الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  0%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 91937
تحميل: 5124


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91937 / تحميل: 5124
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 14

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مثلاً و هو اليوم يطلق حقيقة على مثل المدفع و القنبلة الذرّيّة و قد سرى هذا النوع من التحوّل و التطوّر إلى كثير من وسائل الحياة و الأعمال الّتي يعتورها الإنسان في عيشته.

و بالجملة كانت الصحابة لا يتكلّمون في غير الأحكام من معارف الدين ممّا يرجع إلى أسمائه و صفاته و أفعاله و غيرها غير أنّهم ينفون عنه لوازم التشبيه بما ورد من آيات التنزيه و يسكتون عن المعنى الإثباتيّ الّذي يبقى بعد النفي فيقولون مثلاً في مثل قوله:( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) أنّ الاستواء بمعنى استقرار الجسم في مكان بالاعتماد عليه منفيّ عنه تعالى و أمّا أنّ المراد بالاستواء ما هو؟ فالله أعلم بمراده، و الأمر مفوّض إليه و قد ادّعي إجماعهم على ذلك، بل قال بعضهم: إنّ أهل القرون الثلاثة الاُول من الهجرة مجمعون على التفويض، و هو نفي لوازم التشبيه و السكوت عن البحث في أصل المراد.

لكنّه مدفوع بأنّ طريقة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) المأثورة منهم هي الإثبات و النفي معاً و الإمعان في البحث عن حقائق الدين دون النفي المجرّد عن الإثبات و الدليل على ذلك ما حفظ عنهم من الأحاديث الجمّة الّتي لا يسع إنكارها إلّا لمكابر.

بل الّذي روي(١) عن اُمّ سلمة رضي الله عنها: في معنى الاستواء أنّها قالت:( الاستواء غير مجهول و الكيف غير معقول و الإقرار به إيمان و الجحود به كفر) يدلّ على أنّها كانت ترى هذا الرأي و لو كانت ترى ما نسب إلى الصحابة لقالت: الاستواء مجهول و الكيف غير معقول، إلخ.

نعم الأكثرون من الصحابة و التابعين و تابعيهم من السلف على هذه الطريقة و قد نسبه الغزّاليّ إلى الأئمّة الأربعة: أبي حنيفة و مالك و الشافعيّ و أحمد، و إلى البخاريّ و الترمذيّ و أبي داود السجستانيّ من أرباب الصحاح و إلى عدّة من أعيان السلف.

و كان الّذي دعاهم إلى السكوت عن الإثبات - كما ذكره جمع - هو أنّ

____________________

(١) روح المعاني عن اللالكاني في كتاب السنة عن الحسن عن أمه عنها رض.

١٤١

الثابت بعد المنفي خلاف ظاهر اللفظ فيكون من التأويل الّذي حرّم الله ابتغاءه في قوله:( وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ ) آل عمران: ٧، بناء على الوقف على( إِلَّا اللهُ ) بل تعدّى بعضهم إلى مطلق التفسير فمنعه قائلا - كما نقله الآلوسيّ - إنّ كلّ من فسّر فقد أوّل و من لم يفسّر لم يؤوّل لأنّ التأويل هو التفسير.

و قد تقدّم في ذيل آية المحكم و المتشابه من سورة آل عمران بيان أنّ التأويل الّذي يذكره و يذمّه غير المعنى المخالف لظاهر اللفظ و أنّ ردّ المتشابه إلى المحكم و بيانه به ليس من التأويل في شي‏ء و كذا أنّ التأويل غير التفسير.

ثمّ إنّ هؤلاء القوم على احتياطهم في البيانات الدينيّة الراجعة إلى أسمائه و صفاته تعالى و اقتصارهم على النفي من غير إثبات لم يسلكوا هذا المسلك فيما ورد في الكتاب و السنة من وصف أفعاله تعالى كالعرش و الكرسيّ و الحجب و القلم و اللوح و كتب الأعمال و أبواب السماء و غيرها بل حملوها على ما هو المعهود عندنا من مصاديق العرش و الكرسيّ و القلم و اللوح و غير ذلك مع أنّ الجميع ذو ملاك واحد و هو استلزام ما يجب تنزيهه تعالى عنه من الحاجة و الإمكان.

و ذلك أنّ الّذي أوجد أمثال العرش و الكرسيّ و اللوح و القلم عندنا معاشر البشر هو الحاجة فإنّما اتّخذنا الكرسيّ لنستريح عليه أو نتعزّز به و اتّخذنا العرش لنستريح عليه و نتعزّز به و نظهر التفرّد بالعزّة و العظمة و نمثّل به التعيّن بالملك و السلطان و اتّخذنا اللوح و القلم و الكتابة لمسيس الحاجة إلى حفظ ما غاب عن الحسّ و التحرّز عن النسيان و نحو ذلك و على هذا النمط.

فأيّ فرق بين الآيات المتشابهة الّتي تثبت له تعالى السمع و البصر و اليد و الساق و الرضا و الأسف الّتي توهّم التجسّم المنتهي إلى الحاجة و الإمكان و بين الآيات التي تثبت له عرشاً و كرسيّاً و ملأً و حملة لعرشه و لوحاً و قلماً و هي توهم الحاجة و الإمكان؟ ثمّ أيّ فرق بين المحكم الّذي يرفع التشابه في الطائفة الاُولى و هو قوله:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) و بين المحكم الّذي يرفع تشابه الطائفة الثانية و هو قوله:( وَ اللهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) مثلاً.

١٤٢

نعم ذكر الإمام الرازيّ اعتذاراً عن ذلك أن لو فتحنا باب التأويل في هذه الاُمور أدّى ذلك إلى جواز تأويل جميع معارف الدين و أحكام الشرع و هو قول الباطنيّة. و أنت خبير بأنّ تأويل الجميع حتّى الأحكام الّتي تضمّنتها الدعوة الدينيّة و أجراها بين الناس تعليم النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و تربيته دفع للضرورة و مكابرة مع البداهة و ليس من هذا القبيل ما قام الدليل على تشابهه و كانت هناك آية محكمة يمكن أن يردّ إليها و يرتفع بها تشابهه فإبقاؤه على ظاهره سدّاً لباب التأويل في سائر المعارف المحكمة غير المتشابهة من قبيل إماتة حقّ لإماتة باطل و إن شئت فقل إماتة باطل بإحياء باطل آخر على أنّك عرفت أنّ ردّ المتشابه إلى المحكم ليس من التأويل في شي‏ء.

و ألجأ الاضطرار بعض هؤلاء أن قالوا إنّ خلق هذا الجسم النورانيّ العظيم الّذي يدهش العقول بعظمته على هيئة سرير ذي قوائم و حمله و وضعه فوق السماوات السبع من غير جالس يجلس عليه أو حاجة تدعو إليه و حفظه كذلك في أزمنة لا نهاية لها إنّما هو من باب اللطف خلقه الله ليخبر به المؤمنين فيؤمنوا به بالغيب فيوجروا و يثابوا في الآخرة، و نظيره اللوح و القلم و سائر الآيات العظام الغائبة عن الحسّ. و سقوط هذا القول غنيّ عن البيان.

و بعد هذه الطائفة المسمّاة بالمفوّضة الطبقة المسمّاة بالمؤوّلة و هم الّذين يجمعون في تفسير المتشابهات من آيات الأسماء و الصفات بين الإثبات و النفي فينزّهونه عن لوازم الحاجة و الإمكان بتأويلها - بمعنى الحمل على خلاف الظاهر - إلى معان توافق الاُصول المسلّمة من الدين أو المذهب، و هؤلاء منشعبون على شعب:

منهم من اكتفى في الإثبات بعين ما نفاه بالدليل و هم الّذين يفسّرون الأسماء و الصفات بنفي النقائص، فمعنى العلم عندهم عدم الجهل و معنى العالم من ليس بجاهل و على هذا السبيل.

و لازمه تعطيل الذات المتعالية عن صفات الكمال و البراهين العقليّة و ظواهر الكتاب و السنّة و نصوصهما تدفعه، و هو من أقوال الصابئة المتسرّبة في الإسلام.

١٤٣

و منهم من فسّرها بمعان مخالفة لظواهرها من كلّ ما احتمله عقل أو نقل لا يخالف الاُصول المسلّمة و هو المسمّى عندهم بالتأويل.

و منهم من اكتفى بالمحتملات النقليّة و لم يعتبر العقل.

و قد عرفت ممّا تقدّم من أبحاثنا في المحكم و المتشابه أنّ تفسير الكتاب العزيز بغير الكتاب و السنّة القطعيّة من التفسير بالرأي الممنوع في الكتاب و السنّة.

و جلّ هؤلاء الطوائف الثلاث المسمّين بالمؤوّلة يسلكون في أفعاله تعالى ممّا لا يرجع إلى الصفة مسلك السلف المسمّين بالمفوّضة في إبقائها على ظواهرها من المصاديق المعهودة عندنا، و أمّا ما يرجع منها بنحو إلى الصفة فيؤوّلونه، ففي قوله:( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ ) يؤوّلون الاستواء إلى مثل الاستيلاء و الاستعلاء و يبقون العرش، و هو فعل له تعالى غير راجع إلى الصفة على ظاهره المعهود و هو الجسم المخلوق على هيئة سرير مقبّب ذي قوائم، و فيما ورد من طرق الجماعة أنّ الله ينزل كلّ ليلة جمعة إلى السماء الدنيا يؤوّلون نزوله بنزول رحمته و يفسّرون السماء الدنيا بفلك القمر، و هكذا.

و قد عرفت فيما مرّ أنّ حمل الآية على خلاف ظاهرها لا مسوّغ له و لا دليل يدلّ عليه فلم ينزل الكتاب إلغازاً و تعمية ثمّ الحديث فيه المحكم و المتشابه كالقرآن و إبقاء المتشابه من القرآن على ظاهره بالاستناد إلى ظاهر مثله الوارد في الحديث هو في الحقيقة ردّ لمتشابه القرآن إلى متشابه الحديث و قد اُمرنا بردّ متشابه القرآن إلى محكمه.

ثمّ إنّ في عملهم بهذه الروايات و تحكيمها على ظاهر الكتاب مغمضا آخر و ذلك أنّها أخبار آحاد ليست بمتواترة و لا قطعيّة الصدور، و ما هذا شأنه يحتاج في العمل بها حتّى في صحاحها إلى حجيّة شرعيّة بالجعل أو الإمضاء، و قد اتّضح في علم الاُصول اتّضاحاً يتلو البداهة أن لا معنى لحجيّة أخبار الآحاد في غير الأحكام كالمعارف الاعتقاديّة و الموضوعات الخارجيّة.

نعم الخبر المتواتر و المحفوف بالقرائن القطعيّة كالمسموع من المعصوم مشافهة

١٤٤

حجّة و إن كان في غير الأحكام لأنّ الدليل على العصمة بعينه دليل على صدقه و هذه كلّها مسائل مفروغ عنها في محلّها من شاء الوقوف فليراجع.

و في سنن أبي داود، عن جبير بن محمّد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جدّه قال: أتى رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أعرابيّ فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس و نهكت الأموال أو هلكت فاستسق لنا فإنّا نستشفع بك إلى الله تعالى و نستشفع بالله تعالى عليك. فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): ويحك أ تدري ما تقول؟ و سبّح رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فما زال يسبّح حتّى عرف ذلك في وجوه أصحابه.

ثمّ قال: ويحك إنّه لا يستشفع بالله تعالى على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك. ويحك أ تدري ما الله؟ إنّ الله فوق عرشه و عرشه فوق سماواته لهكذا و قال بأصابعه مثل القبّة، و إنّه ليئط به أطيطّ الرحل الجديد بالراكب.

أقول: و متنه لا يخلو من اختلال، و إنّما أوردناه لكونه من أصرح الأخبار في جسميّة العرش، و هنا روايات تدلّ على أنّ له قوائم، و اُخرى تدلّ على أنّ له حملة أربع، و اُخرى تدلّ على أنّه فوق السماوات بحذاء الكعبة، و اُخرى تدلّ على أنّ الكرسيّ عنده كحلقة ملقاة في ظهريّ فلاة السماوات و الأرض بالنسبة إلى الكرسيّ كذلك، و قد تقدّم طريقة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير أمثال هذه الأخبار و قد أوردنا في تفسير سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب ما يستفاد منه محصّل نظرهم (عليهم السلام).

و في معاني الأخبار، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ:( يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى‏ ) قال: السِّرَّ ما أكننته في نفسك و أَخْفى‏ ما خطر ببالك ثمّ اُنسيته.

و في المجمع، روي عن السيّدين الباقر و الصادق (عليهما السلام):( السِّرَّ ) ما أخفيته في نفسك و( أَخْفى‏ ) ما خطر ببالك ثمّ اُنسيته.

١٤٥

( سورة طه الآيات ٩ - ٤٨)

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ ( ٩ ) إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ( ١٠ ) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ ( ١١ ) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ( ١٢ ) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ ( ١٣ ) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ( ١٤ ) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ ( ١٥ ) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ ( ١٦ ) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ ( ١٧ ) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ ( ١٨ ) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ ( ١٩ ) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ ( ٢٠ ) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ ( ٢١ ) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ ( ٢٢ ) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى ( ٢٣ ) اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ ( ٢٤ ) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ( ٢٥ ) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ( ٢٦ ) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ( ٢٧ ) يَفْقَهُوا قَوْلِي ( ٢٨ ) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي ( ٢٩ ) هَارُونَ أَخِي ( ٣٠ ) اشْدُدْ بِهِ

١٤٦

أَزْرِي ( ٣١ ) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ( ٣٢ ) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ( ٣٣ ) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ( ٣٤ ) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا ( ٣٥ ) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ ( ٣٦ ) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ ( ٣٧ ) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ ( ٣٨ ) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي ( ٣٩ ) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَا مُوسَىٰ ( ٤٠ ) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ( ٤١ ) اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ( ٤٢ ) اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ ( ٤٣ ) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ ( ٤٤ ) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ ( ٤٥ ) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ ( ٤٦ ) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ ( ٤٧ ) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ( ٤٨ )

( بيان)

شروع في قصّة موسى (عليه السلام) و قد ذكرت في السورة فصول أربعة منها و هي: اختيار موسى للرسالة في جبل طور في وادي طوى و أمره بدعوة فرعون. ثمّ دعوته

١٤٧

بشركة من أخيه فرعون إلى التوحيد و إرسال بني إسرائيل معه و إقامته الحجّة و إيتاؤه المعجزة. ثمّ خروجه مع بني إسرائيل من مصر و تعقيب فرعون و غرقه و نجاة بني إسرائيل. ثمّ عبادة بني إسرائيل العجل و ما انتهى إليه أمرهم و أمر السامري و عجله، و قد تعرّضت الآيات الّتي نقلناها للفصل الأوّل منها.

و وجه اتّصال القصّة بما قبلها أنّها تذكرة بالتوحيد و وعيد بالعذاب فالقصّة تبتدئ بوحي التوحيد و تنتهي بقول موسى:( إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) الآية و تذكر هلاك فرعون و طرد السامريّ و قد ابتدأت الآيات السابقة بأنّ القرآن المشتمل على الدعوة الحقّة تذكرة لمن يخشى و انتهت إلى مثل قوله:( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ ) .

قوله تعالى: ( وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) الاستفهام للتقرير و الحديث، القصّة.

قوله تعالى: ( إِذْ رَأى‏ ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً ) إلى آخر الآية المكث اللبث، و الإيناس إبصار الشي‏ء أو وجدانه و هو من الاُنس خلاف النفور و لذا قيل: إنّه إبصار شي‏ء يؤنس به فيكون إبصاراً قويّاً، و القبس بفتحتين هو الشعلة المقتبسة على رأس عود و نحوه و الهدى مصدر بمعنى اسم الفاعل أو مضاف إليه لمضاف مقدّر أي ذا هداية، و المراد - على أيّ حال - من قام به الهداية.

و سياق الآية و ما يتلوها يشهد أنّه كان في منصرفه من مدين إلى مصر و معه أهله و هم بالقرب من وادي طوى في طور سيناء في ليلة شاتية مظلمة و قد ضلّوا الطريق إذ رآى نارا فرآى أن يذهب إليها فإن وجد عندها أحداً سأله الطريق و إلّا أخذ قبساً من النار ليضرموا به نارا فيصطلوا بها.

و في قوله:( فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا ) إشعار بل دلالة على أنّه كان مع أهله غيره كما أنّ في قوله:( إِنِّي آنَسْتُ ناراً ) مع ما يشتمل عليه من التأكيد و التعبير بالإيناس دلالة على أنّه إنّما رآها هو وحده و ما كان يراها غيره من أهله و يؤيّد ذلك قوله أيضاً أوّلاً:( إِذْ رَأى‏ ناراً ) ، و كذا قوله:( لَعَلِّي آتِيكُمْ ) إلخ يدلّ على أنّ في الكلام حذفاً و التقدير امكثوا لأذهب إليها لعلّي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هادياً

١٤٨

نهتدي بهداه.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى‏ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ - إلى قوله -طُوىً ) طوى اسم لواد بطور و هو الّذي سمّاه الله سبحانه بالواد المقدّس، و هذه التسمية و التوصيف هي الدليل على أنّ أمره بخلع النعلين إنّما هو لاحترام الوادي أن لا يداس بالنعل ثمّ تفريع خلع النعلين مع ذلك على قوله:( إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ) يدلّ على أنّ تقديس الوادي إنّما هو لكونه حظيرة لقرب و موطن الحضور و المناجاة فيؤول معنى الآية إلى مثل قولنا نودي يا موسى ها أنا ذا ربّك و أنت بمحضر منّي و قد تقدّس الوادي بذلك فالتزم شرط الأدب و اخلع نعليك.

و على هذا النحو يقدّس ما يقدّس من الأمكنة و الأزمنة كالكعبة المشرّفة و المسجد الحرام و سائر المساجد و المشاهد المحترمة في الإسلام و الأعياد و الأيّام المتبرّكة فإنّما ذلك قدس و شرف اكتسبته بالانتساب إلى واقعة شريفة وقعت فيها أو نسك و عبادة مقدّسة شرّعت فيها و إلّا فلا تفاضل بين أجزاء المكان و لا بين أجزاء الزمان.

و لمّا سمع موسى (عليه السلام) قوله تعالى:( يا مُوسى‏ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ) فهم من ذلك فهم يقين أنّ الّذي يكلّمه هو ربّه و الكلام كلامه و ذلك أنّه كان وحياً منه تعالى و قد صرّح تعالى بقوله:( وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ) الشورى: ٥١، أن لا واسطة بينه تعالى و بين من يكلّمه من حجاب أو رسول إذا كان تكليم وحي و إذ لم يكن هناك أيّ واسطة مفروضة لم يجد الموحى إليه مكلّماً لنفسه و لا توهّمه إلّا الله و لم يجد الكلام إلّا كلامه و لو احتمل أن يكون المتكلّم غيره أو الكلام كلام غيره لم يكن تكليماً ليس بين الإنسان و بين ربّه غيره.

و هذا حال النبيّ و الرسول في أوّل ما يوحى إليه بالنبوّة و الرسالة لم يختلجه شكّ و لا اعترضه ريب في أنّ الّذي يوحي إليه هو الله سبحانه من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر أو التماس دليل أو إقامة حجّة و لو افتقر إلى شي‏ء من ذلك كان اكتساباً

١٤٩

بواسطة القوّة النظريّة لا تلقّياً من الغيب من غير توسّط واسطة.

فإن قلت: قوله تعالى في القصّة في موضع آخر من كلامه:( وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا ) .

و قوله في موضع آخر:( مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ) يثبت الحجاب في تكليمه (عليه السلام).

قلت: نعم لكن ثبوت الحجاب أو الرسول في مقام التكليم لا ينافي تحقّق التكليم بالوحي فإنّ الوحي كسائر أفعاله تعالى لا يخلو من واسطة و إنّما يدور الأمر مدار التفات المخاطب الّذي يتلقّى الكلام فإن التفت إلى الواسطة الّتي تحمل الكلام و احتجب بها عنه تعالى كان الكلام رسالة اُرسل إليه بملك مثلاً و وحياً من الملك، و إن التفت إليه تعالى كان وحياً منه و إن كان هناك واسطة لا يلتفت إليها، و من الشاهد على ما ذكرنا قوله في الآية التالية خطاباً لموسى:( فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى‏ ) فسمّاه وحياً، و قد أثبت في سائر كلامه فيه الحجاب.

و بالجملة قوله:( إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ) إلخ، تنبيه لموسى على أنّ الموقف موقف الحضور و مقام المشافهة و قد خلى به و خصّه من نفسه بمزيد العناية، و لذا قيل: إنّي أنا ربّك، و لم يقل: أنا الله أو أنا ربّ العالمين، و لذا أيضاً لم يلزم من قوله ثانياً:( إِنَّنِي أَنَا اللهُ ) تكرار، لأنّ الأوّل تخلية للمقام من الأغيار لإلقاء الوحي، و الثاني من الوحي.

و في قوله:( نُودِيَ ) حيث طوي ذكر الفاعل و لم يقل: ناديناه أو ناداه الله من اللطف ما لا يقدّر بقدر، و فيه تلويح أنّ ظهور هذه الآية لموسى كان على سبيل المفاجأة.

قوله تعالى: ( وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى‏ ) الاختيار مأخوذ من الخير، و حقيقته أن يتردّد أمر الفاعل مثلاً بين أفعال يجب أن يرجّح واحداً منها ليفعله فيميّز ما هو خيرها ثمّ يبني على كونه خيراً من غيره فيفعله، فبناؤه على كونه خيراً من غيره هو اختيار فالاختيار دائماً لغاية هو غرض الفاعل من فعله.

١٥٠

فاختياره تعالى لموسى إنّما هو لغاية إلهيّة و هي إعطاء النبوّة و الرسالة و يشهد بذلك قوله على سبيل التفريع على الاختيار( فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) فقد تعلّقت المشيّة الإلهيّة ببعث إنسان يتحمّل النبوّة و الرسالة و كان موسى في علمه تعالى خيراً من غيره و أصلح لهذا الغرض فاختاره (عليه السلام).

و قوله:( وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ ) على ما يعطيه السياق من قبيل إصدار الأمر بنبوّته و رسالته فهو إنشاء لا إخبار، و لو كان إخباراً لقيل: و قد اخترتك لكنّه إنشاء الاختيار للنبوّة و الرسالة بنفس هذه الكلمة ثمّ لمّا تحقّق الاختيار بإنشائه فرّع عليه الأمر بالاستماع للوحي المتضمّن لنبوّته و رسالته فقال:( فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) و الاستماع لما يوحى الإصغاء إليه.

قوله تعالى: ( إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) هذا هو الوحي الّذي امر (عليه السلام) بالاستماع له في إحدى عشرة آية تشتمل على النبوّة و الرسالة معاً أمّا النبوّة ففي هذه الآية و الآيتين بعدها، و أمّا الرسالة فتأخذ من قوله:( وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) و تنتهي في قوله:( اذْهَبْ إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‏ ) و قد نصّ تعالى أنّه كان رسولاً نبيّاً معاً في قوله:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى‏ إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا ) مريم: ٥١.

و قد ذكر في الآيات الثلاث المشتملة على النبوّة الركنان معاً و هما ركن الاعتقاد و ركن العمل، و اُصول الاعتقاد ثلاثة التوحيد و النبوّة و المعاد و قد ذكر منها التوحيد و المعاد و طوي عن النبوّة لأنّ الكلام مع النبيّ نفسه و أمّا ركن العمل فقد لخّص على ما فيه من التفصيل في كلمة واحدة هي قوله:( فَاعْبُدْنِي ) فتمّت بذلك اُصول الدين و فروعه في ثلاث آيات.

فقوله:( إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا ) عرّف المسمّى بالاسم بنفسه حيث قال: إنّني أنا الله و لم يقل: إنّ الله هو أنا لأنّ مقتضى الحضور أن يعرف وصف الشي‏ء بذاته لا ذاته بوصفه كما قال إخوة يوسف لمّا عرفوه:( إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي ) و اسم الجلالة و إن كان علماً للذات المتعالية لكنّه يفيد معنى

١٥١

المسمّى بالله إذ لا سبيل إلى الذات المقدّسة فكأنّه قيل: أنا الّذي يسمّى( الله ) فالمتكلّم حاضر مشهود و المسمّى باسم( الله ) كأنّه مبهم أنّه من هو؟ فقيل: أنا ذاك على أنّ اسم الجلالة علم بالغلبة لا يخلو من أصل وصفيّ.

و قوله:( لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ) كلمة التوحيد مرتّبة على قوله:( إِنَّنِي أَنَا اللهُ ) لفظاً لترتّبها عليه حقيقة فإنّه إذا كان هو الّذي منه يبدأ كلّ شي‏ء و به يقوم و إليه يرجع فلا ينبغي أن يخضع خضوع العبادة إلّا له فهو الإله المعبود بالحقّ لا إله غيره و لذا فرّع على ذلك الأمر بعبادته حيث قال:( فَاعْبُدْنِي ) .

و قوله:( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) خصّ الصلاة بالذكر - و هو من باب ذكر الخاصّ بعد العامّ اعتناء بشأنه - لأنّ الصلاة أفضل عمل يمثّل به الخضوع العبوديّ و يتحقّق بها ذكر الله سبحانه تحقّق الروح بقالبه.

و على هذا المعنى فقوله:( لِذِكْرِي ) من إضافة المصدر إلى مفعوله و اللّام للتعليل و هو متعلّق بأقم محصّله أن: حقّق ذكرك لي بالصلاة، كما يقال: كلّ لتشبع و اشرب لتروي و هذا هو المعنى السابق إلى الذهن من مثل هذا السياق.

و قد تكاثرت الأقوال في قوله:( لِذِكْرِي ) فقيل: إنّه متعلّق بأقم كما تقدّم و قيل: بالصلاة، و قيل: بقوله:( فَاعْبُدْنِي ) ثمّ اللّام قيل: للتعليل، و قيل للتوقيت و المعنى أقم الصلاة عند ذكري أو عند ذكرها إذا نسيتها أو فاتت منك فهي كاللّام في قوله:( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) الإسراء: ٧٨.

ثمّ الذكر قيل: المراد به الذكر اللفظيّ الّذي تشتمل عليه الصلاة، و قيل الذكر القلبيّ الّذي يقارنها و يتحقّق بها أو يترتّب عليها و يحصل بها حصول المسبّب عن سببه أو الذكر الّذي قبلها، و قيل: المراد الأعمّ من القلبيّ و القالبيّ.

ثمّ الإضافة قيل: إنّها من إضافة المصدر إلى مفعوله، و قيل: من إضافة المصدر إلى فاعله و المراد صلّ لأن أذكرك بالثناء و الإثابة أو المراد صلّ لذكري إيّاها في الكتب السماويّة و أمري بها.

و قيل: إنّه يفيد قصر الإقامة في الذكر، و المعنى: أقم الصلاة لغرض ذكري

١٥٢

لا لغرض آخر غير ذكري كثواب ترجوه أو عقاب تخافه، و قيل: لا قصر.

و قيل: إنّه يفيد قصر المضاف في المضاف إليه، و المراد: أقم الصلاة لذكري خاصّة من غير أن ترائي بها أو تشوبها بذكر غيري، و قيل: لا دلالة على ذلك من جهة اللفظ و إن كان حقّاً في نفسه.

و قيل: المراد بالذكر ذكر الصلاة أي أقم الصلاة عند تذكّرها أو لأجل ذكرها و الكلام على تقدير مضاف و الأصل لذكر صلاتي أو على أنّ ذكر الصلاة سبب لذكر الله فاُطلق المسبّب و اُريد به السبب إلى غير ذلك و الوجوه الحاصلة بين غثّ و سمين. و الّذي يسبق إلى الفهم هو ما قدّمناه.

قوله تعالى: ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) تعليل لقوله في الآية السابقة:( فَاعْبُدْنِي ) و لا يناقض ذلك كون( فَاعْبُدْنِي ) متفرّعاً على كلمة التوحيد المذكورة قبله لأنّ وجوب عبادته تعالى و إن كان بحسب نفسه متفرّعاً على توحّده لكنّه لا يؤثّر أثراً لو لا ثبوت يوم يجزى فيه الإنسان بما عمله و يتميّز فيه المحسن من المسي‏ء و المطيع من العاصي فيكون التشريع لغواً و الأمر و النهي سدىً لا أثر لهما، و لذلك كانت مقضيّة قضاء حتماً و تكرّر في كلامه تعالى نفي الريب عنها.

و قوله:( أَكادُ أُخْفِيها ) ظاهر إطلاق الإخفاء أنّ المراد يقرب أن اُخفيها و أكتمها فلا اُخبر عنها أصلاً حتّى يكون وقوعها أبلغ في المباغتة و أشدّ في المفاجاة و لا تأتي إلّا فجأة كما قال تعالى:( لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ) الأعراف: ١٨٧، أو يقرب أن لا اُُخبر بها حتّى يتميّز المخلصون من غيرهم فإنّ أكثر الناس إنّما يعبدونه تعالى رجاء في ثوابه أو خوفاً من عقابه جزاء للطاعة و المعصية، و أصدق العمل ما كان لوجه الله لا طمعاً في جنّة أو خوفاً من نار و لو اُخفي و كتم يوم الجزاء تميّز عند ذلك من يأتي بحقيقة العبادة من غيره.

و قيل: معنى أكاد اُخفيها أقرب من أن أكتمها من نفسي و هو مبالغة في الكتمان إذا أراد أحدهم المبالغة في كتمان شي‏ء، قال: كدت اُخفيه من نفسي أي فكيف اُظهره

١٥٣

لغيري؟ و عزي إلى الرواية.

و قوله:( لِتُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) متعلّق بقوله:( آتِيَةٌ ) و المعنى واضح.

قوله تعالى: ( فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى‏ ) الصدّ الصرف، و الردى الهلاك، و الضميران في( عَنْها ) و( بِها ) للساعة، و معنى الصدّ عن الساعة الصرف عن ذكرها بما لها من الشأن و هو أنّها يوم تجزى فيه كلّ نفس بما تسعى، و كذا معنى عدم الإيمان بها هو الكفر بها بما لها من الشأن.

و قوله:( وَ اتَّبَعَ هَواهُ ) كعطف التفسير بالنسبة إلى قوله:( مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها ) أي إنّ عدم الإيمان بها مصداق اتّباع الهوى و إذ كان مع ذلك صالحاً للتعليل أفاد الكلام علّيّة الهوى لعدم الإيمان بها، و استفيد من ذلك بالالتزام أنّ الإيمان بالساعة هو الحقّ المخالف للهوى و المنجي من الردى.

فمحصّل معنى الآية أنّه إذا كانت الساعة آتية و الجزاء واقعاً فلا يصرفنّك عن الإيمان بها و ذكرها بما لها من الشأن الّذين اتّبعوا أهواءهم فصاروا يكفرون بها و يعرضون عن عبادة ربّهم فلا يصرفنّك عنها حتّى تنصرف فتهلك.

و لعلّ الإتيان في قوله:( وَ اتَّبَعَ هَواهُ ) بصيغة الماضي مع كون المعطوف عليه بصيغة المضارع للتلويح إلى علّيّة اتّباع الهوى لعدم الإيمان.

قوله تعالى: ( وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى‏ ) شروع في وحي الرسالة و قد تمّ وحي النبوّة في الآيات الثلاث الماضية و الاستفهام للتقرير، سئل (عليه السلام) عمّا في يده اليمنى و كانت عصاه، ليسمّيها و يذكر أوصافها فيتبيّن أنّها جماد لا حياة له حتّى يأخذ تبديلها حيّة تسعى مكانه في نفسه (عليه السلام).

و الظاهر أنّ المشار إليه بقوله:( تِلْكَ ) العودة أو الخشبة، و لو لا ذلك لكان من حقّ الكلام أن يقال: و ما ذلك بجعل المشار إليه هو الشي‏ء لمكان التجاهل بكونها عصا و إلّا لم يستقم الاستفهام كما في قوله:( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ ) الأنعام: ٧٨.

و يمكن أن تكون الإشارة بتلك إلى العصا لكن لا بداعي الاطّلاع على اسمها

١٥٤

و حقيقتها حتّى يلغو الاستفهام بل بداعي أن يذكر ما لها من الأوصاف و الخواصّ و يؤيّده ما في كلام موسى (عليه السلام) من الإطناب بذكر نعوت العصا و خواصّها فإنّه لمّا سمع السؤال عمّا في يمينه و هي عصا لا يرتاب فيها فهم أنّ المطلوب ذكر أوصافها فأخذ يذكر اسمها ثمّ أوصافها و خواصّها، و هذه طريق معمولة فيما إذا سئل عن أمر واضح لا يتوقّع الجهل به و من هذا الباب يوجه قوله تعالى:( الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ ) القارعة: ٤، و قوله:( الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ ) الحاقّة: ٣.

قوله تعالى: ( قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَ أَهُشُّ بِها عَلى‏ غَنَمِي وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) العصا معروفة و هي من المؤنّثات السماعيّة، و التوكّي و الاتّكاء على العصا الاعتماد عليها، و الهشّ هو خبط ورق الشجرة و ضربه بالعصا لتساقط على الغنم فيأكله، و المآرب جمع مأربة مثلّثة الراء و هي الحاجة، و المراد بكون مآربه فيها تعلّق حوائجه بها من حيث إنّها وسيلة رفعها. و معنى الآية ظاهر.

و إطنابه (عليه السلام) بالإطالة في ذكر أوصاف العصا و خواصّها قيل: لأنّ المقام و هو مقام المناجاة و المسارّة مع المحبوب يقتضي ذلك لأنّ مكالمة المحبوب لذيذة و لذا ذكر أوّلاً أنّه عصاه ليرتّب عليه منافعها العامّة و هذه هي النكتة في ذكر أنّها عصاه.

و قد قدّمنا في ذيل الآية السابقة وجهاً آخر لهذا الاستفهام و جوابه و ليس الكلام عليه من باب الإطناب و خاصّة بالنظر إلى جمعه سائر منافعها في قوله:( وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى‏ ) .

قوله تعالى: ( قالَ أَلْقِها يا مُوسى -‏ إلى قوله -سِيرَتَهَا الْأُولى) السيرة الحالة و الطريقة و هي في الأصل بناء نوع من السير كجلسة لنوع من الجلوس.

أمر سبحانه موسى أن يلقي عصاه عن يمينه و هو قوله:( قالَ أَلْقِها يا مُوسى‏ ) فلمّا ألقى العصا صارت حيّة تتحرّك بجدّ و جلادة و ذلك أمر غير مترقّب من جماد لا حياة له و هو قوله:( فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى‏ ) و قد عبّر تعالى عن سعيها في

١٥٥

موضع آخر من كلامه بقوله:( رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ ) القصص: ٣١، و عبّر عن الحيّة أيضاً في موضع آخر بقوله:( فَأَلْقى‏ عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ) الأعراف: ١٠٧، الشعراء: ٣٢ و الثعبان: الحيّة العظيمة.

و قوله:( قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا ) أي حالتها( الْأُولى) و هي أنّها عصا فيه دلالة على خوفه (عليه السلام) ممّا شاهده من حيّة ساعية و قد قصّه تعالى في موضع آخر إذ قال:( فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى‏ أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ ) القصص: ٣١، و الخوف و هو الأخذ بمقدّمات التحرّز عن الشرّ غير الخشية الّتي هي تأثّر القلب و اضطرابه فإنّ الخشية رذيلة تنافي فضيلة الشجاعة بخلاف الخوف و الأنبياء (عليهم السلام) يجوز عليهم الخوف دون الخشية كما قال الله تعالى:( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ ) الأحزاب: ٣٩.

قوله تعالى: ( وَ اضْمُمْ يَدَكَ إِلى‏ جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى) الضمّ الجمع، و الجناح جناح الطائر و اليد و العضد و الإبط و لعلّ المراد به المعنى الأخير ليؤول إلى قوله في موضع آخر:( أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ) و السوء كلّ رداءة و قبح قيل: كنّي به في الآية عن البرص و المعنى أجمع يدك تحت إبطك أي أدخلها في جيبك تخرج بيضاء من غير برص أو حالة سيّئة اُخرى.

و قوله:( آيَةً أُخْرى‏ ) حال من ضمير تخرج و فيه إشارة إلى أنّ صيرورة العصا حيّة آية اُولى و اليد البيضاء آية اُخرى و قال تعالى في ذلك:( فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ ) القصص: ٣٢.

قوله تعالى: ( لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) اللّام للتعليل و الجملة متعلّقة بمقدّر كأنّه قيل: أجرينا ما أجرينا على يدك لنريك بعض آياتنا الكبرى.

قوله تعالى: ( اذْهَبْ إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) هذا هو أمر الرسالة و كانت الآيات السابقة:( وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ ) إلخ مقدّمة له.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي - إلى قوله -إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً ) الآيات - و هي إحدى عشرة آية - متن ما سأله موسى (عليه السلام) ربّه حين سجّل عليه

١٥٦

حكم الرسالة و هي بظاهرها مربوطة بأمر رسالته لأنّه أحوج ما يكون إليها في تبليغ الرسالة إلى فرعون و ملائه و إنجاء بني إسرائيل و إدارة اُمورهم لا في أمر النبوّة.

و يؤيّد ذلك أنّه لم يسأل بعد إتمام أمر النبوّة في الآيات الثلاث السابقة بل إنّما بادر إلى ذلك بعد ما اُلقي إليه قوله:( اذْهَبْ إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) و هو أمر الرسالة.

نعم الآيات الأربع الاُول:( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ) إلخ، لا يخلو من ارتباط في الجملة بأمر النبوّة و هي تلقّي عقائد الدين و أحكامه العمليّة عن ساحة الربوبيّة.

فقوله:( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ) و الشرح البسط و الجملة من الاستعارة التخييليّة و الاستعارة بالكناية كأنّ صدر الإنسان و قد استكنّ فيه القلب وعاء يعي ما يرد عليه من طريق المشاهدة و الإدراك ثمّ يختزن فيه السرّ و إذا كان أمراً عظيماً يشقّ على الإنسان أو هو فوق طاقته ضاق عنه الصدر فلم يسعه و احتاج إلى انشراح حتّى يسعه.

و قد استعظم موسى ما سجّل عليه ربّه من أمر الرسالة و قد كان على علم بما عليه اُمّة القبط من الشوكة و القوّة و على رأس هذه الاُمّة المتجبّرة فرعون الطاغي الّذي كان ينازع الله في ربوبيّته و ينادي أنا ربّكم الأعلى، و كان يذكر ما عليه بنو إسرائيل من الضعف و الإسارة بين آل فرعون ثمّ الجهل و انحطاط الفكر، و كان كأنّه يرى ما ستجره إليه هذه الدعوة من الشدائد و المصائب و يشاهد ما سيعقّبه تبليغ هذه الرسالة من الفظائع و الفجائع و هو رجل قليل التحمّل سريع الانقلاب في ذات الله ينكر الظلم و يأبى الضيم كما يشهد به قصّة قتله القبطيّ و استقائه في ماء مدين و في لسانه - و هو السلاح الوحيد لمن أراد الدعوة و التبليغ - عقدة ربّما منعته بيان ما يريد بيانه.

فلذلك سأل ربّه حلّ هذه المشكلات فسأل أوّلاً أن يوسّع صدره لما يحمّله ربّه من أعباء الرسالة و لما ستستقبله من العظائم و الشدائد في مسيره في الدعوة فقال:( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ) .

ثمّ قال:( وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي ) و هو الأمر الّذي قلّده من الرسالة و لم يسأله

١٥٧

تعالى أن يخفّف في رسالته و يتنزّل بعض التنزّل عمّا أمره به أوّلاً فيقنع بما هو دونه فتصير رسالة يسيرة في نفسها بعد ما كانت خطيرة و إنّما سأل أن يجعلها على ما بها من العسر و الخطر يسيرة بالنسبة إليه هيّنة عنده و الدليل على ذلك قوله:( وَ يَسِّرْ لِي ) .

و وجه الدلالة أنّ قوله:( لِي ) و المقام هذا المقام يفيد الاختصاص فيؤدّي ما هو معنى قولنا: و يسّر لي، و أنا الّذي أوقفتني هذا الموقف و قلّدتني ما قلّدتني أمري الّذي قلّدتنيه و من المعلوم أنّ مقتضى هذا السؤال تيسير الأمر بالنسبة إليه لا تيسيره في نفسه، و نظير الكلام يجري في قوله:( اشْرَحْ لِي ) فمعناه اشرح لي و أنا الّذي أمرتني بالرسالة و قبالها شدائد و مكاره( صَدْرِي ) حتّى لا يضيق إذا ازدحمت عليّ و دهمتني، و لو قيل: ربّ اشرح صدري و يسّر أمري فاتت هذه النكتة.

و قوله:( وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي ) سؤال له آخر يرجع إلى عقدة من لسانه و التنكير في( عُقْدَةً ) للدلالة على النوعيّة فله وصف مقدّر و هو الّذي يلوح من قوله:( يَفْقَهُوا قَوْلِي ) أي عقدة تمنع من فقه قولي.

و قوله:( وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي ) سؤال له آخر و هو رابع الأسؤلة و آخرها، و الوزير فعيل من الوزر بالكسر فالسكون بمعنى الحمل الثقيل سمّي الوزير وزيراً لأنّه يحمل ثقل حمل الملك، و قيل: من الوزر بفتحتين بمعنى الجبل الّذي يلتجأ إليه سمّي به لأنّ الملك يلتجئ إليه في آرائه و أحكامه.

و بالجملة هو يسأل ربّه أن يجعل له وزيراً من أهله و يبيّنه أنّه هارون أخي و إنّما يسأل ذلك لأنّ الأمر كثير الجوانب متباعد الأطراف لا يسع موسى أن يقوم به وحده بل يحتاج إلى وزير يشاركه في ذلك فيقوم ببعض الأمر فيخفّف عنه فيما يقوم به هذا الوزير و يكون مؤيّداً لموسى فيما يقوم به موسى و هذا معنى قوله - و هو بمنزلة التفسير لجعله وزيراً -( اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) .

فمعنى قوله:( وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) سؤال إشراك في أمر كان يخصّه و هو

١٥٨

تبليغ ما بلغه من ربّه بادي مرّة فهو الّذي يخصّه و لا يشاركه فيه أحد سواه و لا له أن يستنيب فيه غيره و أمّا تبليغ الدين أو شي‏ء من أجزائه بعد بلوغه بتوسّط النبيّ فليس ممّا يختصّ بالنبيّ بل هو وظيفة كلّ من آمن به ممّن يعلم شيئاً من الدين و على العالم أن يبلّغ الجاهل و على الشاهد أن يبلّغ الغائب و لا معنى لسؤال إشراك أخيه معه في أمر لا يخصّه بل يعمّه و أخاه و كلّ من آمن به من الإرشاد و التعليم و البيان و التبليغ فتبيّن أنّ معنى إشراكه في أمره أن يقوم بتبليغ بعض ما يوحى إليه من ربّه عنه و سائر ما يختصّ به من عند الله كافتراض الطاعة و حجيّة الكلمة.

و أمّا الإشراك في النبوّة خاصّة بمعنى تلقّي الوحي من الله سبحانه فلم يكن موسى يخاف على نفسه التفرّد في ذلك حتّى يسأل الشريك و إنّما كان يخاف التفرّد في التبليغ و إدارة الاُمور في إنجاء بني إسرائيل و ما يلحق بذلك، و قد نقل ذلك عن موسى نفسه في قوله:( وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي ) القصص: ٣٤.

على أنّه صحّ من طرق الفريقين أنّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) دعا بهذا الدعاء بألفاظه في حقّ عليّ (عليه السلام) و لم يكن نبيّاً.

و قوله:( كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً ) ظاهر السياق و قد ذكر في الغاية تسبيحهما معاً و ذكرهما معاً أنّ الجملة غاية لجعل هارون وزيراً له إذ لا تعلّق لتسبيحهما معا و ذكرهما معا بمضامين الأدعية السابقة و هي شرح صدره و تيسير أمره و حلّ عقدة من لسانه و يترتّب على ذلك أنّ المراد بالتسبيح و الذكر تنزيههما معاً لله سبحانه و ذكرهما له بين الناس علنا لا في حال خلوتهما أو في قلبيهما سرّاً إذ لا تعلّق لذلك أيضاً بجعله وزيراً بل المراد أن يسبّحاه و يذكراه معاً بين الناس في مجامعهم و نواديهم و أيّ مجلس منهم حلّاً فيه و حضراً فتكثر الدعوة إلى الإيمان بالله و رفض الشركاء.

و بذلك يرجع ذيل السياق إلى صدره كأنّه يقول: إنّ الأمر خطير و قد غرّ هذا الطاغية و ملأه و اُمّته عزّهم و سلطانهم و نشب الشرك و الوثنيّة بأعراقه في قلوبهم

١٥٩

و أنساهم ذكر الله من أصله و قد امتلأت أعين بني إسرائيل بما يشاهدونه من عزّة فرعون و شوكة ملإه و اندهشت قلوبهم من سطوة آل فرعون و ارتاعت نفوسهم من سلطتهم فنسوا الله و لا يذكرون إلّا الطاغية، فهذا الأمر أمر الرسالة و الدعوة في نجاحه و مضيّه في حاجة شديدة إلى تنزيهك بنفي الشريك كثيراً و إلى ذكرك بالربوبيّة و الاُلوهيّة بينهم كثيراً ليتبصّروا فيؤمنوا و هذا أمر لا أقوى عليه وحدي فاجعل هارون وزيراً لي و أيّدني به و أشركه في أمري كي نسبّحك كثيراً و نذكرك كثيراً لعلّ السعي ينجع و الدعوة تنفع.

و بهذا البيان يظهر وجه تعلّق هذه الغاية أعني قوله:( كَيْ نُسَبِّحَكَ ) إلخ، بما تقدّمه.

و ثانياً: وجه ورود قوله:( كَثِيراً ) مرّتين و أنّه ليس من التكرار في شي‏ء إذ كلّ من التسبيح و الذكر يجب أن يكون في نفسه كثيراً، و لو قيل كي نسبّحك و نذكرك كثيراً أفاد كثرتهما مجتمعين و هو غير مراد.

و ثالثاً: وجه تقديم التسبيح على الذكر فإنّ المراد بالتسبيح تنزيهه تعالى عن الشريك بدفع اُلوهيّة الآلهة من دون الله و إبطال ربوبيّتها لتقع الدعوة إلى الإيمان بالله وحده، و هو المراد بالذكر، موقعها. فالتسبيح من قبيل دفع المانع المتقدّم على تأثير المقتضي، و قد ذكر لهذه الخصوصيّات وجوه اُخر مذكورة في المطوّلات لا جدوى فيها و لا في نقلها.

و قوله:( إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً ) هو بظاهره تعليل كالحجّة على قوله:( كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً ) إلخ، أي إنّك كنت بصيراً بي و بأخي منذ خلقتنا و عرّفتنا نفسك و تعلم أنّا لم نزل نعبدك بالتسبيح و الذكر ساعيين مجدّين في ذلك فإن جعلته وزيراً لي و أيّدتني به و أشركته في أمري تمّ أمر الدعوة و سبحناك كثيراً و ذكرناك كثيراً، و المراد بقوله:( بِنا ) على هذا هو و أخوه. و يمكن أن يكون المراد بالضمير في( بِنا ) أهله، و المعنى: إنّك كنت بصيراً بنا أهل البيت أنّا أهل تسبيح و ذكر فإن جعلت هارون أخي، و هو من أهلي، وزيراً لي سبّحناك كثيراً و ذكرناك كثيراً، و هذا الوجه أحسن

١٦٠