الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  17%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96773 / تحميل: 5842
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

و أن كلّ شي‏ء مملوك له تعالى من غير أن يكون مملوكاً له من جهة و غير مملوك من جهة لا في ذاته و لا في شي‏ء ممّا يتعلّق به.

فله تعالى أن يتصرّف فيما يشاء بما يشاء من غير أن يستعقب ذلك قبحاً أو ذمّاً أو شناعة من عقل أو غيره لأنّ القبح أو الذمّ إنّما يلحقان الفاعل إذا أتى بما لا يملكه من الفعل بحكم عقل أو قانون أو سنّة دائرة و أمّا إذا أتى بما له أن يفعله و هو يملكه فلا يعتريه قبح أو ذمّ أو لائمة البتّة و لا يوجد في المجتمع الإنسانيّ ملك مطلق و لا حرّيّة مطلقة لمناقضته معنى الاجتماع و الاشتراك في المنافع فكلّ ملك فيه مقيّد محدود يذمّ الإنسان لو تعدّاه و يقبّح فعله و يمدح لو اقتصر عليه و يستحسن عمله.

و هذا بخلاف ملكه تعالى فإنّه مطلق غير مقيّد و لا محدود على ما يدلّ عليه إطلاق آيات الملك، و يؤيّده بل يدلّ عليه الآيات الدالّة على قصر الحكم و انحصار التشريع فيه و عموم قضائه لكلّ شي‏ء إذ لو لا سعة ملكه و عموم سلطنته لكلّ شي‏ء لم يستقم حكمه في كلّ شي‏ء و لا قضاؤه عند كلّ واقعة، و الاستدلال على محدوديّة ملكه تعالى بما وراء القبائح العقليّة بأنّا نرى أنّ المالك لعبد إذا عذّب عبده بما لا يجوّزه العقل ذمّ عليه و استقبح العقلاء عمله من قبيل الاستدلال على الشي‏ء بحكم ما يباينه.

على أنّ هذا الملك الّذي نثبته له تعالى و هو ملك تشريعيّ هو كونه تعالى بحيث ينتهي إليه وجود كلّ شي‏ء و إن شئت فقل: كون كلّ شي‏ء بحيث يقوم وجوده به تعالى و هذا هو الملك التكوينيّ الّذي لا يخلو شي‏ء من الأشياء من أن يكون مشمولاً له فمع ذلك كيف يمكن تحقّق الملك التكوينيّ في شي‏ء من غير أن ينبعث منه ملك تشريعيّ و حقّ مجعول اللّهمّ إلّا أن يكون من العناوين العدميّة الّتي لا يتعلّق بها الإيجاد كعناوين المعاصي الّتي في أفعال العباد و هي ترجع إلى مخالفة الأمر و ترك رعاية المصلحة و الحكمة و لا يتحقّق شي‏ء من ذلك فيما يعدّ فعلاً له تعالى فأجد التأمّل فيه.

و يتفرّع على هذا البحث أنّه لا معنى لأن يوجب غيره تعالى عليه شيئاً أو

١٠١

يحرّم أو يجوّز و بالجملة يكلّفه بتكليف تشريعيّ كما يمتنع أن يؤثّر فيه تأثيراً تكوينيّاً لاستلزامه كونه تعالى مملوكاً له واقعاً تحت سلطنته من حيث فعله الّذي تعلّق به التكليف و مآله إلى مملوكيّة ذاته و هو محال.

و ما هو الّذي يتحكّم عليه تعالى؟ و من الّذي يقهره بالتكليف؟ فإن فرض أنّه العقل الحاكم لذاته القاضي لنفسه عاد الكلام إلى مالكيّة العقل لهذا الحكم و القضاء، فالعقل يستند في أحكامه إلى اُمور خارجة من ذاته و من مصالح و مفاسد فليس حاكماً لذاته بل لغيره هف.

و إن فرض أنّه المصلحة المتقرّرة عند العقل فمصلحة كذا مثلاً يقتضي فيه تعالى أن يعدل في حكمه و أن لا يظلم عباده ثمّ العقل بعد النظر فيه يحكم عليه تعالى بوجوب العدل و عدم جواز الظلم أو بحسن العدل و قبح الظلم فهذه المصلحة إمّا أمر اعتباريّ غير حقيقيّ و لا موجود واقعيّ و إنّما جعله العقل جعلاً من غير أن ينتهي إلى حقيقة خارجيّة عاد الأمر إلى كون العقل حاكماً لذاته غير مستند في حكمه إلى أمر خارج عن ذاته، و قد مرّ بطلانه.

و إمّا أمر حقيقيّ موجود في الخارج و لا محالة هي ممكنة معلولة للواجب ينتهي وجوده إليه تعالى و يقوم به كانت فعلاً من أفعاله و رجع الأمر إلى كون بعض أفعاله تعالى بتحقّقه مانعاً عن تحقّق بعض آخر و أنّه دلّ بذلك العقل أن يحكم بوجوب الفعل أو عدم جوازه، و بعبارة اُخرى ينتهي الأمر إلى أنّه تعالى بالنظر إلى نظام الخلقة يختار فعلاً من أفعاله على آخر و هو ما فيه المصلحة على الخالي منها هذا بحسب التكوين ثمّ دلّ العقل أن يستنبط من المصلحة أنّ الفعل الّذي اختاره و هو العدل مثلاً واجب عليه و إن شئت فقل: حكم بلسان العقل بوجوب الفعل عليه و بالجملة لم ينته الإيجاب إلى غيره بل رجع إليه فهو الموجب على نفسه لا غير.

فقد اتّضح بهذا البحث اُمور:

الأوّل: أنّ له ملكاً مطلقاً لا يتقيّد بتصرّف دون تصرّف فله أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، قال تعالى:( فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) البروج: ١٦، و قال:( وَ اللهُ يَحْكُمُ

١٠٢

لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) الرعد: ٤١ غير أنّه تعالى بما كلّمنا في مرحلة الهداية على قدر عقولنا و نصب نفسه في مقام التشريع أوجب على نفسه أشياء و منع نفسه عن أشياء فاستحسن لنفسه أشياء كالعدل و الإحسان، كما استحسنها لنا و استقبح أشياء كالظلم و العدوان، كما استقبحها لنا.

و معنى كونه تعالى مشرّعاً آمراً و ناهياً هو أنّه تعالى قدّر وجودنا في نظام متقن يربطه إلى غايات هي سعادتنا و فيها خير دنيانا و آخرتنا و هي المسمّاة بالمصالح و نظم أسباب وجودنا و جهازات أنفسنا نظماً لا يلائم إلّا مسيراً خاصّاً في الحياة من أفعال و أعمال هي الملائمة لمصالح وجودنا لا غير فأسباب الوجود و الجهازات المجهّزة و الأوضاع و الأحوال الحافّة بنا تدفعنا إلى مصالح وجودنا و مصالح الوجود تدعونا إلى أعمال خاصّة تلائمها و مسير في الحياة تسوقنا إلى كمال الوجود و سعادة الحياة و إن شئت فقل: تندبنا إلى قوانين و سنن في العمل بها و الجري عليها خير الدنيا و الآخرة.

و هذه القوانين الّتي تهتف بها الفطرة و يعلّمها الوحي السماويّ هي الشريعة و إذ هي تنتهي إليه تعالى فالأمر الّذي فيها أمره و النهي الّذي فيها نهيه و كلّ حكم فيها حكمه، و فيها اُمور يرى اتّصاف الفعل بها حسناً على كلّ حال كالعدل فهو يرتضيها لفعله كما يرتضيها لأفعالنا، و اُمور يستقبحها و يستشنعها و يذمّ أفعالاً اتّصفت بها كالظلم فهو لا يرتضيها لفعله كما لا يرتضيها لأفعالنا و هكذا.

فلا ضير في وجوب شي‏ء عليه تعالى وجوباً تشريعيّاً إذا كان هو المشرّع على نفسه، و هذه أحكام اعتباريّة متقرّرة في ظرف الاعتبار العقلي و حقيقتها أنّ من سنّته تعالى التكوينيّة أن يريد و يفعل اُموراً إذا عرضت على العقل عنونها بعنوان العدل، و أن لا يصدر عن ساحته أعمال إذا عرضت على العقل عنونها بعنوان الظلم فافهم ذلك.

الثاني: أنّ هذا الوجوب تشريعيّ و هناك وجوب آخر تكوينيّ يعتمد عليه هذا الوجوب و هو ضرورة ترتّب المعلولات على عللها في النظام العامّ من غير تخلّف المنتزع عنها معنى العدل.

١٠٣

و قد التبس الأمر على كثير من الباحثين فزعموا كون هذا الوجوب تكوينيّاً و قرّروه بأنّ القدرة الواجبيّة مطلقة متساويّة النسبة إلى فعل القبيح و تركه مثلاً لكنّه تعالى لا يفعل القبيح لحكمته البتّة فترك القبيح ضروريّ بالنسبة إلى حكمته و إن كان ممكناً بالنسبة إلى قدرته و هذه الضرورة ضرورة حقيقيّة كضرورة قولنا: الواحد نصف الاثنين بالضرورة غير الوجوب الاعتباريّ يعتبر في الأوامر المولويّة هذا.

و المغالطة فيه بيّنة فإنّ ترك القبيح إذا كان ممكناً بالنسبة إلى القدرة و القدرة عين الذات كان ممكناً بالنسبة إلى الذات و صفة الحكمة حينئذ إن كانت عين الذات كان ترك القبيح ضروريّاً ممكناً معاً بالنسبة إلى الذات و ليس إلّا التناقض، و إن كانت غير الذات فإن كانت أمراً عينيّاً و قد جعلت الترك ضروريّاً للذات بعد ما كان ممكناً لزم تأثير غير الذات الواجبيّة فيها و هو تناقض آخر و قد عدلوا عن القول بالوجوب التشريعيّ إلى القول بالوجوب التكوينيّ فراراً من لزوم حكومة غيره تعالى فيه بالأمر و النهي، و إن كانت أمراً انتزاعيّاً فكونها منتزعة من الذات يؤدّي إلى التناقض الأوّل المذكور، و كونها منتزعة من غيرها إلى التناقض الثاني فإنّ الحكم الحقيقيّ في الاُمور الانتزاعيّة لمنشإ انتزاعها.

و المغالطة إنّما نشأت من أخذ الفعل ضروريّاً بالنسبة إلى الذات بعد انضمام الحكمة إليها فإنّ الذات إن اُخذت علّة تامّة للفعل كانت النسبة هي الضرورة قبل الانضمام و بعدها دون الإمكان و إن اُخذت جزءاً من العلّة التامّة و إنّما تتمّ بانضمام أمر أو اُمور إليها كان الفعل بالنسبة إليها ممكناً لا ضروريّاً و إن كان بالنسبة إلى علّته التامّة المجتمعة من الذات و غيرها ضروريّاً لا ممكناً.

و الثالث: أنّ قولنا: يجب عليه كذا و لا يجوز عليه كذا حكم عقليّ، و العقل في ذلك حاكم قاض لا مدرك آخذ بمعنى أنّ الحكم الّذي في القضيّة فعل قائم بالعقل مجعول له لا أمر قائم بنفسه يحكيه العقل نوعاً من الحكاية كما وقع في لسان بعضهم

١٠٤

قائلين أنّ من شأنه الإدراك دون الحكم.

و ذلك أنّ العقل الّذي كلامنا فيه هو العقل العمليّ الّذي موطن عمله العمل من حيث ينبغي أو لا ينبغي و يجوز أو لا يجوز، و المعاني الّتي هذا شأنها اُمور اعتباريّة لا تحقّق لها في الخارج عن موطن التعقّل و الإدراك فكان هذا الثبوت الإدراكيّ بعينه فعلاً للعقل قائماً به و هو معنى الحكم و القضاء، و أمّا العقل النظريّ الّذي موطن عمله المعاني الحقيقيّة غير الاعتباريّة تصوّراً أو تصديقاً فإنّ لمدركاته ثبوتاً في نفسها مستقلّاً عن العقل فلا يبقى للعقل عند إدراكها إلّا أخذها و حكايتها و هو الإدراك فحسب دون الحكم و القضاء.

١٠٥

( سورة مريم الآيات ٧٣ - ٨٠)

وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ( ٧٣ ) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ( ٧٤ ) قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَٰنُ مَدًّا حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا ( ٧٥ ) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا ( ٧٦ ) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا ( ٧٧ ) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا ( ٧٨ ) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ( ٧٩ ) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ( ٨٠ )

( بيان)

هذا هو الفصل الثاني من كلماتهم المنقولة عنهم، و هو ردّهم الدعوة النبويّة بأنّها لا تنفع في حسن حال المؤمنين بها شيئاً و لو كانت حقّة لجلبت إليهم زهرة الحياة الدنيا الّتي فيها سعادة العيش من أبنية رفيعة و أمتعة نفيسة و جمال و زينة، فالّذي هم عليه من الكفر و قد جلب لهم خير الدنيا خير ممّا عليه المؤمنون و قد غشيهم رثاثة الحال و فقد المال و عسرة العيش، فكفرهم هو الحقّ الّذي ينبغي أن يؤثر دون الإيمان الّذي عليه المؤمنون و قد أجاب الله عن قولهم بقوله:( وَ كَمْ أَهْلَكْنا ) إلخ، و قوله:

١٠٦

( قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ ) إلخ، ثمّ عقّب ذلك ببيان حال بعض من اغترّ بقولهم.

قوله تعالى: ( وَ إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُنا ) إلى آخر الآية، المقام اسم مكان من القيام فهو المسكن، و النديّ هو المجلس و قيل خصوص مجلس المشاورة، و معنى( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا ) أنّهم خاطبوهم فاللّام للتبليغ كما قيل، و قيل: تفيد معنى التعليل أي قالوا لأجل الّذين آمنوا أي لأجل إغوائهم و صرفهم عن الإيمان، و الأوّل أنسب للسياق كما أنّ الأنسب للسياق أن يكون ضمير عليهم راجعاً إلى الناس أعمّ من الكفّار و المؤمنين دون الكفّار فقط حتّى يكون قوله:( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر.

و قوله:( أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا ) أيّ للاستفهام و الفريقان هما الكفّار و المؤمنون، و كان مرادهم أنّ الكفّار هم خير مقاماً و أحسن نديّاً من المؤمنين الّذين كان الغالب عليهم العبيد و الفقراء لكنّهم أوردوه في صورة السؤال و كنّوا عن الفريقين لدعوى أنّ المؤمنين عالمون بذلك يجيبون بذلك لو سئلوا من غير تردّد و ارتياب.

و المعنى: و إذا تتلى على الناس - و هم الفريقان الكفّار و المؤمنون - آياتنا و هي ظاهرات في حجّتها واضحات في دلالتها لا تدع ريباً لمرتاب، قال فريق منهم و هم الّذين كفروا للفريق الآخر و هم الّذين آمنوا: أيّ هذين الفريقين خير من جهة المسكن و أحسن من حيث المجلس - و لا محالة هم الكفّار - يريدون أنّ لازم ذلك أن يكونوا هم سعداء في طريقتهم و ملّتهم إذ لا سعادة وراء التمتّع بأمتعة الحياة الدنيا فالحقّ ما هم عليه.

قوله تعالى: ( وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَ رِءْياً ) القرن: الناس المقترنون في زمن واحد، و الأثاث: متاع البيت، قيل: لا يطلق إلّا على الكثير و لا واحد له من لفظه، و الرّئي بالكسر فالسكون: ما رئي من المناظر، نقل في مجمع البيان، عن بعضهم: أنّه اسم لما ظهر و ليس بالمصدر و إنّما المصدر الرأي و الرؤية يدلّ على ذلك قوله:( يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ) فالرأي: الفعل، و الرئي: المرئي كالطحن

١٠٧

و الطِحن و السَقي و السِقي و الرّمي و الرّمي. انتهى.

و لمّا احتجّ الكفّار على المؤمنين في حقيّة ملّتهم و بطلان الدعوة النبويّة الّتي آمن به المؤمنون بأنّهم خير مقاماً و أحسن نديّاً في الدنيا و قد فاتهم أنّ للإنسان حياة خالدة أبديّة لا منتهى لها و إنّما سعادته في سعادتها و الأيّام القلائل الّتي يعيش فيها في الدنيا لا قدر لها قبال ما لا نهاية له و لا أنّها تغني عنه شيئاً.

على أنّ هذه التمتّعات الدنيويّة لا تحتم له السعادة و لا تقيه من غضب الله إن حلّ به يوماً و ما هو من الظالمين ببعيد فليسوا في أمن من سخط الله و لا طيب في عيش يهدّده الهلاك و لا في نعمة كانت في معرض النقمة و الخيبة.

أشار إلى الجواب عنه بقوله:( وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ ) و الظاهر أنّ الجملة حاليّة و كم خبريّة لا استفهاميّة، و المعنى: أنّهم يتفوّهون بهذه الشبهة الواهية - نحن خير منكم مقاماً و أحسن نديّاً - استخفافاً للمؤمنين و الحال أنّا أهلكنا قروناً كثيرة قبلهم هم أحسن من حيث الأمتعة و المناظر.

و قد نقل سبحانه نظير هذه الشبهة عن فرعون و عقّبه بحديث غرقه و هلاكه، قال:( وَ نادى‏ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ؟ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ، فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ - إلى أن قال -فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلًا لِلْآخِرِينَ ) الزخرف: ٥٦.

قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ) إلى آخر الآية، لفظة كان في قوله:( مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ ) تدلّ على استمرارهم في الضلالة لا مجرّد تحقّق ضلالة مّا، و بذلك يتمّ التهديد بمجازاتهم بالإمداد و الاستدراج الّذي هو إضلال بعد الضلال.

و قوله:( فَلْيَمْدُدْ ) صيغة أمر غائب و يؤل معناه إلى أنّ من الواجب على الرحمن أن يمدّه مدّا، فإنّ أمر المتكلّم مخاطبه أن يأمره بشي‏ء معناه إيجاب المتكلّم ذلك على نفسه.

١٠٨

و المدّ و الإمداد واحد لكن ذكر الراغب في المفردات، أنّ أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب و المدّ في المكروه و المراد أنّ من استقرّت عليه الضلالة و استمرّ هو عليها - و المراد به الكفّار كناية - فقد أوجب الله على نفسه أن يمدّه بما منه ضلالته كالزخارف الدنيويّة في مورد الكلام فينصرف بذلك عن الحقّ حتّى يأتيه أمر الله من عذاب أو ساعة بالمفاجاة و المباهتة فيظهر له الحقّ عند ذلك و لن ينتفع به.

فقوله:( حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَ إِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ ) إلخ، دليل على أنّ هذا المدّ خذلان في صورة إكرام و المراد به أن ينصرف عن الحقّ و اتّباعه بالاشتغال بزهرة الحياة الدنيا الغارّة فلا يظهر له الحقّ إلّا في وقت لا ينتفع به و هو وقت نزول البأس أو قيام الساعة.

كما قال تعالى:( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ) المؤمن: ٨٥، و قال:( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ) الأنعام: ١٥٨.

و في إرجاع ضمير الجمع في قوله:( رَأَوْا ما يُوعَدُونَ ) إلى( مَنْ ) رعاية جانب معناه كما أنّ في إرجاع ضمير الإفراد في قوله:( فَلْيَمْدُدْ لَهُ ) إليه رعاية جانب لفظه.

و قوله:( فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً ) قوبل به قولهم السابق:( أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا ) أمّا مكانهم حين يرون العذاب - و الظاهر أنّ المراد به عذاب الدنيا - فحيث يحلّ بهم عذاب الله و قد كان مكان صناديد قريش المتلو عليهم الآيات حين نزول العذاب، قليب بدر الّتي اُلقيت فيها أجسادهم و أمّا مكانهم يوم يرون الساعة فالنار الخالدة الّتي هي دار البوار، و أمّا ضعف جندهم فلأنّه لا عاصم لهم اليوم من الله و يعود كلّ ما هيّأوه لأنفسهم من عدّة و عدّة سدى لا أثر له.

قوله تعالى: ( وَ يَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ) إلى آخر الآية، الباقيات الصالحات الأعمال الصالحة الّتي تبقى محفوظة عندالله و تستعقب جميل الشكر و عظيم الأجر و قد

١٠٩

وعد الله بذلك في مواضع من كلامه.

و الثواب جزاء العمل قال في المفردات: أصل الثوب رجوع الشي‏ء إلى حالته الاُولى الّتي كان عليها أو إلى الحالة المقدّرة المقصودة بالفكرة - إلى أن قال - و الثواب ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله فيسمّى الجزاء ثواباً تصوّراً أنّه هو - إلى أن قال - و الثواب يقال في الخير و الشرّ لكنّ الأكثر المتعارف في الخير. انتهى و المردّ اسم مكان من الردّ و المراد به الجنّة.

و الآية من تمام البيان في الآية السابقة فإنّ الآية السابقة تبيّن حال أهل الضلالة و تذكر أنّ الله سيمدّهم فهم يعمهون في ضلالتهم منصرفين عن الحقّ معرضين عن الإيمان لاعبين بما عندهم من شواغل الحياة الدنيا حتّى يفاجئهم العذاب أو الساعة و تنكشف لهم حقيقة الأمر من غير أن ينتفعوا به و هؤلاء أحد الفريقين في قولهم:( أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً ) إلخ.

و هذه الآية تبيّن حال الفريق الآخر و هم المؤمنون و أنّ الله سبحانه يمدّ المهتدين منهم و هم المؤمنون بالهدى فيزيدهم هدى على هداهم فيوفّقون للأعمال الباقية الصالحة و هي خير أجراً و خير داراً و هي الجنّة و دائم نعيمها فما عند المؤمنين من أمتعة الحياة و هي النعيم المقيم خير ممّا عند الكافرين من الزخارف الغارّة الفانية.

و في قوله:( عِنْدَ رَبِّكَ ) إشارة إلى أنّ الحكم بخيريّة ما للمؤمنين من ثواب و مردّ حكم إلهيّ لا يخطئ و لا يغلط البتّة.

و هاتان الآيتان - كما ترى - جواب ثان عن حجّة الكفّار أعني قولهم:( أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا ) .

قوله تعالى: ( أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَ قالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً ) كما أنّ سياق الآيات الأربع السابقة يعطي أنّ الحجّة الفاسدة المذكورة قول بعض المشركين ممّن تلي عليه القرآن فقال ما قال دحضاً لكلمة الحقّ و استغواء و استخفافاً للمؤمنين كذلك سياق هذه الآيات الأربع و قد افتتحت بكلمة التعجيب و اشتملت بقول يشبه

١١٠

القول السابق و اختتمت بما يناسبه من الجواب يعطي أنّ بعض الناس ممّن آمن بالنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أو كان في معرض ذلك بعد ما سمع قول الكفّار مال إليهم و لحق بهم قائلا لاُوتينّ مالاً و ولداً يعني في الدنيا باتّباع ملّة الشرك كأنّ في الإيمان بالله شؤماً و في اتّخاذ الآلهة ميمنة. فردّه الله سبحانه بقوله:( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ) إلخ.

و أمّا ما ذكره الأكثر بالبناء على ما ورد من سبب النزول أنّ الجملة قول أحد المتعرّقين في الشرك من قريش خاطب به خبّاب بن الأرت حين طالبه ديناً كان له عليه، و أنّ معنى الجملة لاُوتينّ مالاً و ولداً في الجنّة فاُؤدّي ديني فشي‏ء لا يلائم سياق الآيات إذ من المعلوم أنّ المشركين ما كانوا مذعنين بالبعث أصلاً، فقوله لاُوتينّ مالاً و ولداً إذا بعثت و عند ذلك اُؤدّي ديني لا يحتمل إلّا الاستهزاء و التهكّم و لا معنى لردّ الاستهزاء بالاحتجاج كما هو صريح قوله:( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) إلخ.

و نظير هذا القول في السقوط ما نقل عن أبي مسلم المفسّر أنّ الآية عامّة فيمن له هذه الصفة.

فقوله:( أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا ) مسوق للتعجيب، و كلمة( أَ فَرَأَيْتَ ) كلمة تعجيب و قد فرّعه بفاء التفريع على ما تقدّمه من قولهم:( أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا ) لأنّ كفر هذا القائل و قوله:( لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً ) من سنخ كفرهم و مبنيّ على قولهم للمؤمنين لا خير عند هؤلاء و سعادة الحياة و عزّة الدنيا و نعمتها و لا خير إلّا ذلك عند الكفّار و في ملّتهم.

و من هنا يظهر أنّ لقوله:( وَ قالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً ) نوع ترتب على قوله( كَفَرَ بِآياتِنا ) و أنّه إنّما كفر بآيات الله زاعماً أنّ ذلك طريقة ميمونة مباركة تجلب لسالكها العزّة و القدرة و ترزقه الخير و السعادة في الدنيا و قد أقسم بذلك كما يشهد به لام القسم و نون التأكيد في قوله:( لَأُوتَيَنَّ) .

قوله تعالى: ( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) ردّ سبحانه عليه قوله:( لاُوتينّ مالاً و ولداً بكفري) بأنّه رجم بالغيب لا طريق له إلى العلم فليس

١١١

بمطّلع على الغيب حتّى يعلم بأنّه سيؤتى بكفره ما يأمله و لا بمتّخذ عهداً عند الله حتّى يطمئنّ إليه في ذلك، و قد جيي‏ء بالنفي في صورة الاستفهام الإنكاريّ.

قوله تعالى: ( كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ) كلّا كلمة ردع و زجر و ذيل الآية دليل على أنّه سبحانه يردّ بها ما يتضمّنه قول هذا القائل من ترتّب إيتاء المال و الولد على الكفر بآيات الله و محصّله أنّ الّذي يترتّب على قوله هذا ليس هو إيتاء المال و الولد فإنّ لذلك أسباباً اُخر بل هو مدّ العذاب على كفره و رجمه فهو يطلب بما يقول في الحقيقة عذاباً ممدوداً يتلو بعضه بعضاً لأنّه هو تبعة قوله لا إيتاء المال و الولد و سنكتب قوله و نرتّب عليه أثره الّذي هو مدّ العذاب فالآية نظيرة قوله:( فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ ) العلق: ١٨.

و من هنا يظهر أنّ الأقرب أن يكون المراد من كتابة قوله تثبيته ليترتّب عليه أثره لا كتابته في صحيفة عمله ليحاسب عليه يوم القيامة كما فسّره به أرباب التفسير، على أنّ قوله الآتي:( وَ نَرِثُهُ ما يَقُولُ ) لا يخلو على قولهم من شائبة التكرار من غير نكتة ظاهرة.

قوله تعالى: ( وَ نَرِثُهُ ما يَقُولُ وَ يَأْتِينا فَرْداً ) المراد بوراثة ما يقول أنّه سيموت و يفنى و يترك قوله: لاُوتينّ بكفري مالاً و ولداً، و قد كان خطيئة لازمة له لزوم المال للإنسان محفوظة عندالله كأنّه مال ورثه بعده ففي الكلام استعارة لطيفة.

و قوله:( وَ يَأْتِينا فَرْداً ) أي وحده و ليس معه شي‏ء ممّا كان ينتصر به و يركن إليه بحسب وهمه فمحصّل الآية أنّه سيأتينا وحده و ليس معه إلّا قوله الّذي حفظناه عليه فنحاسبه على ما قال و نمدّ له من العذاب مدّا.

هذا ما يقتضيه البناء على كون قوله في أوّل الآيات( لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً ) ناظراً إلى الإيتاء في الدنيا، و أمّا بناء على كونه ناظراً إلى الإيتاء في الآخرة كما اختاره الأكثر فمعنى الآيات كما فسّروها: تعجب من الّذي كفر بآياتنا و هو عاص بن وائل أو وليد بن المغيرة و قال: اُقسم لاُوتينّ إذا بعثت مالاً و ولداً في الجنّة، أ علم الغيب حتّى يعلم أنّه في الجنّة؟ - و قيل: أ نظر في اللوح المحفوظ - أم اتّخذ

١١٢

عند الرحمن عهداً بقول لا إله إلّا الله حتّى يدخل به الجنّة و قيل: أ قدم عملاً صالحاً كلّا و ليس الأمر كما قال - سنكتب ما يقول بأمر الحفظة أن يثبتوه في صحيفة عمله و نمدّ له من العذاب مدّا و نرثه ما يقول أي ما عنده من المال و الولد بإهلاكنا إيّاه و إبطالنا ملكه و يأتينا أي يأتي الآخرة فرداً ليس عنده شي‏ء من مال و ولد و عدّة و عدد.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى:( أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَ قالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً ) أنّه العاص بن وائل بن هشام القرشيّ ثمّ السهميّ و كان أحد المستهزئين، و كان لخبّاب بن الأرتّ على العاص بن وائل حقّ فأتاه يتقاضاه فقال له العاص: أ لستم تزعمون أنّ في الجنّة الذهب و الفضّة و الحرير؟ قال: بلى. قال: فموعد ما بيني و بينك الجنّة، فو الله لاُوتينّ فيها خيراً ممّا اُوتيت في الدنيا.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و سعيد بن منصور و عبد بن حميد و الترمذيّ و البيهقيّ في الدلائل و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبّان و ابن مردويه عن خبّاب بن الأرت قال: كنت رجلاً قينا و كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال: لا و الله لا أقضيك حتّى تكفر بمحمّد فقلت: لا و الله لا أكفر بمحمّد حتّى تموت ثمّ تبعث. قال: فإنّي إذا متّ ثمّ بعثت جئتني و لي ثمّ مال و ولد فاُعطيك فأنزل الله:( أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا إلى قوله وَ يَأْتِينا فَرْداً ) .

أقول: و روى أيضاً ما يقرب منه عن الطبراني عن خبّاب. و أيضاً عن سعيد بن منصور عن الحسن عن رجل من أصحاب رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و لم يسمّ خبّاباً و أيضاً عن ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عبّاس عن رجال من الصحابة.

و قد تقدّم أنّ الروايات لا تنطبق على سياق الآيات فإنّ الروايات صريحة في أنّ الكلمة إنّما صدرت عن العاص بن وائل على سبيل الاستهزاء و السخريّة على

١١٣

أنّ النقل القطعيّ أيضاً يؤيّد أنّ المشركين لم يكونوا قائلين بالبعث و النشور.

ثمّ الآيات تأخذ في ردّ كلمته بالاحتجاج و لو كانت كلمة استهزاء من غير جدّ لم يكن للاحتجاج عليها معنى إذ الاحتجاج لا يستقيم إلّا على قول جدّيّ و إلّا كان هزلاً فالروايات على صراحتها في كونها كلمة استهزاء لا تنطبق على الآية.

و لو حمل على وجه بعيد على أنّه إنّما قال:( لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً ) على وجه الإلزام و التبكيت لخبّاب من غير أن يعتقده لا على وجه الاستهزاء! لم يكن لذكر الولد مع المال وجه و كفاه أن يقول لاُوتينّ مالاً مع أنّ في بعض هذه الروايات أنّه قال لخبّاب: إنّكم تزعمون أنّكم ترجعون إلى مال و ولد و لم يعهد من مسلمي صدر الإسلام شيوع القول بأنّ في الجنّة توالداً و تناسلاً و لا وقعت في شي‏ء من القرآن إشارة إلى ذلك. هذا أوّلاً.

و لم يكن للقسم و التأكيد البالغ في قوله:( لَأُوتَيَنَّ ) وجه إذ الإلزام و التبكيت لا حاجة فيه إلى تأكيد. و هذا ثانياً.

و لم يكن لإطلاق الإيتاء في قوله( لَأُوتَيَنَّ ) من دون أن يقيّده بالجنّة أو الآخرة دفعاً للبس نكتة ظاهرة. و هذا ثالثاً.

و لم يصلح للردّ عليه و إبطاله إلّا قوله تعالى:( كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ ) إلى آخر الآيتين، و أمّا قوله:( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) فغير وارد عليه البتّة إذ الإلزام و التبكيت لا يتوقّف على العلم بصدق ما يلزم به حتّى يتوقّف عن منشأ علمه بل يجامع غالباً العلم بالكذب و إنّما على التزام الخصم الّذي يراد إلزامه به أو بما يستلزمه. و هذا رابعاً.

و اعلم أنّه ورد في ذيل قوله:( وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ ) الآية أخبار عن النبيّ و أئمّة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة و قد أشرنا إليها في الجزء الثالث عشر من الكتاب في بحث روائيّ في ذيل الآية ٤٦ من سورة الكهف.

١١٤

( سورة مريم الآيات ٨١ - ٩٦)

وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ( ٨١ ) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ( ٨٢ ) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ( ٨٣ ) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ( ٨٤ ) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا ( ٨٥ ) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْدًا ( ٨٦ ) لَّا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا ( ٨٧ ) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ( ٨٨ ) لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ( ٨٩ ) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ( ٩٠ ) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا ( ٩١ ) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ( ٩٢ ) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ( ٩٣ ) لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ( ٩٤ ) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ( ٩٥ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا ( ٩٦ )

( بيان)

هذا هو الفصل الثالث ممّا نقل عنهم و هو شركهم بالله باتّخاذ الآلهة و قولهم:( اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ) سبحانه و الجواب عن ذلك.

١١٥

قوله تعالى: ( وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ) هؤلاء الآلهة هم الملائكة و الجنّ و القدّيسون من الإنس و جبابرة الملوك فإنّ أكثرهم كانوا يرون الملك قداسة سماويّة.

و معنى كونهم لهم عزّا كونهم شفعاء لهم يقرّبونهم إلى الله بالشفاعة فينالون بذلك العزّة في الدنيا ينجرّ إليهم الخير و لا يمسّهم الشرّ، و من فسّر كونهم لهم عزّا بشفاعتهم لهم في الآخرة خفي عليه أنّ المشركين لا يقولون بالبعث.

قوله تعالى: ( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) الضدّ بحسب اللغة المنافي الّذي لا يجتمع مع الشي‏ء، و عن الأخفش أنّ الضدّ يطلق على الواحد و الجمع كالرسول و العدوّ و أنكر ذلك بعضهم و وجّه إطلاق الضدّ في الآية و هو مفرد على الآلهة و هي جمع بأنّها لمّا كانت متّفقة في عداوة هؤلاء و الكفر بعبادتهم كانت في حكم الواحد و صحّ بذلك إطلاق المفرد عليها.

و ظاهر السياق أنّ ضميري( سَيَكْفُرُونَ ) و( يَكُونُونَ ) للآلهة و ضميري( بِعِبادَتِهِمْ ) و( عَلَيْهِمْ ) للمشركين المتّخذين للآلهة و المعنى: سيكفر الآلهة بعبادة هؤلاء المشركين و يكون الآلهة حال كونهم على المشركين لا لهم، ضدّاً لهم يعادونهم و لو كانوا لهم عزّاً لثبتوا على ذلك دائماً و قد وقع ذلك في قوله تعالى:( وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ ) النحل: ٨٦. و أوضح منه قوله:( وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ: ) فاطر: ١٤.

و ربّما احتمل أن يكون بالعكس من ذلك أي سيكفر المشركون بعبادة الآلهة و يكونون على الآلهة ضدّاً كما في قوله:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَ اللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) الأنعام: ٢٣، و يبعده أنّ ظاهر السياق أن يكون( ضِدًّا ) و قد قوبل به( عِزًّا ) في الآية السابقة، وصفاً للآلهة دون المشركين و لازم ذلك أن يكون الآلهة الّذين هم الضدّ هم الكافرين بعبادة المشركين نظراً إلى

١١٦

خصوص ترتّب الضمائر.

على أنّ التعبير المناسب لهذا المعنى أن يقال: سيكفرون بهم على حدّ ما يقال: كفر بالله، و لا يقال: كفر بعبادة الله.

و المراد بكفر الآلهة يوم القيامة بعبادتهم و كونهم عليهم ضدّاً هو ظهور حقيقة الأمر يومئذ فإنّ شأن يوم القيامة ظهور الحقائق فيه لأهل الجمع لا حدوثها و لو لم تكن الآلهة كافرين بعبادتهم في الدنيا و لا عليهم ضدّاً بل بدا لهم ذلك يوم القيامة لم تتمّ حجّة الآية فافهم ذلك، و على هذا المعنى يترتّب قوله:( أَ لَمْ تَرَ ) على قوله:( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ ) إلخ.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) الأزّ و الهزّ بمعنى واحد و هو التحريك بشدّة و إزعاج و المراد تهييج الشياطين إيّاهم إلى الشرّ و الفساد و تحريضهم على اتّباع الباطل و إضلالهم بالتزلزل عن الثبات و الاستقامة على الحقّ.

و لا ضير في نسبة إرسال الشياطين إليه تعالى بعد ما كان على طريق المجازاة فإنّهم كفروا بالحقّ فجازاهم الله بزيادة الكفر و الضلال و يشهد بذلك قوله:( عَلَى الْكافِرِينَ ) و لو كان إضلالاً ابتدائيّاً لقيل:( عليهم ) من غير أن يوضع الظاهر موضع المضمر.

و الآية و هي مصدرة بقوله:( أَ لَمْ تَرَ ) المفيد معنى الاستشهاد مسوقة لتأييد ما ذكر في الآية السابقة من كون آلهتهم عليهم ضدّاً، فإنّ تهييج الشياطين إيّاهم للشرّ و الفساد و اتّباع الباطل معاداة و ضدّيّة و الشياطين و هم من الجنّ من جملة آلهتهم و لو لم يكن هؤلاء الآلهة عليهم ضدّاً ما دعوهم إلى ما فيه هلاكهم و شقاؤهم.

فالآية بمنزلة أن يقال: هؤلاء الآلهة الّذين يحسبونهم لأنفسهم عزّاً هم عليهم ضدّ و تصديق ذلك أنّ الشياطين و هم من آلهتهم يحرّكونهم بإزعاج نحو ما فيه شقاؤهم و ليسوا مع ذلك مطلقي العنان بل إنّما هو بإذن من الله يسمّى إرسالاً و على هذا فالآية متّصلة بسابقتها و هو ظاهر.

١١٧

و جعل صاحب روح المعاني، هذه الآية مترتّبة على مجموع الآيات من قوله:( وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ) إلى قوله:( وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) و متّصلة به و أطنب في بيان كيفيّة الاتّصال بما لا يجدي نفعاً و أفسد بذلك سياق الآيات و اتّصال ما بعد هذه الآية بما قبلها.

قوله تعالى: ( فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ) العدّ هو الإحصاء و العدّ يفني المعدود و ينفده و بهذه العناية قصد به إنفاد أعمارهم و الانتهاء إلى آخر أنفاسهم كأنّ أنفاسهم الممدّة لأعمارهم مذخورة بعددها عند الله فينفدها بإرسالها واحداً بعد آخر حتّى تنتهي و هو اليوم الموعود عليهم.

و إذ كان مدّة بقاء الإنسان هي مدّة بلائه و امتحانه كما ينبئ عنه قوله:( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) الكهف: ٧ كان العدّ بالحقيقة عدّاً للأعمال المثبتة في صحيفة العمر، ليتمّ بذلك بنية الحياة الاُخرويّة الخالدة و يستقصي للإنسان ما يلتئم به عيشه هناك من نعم أو نقم فكما أنّ مكث الجنين في الرحم مدّة يتمّ به خلقه جسمه كذلك مكث الإنسان في الدنيا لأن يتمّ به خلقة نفسه و أن يعدّ الله ما قدّر له من العطيّة و يستقصيه.

و على هذا فلا ينبغي للإنسان أن يستعجل الموت لكافر طالح لأنّ مدّة بقائه مدّة عدّ سيّئاته ليحاسب عليها و يعذّب بها و لا لمؤمن صالح لأنّ مدّة بقائه مدّة عدّ حسناته ليثاب بها و يتنعّم و الآية لا تقيّد العدّ و إن فهم من ظاهرها في بادئ النظر عدّ الأنفاس أو الأيّام.

و كيف كان فقوله:( فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ) تفريع على ما تقدّم، و قوله:( إِنَّما نَعُدُّ ) تعليل له و هو في الحقيقة علّة التأخير و محصّل المعنى إذ كان هؤلاء لا ينتفعون باتّخاذ الآلهة و كانوا هم و آلهتهم منتهين إلينا غير خارجين من سلطاننا و لا مسيرهم في طريقهم بغير إذننا فلا تعجل عليهم بالقبض أو بالقضاء و لا يضيق صدرك عن تأخير ذلك إنّما نعدّ لهم أنفاسهم أو أعمالهم عدّا.

قوله تعالى: ( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً ) الوفد هم القوم

١١٨

الواردون لزيارة أو استنجاز حاجة أو نحو ذلك و لا يسمّون وفداً إلّا إذا كانوا ركبانا و هو جمع واحده وافد.

و ربّما استفيد من مقابلة قوله في هذه الآية( إِلَى الرَّحْمنِ ) قوله في الآية التالية:( إِلى‏ جَهَنَّمَ ) أنّ المراد بحشرهم إلى الرحمن حشرهم إلى الجنّة و إنّما سمّي حشراً إلى الرحمن لأنّ الجنّة مقام قربه تعالى فالحشر إليها حشر إليه. و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى‏ جَهَنَّمَ وِرْداً ) فسّر الورد بالعطاش و كأنّه مأخوذ من ورود الماء أي قصده ليشرب و لا يكون ذلك إلّا عن عطش فجعل بذلك الورد كناية عن العطاش، و في تعليق السوق إلى جهنّم بوصف الاجرام إشعار بالعليّة و نظيره تعليق الحشر إلى الرحمن في الآية السابقة بوصف التقوى. و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) و هذا جواب ثان عن اتّخاذهم الآلهة للشفاعة و هو أن ليس كلّ من يهوى الإنسان شفاعته فاتّخذه إلها ليشفع له يكون شفيعاً بل إنّما يملك الشفاعة بعهد من الله و لا عهد إلّا لآحاد من مقرّبي حضرته، قال تعالى:( وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف: ٨٦.

و قيل: المراد إنّ المشفّع لهم لا يملكون الشفاعة إلّا من اتّخذ عند الرحمن عهداً و العهد هو الإيمان بالله و التصديق بالنبوّة، و قيل: وعده تعالى له بالشفاعة كما في الأنبياء و الأئمّة و المؤمنين و الملائكة على ما في الأخبار، و قيل: هو شهادة أن لا إله إلّا الله و أن يتبرّأ من الحول و القوّة و أن لا يرجو إلّا الله، و الوجه الأوّل هو الأوجه و هو بالسياق أنسب.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ) من قول الوثنيّين و بعض خاصّتهم، و إن قال ببنوّة الآلهة أو بعضهم لله سبحانه تشريفاً أو تجليلاً لكن عامّتهم و بعض خاصّتهم - في مقام التعليم - قال بذلك تحقيقاً بمعنى الاشتقاق من حقيقة اللاهوت

١١٩

و اشتمال الولد على جوهرة والده، و هذا هو المراد بالآية و الدليل عليه التعبير بالولد دون الابن، و كذا ما في قوله:( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلى تمام ثلاث آيات من الاحتجاج على نفيه.

قوله تعالى: ( لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ) إلى تمام ثلاث آيات، الإدّ بكسر الهمزة: الشي‏ء المنكر الفظيع، و التفطّر الانشقاق، و الخرور السقوط، و الهدّ الهدم.

و الآيات في مقام إعظام الذنب و إكبار تبعته بتمثيله بالمحسوس يقول: لقد أتيتم بقولكم هذا أمراً منكراً فظيعاً تكاد السماوات يتفطّرن و ينشققن منه و تنشقّ الأرض و تسقط الجبال على السهل سقوط انهدام إن دعوا للرحمن ولداً.

قوله تعالى: ( وَ ما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ) إلى تمام أربع آيات. المراد بإتيان كلّ منهم عبداً له توجّه الكلّ إليه و مثوله بين يديه في صفة المملوكيّة المحضة فكلّ منهم مملوك له لا يملك لنفسه نفعاً و لا ضرّاً و لا موتاً و لا حياة و لا نشوراً و ذلك أمر بالفعل ملازم له ما دام موجوداً، و لذا لم يقيّد الإتيان في الآية بالقيامة بخلاف ما في الآية الرابعة.

و المراد بإحصائهم و عدّهم تثبيت العبوديّة لهم فإنّ العبيد إنّما تتعيّن لهم أرزاقهم و تتبيّن وظائفهم و الاُمور الّتي يستعملون فيها بعد الإحصاء و عدّهم و ثبتهم في ديوان العبيد و به تسجّل عليهم العبوديّة.

و المراد بإتيانه له يوم القيامة فرداً إتيانه يومئذ صفر الكفّ لا يملك شيئاً ممّا كان يملكه بحسب ظاهر النظر في الدنيا و كان يقال: إنّ له حولاً و قوّة و مالاً و ولداً و أنصاراً و وسائل و أسباباً إلى غير ذلك فيظهر يومئذ إذ تتقطّع بهم الأسباب أنّه فرد ليس معه شي‏ء يملكه و أنّه كان عبداً بحقيقة معنى العبوديّة لم يملك قطّ و لن يملك أبداً فشأن يوم القيامة ظهور الحقائق فيه.

و يظهر بما تقدّم أنّ الّذي تتضمّنه الآيات من الحجّة على نفي الولد حجة واحدة و محصّلها أنّ كلّ من في السماوات و الأرض عبدلله مطيع له في عبوديّته ليس

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

- عندنا وعند الشافعيّة(١) - عن الجميع بالأداء ، ورجع على الذي ضمن عنه بخمسة ؛ لأنّها هي التي تثبت في ذمّته ، ولم يرجع على الآخَر بشي‌ء ؛ لأنّه لم يضمن عنه ، وإنّما قضى الدَّيْن عنه تبرّعاً.

وعند الشافعيّة يكون له الرجوع على الذي ضمن عنه بالعشرة ، ولا يرجع على الآخَر بشي‌ء ؛ لأنّه لم يضمن عنه ، وإذا رجع على الذي ضمن عنه ، رجع على الآخَر بنصفها ؛ لأنّه ضمنها عنه وقضاها(٢) .

ولو كان المضمون عنه دفع مال الضمان إلى الضامن بإذنه وقال له : اقض هذا المال للمضمون له عنّي ، فقضاه ، كان أمانةً في يده ؛ لأنّه نائب عنه في دفعه إلى صاحب الدَّيْن ، فإن(٣) تلف قبل الدفع بغير تفريطٍ منه ، لم يضمنه.

وإن دفعه إليه عن الذي ضمنه وقال له : خُذْ هذا عوضاً عمّا ضمنته ، فللشافعيّة وجهان :

أحدهما : يصحّ ويملكه ؛ لأنّ رجوعه عليه يتعلّق بسبب الضمان والغرم ، فإذا وجد أحد السببين ، جاز أن يدفعه ، كالزكاة.

والثاني : لا يصحّ ولا يملكه ؛ لأنّه يدفعه عوضاً عمّا يغرم ، ولم يغرم بَعْدُ ، فلا تصحّ المعاوضة على ما لم يجب له(٤) .

ويمكن أن يقال : هذا لا يجي‌ء على مذهب الشافعيّة ؛ لأنّ لصاحب الحقّ أن يطالب مَنْ عليه الدَّيْن بذلك ، فكيف تصحّ المعاوضة عنه مع‌

____________________

(١ و ٢) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر ، وراجع : المغني والشرح الكبير ٥ : ٨٩ - ٩٠.

(٣) في « ج » : « وإن ».

(٤) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٧.

٣٨١

توجّه المطالبة به!؟ فإن قلنا : إنّه يملك ، صحّ له التصرّف فيه ، وإلّا فلا ، ويكون مضموناً عليه ؛ لأنّه قبضه على وجه المعاوضة.

مسألة ٥٥٣ : لو ادّعى على رجلٍ حاضرٍ أنّه باع منه ومن الغائب شيئاً بألفٍ وكلٌّ منهما ضامن لصاحبه‌ ، فإن أقرّ الحاضر ، لم يلزمه عندنا إلّا النصف الذي ضمنه ، بناءً على أصلنا من انتقال المال إلى ذمّة الضامن ، وعند الشافعيّة من اشتراك الذمّتين في المال(١) : يؤدّي الحاضر الألف ، فإذا قدم الغائب وصدّقه ، رجع عليه. وإن أنكره وحلف ، لم يكن له الرجوع عليه(٢) .

وأمّا إن أنكر الحاضر الضمانَ ، فإن لم يكن للمدّعي بيّنةٌ ، قُدّم قول المنكر مع يمينه. فإذا(٣) حلف ، سقطت الدعوى عنه.

فإذا قدم الغائب فإن أنكر(٤) ، حلف وبرئ ، وإن اعترف ، لزمه خمسمائة التي ادّعاها عليه ، ويسقط(٥) عنه الباقي ؛ لأنّ المضمون عنه سقطت عنه بيمينه ، قاله بعض الشافعيّة(٦) .

وقال بعضهم : إنّه غير صحيح ؛ لأنّ اليمين لم تبرئه من الحقّ ، وإنّما أسقطت عنه في الظاهر ، فإذا أقرّ به الضامن ، لزمه ، ولهذا لو أقام البيّنة عليه بعد يمينه ، لزمه ولزم الضامن ، فإذَنْ الحقُّ لم يسقط عنه ولا عن الضامن(٧) .

وأمّا إذا أقام على الحاضر البيّنة ، وجب عليه الألف عندهم ، فإذا قدم‌

____________________

(١) راجع المصادر في الهامش (٢) من ص ٣٤٤.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤٤٨ ، حلية العلماء ٥ : ٨٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٣ - ١٨٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠٣ - ٥٠٤.

(٣) في الطبعة الحجريّة : « وإذا ».

(٤) في الطبعة الحجريّة : « فأنكر » بدل « فإن أنكر ».

(٥) في « ر » والطبعة الحجريّة : « سقط ».

(٦ و ٧) حلية العلماء ٥ : ٨٧.

٣٨٢

الغائب ، لم يكن للحاضر الرجوعُ على الغائب ؛ لأنّه منكرٌ لما شهدت به البيّنة ، مكذّبٌ لها ، مدّعٍ أنّ ما أخذه ظلم ، فلم يرجع(١) .

ونقل المزني أنّه يرجع بالنصف على الغائب(٢) .

وتأوّله الشافعيّة بأُمور ، أحدها : أنّه يجوز أن تُسمع البيّنة مع إقراره ؛ لأنّه يثبت بذلك الحقُّ على الغائب ، فتُسمع عليهما ، أو يكون أنكر شراءه ولم ينكر شراء شريكه والضمان عنه ، بل سكت(٣) .

مسألة ٥٥٤ : لو شرط في الضمان الأداء من مالٍ بعينه ، صحّ الضمان والشرط معاً‌ ؛ لتفاوت الأغراض في أعيان الأموال ، فلو تلف المال قبل الأداء بغير تفريط الضامن ، فالأقرب : فساد الضمان ؛ لفوات شرطه ، فيرجع صاحب المال على الأصيل.

وهل يتعلّق الضمان بالمال المشروط تعلُّقُه به تعلُّقَ الدَّيْن بالرهن أو الأرش بالجاني؟ الأقرب : الأوّل ، فيرجع على الضامن لو تلف.

وعلى الثاني يرجع على المضمون عنه.

وكذا لو ضمن مطلقاً ومات معسراً على إشكالٍ.

ولو بِيع متعلَّق الضمان بأقلّ من قيمته ؛ لعدم الراغب ، رجع الضامن بتمام القيمة ؛ لأنّه يرجع بما أدّى.

ويُحتمل بالثمن خاصّةً ؛ لأنّه الذي قضاه.

ولو لم يساو المال قدر الدَّيْن ، فالأقرب : الرجوع على الضامن ، ويرجع على المضمون عنه.

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ٨٨.

(٢) مختصر المزني : ١٠٨ ، حلية العلماء ٥ : ٨٨.

(٣) حلية العلماء ٥ : ٨٨.

٣٨٣

وقد بيّنّا أنّ ضمان المجهول صحيح ، فلو ضمن عنه ما في ذمّته ، صحّ ، ولزمه ما تقوم به البيّنة على ثبوته وقت الضمان ، لا ما يتجدّد ، ولا ما يوجد في دفتر وكتاب ، ولا ما يُقرّ به المضمون عنه أو يحلف عليه المالك بردّ اليمين من المديون.

ولو ضمن ما تقوم به البيّنة ، لم يصح ؛ لعدم العلم بثبوته حينئذٍ.

مسألة ٥٥٥ : لو ضمن الدَّيْنَ اثنان على التعاقب مع صاحب الحقّ عن المديون ، طُولب الضامن الأوّل ، وبطل الثاني‌ ؛ لأنّ الحقّ انتقل من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، فالضامن الثاني لم يصادف ضمانه حقّاً على المضمون عنه للمضمون له.

ولو قال الضامن الثاني : ضمنت لك هذا الدَّيْن على مَنْ كان ، فإن قلنا : يصحّ الضمان عن المجهول ، صحّ هذا الضمان ، وكان ضامناً عن الضامن السابق ، وإلّا بطل.

ولو ضمن الثاني من وكيل صاحب الحقّ ، بطل الثاني.

ولو اتّفق ضمان الأوّل مع صاحب الحقّ وضمان الثاني مع وكيله في الزمان الواحد ، بطل الضمانان معاً ؛ لعدم أولويّة أحدهما بالصحّة والآخَر بالبطلان.

مسألة ٥٥٦ : لو شرط الضمان في مالٍ بعينه ثمّ أفلس وحجر عليه الحاكم ، كان حقّ الضمان في العين التي تعلّق الضمان بها - كالرهن - مقدّماً على حقّ الغرماء‌ ، فإن فضل شي‌ء من حقّ الضمان ، تعلّق حقّ الغرماء بالفاضل ، وإلّا فلا.

٣٨٤

ولو ضمن كلٌّ من المديونين ما على صاحبه ، تعاكست الأصالة والفرعيّة فيهما إن أجازهما المضمون له على ما بيّنّاه ، وتتساقطان إذا أدّى كلّ واحدٍ منهما مالَ الضمان عن صاحبه ، فلو شرط أحدهما كونَ الضمان من مالٍ بعينه وحُجر عليه بفلسٍ قبل الأداء ، رجع على الموسر بما أدّى ، ويضرب الموسر مع الغرماء.

ولو أجاز ضمانَ أحدهما خاصّةً ، رجع عليه بالجميع ، ويرجع المؤدّي على الآخَر بنصيبه ، فإن دفع النصف ، انصرف إلى ما قصده ، ويُصدَّق باليمين ، وينصرف الإبراء إلى ما قصده المبرئ ، فإن أطلق فالتقسيط.

ولو ادّعى الأصيل قصده ، ففي توجّه اليمين عليه أو على الضامن إشكال ينشأ : من عدم توجّه اليمين لحقّ الغير ، ومن خفاء القصد.

ولو تبرّع بالضمان ثمّ سأل ثالثاً الضمانَ عنه فضمن ، رجع عليه ، دون الأصيل وإن أذن له الأصيل في الضمان والأداء.

مسألة ٥٥٧ : لو دفع الأصيل الدَّيْنَ إلى المستحقّ أو إلى الضامن ، فقد برئ ، سواء أذن له الضامن في الدفع أو لا.

ولو ضمن فأنكر الأصيل الإذنَ في الضمان ، قُدّم قوله مع اليمين ، وعلى الضامن البيّنة بالإذن ؛ لأصالة عدمه.

وكذا لو أنكر الأصيل الدَّيْنَ الذي ضمنه عنه الضامن ؛ لأصالة براءة ذمّته.

ولو أنكر الضامن الضمانَ فاستوفى المستحقّ بالبيّنة ، لم يرجع على‌

٣٨٥

الأصيل إن أنكر الدَّيْنَ أيضاً أو الإذنَ ، وإلّا رجع اقتصاصاً ، إلّا أن ينكر الأصيل الإذنَ ولا بيّنة.

ولو أنكر المستحقّ دفع الضامن بسؤالٍ ، قُدّم إنكاره.

فإن شهد الأصيل ولا تهمة ، قُبلت ، ومع التهمة يغرم ثانياً ، ويرجع على الأصيل بالأوّل مع مساواته الحقّ أو قصوره.

ولو لم يشهد ، رجع بالأقلّ من الثاني والأوّل والحقّ.

مسألة ٥٥٨ : كما ينبغي التنزّه عن الدَّيْن ينبغي التنزّه عن الضمان مع الإعسار ؛ لما فيه من التغرير بمال الغير.

وقد روى أبو الحسن الخزّاز عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سمعته يقول لأبي العباس الفضل : « ما مَنَعك من الحجّ؟ » قال : كفالة تكفّلت بها ، قال : « ما لك والكفالات؟ أما علمت أنّ الكفالة هي التي أهلكت القرون الأُولى؟ »(١) .

وعن داوُد الرقّي عن الصادقعليه‌السلام قال : « مكتوب في التوراة : كفالة ندامة غرامة »(٢) .

وقد روى الحسن(٣) بن خالد عن الكاظمعليه‌السلام ، قال : قلت له : جُعلت فداك ، قول الناس : الضامن غارم ، قال : فقال : « ليس على الضامن غُرْمٌ ، الغُرْم على مَنْ أكل المال »(٤) . والمراد منه أنّ الضمان يستقرّ على الأصيل.

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٢٠٩ / ٤٨٤.

(٢) التهذيب ٦ : ٢١٠ / ٤٩٢.

(٣) في المصدر : « الحسين ».

(٤) الكافي ٥ : ١٠٤ - ١٠٥ / ٥ ، التهذيب ٦ : ٢٠٩ / ٤٨٥.

٣٨٦

٣٨٧

الفصل الثاني : في الكفالة‌

وفيه مباحث :

الأوّل : العقد.

مسألة ٥٥٩ : الكفالة عقد شُرّع للتعهّد بالنفس ، ويشابه الضمان ، فإنّ الشي‌ء المضمون قد يكون حقّاً على الشخص ، وقد يكون نفسَ الشخص.

وهي عقد صحيح عند عامّة أهل العلم ، وبه قال الثوري ومالك والليث وأبو حنيفة وأحمد والشافعي(١) ، ولا نعرف فيه مخالفاً ، إلّا ما نُقل عن الشافعي من قوله في كتاب الدعاوي : إنّ الكفالة بالبدن ضعيفة(٢) .

وقال في اختلاف العراقيّين وفي الإقرار وفي المواهب وفي كتاب اللعان : إنّ الكفالة بالبدن جائزة(٣) .

واختلف أصحابه.

فقال بعضهم : إنّ الكفالة صحيحة قولاً واحداً ، وأراد بقوله : « إنّها‌

____________________

(١) المغني ٥ : ٩٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٩٨ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٥ ، المعونة ٢ : ١٢٣٠ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٨٧ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٠ : ٢ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٥٣ / ١٩٧٥ ، النتف ٢ : ٧٥٨ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٧٠ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٩ ، الوجيز ١ : ١٨٤ ، الوسيط ٣ : ٢٣٩ ، حلية العلماء ٥ : ٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٦.

(٢) الأُم ٣ : ٢٣١ ، و ٦ : ٢٢٩ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٩ ، حلية العلماء ٥ : ٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٩ ، المغني ٥ : ٩٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٩٨.

(٣) الأُم ٧ : ١١٨ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٩.

٣٨٨

ضعيفة » أي ضعيفة في القياس وإن كانت ثابتةً بالإجماع والأثر.

ومنهم مَنْ قال : إنّ فيها قولين :

أحدهما : أنّها صحيحة ، وهو قول عامّة العلماء.

والثاني : أنّها غير صحيحة ؛ لأنّها كفالة بعين فلم تصح ، كالكفالة بالزوجة وبدن الشاهدَيْن(١) .

والحقّ : الأوّل ؛ لقوله تعالى :( قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ ) (٢) فطلب يعقوبعليه‌السلام من بنيه كفيلاً ببدن يوسفعليه‌السلام ، وقالوا ليوسفعليه‌السلام :( إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ ) (٣) وذلك كفالة بالبدن.

وما رواه العامّة من قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الزعيم غارم »(٤) .

ومن طريق الخاصّة : قول الباقرعليه‌السلام : « إنّ عليّاًعليه‌السلام أُتي برجل كفل برجلٍ بعينه فأخذ الكفيل ، فقال : احبسوه حتى يأتي بصاحبه »(٥) .

ولإطباق الناس عليه في جميع الأعصار في كلّ الأصقاع ، ولو لم تكن صحيحةً امتنع إطباق الخلق الكثير عليه. ولأنّ الحاجة تدعو إليه ، وتشتدّ الضرورة إليه ، فلو لم يكن سائغاً لزم الحرج والضرورة. ولأنّ ما وجب تسليمه بعقدٍ وجب تسليمه بعقد الكفالة ، كالمال ووجوب تسليم البدن‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٩ ، حلية العلماء ٥ : ٨٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٩ ، المغني ٥ : ٩٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٩٨.

(٢) يوسف : ٦٦.

(٣) يوسف : ٧٨.

(٤) سنن ابن ماجة ٢ : ٨٠٤ / ٢٤٠٥ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٩٧ / ٣٥٦٥ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٦٥ / ١٢٦٥ ، سنن الدار قطني ٤ : ٧٠ / ٨ ، سنن البيهقي ٦ : ٧٢ ، سنن سعيد ابن منصور ١ : ١٢٥ - ١٢٦ / ٤٢٧ ، مسند أحمد ٦ : ٣٥٨ / ٢١٧٩٢ ، و ٣٩٧ / ٢٢٠٠١.

(٥) التهذيب ٦ : ٢٠٩ / ٤٨٦ ، وفيه : « بالمكفول » بدل « الكفيل ».

٣٨٩

يكون بعقد النكاح والإجارة.

مسألة ٥٦٠ : ويصحّ عقد الكفالة حالّةً ومؤجَّلةً عند أكثر علمائنا‌(١) - وبه قال الشافعي(٢) - للأصل الدالّ على الجواز.

وقال الشيخرحمه‌الله : لا يصحّ ضمان مال ولا نفس إلّا بأجلٍ معلوم(٣) .

وهو ممنوع.

إذا ثبت هذا ، فإذا أطلق عقد الكفالة أو شرط الحلول ، كانت حالّةً ؛ لأنّ كلّ عقدٍ دَخَله الحلول إذا أطلق اقتضى الحلول ، كالثمن.

وإذا ذكر أجلاً ، وجب تعيينه ، فإن أبهم ، كان العقد باطلاً عندنا - وبه قال الشافعي وأحمد(٤) - لما فيه من الغرر بجهالة الأجل. ولأنّه ليس له وقت يستحقّ مطالبته فيه.

وكذا الضمان.

فإن جَعَله إلى الحصاد والجذاذ والقطاع(٥) ، لم يصح عندنا ، وهو أحد قولَي الحنابلة(٦) .

والأولى عندهم : صحّته ؛ لأنّه تبرّع من غير عوضٍ جعل له أجلاً لا يمنع من حصول المقصود فيه ، فصحّ(٧) .

وعن أحمد رواية : أنّه إذا قيّد الكفالة بساعةٍ ، صحّ ، ولزمه. وتوقّف‌

____________________

(١) منهم : الشيخ الطوسي في المبسوط ٢ : ٣٣٧ ، والحلّي في السرائر ٢ : ٧٧ ، والمحقّق في شرائع الإسلام ٢ : ١١٥.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٠.

(٣) النهاية : ٣١٥.

(٤) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٠ ، الوسيط ٣ : ٢٤٤ ، الوجيز ١ : ١٨٥ ، حلية العلماء ٥ : ٧٢ و ٧٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٣ ، المغني ٥ : ١٠٠ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٦.

(٥) في « ث » : « القطاف » بدل « القطاع ».

(٦ و ٧) المغني ٥ : ١٠٠ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٦.

٣٩٠

لو عيّن الوقت المتّسع(١) .

ولأنّه شرط فيها شرطاً فاسداً فلم يصح مطلقها ؛ لعدم الرضا به ، ولا مقيّدها بهذا الشرط ؛ لفساده.

وللشافعي وجهٌ آخَر : أنّها تصحّ كالعاريّة بأجلٍ مجهول(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّ العاريّة لا تلزم ، ولهذا لو قال له : أعرتك أحد هذين الثوبين ، جاز ، وكان له الانتفاع بأحدهما ، ولو قال : كفلت لك بأحد هذين ، لم يصح ، كذا هنا.

مسألة ٥٦١ : عقد الكفالة يصحّ دخول الخيار فيه‌ ، فإن شرط الخيار فيها مدّة معيّنة ، صحّ ؛ لقولهعليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم »(٣) .

وقولِه تعالى :( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٤) أمر بالوفاء بالعقد ، وإنّما وقع العقد على هذا الشرط ، وليس منافياً لمقتضاه ، كما لا ينافي غيره من العقود.

وقال الشافعي : إذا شرط في الكفالة الخيار ، بطل العقد ؛ لأنّه عقد لا يجوز فيه شرط الخيار ، فإذا شرطه بطل ، كالسَّلَم والصرف(٥) .

والمقدّمة الأُولى ممنوعة ، والحكم في المقيس عليه ممنوع.

وقال أبو حنيفة : إذا شرط الخيار في الكفالة ، صحّ العقد ، وبطل الشرط ؛ لأنّ الضمان يتعلّق بغرر وخطر ، فلم يفسد بالشرط الفاسد ،

____________________

(١) المغني ٥ : ١٠٠ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٦.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٠ ، حلية العلماء ٥ : ٧٢ و ٧٧.

(٣) التهذيب ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥ ، الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٣٣.

(٤) المائدة : ١.

(٥) حلية العلماء ٥ : ٧٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٣.

٣٩١

كالنكاح(١) .

مسألة ٥٦٢ : لا بدَّ في العقد من صيغةٍ دالّةٍ على الإيجاب والقبول ، فيقول الكفيل : كفلت لك بدنَ فلان ، أو : أنا كفيل بإحضاره ، أو : كفيل به ، أو بنفسه ، أو ببدنه ، أو بوجهه ، أو برأسه ؛ لأنّ كلّ ذلك يُعبَّر به عن الجملة.

ولو كفل رأسه أو كبده أو عضواً لا تبقى الحياة بدونه ، أو بجزء شائع فيه ، كثلثه أو ربعه ، قال بعض علمائنا : لا يصحّ ؛ إذ لا يمكن إحضار ما شرط مجرّداً ، ولا يسري العقد إلى الجملة(٢) .

وقال بعض الشافعيّة : تصحّ الكفالة ؛ لأنّه لا يمكن إحضار ذلك المكفول إلّا بإحضار كلّه(٣) . وهو الوجه عندي.

ولو تكفّل بعضو تبقى الحياة بعد زواله ، كيده ورِجْله وإصبعه وغيرها ، للشافعيّة وجهان :

أحدهما : الصحّة ؛ لأنّه لا يمكنه إحضار هذه الأعضاء على صفتها إلّا بإحضار البدن كلّه ، فأشبه الكفالة بالوجه والقلب. ولأنّه حكم تعلّق بالجملة ، فيثبت حكمه إذا أُضيف إلى البعض ، كالعتق.

والثاني : لا تصحّ ؛ لأنّه لا يمكن(٤) إحضاره بدون الجملة مع بقائها(٥) .

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٧.

(٢) راجع : شرائع الإسلام ٢ : ١١٨.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٥ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٠ ، حلية العلماء ٥ : ٧٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٥.

(٤) في المغني والشرح الكبير : « يمكن » بدون « لا » النافية.

(٥) الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٥ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٠ ، حلية العلماء ٥ : ٧٤ ، =

٣٩٢

وقال بعض الشافعيّة : لا تصحّ الكفالة في جميع ذلك كلّه ، سواء بقيت الحياة بدونه أو لا ، وسواء كان جزءاً مشاعاً أو لا ؛ لأنّ ما لا يسري إذا خصّ به عضواً لم يصح ، كالبيع والإعارة والوصيّة والإجارة(١) .

البحث الثاني : في الكفيل والمكفول والمكفول له.

مسألة ٥٦٣ : يُشترط في الكفيل البلوغُ والعقلُ والحُرّيّةُ وجوازُ التصرّف‌ ، فلا تصحّ كفالة الصبي ولا المجنون ولا العبد ولا مَنْ لا يجوز تصرّفه ، كالسكران والغافل والنائم والساهي والمحجور عليه للسفه والفلس ؛ لأنّ الكفالة تستلزم غرم المال مع عدم الإحضار ، وهؤلاء كلّهم ممنوعون من التصرّف في أموالهم.

ولا يُشترط ذلك في المكفول ولا في المكفول له ، فإنّه تجوز الكفالة للصبي والمجنون وغيرهما إذا قَبِل الوليّ.

مسألة ٥٦٤ : يُشترط رضا الكفيل ، فلا تصحّ كفالة المكره على الكفالة‌ ؛ لأنّه لا يصحّ أن يلزمه الحقّ ابتداءً إلّا برضاه. ولا نعلم فيه خلافاً.

وكذا يُعتبر رضا المكفول له ؛ لأنّه صاحب الحقّ ، فلا يجوز إلزامه شيئاً بغير رضاه ، وكما يُعتبر رضا المرتهن في الارتهان ، كذا المكفول له يُعتبر رضاه في الكفالة.

وقال أحمد : لا يُعتبر رضاه ؛ لأنّها(٢) التزام حقٍّ له من غير عوض ،

____________________

= التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٥ ، المغني ٥ : ٩٦ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٠ - ١٠١.

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٠ ، حلية العلماء ٥ : ٧٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٥.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لأنّه ». وما أثبتناه كما في المصدر.

٣٩٣

فلم يُعتبر رضاه فيها(١) .

وليس بصحيح.

أمّا المكفول به فلا يُعتبر رضاه ، بل تصحّ الكفالة وإن كره المكفول به ، عند علمائنا - وبه قال ابن سريج من الشافعيّة(٢) - لأنّها وثيقة على الحقّ ، فصحّت بغير أمر مَنْ عليه ، كالضمان.

وقال عامّة الشافعيّة - وهو منقول عن الشافعي - : إنّه يُعتبر رضا المكفول(٣) به ؛ لأنّه إذا لم يأذن المكفول به في الكفالة لم يلزمه الحضور معه ، فلم يتمكّن من إحضاره ، فلم تصحّ(٤) كفالته ؛ لأنّها كفالة بغير المقدور عليه ، بخلاف الضمان ؛ لأنّه يمكنه الدفع من ماله ، ولا يمكنه أن ينوب عنه في الحضور(٥) .

ونمنع عدم لزوم الحضور.

وخلاف الشافعيّة هنا مبنيّ على أنّ الكفيل هل يغرم عند العجز؟ إن قلنا : لا يغرم ، لم تصح الكفالة ؛ لأنّه إذا تبرّع لم يتمكّن من إحضاره ؛ إذ لا تلزمه الإجابة ، فلا تفضي الكفالة إلى مقصودٍ. وإن قلنا : نعم ، يغرم عند العجز(٦) .

فعلى قولنا إذا تكفّل به بغير أمره فطالَبه المكفول له بإحضاره ، وجب‌

____________________

(١) المغني ٥ : ١٠٣ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٢.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٤ ، حلية العلماء ٥ : ٧٣.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « المضمون » بدل « المكفول ». والظاهر ما أثبتناه.

(٤) في النسخ الخطّيّة : « فلا تصحّ ».

(٥) الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٠ ، حلية العلماء ٥ : ٧٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩١ ، المغني ٥ : ١٠٣ - ١٠٤ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٢.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٥.

٣٩٤

عليه إحضاره ، ووجب على المكفول به الحضورُ ، لا من جهة الكفالة ، ولكن لأنّ المكفول له أمره بإحضاره ، فهو بمنزلة وكيله في مطالبته بحضوره.

ولو لم يقل المكفول له : أحضره ، ولكن قال : أُخرج إليَّ من كفالتك ، أو : أُخرج عن حقّي ، فهل يجب على المكفول به الحضور؟ الأقرب : ذلك ؛ لأنّ ذلك يتضمّن الإذن له في إحضاره ، وهو أحد وجهي الشافعيّة على قول ابن سريج.

والثاني : لا يلزمه ؛ لأنّه طالَبه بما عليه من الإحضار ، فعلى هذا له حبسه ، ولا يلزم المكفول به الحضور(١) .

وهو باطل ؛ لأنّه يحبس على ما لا يقدر عليه.

مسألة ٥٦٥ : يُشترط في المكفول به التعيينُ ، فلو قال : كفلت أحد هذين ، أو كفلت زيداً أو عمرواً ، لم يصح ؛ لأنّه لم يلتزم بإحضار أحدهما بعينه.

وكذا لو قال : كفلت لك ببدن زيد على أنّي إن جئت به وإلّا فأنا كفيل بعمرو ، لم يصح ؛ لأنّه لم يلتزم إحضار أحدهما بعينه. ولأنّه علّق الكفالة في عمرو بشرطٍ ، والكفالة لا تتعلّق بالشرط ، فلو قال : إن جئت فأنا كفيل به ، لم يصح. وكذا لو قال : إن جاء زيد فأنا كفيل به ، أو : إن طلعت الشمس ، وبذلك كلّه قال الشافعي(٢) .

ولو قال : أنا أُحضره ، أو أُؤدّي ما عليه ، لم يكن كفالةً.

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٥ - ١٦٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩٢.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨١ و ١٩٠ و ١٩١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦١ و ١٦٧ و ١٧١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٧ و ٤٩٣ و ٤٩٦.

٣٩٥

مسألة ٥٦٦ : كلّ مَنْ عليه حقٌّ ماليٌّ صحّت الكفالة ببدنه‌ ، ولا يشترط العلم بمبلغ ذلك المال ؛ لأنّ الكفالة إنّما هي بالبدن لا بذلك المال ، والبدن معلوم ، فلا تبطل الكفالة لاحتمال عارضٍ. ولأنّا قد بيّنّا أنّ ضمان المجهول صحيح ، وهو التزام المال ابتداءً ، فالكفالة التي لا تتعلّق بالمال ابتداءً أولى ، وهو قول أكثر الشافعيّة(١) .

وقال بعضهم : لا تصحّ كفالة مَنْ عليه حقٌّ مجهول ؛ لأنّه قد يتعذّر إحضار المكفول به ، فيلزمه الدَّيْن ، ولا يمكن طلبه منه ؛ لجهله. ولأنّهم قالوا ذلك بناءً على أنّه لو مات ، غرم الكفيل ما عليه(٢) .

وهذا عندنا غير صحيح.

مسألة ٥٦٧ : يُشترط أن يكون ذلك المال ثابتاً في الذمّة بحيث يصحّ ضمانه‌ ، فلو تكفّل ببدن مَنْ لا دَيْن عليه أو مَنْ جعل جعالة قبل الفعل والشروع فيه ، لم يصح.

ولو تكفّل ببدن المكاتب للنجوم التي عليه ، صحّ عندنا ؛ لأنّ مال الكتابة عندنا ثابت في ذمّة المكاتب على ما سلف(٣) .

وللشيخ قولٌ بعدم الثبوت ؛ لأنّ له أن يُعجّز نفسه(٤) ، وبه قال الشافعي(٥) .

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٩ - ١٦٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٦.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٦.

(٣) في ص ٣١٦ ، المسألة ٥٠٧.

(٤) المبسوط - للطوسي - ٢ : ١٩٧ و ٣٢٠.

(٥) الحاوي الكبير ٦ : ٤٤١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٧ ، الوسيط ٣ : ٢٣٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٢.

٣٩٦

فعلى هذا لا تصحّ كفالة بدن المكاتب للنجوم التي عليه ؛ لأنّه لو ضمن النجوم لم يصح ، فالكفالة بالبدن للنجوم أولى أن لا تصحّ. ولأنّ الحضور لا يجب على المكاتب ، فلا تجوز الكفالة به ، كدَيْن الكتابة.

مسألة ٥٦٨ : إذا كان عليه عقوبة ، فإن كانت من حقوق الله تعالى - كحدّ الزنا والسرقة والشرب - لم تصح الكفالة ببدنه عليها‌ عند علمائنا - وهو المشهور من مذهب الشافعي(١) - لأنّ الكفالة للتوثيق ، وحقوق الله تعالى مبنيّة على الإسقاط ، وينبغي السعي في دفعها ما أمكن ، ولهذا لـمّا أقرّ ماعز بالزنا عرض له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرجوع والإنكار ، فقال له : « لعلّك قبّلتها ، لعلّك لامَسْتَها » وأعرض بوجههصلى‌الله‌عليه‌وآله عنه(٢) .

وطرّد القاضي ابن سلمة وابن خيران من الشافعيّة القولين فيه(٣) .

والخلاف في هذا الباب شبيه الخلاف في ثبوت العقوبات بالشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي.

وأمّا إن كانت العقوبة من حقوق الآدميّين - كالقصاص وحدّ القذف - فالأقرب عندي : ثبوتها في القصاص ، أمّا الحدّ فلا تصحّ الكفالة به ؛ لما رواه العامّة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ( عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه )(٤) قال : « لا كفالة في حدٍّ »(٥) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه الصدوقرحمه‌الله عن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ،

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٦.

(٢) صحيح البخاري ٨ : ٢٠٧ ، سنن الدار قطني ٣ : ١٢١ / ١٣١ و ١٣٢ ، مسند أحمد ١ : ٣٩٤ / ٢١٣٠ ، المعجم الكبير - للطبراني - ١١ : ٣٣٨ / ١١٩٣٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٠.

(٤) بدل ما بين القوسين في « ج ، ر » : « أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ».

(٥) الكامل - لابن عدي - ٥ : ١٦٨١ ، تاريخ بغداد ٣ : ٣٩١.

٣٩٧

قال : قضى أنّه لا كفالة في حدٍّ(١) .

وهذا القول بعدم صحّة الكفالة في الحدّ قولُ أكثر العلماء ، وبه قال شريح والحسن البصري وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي وأحمد(٢) .

واختلف قول الشافعي فيه.

فقال في باب اللعان : إنّه لا يكفل رجل في حدٍّ ولا لعان(٣) .

ونقل المزني عنه أنّه قال : تجوز الكفالة بمن(٤) عليه حقّ أو حدّ(٥) .

واختلف أصحابه في ذلك على طُرق أظهرها عندهم - ويُحكى عن ابن سريج - أنّه على قولين :

أحدهما : الجواز ؛ لأنّه حقٌّ لازم لآدميٍّ ، فصحّت الكفالة به ، كسائر حقوق الآدميّين. ولأنّ الحضور مستحقٌّ عليه ، فجاز التزام إحضاره.

والثاني : المنع ؛ لأنّ العقوبات مبنيّة على الدفع ، ولهذا قالعليه‌السلام : « ادرءوا الحدود بالشبهات »(٦) فينبغي إبطال الذرائع المؤدّية إلى توسيعها وتحصيلها. ولأنّه حقٌّ لا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذّر إحضار المكفول به ، فلم تصح الكفالة بمن(٧) هو عليه ، كحدّ الزنا(٨) .

____________________

(١) الفقيه ٣ : ٥٤ / ١٨٤.

(٢) المغني ٥ : ٩٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٩٩.

(٣) الأُم ٥ : ٢٩٧ ، مختصر المزني : ٢١٤ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٠ ، المغني ٥ : ٩٧ ، الشرح الكبير ٥ : ١٦٠.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لمن » بدل « بمن ». والظاهر ما أثبتناه.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٠ ، المغني ٥ : ٩٧ ، الشرح الكبير ٥ : ١٠٠.

(٦) تاريخ بغداد ٩ : ٣٠٣ ، تاريخ مدينة دمشق ٢٣ : ٣٤٧.

(٧) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ممّن » بدل « بمن ». والظاهر ما أثبتناه.

(٨) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٠.

٣٩٨

وأبو حامد من الشافعيّة بنى القولين على أنّه إذا مات المكفول ببدنه هل يغرم الكفيل ما عليه من الدَّيْن؟ إن قلنا : نعم ، لم تصح الكفالة ؛ لأنّه لا يمكن مؤاخذته بما عليه. وإن قلنا : لا ، صحّت ، كما لو تكفّل ببدن مَنْ عليه مالٌ(١) .

وقضيّة هذا البناء أن يكون قول التصحيح أظهر.

وهو اختيار القفّال(٢) .

وادّعى الروياني أنّ المذهب المنعُ(٣) .

الطريق الثاني للشافعيّة : القطع بالجواز ، وحَمْلُ ما ذكره في اللعان على الكفالة بنفس الحدّ(٤) .

الطريق الثالث : القطع بالمنع ؛ لأنّه لا تجوز الكفالة بما عليه ، فلا تجوز ببدنه(٥) .

والضابط في ذلك أن نقول : حاصل كفالة البدن التزام إحضار المكفول ببدنه ، فكلّ مَنْ يلزمه حضور مجلس الحكم عند [ الاستدعاء ](٦) أو يستحقّ إحضاره تجوز الكفالة ببدنه.

مسألة ٥٦٩ : لو ادّعى شخصٌ زوجيّةَ امرأةٍ ، صحّت الكفالة ببدنها ؛ لوجوب الحضور عليها إلى مجلس الحكم. وكذلك الكفالة بها [ لمن ](٧) ثبتت زوجيّته.

وقال بعض الشافعيّة : الظاهر أنّ حكم هذه الكفالة حكم الكفالة ببدن‌

____________________

(١ - ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦٠.

(٦) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الاستعداء ». والظاهر ما أثبتناه.

(٧) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ثمّ ». والصحيح ما أثبتناه.

٣٩٩

مَنْ عليه القصاص ؛ لأنّ المستحقّ عليها لا يقبل النيابة(١) .

ولو تكفّل ببدن عبدٍ آبقٍ لمالكه ، صحّ ، ويلزمه السعي في ردّه.

ويتأتّى فيه ما قيل في الزوجة.

ومَنْ في يده مالٌ مضمون - كالغصب والمستام والعارية بشرط الضمان - تصحّ كفالتُه وضمانُ عين المغصوب والمستام ليردّها على مالكها ، فإن ردَّ ، برئ من الضمان. وإن تلفت ، ففي إلزامه بالقيمة وجهان ، الأقرب : العدم.

وتصحّ كفالة المستودع والأمين ؛ لوجوب ردّ الوديعة عليه.

والميّت قد يستحقّ إحضاره ليقيم الشهود الشهادة على صورته إذا تحمّلوها كذلك من غير معرفة النسب ولا الاسم ، فتصحّ الكفالة على إحضار بدنه.

وأيضاً الصبي والمجنون قد يستحقّ إحضارهما لإقامة الشهادة على صورتهما في الإتلاف وغيره ، فتجوز الكفالة ببدنهما.

ثمّ إن كفل بإذن وليّهما ، فله مطالبة وليّهما بإحضارهما عند الحاجة.

وإن كفل بغير إذنه ، فهو كالكفالة ببدن العاقل بغير إذنه ، وقد بيّنّا(٢) جوازه عندنا.

وللشافعي قولان(٣) .

قال(٤) الجويني : لو كفل رجل ببغداد ببدن رجل بالبصرة ، فالكفالة‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٦.

(٢) في ص ٣٩٣ ، ضمن المسألة ٥٦٤.

(٣) حلية العلماء ٥ : ٧٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٩٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٨٧ ، وراجع الهامش ( ٢ و ٥ ) من ص ٣٩٣.

(٤) في الطبعة الحجريّة : « وقال ».

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459