الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  17%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96782 / تحميل: 5845
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الحركات الرجعيّة

1

7

الجهميّة

قد عرفت أنّ المتّهمين بالقدرية كانوا دعاة الحرّية، لا نُفاة القضاء والقدر، بل كانوا قائلين بأنّه سبحانه تبارك وتعالى قدّر وقضى، ومع ذلك، لم يسلب الاختيار عن الإنسان، فخيّره بين الإيمان والكفر، بين الخير والشّر، فلو قدّر الخير فلعلم منه بأنّه يختار الخير عن اختيار، أو قدّر الشر فلعلم منه أنّ الفاعل يختار الشر كذلك، وهو نفس صميم الإسلام ولبّه، قال سبحانه: ( فَمَن شَاءَ فَلْيُوْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكُفُرْ ) (1) .

لكن ظهرت في القرن الثاني والثالث حركات رجعيّة استهدفت أركان الإسلام والعودة بالأُمّة إلى الأفكار الجاهلية الّتي سادت قبل الإسلام، من القول بالجبر والتجسيم، وإليك أبرز ممثّلي هذه الحركات الرجعية.

____________________

(1) الكهف: 29.

٨١

الجهميّة:

إنّ سمات الجهميّة، هي: القول بالجبر والتعطيل، أسّسها جهم بن صفوان السمرقندي (المتوفّى 128هـ).

قال الذهبي: جهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي الضال المبتدع، رأس الجهميّة في زمان صغار التابعين، وما علِمْته روى شيئاً، لكنّه زرع شرّاً عظيماً.

وقال المقريزي: الجهميّة،أتباع جهم بن صفوان الترمذي، مولى راسب، وقُتل في آخر دولة بني أُميّة، وتتلخّص عقائده في الأُمور التالية:

1 - ينفي الصفات الإلهيّة كلّها، ويقول: لا يجوز أن يوصف الباري بصفة يوصف بها خَلْقه.

2 - إنّ الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالقدرة ولا بالاستطاعة.

3 - إنّ الجنّة والنّار يفنيان، وتنقطع حركات أهلهما.

4 - إنّ من عرف الله ولم ينطق بالإيمان لم يكفر؛ لأنّ العلم لا يزول بالصمت، وهو مؤمن مع ذلك.

وقد كفّره المعتزلة في نفي الاستطاعة، وكفّره أهل السنّة بنفي الصفات وخلق القرآن ونفي الرؤية.

5 - وانفرد بجواز الخروج على السلطان الجائر.

6 - وزعم أنّ علم الله حادث لا بصفة يوصف بها غيره. (1)

____________________

(1). الخطط المقريزيّة: 3/349، ولاحظ: ص351.

٨٢

أقول: الظاهر أنّ قاعدة مذهبه أمران:

الأوّل: الجبر ونفي الاستطاعة، فجهم بن صفوان رأس الجبر وأساسه، ويُطْلق على أتباعه الجبريّة الخالصة، في مقابل غير الخالص منها.

الثاني: تعطيل ذاته سبحانه، عن التوصيف بصفات الجلال والجمال، ومن هنا نجمت المعطّلة.

وأمّا غير هذين الأمرين فمشكوك جداً.

التطورات الّتي مرّ بها مفهوم الجهمي:

لمّا كان نفي الصفات عن الله والقول بخلق القرآن ونفي الرؤية ممّا نسب إلى منهج الجهم، صار لفظ الجهمي رمزاً لكلِّ من قال بأحد هذه الأُمور، وإن كان غير قائل بالجبر ونفي القدر؛ ولأجل ذلك ربّما تطلق الجهميّة ويراد بها المعتزلة أو القدريّة، يقول أحد بن حنبل:

والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله ووقف، ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق، فهو أخبث من الأوّل، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهمي، ومن لم يكفّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم. (1)

____________________

(1) السنّة: 49.

٨٣

الحركات الرجعيّة

2

8

المجسّمة

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد، والبرهان عن التفكير، ألحق أضراراً جسيمة بالمجتمع الإسلامي، حيث ظهرت فيه حركات هدّامة ترمي إلى تقويض الأُسس الدينية والأخلاقيّة.

ومن تلك الحركات المجسّمة؛ الّتي رفع لواءها مقاتل بن سليمان المجسم (1) (المتوفّى عام 150هـ)، ونشر أقاصيص الأحبار والرهبان في القرن الثالث، فهو وجهم بن صفوان، مع تشاطرهما في دفع الأُمّة الإسلامية إلى حافة الجاهلية،على طرفي نقيض في مسألة التنزيه والتشبيه.

____________________

(1) مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي بالولاء، البلخي، أبو الحسن، من المفسرين، أصله من بلخ، انتقل إلى البصرة ودخل بغداد وحدّث بها، وتوفّي بالبصرة، كان متروك الحديث، من كتبه (التفسير الكبير)، و(نوادر التفسير)، و(الرّد على القدريّة)، و(متشابه القرآن)، و(الناسخ والمنسوخ)، و(القراءات)، و(الوجوه والنظائر)، [الأعلام: 7/281].

٨٤

أمّا صفوان، فقد بالغ في التنزيه حتّى عطّل وصف ذاته بالصفات.

وأمّا مقاتل، فقد أفرط في التشبيه فصار مجسّماً، وقد نقل المفسرون آراء مقاتل في كتب التفاسير.

فليعرف القارئ مكانه في الوثاقة وتنزيه الربّ عن صفات الخلق.

قال ابن حبّان: كان يأخذ من اليهود والنصارى - في علم القرآن - الّذي يوافق كتبهم، وكان يشبّه الربّ بالمخلوقات، وكان يكذب في الحديث.

وقال أبو حنيفة: أفرط جهم في نفي التشبيه، حتّى قال إنّه تعالى ليس بشيء، وأفرط مقاتل في الإثبات حتى جعله مثل خلقه. (1)

____________________

(1) لاحظ: ميزان الاعتدال، 4/173. وراجع تاريخ بغداد، 13/166.

٨٥

الحركات الرجعية

3

9

الكرّاميّة

وهذه الفرقة منسوبة إلى محمد بن كرام السجستاني (المتوفّى عام 255هـ) شيخ الكرامية.

قال الذهبي: ساقط الحديث على بدعته، أكَثَر عن أحمد الجويباري، ومحمد بن تميم السعدي؛ وكانا كذّابين.

وقال ابن حبّان: خذل، حتّى التقط من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها... وجعل الإيمان قولاً بلا معرفة.

وقال ابن حزم: قال ابن كرام: الإيمان قول باللسان، وإن اعتقد الكفر بقلبه، فهو مؤمن. ومن بِدَع الكرّاميّة قولهم في المعبود تعالى إنّه جسم لا كالأجسام، وقد سقت أخبار ابن كرّام في تاريخي الكبير، وله أتباع ومؤيّدون، وقد سجن في نيسابور لأجل بدعته ثمانية أعوام، ثُمَّ أُخرج وسار

٨٦

إلى بيت المقدس، ومات بالشام سنة 255هـ. (1)

إنّ للكرّامية نظريات في موضوعات أُخر، ذكرها البغدادي، وقد بلغت جُرأتهم في باب النبوّة حتّى قال بعضهم: إنّ النبي أخطأ في تبليغ قوله[ تعالى]: ( وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرَى ) ، حتّى قال بعده: (تلك الغرانيق العلى، وان شفاعتها لترتجى). (2)

مع أنّ قصة الغرانيق أُقصوصة ابتدعها قوم من أهل الضلالة، وقد أوضحنا حالها في كتابنا (سيد المرسلين (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم».

ونكتفي بهذا النزر في بيان عقائدهم، وكلّها وليد إقصاء العقل والمنطق عن ساحة العقائد، والاكتفاء بالروايات مع ما فيها من أباطيل وترّهات وضعها الأعداء واختلقتها الأهواء، فهي من أسوأ الحركات الرجعيّة الظاهرة في أواسط القرن الثالث.

____________________

(1) ميزان الاعتدال: 4/21.

(2) الفرق بين الفِرق: 222.

٨٧

الحركات الرّجعيّة

4

10

الظاهرية

وهذا المذهب منسوب إلى داود بن علي الأصفهاني الظاهري (200 - 270هـ).

وقد أسّس مذهباً في الفروع، فالمصدر الأصلي في الفقه عنده هو النصوص، بلا رأي في حكم من أحكام الشرع، فهم يأخذون بالنصوص وحدها، فإذا لم يكن بالنص، أخذوا بالإباحة الأصليّة.

ما هو السبب لظهور هذا المذهب؟

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد يستلزم طرده عن ساحة الفقه بوجه أولى، لأنّ أساسه هو التعبُّد بالنصوص، وعدم الإفتاء بشيء لا يوجد له أصل في الكتاب والسنّة، لكن الجمود على حرفيّة النصوص شيء، والتعبّد بالنصوص وعدم الإفتاء في مورد لا يوجد فيه أصل ودلالة في المصدرين الرئيسيّين شيء آخر،

٨٨

فالظاهرية على الأوّل، والفقهاء على الثاني، ولأجل إيضاح الحال نأتي بمثالين:

1 - إنّ الشكّل الأوّل من الأشكال الأربعة ضروري الإنتاج، من غير فرق بين الأُمور التكوينيّة أو الأحكام الشرعيّة؛ فكما أنّ الحكم بحدوث العالم نتيجة حتمية لقولنا: العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث، فهكذا الحكم بحرمة كلّ مسكر، نتيجة قطعيّة لقولنا: الفقاع مسكر، وكل مسكر حرام، فالفقاع حرام؛ لكنّ الظاهري يقبل المقدّمتين، ولكن لا يفتي بالنتيجة؛ بحجة أنّها غير مذكورة في النصوص.

2 - ما يسمّيه الفقهاء بلحن الخطاب، وإن كان شيئاً غير مذكور في نفس الخطاب، لكنّه من اللوازم البيّنة له، بحيث يتبادر إلى الذّهن من سماعه، فإذا خاطبنا سبحانه بقوله: ( فَلَا تَقُل لَهُمَا أُفٍ ) (1) ، يتوجّه الذهن إلى حرمة ضربهما وشتمهما بطريق أولى، ولكن الفقيه الظاهري يأبى عن الأخذ به بحجّة كونه غير منصوص.

قال سبحانه: ( قُل لِلّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنّتُ الْأَوّلِينَ ) (2) .

فالموضوع للحكم (مغفرة ما سلف عند الانتهاء)؛ وإن كان هو الكافر، لكن الذهن السليم يتبادر إلى فهم شيء آخر، لازم لهذا الحكم بالضرورة، وهو تعميم الحكم إلى المسلم أيضاً بوجه آكد، ولكنّ الظاهري يتركه؛ بحجة أنّه غير مذكور في النص.

____________________

(1) الإسراء: 23.

(2) الأنفال: 38.

٨٩

وهذا النوع من الجمود يجعل النصوص غير كافلة لاستخراج الفروع الكثيرة، وتصبح الشريعة ناقصة من حيث التشريع والتقنين، وغير صالحة لجميع الأجيال والعصور، وفاقدة للمرونة اللازمة الّتي عليها أساس خاتميّة نبوّة نبيّناً محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وكتابه وسنّته.

ثمَّ إنّ الاكتفاء بظاهر الشريعة؛ وأخذ الأحكام من ظواهر النصوص؛ له تفسيران: أحدهما صحيح جداً، والآخر باطل، فإن أُريد منه نفي الظنون؛ الّتي لم يدلّ على صحة الاحتجاج بها دليل، فهو نفس نص الكتاب العزيز، قال سبحانه: ( قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (1) ، فالشيعة الإماميّة، وبفضل النصوص الوافرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) المتّصلة اسنادها إلى الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، استطاعت أن تستخرج أحكام الحوادث والموضوعات الكثيرة منها، وامتنعت عن العمل بالقياس والاستحسان وغيرهما من الأدلّة الظنية؛ الّتي لم يقم الدليل القطعي على صحّة الاحتجاج بها، بل قام الدليل على حرمة العمل على بعضها، كالقياس، وقد ورد في نصوص أئمتهم (عليهم السلام): «إنّ السنّة إذا قيست مُحق الدين» (2) .

وإن أُريد بها لوازم الخطاب؛ أي ما يكون في نظر العقلاء، كالمذكور أخذاً بقولهم: (الكناية أبلغ من التصريح)، ويكون التفكيك بينهما أمراً غير صحيح، فليس ذلك عملاً بغير المنصوص. نعم ليس عملاً بالظاهر الحرفي، ولكنّه عمل بها بما يفهمه المخاطبون بها.

____________________

(1) يونس: 59.

(2) الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.

٩٠

أُفول نجمه:

إنّ هذا المذهب لأجل حرفيته قد أفل نجمه بسرعة.

نعم قد تبعه فقيه آخر باسم ابن حزم (384 - 458هـ)، وأعاد هذا المذهب إلى الساحة، وألّف حوله كتباً ورسائل، وخدمه بالتآليف التالية:

1 - الإحكام في أُصول الأحكام: بيّن فيه أُصول المذهب الظاهري.

2 - النُّبَذ: وهو خلاصة ذلك الكتاب.

3 - المحلّى: وهو كتاب كبير نشر في عشرة أجزاء، جمع أحاديث الأحكام وفقه علماء الأمصار، طبع في بيروت بتحقيق أحمد محمد شاكر، وله آراء شاذة - كبطلان الاجتهاد في استخراج الأحكام الفقهية، وجواز مس المصحف للمجنب، وقاتل الإمام عليّ كان مجتهداً - ذكرناها في موسوعتنا. (1)

وقد ذكرنا هذا المذهب، مع أنّه فقهي؛ لأجل اشتراكه مع ما سبق في الرجعيّة، وإقصاء العقل عن ساحة الاجتهاد الفقهي.

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 3/141 - 146.

٩١

11

المعتزلة

المعتزلة بين المدارس الكلاميّة المختلفة؛ مدرسة فكريّة عقليّة أعطت للعقل القسط الأوفر، ومن المؤسف أنّ هوى العصبية، بل يد الخيانة، لعبت بكثير من مخلّفاتهم الفكريّة، فأطاحت به فأضاعتها بالخرق والتمزيق، فلم يبق فيما بأيدينا من آثارهم إلاّ الشيء القليل، وأكثرها يرجع إلى كتب عبد الجبار المعتزلي (المتوفّى عام 415هـ)، ولأجل ذلك فقد اعتمد في تحرير هذا المذهب غير واحد من الباحثين على كتب خصومهم كالأشاعرة، ومن المعلوم أنّ الاعتماد على كتاب الخصم لا يُورث يقيناً.

وقد اهتمّ المستشرقون في العصور الأخيرة بدراسة مذهب الاعتزال، ولقد أُعجبوا بمنهج الاعتزال في حرّية الإنسان وأفعاله، وصار ذلك سبباً لرجوع المعتزلة إلى الساحة من قبل المفكّرين الإسلاميّين، ولذلك نُشرت في هذه الآونة الأخيرة كتباً حول المعتزلة.

ومؤسّس المذهب هو واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري، نقل الشهرستاني أنّه دخل شخص على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين!، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم تُخرج به

٩٢

عن الملّة، وهم وعيديّة الخوارج، وجماعة يُرجئون أصحاب الكبائر، ويقولون لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأُمّة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟

فتفكّر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب، قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثُمّ قام واعتزل إلى اسطوانة المسجد؛ يقرّر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل، فسمّي هو وأصحابه: معتزلة. (1)

سائر ألقاب المعتزلة:

إنّ للمعتزلة ألقاباً أُخر:

1 - العدليّة: لقولهم بعدل الله سبحانه وحكمته.

2 - الموحّدة: لقولهم لا قديم مع الله، وينفون قدم القرآن.

3 - أهل الحق: لأنّهم يعتبرون أنفسهم أهل الحق.

4 - القدريّة: يُعبَّر عن المعتزلة في الكتب الكلاميّة بالقدريّة، والمعتزلة يطلقونها على خصومهم، وذلك لما رُوي عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «أنّ القدريّة مجوس هذه الأُمّة». فلو قلنا بأنّ القدريّة منسوبة إلى القدر؛ عِدْل القضاء، فتنطبق على

____________________

(1) الملل والنحل: 1/62.

٩٣

خُصَماء المعتزلة؛ القائلين بالقدر السالب للاختيار. ولو قلنا بأنّها منسوبة إلى القدرة؛ أي القائلين بتأثير قدرة الإنسان في فعله واختياره وتمكّنه في إيجاده، فتنطبق - على زعم الخُصَماء - على المعتزلة؛ لقولهم بتأثير قدرة الإنسان في فعله. وقد طال الكلام بين المتكلّمين في تفسير الحديث وذِكْر كلِّ طائفة وجهاً لانطباقه على خصمها. (1)

5 - الثنويّة: ولعلّ وجهه ما يتراءى من بعضهم من نسبة الخير إلى الله والشر إلى العبد.

6 - الوعيدية: لقولهم إنّ الله صادق في وعده، كما هو صادق في وعيده، وإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ بعد التوبة، فلو مات بدونها يكون معذّباً قطعاً ويخلَّد في النار.

7 - المعطّلة: لتعطيل ذاته سبحانه عن الصفات الذاتية، ولكن هذا اللقب أُلصق بالجهميّة، وأمّا المعتزلة فلهم في الصفات مذهبان:

أ - القول بالنيابة، أي خلو الذات عن الصفات، ولكن تنوب الذّات مكان الصفات في الآثار المطلوبة منها، وقد اشتهر قولهم: (خُذ الغايات واترك المبادئ)، وهذا مخالف لكتاب الله والسنّة والعقل. فإنّ النقل يدلّ بوضوح على اتّصافه سبحانه بالصفات الكماليّة، وأمّا العقل، فحدِّث عنه ولا حرج؛ لأنّ الكمال يساوق الوجود، وكلّما كان الوجود أعلى وأشرف، تكون الكمالات فيه آكد.

____________________

(1) كشف المراد: 195، شرح المقاصد للتفتازاني: 2/143.

٩٤

ب - عينيّة الصفات مع الذّات واشتمالها على حقائقها، من دون أن يكون ذات وصفة، بل الذّات بلغت في الكمال إلى درجة صار نفس العلم قدرة.

8 - الجهميّة، وهذا اللّقب منحه أحمد بن حنبل لهم، فكل ما يقول: قالت الجهميّة، أو يصف القائل بأنّه جهميّ؛ يُريد به المعتزلة، لِمَا وجد من موافقتهم الجهميّة في بعض المسائل.

9 - المفنية.

10 - اللّفظيّة.

وهذان اللّقبان ذكرهما المقريزي وقال: إنّهم يوصفون بالمفنية، لما نسب إلى أبي الهذيل من فناء حركات أهل الجنة والنار؛ واللفظية لقولهم: ألفاظ القرآن مخلوقة. (1)

الأُصول الخمسة عند المعتزلة:

اشتهرت المعتزلة بأُصول خمسة، فمن دان بها فهو معتزلي، ومن نقص منها أو زاد عليها فليس منهم، وتلك الأُصول المرتبة حسب أهميتها عبارة عن: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فمن دان بها، ثُمَّ خالف بقية المعتزلة في تفاصيلها، لم يخرج بذلك عنهم.

وإليك تفصيل هذه الأُصول بنحو موجز:

____________________

(1) الخطط المقريزيّة: 4/169.

٩٥

إيعاز إلى الأُصول الخمسة

وقبل كلّ شيء نطرح هذه الأُصول على وجه الإجمال، حتّى يُعلم ماذا يريد منها المعتزلة، ثُمَّ نأخذ بشرحها واحداً بعد احد؛ فنقول:

1 - التوحيد: ويراد منه العلم بأنّ الله واحد، لا يشاركه غيره فيما يستحقُّ من الصفات نفياً وإثباتاً على الحدّ الّذي يستحقّه. والتوحيد عندهم رمز لتنزيهه سبحانه عن شوائب الإمكان ووهم المثليّة وغيرهما ممّا يجب تنزيه ساحته عنه، كالتجسيم والتشبيه وإمكان الرؤية وطروء الحوادث عليه. غير أنّ المهمّ في هذا الأصل؛ هو الوقوف على كيفيّة جريان صفاته عليه سبحانه، ونفي الرؤية، وغيرهما يقع في الدّرجة الثانية من الأهمية في هذا الأصل؛ لأنّ كثيراً منها لم يختلف المسلمون فيه، إلاّ القليل منهم.

2 - العدل: إذا قيل إنّه تعالى عادل، فالمراد أنّ أفعاله كلّها حسنة، وأنّه لا يفعل القبيح، وأنّه لا يَخِلّ بما هو واجب عليه. وعلى ضوء هذا: لا يكذب في خبره، ولا يجور في حكمه، ولا يعذِّب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، ولا يُظهر المعجزة على أيدي الكذّابين، ولا يكلِّف العباد وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، بل يُقْدِرهم على ما كلّفهم، ويعلِّمهم صفة ما كلّفهم، ويدلّهم على ذلك، ويبيّن لهم ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى‏ مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ ) (1) ، وأنّه إذا كلّف المكلّف وأتى بما كلّف على الوجه الّذي كُلِّف، فإنّه يثيبه لا محالة، وأنّه سبحانه إذا آلم وأسقم، فإنّما فعله لصلاحه ومنافعه، وإلاّ كان مخلاًّ بواجب...

3 - الوعد والوعيد: والمراد منه أنّ الله وعد المطيعين بالثواب، وتوعّد

____________________

(1) الأنفال: 42.

٩٦

العصاة بالعقاب، وأنّه يفعل ما وعد به وتوعّد عليه لا محالة. ولا يجوز الخُلف، لأنّه يستلزم الكذب. فإذا أخبر عن الفعل، ثُمَّ تركه، يكون كذباً. ولو أخبر عن العزم، فبما أنّه محال عليه، كان معناه الإخبار عن نفس الفعل، فيكون الخُلف كذباً. وعلى ضوء هذا الأصل، حكموا بتخليد مرتكب الكبائر في النار؛ إذا مات بلا توبة.

4 - المنزلة بين المنزلتين: وتلقّب بمسألة الأسماء والأحكام؛ وهي أنّ صاحب الكبيرة ليس بكافر كما عليه الخوارج، ولا منافق كما عليه الحسن البصري، ولا مؤمن كما عليه بعضهم، بل فاسق لا يحكم عليه بالكفر ولا بالإيمان.

5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والمعروف: كلّ فعل عرف فاعله حسنه أو دلّ عليه، والمنكر: كلّ فعل عرف فاعله قبحه أو دلّ عليه. ولا خلاف بين المسلمين في وجوبهما؛ إنّما الخلاف في أنّه هل يُعلم عقلاً أو لا يُعلم إلاّ سمعاً؟، ذهب أبو عليّ (المتوفّى 303هـ) إلى أنّه يُعلم عقلاً وسمعاً، وأبو هاشم (المتوفّى 321هـ) إلى أنّه يُعلم سمعاً، ولوجوبه شروط تُذكر في محلّها، ومنها أن لا يؤدّي إلى مضرّة في ماله أو نفسه، إلاّ أن يكون في تحمّله لتلك المذلّة إعزاز للدّين.

قال القاضي: وعلى هذا يحمل ما كان من الحسين بن عليّ (عليهما السّلام)؛ لِمَا كان في صبره على ما صبر، إعزاز لدين الله عزّ وجلّ، ولهذا نباهي به سائر الأُمم، فنقول: لم يبق من ولْد الرّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلاّ سبط واحد، فلم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى قتل دون ذلك. (1)

____________________

(1) الأُصول الخمسة: 142، نقلاً عن، بحوث في الملل والنحل: 3/254 - 255.

٩٧

سبب الاقتصار على هذه الأُصول الخمسة:

هناك سؤال يطرح نفسه، وهو:

لماذا اقتصروا على هذه الأُصول، مع أنّ أمر النبوّة والمعاد أولى بأن يُعدَّ من الأُصول؟

وقد ذكروا في وجه ذلك أُموراً لا يُعتمد عليها، والحق أن يقال: إنّ الأُصول الخمسة الّتي يتبنّاها المعتزلة، مؤلّفة من أُمور تعدُّ من أُصول الدين كالتوحيد والعدل على وجه، ومن أُصول كلاميّة أنتجوها من البحث والنقاش، وأقحموها في الأُصول لغاية ردِّ الفرق المخالفة؛ الّتي لا توافقهم في هذه المسائل الكلامية.

وعند ذلك يستنتج القارئ أنّ ما اتّخذته المعتزلة من الأُصول، وجعلته في صدر آرائها، ليست إلاّ آراء كلاميّة لهذه الفرقة، تظاهروا بها للردّ على المجبّرة والمشبّهة والمرجئة والإماميّة وغيرهم من الفرق، على نحو لو لا تلكم الفِرَق لما سمعت من هذه الأُصول ذكراً.

أئمة المعتزلة:

المراد بأئمتهم؛ مشايخهم الكبار؛ الّذين نضج المذهب بأفكارهم وآرائهم، ووصل إلى القمة في الكمال.

نعم، في مقابل أئمة المذهب، أعلامهم الّذين كان لهم دور في تبيين هذا المنهج من دون أن يتركوا أثراً يستحق الذكر في الأُصول الخمسة، وها نحن نذكر من الطائفيتن نماذج:

٩٨

1. واصل بن عطاء (80 - 131هـ):

أبو حذيفة واصل بن عطاء، مؤسّس الاعتزال، المعروف بالغزّال، يقول ابن خلّكان: كان واصل أحد الأعاجيب، وذلك أنّه كان ألثغ، قبيح اللثغة في الرّاء، فكان يُخلِّص كلامه من الرّاء ولا يُفطن لذلك، لاقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه، ففي ذلك يقول أبو الطروق؛ يمدحه بإطالة الخطب واجتنابه الراء على كثرة تردّدها في الكلام، حتّى كأنّها ليست فيه.

عـليم بـإبدال الحروف وقامع

لـكلّ خطيب يغلب الحقَّ باطلُه

وقال الآخر:

ويـجعل البرّ قمحاً في تصرّفه

وخالف الرّاء حتّى احتال للشعر

ولـم يطق مطراً والقول يعجله

فـعاذ بالغيث اشفاقاً من المطر

من آرائه ومصنّفاته:

إنّ واصل هو أوّل من أظهر المنزلة بين المنزلتين؛ لأنّ الناس كانوا في أسماء أهل الكبائر من أهل الصلاة على أقوال: كانت الخوارج تسمّيهم بالكفر والشرك، والمرجئة تسمّيهم بالإيمان، وكان الحسن وأصحابه يسمّونهم بالنفاق.

مؤلّفاته:

ذكر ابن النديم في (الفهرست)، وتبعه ابن خلّكان: إنّ لواصل التصانيف التالية:

٩٩

1 - كتاب أصناف المرجئة.

2 - كتاب التوبة.

3 - كتاب المنزلة المنزلتين.

4 - كتاب خطبه الّتي أخرج منها الرّاء.

5 - كتاب معاني القرآن.

6 - كتاب الخُطب في التوحيد والعدل.

ومن المحتمل أنّه قام بجمع خطب الإمام عليّ (عليه السّلام) في التوحيد والعدل فأفرده تأليفاً.

7 - كتاب ما جرى بينه وبين عمرو بن عبيد.

8 - كتاب السبيل إلى معرفة الحق.

9 - كتاب في الدعوة.

10 - كتاب طبقات أهل العلم والجهل. (1)

2. عمرو بن عبيد (80 - 143هـ):

وهو الإمام الثاني للمعتزلة بعد واصل بن عطاء، وكان من أعضاء حلقة الحسن البصري، مثل واصل، لكن التحق به بعد مناظرة جرت بينهما في مرتكب الكبيرة.

روى ابن المرتضى، عن الجاحظ، أنّه قال: صلَّى عمرو أربعين عاماً صلاة

____________________

(1) فهرست ابن النديم: 203، الفن الأوّل من المقالة الخامسة.

١٠٠

و أن كلّ شي‏ء مملوك له تعالى من غير أن يكون مملوكاً له من جهة و غير مملوك من جهة لا في ذاته و لا في شي‏ء ممّا يتعلّق به.

فله تعالى أن يتصرّف فيما يشاء بما يشاء من غير أن يستعقب ذلك قبحاً أو ذمّاً أو شناعة من عقل أو غيره لأنّ القبح أو الذمّ إنّما يلحقان الفاعل إذا أتى بما لا يملكه من الفعل بحكم عقل أو قانون أو سنّة دائرة و أمّا إذا أتى بما له أن يفعله و هو يملكه فلا يعتريه قبح أو ذمّ أو لائمة البتّة و لا يوجد في المجتمع الإنسانيّ ملك مطلق و لا حرّيّة مطلقة لمناقضته معنى الاجتماع و الاشتراك في المنافع فكلّ ملك فيه مقيّد محدود يذمّ الإنسان لو تعدّاه و يقبّح فعله و يمدح لو اقتصر عليه و يستحسن عمله.

و هذا بخلاف ملكه تعالى فإنّه مطلق غير مقيّد و لا محدود على ما يدلّ عليه إطلاق آيات الملك، و يؤيّده بل يدلّ عليه الآيات الدالّة على قصر الحكم و انحصار التشريع فيه و عموم قضائه لكلّ شي‏ء إذ لو لا سعة ملكه و عموم سلطنته لكلّ شي‏ء لم يستقم حكمه في كلّ شي‏ء و لا قضاؤه عند كلّ واقعة، و الاستدلال على محدوديّة ملكه تعالى بما وراء القبائح العقليّة بأنّا نرى أنّ المالك لعبد إذا عذّب عبده بما لا يجوّزه العقل ذمّ عليه و استقبح العقلاء عمله من قبيل الاستدلال على الشي‏ء بحكم ما يباينه.

على أنّ هذا الملك الّذي نثبته له تعالى و هو ملك تشريعيّ هو كونه تعالى بحيث ينتهي إليه وجود كلّ شي‏ء و إن شئت فقل: كون كلّ شي‏ء بحيث يقوم وجوده به تعالى و هذا هو الملك التكوينيّ الّذي لا يخلو شي‏ء من الأشياء من أن يكون مشمولاً له فمع ذلك كيف يمكن تحقّق الملك التكوينيّ في شي‏ء من غير أن ينبعث منه ملك تشريعيّ و حقّ مجعول اللّهمّ إلّا أن يكون من العناوين العدميّة الّتي لا يتعلّق بها الإيجاد كعناوين المعاصي الّتي في أفعال العباد و هي ترجع إلى مخالفة الأمر و ترك رعاية المصلحة و الحكمة و لا يتحقّق شي‏ء من ذلك فيما يعدّ فعلاً له تعالى فأجد التأمّل فيه.

و يتفرّع على هذا البحث أنّه لا معنى لأن يوجب غيره تعالى عليه شيئاً أو

١٠١

يحرّم أو يجوّز و بالجملة يكلّفه بتكليف تشريعيّ كما يمتنع أن يؤثّر فيه تأثيراً تكوينيّاً لاستلزامه كونه تعالى مملوكاً له واقعاً تحت سلطنته من حيث فعله الّذي تعلّق به التكليف و مآله إلى مملوكيّة ذاته و هو محال.

و ما هو الّذي يتحكّم عليه تعالى؟ و من الّذي يقهره بالتكليف؟ فإن فرض أنّه العقل الحاكم لذاته القاضي لنفسه عاد الكلام إلى مالكيّة العقل لهذا الحكم و القضاء، فالعقل يستند في أحكامه إلى اُمور خارجة من ذاته و من مصالح و مفاسد فليس حاكماً لذاته بل لغيره هف.

و إن فرض أنّه المصلحة المتقرّرة عند العقل فمصلحة كذا مثلاً يقتضي فيه تعالى أن يعدل في حكمه و أن لا يظلم عباده ثمّ العقل بعد النظر فيه يحكم عليه تعالى بوجوب العدل و عدم جواز الظلم أو بحسن العدل و قبح الظلم فهذه المصلحة إمّا أمر اعتباريّ غير حقيقيّ و لا موجود واقعيّ و إنّما جعله العقل جعلاً من غير أن ينتهي إلى حقيقة خارجيّة عاد الأمر إلى كون العقل حاكماً لذاته غير مستند في حكمه إلى أمر خارج عن ذاته، و قد مرّ بطلانه.

و إمّا أمر حقيقيّ موجود في الخارج و لا محالة هي ممكنة معلولة للواجب ينتهي وجوده إليه تعالى و يقوم به كانت فعلاً من أفعاله و رجع الأمر إلى كون بعض أفعاله تعالى بتحقّقه مانعاً عن تحقّق بعض آخر و أنّه دلّ بذلك العقل أن يحكم بوجوب الفعل أو عدم جوازه، و بعبارة اُخرى ينتهي الأمر إلى أنّه تعالى بالنظر إلى نظام الخلقة يختار فعلاً من أفعاله على آخر و هو ما فيه المصلحة على الخالي منها هذا بحسب التكوين ثمّ دلّ العقل أن يستنبط من المصلحة أنّ الفعل الّذي اختاره و هو العدل مثلاً واجب عليه و إن شئت فقل: حكم بلسان العقل بوجوب الفعل عليه و بالجملة لم ينته الإيجاب إلى غيره بل رجع إليه فهو الموجب على نفسه لا غير.

فقد اتّضح بهذا البحث اُمور:

الأوّل: أنّ له ملكاً مطلقاً لا يتقيّد بتصرّف دون تصرّف فله أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، قال تعالى:( فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) البروج: ١٦، و قال:( وَ اللهُ يَحْكُمُ

١٠٢

لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) الرعد: ٤١ غير أنّه تعالى بما كلّمنا في مرحلة الهداية على قدر عقولنا و نصب نفسه في مقام التشريع أوجب على نفسه أشياء و منع نفسه عن أشياء فاستحسن لنفسه أشياء كالعدل و الإحسان، كما استحسنها لنا و استقبح أشياء كالظلم و العدوان، كما استقبحها لنا.

و معنى كونه تعالى مشرّعاً آمراً و ناهياً هو أنّه تعالى قدّر وجودنا في نظام متقن يربطه إلى غايات هي سعادتنا و فيها خير دنيانا و آخرتنا و هي المسمّاة بالمصالح و نظم أسباب وجودنا و جهازات أنفسنا نظماً لا يلائم إلّا مسيراً خاصّاً في الحياة من أفعال و أعمال هي الملائمة لمصالح وجودنا لا غير فأسباب الوجود و الجهازات المجهّزة و الأوضاع و الأحوال الحافّة بنا تدفعنا إلى مصالح وجودنا و مصالح الوجود تدعونا إلى أعمال خاصّة تلائمها و مسير في الحياة تسوقنا إلى كمال الوجود و سعادة الحياة و إن شئت فقل: تندبنا إلى قوانين و سنن في العمل بها و الجري عليها خير الدنيا و الآخرة.

و هذه القوانين الّتي تهتف بها الفطرة و يعلّمها الوحي السماويّ هي الشريعة و إذ هي تنتهي إليه تعالى فالأمر الّذي فيها أمره و النهي الّذي فيها نهيه و كلّ حكم فيها حكمه، و فيها اُمور يرى اتّصاف الفعل بها حسناً على كلّ حال كالعدل فهو يرتضيها لفعله كما يرتضيها لأفعالنا، و اُمور يستقبحها و يستشنعها و يذمّ أفعالاً اتّصفت بها كالظلم فهو لا يرتضيها لفعله كما لا يرتضيها لأفعالنا و هكذا.

فلا ضير في وجوب شي‏ء عليه تعالى وجوباً تشريعيّاً إذا كان هو المشرّع على نفسه، و هذه أحكام اعتباريّة متقرّرة في ظرف الاعتبار العقلي و حقيقتها أنّ من سنّته تعالى التكوينيّة أن يريد و يفعل اُموراً إذا عرضت على العقل عنونها بعنوان العدل، و أن لا يصدر عن ساحته أعمال إذا عرضت على العقل عنونها بعنوان الظلم فافهم ذلك.

الثاني: أنّ هذا الوجوب تشريعيّ و هناك وجوب آخر تكوينيّ يعتمد عليه هذا الوجوب و هو ضرورة ترتّب المعلولات على عللها في النظام العامّ من غير تخلّف المنتزع عنها معنى العدل.

١٠٣

و قد التبس الأمر على كثير من الباحثين فزعموا كون هذا الوجوب تكوينيّاً و قرّروه بأنّ القدرة الواجبيّة مطلقة متساويّة النسبة إلى فعل القبيح و تركه مثلاً لكنّه تعالى لا يفعل القبيح لحكمته البتّة فترك القبيح ضروريّ بالنسبة إلى حكمته و إن كان ممكناً بالنسبة إلى قدرته و هذه الضرورة ضرورة حقيقيّة كضرورة قولنا: الواحد نصف الاثنين بالضرورة غير الوجوب الاعتباريّ يعتبر في الأوامر المولويّة هذا.

و المغالطة فيه بيّنة فإنّ ترك القبيح إذا كان ممكناً بالنسبة إلى القدرة و القدرة عين الذات كان ممكناً بالنسبة إلى الذات و صفة الحكمة حينئذ إن كانت عين الذات كان ترك القبيح ضروريّاً ممكناً معاً بالنسبة إلى الذات و ليس إلّا التناقض، و إن كانت غير الذات فإن كانت أمراً عينيّاً و قد جعلت الترك ضروريّاً للذات بعد ما كان ممكناً لزم تأثير غير الذات الواجبيّة فيها و هو تناقض آخر و قد عدلوا عن القول بالوجوب التشريعيّ إلى القول بالوجوب التكوينيّ فراراً من لزوم حكومة غيره تعالى فيه بالأمر و النهي، و إن كانت أمراً انتزاعيّاً فكونها منتزعة من الذات يؤدّي إلى التناقض الأوّل المذكور، و كونها منتزعة من غيرها إلى التناقض الثاني فإنّ الحكم الحقيقيّ في الاُمور الانتزاعيّة لمنشإ انتزاعها.

و المغالطة إنّما نشأت من أخذ الفعل ضروريّاً بالنسبة إلى الذات بعد انضمام الحكمة إليها فإنّ الذات إن اُخذت علّة تامّة للفعل كانت النسبة هي الضرورة قبل الانضمام و بعدها دون الإمكان و إن اُخذت جزءاً من العلّة التامّة و إنّما تتمّ بانضمام أمر أو اُمور إليها كان الفعل بالنسبة إليها ممكناً لا ضروريّاً و إن كان بالنسبة إلى علّته التامّة المجتمعة من الذات و غيرها ضروريّاً لا ممكناً.

و الثالث: أنّ قولنا: يجب عليه كذا و لا يجوز عليه كذا حكم عقليّ، و العقل في ذلك حاكم قاض لا مدرك آخذ بمعنى أنّ الحكم الّذي في القضيّة فعل قائم بالعقل مجعول له لا أمر قائم بنفسه يحكيه العقل نوعاً من الحكاية كما وقع في لسان بعضهم

١٠٤

قائلين أنّ من شأنه الإدراك دون الحكم.

و ذلك أنّ العقل الّذي كلامنا فيه هو العقل العمليّ الّذي موطن عمله العمل من حيث ينبغي أو لا ينبغي و يجوز أو لا يجوز، و المعاني الّتي هذا شأنها اُمور اعتباريّة لا تحقّق لها في الخارج عن موطن التعقّل و الإدراك فكان هذا الثبوت الإدراكيّ بعينه فعلاً للعقل قائماً به و هو معنى الحكم و القضاء، و أمّا العقل النظريّ الّذي موطن عمله المعاني الحقيقيّة غير الاعتباريّة تصوّراً أو تصديقاً فإنّ لمدركاته ثبوتاً في نفسها مستقلّاً عن العقل فلا يبقى للعقل عند إدراكها إلّا أخذها و حكايتها و هو الإدراك فحسب دون الحكم و القضاء.

١٠٥

( سورة مريم الآيات ٧٣ - ٨٠)

وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ( ٧٣ ) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ( ٧٤ ) قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَٰنُ مَدًّا حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا ( ٧٥ ) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا ( ٧٦ ) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا ( ٧٧ ) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا ( ٧٨ ) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ( ٧٩ ) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ( ٨٠ )

( بيان)

هذا هو الفصل الثاني من كلماتهم المنقولة عنهم، و هو ردّهم الدعوة النبويّة بأنّها لا تنفع في حسن حال المؤمنين بها شيئاً و لو كانت حقّة لجلبت إليهم زهرة الحياة الدنيا الّتي فيها سعادة العيش من أبنية رفيعة و أمتعة نفيسة و جمال و زينة، فالّذي هم عليه من الكفر و قد جلب لهم خير الدنيا خير ممّا عليه المؤمنون و قد غشيهم رثاثة الحال و فقد المال و عسرة العيش، فكفرهم هو الحقّ الّذي ينبغي أن يؤثر دون الإيمان الّذي عليه المؤمنون و قد أجاب الله عن قولهم بقوله:( وَ كَمْ أَهْلَكْنا ) إلخ، و قوله:

١٠٦

( قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ ) إلخ، ثمّ عقّب ذلك ببيان حال بعض من اغترّ بقولهم.

قوله تعالى: ( وَ إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُنا ) إلى آخر الآية، المقام اسم مكان من القيام فهو المسكن، و النديّ هو المجلس و قيل خصوص مجلس المشاورة، و معنى( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا ) أنّهم خاطبوهم فاللّام للتبليغ كما قيل، و قيل: تفيد معنى التعليل أي قالوا لأجل الّذين آمنوا أي لأجل إغوائهم و صرفهم عن الإيمان، و الأوّل أنسب للسياق كما أنّ الأنسب للسياق أن يكون ضمير عليهم راجعاً إلى الناس أعمّ من الكفّار و المؤمنين دون الكفّار فقط حتّى يكون قوله:( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر.

و قوله:( أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا ) أيّ للاستفهام و الفريقان هما الكفّار و المؤمنون، و كان مرادهم أنّ الكفّار هم خير مقاماً و أحسن نديّاً من المؤمنين الّذين كان الغالب عليهم العبيد و الفقراء لكنّهم أوردوه في صورة السؤال و كنّوا عن الفريقين لدعوى أنّ المؤمنين عالمون بذلك يجيبون بذلك لو سئلوا من غير تردّد و ارتياب.

و المعنى: و إذا تتلى على الناس - و هم الفريقان الكفّار و المؤمنون - آياتنا و هي ظاهرات في حجّتها واضحات في دلالتها لا تدع ريباً لمرتاب، قال فريق منهم و هم الّذين كفروا للفريق الآخر و هم الّذين آمنوا: أيّ هذين الفريقين خير من جهة المسكن و أحسن من حيث المجلس - و لا محالة هم الكفّار - يريدون أنّ لازم ذلك أن يكونوا هم سعداء في طريقتهم و ملّتهم إذ لا سعادة وراء التمتّع بأمتعة الحياة الدنيا فالحقّ ما هم عليه.

قوله تعالى: ( وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَ رِءْياً ) القرن: الناس المقترنون في زمن واحد، و الأثاث: متاع البيت، قيل: لا يطلق إلّا على الكثير و لا واحد له من لفظه، و الرّئي بالكسر فالسكون: ما رئي من المناظر، نقل في مجمع البيان، عن بعضهم: أنّه اسم لما ظهر و ليس بالمصدر و إنّما المصدر الرأي و الرؤية يدلّ على ذلك قوله:( يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ) فالرأي: الفعل، و الرئي: المرئي كالطحن

١٠٧

و الطِحن و السَقي و السِقي و الرّمي و الرّمي. انتهى.

و لمّا احتجّ الكفّار على المؤمنين في حقيّة ملّتهم و بطلان الدعوة النبويّة الّتي آمن به المؤمنون بأنّهم خير مقاماً و أحسن نديّاً في الدنيا و قد فاتهم أنّ للإنسان حياة خالدة أبديّة لا منتهى لها و إنّما سعادته في سعادتها و الأيّام القلائل الّتي يعيش فيها في الدنيا لا قدر لها قبال ما لا نهاية له و لا أنّها تغني عنه شيئاً.

على أنّ هذه التمتّعات الدنيويّة لا تحتم له السعادة و لا تقيه من غضب الله إن حلّ به يوماً و ما هو من الظالمين ببعيد فليسوا في أمن من سخط الله و لا طيب في عيش يهدّده الهلاك و لا في نعمة كانت في معرض النقمة و الخيبة.

أشار إلى الجواب عنه بقوله:( وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ ) و الظاهر أنّ الجملة حاليّة و كم خبريّة لا استفهاميّة، و المعنى: أنّهم يتفوّهون بهذه الشبهة الواهية - نحن خير منكم مقاماً و أحسن نديّاً - استخفافاً للمؤمنين و الحال أنّا أهلكنا قروناً كثيرة قبلهم هم أحسن من حيث الأمتعة و المناظر.

و قد نقل سبحانه نظير هذه الشبهة عن فرعون و عقّبه بحديث غرقه و هلاكه، قال:( وَ نادى‏ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ؟ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ، فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ - إلى أن قال -فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلًا لِلْآخِرِينَ ) الزخرف: ٥٦.

قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ) إلى آخر الآية، لفظة كان في قوله:( مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ ) تدلّ على استمرارهم في الضلالة لا مجرّد تحقّق ضلالة مّا، و بذلك يتمّ التهديد بمجازاتهم بالإمداد و الاستدراج الّذي هو إضلال بعد الضلال.

و قوله:( فَلْيَمْدُدْ ) صيغة أمر غائب و يؤل معناه إلى أنّ من الواجب على الرحمن أن يمدّه مدّا، فإنّ أمر المتكلّم مخاطبه أن يأمره بشي‏ء معناه إيجاب المتكلّم ذلك على نفسه.

١٠٨

و المدّ و الإمداد واحد لكن ذكر الراغب في المفردات، أنّ أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب و المدّ في المكروه و المراد أنّ من استقرّت عليه الضلالة و استمرّ هو عليها - و المراد به الكفّار كناية - فقد أوجب الله على نفسه أن يمدّه بما منه ضلالته كالزخارف الدنيويّة في مورد الكلام فينصرف بذلك عن الحقّ حتّى يأتيه أمر الله من عذاب أو ساعة بالمفاجاة و المباهتة فيظهر له الحقّ عند ذلك و لن ينتفع به.

فقوله:( حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَ إِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ ) إلخ، دليل على أنّ هذا المدّ خذلان في صورة إكرام و المراد به أن ينصرف عن الحقّ و اتّباعه بالاشتغال بزهرة الحياة الدنيا الغارّة فلا يظهر له الحقّ إلّا في وقت لا ينتفع به و هو وقت نزول البأس أو قيام الساعة.

كما قال تعالى:( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ) المؤمن: ٨٥، و قال:( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ) الأنعام: ١٥٨.

و في إرجاع ضمير الجمع في قوله:( رَأَوْا ما يُوعَدُونَ ) إلى( مَنْ ) رعاية جانب معناه كما أنّ في إرجاع ضمير الإفراد في قوله:( فَلْيَمْدُدْ لَهُ ) إليه رعاية جانب لفظه.

و قوله:( فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً ) قوبل به قولهم السابق:( أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا ) أمّا مكانهم حين يرون العذاب - و الظاهر أنّ المراد به عذاب الدنيا - فحيث يحلّ بهم عذاب الله و قد كان مكان صناديد قريش المتلو عليهم الآيات حين نزول العذاب، قليب بدر الّتي اُلقيت فيها أجسادهم و أمّا مكانهم يوم يرون الساعة فالنار الخالدة الّتي هي دار البوار، و أمّا ضعف جندهم فلأنّه لا عاصم لهم اليوم من الله و يعود كلّ ما هيّأوه لأنفسهم من عدّة و عدّة سدى لا أثر له.

قوله تعالى: ( وَ يَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ) إلى آخر الآية، الباقيات الصالحات الأعمال الصالحة الّتي تبقى محفوظة عندالله و تستعقب جميل الشكر و عظيم الأجر و قد

١٠٩

وعد الله بذلك في مواضع من كلامه.

و الثواب جزاء العمل قال في المفردات: أصل الثوب رجوع الشي‏ء إلى حالته الاُولى الّتي كان عليها أو إلى الحالة المقدّرة المقصودة بالفكرة - إلى أن قال - و الثواب ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله فيسمّى الجزاء ثواباً تصوّراً أنّه هو - إلى أن قال - و الثواب يقال في الخير و الشرّ لكنّ الأكثر المتعارف في الخير. انتهى و المردّ اسم مكان من الردّ و المراد به الجنّة.

و الآية من تمام البيان في الآية السابقة فإنّ الآية السابقة تبيّن حال أهل الضلالة و تذكر أنّ الله سيمدّهم فهم يعمهون في ضلالتهم منصرفين عن الحقّ معرضين عن الإيمان لاعبين بما عندهم من شواغل الحياة الدنيا حتّى يفاجئهم العذاب أو الساعة و تنكشف لهم حقيقة الأمر من غير أن ينتفعوا به و هؤلاء أحد الفريقين في قولهم:( أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً ) إلخ.

و هذه الآية تبيّن حال الفريق الآخر و هم المؤمنون و أنّ الله سبحانه يمدّ المهتدين منهم و هم المؤمنون بالهدى فيزيدهم هدى على هداهم فيوفّقون للأعمال الباقية الصالحة و هي خير أجراً و خير داراً و هي الجنّة و دائم نعيمها فما عند المؤمنين من أمتعة الحياة و هي النعيم المقيم خير ممّا عند الكافرين من الزخارف الغارّة الفانية.

و في قوله:( عِنْدَ رَبِّكَ ) إشارة إلى أنّ الحكم بخيريّة ما للمؤمنين من ثواب و مردّ حكم إلهيّ لا يخطئ و لا يغلط البتّة.

و هاتان الآيتان - كما ترى - جواب ثان عن حجّة الكفّار أعني قولهم:( أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا ) .

قوله تعالى: ( أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَ قالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً ) كما أنّ سياق الآيات الأربع السابقة يعطي أنّ الحجّة الفاسدة المذكورة قول بعض المشركين ممّن تلي عليه القرآن فقال ما قال دحضاً لكلمة الحقّ و استغواء و استخفافاً للمؤمنين كذلك سياق هذه الآيات الأربع و قد افتتحت بكلمة التعجيب و اشتملت بقول يشبه

١١٠

القول السابق و اختتمت بما يناسبه من الجواب يعطي أنّ بعض الناس ممّن آمن بالنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أو كان في معرض ذلك بعد ما سمع قول الكفّار مال إليهم و لحق بهم قائلا لاُوتينّ مالاً و ولداً يعني في الدنيا باتّباع ملّة الشرك كأنّ في الإيمان بالله شؤماً و في اتّخاذ الآلهة ميمنة. فردّه الله سبحانه بقوله:( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ) إلخ.

و أمّا ما ذكره الأكثر بالبناء على ما ورد من سبب النزول أنّ الجملة قول أحد المتعرّقين في الشرك من قريش خاطب به خبّاب بن الأرت حين طالبه ديناً كان له عليه، و أنّ معنى الجملة لاُوتينّ مالاً و ولداً في الجنّة فاُؤدّي ديني فشي‏ء لا يلائم سياق الآيات إذ من المعلوم أنّ المشركين ما كانوا مذعنين بالبعث أصلاً، فقوله لاُوتينّ مالاً و ولداً إذا بعثت و عند ذلك اُؤدّي ديني لا يحتمل إلّا الاستهزاء و التهكّم و لا معنى لردّ الاستهزاء بالاحتجاج كما هو صريح قوله:( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) إلخ.

و نظير هذا القول في السقوط ما نقل عن أبي مسلم المفسّر أنّ الآية عامّة فيمن له هذه الصفة.

فقوله:( أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا ) مسوق للتعجيب، و كلمة( أَ فَرَأَيْتَ ) كلمة تعجيب و قد فرّعه بفاء التفريع على ما تقدّمه من قولهم:( أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا ) لأنّ كفر هذا القائل و قوله:( لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً ) من سنخ كفرهم و مبنيّ على قولهم للمؤمنين لا خير عند هؤلاء و سعادة الحياة و عزّة الدنيا و نعمتها و لا خير إلّا ذلك عند الكفّار و في ملّتهم.

و من هنا يظهر أنّ لقوله:( وَ قالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً ) نوع ترتب على قوله( كَفَرَ بِآياتِنا ) و أنّه إنّما كفر بآيات الله زاعماً أنّ ذلك طريقة ميمونة مباركة تجلب لسالكها العزّة و القدرة و ترزقه الخير و السعادة في الدنيا و قد أقسم بذلك كما يشهد به لام القسم و نون التأكيد في قوله:( لَأُوتَيَنَّ) .

قوله تعالى: ( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) ردّ سبحانه عليه قوله:( لاُوتينّ مالاً و ولداً بكفري) بأنّه رجم بالغيب لا طريق له إلى العلم فليس

١١١

بمطّلع على الغيب حتّى يعلم بأنّه سيؤتى بكفره ما يأمله و لا بمتّخذ عهداً عند الله حتّى يطمئنّ إليه في ذلك، و قد جيي‏ء بالنفي في صورة الاستفهام الإنكاريّ.

قوله تعالى: ( كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ) كلّا كلمة ردع و زجر و ذيل الآية دليل على أنّه سبحانه يردّ بها ما يتضمّنه قول هذا القائل من ترتّب إيتاء المال و الولد على الكفر بآيات الله و محصّله أنّ الّذي يترتّب على قوله هذا ليس هو إيتاء المال و الولد فإنّ لذلك أسباباً اُخر بل هو مدّ العذاب على كفره و رجمه فهو يطلب بما يقول في الحقيقة عذاباً ممدوداً يتلو بعضه بعضاً لأنّه هو تبعة قوله لا إيتاء المال و الولد و سنكتب قوله و نرتّب عليه أثره الّذي هو مدّ العذاب فالآية نظيرة قوله:( فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ ) العلق: ١٨.

و من هنا يظهر أنّ الأقرب أن يكون المراد من كتابة قوله تثبيته ليترتّب عليه أثره لا كتابته في صحيفة عمله ليحاسب عليه يوم القيامة كما فسّره به أرباب التفسير، على أنّ قوله الآتي:( وَ نَرِثُهُ ما يَقُولُ ) لا يخلو على قولهم من شائبة التكرار من غير نكتة ظاهرة.

قوله تعالى: ( وَ نَرِثُهُ ما يَقُولُ وَ يَأْتِينا فَرْداً ) المراد بوراثة ما يقول أنّه سيموت و يفنى و يترك قوله: لاُوتينّ بكفري مالاً و ولداً، و قد كان خطيئة لازمة له لزوم المال للإنسان محفوظة عندالله كأنّه مال ورثه بعده ففي الكلام استعارة لطيفة.

و قوله:( وَ يَأْتِينا فَرْداً ) أي وحده و ليس معه شي‏ء ممّا كان ينتصر به و يركن إليه بحسب وهمه فمحصّل الآية أنّه سيأتينا وحده و ليس معه إلّا قوله الّذي حفظناه عليه فنحاسبه على ما قال و نمدّ له من العذاب مدّا.

هذا ما يقتضيه البناء على كون قوله في أوّل الآيات( لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً ) ناظراً إلى الإيتاء في الدنيا، و أمّا بناء على كونه ناظراً إلى الإيتاء في الآخرة كما اختاره الأكثر فمعنى الآيات كما فسّروها: تعجب من الّذي كفر بآياتنا و هو عاص بن وائل أو وليد بن المغيرة و قال: اُقسم لاُوتينّ إذا بعثت مالاً و ولداً في الجنّة، أ علم الغيب حتّى يعلم أنّه في الجنّة؟ - و قيل: أ نظر في اللوح المحفوظ - أم اتّخذ

١١٢

عند الرحمن عهداً بقول لا إله إلّا الله حتّى يدخل به الجنّة و قيل: أ قدم عملاً صالحاً كلّا و ليس الأمر كما قال - سنكتب ما يقول بأمر الحفظة أن يثبتوه في صحيفة عمله و نمدّ له من العذاب مدّا و نرثه ما يقول أي ما عنده من المال و الولد بإهلاكنا إيّاه و إبطالنا ملكه و يأتينا أي يأتي الآخرة فرداً ليس عنده شي‏ء من مال و ولد و عدّة و عدد.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى:( أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَ قالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً ) أنّه العاص بن وائل بن هشام القرشيّ ثمّ السهميّ و كان أحد المستهزئين، و كان لخبّاب بن الأرتّ على العاص بن وائل حقّ فأتاه يتقاضاه فقال له العاص: أ لستم تزعمون أنّ في الجنّة الذهب و الفضّة و الحرير؟ قال: بلى. قال: فموعد ما بيني و بينك الجنّة، فو الله لاُوتينّ فيها خيراً ممّا اُوتيت في الدنيا.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و سعيد بن منصور و عبد بن حميد و الترمذيّ و البيهقيّ في الدلائل و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبّان و ابن مردويه عن خبّاب بن الأرت قال: كنت رجلاً قينا و كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال: لا و الله لا أقضيك حتّى تكفر بمحمّد فقلت: لا و الله لا أكفر بمحمّد حتّى تموت ثمّ تبعث. قال: فإنّي إذا متّ ثمّ بعثت جئتني و لي ثمّ مال و ولد فاُعطيك فأنزل الله:( أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا إلى قوله وَ يَأْتِينا فَرْداً ) .

أقول: و روى أيضاً ما يقرب منه عن الطبراني عن خبّاب. و أيضاً عن سعيد بن منصور عن الحسن عن رجل من أصحاب رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و لم يسمّ خبّاباً و أيضاً عن ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عبّاس عن رجال من الصحابة.

و قد تقدّم أنّ الروايات لا تنطبق على سياق الآيات فإنّ الروايات صريحة في أنّ الكلمة إنّما صدرت عن العاص بن وائل على سبيل الاستهزاء و السخريّة على

١١٣

أنّ النقل القطعيّ أيضاً يؤيّد أنّ المشركين لم يكونوا قائلين بالبعث و النشور.

ثمّ الآيات تأخذ في ردّ كلمته بالاحتجاج و لو كانت كلمة استهزاء من غير جدّ لم يكن للاحتجاج عليها معنى إذ الاحتجاج لا يستقيم إلّا على قول جدّيّ و إلّا كان هزلاً فالروايات على صراحتها في كونها كلمة استهزاء لا تنطبق على الآية.

و لو حمل على وجه بعيد على أنّه إنّما قال:( لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً ) على وجه الإلزام و التبكيت لخبّاب من غير أن يعتقده لا على وجه الاستهزاء! لم يكن لذكر الولد مع المال وجه و كفاه أن يقول لاُوتينّ مالاً مع أنّ في بعض هذه الروايات أنّه قال لخبّاب: إنّكم تزعمون أنّكم ترجعون إلى مال و ولد و لم يعهد من مسلمي صدر الإسلام شيوع القول بأنّ في الجنّة توالداً و تناسلاً و لا وقعت في شي‏ء من القرآن إشارة إلى ذلك. هذا أوّلاً.

و لم يكن للقسم و التأكيد البالغ في قوله:( لَأُوتَيَنَّ ) وجه إذ الإلزام و التبكيت لا حاجة فيه إلى تأكيد. و هذا ثانياً.

و لم يكن لإطلاق الإيتاء في قوله( لَأُوتَيَنَّ ) من دون أن يقيّده بالجنّة أو الآخرة دفعاً للبس نكتة ظاهرة. و هذا ثالثاً.

و لم يصلح للردّ عليه و إبطاله إلّا قوله تعالى:( كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ ) إلى آخر الآيتين، و أمّا قوله:( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) فغير وارد عليه البتّة إذ الإلزام و التبكيت لا يتوقّف على العلم بصدق ما يلزم به حتّى يتوقّف عن منشأ علمه بل يجامع غالباً العلم بالكذب و إنّما على التزام الخصم الّذي يراد إلزامه به أو بما يستلزمه. و هذا رابعاً.

و اعلم أنّه ورد في ذيل قوله:( وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ ) الآية أخبار عن النبيّ و أئمّة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة و قد أشرنا إليها في الجزء الثالث عشر من الكتاب في بحث روائيّ في ذيل الآية ٤٦ من سورة الكهف.

١١٤

( سورة مريم الآيات ٨١ - ٩٦)

وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ( ٨١ ) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ( ٨٢ ) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ( ٨٣ ) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ( ٨٤ ) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا ( ٨٥ ) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْدًا ( ٨٦ ) لَّا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا ( ٨٧ ) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ( ٨٨ ) لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ( ٨٩ ) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ( ٩٠ ) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا ( ٩١ ) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ( ٩٢ ) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ( ٩٣ ) لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ( ٩٤ ) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ( ٩٥ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا ( ٩٦ )

( بيان)

هذا هو الفصل الثالث ممّا نقل عنهم و هو شركهم بالله باتّخاذ الآلهة و قولهم:( اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ) سبحانه و الجواب عن ذلك.

١١٥

قوله تعالى: ( وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ) هؤلاء الآلهة هم الملائكة و الجنّ و القدّيسون من الإنس و جبابرة الملوك فإنّ أكثرهم كانوا يرون الملك قداسة سماويّة.

و معنى كونهم لهم عزّا كونهم شفعاء لهم يقرّبونهم إلى الله بالشفاعة فينالون بذلك العزّة في الدنيا ينجرّ إليهم الخير و لا يمسّهم الشرّ، و من فسّر كونهم لهم عزّا بشفاعتهم لهم في الآخرة خفي عليه أنّ المشركين لا يقولون بالبعث.

قوله تعالى: ( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) الضدّ بحسب اللغة المنافي الّذي لا يجتمع مع الشي‏ء، و عن الأخفش أنّ الضدّ يطلق على الواحد و الجمع كالرسول و العدوّ و أنكر ذلك بعضهم و وجّه إطلاق الضدّ في الآية و هو مفرد على الآلهة و هي جمع بأنّها لمّا كانت متّفقة في عداوة هؤلاء و الكفر بعبادتهم كانت في حكم الواحد و صحّ بذلك إطلاق المفرد عليها.

و ظاهر السياق أنّ ضميري( سَيَكْفُرُونَ ) و( يَكُونُونَ ) للآلهة و ضميري( بِعِبادَتِهِمْ ) و( عَلَيْهِمْ ) للمشركين المتّخذين للآلهة و المعنى: سيكفر الآلهة بعبادة هؤلاء المشركين و يكون الآلهة حال كونهم على المشركين لا لهم، ضدّاً لهم يعادونهم و لو كانوا لهم عزّاً لثبتوا على ذلك دائماً و قد وقع ذلك في قوله تعالى:( وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ ) النحل: ٨٦. و أوضح منه قوله:( وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ: ) فاطر: ١٤.

و ربّما احتمل أن يكون بالعكس من ذلك أي سيكفر المشركون بعبادة الآلهة و يكونون على الآلهة ضدّاً كما في قوله:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَ اللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) الأنعام: ٢٣، و يبعده أنّ ظاهر السياق أن يكون( ضِدًّا ) و قد قوبل به( عِزًّا ) في الآية السابقة، وصفاً للآلهة دون المشركين و لازم ذلك أن يكون الآلهة الّذين هم الضدّ هم الكافرين بعبادة المشركين نظراً إلى

١١٦

خصوص ترتّب الضمائر.

على أنّ التعبير المناسب لهذا المعنى أن يقال: سيكفرون بهم على حدّ ما يقال: كفر بالله، و لا يقال: كفر بعبادة الله.

و المراد بكفر الآلهة يوم القيامة بعبادتهم و كونهم عليهم ضدّاً هو ظهور حقيقة الأمر يومئذ فإنّ شأن يوم القيامة ظهور الحقائق فيه لأهل الجمع لا حدوثها و لو لم تكن الآلهة كافرين بعبادتهم في الدنيا و لا عليهم ضدّاً بل بدا لهم ذلك يوم القيامة لم تتمّ حجّة الآية فافهم ذلك، و على هذا المعنى يترتّب قوله:( أَ لَمْ تَرَ ) على قوله:( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ ) إلخ.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) الأزّ و الهزّ بمعنى واحد و هو التحريك بشدّة و إزعاج و المراد تهييج الشياطين إيّاهم إلى الشرّ و الفساد و تحريضهم على اتّباع الباطل و إضلالهم بالتزلزل عن الثبات و الاستقامة على الحقّ.

و لا ضير في نسبة إرسال الشياطين إليه تعالى بعد ما كان على طريق المجازاة فإنّهم كفروا بالحقّ فجازاهم الله بزيادة الكفر و الضلال و يشهد بذلك قوله:( عَلَى الْكافِرِينَ ) و لو كان إضلالاً ابتدائيّاً لقيل:( عليهم ) من غير أن يوضع الظاهر موضع المضمر.

و الآية و هي مصدرة بقوله:( أَ لَمْ تَرَ ) المفيد معنى الاستشهاد مسوقة لتأييد ما ذكر في الآية السابقة من كون آلهتهم عليهم ضدّاً، فإنّ تهييج الشياطين إيّاهم للشرّ و الفساد و اتّباع الباطل معاداة و ضدّيّة و الشياطين و هم من الجنّ من جملة آلهتهم و لو لم يكن هؤلاء الآلهة عليهم ضدّاً ما دعوهم إلى ما فيه هلاكهم و شقاؤهم.

فالآية بمنزلة أن يقال: هؤلاء الآلهة الّذين يحسبونهم لأنفسهم عزّاً هم عليهم ضدّ و تصديق ذلك أنّ الشياطين و هم من آلهتهم يحرّكونهم بإزعاج نحو ما فيه شقاؤهم و ليسوا مع ذلك مطلقي العنان بل إنّما هو بإذن من الله يسمّى إرسالاً و على هذا فالآية متّصلة بسابقتها و هو ظاهر.

١١٧

و جعل صاحب روح المعاني، هذه الآية مترتّبة على مجموع الآيات من قوله:( وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ) إلى قوله:( وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) و متّصلة به و أطنب في بيان كيفيّة الاتّصال بما لا يجدي نفعاً و أفسد بذلك سياق الآيات و اتّصال ما بعد هذه الآية بما قبلها.

قوله تعالى: ( فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ) العدّ هو الإحصاء و العدّ يفني المعدود و ينفده و بهذه العناية قصد به إنفاد أعمارهم و الانتهاء إلى آخر أنفاسهم كأنّ أنفاسهم الممدّة لأعمارهم مذخورة بعددها عند الله فينفدها بإرسالها واحداً بعد آخر حتّى تنتهي و هو اليوم الموعود عليهم.

و إذ كان مدّة بقاء الإنسان هي مدّة بلائه و امتحانه كما ينبئ عنه قوله:( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) الكهف: ٧ كان العدّ بالحقيقة عدّاً للأعمال المثبتة في صحيفة العمر، ليتمّ بذلك بنية الحياة الاُخرويّة الخالدة و يستقصي للإنسان ما يلتئم به عيشه هناك من نعم أو نقم فكما أنّ مكث الجنين في الرحم مدّة يتمّ به خلقه جسمه كذلك مكث الإنسان في الدنيا لأن يتمّ به خلقة نفسه و أن يعدّ الله ما قدّر له من العطيّة و يستقصيه.

و على هذا فلا ينبغي للإنسان أن يستعجل الموت لكافر طالح لأنّ مدّة بقائه مدّة عدّ سيّئاته ليحاسب عليها و يعذّب بها و لا لمؤمن صالح لأنّ مدّة بقائه مدّة عدّ حسناته ليثاب بها و يتنعّم و الآية لا تقيّد العدّ و إن فهم من ظاهرها في بادئ النظر عدّ الأنفاس أو الأيّام.

و كيف كان فقوله:( فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ) تفريع على ما تقدّم، و قوله:( إِنَّما نَعُدُّ ) تعليل له و هو في الحقيقة علّة التأخير و محصّل المعنى إذ كان هؤلاء لا ينتفعون باتّخاذ الآلهة و كانوا هم و آلهتهم منتهين إلينا غير خارجين من سلطاننا و لا مسيرهم في طريقهم بغير إذننا فلا تعجل عليهم بالقبض أو بالقضاء و لا يضيق صدرك عن تأخير ذلك إنّما نعدّ لهم أنفاسهم أو أعمالهم عدّا.

قوله تعالى: ( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً ) الوفد هم القوم

١١٨

الواردون لزيارة أو استنجاز حاجة أو نحو ذلك و لا يسمّون وفداً إلّا إذا كانوا ركبانا و هو جمع واحده وافد.

و ربّما استفيد من مقابلة قوله في هذه الآية( إِلَى الرَّحْمنِ ) قوله في الآية التالية:( إِلى‏ جَهَنَّمَ ) أنّ المراد بحشرهم إلى الرحمن حشرهم إلى الجنّة و إنّما سمّي حشراً إلى الرحمن لأنّ الجنّة مقام قربه تعالى فالحشر إليها حشر إليه. و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى‏ جَهَنَّمَ وِرْداً ) فسّر الورد بالعطاش و كأنّه مأخوذ من ورود الماء أي قصده ليشرب و لا يكون ذلك إلّا عن عطش فجعل بذلك الورد كناية عن العطاش، و في تعليق السوق إلى جهنّم بوصف الاجرام إشعار بالعليّة و نظيره تعليق الحشر إلى الرحمن في الآية السابقة بوصف التقوى. و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) و هذا جواب ثان عن اتّخاذهم الآلهة للشفاعة و هو أن ليس كلّ من يهوى الإنسان شفاعته فاتّخذه إلها ليشفع له يكون شفيعاً بل إنّما يملك الشفاعة بعهد من الله و لا عهد إلّا لآحاد من مقرّبي حضرته، قال تعالى:( وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف: ٨٦.

و قيل: المراد إنّ المشفّع لهم لا يملكون الشفاعة إلّا من اتّخذ عند الرحمن عهداً و العهد هو الإيمان بالله و التصديق بالنبوّة، و قيل: وعده تعالى له بالشفاعة كما في الأنبياء و الأئمّة و المؤمنين و الملائكة على ما في الأخبار، و قيل: هو شهادة أن لا إله إلّا الله و أن يتبرّأ من الحول و القوّة و أن لا يرجو إلّا الله، و الوجه الأوّل هو الأوجه و هو بالسياق أنسب.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ) من قول الوثنيّين و بعض خاصّتهم، و إن قال ببنوّة الآلهة أو بعضهم لله سبحانه تشريفاً أو تجليلاً لكن عامّتهم و بعض خاصّتهم - في مقام التعليم - قال بذلك تحقيقاً بمعنى الاشتقاق من حقيقة اللاهوت

١١٩

و اشتمال الولد على جوهرة والده، و هذا هو المراد بالآية و الدليل عليه التعبير بالولد دون الابن، و كذا ما في قوله:( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلى تمام ثلاث آيات من الاحتجاج على نفيه.

قوله تعالى: ( لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ) إلى تمام ثلاث آيات، الإدّ بكسر الهمزة: الشي‏ء المنكر الفظيع، و التفطّر الانشقاق، و الخرور السقوط، و الهدّ الهدم.

و الآيات في مقام إعظام الذنب و إكبار تبعته بتمثيله بالمحسوس يقول: لقد أتيتم بقولكم هذا أمراً منكراً فظيعاً تكاد السماوات يتفطّرن و ينشققن منه و تنشقّ الأرض و تسقط الجبال على السهل سقوط انهدام إن دعوا للرحمن ولداً.

قوله تعالى: ( وَ ما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ) إلى تمام أربع آيات. المراد بإتيان كلّ منهم عبداً له توجّه الكلّ إليه و مثوله بين يديه في صفة المملوكيّة المحضة فكلّ منهم مملوك له لا يملك لنفسه نفعاً و لا ضرّاً و لا موتاً و لا حياة و لا نشوراً و ذلك أمر بالفعل ملازم له ما دام موجوداً، و لذا لم يقيّد الإتيان في الآية بالقيامة بخلاف ما في الآية الرابعة.

و المراد بإحصائهم و عدّهم تثبيت العبوديّة لهم فإنّ العبيد إنّما تتعيّن لهم أرزاقهم و تتبيّن وظائفهم و الاُمور الّتي يستعملون فيها بعد الإحصاء و عدّهم و ثبتهم في ديوان العبيد و به تسجّل عليهم العبوديّة.

و المراد بإتيانه له يوم القيامة فرداً إتيانه يومئذ صفر الكفّ لا يملك شيئاً ممّا كان يملكه بحسب ظاهر النظر في الدنيا و كان يقال: إنّ له حولاً و قوّة و مالاً و ولداً و أنصاراً و وسائل و أسباباً إلى غير ذلك فيظهر يومئذ إذ تتقطّع بهم الأسباب أنّه فرد ليس معه شي‏ء يملكه و أنّه كان عبداً بحقيقة معنى العبوديّة لم يملك قطّ و لن يملك أبداً فشأن يوم القيامة ظهور الحقائق فيه.

و يظهر بما تقدّم أنّ الّذي تتضمّنه الآيات من الحجّة على نفي الولد حجة واحدة و محصّلها أنّ كلّ من في السماوات و الأرض عبدلله مطيع له في عبوديّته ليس

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459