الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  13%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96770 / تحميل: 5841
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

له من الوجود و آثار الوجود إلّا ما آتاه الله فأخذه هو ممتثلاً لأمره تابعاً لإرادته من غير أن يملك من ذلك شيئاً، و ليس من عبوديّتها هذا فحسب بل الله أحصاهم و عدّهم فسجل عليهم العبوديّة و أثبت كلّا في موضعه و سخّره مستعملاً له فيما يريده منه فكان شاهداً لعبوديّته، و ليس هذا المقدار فحسب بل سيأتيه كلّ منهم فرداً لا يملك شيئاً و لا يصاحبه شي‏ء و يظهر بذلك حقيقة عبوديّتهم للكلّ فيشهدون ذلك و إذا كان هذا حال كلّ من في السموات و الأرض فكيف يمكن أن يكون بعضهم ولداً لله واجداً لحقيقة اللّاهوت مشتقّاً من جوهرتها؟ و كيف تجتمع الاُلوهيّة و الفقر؟.

و أمّا انتهاء وجود الأشياء إليه تعالى وحده كما تضمّنته الآية الاُولى فممّا لا يرتاب فيه مثبتوا الصانع سواء في ذلك الموحّدون و المشركون و إنّما الاختلاف في كثرة المعبود و وحدته و كثرة الربّ بمعنى المدبّر و لو بالتفويض و عدمها.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا ) الودّ و المودّة المحبّة و في الآية وعد جميل منه تعالى أنّه سيجعل للّذين آمنوا و عملوا الصالحات مودّة في القلوب و لم يقيّده بما بينهم أنفسهم و لا بغيرهم و لا بدنيا و لا بآخره أو جنّة فلا موجب لتقييد بعضهم ذلك بالجنّة و آخرين بقلوب الناس في الدنيا إلى غير ذلك.

و قد ورد في أسباب النزول، من طرق الشيعة و أهل السنّة أنّ الآية نزلت في عليّ (عليه السلام)، و في بعضها ما ورد من طرق أهل السنّة أنّها نزلت في مهاجري الحبشة و في بعضها غير ذلك و سيجي‏ء في البحث الروائيّ الآتي.

و على أيّ حال فعموم لفظ الآية في محلّه، و الظاهر أنّ الآية متّصلة بقوله السابق:( سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) .

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام): في قوله:( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) يوم القيامة أي يكون هؤلاء الذين

١٢١

اتّخذوهم آلهة من دون الله ضدّاً يوم القيامة و يتبرّؤن منهم و من عبادتهم إلى يوم القيامة.

و في الكافي، بإسناده عن عبدالأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) قول الله عزّوجلّ:( إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ) قال: ما هو عندك؟ قلت: عدّ الأيّام قال الآباء و الاُمّهات يحصون ذلك و لكنّه عدد الأنفاس.

و في نهج البلاغة، من كلامه (عليه السلام): نفس المرء خطاه إلى أجله.

و فيه، قال (عليه السلام): كلّ معدود متنقّص و كلّ متوقّع آت.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد عن أبي جعفر محمّد بن عليّ: في قوله:( إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ) قال: كلّ شي‏ء حتّى النفس.

أقول: و هي أشمل الروايات و لا يبعد أن يستفاد منها أنّ ذكر النفس في الروايات من قبيل ذكر المثال.

و في محاسن البرقيّ، بإسناده عن حمّاد بن عثمان و غيره عن أبي عبدالله (عليه السلام): في قول الله عزّوجلّ:( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً ) قال يحشرون على النجائب.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن عبدالله بن شريك العامريّ عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سأل عليّ (عليه السلام) رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) عن تفسير قوله عزّوجلّ:( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً ) قال: يا عليّ الوفد لا يكون إلّا ركبانا اُولئك رجال اتّقوا الله عزّوجلّ فأحبّهم و اختصّهم و رضي أعمالهم فسمّاهم الله متّقين. الحديث.

أقول: ثمّ روى القمّيّ حديثاً آخر طويلاً يذكر (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فيه تفصيل خروجهم من قبورهم و ركوبهم من نوق الجنّة و وفودهم إلى الجنّة و دخولهم فيها و تنعّمهم بما رزقوا من نعمها.

و في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه عن عليّ عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): في الآية قال: أما و الله ما يحشرون على أقدامهم و لا يساقون سوقاً و لكنّهم يؤتون بنوق من الجنّة لم تنظر الخلائق إلى مثلها رحالها الذهب و أزمّتها الزبرجد فيقعدون عليها حتّى يقرعوا

١٢٢

باب الجنّة.

أقول: و روى أيضاً هذا المعنى عن ابن أبي الدنيا و ابن أبي حاتم و ابن مردويه من طرق عن عليّ عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في حديث طويل يصف فيه ركوبهم و وفودهم و دخولهم الجنّة. و استقرارهم فيها و تنعّمهم من نعمها. و رواه فيه عن عدّة من أرباب الجوامع عن علي (عليه السلام).

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت: قوله:( لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) قال: إلّا من دان بولاية أميرالمؤمنين و الأئمّة من بعده فهو العهد عند الله.

أقول: و روى في الدرّ المنثور، عن ابن عبّاس عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): أنّ من أدخل على مؤمن سروراً فقد سرّني و من سرّني فقد اتّخذ عند الله عهداً. الحديث، و روى عن أبي هريرة عنه (صلّي الله عليه وآله وسلّم): أنّ المحافظة على العهد هو المحافظة على الصلوات الخمس‏، و هنا روايات اُخر من طرق الخاصّة و العامّة قريبة ممّا أوردناه و يستفاد من مجموعها أنّ العهد المأخوذ عندالله اعتقاد حقّ أو عمل صالح ينجي المؤمن يوم القيامة و أنّ ما ورد في الروايات من قبيل المصاديق المتفرّقة.

و اعلم أيضاً أنّ الروايات السابقة مبنيّة على كون المراد ممّن يملك الشفاعة في الآية هو الّذي ينال الشفاعة أو الأعمّ من الشفعاء و المشفوع لهم، و أمّا لو كان المراد هم الشفعاء فالأخبار أجنبيّة منها.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام): قلت: قوله عزّوجلّ:( وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ) قال هذا حيث قالت قريش: إنّ لله عزّوجلّ ولداً و أنّ الملائكة إناث فقال الله تبارك و تعالى ردّاً عليهم( لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ) أي عظيماً( تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ) يعني ممّا قالوه و ممّا رموه به( وَتَنشَقّ الْأَرْضُ وَتَخِرّ الْجِبَالُ هَدّاً ) ممّا قالوه و ممّا رموه به( أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً ) فقال الله تبارك و تعالى:( وَ ما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ

١٢٣

فَرْداً ) واحداً واحداً.

في تفسير القمّيّ، بإسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): قلت: قوله عزّوجلّ:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا ) قال: ولاية أميرالمؤمنين هي الودّ الّذي ذكره الله.

أقول: و رواه في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام).

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و الديلميّ عن البراء قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) لعليّ قل: اللّهمّ اجعل لي عندك عهداً و اجعل لي عندك ودّاً و اجعل لي في صدور المؤمنين مودّة فأنزل الله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا ) قال: فنزلت في عليّ.

و فيه، أخرج الطبرانيّ و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: نزلت في عليّ بن أبي طالب:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا ) قال: محبّة في قلوب المؤمنين.

و في المجمع: في الآية: قيل فيه أقوال: أحدها أنّها خاصّة في عليّ فما من مؤمن إلّا و في قلبه محبّة لعليّ (عليه السلام). عن ابن عبّاس‏ و في تفسير أبي حمزة الثماليّ: حدّثني أبوجعفر الباقر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) لعليّ: قل: اللّهمّ اجعل لي عندك عهداً، و اجعل لي في قلوب المؤمنين ودّاً، فقالهما فنزلت هذه الآية: و روى نحوه عن جابر بن عبدالله.

أقول: قال في روح المعاني: الظاهر أنّ الآية على هذا مدنيّة، و أنت خبير بأن لا دلالة في شي‏ء من الأحاديث على وقوع القصّة في المدينة أصلاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف: أنّه لمّا هاجر إلى المدينة وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكّة منهم شيبة بن ربيعة و عتبة بن ربيعة و اُميّة بن خلف فأنزل الله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا ) .

أقول: صريح الحديث كون الآية مدنيّة و يدفعه اتّفاق الكلّ على كون

١٢٤

السورة بجميع آياتها مكّيّة و قد تقدّم في أوّل السورة.

و فيه، أخرج الحكيم الترمذيّ و ابن مردويه عن عليّ قال: سألت رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) عن قوله:( سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا ) ما هو؟ قال: المحبّة في قلوب المؤمنين و الملائكة المقرّبين، يا عليّ إنّ الله أعطى المؤمن ثلاثاً: المقة و المحبّة و الحلاوة و المهابة في صدور الصالحين.

أقول: المقة المحبّة و في معناه بعض روايات اُخر من طرق أهل السنّة مبنيّة على عموم لفظ الآية و هو لا ينافي خصوص مورد النزول.

١٢٥

( سورة مريم الآيات ٩٧ - ٩٨)

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا ( ٩٧ ) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ( ٩٨ )

( بيان)

الآيتان ختام السورة يذكر سبحانه فيهما تنزيل حقيقة القرآن و هي أعلى من أن تنالها أيدي الأفهام العاديّة أو يمسّه غير المطهّرين إلى مرتبة الذكر بلسان النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و يذكر أنّ الغاية من هذا التيسير أن يبشّر به المتّقين من عباده و ينذر به قوماً لدّا خصماء، ثمّ لخصّ إنذارهم بتذكير هلاك من هلك من القرون السابقة عليهم.

قوله تعالى: ( فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا ) التيسير و هو التسهيل ينبئ عن حال سابقة ما كان يسهل معها تلاوته و لا فهمه و قد أنبأ سبحانه عن مثل هذه الحالة لكتابه في قوله:( وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف: ٤، فأخبر أنّه لو أبقاه على ما كان عليه عنده - و هو الآن كذلك - من غير أن يجعله عربيّاً مقروّاً لم يرج أن يعقله الناس و كان كما كان عليّاً حكيماً أي آبيا متعصيّاً أن يرقى إليه أفهامهم و ينفذ فيه عقولهم.

و من هنا يتأيّد أنّ معنى تيسيره بلسانه تنزيله على اللسان العربيّ الّذي كان هو لسانه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فتنبئ الآية أنّه تعالى يسّره بلسانه ليتيسّر له التبشير و الإنذار.

و ربّما قيل: إنّ معنى تيسيره بلسانه إجراؤه على لسانه بالوحي و اختصاصه بوحي الكلام الإلهيّ ليبشّر به و ينذر. و هذا و إن كان في نفسه وجهاً عميقاً لكنّ

١٢٦

الوجه الأوّل مضافاً إلى تأيّده بالآيات السابقة و أمثالها أنسب و أوفق بسياق آيات السورة.

و قوله:( وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا ) المراد قومه، (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و اللّدّ جمع ألدّ من اللدد و هو الخصومة.

قوله تعالى: ( وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ) الإحساس هو الإدراك بالحسّ، و الركز هو الصوت، قيل: و الأصل في معناه الحسّ، و محصّل المعنى أنّهم و إن كانوا خصماء مجادلين لكنّهم غير معجزي الله بخصامهم فكم أهلكنا قبلهم من قرن فبادوا فلا يحسّ منهم أحد و لا يسمع لهم صوت.

١٢٧

( سورة طه مكّيّة و هي مائة و خمس و ثلاثون آية)

( سورة طه الآيات ١ - ٨)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ طه ( ١ ) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ ( ٢ ) إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ ( ٣ ) تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى ( ٤ ) الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ( ٥ ) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ ( ٦ ) وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ( ٧ ) اللهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ( ٨ )

( بيان)

غرض السورة التذكرة من طريق الإنذار تغلب فيها آيات الإنذار و التخويف على آيات التبشير غلبة واضحة، فقد اشتملت على قصص تختتم بهلاك الطاغين و المكذّبين لآيات الله و تضمّنت حججا بيّنة تلزم العقول على توحيده تعالى و الإجابة لدعوة الحقّ و تنتهي إلى بيان ما سيستقبل الإنسان من أهوال الساعة و مواقف القيامة و سوء حال المجرمين و خسران الظالمين.

و قد افتتحت الآيات - على ما يلوح من السياق - بما فيه نوع تسلية للنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أن لا يتعب نفسه الشريفة في حمل الناس على دعوته الّتي يتضمّنها القرآن فلم ينزل ليتكلّف به بل هو تنزيل إلهيّ يذكّر الناس بالله و آياته رجاء أن تستيقظ غريزة خشيتهم فيتذكّروا فيؤمنوا به و يتّقوا فليس عليه إلّا التبليغ فحسب فإن خشوا و تذكّروا و إلّا غشيتهم غاشية عذاب الاستئصال أو ردّوا إلى ربّهم فأدركهم وبال

١٢٨

ظلمهم و فسقهم و وفّيت لهم أعمالهم من غير أن يكونوا معجزين لله سبحانه بطغيانهم و تكذيبهم.

و سياق آيات السورة يعطي أن تكون مكّيّة و في بعض الآثار أنّ قوله:( فَاصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ ) الآية: ١٣٠ مدنيّة و في بعضها الآخر أنّ قوله:( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ) الآية: ١٣١، مدنيّة و لا دليل على شي‏ء من ذلك من ناحية اللفظ.

و من غرر الآيات في السورة قوله تعالى:( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ ) .

قوله تعالى: ( طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) طه حرفان من الحروف المقطّعة افتتحت بهما السورة كسائر الحروف المقطّعة الّتي افتتحت بها سورها نحو الم الر و نظائرهما و قد نقل عن جماعة من المفسّرين في معنى الحرفين اُمور ينبغي أن يجلّ البحث التفسيري عن إيرادها و الغور في أمثالها، و سنلوّح إليها في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

و الشقاوة خلاف السعادة قال الراغب: و الشقاوة كالسعادة من حيث الإضافة فكما أنّ السعادة في الأصل ضربان: سعادة اُخرويّة و سعادة دنيويّة ثمّ السعادة الدنيويّة ثلاثة أضرب: سعادة نفسيّة و بدنيّة و خارجيّة كذلك الشقاوة على هذه الأضرب - إلى أن قال - قال بعضهم: قد يوضع الشقاء موضع التعب نحو شقيت في كذا، و كلّ شقاوة تعب، و ليس كلّ تعب شقاوة فالتعب أعمّ من الشقاوة. انتهى، فالمعنى ما أنزلنا القرآن لتتعب نفسك في سبيل تبليغه بالتكلّف في حمل الناس عليه.

قوله تعالى: ( إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى‏ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى) التذكرة هي إيجاد الذكر فيمن نسي الشي‏ء و إذ كان الإنسان ينال حقائق الدين الكلّيّة بفطرته كوجوده تعالى و توحّده في وجوب وجوده و اُلوهيّته و ربوبيّته و النبوّة و المعاد و غير ذلك كانت اُموراً مودعة في الفطرة غير أنّ إخلاد الإنسان إلى الأرض و إقباله إلى الدنيا و اشتغاله بما يهواه من زخارفها اشتغالاً لا يدع في قلبه

١٢٩

فراغاً أنساه ما اُودع في فطرته و كان إلقاء هذه الحقائق إلفاتا لنفسه إليها و تذكرة له بها بعد نسيانها.

و من المعلوم أنّ ذلك إعراض و إنّما سمّي نسياناً بنوع من العناية و هو اشتراكهما في الأثر و هو عدم الاعتناء بشأنه فلا بدّ في دفع هذا النسيان الّذي أوجبه اتّباع الهوى و الانكباب على الدنيا من أمر ينتزع النفس انتزاعاً و يدفعها إلى الإقبال إلى الحقّ دفعاً و هو الخشية و الخوف من عاقبة الغفلة و وبال الاسترسال حتّى تقع التذكرة موقعها و تنفع في اتّباع الحقّ صاحبها.

و بما تقدّم من البيان يظهر وجه تقييد التذكرة بقوله:( لِمَنْ يَخْشى‏ ) و أنّ المراد بمن يخشى من كان في طبعه ذلك بأن كان مستعدّاً لظهور الخشية في قلبه لو سمع كلمة الحقّ حتّى إذا بلغت إليه التذكرة ظهرت في باطنه الخشية فآمن و اتّقى.

و الاستثناء في قوله:( إِلَّا تَذْكِرَةً ) استثناء منقطع - على ما قالوا - و المعنى ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب به نفسك و لكن ليكون مذكّراً يتذكّر به من من شأنه أن يخشى فيخشى فيؤمن بالله و يتّقي.

فالسياق على رسله يستدعي كون( تَذْكِرَةً ) مصدراً بمعنى الفاعل و مفعولاً له لقوله:( ما أَنْزَلْنا ) كما يستدعي كون قوله:( تَنْزِيلًا ) بمعنى اسم المفعول حالاً من ضمير( تَذْكِرَةً ) الراجع إلى القرآن، و المعنى ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب به نفسك و لكن لتذكّر الخاشعين بكلام إلهيّ منزّل من عنده.

و قوله:( تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى‏ ) العلى جمع عليا مؤنّث أعلى كفضلى و فضل، و اختيار خلق الأرض و السماوات صلة للموصول و بياناً لإبهام المنزّل لمناسبته معنى التنزيل الّذي لا يتمّ إلّا بعلو و سفل يكونان مبدأ و منتهى لهذا التسيير، و قد خصّصاً بالذكر دون ما بينهما إذ لا غرض يتعلّق بما بينهما و إنّما الغرض بيان مبدإ التنزيل و منتهاه بخلاف قوله:( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما ) إذ الغرض بيان شمول الملك للجميع.

قوله تعالى: ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) استئناف يذكر فيه مسألة توحيد

١٣٠

الربوبيّة الّتي هي مخّ الغرض من الدعوة و التذكرة و ذلك في أربع آيات( الرَّحْمنُ - إلى قوله -لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) .

و قد تقدّم في قوله تعالى( ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ) الأعراف: ٥٤، أنّ الاستواء على العرش كناية عن الاحتواء على الملك و الأخذ بزمام تدبير الاُمور و هو فيه تعالى - على ما يناسب ساحة كبريائه و قدسه - ظهور سلطنته على الكون و استقرار ملكه على الأشياء بتدبير اُمورها و إصلاح شؤونها.

فاستواؤه على العرش يستلزم إحاطة ملكه بكلّ شي‏ء و انبساط تدبيره على الأشياء سماويّها و أرضيّها جليلها و دقيقها خطيرها و يسيرها، فهو تعالى ربّ كلّ شي‏ء المتوحّد بالربوبيّة إذ لا نعني بالربّ إلّا المالك للشي‏ء المدبّر لأمره، و لذلك عقّب حديث الاستواء على العرش بحديث ملكه لكلّ شي‏ء و علمه بكلّ شي‏ء و ذلك في معنى التعليل و الاحتجاج على الاستواء المذكور.

و معلوم أنّ( الرَّحْمنُ ) و هو مبالغة من الرحمة الّتي هي الإفاضة بالإيجاد و التدبير و هو يفيد الكثرة أنسب بالنسبة إلى الاستواء من سائر الأسماء و الصفات و لذلك اختصّ من بينها بالذكر.

و قد ظهر بما تقدّم أنّ( الرَّحْمنُ ) مبتدأ خبره( اسْتَوى) و( عَلَى الْعَرْشِ ) متعلّق بقوله:( اسْتَوى) و المراد بيان الاستواء على العرش و هذا هو المستفاد أيضاً من سائر الآيات فقد تكرّر فيها حديث الاستواء على العرش كقوله:( ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ) الأعراف: ٥٤، و قوله:( ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) يونس: ٣، و قوله:( ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ) الم السجدة: ٤، و قوله:( ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ ) الحديد: ٤، إلى غير ذلك.

و بذلك يتبيّن فساد ما نسب إلى بعضهم أنّ قوله:( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ ) مبتدأ و خبر ثمّ قوله:( اسْتَوى) فعل فاعله( ما فِي السَّماواتِ ) و قوله:( لَهُ ) متعلّق بقوله:( اسْتَوى) و المراد باستواء كلّ شي‏ء له تعالى جريها على ما يوافق إرادته و

١٣١

انقيادها لأمره.

و قد أشبعنا الكلام في معنى العرش في ذيل الآية ٥٤ من سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب، و سيأتي بعض ما يختصّ بالمقام في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ ما تَحْتَ الثَّرى) الثرى على ما قيل: هو التراب الرطب أو مطلق التراب، فالمراد بما تحت الثرى ما في جوف الأرض دون التراب و يبقى حينئذ لما في الأرض ما على بسيطها من أجزائها و ما يعيش فيها ممّا نعلمه و نحسّ به كالإنسان و أصناف الحيوان و النبات و ما لا نعلمه و لا نحسّ به.

و إذا عمّ الملك ما في السماوات و الأرض و من ذلك أجزاؤهما عمّ نفس السماوات و الأرض فليس الشي‏ء إلّا نفس أجزائه.

و قد بيّن في هذه الآية أحد ركني الربوبيّة و هو الملك، فإنّ معنى الربوبيّة كما تقدّم آنفاً هو الملك و التدبير.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى‏ ) الجهر بالقول: رفع الصوت به، و الإسرار خلافه، قال تعالى:( وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ) الملك: ١٣، و السرّ هو الحديث المكتوم في النفس، و قوله:( وَ أَخْفى) أفعل التفضيل من الخفاء على ما يعطيه سياق الترقّي في الآية و لا يصغي إلى قول من قال: إنّ( أَخْفى) فعل ماض فاعله ضمير راجع إليه تعالى، و المعنى: إنّه يعلم السرّ و أخفى علمه. هذا. و في تنكير( أَخْفى) تأكيد للخفاء.

و ذكر الجهر بالقول في الآية أوّلاً ثمّ إثبات العلم بما هو أدقّ منه و هو السرّ و الترقّي إلى أخفى يدلّ على أنّ المراد إثبات العلم بالجميع، و المعنى: و إن تجهر بقولك و أعلنت ما تريده - و كأنّ المراد بالقول ما في الضمير من حيث إنّ ظهوره إنّما هو بالقول غالباً - أو أسررته في نفسك و كتمته أو كان أخفى من ذلك بأن كان خفيّاً حتّى عليك نفسك فإنّ الله يعلمه.

١٣٢

فالأصل ترديد القول بين المجهور به و السرّ و أخفى و إثبات العلم بالجميع ثمّ وضع إثبات العلم بالسرّ و أخفى موضع الترديد الثاني و الجواب إيجازاً. فدلّ على الجواب في شقّي الترديد معاً و على معنى الاُولويّة بأوجز بيان كأنّه قيل: و إن تسأل عن علمه بما تجهر به من قولك فهو يعلمه و كيف لا يعلمه؟ و هو يعلم السرّ و أخفى منه فهو في الكلام من لطيف الصنعة.

و ذكر بعضهم أنّ المراد بالسرّ ما أسررته من القول إلى غيرك و لم ترفع صوتك به، و المراد بأخفى منه ما أخطرته ببالك هذا و الّذي ذكره حقّ في الإسرار لكنّ القول لا يسمّى سرّاً إلّا من جهة كتمانه في النفس فالمعوّل على ما قدّمناه من المعنى.

و كيف كان فالآية تثبت علمه تعالى بكلّ شي‏ء ظاهر أو خفيّ فهي في ذكر العلم عقيب الاستواء على العرش نظيرة قوله تعالى:( ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها ) الآية: الحديد: ٤، و معلوم أنّ علمه تعالى بما يجري في ملكه و يحدث في مستقرّ سلطانه من الحوادث يستلزم رضاه بذلك و إذنه و بنظر آخر مشيئته لهذا النظام الجاري و هذا هو التدبير.

فالآية تثبت عموم التدبير كما أنّ الآية السابقة كانت تثبت عموم الملك و مجموع مدلوليهما هو الملك و التدبير و ذلك معنى الربوبيّة المطلقة فالآيتان في مقام التعليل تثبت بهما ربوبيّته تعالى المطلقة.

قوله تعالى: ( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) بمنزلة النتيجة لما تقدّم من الآيات و لذلك كان الأنسب أن يكون اسم الجلالة خبراً لمبتدء محذوف و التقدير هذا المذكور في الآيات السابقة هو الله لا إله إلّا هو إلخ، و إن كان الأقرب بالنظر إلى استقلال الآية و جامعيّتها في مضمونها أن يكون اسم الجلالة مبتدء و قوله:( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) خبره، و قوله:( لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ ) خبراً بعد خبر.

و كيف كان فقوله:( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) يمكن أن يعلّل بما ثبت في الآيات السابقة من توحّده تعالى بالربوبيّة المطلقة و يمكن أن يعلّل بقوله بعده:( لَهُ

١٣٣

الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ ) .

أمّا الأوّل فلأنّ معنى الإله في كلمة التهليل إمّا المعبود و إمّا المعبود بالحقّ فمعنى الكلام الله لا معبود حقّ غيره أو لا معبود بالحقّ موجود غيره و المعبوديّة من شؤون الربوبيّة و لواحقها فإنّ العبادة نوع تمثيل و ترسيم للعبوديّة و المملوكيّة و إظهار للحاجة إليه فمن الواجب أن يكون المعبود مالكاً لعابده مدبّراً أمره أي ربّا له و إذ كان تعالى ربّ كلّ شي‏ء لا ربّ سواه فهو المعبود لا معبود سواه.

و أمّا الثاني فلأنّ العبادة لأحد ثلاث خصال إمّا رجاء لما عند المعبود من الخير فيعبد طمعاً في الخير الّذي عنده لينال بذلك، و إمّا خوفاً ممّا في الإعراض عنه و عدم الاعتناء بأمره من الشرّ و إمّا لأنّه أهل للعبادة و الخضوع.

و الله سبحانه هو المالك لكلّ خير لا يملك شي‏ء شيئاً من الخير إلّا ما ملّكه هو إيّاه و هو المالك مع ذلك لما ملّكه و القادر على ما عليه أقدره و هو المنعم المفضل المحيي الشافي الرازق الغفور الرحيم الغنيّ العزيز و له كلّ اسم فيه معنى الخير فهو سبحانه المستحقّ للعبادة رجاء لما عنده من الخير دون غيره.

و الله سبحانه هو العزيز القاهر الّذي لا يقوم لقهره شي‏ء و هو المنتقم ذو البطش شديد العقاب لا شرّ لأحد عند أحد إلّا بإذنه فهو المستحقّ لأن يعبد خوفاً من غضبه لو لم يخضع لعظمته و كبريائه.

و الله سبحانه هو الأهل للعبادة وحده لأنّ أهليّة الشي‏ء لأن يخضع له لنفسه ليس إلّا لكمال فالكمال وحده هو الّذي يخضع عنده النقص الملازم للخضوع و هو إمّا جمال تنجذب إليه النفس انجذاباً أو جلال يخرّ عنده اللبّ و يذهب دونه القلب و له سبحانه كلّ الجمال و ما من جمال إلّا و هو آية لجماله، و له سبحانه كلّ الجلال و كلّ ما دونه آيته. فالله سبحانه لا إله إلّا هو و لا معبود سواه لأنّه له الأسماء الحسنى.

و معنى ذلك أنّ كلّ اسم هو أحسن الأسماء الّتي هي نظائره له تعالى، توضيح ذلك أنّ توصيف الاسم بالحسن يدلّ على أنّ المراد به ما يسمّى في اصطلاح الصرف

١٣٤

صفة كاسم الفاعل و الصفة المشبهة دون الاسم بمعنى علم الذات لأنّ الأعلم إنّما شأنها الإشارة إلى الذوات و الاتّصاف بالحسن أو القبح من شأن الصفات باشتمالها على المعاني كالعادل و الظالم و العالم و الجاهل، فالمراد بالأسماء الحسنى الألفاظ الدالّة على المعاني الوصفية الجميلة البالغة في الجمال كالحي و العليم و القدير، و كثيراً مّا يطلق التسمية على التوصيف، قال تعالى:( قُلْ سَمُّوهُمْ ) أي صفوهم.

و يدلّ على ذلك أيضاً قوله تعالى:( وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ ) الأعراف: ١٨٠، أي يميلون من الحقّ إلى الباطل فيطلقون عليه من الأسماء ما لا يليق بساحة قدسه.

فالمراد بالأسماء الحسنى ما دلّ على معان وصفيّة كالإله و الحيّ و العليم و القدير دون اسم الجلالة الّذي هو علم الذات، ثمّ الأسماء تنقسم إلى قبيحة كالظالم و الجائر و الجاهل، و إلى حسنة كالعادل و العالم، و الأسماء الحسنة تنقسم إلى ما فيه كمال مّا و إن كان غير خال عن شوب النقص و الإمكان نحو صبيح المنظر و معتدل القامة و جعد الشعر و ما فيه الكمال من غير شوب كالحيّ و العليم و القدير بتجريد معانيها عن شوب المادّة و التركيب و هي أحسن الأسماء لبراءتها عن النقص و العيب و هي الّتي تليق أن تجري عليه تعالى و يتّصف بها.

و لا يختصّ ذلك منها باسم دون اسم بل كلّ اسم أحسن فله تعالى لمكان الجمع المحلّى باللّام المفيد للاستغراق في قوله تعالى:( لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ ) و تقديم الخبر يفيد الحصر فجميعها له وحده.

و معنى كونها له تعالى أنّه تعالى يملكها لذاته و الّذي يوجد منها في غيره فهو بتمليك منه تعالى على حسب ما يريد كما يدلّ عليه سوق الآيات الآتية سوق الحصر كقوله:( هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) المؤمن: ٦٥، و قوله:( وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ) الروم: ٥٤ و قوله:( هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) المؤمن: ٥٦، و قوله:( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) البقرة: ١٦٥، و قوله:( فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) النساء: ١٣٩، و قوله:( وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ ) البقرة: ٢٥٥، إلى غير ذلك.

١٣٥

و لا محذور في تعميم ملكه بالنسبة إلى جميع أسمائه و صفاته حتّى ما كان منها عين ذاته كالحيّ و العليم و القدير و كالحياة و العلم و القدرة فإنّ الشي‏ء ربّما ينسب إلى نفسه بالملك كما في قوله تعالى:( رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي ) المائدة: ٢٥.

( بحث روائي)

في المجمع في قوله:( ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى‏ ) و روي أنّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) كان يرفع إحدى رجليه في الصلاة ليزيد تعبه فأنزل الله تعالى:( طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) و روي ذلك عن أبي عبدالله (عليه السلام).

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عبد بن حميد و ابن المنذر عن الربيع بن أنس و أيضاً عن ابن مردويه عن ابن عبّاس.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر و أبي عبدالله (عليهما السلام) قالا: كان رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) إذا صلّى قام على أصابع رجليه حتّى تورّم فأنزل الله تبارك و تعالى:( طه - بلغة طيّ يا محمّد -ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى‏ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى‏ ) .

أقول: و روى ما في معناه في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) و في الاحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه عن عليّ (عليهم السلام)، و روى هذا المعنى أيضاً في الدرّ المنثور، عن ابن المنذر و ابن مردويه و البيهقي عن ابن عبّاس.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عليّ قال: لمّا نزل على النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم):( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ) قام الليل كلّه حتّى تورّمت قدماه فجعل يرفع رجلاً و يضع رجلاً فهبط عليه جبريل فقال:( طه ) يعني الأرض بقدميك يا محمّد:( ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) و أنزل( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) .

أقول: و المظنون المطابق للاعتبار أن تكون هذه الرواية هي الأصل في القصّة بأن يكون النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قام على قدميه في الصلاة حتّى تورّمت قدماه ثمّ

١٣٦

جعل يرفع قدما و يضع اُخرى أو قام على صدور قدميه أو أطراف أصابعه فذكر في كلّ من الروايات بعض القصّة سبباً للنزول و إن كان لفظ بعض الروايات لا يساعد على ذلك كلّ المساعدة.

نعم يبقى على الرواية أمران:

أحدهما: أنّ في انطباق الآيات بما لها من السياق على القصّة خفاء.

و ثانيهما: ما في الرواية من قوله:( فقال طه يعني الأرض بقدميك يا محمّد) و نظيره ما مرّ في رواية القمّيّ( فأنزل الله:طه بلغة طيّ يا محمّدما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) و معناه أنّ طه جملة كلاميّة مركّبة من فعل أمر من وطأ يطأ و مفعوله ضمير تأنيث راجع إلى الأرض، أي طإ الأرض و ضع قدميك عليها و لا ترفع إحداهما و تضع الاُخرى.

فيرد عليه حينئذ أنّ هذا الذيل لا ينطبق على صدر الرواية فإنّ مفاد الصدر أنّه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) كان يرفع رجلاً و يضع اُخرى في الصلاة إثر تورّم قدميه يتوخّى به أن يسكن وجع قدمه الّتي كان يرفعها فيستريح هنيئة و يشتغل بربّه من غير شاغل يشغله و على هذا فرفع الكلفة و التعب عنه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) على ما يناسب الحال إنّما هو بأن يؤمر بتقليل الصلاة أو بتخفيف القيام لا بوضع القدمين على الأرض حتّى يزيد ذلك في تعبه و يشدّد وجعه فلا يلائم قوله:( طه ) قوله:( ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى‏ ) و لعلّ قوله:( يعني الأرض بقدميك) من كلام الراوي و النقل بالمعنى.

على أنّه مغاير للقراءات المأثورة البانية على كون( طه ) حرفين مقطّعتين لا معنى وضعيّ لهما كسائر الحروف المقطّعة الّتي صدّرت بها عدّة من السور القرآنيّة.

و ذكر قوم منهم أنّ معنى( طه ) يا رجل ثمّ قال بعضهم: أنّه لغة نبطيّة و قيل: حبشية، و قيل: عبرانية، و قيل: سريانيّة، و قيل: لغة عكل، و قيل: لغة عكّ، و قيل: هو لغة قريش، و احتمل الزمخشريّ أن يكون لغة عك و أصله يا هذا قلبت الياء طاءً و حذفت ذا تخفيفاً فصارت طاها، و قيل: معناه يا فلان، و قرأ قوم طه بفتح الطاء و سكون الهاء كأنّه أمر من وطأ يطأ و الهاء للسكت و قيل: إنّه من

١٣٧

أسماء الله و لا عبرة بشي‏ء من هذه الأقوال و لا جدوى في إمعان البحث عنها.

نعم‏ ورد عن أبي جعفر (عليه السلام) كما في روح المعاني، و عن أبي عبد الله (عليه السلام) كما عن معاني الأخبار، بإسناده عن الثوريّ: أنّ طه اسم من أسماء النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) كما ورد في روايات اُخرى: أنّ يس من أسمائه‏ و روى الاسمين معاً في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه عن سيف عن أبي جعفر.

و إذ كانت تسمية سماويّة ما كان (صلّي الله عليه وآله وسلّم) يدعى و لا يعرف به قبل نزول القرآن و لا أنّ لطه معنى وصفيّاً في اللغة و لا معنى لتسميته بعلم ارتجاليّ لا معنى له إلّا الذات مع وجود اسمه و اشتهاره به و كان الحقّ في الحروف المقطّعة في فواتح السور أنّها تحمل معاني رمزيّة ألقاها الله إلى رسوله، و كانت سورة طه مبتدئة بخطاب النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم)( طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ ) إلخ كما أنّ سورة يس كذلك( يس وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) بخلاف سائر السور المفتتحة بالحروف المقطّعة و ظاهر ذلك أن يكون المعنى المرموز إليه بمقطّعات فاتحتي هاتين السورتين أمراً راجعاً إلى شخصه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) متحقّقاً به بعينه فكان وصفاً لشخصيّته الباطنة مختصّاً به فكان اسماً من أسمائه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فإذا اُطلق عليه و قيل: طه أو يس كان المعنى من خوطب بطة أو يس ثمّ صار علماً بكثرة الاستعمال.

هذا ما تيسّر لنا من توجيه الرواية فيكون بابه باب التسمّي بمثل تأبّط شرّاً و من قبيل قوله:

أنا ابن جلا و طلاع الثنايا

إذا أضع العمامة تعرفوني

يريد أنا ابن من كثر فيه قول الناس: جلا جلا حتّى سمّي جلا.

و في احتجاج الطبرسيّ، عن الحسن بن راشد قال: سئل أبوالحسن موسى (عليه السلام) عن قول الله:( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) فقال: استولى على ما دقّ و جلّ.

و في التوحيد، بإسناده إلى محمّد بن مازن: أنّ أباعبدالله (عليه السلام) سئل عن قول الله عزّوجلّ:( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) فقال: استوى من كلّ شي‏ء فليس شي‏ء

١٣٨

أقرب إليه من شي‏ء.

أقول: و رواه القمّيّ أيضاً في تفسيره، عنه (عليه السلام) و رواه أيضا في التوحيد، بإسناده عن مقاتل بن سليمان عنه (عليه السلام) و رواه أيضاً في الكافي، و التوحيد، بالإسناد عن عبد الرحمن بن الحجّاج عنه (عليه السلام): و زاداً( لم يبعد منه بعيد و لم يقرب منه قريب استوى من كلّ شي‏ء) .

و في الاحتجاج، عن عليّ (عليه السلام): في حديث( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ ) يعني استوى تدبيره و علا أمره.

أقول: ما ورد من التفسير في هذه الروايات الثلاث تفسير لمجموع الآية لا لقوله( اسْتَوى) و إلّا عاد قوله:( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ ) جملة تامّة مركّبة من مبتدإ و خبر و لا يساعد عليه سياق سائر آيات الاستواء كما تقدّمت الإشارة إليه.

و يؤيّد ذلك ما في الرواية الأخيرة من قوله:( و علا أمره) بعد قوله:( استوى تدبيره) فإنّه ظاهر في أنّ الكون على العرش مقصود في التفسير فالروايات مبنيّة على كون الآية كناية عن الاستيلاء و انبساط السلطان.

و في التوحيد، بإسناده عن المفضّل بن عمر عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: من زعم أنّ الله من شي‏ء أو في شي‏ء أو على شي‏ء فقد أشرك. ثمّ قال: من زعم أنّ الله من شي‏ء فقد جعله محدّثاً، و من زعم أنّه في شي‏ء فقد زعم أنّه محصور، و من زعم أنّه على شي‏ء فقد جعله محمولاً.

و فيه عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث طويل و فيه: قال السائل: فقوله:( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ؟ قال أبوعبدالله (عليه السلام): بذلك وصف نفسه، و كذلك هو مستول على العرش بائن من خلقه من غير أن يكون العرش حاملاً له، و لا أن يكون العرش حاوياً له و لا أن يكون العرش ممتازاً له و لكنّا نقول هو حامل العرش و ممسك العرش، و نقول من ذلك ما قال:( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ) .

فثبّتنا من العرش و الكرسيّ ما ثبّته و نفينا أن يكون العرش أو الكرسيّ حاوياً و أن يكون عزّوجلّ محتاجاً إلى مكان أو إلى شي‏ء ممّا خلق بل خلقه

١٣٩

محتاجون إليه.

أقول: و قوله (عليه السلام): فثبّتنا من العرش و الكرسيّ ما ثبّته إلخ، إشارة إلى طريقة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير الآيات المتشابهة من القرآن ممّا يرجع إلى أسمائه و صفاته و أفعاله و آياته الخارجة عن الحسّ و ذلك بإرجاعها إلى المحكمات و نفي ما تنفيه المحكمات عن ساحته تعالى و إثبات ما ثبت بالآية و هو أصل المعنى المجرّد عن شائبة النقص و الإمكان الّتي نفاها المحكمات.

فالعرش هو المقام الّذي يبتدئ منه و ينتهي إليه أزمّة الأوامر و الأحكام الصادرة من الملك و هو سرير مقبّب مرتفع ذو قوائم معمول من خشب أو فلزّ يجلس عليه الملك ثمّ إنّ المحكمات من الآيات كقوله تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) الشورى: ١١، و قوله:( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) الصافّات ١٥٩، تدلّ على انتفاء الجسم و خواصّه عنه تعالى فينفي من العرش الّذي وصفه لنفسه في قوله:( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) طه: ٥ و قوله:( وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) المؤمنون: ٨٦، كونه سريراً من مادّة كذا على هيئة خاصّة و يبقى أصل المعنى و هو أنّه المقام الّذي يصدر عنه الأحكام الجارية في النظام الكونيّ و هو من مراتب العلم الخارج من الذات.

و المقياس في معرفة ما عبّرنا عنه بأصل المعنى أنّه المعنى الّذي يبقى ببقائه الاسم و بعبارة اُخرى يدور مداره صدق الاسم و إن تغيّرت المصاديق و اختلفت الخصوصيّات.

مثال ذلك أنّ السراج ظهر أوّل يوم و هو آلة الاستضاءة في ظلمة الليل و مصداقه يومئذ إناء يجعل فيه فتيلة على مادّة دسمة و يشتعل رأسها فتشعل بما تجذب من الدسومة و تضي‏ء ما حولها مثلاً، ثمّ انتقل الاسم إلى مثل الشموع و المصابيح النفطيّة و لم يزل ينتقل من مصداق إلى مصداق حتّى استقرّ اليوم في السراج الكهربائيّ الّذي ليس معه من مادّة المصداق الأوّليّ و لا هيئته شي‏ء أصلاً غير أنّه آلة الاستضاءة في الظلمة و بذلك يسمّى سراجاً حقيقة.

و نظيره السلاح الّذي كان أوّل ما ظهر اسما لمثل الفأس من النحاس أو المجنّ

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ الله تعالى (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ )(٢) ، كما نصّ عليه في كتابه ، ولا خالق سواه

ويعاقب الناس على كسبهم ومباشرتهم الذنوب والمعاصي ، ويلوم العباد بالكسب الذميم ، وهو يخلق الأشياء ، والله يخلق الإعراض ، ولكنّ العبد مباشر للإعراض فهو معرض ، والمعرض من يباشر الفعل لا من يخلق ، وكذا المنع(٣) .

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٨٢.

(٢) سورة الأنعام ٦ : ١٠٢ ، سورة الرعد ١٣ : ١٦ ، سورة الزمر ٣٩ : ٦٢ ، سورة غافر ٤٠ : ٦٢.

(٣) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٦٩ ـ ٩١ ، تمهيد الأوائل : ٣٤١ ـ ٣٤٥ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٨٦ ـ ٩٣ ، المسائل الخمسون : ٥٩ ـ ٦١ ، شرح العقائد النسفية : ١٣٥ ـ ١٣٩.

٣٤١

وأقول :

لا يخفى أنّ قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) وارد في مقامين من الكتاب المجيد

الأوّل : قوله تعالى في سورة الأنعام : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ )(١) .

وهو ظاهر في غير أفعال العباد ؛ لأنّه سبحانه قد جعل الأمر بعبادته واستحقاقه لها فرعا عن وحدانيّته وخلقه للكائنات.

ومن الواضح أنّ تفريع الأمر بالعبادة على خلق الكائنات إنّما يتمّ إذا كانت العبادة فعلا للعبد ، إذ لا معنى لقولنا : لا إله إلّا هو خالق عبادتكم وغيرها فاعبدوه.

الثاني : قوله تعالى في سورة الرعد : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ )(٢) .

وقد استدلّ المجبّرة بهذه الآية على مذهبهم من حيث اشتمالها على العموم ، وعلى إنكار من يخلق كخلقه(٣) .

وأجيب بأنّ الآية وردت حجّة على الكفّار ، فلو أريد بها العموم

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ : ١٠٢.

(٢) سورة الرعد ١٣ : ١٦.

(٣) تمهيد الأوائل : ٣٤٥ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٨٨ ـ ٨٩ ، تفسير الفخر الرازي ١٩ / ٣٨.

٣٤٢

لأفعال العباد لانقلبت الحجّة بها للكفّار ؛ لأنّه إذا كان هو الخالق لشركهم لمّا صلح الإنكار عليهم به ، وكان لهم أن يقولوا : إذا كنت قد فعلت ذلك بنا فلم تنكر علينا بفعل فعلته فينا ونحن لا أثر لنا فيه أصلا؟!

مضافا إلى أنّ المراد الإنكار عليهم في جعل آلهة لا يمكن الاشتباه بإلهيّتهم ، إذ لم يجعلوا لله تعالى شركاء لهم خلق يشبه خلقه حتّى يحصل به الالتباس في الإلهية.

وهذا إنّما يراد به المخلوقات المناسبة للإلهية كالسماوات والأرض والأجسام والأعراض ، فيكون عموم قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) إنّما هو بالنسبة إلى تلك المخلوقات ، لا مثل الشرك والإلحاد والظلم والفساد ونحوها ، ممّا يصدر من البشر ويتنزّه عنه خالق العجائب وعظام الأمور وبديع السماوات والأرضين.

ولو أعرضنا عن ذلك كلّه فالعموم مخصّص بالأدلّة العقلية والنقلية ، الكتابية وغيرها ، الدالّة على إنّ العباد هم الفاعلون لأفعالهم ، كما ستعرف إن شاء الله.

وأمّا قوله : « ويعاقب الناس على كسبهم ومباشرتهم الذنوب ».

ففيه : إنّ الكسب إن كان من فعلهم فقد خرج عن مذهبه ، وإن كان من فعل الله تعالى فالإشكال بحاله ؛ إذ كيف يعاقبهم على فعله؟!

وأمّا قوله : « والمعرض من يباشر الإعراض لا من يخلق ».

ففيه : إنّ المصنّف لم يدّع صدق المعرض على الله تعالى بناء على مذهبهم حتّى يجيبه بذلك ، بل يقول في تقرير مذهبهم : إنّه سبحانه يخلق الإعراض في الناس ، وينكر على المعرض أي المحلّ الذي يخلق فيه الإعراض ، كما هو مراد الخصم بمباشر الإعراض.

٣٤٣

وبالضرورة أنّ الإنكار على المحلّ الذي لا أثر له بوجه أصلا جزاف لا يرتضيه العقل ، وإنّما حقّ الإنكار أن يقع على الفاعل المؤثّر.

ومثله الكلام في قوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا )(١) ؛ إذ كيف ينكر عليهم وهو الذي منعهم؟!

* * *

__________________

(١) سورة الإسراء ١٧ : ٩٤.

٣٤٤

قال المصنّف ـ عطّر الله ثراه ـ(١) :

وقالت الإمامية : إنّ الله تعالى لم يفعل شيئا عبثا ، بل إنّما يفعل لغرض ومصلحة ، وإنّما يمرض لمصالح العباد ، ويعوّض الثواب ، بحيث ينتفي العبث والظلم(٢) .

وقالت الأشاعرة : لا يجوز أن يفعل الله تعالى شيئا لغرض من الأغراض ، ولا لمصلحة ، ويؤلم العبد بغير مصلحة ولا غرض(٣) .

بل يجوز أن يخلق خلقا في النار مخلّدين فيها من غير أن يكونوا قد عصوا أو لا(٤) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٤.

(٢) أوائل المقالات : ٥٧ ـ ٥٨ رقم ٢٦ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٠٨ وما بعدها ، تقريب المعارف : ١١٤ وما بعدها ، قواعد المرام في علم الكلام : ١١٠ ، تجريد الاعتقاد : ١٩٨.

(٣) الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ : ١١٥ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٦ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٥٠ ـ ٣٥٤ ، تفسير الفخر الرازي ٢٨ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، المواقف : ٣٣١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢.

(٤) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ١١٥ ـ ١١٧ ، تمهيد الأوائل : ٣٨٢ ـ ٣٨٦ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٣٤.

٣٤٥

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ أفعال الله تعالى ليست معلّلة بالأغراض.

وقالوا : لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيء من الأغراض(٢) ـ كما سيجيء بعد هذا ـ ، ووافقهم في ذلك جماهير الحكماء والإلهيّين.

وهو يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، إن أراد تخليد عباده في النار فهو المطاع والحاكم ، ولا تأثير للعصيان في أفعاله ، بل هو المؤثّر المطلق.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٨٤.

(٢) المسائل الخمسون : ٦٢ المسألة ٣٧ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٥٠ ، طوالع الأنوار : ٢٠٣ المسألة ٥ ، المواقف : ٣٣١ المقصد ٨ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢.

٣٤٦

وأقول :

ليس في كلامه إلّا ما يتضمّن تصديق المصنّف بما حكاه عنهم والالتزام بنسبتهم إلى العدل الرحمن ما لا يرضى بنسبته إليه ذو وجدان ، فإنّهم إذا أجازوا عليه سبحانه إيلام عبيده بلا غرض ولا مصلحة ، وتخليد عباده بالنار بلا غرض ولا غاية ، فقد أجازوا أن يكون من العابثين وأظلم الظالمين.

وليت شعري ما الذي حسّن لهم تلك المقالات الجائرة الفاجرة في حقّ خالقهم تبعا لإنسان خطأه أكثر من صوابه؟!

وما زعمه من موافقة الفلاسفة محلّ نظر ؛ إذ لا يبعد أنّ الفلاسفة إنّما ينفون الغرض الذي به الاستكمال دون كلّيّ الغرض(١) ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

* * *

__________________

(١) انظر مثلا : تهافت التهافت : ٤٩١ ، شرح التجريد : ٤٤٣.

٣٤٧

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

وقالت الإمامية : لا يحسن في حكمة الله تعالى أن يظهر المعجزات على يد الكذّابين ، ولا يصدّق المبطلين ، ولا يرسل السفهاء والفسّاق والعصاة(٢) .

وقالت الأشاعرة : يحسن كلّ ذلك(٣) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٤.

(٢) النكت الاعتقادية : ٣٧ ، تنزيه الأنبياء ـ للشريف المرتضى ـ : ١٧ ـ ١٨ ، المنقذ من التقليد ١ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥.

(٣) مقالات الإسلاميّين : ٢٢٦ ، المواقف : ٣٤١ و ٣٥٨ ـ ٣٦٥ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٣٨ ، شرح المواقف ٨ / ٢٢٨ ـ ٢٢٩ و ٢٦٥ و ٢٨١.

٣٤٨

وقال الفضل(١) :

لا حسن ولا قبح بالعقل عند الأشاعرة ، بل جرى عادة الله تعالى بعدم إظهار المعجزة على يد الكذّابين ، لا لقبحه في العقل ، وهو يرسل الرسل ، وهم الصادقون.

ولو شاء الله أن يبعث من يريد من خلقه ، فهو الحاكم في خلقه ، ولا يجب عليه شيء ، ولا شيء منه قبيح ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٨٦.

٣٤٩

وأقول :

لا يخفى أنّ تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب ـ عقلا ـ مناف لما يذكرونه عند الكلام في عصمة الأنبياء ، من دلالة المعجزة عقلا على عصمتهم عن الكذب ، في دعوى الرسالة وما يبلّغونه عن الله تعالى.

ولكن إذا كان الكلام تبعا للهوى ومبنيّا على شفا جرف هار ، يجوز الاختلاف فيه بمثل ذلك.

وأمّا دعوى جريان العادة بعدم إظهار المعجزة على يد الكاذب ، فمحتاجة إلى دعوى علم الغيب ممّن لم يقبح عقله إظهار المعجزة على يد الكاذب ، فإنّه لم يعرف كلّ كاذب ، ولم يطّلع على أحوالهم ، فلعلّ بعض من يعتقد نبوّته لظهور المعجزة على يده كان كاذبا ، ولا يمكن العلم بعدم المعجزة لكلّ كاذب من إخبار نبيّنا ٦ ـ إذ لعلّه لم يكن نبيّا ـ وإن تواتر ظهور المعجزات على يده ، على إنّه لم يثبت عنه ذلك الإخبار.

ولو ثبت مع نبوّته فخبره لا يفيد العلم ، لتجويز الأشاعرة الكذب في مثل ذلك على الأنبياء سهوا ، بل عمدا(١) ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

وأمّا تجويزهم أن يرسل الله السفهاء والفسّاق ، فأفظع من ذلك ، وسيجيء تحقيقه إن شاء الله تعالى.

* * *

__________________

(١) انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٢٨٤ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٣٢٠.

٣٥٠

قال المصنّف ـ أعلى الله منزلته ـ(١) :

وقالت الإمامية : إنّ الله سبحانه لم يكلّف أحدا فوق طاقته(٢) .

وقالت الأشاعرة : لم يكلّف الله أحدا إلّا فوق طاقته ، وما لا يتمكّن من تركه وفعله ، ولامهم على ترك ما لم يعطهم القدرة على فعله.

وجوّزوا أن يكلّف الله مقطوع اليد الكتابة ، ومن لا مال له الزكاة ، ومن لا يقدر على المشي للزمانة الطيران إلى السماء ، وأن يكلّف العاطل الزمن المفلوج خلق الأجسام ، وأن يجعل القديم محدثا والمحدث قديما.

وجوّزوا أن يرسل رسولا إلى عباده بالمعجزات ليأمرهم بأن يجعلوا الجسم الأسود أبيض دفعة واحدة ، ويأمرهم بالكتابة الحسنة ، ولا يخلق لهم الأيدي والآلات ، وأن يكتبوا في الهواء بغير دواة ولا مداد ولا قلم ولا يد ما يقرأه كلّ أحد(٣) .

وقالت الإمامية : ربّنا أعدل وأحكم من ذلك(٤) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٥.

(٢) أوائل المقالات : ٥٧ رقم ٢٦ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٠٠ ، شرح جمل العلم والعمل : ٩٨ ، المنقذ من التقليد ١ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣ ، تجريد الاعتقاد : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٣) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٩٨ ـ ١٠٠ و ١١٢ ، تمهيد الأوائل : ٣٢٨ ـ ٣٢٩ و ٣٣٢ ـ ٣٣٣ ، المواقف : ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٩٦ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٠.

(٤) النكت الاعتقادية : ٣٢ ، أوائل المقالات : ٥٦ ـ ٥٧ رقم ٢٤ و ٢٦.

٣٥١

وقال الفضل(١) :

تكليف ما لا يطاق جائز عند الأشاعرة ؛ لأنّه لا يجب على الله شيء ، ولا يقبح منه فعل ، إذ يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ومنعه المعتزلة لقبحه عقلا(٢) .

والحال : إنّه لا بدّ لهم أن يقولوا به ، فإنّ الله أخبرهم بعدم إيمان أبي لهب وكلّفه الإيمان ، فهذا تكليف ما لا يطاق ؛ لأنّ إيمانه محال وفوق طاقته ؛ لأنّه إن آمن لزم الكذب في خبر الله تعالى ، وهو محال اتّفاقا.

وهذا شيء يلزم المعتزلة القول بتكليف ما لا يطاق.

ثمّ ما لا يطاق على مراتب : أوسطها ما لا يتعلّق به القدرة الحادثة عادة ، سواء امتنع تعلّقها به لا لنفس مفهومة كخلق الأجسام أم لا ، بأن يكون من جنس ما يتعلّق به ، كحمل الجبل ، والطيران إلى السماء ، والأمثلة التي ذكرها الرجل الطامّاتي فهذا شيء يجوّزه الأشاعرة ، وإن لم يقع بالاستقراء ولقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها )(٣) .

وقد عرّفناك معنى هذا التجويز في ما سبق.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٨٧.

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٣ و ٢٩٥ ، المواقف : ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٩٤.

(٣) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.

٣٥٢

وأقول :

لا أدري كيف يقع الكلام مع هؤلاء القوم؟! فإنّ النزاع ينقطع إذا بلغ إلى مقدّمات ضرورية ، وهؤلاء جعلوا نزاعهم في الضروريات!

ليت شعري إذا لم يحكم العقل بامتناع التكليف بما لا يطاق وجوّز أن ينهى الله العبد عن الفعل ، ويخلقه فيه اضطرارا ، ويعاقبه عليه ، فقل لي أيّ أمر يدركه العقل؟!

قيل : اجتمع النظّام والنجّار للمناظرة ، فقال له النجّار : لم يدفع أن يكلّف الله عباده ما لا يطيقون؟!

فسكت النظّام ، فقيل له : لم سكتّ؟!

قال : كنت أريد بمناظرته أن ألزمه القول بتكليف ما لا يطاق ، فإذا التزمه ولم يستح فبم ألزمه؟!(١) .

وجلّ مسائل هذا الكتاب من هذا الباب كما رأيت وترى إن شاء الله تعالى.

وكفاك إنكارهم أن يجب على الله شيء ، فإنّه إذا لم يجب عليه شيء بعدله وحكمته ورحمته ، فأيّ إله يكون؟! وكيف يكون حال الدنيا والآخرة؟!

ومثله تجويز أن يفعل ما يشاء ممّا لا غرض فيه ولا غاية ولا حكمة ولا عدل ، كتكليف ما لا يطاق ؛ تعالى الله عن ذلك.

__________________

(١) انظر مضمونه في : شرح الأصول الخمسة : ٤٠٠.

٣٥٣

وأمّا قوله : « والحال : إنّه لا بدّ لهم أن يقولوا به ، فإنّ الله أخبر بعدم إيمان أبي لهب »

فمدفوع بأنّه تعالى إنّما أخبر بأنّه سيصلى نارا ، وهو لا يستلزم الكفر ؛ لجواز تعذيب المسلم الفاسق

والأولى أن يقول : إنّ الله سبحانه أخبر نبيّه ٦ ، بقوله : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ )(١) ونحوه في القرآن كثير ، ومع ذلك كلّف الناس جميعا بالإيمان ، وأخبر بصدور المعاصي من الناس وكلّفهم بالطاعة.

والجواب : إنّ الإخبار بعدم الإيمان مثلا لا يستوجب امتناعه ، بل غاية ما يقتضيه صدور ما أخبر به على ما هو عليه في نفسه من الإمكان ، والممكن مطاق في نفسه ، يصحّ التكليف به أو بخلافه ، وإن علم بعدم وقوعه من المكلّف لاختياره العدم.

فيكون صدق الخبر تابعا لوقوع المخبر به على ما هو عليه في نفسه لا العكس ، نظير تبعية العلم للمعلوم ، فإنّ علمه تعالى بالممكنات لا يجعل خلاف ما علمه ممتنعا ، بل هو تابع للمعلوم ؛ لأنّه عبارة عن انكشاف المعلوم على ما هو عليه.

ولو كان المعلوم تابعا للعلم لما صحّ التكليف أصلا ؛ لصيرورة كلّ مكلّف به ، إمّا واجبا حيث يعلم بوقوعه ، أو ممتنعا حيث يعلم بعدم وقوعه ، ولا يقوله عارف.

وأمّا ما ذكره من أنّ ما لا يطاق على مراتب ، أوسطها إلى قوله :

__________________

(١) سورة يوسف ١٢ : ١٠٣.

٣٥٤

« هذا شيء نجوّزه » فهو مشعر بأنّهم لا يجوّزون التكليف بالرتبة العليا ، وهي ما يمتنع لنفس مفهومه ، كالجمع بين الضدّين وإعدام الواجب.

والظاهر أنّه من باب تقليل الشناعة ، وإلّا فالمناط عندهم في جواز التكليف بالرتبة الوسطى والسفلى ، هو أنّه تعالى لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء ، وهو يقتضي صحّة التكليف بالرتبة العليا ـ كما ستعرفه وتعرف تمام الكلام فيه في المطلب الثامن ـ ، وكلام القوم في المقام مضطرب ؛ ولذا جعل الخصم أمثلة المصنّف من الوسطى ، والحال أنّ بعضها من العليا ، كجعل القديم محدثا.

ثمّ إنّ الخصم ذكر عدم وقوع التكليف بما لا يطاق بالاستقراء ولقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها )(١) ، وهو مناف لقوله سابقا بتكليف أبي لهب بالإيمان وأنّه فوق طاقته.

ومن المضحك وصفه للمصنّف رحمه الله تعالى بالطامّاتي ، والحال أنّ الطامّات هي أقوالهم ، وقد اعترف بها ، وليس للمصنّف إلّا النقل عنهم!

* * *

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.

٣٥٥

قال المصنّف ـ أجزل الله ثوابه ـ(١) :

وقالت الإمامية : ما أضلّ الله أحدا من عباده عن الدين ، ولم يرسل رسولا إلّا بالحكمة والموعظة الحسنة(٢) .

وقالت الأشاعرة : قد أضلّ الله كثيرا من عباده عن الدين ، ولبّس عليهم ، وأغواهم ، وأنّه يجوز أن يرسل رسولا إلى قوم ولا يأمرهم إلّا بسبّه ومدح إبليس.

فيكون من سبّ الله تعالى ومدح الشيطان ، واعتقد التثليث والإلحاد وأنواع الشرك مستحقّا للثواب والتعظيم.

ويكون من مدح الله تعالى طول عمره ، وعبده بمقتضى أوامره ، وذمّ إبليس دائما ، في العقاب المخلّد واللعن المؤبّد.

وجوّزوا أن يكون في من سلف من الأنبياء ممّن لم يبلغنا خبره من لم تكن شريعته إلّا هذا(٣) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٥.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن ميثم ـ ٥ / ٢٧٨ ـ ٢٨٠ ، وانظر مؤدّى ذلك في : الذخيرة في علم الكلام : ٣٢٣ ، شرح جمل العلم والعمل : ١٦٩ ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : ١٢٤ ـ ١٢٥ ، المنقذ من التقليد ١ / ٣٧٣ ، تجريد الاعتقاد : ٢٠٢ و ٢١١ و ٢١٢.

(٣) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٦٨ ـ ١٧٠ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٦ ـ ٣٤٩ ، المواقف : ٣٢٠ ـ ٣٣٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٨٢.

٣٥٦

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ الله خالق كلّ شيء ، ولا يجري في ملكه إلّا ما يشاء ، ولا يجوّزون وجود الآلهة في الخلق كالمجوس ، بل يقولون : هو الهادي وهو المضلّ ، كما نصّ عليه في كتابه المجيد : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ )(٢) ، وهو تعالى يرسل الرسل ويأمرهم بإرشاد الخلائق.

وما ذكره الرجل الطامّاتي من جواز إرسال الرسل بغير هذه الهداية ، فقد علمت معنى هذا التجويز ، وأنّ المراد من هذا التجويز نفي وجوب شيء عليه.

وهذه الطامّات المميلة لقلوب العوامّ لا تنفع ذلك الرجل ، وكلّ ما بثّه من الطامّات افتراء ، بل هم أهل السنّة والجماعة والهداية.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٩١.

(٢) سورة النحل ١٦ : ٩٣ ، سورة فاطر ٣٥ : ٨.

٣٥٧

وأقول :

لا يخفى أنّ قوله : « لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء » من كلام أبي إسحاق الأسفراييني الشافعي(١) عندما دخل القاضي عبد الجبّار المعتزلي(٢) دار الصاحب بن عبّاد(٣) فرأى أبا إسحاق جالسا ، فقال : سبحان من تنزّه عن الفحشاء! ـ تعريضا بأبي إسحاق بأنّه من الأشاعرة الّذين ينسبون الفحشاء إلى الله تعالى ـ فقال أبو إسحاق : سبحان من لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء(٤) .

__________________

(١) تقدّمت ترجمته في صفحة ٥٩ من هذا الجزء.

(٢) هو : أبو الحسن عبد الجبّار بن أحمد بن عبد الجبّار بن أحمد الهمداني المعتزلي ، أحد كبار متكلّمي المعتزلة ، ولد سنة ٣٥٩ ه‍ ، كان ينتحل مذهب الشافعية في الفروع ، وهو من كبار فقهائهم ، ولّي القضاء بالريّ ، وله تصانيف كثيرة منها : المغني في علم الكلام ، شرح الأصول الخمسة ، طبقات المعتزلة ، وغيرها ، توفّى بالريّ سنة ٤١٥ ه‍.

انظر : تاريخ بغداد ١١ / ١١٣ ـ ١١٥ رقم ٥٨٠٦ ، سير أعلام النبلاء ١٧ / ٢٤٤ ـ ٢٤٥ رقم ١٥٠ ، لسان الميزان ٣ / ٣٨٦ ـ ٣٨٧ رقم ١٥٣٩ ، شذرات الذهب ٣ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣ ، هديّة العارفين ٥ / ٤٩٨ ـ ٤٩٩.

(٣) هو : أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عبّاد بن العبّاس الطالقاني ، كان نادرة الدهر في فضائله ومكارمه وكرمه ، أخذ الأدب عن أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي ـ صاحب كتاب « المجمل في اللغة » ـ وكذا عن ابن العميد ، وغيرهما.

كان مولده سنة ٣٢٠ ه‍ بإصطخر ، وقيل بالطالقان ، وتوفّي ليلة الرابع والعشرين من صفر سنة ٣٨٥ ه‍ بالريّ ، ثمّ نقل إلى أصبهان ودفن هناك.

انظر : معجم الأدباء ٢ / ٢١٣ ، وفيات الأعيان ١ / ٢٢٨ رقم ٩٦ ، سير أعلام النبلاء ١٦ / ٥١١ رقم ٣٧٧ ، شذرات الذهب ٣ / ١١٣.

(٤) شرح المقاصد ٤ / ٢٧٥ ، شرح العقائد النسفية : ١٤٠ ـ ١٤١ ، تحفة المريد على جوهرة التوحيد : ٤٢.

٣٥٨

وحاصله : إنّ كلّ ما يجري في ملكه من أنواع الفواحش ، والفجور ، والكفر ، والإلحاد ، والكذب ، والظلم ، والغواية ، ونحوها ، إنّما هو بإساءته ومن فعله!

فيا ليت شعري كيف يصلح مع هذا الزعم أن يسبّحه وينزّهه؟!

وأمّا قوله : « ولا يجوّزون وجود الآلهة في الخلق كالمجوس ».

فهو تعريض بأهل العدل حيث ينسبون تلك الأفعال الشنيعة والأحوال الفظيعة إلى العباد ، وينزّهون الله سبحانه عنها.

ومن المعلوم أنّ ذلك لا يستدعي القول بالشركة ، فإنّهم إنّما يرون أنّه تعالى أقدرهم على أفعالهم بلا حاجة منه إليهم ، ففعلوها بتمكينه لهم ، فلا استقلال لهم حتّى يكونوا آلهة ، فكيف يشبهون المجوس؟! وإنّما الذي يشبههم من يقول بزيادة صفاته على ذاته ، وقدمها مثله ، وحاجته إليها في الخلق ، بحيث لولاها لما خلق شيئا فهي شريكته في الإلهية ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

وأمّا ما استدلّ به من قوله تعالى : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ )(١) .

ففيه : إنّ استدلاله موقوف على أن يراد بالإضلال : خلق الضلال ، وبالهداية : خلق الهدى ؛ وهو ممنوع ؛ لجواز أن يراد بالإضلال : الخذلان والإضاعة ، وبالهداية : التوفيق ، كما قال ٧ : «تطاع بتوفيقك وتجحد بخذلانك »(٢) .

__________________

(١) سورة النحل ٦ : ٩٣ ، سورة فاطر ٣٥ : ٨.

(٢) إقبال الأعمال ١ / ٢٩٩ ب‍ ٢٠ دعاء الليلة ١٦ ، وفيه « تعبد » بدل « تطاع ».

٣٥٩

فإنّ الإنسان إذا اجتهد بفعل الخير كان محلّا للتوفيق ، وإذا أصرّ على الشرّ كان أهلا للخذلان ، وآل أمره إلى النفاق والكفر ، كما قال تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً )(١) وقال تعالى : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ )(٢) ، ولا قرينة على إنّ المراد بالإضلال والهداية في الآية ما ادّعاه ، بل القرينة على خلافه عقلا ونقلا

أمّا العقل : فلأنّ ذلك يستلزم إبطال الثواب والعقاب ، ونفي العدل ، وفائدة الرسل والكتب ، والأوامر والنواهي ـ كما ستعرف إن شاء الله تعالى ـ ، ولأنّه لا يحسن لمن ينهى عن شيء أن يفعله ، ولذا قال شعيب : (ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ )(٣)

وقال الشاعر :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم(٤)

وأمّا النقل : فقوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى )(٥) ، ومن عليه الهدى كيف يتركه ويخلق الضلال؟!

وقوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى )(٦) .

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ٧٧.

(٢) سورة الروم ٣٠ : ١٠.

(٣) سورة هود ١١ : ٨٨.

(٤) البيت من قصيدة لأبي الأسود الدؤلي ، مطلعها :

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

فالقوم أعداء له وخصوم

انظر : ديوان أبي الأسود الدؤلي : ١٢٩ ـ ١٣٢ ، خزانة الأدب ٨ / ٥٦٨.

(٥) سورة الليل ٩٢ : ١٢.

(٦) سورة فصّلت ٤١ : ١٧.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459