الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  0%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 91901
تحميل: 5124


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91901 / تحميل: 5124
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 14

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

بسم الله الرحمن الرحيم

( سورة مريم مكّيّة و هي ثمان و تسعون آية)

( سورة مريم الآيات ١ - ١٥)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ كهيعص ( ١ ) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ( ٢ ) إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ( ٣ ) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ( ٤ ) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا ( ٥ ) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ( ٦ ) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا ( ٧ ) قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ( ٨ ) قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ( ٩ ) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ( ١٠ ) فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ( ١١ ) يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ( ١٢ ) وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ( ١٣ ) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا ( ١٤ ) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ( ١٥ )

٢

( بيان)

غرض السورة على ما ينبئ عنه قوله تعالى في آخرها:( فَإِنَّما يَسَّـرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا ) إلخ، هو التبشير و الإنذار غير أنّه ساق الكلام في ذلك سوقاً بديعاً فأشار أوّلاً إلى قصّة زكريّا و يحيى و قصّة مريم و عيسى و قصّة إبراهيم و إسحاق و يعقوب و قصّة موسى و هارون و قصّة إسماعيل و قصّة إدريس و ما خصّهم به من نعمة الولاية كالنبوّة و الصدق و الإخلاص ثمّ ذكر أنّ هؤلاء الّذين أنعم عليهم كان المعروف من حالهم الخضوع و الخشوع لربّهم لكنّ أخلافهم أعرضوا عن ذلك و أهملوا أمر التوجّه إلى ربّهم و اتّبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا و يضلّ عنهم الرشد إلّا أن يتوب منهم تائب و يرجع إلى ربّه فإنّه يلحق بأهل النعمة.

ثمّ ذكر نبذة من هفوات أهل الغيّ و تحكّماتهم كنفي المعاد، و قولهم:( اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ) ، و عبادتهم الأصنام، و ما يلحقهم بذلك من النكال و العذاب.

فالبيان في السورة أشبه شي‏ء ببيان المدّعى بإيراد أمثلته كأنّه قيل: إنّ فلاناً و فلاناً و فلاناً الّذين كانوا أهل الرشد و الموهبة كانت طريقتهم الانقلاع عن شهوات النفس و التوجّه إلى ربّهم و سبيلهم الخضوع و الخشوع إذا ذكّروا بآيات ربّهم فهذا طريق الإنسان إلى الرشد و النعمة لكنّ أخلافهم تركوا هذا الطريق بالإعراض عن صالح العمل، و الإقبال على مذموم الشهوة و لا يؤدّيهم ذلك إلّا إلى الغيّ خلاف الرشد، و لا يقرّهم إلّا على باطل القول كنفي الرجوع إلى الله و إثبات الشركاء لله و سدّ طريق الدعوة و لا يهديهم إلّا إلى النكال و العذاب.

فالسورة كما ترى تفتح بذكر أمثلة ثمّ تعقّبها باستخراج المعنى الكلّيّ المطلوب بيانه و ذلك قوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) الآيات، فالسورة تقسّم الناس إلى ثلاث طوائف: الّذين أنعم الله عليهم من النبيّين و أهل الاجتباء و الهدى. و أهل الغيّ، و الّذين تابوا و آمنوا و عملوا صالحا و هم ملحقون بأهل النعمة و الرشد

٣

ثمّ تذكر ثواب التائبين المسترشدين و عذاب الغاوين و هم قرناء الشياطين و أولياؤهم.

و السورة مكّيّة بلا ريب تدلّ على ذلك مضامين آياتها و قد نقل على ذلك اتّفاق المفسّرين.

قوله تعالى: ( كهيعص ) قد تقدّم في تفسير أوّل سورة الأعراف أنّ السور القرآنيّة المصدّرة بالحروف المقطّعة لا تخلو من ارتباط بين مضامينها و بين تلك الحروف فالحروف المشتركة تكشف عن مضامين مشتركة.

و يؤيّد ذلك ما نجده من المناسبة و المجانسة بين هذه السورة و سورة ص في سرد قصص الأنبياء، و سيوافيك بحث جامع إن شاء الله في روابط مقطّعات الحروف و مضامين السور الّتي صدّرت بها، و كذا ما بين السور المشتركة في بعض هذه الحروف كهذه السورة و سورة يس و قد اشتركتا في الياء، و هذه السورة و سورة الشورى و قد اشتركتا في العين.

قوله تعالى: ( ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ) ظاهر السياق أنّ الذكر خبر لمبتدء محذوف و المصدر بمعنى المفعول، و المال بحسب التقدير: هذا خبر رحمة ربّك المذكور، و المراد بالرحمة استجابته سبحانه دعاء زكريّا على التفصيل الّذي قصّة بدليل قوله تلواً:( إِذْ نادى‏ رَبَّهُ ) .

قوله تعالى: ( إِذْ نادى‏ رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا ) الظرف متعلّق بقوله:( رَحْمَتِ رَبِّكَ ) و النداء و المناداة الجهر بالدعوة خلاف المناجاة، و لا ينافيه توصيفه بالخفاء لإمكان الجهر بالدعوة في خلاء من الناس لا يسمعون معه الدعوة، و يشعر بذلك قوله الآتي:( فَخَرَجَ عَلى‏ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ ) .

و قيل: إنّ العناية في التعبير بالنداء أنّه تصوّر نفسه بعيدا منه تعالى بذنوبه و أحواله السيّئة كما يكون حال من يخاف عذابه.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) إلى آخر الآية، تمهيد لما سيسأله و هو قوله:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ) .

و قد قدّم قوله:( رَبِّ ) للاسترحام في مفتتح الدعاء، و التأكيد بإنّ للدلالة

٤

على تحقّقه بالحاجة، و الوهن هو الضعف و نقصان القوّة و قد نسبه إلى العظم لأنّه الدعامة الّتي يعتمد عليها البدن في حركته و سكونه، و لم يقل: العظام منّي و لا عظمي للدلالة على الجنس و ليأتي بالتفصيل بعد الإجمال.

و قوله:( وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) الاشتعال انتشار شواظ النار و لهيبها في الشي‏ء المحترق قال في المجمع،: و قوله:( وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) من أحسن الاستعارات و المعنى اشتعل الشيب في الرأس و انتشر، كما ينتشر شعاع النار، و كأنّ المراد بالشعاع الشواظ و اللهيب.

و قوله:( وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) الشقاوة خلاف السعادة، و كأنّ المراد بها الحرمان من الخير و هو لازم الشقاوة أو هو هي، و قوله:( بِدُعائِكَ ) متعلّق بالشقيّ و الباء فيه للسببيّة أو بمعنى في و المعنى و كنت سعيداً بسبب دعائي إيّاك كلّما دعوتك استجبت لي من غير أن تشقيني و تحرمني، أو لم أكن محروماً خائباً في دعائي إيّاك عوّدتني الإجابة إذا دعوتك و التقبّل إذا سألتك، و الدعاء على أيّ حال مصدر مضاف إلى المفعول.

و قيل: إنّ( بِدُعائِكَ ) مصدر مضاف إلى الفاعل، و المعنى لم أكن بدعوتك إيّاي إلى العبودية و الطاعة شقيّاً متمرّداً غير مطيع بل عابداً لك مخلصاً في طاعتك و المعنى الأوّل أظهر.

و في تكرار قوله:( رَبِّ ) و وضعه متخلّلاً بين اسم كان و خبره في قوله:( وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) من البلاغة ما لا يقدّر بقدر، و نظيره قوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) .

قوله تعالى: ( وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً ) تتمّة التمهيد الذي قدّمه لدعائه، و المراد بالموالي العمومة و بنو العمّ، و قيل: الكلالة و قيل: العصبة، و قيل: بنو العمّ فحسب، و قيل: الورثة، و كيف كان فهم غير الأولاد من صلب و المراد خفت فعل الموالي من ورائي أي بعد موتي و كان (عليه السلام) يخاف أن يموت بلا عقب من نسله فيرثوه، و هو كناية عن خوفه أن يموت بلا عقب.

٥

و قوله:( وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً ) العاقر المرأة التي لا تلد يقال: امرأة عاقر لا تلد و رجل عاقر لا يولد له ولد. و في التعبير بقوله:( وَ كانَتِ امْرَأَتِي ) دلالة على أنّ امرأته على كونها عاقراً جازت حين الدعاء سنّ الولادة.

و ظاهر عدم تكرار إنّ في قوله:( وَ كانَتِ امْرَأَتِي ) إلخ أنّ الجملة حاليّة و مجموع الكلام أعني قوله:( وَ إِنِّي خِفْتُ - إلى قوله -عاقِراً ) فصل واحد اُريد به أنّ كون امرأتي عاقراً اقتضى أن أخاف الموالي من ورائي و بعد وفاتي، فمجموع ما مهّده للدعاء يؤل إلى فصلين أحدهما أنّ الله سبحانه عوّده الاستجابة مدى عمره حتّى شاخ و هرم و الآخر أنّه خاف الموالي بعد موته من جهة عقر امرأته، و يمكن تصوير الكلام فصولاً ثلاثة بأخذ كلّ من شيخوخته و عقر امرأته فصلاً مستقلّاً.

قوله تعالى: ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) هذا هو الدعاء، و قد قيّد الموهبة الإلهيّة الّتي سألها بقوله:( مِنْ لَدُنْكَ ) لكونه آيسا من الأسباب العاديّة التي كانت عنده و هي نفسه و قد صار شيخا هرما ساقط القوى. و امرأته و قد شاخت و كانت قبل ذلك عاقرا.

و وليّ الإنسان من يلي أمره، و وليّ الميّت هو الّذي يقوم بأمره و يخلفه فيما ترك، و آل الرجل خاصّته الّذين يؤل إليه أمرهم كولده و أقاربه و أصحابه و قيل: أصله أهل، و المراد بيعقوب على ما قيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام)، و قيل هو يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان أبي مريم و كانت امرأة زكريّا اُخت مريم و على هذا يكون معنى قوله:( يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) يرثني و يرث امرأتي و هي بعض آل يعقوب، و الأشبه حينئذ أن تكون( مِنْ ) في قوله:( مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) للتبعيض و إن صحّ كونها ابتدائيّة أيضاً.

و قوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) الرضيّ بمعنى المرضيّ، و إطلاق الرضا يقتضي شموله للعلم و العمل جميعا فالمراد به المرضيّ في اعتقاده و عمله أي اجعله ربّ محلّى بالعلم النافع و العمل الصالح.

و قد قصّ الله سبحانه هذه القصّة في سورة آل عمران و هي مدنيّة متأخّرة نزولاً

٦

عن سورة مريم المكّيّة بقوله في ذيل قصّة مريم( فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ ) آل عمران: ٣٨.

و لا يرتاب المتدبّر في الآيتين أنّ الّذي دعا زكريّا و دفعه إلى دعائه بما دعا هو ما شاهده من حال مريم و كرامتها على الله سبحانه في عبوديّتها و إخلاصها العمل فأحبّ أن يخلفه خلف له من القرب و الكرامة ما شاهد مثله في مريم ثمّ ذكر ما هو عليه من الشيب و نفاد القوّة و ما عليه امرأته من كبر السنّ و العقر و له موال لا يرتضيهم فوجد لذلك و هو ذاكرٌ ما عوّده ربّه من استجابة الدعوة و كفاية كلّ مهمّة ففزع إلى ربّه بالدعاء و استيهاب ذرّيّة طيّبة.

فقوله في سورة آل عمران:( رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) بحذاء قوله في سورة مريم:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) و قوله هناك:( طَيِّبَةً ) بحذاء قوله هنا:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) و المراد به ما شاهده من القرب و الكرامة عند الله لمريم و عملها الصالح فيبقى قوله هناك:( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً ) ، بحذاء قوله هنا:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) و هو يفسّره فالمراد بقوله:( وَلِيًّا يَرِثُنِي ) إلخ، ولد صلبيّ يرثه.

و من هنا يظهر فساد ما قيل: إنّه (عليه السلام) طلب بقوله:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي ) إلخ، من يقوم مقامه و يرثه ولداً كان أو غيره، و كذا ما قيل: إنّه أيس أن يولد له من امرأته فطلب من يرثه و يقوم مقامه من سائر الناس.

و ذلك لصراحة قوله في نفس القصّة في سورة آل عمران:( رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) في طلب الولد.

على أنّ التعبير بمثل( هَبْ لِي ) المشعر بنوع من الملك لا يستقيم في سائر الناس

٧

من الأجانب و إنّما الملائم له التعبير بالجعل و نحوه كما في قوله تعالى:( وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ) النساء: ٧٥.

و من هنا يظهر أيضا أنّ المراد بقوله:( وَلِيًّا يَرِثُنِي ) الولد كما عبّر عنه في آية آل عمران بالذرّيّة فالمراد بالوليّ الذرّيّة و هو وليّ في الإرث، و المراد بالوراثة وراثة ما تركه الميّت من الأموال و أمتعة الحياة، و هو المتبادر إلى الذهن من الإرث بلا ريب إمّا لكونه حقيقة في المال و نحوه مجازاً في غيره كالإرث المنسوب إلى العلم و سائر الصفات و الحالات المعنويّة و إمّا لكونه منصرفاً إلى المال إن كان حقيقة في الجميع فاللفظ على أيّ حال ظاهر في وراثة المال و يتعيّن بانضمامه إلى الوليّ كون المراد به الولد، و يزيد في ظهوره في ذلك قوله قبل:( وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) على ما سيأتي من البيان إن شاء الله.

و أمّا قول من قال: إنّ المراد به وراثة النبوّة و إنّه طلب من ربّه أن يهب له ولدا يرثه النبوّة فيدفعه ما عرفت آنفاً أنّ الّذي دعاه (عليه السلام) إلى هذا الدعاء و المسألة هو ما شاهده من مريم و لا خبر في ذلك عن النبوّة و لا أثر فأيّ رابطة بين أن يشاهد منها عبادة و كرامة فيعجبه ذلك و بين أن يطلب من ربّه ولداً يرثه النبوّة؟.

على أنّ النبوّة ممّا لا يورّث بالنسب و هو ظاهر و لو اُصلح ذلك بأنّ المراد بالوراثة مجرّد إتيان نبيّ بعد نبيّ أو ظهور نبيّ من ذرّيّة نبيّ بنوع من العناية مجازاً ظهر الإشكال من جهة اُخرى و هي عدم ملائمة ذلك قوله بعد:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) إذ لا معنى لقول القائل: هب لي ولداً نبيّاً و اجعله رضيّاً، و لو حمل على التأكيد كان من تأكيد الشي‏ء بما هو دونه، و كذا احتمال أن يكون المراد بالرضىّ المرضيّ عند الناس لمنافاته إطلاق المرضيّ كما تقدّم مع عدم مناسبته لداعيه كما مرّ.

و يقرب منه في الفساد قول من قال: إنّ المراد به وراثة العلم و إنّه طلب من ربّه أن يهب له ولداً يرثه علمه، إذ لا معنى لأن يشاهد زكريّا من مريم عبادة و كرامة فيعجبه ذلك فيطلب من ربّه ولداً يرثه علمه من دون أيّ مناسبة بين الداعي و المدعوّ إليه.

٨

و القول بأنّ المراد بالوراثة وراثة العلم و بقوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) العمل الصالح و مجموع العلم النافع و العمل الصالح يقرب ممّا شاهده من مريم من الإخلاص و العبادة و الكرامة.

يدفعه أنّ قوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) يكفي وحده في الدلالة على طلب العلم النافع و العمل الصالح لمكان الإطلاق، و إنما الإنسان المحسن عملا مع الغضّ عن العلم مرضيّ العمل و لا يسمّى مرضيّاً مطلقاً البتّة، و نظير ذلك القول بأنّ المراد بالرضىّ المرضيّ عند الناس.

و يقرب منه في الفساد احتمال أن يكون المراد بالوراثة وراثة التقوى و الكرامة و أنّه طلب من ربّه أن يهب له ولداً يرث ما له من القرب و المنزلة عند الله إذ المناسب لذلك أن يطلب ولداً له ما لمريم من القرب و الكرامة أو مطلق القرب و الكرامة لا أن يطلب ولداً ينتقل إليه ما لنفسه من القرب و الكرامة.

على أنّه لا يلائمه قوله:( وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) إذ ظاهر السياق أنّه يطلب ولداً يرثه و ينتقل إليه ما لولاه لانتقل ذلك إلى الموالي و هو يخاف منهم أن يتلبّسوا بذلك بعد وفاته، و لا معنى لأن يخاف (عليه السلام) تلبّس مواليه بالقرب و المنزلة و اتّصافهم بالتقوى و الكرامة لا قبل وفاته و لا بعده فساحة الأنبياء أنزه و أطهر من هذه الضنّة و لا اُمنيّة لهم إلّا صلاح النّاس و سعادتهم.

و قول بعضهم إنّ مواليه (عليه السلام) كانوا شرار بني إسرائيل فخاف أن لا يحسنوا خلافته في اُمّته بعده، فيه أنّ هذه الخلافة إن كانت خلافة باطنيّة إلهيّة فهي ممّا لا يورث بالنسب قطعاً، على أنّها لا تخطئ المورد الصالح لها و لا يتلبّس بها إلّا أهلها و لا وجه للخوف من ذلك، و إن كانت خلافة ظاهريّة دنيويّة تورث بالنسب و نحوه فهي قنية اجتماعيّة و من أمتعة الحياة الدنيا نظير المال فلا جدوى لصرف الوراثة في الآية عن وراثة المال إلى وراثة الخلافة و الملك.

على أنّ يحيى (عليه السلام) لم يتقلّد من هذه الخلافة و الملك شيئاً حتّى يكون هو ميراثه الذي منع موالي أبيه أن يرثوه منه، و لم يكن لبني إسرائيل ملك في زمن

٩

زكريّا و يحيى بل كانت الروم مستولية عليهم حاكمة فيهم.

فإن قلت: يؤيّد حمل الوراثة في الآية على وراثة العلم و نحوه دون المال أنّه ليس في الأنظار العالية و الهمم العليا للنفوس القدسيّة الّتي انقطعت من تعلّقات هذا العالم المنقطع الفاني و اتّصلت بالعالم الباقي ميل إلى المتاع الدنيويّ قدر جناح بعوضة لا سيّما زكريّا (عليه السلام) فإنّه كان مشهوراً بكمال الانقطاع و التجرّد فيستحيل عادة أن يخاف من وراثة المال و المتاع الّذي ليس له في نظره العالي أدنى قدر أو يظهر من أجله الكلف و الحزن و الخوف و يستدعي من ربّه ذلك النحو من الاستدعاء و هو يدلّ على كمال المحبّة و تعلّق القلب بالدنيا و زخارفها.

و القول بأنّه خاف أن يصرف مواليه ماله بعد موته فيما لا ينبغي فطلب لذلك عن ربّه وارثاً مرضيّاً فاسد فإنّه إذا مات الرجل و انتقل ماله بالوراثة إلى آخر صار المال مال الوارث فصرفه على ذمّته صواباً أو خطأ و لا مؤاخذة في ذلك على الميّت و لا عتاب.

مع أنّ دفع هذا الخوف كان ميسّراً له (عليه السلام) بأن يصرفه قبل موته و يتصدّق به كلّه في سبيل الله و يترك بني عمّه الأشرار خائبين لسوء أحوالهم و قبح أفعالهم فليس قصده (عليه السلام) من مسألة الولد سوى إجراء أحكام الله تعالى و ترويج الشريعة و بقاء النبوّة في أولاده.

قلت: الإشكال مبنيّ على كون قوله:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي ) مسوقاً لبيان طلب الوراثة الماليّة لولده و الواقع خلافه فليس المقصود من قوله:( وَلِيًّا يَرِثُنِي ) بالقصد الأوّل إلّا طلب الولد كما هو الظاهر أيضاً من قوله في سورة آل عمران:( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً ) و قوله في موضع آخر:( رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً ) الأنبياء: ٨٩.

و إنّما قوله:( يَرِثُنِي ) قرينة معيّنة لكون المراد بالوليّ في الكلام ولاية الإرث الّتي تنطبق على الولد لكون الولاية معنى عامّاً ذا مصاديق مختلفة لا يتعيّن واحد منها إلّا بقرينة معيّنة كما قيّدت بالنصرة في قوله:( وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ

١٠

يَنْصُرُونَهُمْ ) الشورى: ٤٦، و المراد به ولاية النصرة، و قيّدت بالأمر و النهي في قوله:( وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) التوبة: ٧١، و المراد ولاية التدبير. إلى غير ذلك.

و لو لا أنّ المراد به الوراثة الماليّة و أنّها قرينة معيّنة لم يبق في الكلام ما يدلّ على طلب الولد الّذي هو المقصود الأصليّ بالدعاء فإنّ وراثة العلم أو النبوّة أو العبادة و الكرامة لا إشعار فيها بكون الوارث هو الولد كما اعترف به بعض من حمل الوراثة في الآية على شي‏ء من هذه المعاني فيبقى الدعاء خالياً عن الدلالة على المطلوب الأصليّ و كفى به سقوطاً للكلام.

و بالجملة، العناية إنّما هي متعلّقة بإفادة طلب الولد، و أمّا الوراثة الماليّة فليست مقصودة بالقصد الأوّل و إنّما هي قرينة معيّنة لكون المراد بالوليّ هو الولد نعم هي في نفسها تدلّ على أنّه لو كان له ولد لورثه ماله، و ليس في ذلك و لا في قوله:( وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) و حاله حال قوله:( وَلِيًّا يَرِثُنِي ) دلالة على تعلّق قلبه (عليه السلام) بالدنيا الفانية و لا بزخارف حياتها الّتي هي متاع الغرور.

و أمّا طلب الولد فهو ممّا فطر الله عليه النوع الإنسانيّ سواء في ذلك الصالح و الطالح و النبيّ و من دونه و قد جهّز الجميع بجهاز التوالد و التناسل و غرز فيهم ما يدعوهم إليه، فالواحد منهم لو لم ينحرف طباعه ينساق إلى طلب الولد و يرى بقاء ولده بعده بقاء لنفسه و استيلاءهم على ما كان مستولياً عليه من أمتعة الحياة - و هذا هو الإرث - استيلاء نفسه و عيش شخصه هذا.

و الشرائع الإلهيّة لم تبطل هذا الحكم الفطريّ و لا ذمّت هذه الداعية الغريزيّة بل مدحته و ندبت إليه، و في القرآن الكريم آيات كثيرة تدلّ على ذلك كقوله تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام):( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) الصافّات: ١٠٠ و قوله:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ ) إبراهيم: ٣٩، و قوله حكاية عن المؤمنين:( رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) الفرقان: ٧٤ إلى غير ذلك من الآيات.

١١

فإن قلت: ما تقدّم من الوجه في معنى الوراثة كان مبنيّاً على أن يستفاد من قوله:( هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ) الآية، أنّ الّذي دعاه إلى طلب الولد هو ما شاهده من عبادة مريم و كرامتها عند الله سبحانه فأحبّ أن يرزق ولداً يماثلها في العبادة و الكرامة لكن يمكن أن يكون داعيه غير ذلك فقد ورد في بعض الآثار أنّ زكريّا كان يجد عند مريم فواكه في غير موسمها ثمرة الشتاء في الصيف و ثمرة الصيف في الشتاء فقال في نفسه: إذا كان الله لا يعزّ عليه أن يرزقها ثمرة الشتاء في الصيف و ثمرة الصيف في الشتاء لم يعزّ عليه أن يرزقني ولداً في غير وقته و أنا شيخ فان و امرأتي عاقر فقال:( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي ) .

فمشاهدة الثمرة في غير موسمها بعثه إلى طلب الولد في غير وقته لكنّ هذا النبيّ الكريم أجلّ من أن يطلب الولد ليرث ماله فهو إنّما طلبه ليرث النبوّة أو العلم أو العبادة و الكرامة.

قلت: لا دليل من جهة السياق اللفظيّ على كون المراد بالرزق في قوله:( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) هي الثمرة في غير موسمها، و أنّ الّذي دعا زكريّا (عليه السلام) إلى طلب الولد مشاهدة ذلك أو قول مريم:( إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) و لو كان كذلك لكانت الإشارة إليه بوجه أبلغ بل ظاهر السياق و خاصّة صدر الآية( فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً ) أنّ العناية بإفادة كون مريم ذات كرامة عند ربّه يرزقها لا من طريق الأسباب العاديّة فهذا هو الداعي لزكريّا (عليه السلام) إلى طلب ذرّيّة طيّبة و ولد رضيّ.

و لو سلّم ذلك كان مقتضاه أن ينبعث زكريّا بالقصد الأوّل إلى طلب الذرّيّة و الولد و إذ كان نبيّاً كريماً لا إربة له في غير الولد الصالح دعا ثانياً أن يكون طيّباً مرضيّاً كما يدلّ عليه استئناف الدعاء بقوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) و التقييد بالطيّب في قوله:( ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) .

و قد أفاد مقصوده هذا على ما حكى عنه في سورة آل عمران بقوله:( هَبْ لِي

١٢

مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً ) و في هذه السورة بعد تقديم ذكر شيخوخته و عقر امرأته و خوفه الموالي بقوله:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي ) فالمراد بقوله:( وَلِيًّا يَرِثُنِي ) هو الولد بلا شكّ، و قد عبّر عنه و اُشير إليه بعنوان ولاية الإرث.

و ولاية الوراثة الّتي تصلح أن تكون عنواناً معرّفاً للولد هي ما يختصّ به من ولاية وراثة التركة، و أمّا ولاية وراثة النبوّة لو جازت تسميتها ولاية وراثة و كذا ولاية وراثة العلم كما يرث التلميذ علم اُستاذه و كذا ولاية وراثة المقامات المعنويّة و الكرامات الإلهيّة فهذه الولايات أجنبيّة عن النسب و الولادة ربّما جامعتها و ربّما فارقتها فلا تصلح أن تجعل معرّفة و مرآة لها إلّا مع قرينة قويّة، و ليس في الكلام ما يصلح لذلك، و كلّ ما فرض صالحاً له فهو صالح لخلافه فيكون قد اُهمل في الدعاء ما هو المقصود بالقصد الأوّل و اشتغل بما وراءه، و كفى به سقوطاً للكلام.

قوله تعالى: ( يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى‏ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) في الكلام حذف إيجازاً، و التقدير:( فاستجبنا له و ناديناه يا زكريّا إنّا نبشّرك) إلخ، و قد ورد في سورة الأنبياء في القصّة:( فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى) الأنبياء: ٩٠، و في سورة آل عمران:( فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى‏ ) آل عمران: ٣٩.

و تشهد آية آل عمران على أنّ قوله:( يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ ) إلخ، كان وحياً بتوسّط الملائكة فهو قوله تعالى أدّته الملائكة إلى زكريّا، و ذلك في قوله ثانياً:( قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) إلخ، أظهر.

و في الآية دلالة على أنّ الله سبحانه هو الّذي سمّاه يحيى، و هو قوله:( اسْمُهُ يَحْيى) و أنّه لم يسمّ بهذا الاسم قبله أحد، و هو قوله:( لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) أي شريكاً في الاسم.

و ليس من البعيد أن يراد بالسميّ المثل على حدّ ما سيأتي من قوله تعالى:( فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) الآية: ٦٥ من السورة و يشهد عليه أنّ

١٣

الله سبحانه نعته في كلامه بنعوت لم ينعت به أحداً من أنبيائه و أوليائه قبله كقوله فيما سيأتي:( وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) و قوله:( وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً ) آل عمران: ٣٩، و قوله:( وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) ، و المسيح (عليه السلام) و إن شاركه في هذه النعوت و هما ابنا الخالة لكن ولادته بعد ولادة يحيى (عليهما السلام).

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ) قال الراغب: الغلام الطارّ الشارب(١) يقال: غلام بيّن الغلومة و الغلوميّة، قال تعالى:( أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ) . قال: و اغتلم الغلام: إذا بلغ حدّ الغلمة. انتهى.

و قال في المجمع: العتيّ و العسيّ بمعنى يقال: عتا يعتو عتوّاً و عتيّاً و عسي يعسو عسوّاً و عسيّاً فهو عات و عاس إذا غيّره طول الزمان إلى حال اليبس و الجفاف. انتهى. و بلوغ العتيّ كناية عن بطلان شهوة النكاح و انقطاع سبيل الإيلاد.

و استفهامه (عليه السلام) عن كون الغلام مع عقر امرأته و بلوغه العتيّ مع ذكره‏ الأمرين في ضمن دعائه إذ قال:( رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) إلخ، مبنيّ على استعجاب البشرى و استفسار خصوصيّاتها دون الاستبعاد و الإنكار فإنّ من بشّر بما لا يتوقّعه لتوفّر الموانع و فقدان الأسباب تضطرب نفسه بادئ ما يسمعها فيأخذ في السؤال عن خصوصيّات ما بشّر به ليطمئنّ قلبه و يسكن اضطراب نفسه و هو مع ذلك على يقين من صدق ما بشّر به فإنّ الخطورات النفسانيّة ربّما لا تنقطع مع وجود العلم و الإيمان و قد تقدّم نظيره في تفسير قوله تعالى:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى‏ قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى‏ وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) البقرة: ٢٦٠.

قوله تعالى: ( قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً ) جواب عمّا استفهمه و استفسره لتطيب به نفسه، و يسكن جاشه، و ضمير قال راجع إليه تعالى، و قوله:( كَذلِكَ ) مقول القول و هو خبر مبتدإ محذوف و التقدير

____________________

(١) غلام طر شاربه من باب نصر و ضرب: أي طلع.

١٤

( هو كذلك) أي الأمر واقع على ما أخبرناك به في البشرى لا ريب فيه.

و قوله:( قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) مقول ثان لقال الأوّل، و هو بمنزلة التعليل لقوله:( كَذلِكَ ) يرتفع به أيّ استعجاب فلا يتخلّف عن إرادته مراد و إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن، فخلق غلام من رجل بالغ في الكبر و امرأة عاقر هيّن سهل عليه.

و قد وقع التعبير عن هذا الاستفهام و الجواب في سرد القصّة من سورة آل عمران بقوله:( قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) آل عمران: ٤٠، فقوله:( قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) ههنا يحاذي قوله هناك:( اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) و هو يؤيّد ما قدّمناه من المعنى، و قوله ههنا:( وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً ) بيان لبعض مصاديق الخلق الذي يرفع به الاستعجاب.

و في الآية وجوه اُخر تعرّضوا لها: منها أنّ قوله:( كَذلِكَ ) متعلّق بقال الثاني و مجموع الجملة هو الجواب و المراد أمر ربّك بذلك و قضى كذلك، و قوله:( هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) مقول آخر للقول أو أنّه جيي‏ء به على سبيل الحكاية.

و منها أنّ الخطاب في قوله:( قالَ رَبُّكَ ) للنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) لا لزكريّا (عليه السلام) و تلك وجوه لا يساعد عليها السياق.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا ) قد تقدّم في القصّة من سورة آل عمران أنّ إلقاء البشرى إلى زكريّا كان بتوسّط الملائكة( فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) ، و هو (عليه السلام) إنّما سأل الآية ليتميّز به الحقّ من الباطل فتدلّه على أنّ ما سمعه من النداء وحي ملكيّ لا إلقاء شيطانيّ و لذلك اُجيب بآية إلهيّة لا سبيل للشيطان إليها و هو أن لا ينطلق لسانه ثلاثة أيّام إلّا بذكر الله سبحانه فإنّ الأنبياء معصومون بعصمة إلهيّة ليس للشيطان أن يتصرّف في نفوسهم.

فقوله:( قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ) سؤال لآية مميّزة، و قوله:( قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا ) إجابة ما سأل، و هو أن يعتقل لسانه ثلاثة

١٥

أيّام من غير ذكر الله و هو سويّ أي صحيح سليم من غير مرض و آفة.

فالمراد بعدم تكليم الناس عدم القدرة على تكليمهم، من قبيل إطلاق اللازم و إرادة الملزوم كناية، و المراد بثلاث ليال ثلاث ليال بأيّامها و هو شائع في الاستعمال فكان (عليه السلام) يذكر الله بفنون الذكر و لا يقدر على تكليم الناس إلّا رمزاً و إشارة، و الدليل على ذلك كلّه قوله تعالى في القصّة من سورة آل عمران:( قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ ) آل عمران: ٤١.

قوله تعالى: ( فَخَرَجَ عَلى‏ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى‏ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا ) قال في المجمع: و سمّي المحراب محراباً لأنّ المتوجّه إليه في صلاته كالمحارب للشيطان على صلاته، و الأصل فيه مجلس الأشراف الّذي يحارب دونه ذبّاً عن أهله. و قال: الإيحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفية بسرعة، و أصله من قولهم: الوحي الوحي أي الإسراع الإسراع. انتهى و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( يا يَحْيى‏ خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ ) قد تكرّر في كلامه تعالى ذكر أخذ الكتاب بقوّة و الأمر به كقوله:( فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها ) الأعراف: ١٤٥، و قوله:( خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ ) البقرة ٦٣، و قوله:( خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا ) البقرة: ٩٣ إلى غير ذلك من الآيات، و السابق إلى الذهن من سياقها أنّ المراد من أخذ الكتاب بقوّة التحقّق بما فيه من المعارف و العمل بما فيه من الأحكام بالعناية و الاهتمام.

و في الكلام حذف و إيجاز رعايةً للاختصار، و التقدير: فلمّا وهبنا له يحيى قلنا له: يا يحيى خذ الكتاب بقوّة في جانبي العلم و العمل، و بهذا المعنى يتأيّد أن يكون المراد بالكتاب التوراة أو هي و سائر كتب الأنبياء فإنّ الكتاب الّذي كان يشتمل على الشريعة يومئذ هو التوراة(١) .

قوله تعالى: ( وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكاةً ) فسّر الحكم بالفهم و بالعقل و بالحكمة و بمعرفة آداب الخدمة و بالفراسة الصادقة و بالنبوّة،

____________________

(١) و ليس من البعيد أن يكون له عليه السلام كتاب يخصّه. منه.

١٦

لكنّ المستفاد من مثل قوله تعالى:( وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ) الجاثية: ١٦، و قوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ) الأنعام: ٨٩، و غيرهما من الآيات أنّ الحكم غير النبوّة، فتفسير الحكم بالنبوّة ليس على ما ينبغي، و كذا تفسيره بمعرفة آداب الخدمة أو بالفراسة الصادقة أو بالعقل إذ لا دليل من جهة اللفظ و لا من جهة المعنى على شي‏ء من ذلك.

نعم ربّما يستأنس من مثل قوله:( يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ ) البقرة: ١٢٩، و قوله:( يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ ) الجمعة: ٢ - و الحكمة بناء نوع من الحكم - أنّ المراد بالحكم العلم بالمعارف الحقّة الإلهيّة و انكشاف ما هو تحت أستار الغيب بالنسبة إلى الأنظار العاديّة و لعلّه إليه مرجع تفسير الحكم بالفهم. و على هذا يكون المعنى إنّا أعطيناه العلم بالمعارف الحقيقيّة و هو صبيّ لم يبلغ الحلم بعد.

و قوله:( وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا ) معطوف على الحكم أي و أعطيناه حنانا من لدنّا و الحنان: العطف و الإشفاق، قال الراغب: و لكون الإشفاق لا ينفكّ من الرحمة عبّر عن الرحمة بالحنان في قوله تعالى:( وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا ) و منه قيل: الحنّان المنّان و حنانيك إشفاقاً بعد إشفاق.

و فسّر الحنان في الآية بالرحمة و لعلّ المراد بها النبوّة أو الولاية كقول نوح (عليه السلام):( وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ ) هود: ٢٨، و قول صالح:( وَ آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً ) هود: ٦٣.

و فسّر بالمحبّة و لعلّ المراد بها محبّة الناس له على حدّ قوله:( وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) طه: ٣٩، أي كان لا يراه أحد إلّا أحبّه.

و فسّر بتعطّفه على الناس و رحمته و رقّته عليهم فكان رؤفاً بهم ناصحاً لهم يهديهم إلى الله و يأمرهم بالتوبة و لذا سمّي في العهد الجديد بيوحنّا المعمّد.

و فسّر بحنان الله عليه كان إذا نادى ربّه لبّاه الله سبحانه على ما في الخبر فيدلّ على أنّه كان لله سبحانه حنان خاصّ به على ما يفيده تنكير الكلمة.

١٧

و الّذي يعطيه السياق و خاصّة بالنظر إلى تقييد الحنان بقوله:( مِنْ لَدُنَّا ) - و الكلمة إنّما تستعمل فيما لا مجرى فيه للأسباب الطبيعيّة العاديّة أو لا نظر فيه إليها - أنّ المراد به نوع عطف و انجذاب خاصّ إلهيّ بينه و بين ربّه غير مألوف، و بذلك يسقط التفسير الثاني و الثالث ثمّ تعقّبه بقوله:( زَكاةً ) و الأصل في معناه النموّ الصالح، و هو لا يلائم المعنى الأوّل كثير ملائمة فالمراد به إمّا حنان من الله سبحانه إليه بتولّي أمره و العناية بشأنه و هو ينمو عليه، و إمّا حنان و انجذاب منه إلى ربّه فكان ينمو عليه، و النموّ نموّ الروح.

و من هنا يظهر وهن ما قيل: إنّ المراد بالزكاة البركة و معناها كونه مباركاً نفّاعاً معلّماً للخير، و ما قيل: إنّ المراد به الصدقة، و المعنى و آتيناه الحكم حال كونه صدقة نتصدّق به على الناس أو المعنى أنّه صدقة من الله على أبويه أو المعنى أنّ الحكم المؤتى صدقة من الله عليه و ما قيل: إنّ المراد بالزكاة الطهارة من الذنوب.

قوله تعالى: ( وَ كانَ تَقِيًّا وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا ) التقيّ صفة مشبهة من التقوى مثال واويّ و هو الورع عن محارم الله و التجنّب عن اقتراف المناهي المؤدّي إلى عذاب الله، و البرّ بفتح الباء صفة مشبهة من البرّ بكسر الباء و هو الإحسان، و الجبّار قال في المجمع: الّذي لا يرى لأحد عليه حقّاً و فيه جبريّة و جبروت، و الجبّار من النخل ما فات اليد. انتهى. فيؤل معناه إلى أنّه المستكبر المستعلي الّذي يحمّل الناس ما أراد و لا يتحمّل عنهم، و يؤيّده تعقيبه بالعصيّ فإنّه صفة مشبهة من العصيان و الأصل في معناه الامتناع.

و من هنا يظهر أنّ الجمل الثلاث مسوقة لبيان جوامع أحواله بالنسبة إلى الخالق و المخلوق، فقوله:( وَ كانَ تَقِيًّا ) حاله بالنسبة إلى ربّه، و قوله:( وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ ) حاله بالنسبة إلى والديه، و قوله:( وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا ) حاله بالنسبة إلى سائر الناس، فكان رؤفاً رحيماً بهم ناصحاً متواضعاً لهم يعين ضعفاءهم و يهدي المسترشدين منهم، و به يظهر أيضا أنّ تفسير بعضهم لقوله:( عَصِيًّا ) بقوله: أي عاصيا لربه ليس على ما ينبغي.

١٨

قوله تعالى: ( وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) السلام قريب المعنى من الأمن، و الّذي يظهر من موارد استعمالها في الفرق بينهما أنّ الأمن خلوّ المحلّ ممّا يكرهه الإنسان و يخاف منه و السلام كون المحلّ بحيث كلّ ما يلقاه الإنسان فيه فهو يلائمه من غير أن يكرهه و يخاف منه.

و تنكير السلام لإفادة التفخيم أي سلام فخيم عليه ممّا يكرهه في هذه الأيّام الثلاثة الّتي كلّ واحد منها مفتتح عالم من العوالم الّتي يدخلها الإنسان و يعيش فيها فسلام عليه يوم ولد فلا يمسّه مكروه في الدنيا يزاحم سعادته، و سلام عليه يوم يموت، فسيعيش في البرزخ عيشة نعيمة، و سلام عليه يوم يبعث حيّاً فيحيي فيها بحقيقة الحياة و لا نصب و لا تعب.

و قيل: إنّ تقييد البعث بقوله:( حَيًّا ) للدلالة على أنّه سيقتل شهيداً لقوله تعالى في الشهداء:( بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) آل عمران: ١٦٩.

و اختلاف التعبير في قوله:( وُلِدَ ) ( يَمُوتُ ) ( يُبْعَثُ ) لتمثيل أنّ التسليم في حال حياته (عليه السلام).

( بحث روائي)

في المجمع: و روي عن أميرالمؤمنين (عليه السلام): أنّه قال في دعائه: أسألك يا كهيعص‏.

و في المعاني، بإسناده عن سفيان بن سعيد الثوريّ عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: و كهيعص معناه أنا الكافي الهادي الوليّ العالم الصادق الوعد.

أقول: و روى فيه أيضا ما يقرب منه عن محمّد بن عمارة عنه (عليه السلام). و روى في الدرّ المنثور، عن ابن عبّاس: في قوله: كهيعص قال: كبير هاد أمين عزيز صادق - و في لفظ - كاف بدل كبير، و روى عنه أيضا بطرق اُخر: كريم هاد حكيم عليم صادق و روي عن ابن مسعود و غيره ذلك، و محصّل الروايات - كما ترى - أنّ الحروف المقطّعة مأخوذة من أوائل الأسماء الحسنى على اختلافها كالكاف من الكافي أو الكبير

١٩

أو الكريم و هكذا غير أنّه لا يتمّ في الياء فقد اُخذ في الروايات من الوليّ أو الحكيم أو العزيز كما في بعضها، و روي فيه، عن اُمّ هانئ عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): أنّ معناها كاف هاد عالم صادق‏، و قد اُهمل في الحديث حرف الياء، و قد تقدّم في بيان الآية بعض الإشارة.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) يقول: لم يكن دعائي خائباً عندك.

و في المجمع: في قوله:( وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ ) قيل: هم العمومة و بنو العمّ عن أبي جعفر (عليه السلام)، و قرأ عليّ بن الحسين و محمّد بن عليّ الباقر (عليهم السلام):( وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ ) بفتح الخاء و تشديد الفاء و كسر التاء.

أقول: و به قرأ جمع من الصحابة و التابعين.

و في الإحتجاج، روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه (عليهم السلام): أنّه لمّا أجمع أبوبكر على منع فاطمة فدك و بلغها ذلك جاءت إليه و قالت له: يا بن أبي قحافة أ في كتاب الله أن ترث أباك و لا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً. أ فعلى عمد تركتم كتاب الله و نبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريّا( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) الحديث.

أقول: مضمون الرواية مرويّ بطرق من الشيعة و غيرهم، و استدلالها (عليها السلام) مبنيّ على كون المراد بالوراثة في الآية وراثة المال، و قد تقدّم الكلام في ذلك في بيان الآية، و قد ورد من طرق أهل السنّة بعض ما يدلّ على ذلك‏ ففي الدرّ المنثور، عن عدّة من أصحاب الجوامع عن الحسن أنّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: يرحم الله أخي زكريّا ما كان عليه من ورثة، و يرحم الله أخي لوطاً إن كان يأوي إلى ركن شديد، و روي فيه، أيضاً عن الفاريابي عن ابن عبّاس قال: كان زكريّا لا يولد له فسأل ربّه فقال:( ربّ هب لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) قال: يرثني مالي و يرث من آل يعقوب النبوّة.

و قال في روح المعاني: مذهب أهل السنّة أنّ الأنبياء (عليهم السلام) لا يرثون مالاً

٢٠