر بكراهة عمر للغناء وقد عدَّه العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري ٥: ١٦٠ نقلاً عن كتاب التمهيد لأبي عمر صاحب الاستيعاب ممّن ذهب إلى إباحته في عداد عثمان. وعبد الرحمن بن عوف. وسعد بن أبي وقاص. وعبد الله بن عمر. ومعاوية. وعمرو بن العاص. والنعمان بن بشير. وحسّان بن ثابت.

وقال الشوكاني في نيل الأوطار ٨: ٢٦٦: قد روي الغناء وسماعه عن جماعة من الصحابة والتابعين، فمن الصحابة: عمر. كما رواه ابن عبد البرّ وغيره، ثمَّ عدَّ جمعاً منهم: عثمان. عبد الرحمن بن عوف. أبو عبيدة الجراح. سعد بن أبي وقاص. عبد الله ابن عمر.

وروى المبرَّد والبيهقي في المعرفة كما في نيل الأوطار ٨: ٢٧٢ عن عمر: إنَّه إذا كان داخلاً في بيته ترنّم بالبيت والبيتين. واستدلال الشوكاني بهذا على إباحة الغناء في بعض المواقف يومي إلى أنّ المراد من الترنّم: التغنِّي.

وقال ابن منظور في لسان العرب ١٩: ٣٧٤: قد رخَّص عمر رضي الله عنه في غناء الأعراب.

ويُعرب عن جليَّة الحال حديث خوات بن جبير الصحابي قال: خرجنا حُجّاجاً مع عمر فسرنا في ركب فيهم أبو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف فقال القوم:

____________________

١ - أخرجه النسائي كما في التيسير ٤: ٢٨١.

٧٨

غنِّنا من شعر ضرار، فقال عمر: دعوا أبا عبد الله فليغنّ من بنيّات فؤاده. فما زلت أُغنِّيهم حتّى كان السحر، فقال عمر: إرفع لسانك يا خوات فقد أسحرنا(١) .

م - [وزاد ابن عساكر في تاريخه ٧: ١٦٣: فقال أبو عبيدة: هلمّ إلى رجل أرجو أن لا يكون شرّاً من عمر. قال: فتنحَّيت أنا وأبو عبيدة فما زلنا كذلك حتّى صلّينا الفجر].

وفي كنز العمال ٧: ٣٣٦: كلّم أصحاب النبيّ خوات بن جبير أن يغنِّيهم فقال: حتّى أستأذن عمر. فاستأذنه فأذن له فغنّى خوات فقال عمر: أحسن خوات، أحسن خوات.

وفي حديث رباح بن المعترف قال: إنّه كان مع عبد الرحمن بن عوف يوماً في سفر فرفع صوته رباح يغنِّي غناء الركبان فقال له عبد الرحمن: ما هذا؟ قال: غير ما بأس نلهو ونقصِّر عنَّا السفر. فقال عبد الرَّحمن: إن كنتم لا بدَّ فاعلين فعليكم بشعر ضرار بن الخطاب، ويقال: إنَّه كان معهم في ذلك السفر عمر بن الخطاب وكان يُغنِّيهم غناء النصب(٢) . في تاج العروس: النصب ضرب من أغاني الأعراب.

وعن عثمان بن نائل عن أبيه قال: قلنا لرباح بن المعترف: غنِّنا بغناء أهل بلدنا فقال: مع عمر؟ قلنا: نعم، فإن نهاك فانته.

وذكر الزبير بن بكار: إنَّ عمر مرَّ به ورباح يغنِّيهم غناء الركبان(٣) فقال: ما هذا؟ قال عبد الرحمن: غير ما بأس يقصّر عنّا السفر، فقال: إذا كنتم فاعلين فعليكم بشعر ضرار بن الخطاب «الإصابة ١: ٥٠٢».

وعن السائب بن يزيد قال: بينا نحن مع عبد الرحمن بن عوف في طريق مكة إذ قال عبد الرحمن لرباح: غنِّنا. فقال له عمر: إن كنت آخذاً فعليك بشعر ضرار بن الخطاب «الإصابة ٢: ٢٠٩»

____________________

١ - سنن البيهقي ١٠: ٢٢٤، الاستيعاب ١: ١٧٠، الإصابة ١: ٤٥٧، كنز العمال ٧: ٣٣٥.

٢ - سنن البيهقي ١٠: ٢٢٤، الاستيعاب ١: ١٨٦.

٣ - قال ابن الأعرابي: كانت العرب تتغنى بالركباني إذا ركبت وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هجيراهم بالقرآن مكان التغني بالركبان. لسان العرب ١٩: ٣٣٧، تاج العروس ١٠: ٢٧٣.

٧٩

م - [وفي لفظ ابن عساكر في تاريخه ٧: ٣٥: فقال عمر: ما هذا؟ فقال عبد الرحمن: ما بأس بهذا اللهو ونقصِّر عنَّا سفرنا. فقال عمر: إن كنت. إلخ].

وعن العلاء بن زياد: إنَّ عمر كان في مسير فتغنّى فقال: هلّا زجرتموني إذا لغوت «كنز العمال ٧: ٣٣٥».

وعن الحارث بن عبد الله بن عباس: إنَّه بينا هو يسير مع عمر في طريق مكة في خلافته ومعه المهاجرون والأنصار فترنَّم عمر ببيت، فقال له رجلٌ من أهل العراق ليس معه عراقيٌّ غيره: غيرك فليقلها يا أمير المؤمنين! فاستحى عمر وضرب راحلته حتّى انقطعت من الركب أخرجه الشافعي والبيهقي كما في الكنز ٧: ٣٣٦.

هذا عمر وهذا رأيه وهذه سيرته في الغناء، فهل من المعقول أن يهابه المغنُّون فيجفلون عمّا كانوا يقترفونه، ويسمعه النبيّ صلى الله عليه وآله ولا يتحرَّج؟ ويرى أنَّ الشيطان يفرق من عمر، ولا يفرق منه؟ المستعاذ بك يا الله.

م - [قد تروى هذه المنقبة الموهومة لعثمان فيما أخرجه أحمد في مسنده ٤: ٣٥٣ من طريق ابن أبي أوفى قال: استأذن أبو بكر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم وجارية تضرب بالدف فدخل، ثمَّ استأذن عمر رضي الله عنه فدخل، ثمَّ استأذن عثمان رضي الله عنه فأمسكت قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ عثمان رجلٌ حيي.

وأخرجه في ص ٣٥٤ بإسناد آخر بلفظ: كانت جارية تضرب بالدف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبو بكر ثمَّ جاء عمر ثمَّ جاء عثمان رضي الله عنهم فأمسكت فقال. الخ. وسنوقفك على حياء عثمان حتّى تعرف صحَّة هذا الحديث أيضاً].

ثمَّ لنتوجَّه إلى شاعر النيل المشبّه دِرَّة عمر بعصا موسى التي كانت معجزة قاهرة لنبيٍّ معصوم أبطل بها الباطل، وأقام الحقَّ فقال كما مرَّ في ص ٦٦:

أغنت عن الصارم المصقول دِرَّته

فكم أخافت غويَّ النفس عاتيها

كانت له كعصا موسى لصاحبها

لا ينزل البطل مجتازاً بواديها

فنسأل الرجل عن وجه الشبه بين تلك العصا وبين هذه الدِرَّة التي قيل فيها: لعلَّ دِرَّته لم يسلم من خفقتها إلّا القلائل من كبار الصحابة، وكانت الدِرَّة في يده على الدوام أنّى سار، وكان الناس يهابونها أكثر ممّا تخيفهم السيوف، وكان يقول: أصبحت

٨٠

أضرب الناس ليس فوقي أحدٌ إلّا ربّ العالمين(١) فقيل بعده: لَدِرَّة عمر أهيب من سيف الحجّاج كما في محاضرة السكتواري ص ١٦٩.

فما وجه الشبه بين عصا نبيٍّ معصوم وبين دِرّة إنسان لم يسلم منها إلّا القلائل من كبار الصحابة؟ أهي تشبهها حين ضرب صاحبها النساء الباكيات على بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وأخذ صلى الله عليه وآله بيده وقال: مَه يا عمر؟ غ ٦: ١٥٩(٢) ط ٢.

أم حين ضرب أُمَّ فروة بنت أبي قحافة حين بكت على أبيها؟ غ ٦: ١٦١.

أم حين ضرب تميم الداري لإتيانه الصّلاة بعد العصر وهي سنَّة؟. غ ٦: ١٨٣.

أم حين ضرب المنكدر وزيد الجهني وآخرين للصَّلاة بعد العصر؟ غ ٦: ١٨٣.

أم حين ضرب في المجزرة كلّ مَن اشترى اللحم لأهله يومين متتابعين ٢ غ ٦: ٧ ٢٦.

أم حين ضرب رجلاً أتى بيت المقدس وإتيانه سنَّة؟ غ ٦: ٢٧٨.

أم حين ضرب الصائمين في رجب وصومه سنَّة مؤكَّدة؟ غ ٦: ٢٨٢.

أم حين ضرب سائلاً عن آية من القرآن لا يعرف مغزاها؟ غ ٦: ٢٩٠.

أم حين ضرب مسلماً أصاب كتاباً فيه العلم؟ غ ٦: ٢٩٨.

أم حين ضرب مسلماً اقتنى كتاباً لدانيال؟ غ ٦: ٢٩٨.

أم حين ضرب مَن كنّي بأبي عيسى؟ غ ٦: ٣٠٨.

أم حين ضرب سيِّد ربيعة من غير ذنب أتى به؟. غ ٦: ١٥٧.

أم حين ضرب معاوية من دون أن يقترف إثماً؟ كما في تاريخ ابن كثير ٨: ١٢٥.

أم حين ضرب أبا هريرة لابتياعه أفراساً من ماله؟ غ ٦: ٢٧١.

أم حين ضرب مَن صام دهراً؟ غ ٦: ٣٢٢.

إلى مواقف لا تحصى. فانظر إلى مَن تتوجَّه قارصة الرجل في قوله: فكم أخافت غويَّ النفس عاتيها.

ومِن الناس مَن يعجب قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه و هو ألدُّ الخصام البقرة: ٢٠٤

____________________

١ - محاضرات الخضري ٢: ١٥، الخلفاء للنجار ص ١١٣، ٢٣٩.

٢ - غ: رمز كتابنا هذا (الغدير) في جميع الأجزاء.

٨١

- ٤ -

كرامات عمر الأربع

١ - لما فتح عمر مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بؤنة من أشهر العجم فقالوا له: أيّها الأمير إنَّ لنيلنا هذا سنَّة لا يجري إلّا بها. فقال لهم: وما ذاك؟ فقالوا له: إنَّا إذا كانت ثلاث عشرة ليلة نحواً من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أباها وحملنا عليها من الحليِّ والثياب أفضل ما يكون ثمَّ ألقيناها في النيل فقال لهم عمرو: إنَّ هذا شيءٌ لا يكون في الاسلام وإنَّ الاسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا بؤنة وأبيب ومسرى، لا يجري قليلاً ولا كثير فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إليه عمر إنَّك قد أصبت بالذي فعلت إنَّ الاسلام يهدم ما قبله، وكتب إلى عمرو إنّي قد بعثت إليك بطاقة داخل كتابي هذا إليك فألقها في النيل إذا وصل كتابي إليك فلمّا قدم كتاب عمر رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص فإذا فيها مكتوب:

من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر: أمّا بعد: فإن كنت إنَّما تجري من قِبَلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو مجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك

وفي لفظ الواقدي: فإن كنت مخلوقاً لا تملك ضرّاً ولا نفعاً وأنت تجري من قِبَل نفسك وبأمرك فانقطع ولا حاجة لنا بك، وإن كنت تجري بحول الله وقوَّته فاجر كما كنت، والسَّلام.

فألقى البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بشهر فقد تهيَّأ أهل مصر للجلاء والخروج فإنّه لا تقوم مصلحتهم فيها إلّا بالنيل فلمّا ألقى البطاقة أصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله تعالى ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة فقطع الله تلك السنَّة عن أهل مصر إلى اليوم.

٢ - قال الرازي في تفسيره: وقعت الزلزلة في المدينة فضرب عمر الدِرَّة على الأرض وقال: اسكني بإذن الله. فسكنت وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك.

٣ - في تفسير الرازي: وقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خرقة: يا نار اسكني بإذن الله. فألقوها في النار فانطفأت في الحال.

٤ - محاضرة الأوائل للسكتواري: أوَّل زلزلة كانت في الاسلام سنة عشرين

٨٢

من الهجرة في خلافة عمر رضي الله عنه فضرب أمير المؤمنين رضي الله عنه برمحه قائلاً يا أرض اسكني، ألم أعدل عليك؟ فسكنت. فكان من جملة كرامته، فظهرت له كرامات أربعة في العناصر الأربعة: تصرَّف في عنصر التراب والماء في قصَّة رسالته إلى نيل مصر. وفي الهواء في قصَّة سارية الجبل. وفي النار في قصَّة احتراق قرية رجل حين كلّفه أن يغيّر اسمه فأبى وكان اسمه يتعلّق بالنار كالشهاب والقبس والثاقب كما ذكر في تبصرة الأدلّة ودلائل النبوَّة.

راجع فتوح الشام للواقدي ٢: ٤٤، تفسير الرازي ٥: ٤٧٨، سيرة عمر لابن الجوزي ص ١٥٠، الرياض النضرة ٢: ١٢، تاريخ ابن كثير ٧: ١٠٠: تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٨٦، محاضرة الأوائل للسكتواري ص ١٦٨، خزانة الأسرار ص ١٣٢ تاريخ القرماني هامش الكامل ١: ٢٠٣، الروض الفائق ص ٢٤٦، الفتوحات الإسلاميَّة ٢: ٤٣٧، نور الأبصار ص ٦٢، جوهرة الكلام للقراغولي الحنفي ص ٤٤.

قال الأميني: أمَّا رواية النيل فراويها الوحيد هو عبد الله بن صالح المصري أحد الكذّابين الوضّاعين كما مرَّ في الجزء الخامس ص ٢٣٩ ط ٢ قال أحمد بن حنبل: كان أوَّل أمره متماسكاً ثمَّ فسد بآخره، وقال أحمد بن صالح: متَّهمٌ ليس بشيء، وقال صالح جزرة: كان ابن معين يوثقه وهو عندي يكذب في الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن المديني: لا أروي عنه شيئاً، وقال ابن حبان: كان في نفسه صدوقاً إنَّما وقعت المناكير في حديثه من قبل جارٍ له فسمعت ابن خزيمة يقول: كان له جار بينه وبينه عداوة كان يضع الحديث على شيخ أبي صالح ويكتبه بخط يشبه خط عبد الله و ويرميه في داره بين كتبه فيتوهَّم عبد الله أنَّه خطَّه فيحدّث به، وقال ابن عدي: يقع في أسانيده ومتونه غلطٌ ولا يتعمَّد.

قامت القيامة على عبد الله بهذا الخبر الذي قال عن جابر مرفوعاً: إنَّ الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيِّين والمرسلين، واختار من أصحابي أربعة: أبا بكر وعمر و عثمان وعليّاً فجعلهم خير أصحابي وأصحابي كلّهم خير. ثمَّ ذكر أقوال الحفّاظ في بطلان هذا الحديث وإنَّه موضوع. راجع ميزان الاعتدال ٢: ٤٦.

فالرواية مكذوبةٌ اختلقتها يد الغلوِّ في الفضائل، وإن كنّا لا نناقش في إمكان

٨٣

خضوع النيل لتلكم الكتابة، فيكون معجزة للاسلام لمسيس حاجة القوم إلى مثلها لحداثة عهدهم بالاسلام.

وأمّا ما جاء به الرازي من حديث الزلزلة فلم يوجد في حوادث عهد عمر لا مسنداً ولا مرسلاً، ولم يذكره قطُّ مؤرِّخ ضليع، ولم يخرجه الحفّاظ حتّى ينظر في إسناده. وقوله: وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك، فكر أمةٌ مكذوبةٌ يكذِّبها التاريخ، وقد وقعت الزلزلة بعد ذلك غير مرَّة فقد وقعت زلزلة عظيمة بالحجاز سنة ٥١٥ فتضعضع بسببها الركن اليماني وتهدَّم بعضه وتهدّم بها شيءٌ من مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله كما ذكره ابن كثير في تاريخه ١٢: ١٨٨.

وحدثت بالمدينة زلزلةٌ عظيمةٌ ليلاً واستمرَّت أيّاماً وكانت تزلزل كلِّ يوم وليلة قدر عشر نوبات وذلك سنة ٦٥٤ وقصّتها طويلةٌ توجد في تاريخ ابن كثير ١٣: ١٨٨، ١٩٠، ١٩١، ١٩٢.

واعطف على ما قاله الرازي قول السكتواري من إنَّها أوَّل زلزلة كانت في الاسلام سنة عشرين من الهجرة. فقد وقعت سنة ستّ من الهجرة الشريفة كما في تاريخ الخميس ١: ٥٦٥ فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله: إنَّ الله عزَّوجلَّ يستعتبكم فاعتبوه.

وأمّا حديث قول عمر: يا سارية الجبل الجبل. فقال السيِّد محمّد بن درويش الحوت في أسنى المطالب ص ٢٦٥: هو من كلام عمر قاله على المنبر حين كشف له عن سارية وهو بنهاوند من أرض فارس، روى قصَّته الواحدي والبيهقي بسند ضعيف وهم في المناقب يتوسَّعون.

كنّا نرى السيِّد ابن الحوت غير منصف في حكمه على الحديث بالضعف وإنَّه كان حقّاً عليه الحكم بالوضع إلى أن أوقفنا السير على تصحيح ابن بدران (المتوفى ١٣٤٦) إيّاه فيما علّق عليه في تاريخ ابن عساكر ٦ ص ٤٦ بعد ذكر الحديث من طريق سيف بن عمر، فوجدنا ابن الحوت عندئذ إنَّه جاء بإحدى بنات طبق في حكمه ذلك، ما أجرأ ابن بدران على هذا التمويه والدجل؟ أليست بين يديه أقوال أعلام قومه حول سيف بن عمر؟ أم ليسوا أولئك الحفّاظ رجال الجرح والتعديل في كلّ إسناد؟ قال ابن حبان: كان سيف بن عمر يروي الموضوعات عن الاثبات. وقال: قالوا: إنَّه كان يضع الحديث واتّهم

٨٤

بالزندقة. وقال الحاكم: اتّهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط، وقال ابن عدي: بعض أحاديثه مشهورة وعامّتها منكرة لم يتابع عليها. وقال ابن عدي: عامّة حديثه منكر. قال البرقاني عن الدارقطني: متروك. وقال ابن معين: ضعيف الحديث فليس خير منه. وقال أبو حاتم: متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي. وقال أبو داود: ليس بشيء وقال النسائي: ضعيفٌ. وقال السيوطي: وضّاعٌ: وذكر حديثاً من طريق السري بن يحيى عن شعيب بن إبراهيم عن سيف فقال: موضوعٌ، فيه ضعفاء أشدّهم سيف.

راجع ميزان الاعتدال ١: ٤٣٨، تهذيب التهذيب ٤: ٢٩٥، اللئالي المصنوعة ١: ١٥٧، ١٩٩، ٤٢٩.

وأمّا إحتراق القرية بإباء الرجل عن تغيير اسمه فخرافةٌ يأباها الشرع والعقل والمنطق، إنَّ ما تقدَّم في الجزء السادس ص ٣٠٨ - ٣١٥ ط ٢ من آراء الخليفة الخاصَّة به - في الأسماء والكنى - ومن جرّائها غيّر كنى رجال كنّاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وأسماء آخرين سمَّاهم بها هو صلى الله عليه وآله بحجَّة داحضة من أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله مات وغفر له ونحن لا ندري ما يفعل بنا - يستدعي ألّا يُمتثل في أمثال ذلك لا أن يُعذِّب الله قرية آمنةً مطمأنَّة لعدم إمتثال صاحبها بما يقوله الخليفة دون أمر مباحٍ، وهو من الظلم الفاحش لما احترق فيها من أبرياء وتلفت من أموال، ولو وقفت بمطلع الأكمة من تلك القرية المضطرمة لبكيت على الرضَّع والبهائم بكاء الثكلى، نحاشي ربّنا الحكيم العدل عن مثل ذلك، ونحاشي أعلام الأُمَّة عن قبول هذه المخاريق المخزية. قاتل الله الحبَّ، ماذا يفعل ويفتعل ويختلق؟.

- ٥ -

تسمية عمر بأمير المؤمنين

قال الواقدي: حدَّثنا أبو حمزة(١) يعقوب بن مجاهد عن محمّد بن إبراهيم عن أبي عمر وقال: قلت لعائشة: من سمّى عمر الفاروق أمير المؤمنين؟ قالت: النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمير المؤمنين هو. ذكره ابن كثير في تاريخه ٧: ١٣٧.

قال الأميني: كان أبو حزرة قاصّاً يقصُّ فراقه أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله

____________________

١ - كذا في تاريخ ابن كثير والصحيح: حزرة. بفتح المهملتين بينهما معجمة ساكنة.

٨٥

وعلى حليلته أمّ المؤمنين لإرضاء مستمعيه بافتعال منقبة لعمر ذاهلاً عن أنَّ التاريخ يكذِّبه ويكشف عن سوءته ولو بعد حين.

أخرج الحاكم من طريق ابن شهاب قال: إنَّ عمر بن عبد العزيز سأل أبا بكر ابن سليمان بن أبي خيثمة لأيِّ شيء كان يُكتب من خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله في عهد أبي بكر رضي الله عنه؟ ثمَّ كان عمر يكتب أوَّلاً من خليفة أبي بكر، فمن أوَّل مَن كتب من أمير المؤمنين؟ فقال: حدَّثني الشفاء وكانت من المهاجرات الأُول: إنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عامل العراق بأن يبعث إليه رجلين جلدين يسألهما عن العراق وأهله فبعث عامل العراق بلبيد بن ربيعة وعدي ابن حاتم فلمّا قدما المدينة أناخا راحلتيهما بفناء المسجد ثمَّ دخلا المسجد فإذا هما بعمر وبن العاص فقالا: استأذن لنا يا عمرو! على أمير المؤمنين، فقال عمرو: أنتما والله أصبتما اسمه، هو الأمير ونحن المؤمنون، فوثب عمرو فدخل على أمير المؤمنين. فقال: السَّلام عليك يا أمير المؤمنين!. فقال عمر: ما بدا لك في هذا الاسم يا بن العاص، ربّي يعلم لتخرجنَّ ممّا قلت. قال: إنَّ لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم قدما فأناخا راحلتيهما بفناء المسجد ثمَّ دخلا عليَّ فقالا لي: استأذن لنا يا عمرو! على أمير المؤمنين فهما والله أصابا اسمك، نحن المؤمنون وأنت أميرنا، قال: فمضى به الكتاب من يومئذ.

أخرجه الحاكم في المستدرك وصحَّحه. وقال الذهبي في تلخيص المستدرك: صحيح. وقال السيوطي في شرح شواهد المغني ص ٥٧: روينا بسند صحيح إنَّ لبيد بن ربيعة وعديّ بن حاتم هما اللذان سمَّيا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين حين قدما عليه من العراق. وذكر القصَّة في تاريخ الخلفاء ص ٩٤.

وأخرج الطبري في تاريخه ٥: ٢٢ بالإسناد عن حسان الكوفي قال: لما ولى عمر قيل: يا خليفة خليفة رسول الله، فقال عمر رضي الله عنه: هذا أمرٌ يطول كلّ ما جاء خليفة قالوا: يا خليفة خليفة خليفة رسول الله، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم فسمِّي أمير المؤمنين.

وقال ابن خلدون في مقدِّمة تاريخه ص ٢٢٧: اتَّفق أن دعا بعض الصحابة عمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! فاستحسنه الناس واستصوبوه ودعوه به، يقال: إنَّ أوّل

٨٦

من دعا بذلك عبد الله بن جحش، وقيل: عمرو بن العاصي، والمغيرة بن شعبة وقيل: بريدٌ جاء بالفتح من بعض البعوث ودخل المدينة وهو يسأل عن عمر ويقول: أين أمير المؤمنين؟ وسمعها أصحابه فاستحسنوه وقالوا: أصبت والله اسمه إنَّه والله أمير المؤمنين حقّاً، فدعوه بذلك وذهب لقباً له في الناس، وتوارثه الخلفاء من بعده سمة لا يشاركهم فيها أحدٌ سواهم إلّا سائر دولة بني أُميَّة. ا هـ.

فصريح هذه النقول أنَّ عمر نفسه ما كانت له سابقة علم بهذا اللقب لا عن رسول الله صلى الله عليه وآله ولا عن غيره، ولذلك استغربه وقال: ربِّي يعلم لتخرجنَّ ممّا قلت. ولا كان عمر بن العاصي يعلم ذلك ولذلك نسب الإصابة بالتسمية إلى الرجلين ونحت لها من عنده ما يبرّرها. ولا كانت عند الرجلين - اللذين صحَّ كما مرَّ أنّهما هما اللذان سمَّياه - أثارة من علم بما جاء به ابن كثير وإنَّما هو شيءٌ جرى على لسانهما، ثمَّ اعطف نظرةً ثانية على كلمة ابن خلدون المقرَّرة للخلاف في أوَّل من سمّاه بأمير المؤمنين ولم يذكر فيه قولاً بأنَّ الرسول صلى الله عليه وآله هو الذي سمّاه، وصريح رواية الطبري إنَّ عمر هو الذي رأى هذه التسمية.

نعم: إنَّ الذي سمّاه رسول الله صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين هو مولانا عليّ عليه السلام، أخرج أبو نعيم في حلية الأولياء ١: ٦٣ بإسناده عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس! اسكب لي وضوءاً. ثمَّ قام فصلّى ركعتين. ثمَّ قال: يا أنس! أوَّل من يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين، وسيِّد المسلمين، وقائد الغرِّ المحجَّلين، وخاتم الوصيِّين، قال أنس: قلت: اللهمّ اجعله رجلاً من الأنصار وكتمته إذ جاء عليّ فقال: من هذا يا أنس؟ فقلت: عليٌّ، فقام مستبشراً فاعتنقه ثمَّ جعل يمسح عرق وجهه بوجهه، ويمسح عرق عليّ بوجهه. قال عليٌّ: يا رسول الله! لقد رأيتك صنعت شيئاً ما صنعت بي من قبل؟ قال: وما يمنعني وأنت تؤدِّي عنِّي، وتسمعهم صوتي، وتبيّن لهم ما اختلفوا فيه بعدي.

وأخرج ابن مردويه من طريق ابن عبّاس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته فغدا عليه عليّ بن أبي طالب كرَّم الله وجهه بالغداة أن لا يسبقه إليه أحدٌ فدخل فإذا النبيُّ صلى الله عليه وسلم في صحن البيت فإذا رأسه في حجر دحية بن خليفة الكلبي فقال: السَّلام عليك، كيف أصبح رسول الله؟ قال: بخير يا أخا رسول الله! فقال عليٌّ: جزاك الله عنَّا خيراً أهل البيت

٨٧

فقال له دحية: إنِّي لأحبّك وإنَّ لك عندي مدحةً أزفها لك، أنت أمير المؤمنين، وقائد الغرِّ المحجّلين. الخ. وفيه: فأخذ رأس النبيِّ صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ما هذه الهمهمة؟ فقال عليٌّ بما جرى، فقال: يا عليٌّ لم يكن دحية ولكن كان جبرائيل سمّاك باسم سمّاك الله به.

وأخرج الحافظ أبو العلا الحسن بن أحمد العطار من طريق ابن عبّاس في حديث: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أمّ سلمة! اشهدي واسمعي هذا عليُّ بن أبي طالب أمير المؤمنين. الحديث مرَّ بتمامه في الجزء السادس ص ٨٠ ط ٢.

وأخرج الطبراني في معجمه من طريق عبد الله بن عليم الجهني مرفوعاً: إنَّ الله عزَّوجلَّ أوحى إليَّ في عليّ ثلاثة أشياء ليلة أُسرى بي إنَّه سيِّد المؤمنين، وإمام المتَّقين، وقائد الغرِّ المحجَّلين.

وتعضد هذه الأحاديث وتؤكِّدها عدَّة أحاديث منها ما أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء من طريق ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنزل الله آية فيها يا أيّها الذين آمنوا إلّا وعليٌّ رأسها وأميرها.

وفي لفظ الطبراني وابن أبي حاتم: إلّا وعليٌّ أميرها وشريفها، ولقد عاتب الله أصحاب محمّد في غير مكان وما ذكر عليّا إلّا بخير(١) .

ومنها ما أخرجه الخطيب والحاكم وصحَّحه من طريق جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبيَّة وهو آخذ بيد عليّ يقول: هذا أمير البررة، وقاتل الفجرة، منصورٌ من نصره، مخذولٌ من خذله(٢) .

وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن عبّاس كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١١٥، ونور الأبصار ص ٨٠، وأخرجه شيخ الاسلام الحموي من طريق عبد الرحمن بن سهمان في فرائد السمطين، وذكره ابن حجر في الصواعق نقلاً عن الحاكم وحرَّفه

____________________

١ - راجع حلية الأولياء ١: ٦٤، الرياض النضرة ٢: ٢٠٦، كفاية الكنجي ص ٥٤، تذكرة السبط ص ٨، درر السمطين لجمال الدين الزرندي، الصواعق لابن حجر ص ٧٦، كنز العمال ٦: ٢٩١، تاريخ الخلفاء ص ١١٥.

٢ - تاريخ الخطيب البغدادي ٢: ٣٧٧، ج: ٢١٩، مستدرك الحاكم ٣: ١٢٩.

٨٨

وجعل مكان أمير البررة: إمام البررة. حيّا الله الأمانة.

ومنها ما أخرجه ابن عدي في كامله من طريق عليّ: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: عليٌّ يعسوب(١) المؤمنين، والمال يعسوب المنافقين، وفي رواية: يعسوب الظلمة، وفي رواية يعسوب الكفار. ذكره الدميري في حياة الحيوان ٢: ٤١٢، وابن حجر في الصواعق ص ٧٥، وقال الدميري: ومن هنا قيل لأمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه: أمير النحل.

ومنها قول عليّ: أنا يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الكفار، وفي لفظ: المنافقين، وفي لفظ: الفجّار. نهج البلاغة ٢، ٢١١، تاج العروس ١: ٣٨١.

هذه هي الحقيقة الراهنة لكن القوم نحتوا تجاهها بقضاء من الغلوِّ في الفضائل ما عرفته من رواية القصّاص أبي حزرة.

- ٦ -

عمر لا يحبُّ الباطل

أخرج أبو نعيم في حلية الأولياء ٢: ٤٦ من طريق الأسود بن سريع قال: أتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقلت: قد حمدت ربِّي بمحامد ومدح وإيّاك. فقال: إنَّ ربَّك عزَّوجلَّ يحبُّ الحمد. فجعلت أنشده، فاستأذن رجلٌ طويلٌ أصلع فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسكت فدخل فتكلّم ساعة ثمَّ خرج فأنشدته ثمَّ جاء فسكّتني النبيُّ صلى الله عليه وسلم فتكلّم ثمَّ خرج، ففعل ذلك مرَّتين أو ثلاثاً فقلت: يا رسول الله! من هذا الذي أسكتّني له؟ فقال: هذا عمر، رجلٌ لا يحبُّ الباطل.

ومن طريق آخر عن الأسود التميمي قال: قدمت على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فجعلت أنشده فدخل رجلٌ أقنى(٢) فقال لي: أمسك. فلمّا خرج قال: هات. فجعلت أنشده فلم ألبث أن عاد فقال لي: أمسك. فلمّا خرج قال: هات. فقلت: من هذا يا نبيَّ الله الذي إذا دخل قلت: أمسك، وإذا خرج قلت: هات؟ قال: هذا عمر بن الخطاب وليس من الباطل في شيء.

ومن طريق آخر عن الأسود قال: كنت أنشده صلى الله عليه وسلم ولا أعرف أصحابه حتّى

____________________

١ - يعسوب: الأمير. الرئيس.

٢ - قنى الانف وأقنى: ارتفع وسط قصبته وضاق منخراه.

٨٩

جاء رجلٌ بعيد ما بين المناكب أصلع؟ فقيل: اسكت اسكت. قلت: واثكلاه مَن هذا الذي أسكت له عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فقيل: عمر بن الخطاب، فعرفت والله بعدُ إنَّه كان يهون عليه لو سمعني أن لا يكلّمني حتّى يأخذ برجلي فيسحبني إلى البقيع.

قال الأميني: هل علمت رواة السوء بالذي تلوكه بين أشداقها؟ أم درت فتعمَّدت؟ أم أنَّ حبَّ عمر والمغالاة في فضائله أعمياهم عن تبعات هذا القول الشائن؟ إنَّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور.

يقول القائل: إنَّ ما أراد إنشاده محامدُ ومِدَح لله ولرسوله فيجيزه رسول الله صلى الله عليه وآله ويقول: إنَّ ربَّك عزَّوجلَّ يحبّ الحمد. فأيّ باطل في هذا حتّى يبغضه عمر؟ ولو كان باطلاً؟ لمنعه رسول الله صلى الله عليه وآله قبل عمر، وأيّ نبيّ هذا يتّقي رجلاً من أمَّته ولا يتّقي الله؟ وكيف خشي الرجل أن يسحبه عمر برجله إلى البقيع ولم يخش رسول الله صلى الله عليه وآله أن يفعل به ذلك أو يأمر فيُفعل به؟ أو أنَّ عمر ما كان يميّز بين الحقِّ والباطل فيحسب أنَّ كل ما ينشد من الباطل، فيجاريه النبيُّ صلى الله عليه وآله على مزعمة؟ فهل عَلِم الراوي أو المؤلِّف بهذه المفاسد، أوْ لا؟.

فإن كان لا يدري فتلك مصيبةٌ

وإن كان يدري فالمصيبة أعظمُ

- ٧ -

الملائكة تُكلّم عمر بن الخطاب

أخرج البخاري في كتاب المناقب باب مناقب عمر عن أبي هريرة قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجالٌ يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن من أمَّتي منهم أحدٌ فعمر.

وأخرج في الصحيح بعد حديث غار عن أبي هريرة قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأُمم محدَّثون إن كان في أمَّتي هذه منهم فإنّه عمر بن الخطاب أسلفنا ألفاظ هذه الرواية في الجزء الخامس ٤٢ - ٤٦ ط ٢، ومرَّ هناك عن القسطلاني قوله: ليس قوله «فإن يكن» للترديد للتأكيد بل كقولك: إن يكن لي صديق ففلان إذ المراد إختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء. الخ.

قال الأميني: أنا لست أدري ما الغاية في حديث الملائكة مع عمر؟ أهي محض

٩٠

إيناسه باختلاف الملك إليه وتكليمه إيّاه؟ أم هي إقالة عثراته، وتسديد خطاه، وردّ أخطاءه، وتعليمه ما لم يعلم؟ حتّى لا يكون خليفة المسلمين خِلواً عن جواب مسألة، صِفراً عن حلِّ معضلة، ولا يفتي بخلاف الشريعة المطهَّرة، ولا يرمي القول على عواهنه، إن كانت للمحادثة المزعومة غاية معقولة فهي هذه لا غيرها، إذن فراجع الجزء السادس وتتَّبع الخُطى، وتَرَوَّ في الأخطاء، واسمع ما لا يعني، وانظر إلى التافهات، وعندنا أضعاف ما هنالك لعلَّ بعض الأجزاء الآتية يتكفَّل بعضها إن شاء الله تعالى، فهل هذا الملك طيلة صدور ما في نوادر الأثر في الجزء السادس منه كان في سِنةٍ عن أداء وظيفته؟ أو كان ما يصدر خافياً عليه؟ أو أنَّ الاستبداد في الرأي كان يحول بينهما؟ أو أنَّ الملك في حلّه وترحاله قد يتأخَّر عن الأوبة إليه؟ فيقع ما يقع في غيبته، أو أنَّ القصَّة مفتعلةٌ لا مقيل لها في مستوى الصحَّة؟ وهذه أقوى الوجوه ولعلّه غير خافٍ على البخاري نفسه لكنَّه...

- ٨ -

قرطاسٌ في كفن عمر

إنَّ الحسن والحسين دخلا على عمر بن الخطاب وهو مشغولٌ ثمَّ انتبه لهما فقام فقبَّلهما و وهب لكلِّ واحد منهما ألفاً فرجعا فأخبرا أباهما فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: عمر نور الاسلام في الدنيا وسراج أهل الجنَّة في الجنَّة. فرجعا إلى عمر فحدّثاه فاستدعي دواةً وقرطاساً وكتب: حدَّثني سيِّدا شباب أهل الجنَّة عن أبيهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّه قال كذا وكذا، فأوصى أن يُجعل في كفنه ففعل ذلك فأصبحوا وإذا القرطاس على القبر وفيه: صدق الحسن والحسين وصدق رسول الله.

قال الأميني: بلغ هذه القصَّة الخياليَّة من الخرافة حدّاً ذكرها ابن الجوزي في الموضوعات كما في تحذير الخواصّ للسيوطي صفحة ٥٣ فقال: والعجب من هذا الذي بلغت به الوقاحة إلى أن يصنّف مثل هذا وما كفاه حتّى عرضه على أكابر الفقهاء فكتبوا عليه تصويب هذا التصنيف.

قاتل الله الغلوّ في الفضائل فإنَّه شوَّه سمعة أكابر الفقهاء، كما سوَّد صحيفة التاريخ، وقبَّح وجه التأليف.

٩١

- ٩ -

لسان عمر وقلبه

أخرج إمام الحنابلة أحمد في المسند ٢: ٤٠١ عن نوح بن ميمون عن عبد الله بن عمر العمري عن جهم بن أبي الجهم عن مسور بن المخرمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله جعل الحقَّ على لسان عمر وقلبه.

قال الأميني: أمّا قلب الرجل فلا صلة لنا به لأنَّ ما فيه من السرائر لا يعلمه إلّا الله، نعم ربّما ينمُّ عنه ما جرى على لسانه، وإن شئت فسائل الإمام أحمد أكان الحقّ على لسان عمر لما جابه رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله الفظِّ حين أراد الكتف والدواة ليكتب للمسلمين كتاباً لا يضلّون بعده؟ فحال بينه وبين ما أراده من هداية الأُمَّة، و مهما كانت الكلمة القارصة فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله منزَّهٌ عنها في كلِّ حين فلا يغلبه الوجع، ولا يهجر من شدَّة ما به، ولا سيَّما وهو في صدد تبليغ ما به من الهداية والصون عن الضلال، وما ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحيٌ يوحى. وانتظر لهذه الجملة بحثاً ضافياً إنشاء الله تعالى.

أم كان الحقّ على لسانه في المائة مورداً التي أخطأ فيها جمعاء؟ وقد فصَّلناها تفصيلاً في نوادر الأثر من الجزء السادس، وقد اتَّخذناها مقياساً لمعرفة حال هذه الرواية وأمثالها ممّا نسجته يد الغلوِّ في الفضائل.

أضف إلى هذا ما في سنده من الضعف فإنَّ فيه:

نوح بن ميمون. قال ابن حبان: ربَّما أخطأ(١) وفيه:

عبد الله بن عمر العمري. قال أبو زرعة عن أحمد إمام الحنابلة: إنَّه كان يزيد في الأسانيد ويخالف. وقال عليُّ بن المديني: ضعيفٌ. وقال يحيى بن سعيد: لا يحدَّث عنه. وقال يعقوب بن شيبة: في حديثه إضطرابٌ. وقال صالح جزرة: ليّنٌ مختلط الحديث وقال النسائي: ضعيف الحديث. وقال ابن سعد: كثير الحديث يستضعف. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يُحتجُّ به. وقال ابن حبّان: كان ممّن غلب عليه الصلاح حتّى غفل عن الضبط فاستحقَّ الترك. وقال البخاري في التاريخ: كان يحيى بن سعيد

____________________

١ - تهذيب التهذيب ١٠: ٤٨٩.

٩٢

يُضعِّفه. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقويِّ عندهم. وقال المروزي: ذكره أحمد فلم يرضه(١) وفيه جهم بن أبي الجهم. قال الذهبي في ميزان الاعتدال: لا يعرف.

- ١٠ -

رؤيا رسول الله صلى الله عليه وآله في علم عمر

أخرج البخاري في صحيحه ٥: ٢٥٥ في مناقب عمر عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: بينا أنا نائم شربت يعني اللبن حتّى أنظر إلى الريِّ يجري في ظفري أو في أظفاري ثمَّ ناولت عمر. فقالوا: فما أوَّلته؟ قال العلم.

وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأُصول ص ١١٩، والبغوي في المصابيح ٢: ٢٧٠، وابن عبد البرِّ في الاستيعاب ٢: ٤٢٩، والمحب الطبري في الرياض ٢: ٨. وفي لفظهم: بينا أنا نائمٌ أتيت بقدح لبن فشربت حتّى رأيت الريَّ يخرج من أظفاري ثمَّ أعطيت فضلي عمر. الحديث.

قال الحافظ ابن أبي الجمرة الأزدي الأندلسي في بهجة النفوس ٤: ٢٤٤ عند شرحه الحديث: فانظر بنظرك إلى الذي شرب فضله عليه السلام كيف كان قوَّة علمه؟ الذي لم يقدر أحدٌ من الخلفاء يماثله، فكيف؟ بغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وكيف؟ ممّن بعد الصحابة. إلى آخر ما جاء به من التافهات.

قال الأميني: إنَّ طبع الحال يستدعي أن تكون هذه الرؤيا بعد إسلام عمر وبعد مضيِّ سنين من البعثة، وهل كان صلى الله عليه وآله طيلة هذه المدَّة خلواً من العلم؟ وهو في دور الرسالة، أو كان في علمه إعواز أكمله هذا اللبن الساري ريّه في ظفره أو أظفاره؟ أو كان فيها إعلام بمبلغ علم عمر فحسب، وكناية عن إنَّه من مستقي الوحي؟ فهل تخفى على من هو هذا شأنه جليَّة المسائل فضلاً عن معضلاتها؟ وهل يسعه أن يعتذر في الجهل بكتاب الله بقوله: ألهاني عنه الصفق بالأسواق؟.

وهلّا تأثَّرت نفس الرجل بالعلم لما شرب من منهل علم النبيِّ العظيم؟ فما معنى قوله: كلُّ الناس أفقه من عمر حتّى ربّات الحجال؟ وأمثاله(٢) وما الوجه في أخطاءه

____________________

١ - تهذيب التهذيب ٥: ٧ ٣٢.

٢ - راجع ما مرَّ في الجزء السادس ص ٣٣٨ ط ٢.

٩٣

التي لا تحصى في الفتيا وغيرها؟ ممّا سبق ويأتي إن شاء الله تعالى.

ولقد تلطّف المولى سبحانه على الأُمّة المرحومة إنَّه ولي أمرها بعد شرب تلك الكاس. وأنا لا أدري لو كان وليه قبل ذلك ماذا كان يصدر من ولائد الجهل؟ وأيّ حدّ كانت تبلغ نوادر الأثر في علمه؟

وليت مصطنع هذه المهزأة اصطنعها على وجه ينطبق حكمها على رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى الخليفة، لكنَّه لا ينطبق على أيّ منهما كما بيَّناه، غير أنَّ وظيفة الماين أن يأتي بأساطيره على كلِّ حال، وإنَّما العتب على البخاري الذي يعتبرها ويدرجها في الصحيح غلوّاً منه في الفضائل، وأشدّ منه وأعظم على أمثال ابن أبي جمرة الأزدي من الذين يموِّهون الحقايق بزخرف القول على أغرار الأُمَّة، ويحسبونه هيِّناً وهو عند الله عظيم.

- ١١ -

عمر وفَرَق الشيطان منه

أخرج البخاري في صحيحه في كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده ج ٥: ٨٩، وفي كتاب المناقب باب مناقب عمر ٥: ٢٥٦ عن سعد بن أبي وقاص قال: استأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من قريش يُكلّمنه ويستكثرنه عالية أصواتهنَّ فلمّا استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنَّك يا رسول الله! قال: عجبت من هؤلاء اللاتي كنَّ عندي فلمّا سمعن صوتك إبتدرن الحجاب. قال عمر: فأنت يا رسول الله! كنت أحقّ أن يهبن، ثمَّ قال «عمر» أي عدوّات أنفسهنَّ أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلن: نعم، أنت أفظّ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما لقيك الشطان قطّ سالكاً فجّاً إلّا سلك فجّاً غير فجّك.

قال الأميني: ما أوقح هذا الراوي الذي ساق هذا الحديث في عداد الفضائل وهو بعدِّه عند سياق السفاسف أولى، حسب أوَّلاً أن النساء كنَّ لم يهبن رسول الله صلى الله عليه وآله وهبن عمر، فعلى هذا نُسائله: أكنَّ هذه النسوة نساؤه صلى الله عليه وآله؟ كما ذكره شرّاح الحديث(١) ستراً لعوار الرواية، أم كنَّ أجنبيّات عنه صلى الله عليه وآله؟ وعلى الأوَّل فلا وجه

____________________

١ - راجع إرشاد الساري ٥: ٢٩٠.

٩٤

لهيبتهنَّ إيّاه على الإسفار أو الإكثار أمامه، فإنَّ للحلائل مع زوجاتهنَّ شؤوناً خاصَّة فتسترهنَّ عن عمر فلكونه أجنبيّاً عنهنَّ لا هيبةً له.

وعلى الثاني وهو الذي يعطيه سياق الحديث كقوله: وعنده نساء من قريش. وقوله صلى الله عليه وآله: عجبت من هؤلاء اللّاتي كنَّ عندي. الخ. وقول عمر: فأنت يا رسول الله كنت. الخ. وقوله: يا عدوّات أنفسهنَّ. الخ. فكلُّ هذه لا يلتئم مع كونهنَّ نساؤه لتنكير النساء في الأوَّل، وظهور قوله: كنَّ عندي في أنَّ حضورهنَّ لديه من ولائد الإتفاق لا أنَّهنَّ نساؤه الكائنات معه أطراف الليل وآناء النهار، وقلنا أيضاً: إنَّه لا وجه للهيبة مع كونهنَّ أزواجه، ولا هنَّ على ذلك عدوّات أنفسهنَّ، فإنَّ إبداء الزينة والجمال للزوجة عبادةٌ لا معصيةٌ، فجلوسهنَّ وهنَّ أجنبيّات عند رسول الله صلى الله عليه وآله سافرات على هذا الوجه إمّا لأنّه صلى الله عليه وآله لم يحرّم السفور، وإمّا لأنَّه حرَّمه ونسيه، أو أنَّه صلى الله عليه وآله تسامح في النهي عنه، أو أنَّه هابهنَّ وإن لم يهبن، وكان مع ذلك يروقه أن ينتهين عمّا هنَّ عليه، ولذلك استبشر لما بادرن الحجاب وأثنى على عمر، ولازم هذا أن يكون عمر أفقه من رسول الله صلى الله عليه وآله، أو أثبت منه على المبدأ، أو أخشن منه في ذات الله، أو أقوى منه نفساً. أعوذ بالله من التقوُّل بلا تعقُّل.

وأمَّا ما عُزي إليه صلى الله عليه وآله ثانياً من قوله: والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قطُّ سالكاً فجّاً غير فجِّك، فما بالشيطان يهاب الخليفة فيسلك فجّاً غير فجِّه ولا تروعه عظمة النبيِّ صلى الله عليه وآله ولا قوَّة إيمانه؟ فيسلك في فجِّه فلا يدعه أن ينهى عن المنكر، و يحدو بصواحب المنكر إلى أن يتظاهرون به أمامه. بل الشيطان لعنه الله يعرض له صلى الله عليه وآله ليقطع عليه صلاته وإن رجع عنه خائباً كما أخرجه البخاري في صحيحه ج ١ ص ١٤٣ في كتاب الصَّلاة باب ما لا يجوز من العمل في الصَّلاة. ومسلم في صحيحه ج ١ ص ٢٠٤ باب جواز لعن الشيطان في الصَّلاة، أخرجا بالإسناد عن أبي هريرة قال: صلى رسول الله صلاة فقال: إنَّ الشيطان عرض لي فشدَّ عليَّ بقطع الصلاة عليَّ فأمكنني الله منه فذعته(١) الحديث.

هب إنَّ اللعين في هذه المرَّة لم يصب من رسول الله صلى الله عليه وآله لكنَّه تجرَّأ على مقامه

____________________

١ - فذعته: فخنقته والذعت والدعت بالمهملة والمعجمة: الدفع العنيف.

٩٥

الأسمى وقد جاء في الصحيحين(١) عن أبي هريرة إنَّ الشيطان إذا سمع الأذان للصَّلاة من أيّ مسلم كان أدبر هارباً وولَّى فَرَقاً، وله ضراط هلع جزع.

كيف يجرأ اللعين على رسول الله حتّى في حال صلاته؟ ولم يتجرّأ قطُّ على عمر لأنَّه يسلك فجّاً غير فجِّه. وجاء فيما أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان عن بريدة إنَّ الشيطان ليفرق منك يا عمر!(٢) وفيما أخرجه الطبراني وابن مندة وأبو نعيم عن سديسة مولاة حفصة عن حفصة بنت عمر مرفوعاً: إنَّ الشيطان لم يلق عمر منذ أسلم إلّا خرَّ لوجهه(٣) .

إنِّي وإن لا يروقني خدش العواطف بذكر مواقف الرجل التي لم يكن العامل الوحيد فيها إلّا الشيطان، غير إنِّي لست أدري هل الشيطان كان يفرق ويفرُّ منه، ويخرُّ على وجهه، ويسلك فجّاً غير فجِّه أيضاً منذ أسلم إلى سنة الفتح الثامن من الهجرة النبويَّة؟ إلى نزول آية( فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) إلى يوم قول الرجل: انتهينا انتهينا؟ إلى يوم النادي في دار أبي طلحة الأنصاري؟ فعلى الباحث الوقوف على ما أسلفناه في الجزء السادس ص ٢٥١ - ٢٦١، وفي الجزء السابع ص ٩٥ - ١٠٢ ط ٢.

ثمَّ أين كانت تلك البسالة من رسول الله - الحاجزة بين الشيطان الرجيم وبين صلاته صلى الله عليه وآله لما عرض له وشدَّ عليه - يوم كانت عنده نساء قريش فتخنقه وتردع النسوة؟

فبهذه كلّها تعلم مقدار هده الرواية ومقيلها من الصدق، ومبلغ صحيح البخاري من الإعتبار، وتعرف ما يفعله الغلوُّ في الفضائل والحبُّ المعمي والمصمّ.

أضف إلى هذه المخاريق ما أسلفناه في الجزء الخامس في سلسلة الموضوعات ممّا وضعته يد الغلوِّ في فضائل عمر.

( كَذلِكَ نَقُصّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لّدُنّا ذِكْراً

مّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً )

«طه ٩٩، ١٠٠»

____________________

١ - صحيح البخاري ١: ٧٨ كتاب الأذان. صحيح مسلم ج ١: ١٥٣ باب فضل الأذان.

٢ - فيض القدير ٢: ٣٥٩.

٣ - الإصابة ٤: ٢٢٦، فيض القدير ٢: ٣٥٢

٩٦

الغلوّ في فضايل عثمان

ابن عفان بن أبي العاص بن أمية الخليفة الأموي

قبل الشروع في سرد الفضائل نوقفك على موادّ تعرِّفك مبلغ الخليفة من العلم، ومقداره من النفسيّات الفاضلة، وموقفه من التقوى، ومبوَّأه من الإيمان، حتّى يكون نظرك في فضائله عارف به وبها.

- ١ -

قضاءه في امرأة ولدت لستَّة أشهر

أخرج الحفّاظ عن بعجة بن عبد الله الجهني قال: تزوَّج رجلٌ منَّا امرأةً من جهينة فولدت له تماماً لستَّة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان فأمر بها أن ترجم فبلغ عليّاً رضي الله عنه فأتاه فقال: ما تصنع؟ ليس ذلك عليها قال الله تبارك وتعالى:( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ) (١) . وقال:( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) (٢) فالرضاعة أربعة وعشرون شهراً. والحمل ستَّة أشهر. فقال عثمان: والله ما فطنت لهذا. فأمر بها عثمان أن تردّ فوجدت قد رجمت، وكان من قولها لأُختها: يا أُخيَّة لا تحزني فوالله ما كشف فَرْجي أحدٌ قطُّ غيره، قال: فشبَّ الغلام بعدُ فاعترف الرجل به وكان أشبه الناس به، وقال: فرأيت الرجل بعدُ يتساقط عضواً عضواً على فراشه.

أخرجه مالك، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، وأبو عمر، وابن كثير، وابن الديبع، والعيني، والسيوطي كما مرَّ في الجزء السادس صفحة ٩٤ ط ٢.

قال الأميني: إن تعجب فعجبٌ إنَّ إمام المسلمين لا يفطن لما في كتاب الله العزيز ممّا تكثر حاجته إليه في شتّى الأحوال، ثمَّ يكون من جرّاء هذا الجهل أن تودي بريئة مؤمنة، وتتهم بالفاحشة، ويهتك ناموسها بين الملأ الديني وعلى رؤس الأشهاد.

____________________

١ - سورة الأحقاف آية ١٥.

٢ - سورة البقرة آية ٢٣٣.

٩٧

وهلَّا كان حين عزب عنه فقه المسألة قد استشار أحداً من الصحابة يعلم ما جهله فلا يبوء بإثم القتل والفضيحة؟ وهلّا تذكَّر لدة هذه القضيَّة وقد وقعت غير مرَّة على عهد عمر؟ حين أراد أن يرجم نساء ولدن ستة أشهر فحال دونها أمير المؤمنين وابن عبّاس كما مرَّت في الجزء السادس ص ٩٣ - ٩٥ ط ٢.

ثمَّ هب إنَّه ذهل عن الآيتين الكريمتين، ونسي ما سبق في العهد العمري، فماذا كان مُدرك حكمه برجم تلك المسكينة؟ أهو الكتاب؟ فأنّى هو؟ أو السنَّة؟ فمن ذا الذي رواها؟ أو الرأي والقياس؟ فأين مدرك الرأي؟ وما ترتيب القياس؟ وإن كانت فتوى مجرَّدة؟ فحيا الله المفتي، وزه بالفتيا، ومرحباً بالخلافة والخليفة، نعم: لا يُربِّي بيت أُميَّة أربى من هذا البشر، ولا يُجتنى من تلك الشجرة أشهى من هذا الثمر.

- ٢ -

إتمام عثمان الصَّلاة في السفر

أخرج الشيخان وغيرهما بالإسناد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وأبو بكر بعده وعمر بعد أبي بكر وعثمان صدراً من خلافته رضي الله عنهم، ثمَّ إنَّ عثمان صلّى بعدُ أربعاً، فكان ابن عمر إذا صلّى مع الإمام صلّى أربعاً، وإذا صلّى وحده صلّى ركعتين(١) .

وفي لفظ ابن حزم في المحلّى ٤: ٢٧٠: إنَّ ابن عمر كان إذا صلّى مع الإمام بمنى أربع ركعات انصرف إلى منزله فصلّى فيه ركعتين أعادها.

وأخرج مالك في الموطأ ١: ٢٨٢ عن عروة: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى الرباعيَّة بمنى ركعتين، وإنَّ أبا بكر صلّاها بمنى ركعتين، وإنَّ عمر بن الخطاب صلّاها بمنى ركعتين، وإنَّ عثمان صلّاها بمنى ركعتين شطر إمارته ثمَّ أتمَّها بعدُ.

وأخرج النسائي في سننه ٣: ١٢٠ عن أنس بن مالك أنَّه قال: صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ومع أبي بكر وعمر ومع عثمان ركعتين صدراً من إمارته.

وبإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد قال: صلّى عثمان بمنى أربعاً حتّى بلغ ذلك

____________________

١ - صحيح البخاري ٢: ١٥٤، صحيح مسلم ٢: ٢٦٠، مسند أحمد ٢: ١٤٨، سنن البيهقي ٣: ١٢٦.

٩٨

عبد الله فقال: لقد صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين. الحديث.

ورواه إمام الحنابلة أحمد في المسند ١: ٣٧٨. وأخرج حديث أنس المذكور في مسنده ١ ص ١٤٥ ولفظه: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّلاة بمنى ركعتين وصلّاها أبو بكر بمنى ركعتين، وصلّاها عمر بمنى ركعتين، وصلّاها عثمان بن عفان بمنى ركعتين أربع سنين ثمَّ أتمَّها بعدُ.

وأخرج الشيخان وغيرهما بالإسناد عن عبد الرحمن بن يزيد قال: صلّى عثمان ابن عفان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع ثمَّ قال: صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصلّيت مع أبي بكر رضي الله عنه بمنى ركعتين، وصلّيت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبّلتان(١) .

وأخرج أبو داود وغيره عن عبد الرَّحمن بن يزيد قال: صلّى عثمان رضي الله عنه بمنى أربعاً فقال عبد الله: صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، ومع عثمان صدراً من إمارته ثمَّ أتمَّها، ثمَّ تفرَّقت بكم الطرق فلوددت إنَّ لي من أربع ركعات ركعتين متقبَّلتين. قال الأعمش: فحدَّثني معاوية بن قرَّة عن أشياخه: إنَّ عبد الله صلّى أربعاً فقيل له: عبت على عثمان ثمَّ صلّيت أربعاً؟ قال الخلاف شرٌ(٢) .

وأخرج البيهقي في السنن الكبرى ٣: ١٤٤ عن عبد الرَّحمن ابن يزيد قال: كنّا مع عبد الله بن مسعود بجمع، فلمّا دخل مسجد منى فقال: كم صلّى أمير المؤمنين؟ قالوا: أربعاً. فصلّى أربعاً. قال: فقلنا: ألم تحدِّثنا إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلّى ركعتين، وأبا بكر صلّى ركعتين؟ فقال: بلى وأنا أُحدِّثكموه الآن، ولكن عثمان كان إماما فما أُخالفه والخلاف شرٌّ.

وأخرج البيهقي في السنن ٣: ١٤٤ عن حميد عن عثمان بن عفّان إنَّه أتمَّ الصَّلاة

____________________

١ - صحيح البخاري ٢: ١٥٤، صحيح المسلم ١: ٢٦١، مسند أحمد ١.

٢ - سنن أبي داود ١: ٣٠٨، الآثار للقاضي أبي يوسف ص ٣٠، كتاب الأم للشافعي ١: ١٥٩، ج ٧: ١٧٥.

٩٩

بمنى، ثمَّ خطب الناس فقال: يا أيّها الناس إنَّ السنَّة سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنَّة صاحبيه ولكنَّه حدث العام من الناس فخفت أن يستنُّوا. وأخرجه ابن عساكر كما في كنز العمال ٤: ٢٣٩.

وأخرج أبو داود وغيره عن الزهري: إنَّ عثمان بن عفان رضي الله عنه أتمَّ الصَّلاة بمنى من أجل الأعراب لأنَّهم كثروا عامئذ فصلّى بالناس أربعاً ليعلمهم إنَّ الصَّلاة أربعاً(١) .

وروى ابن حزم في المحلى ٤: ٢٧٠ من طريق سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمّد عن أبيه قال: اعتلَّ عثمان وهو بمنى فأتى عليٌّ فقيل له: صلّ بالناس فقال: إن شئتم صلّيت لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يعني ركعتين قالوا: لا، إلّا صلاة أمير المؤمنين - يعنون عثمان - أربعاً فأبى.

وذكره ابن التركماني في ذيل سنن البيهقي ٣: ١٤٤.

وأخرج إمام الحنابلة أحمد في مسنده ٢: ٤٤ عن عبد الله بن عمر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يصلّي صلاة السفر - يعني ركعتين - ومع أبي بكر وعمر وعثمان ستَّ سنين من إمرته ثمَّ صلّى أربعاً.

وأخرج البيهقي في السنن الكبرى ٣: ١٥٣ بالإسناد عن أبي نضرة: إنَّ رجلاً سأل عمران بن حصين عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فقال: أيت مجلسنا. فقال: إنَّ هذا قد سألني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فاحفظوها عنّي: ما سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً إلّا صلّى ركعتين حتّى يرجع ويقول: يا أهل مكة قوموا فصلّوا ركعتين فإنّا سفر، وغزا الطائف وحنين فصلّى ركعتين، وأتى الجعرانة فاعتمر منها، وحججت مع أبي بكر رضي الله عنه واعتمرت فكان يصلّي ركعتين، ومع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكان يصلّي ركعتين ومع عثمان فصلّى ركعتين صدراً من إمارته، ثمَّ صلّى عثمان بمنى أربعاً. وفي لفظ الترمذي في الصحيح ١: ٧١: ومع عثمان ستَّ سنين من خلافته أو ثمان سنين فصلّى ركعتين. فقال: حسنٌ صحيحٌ.

____________________

١ - سنن أبي داود ١: ٣٠٨، سنن البيهقي ٣: ١٤٤، تيسير الوصول ٢: ٢٨٦، نيل الأوطار ٢: ٢٦٠.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397