الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  0%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 91968
تحميل: 5125


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91968 / تحميل: 5125
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 14

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من سابقه لأنّه يفي ببيان النكتة في ذكر الأهل في قوله السابق:( وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي ) أيضاً فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) إجابة لأدعيته جميعاً و هو إنشاء نظير ما مرّ من قوله:( وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) .

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى -‏ إلى قوله -كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ ) يذكّره تعالى بمنّ آخر له عليه قبل أن يختاره للنبوّة و الرسالة و يؤتي سؤله و هو منّه عليه حينما تولّد فقد كان بعض الكهنة أخبر فرعون أن سيولد في بني إسرائيل مولود يكون بيده زوال ملكه فأمر فرعون بقتل كلّ مولود يولد فيهم فكانوا يقتلون المواليد الذكور حتّى إذا ولد موسى أوحى الله إلى اُمّه أن لا تخاف و ترضعه فإذا خافت عليه من عمّال فرعون و جلاوزته تقذفه في تابوت فتقذفه في النيل فيلقيه اليمّ إلى الساحل حيال قصر فرعون فيأخذه فيتّخذه ابنا له و كان لا عقب له و لا يقتله ثمّ إنّ الله سيردّه إليها.

ففعلت كما اُوحي إليها فلمّا جرى التابوت بجريان النيل أرسلت بنتا لها و هي اُخت موسى أن تجسّ أخباره فكانت تطوف حول قصر فرعون حتّى وجدت نفرا يطلبون بأمر فرعون مرضعا ترضع موسى فدلّتهم اُخت موسى على اُمّها فاسترضعوها له فأخذت ولدها و قرّت به عينها و صدق الله وعده و قد عظم منّه على موسى.

فقوله:( وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) امتنان بما صنعه به أوّل عمره و قد تغيّر السياق من التكلّم وحده إلى التكلّم بالغير لأنّ المقام مقام إظهار العظمة و هو ينبئ عن ظهور قدرته التامّة بتخييب سعي فرعون الطاغية و إبطال كيده لإخماد نور الله و ردّ مكره إليه و تربية عدوّه في حجره، و أمّا موقف نداء موسى و تكليمه إذ قال:( يا مُوسى‏ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ) إلخ فسياق التكلّم وحده أنسب له.

و قوله:( إِذْ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّكَ ما يُوحى) المراد به الإلهام و هو نوع من القذف في القلب في يقظة أو نوم، و الوحي في كلامه تعالى لا ينحصر في وحي النبوّة كما قال تعالى:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) النحل: ٦٨، و أمّا وحي النبوّة فالنساء لا يتنبّأن

١٦١

و لا يوحى إليهنّ بذلك قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) يوسف: ١٠٩ و قوله:( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ ) إلى آخر الآية هو مضمون ما اُوحي إلى اُمّ موسى و( أَنِ ) للتفسير، و قيل: مصدريّة متعلّق باُوحي و التقدير اُوحي بأن اقذفيه، و قيل: مصدريّة و الجملة بدل من:( ما يُوحى) .

و التابوت الصندوق و ما يشبهه و القذف الوضع و الإلقاء و كأنّ القذف الأوّل في الآية بالمعنى الأوّل و القذف الثاني بالمعنى الثاني و يمكن أن يكونا معاً بالمعنى الثاني بعناية أنّ وضع الطفل في التابوت و إلقاءه في اليمّ إلقاء و طرح له من غير أن يعبأ بحاله، و اليمّ البحر: و قيل: البحر العذب، و الساحل شاطئ البحر و جانبه من البرّ، و الصنع و الصنيعة الإحسان.

و قوله:( فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ ) أمر عبّر به إشارة إلى تحقّق وقوعه و مفاده أنّا أمرنا اليمّ بذلك أمراً تكوينيّاً فهو واقع حتماً مقضيّاً، و كذا قوله:( يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي ) إلخ و هو جزاء مترتّب على هذا الأمر.

و معنى الآيتين إذ أوحينا و ألهمنا اُمّك بما يوحى و يلهم و هو أن ضعيه - أو ألقيه - في التابوت و هو الصندوق فألقيه في اليمّ و البحر و هو النيل فمن المقضيّ من عندنا أن يلقيه البحر بالساحل و الشاطئ يأخذه عدوّ لي و عدوّ له و هو فرعون لأنّه كان يعادي الله بدعوى الاُلوهيّة و يعادي موسى بقتله الأطفال و كان طفلا هذا ما أوحيناه إلى اُمّك.

و قوله:( وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى‏ عَيْنِي ) ظاهر السياق أنّ هذا الفصل إلى قوله:( وَ لا تَحْزَنَ ) فصل ثان تال للفصل السابق متمّم له و المجموع بيان للمنّ المشار إليه بقوله:( وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى‏ ) .

فالفصل الأوّل يقصّ الوحي إلى اُمّه بقذفه في التابوت ثمّ في البحر لينتهي إلى فرعون فيأخذه عدوّ الله و عدوّه و الفصل الثاني يقصّ إلقاء المحبّة عليه لينصرف فرعون عن قتله و يحسن إليه حتّى ينتهي الأمر إلى رجوعه إلى اُمّه و استقراره في حجرها لتقرّ عينها و لا تحزن و قد وعدها الله ذلك كما قال في سورة القصص:( فَرَدَدْناهُ

١٦٢

إِلى‏ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ) القصص: ١٣، و لازم هذا المعنى كون الجملة أعني قوله:( وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ ) إلخ، معطوفاً على قوله:( أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّكَ ) .

و معنى إلقاء محبّة منه عليه كونه بحيث يحبّه كلّ من يراه كأنّ المحبّة الإلهيّة استقرّت عليه فلا يقع عليه نظر ناظر إلّا تعلّقت المحبّة بقلبه و جذبته إلى موسى، ففي الكلام استعارة تخييليّة و في تنكير المحبّة إشارة إلى فخامتها و غرابة أمرها.

و اللّام في قوله:( وَ لِتُصْنَعَ عَلى‏ عَيْنِي ) للغرض، و الجملة معطوفة على مقدّر و التقدير ألقيت عليك محبّة منّي لاُمور كذا و كذا و ليحسن إليك على عيني أي بمرئى منّي فإنّي معك اُراقب حالك و لا أغفل عنك لمزيد عنايتي بك و شفقتي عليك. و ربّما قيل: إنّ المراد بقوله:( وَ لِتُصْنَعَ عَلى‏ عَيْنِي ) الإحسان إليه بإرجاعه إلى اُمّه و جعل تربيته في حجرها.

و كيف كان فهذا اللسان و هو لسان كمال العناية و الشفقة يناسب سياق التكلّم وحده و لذا عدل إليه من لسان التكلّم بالغير.

و قوله:( إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى‏ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ ) الظرف - على ما يعطيه السياق - متعلّق بقوله:( وَ لِتُصْنَعَ ) و المعنى: و ألقيت عليك محبّة منّي يحبّك كلّ من يراك لكذا و كذا و ليحسن إليك بمرئى منّي و تحت مراقبتي في وقت تمشي اُختك لتجوس خبرك و ترى ما يصنع بك فتجد عمّال فرعون يطلبون مرضعا ترضعك فتقول لهم - و الاستقبال في الفعل لحكاية الحال الماضية - عارضة عليهم: هل أدلّكم على من يكفله بالحضانة و الإرضاع فرددناك إلى اُمّك كي تسرّ و لا تحزن.

و قوله:( فَرَجَعْناكَ ) بصيغة المتكلّم مع الغير رجوع إلى السياق السابق و هو التكلّم بالغير و ليس بالتفات.

قوله تعالى: ( وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ ) إلى آخر الآية، إشارة إلى منّ أو منن اُخرى ملحقة بالمنّين السابقين و هو قصّة قتله (عليه السلام) القبطيّ و ايتمار الملإ أن

١٦٣

يقتلوه و فراره من مصر و تزوّجه هناك ببنت شعيب النبيّ و بقائه عنده بين أهل مدين عشر سنين أجيراً يرعى غنم شعيب، و القصّة مفصّلة مذكورة في سورة القصص.

فقوله:( وَ قَتَلْتَ نَفْساً ) هو قتله القبطيّ بمصر، و قوله:( فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ ) و هو ما كان يخافه أن يقتله الملأ من آل فرعون فأخرجه الله إلى أرض مدين فلمّا أحضره شعيب و ورد عليه و قصّ عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين.

و قوله:( وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً ) أي ابتليناك و اختبرناك ابتلاء و اختباراً، قال الراغب من المفردات: أصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، و استعمل في إدخال الإنسان النار، قال:( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) ( ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ) أي عذابكم، قال: و تارة يسمّون ما يحصل عنه العذاب فتنة فيستعمل فيه نحو قوله:( أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ) و تارة في الاختبار، نحو:( وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً ) و جعلت الفتنة كالبلاء في أنّهما تستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدّة و رخاء و هما في الشدّة أظهر معنى و أكثر استعمالاً و قد قال فيهما:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) انتهى موضع الحاجة من كلامه.

و قوله:( فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ) متفرّع على الفتنة. و قوله:( ثُمَّ جِئْتَ عَلى‏ قَدَرٍ يا مُوسى‏ ) لا يبعد أن يستفاد من السياق أنّ المراد بالقدر هو المقدار و هو ما حصّله من العلم و العمل عن الابتلاءات الواردة عليه في نجاته من الغمّ بالخروج من مصر و لبثه في أهل مدين.

و على هذا فمجموع قوله:( وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ - إلى قوله -يا مُوسى) منّ واحد و هو أنّه ابتلي ابتلاء بعد ابتلاء حتّى جاء على قدر و هو ما اكتسبه من فعليّة الكمال.

و ربّما اُجيب عن الاستشكال في عدّ الفتن من المنّ بأنّ الفتن ههنا بمعنى التخليص كتخليص الذهب بالنار، و ربّما اُجيب بأنّ كونه منّا باعتبار الثواب المترتّب على ذلك، و الوجهان مبنيّان على فصل قوله:( فَلَبِثْتَ ) إلى آخر الآية عمّا قبله و لذا قال بعضهم: إنّ المراد بالفتنة هو ما قاساه موسى من الشدّة بعد

١٦٤

خروجه من مصر إلى أن استقرّ في مدين لمكان فاء التفريع في قوله:( فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ) الدالّ على تأخّر اللبث عن الفتنة زماناً، و فيه أنّ الفاء إنّما تدلّ على التفرّع فحسب و ليس من الواجب أن يكون تفرّعاً زمانيّاً دائماً.

و قال بعضهم: إنّ القدر بمعنى التقدير و المراد ثمّ جئت إلى أرض مصر على ما قدّرنا ثمّ اعترض على أخذ القدر بمعنى المقدار بأنّ المعروف من القدر بهذا المعنى هو ما كان بسكون الدال لا بفتحها و فيه أنّ القدر و القدر بسكون الدال و فتحها - كما صرّحوا به كالنعل و النعل بمعنى واحد. على أنّ القدر بمعنى المقدار كما قدّمناه - أكثر ملاءمة للسياق أو متعيّن. و ذكر لمجيئه على مقدار بعض معان اُخر و هي سخيفة لا جدوى فيها.

و ختم ذكر المنّ بنداء موسى (عليه السلام) زيادة تشريف له.

قوله تعالى: ( وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ) الاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الإحسان - على ما ذكروا - يقال: صنعه أي أحسن إليه و اصطنعه أي حقّق إحسانه إليه و ثبّته فيه، و نقل عن القفّال أنّ معنى الاصطناع أنّه يقال: اصطنع فلان فلانا إذا أحسن إليه حتّى يضاف إليه فيقال: هذا صنيع فلان و خريجه. انتهى.

و على هذا يؤول معنى اصطناعه إيّاه إلى إخلاصه تعالى إيّاه لنفسه و يظهر موقع قوله:( لِنَفْسِي ) أتمّ ظهور و أمّا على المعنى الأوّل فالأنسب بالنظر إلى السياق أن يكون الاصطناع مضمّنا معنى الإخلاص، و المعنى على أيّ حال و جعلتك خالصاً لنفسي فيما عندك من النعم فالجميع منّي و إحساني و لا يشاركني فيك غيري فأنت لي مخلصاً و ينطبق ذلك على قوله:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى‏ إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً ) مريم: ٥١.

و من هنا يظهر أنّ قول بعضهم: المراد بالاصطناع الاختيار، و معنى اختياره لنفسه جعله حجّة بينه و بين خلقه كلامه كلامه و دعوته دعوته و كذا قول بعضهم إنّ المراد بقوله:( لِنَفْسِي ) لوحيي و رسالتي، و قول آخرين: لمحبّتي، كلّ ذلك من قبيل التقييد من غير مقيّد.

و يظهر أيضاً أنّ اصطناعه لنفسه منظوم في سلك المنن المذكورة بل هو أعظم

١٦٥

النعم و من الممكن أن يكون معطوفاً على قوله:( جِئْتَ عَلى‏ قَدَرٍ ) عطف تفسير.

و الاعتراض على هذا المعنى بأنّ توسيط النداء بينه و بين المنن المذكورة لا يلائم كونه منظوماً في سلكها - على ما ذكر الفخر الرازي في تفسيره - فالأولى جعله تمهيداً لإرساله إلى فرعون مع شركة من أخيه في أمره.

و فيه أنّ توسيط النداء لا ينحصر وجهه فيما ذكر فلعلّ الوجه فيه تشريفه بمزيد اللطف و تقريبه من موقف الاُنس ليكون ذلك تمهيداً للالتفات ثانياً من التكلّم بالغير إلى التكلّم وحده بقوله:( وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ) .

قوله تعالى: ( اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي ) تجديد للأمر السابق خطاباً لموسى وحده في قوله:( اذْهَبْ إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) بتغيير مّا فيه بإلحاق أخي موسى به لتغيّر مّا في المقام بإيتاء سؤال موسى أن يشرك هارون في أمره فوجّه الخطاب ثانياً إليهما معاً.

و أمرهما أن يذهباً بآياته و لم يؤت وقتئذ إلّا آيتين وعدٌ جميل بأنّه مؤيّد بغيرهما و سيؤتاه حين لزومه، و أمّا القول بأنّ المراد هما الآيتان و الجمع ربّما يطلق على الاثنين، أو أنّ كلّا من الآيتين ينحلّ إلى آيات كثيرة ممّا لا ينبغي الركون إليه.

و قوله:( وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي ) نهي عن الوني و هو الفتور، و الأنسب للسياق السابق أن يكون المراد بالذكر الدعوة إلى الإيمان به تعالى وحده لا ذكره بمعنى التوجّه إليه قلباً أو لساناً كما قيل.

قوله تعالى: ( اذْهَبا إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‏ فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) جمعهما في الأمر ثانياً فخاطب موسى و هارون معاً و كذلك في النهي الّذي قبله في قوله:( وَ لا تَنِيا ) و قد مهّد لذلك بإلحاق هارون بموسى في قوله:( اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ ) و ليس ببعيد أن يكون نقلاً لمشافهة اُخرى و تخاطب وقع بينه تعالى و بين رسوليه مجتمعين أو متفرّقين بعد ذاك الموقف و يؤيّده سياق قوله بعد:( قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا ) إلخ.

١٦٦

و المراد بقوله:( فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً ) المنع من أن يكلّماه بخشونة و عنف و هو من أوجب آداب الدعوة.

و قوله:( لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) رجاء لتذكّره أو خشيته و هو قائم بمقام المحاورة لا به تعالى العالم بما سيكون، و التذكّر مطاوعة التذكير فيكون قبولاً و التزاماً لما تقتضيه حجّة المذكّر و إيمانه به و الخشية من مقدّمات القبول و الإيمان فمآل المعنى لعلّه يؤمن أو يقرب من ذلك فيجيبكم إلى بعض ما تسألانه.

و استدلّ بعض من يرى قبول إيمان فرعون حين الغرق على إيمانه بالآية استناداً إلى أنّ( لعلّ ) من الله واجب الوقوع كما نسب إلى ابن عبّاس و قدماء المفسّرين فالآية تدلّ على تحتّم وقوع أحد الأمرين التذكّر أو الخشية و هو مدار النجاة.

و فيه أنّه ممنوع و لا تدلّ عسى و لعلّ في كلامه تعالى إلّا على ما يدلّ عليه في كلام غيره و هو الترجّي غير أنّ معنى الترجّي في كلامه لا يقوم به، تعالى عن الجهل و تقدّس و إنّما يقوم بالمقام بمعنى أنّ من وقف هذا الموقف و اطّلع على أطراف الكلام فهم أنّ من المرجوّ أن يقع كذا و كذا و أمّا في كلام غيره فربّما قام الترجّي بنفس المتكلّم و ربّما قام بمقام التخاطب.

و قال الإمام الرازي في تفسيره، إنّه لا يعلم سرّ إرساله تعالى إلى فرعون مع علمه بأنّه لا يؤمن إلّا الله، و لا سبيل في المقام و أمثاله إلى غير التسليم و ترك الاعتراض.

و هو عجيب فإنّه إن كان المراد بسرّ الإرسال وجه صحّة الأمر بالشي‏ء مع العلم باستحالة وقوعه في الخارج فاستحالة وقوع الشي‏ء أو وجوب وقوعه إنّما ذلك حال الفعل بالقياس إلى علّته التامّة الّتي هي الفاعل و سائر العوامل الخارجة عنه في وجوده و الأمر لا يتعلّق بالفعل من حيث حاله بالقياس إلى جميع أجزاء علّته التامّة و إنّما يتعلّق به من جهة حاله بالقياس إلى الفاعل الّذي هو أحد أجزاء علّته التامّة و نسبة الفعل و عدمه إليه بالإمكان دائماً لكونه علّة ناقصة لا تستوجب وجود الفعل و لا عدمه فالإرسال و الدعوة و كذا الأمر صحيح بالنسبة إلى فرعون لكون الإجابة

١٦٧

و الايتمار بالنسبة إليه نفسه اختياريّة ممكنة و إن كانت بالنسبة إليه مع انضمام سائر العوامل المانعة مستحيلة ممتنعة، هذا جواب القائلين بالاختيار، و أمّا المجبّرة - و هو منهم - فالشبهة تسري عندهم إلى جميع موارد التكاليف لعموم الجبر و قد أجابوا عنها على زعمهم بأنّ التكليف صوريّ يترتّب عليه تمام الحجّة و قطع المعذرة.

و إن كان المراد بسرّ الإرسال مع العلم بأنّه لا يؤمن الفائدة المترتّبة عليه بحيث يخرج بها عن اللغويّة فالدعوة الحقّة كما تؤثّر أثرها في قوم بتكميلهم في جانب السعادة كذلك تؤثّر أثرها في آخرين بتكميل شقائهم، قال تعالى:( وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ) الإسراء: ٨٢، و لو اُلغي التكميل في جانب الشقاء لغي الامتحان فيه فلم تتمّ الحجّة فيه، و لا انقطع العذر، و لو لم تتمّ الحجّة في جانب و انتقضت لم تنجع في الجانب الآخر و هو ظاهر.

قوله تعالى: ( قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) الفرط التقدّم و المراد به بقرينة مقابلته الطغيان أن يعجّل بالعقوبة و لا يصبر إلى إتمام الدعوة و إظهار الآية المعجزة، و المراد بأن يطغى أن يتجاوز حدّه في ظلمه فيقابل الدعوة بتشديد عذاب بني إسرائيل و الاجتراء على ساحة القدس بما كان لا يجترئ عليه قبل الدعوة و نسبة الخوف إليهما لا بأس بها كما تقدّم الكلام فيها في تفسير قوله تعالى:( قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ ) .

و استشكل على الآية بأنّ قوله تعالى في موضع آخر لموسى في جواب سؤاله إشراك أخيه في أمره قال:( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما ) القصص: ٣٥، يدلّ على إعطاء الأمن لهما في موقف قبل هذا الموقف لقوله:( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ) فلا معنى لإظهارهما الخوف بعد ذلك.

و اُجيب بأنّ خوفهما قبل كان على أنفسهما بدليل قول موسى هناك.( وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) الشعراء ١٤، و الّذي في هذه الآية خوف منهما على الدعوة كما تقدّم.

١٦٨

على أنّ من الجائز أن يكون هذا الخوف المحكيّ في الآية هو خوف موسى قبل في موقف المناجاة و خوف هارون بعد بلوغ الأمر إليه فالتقطا و جمعا معاً في هذا المورد، و قد تقدّم احتمال أن يكون قوله:( اذْهَبا إِلى‏ فِرْعَوْنَ ) إلى آخر الآيات، حكاية كلامهما في غير موقف واحد.

قوله تعالى: ( قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى‏ ) أي لا تخافا من فرطه و طغيانه إنّني حاضر معكما أسمع ما يقال و أرى ما يفعل فأنصركما و لا أخذلكما فهو تأمين بوعد النصرة، فقوله:( لا تَخافا ) تأمين، و قوله:( إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى) تعليل للتأمين بالحضور و السمع و الرؤية، و هو الدليل على أنّ الجملة كناية عن المراقبة و النصرة و إلّا فنفس الحضور و العلم يعمّ جميع الأشياء و الأحوال.

و قد استدلّ بعضهم بالآية على أنّ السمع و البصر صفتان زائدتان على العلم بناء على أنّ قوله:( إِنَّنِي مَعَكُما ) دالّ على العلم و لو دلّ( أَسْمَعُ وَ أَرى) عليه أيضاً لزم التكرار و هو خلاف الأصل.

و هو من أوهن الاستدلال، أمّا أوّلاً: فلمّا عرفت أنّ مفاد( إِنَّنِي مَعَكُما ) هو الحضور و الشهادة و هو غير العلم.

و أمّا ثانياً: فلقيام البراهين اليقينيّة على عينيّة الصفات الذاتيّة و هي الحياة و القدرة و العلم و السمع و البصر بعضها لبعض و المجموع للذات، و لا ينعقد مع اليقين ظهور لفظيّ ظنيّ مخالف البتّة.

و أمّا ثالثاً: فلأنّ المسألة من اُصول المعارف لا يركن فيها إلى غير العلم، فتتميم الدليل بمثل أصالة عدم التكرار كما ترى.

قوله تعالى: ( فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ) إلى آخر الآية، جدّد أمرهما بالذهاب إلى فرعون بعد تأمينهما و وعدهما بالحفظ و النصر و بيّن تمام ما يكلّفان به من الرسالة و هو أن يدعوا فرعون إلى الإيمان و إلى رفع اليد عن تعذيب بني إسرائيل و إرسالهم معهما فكلّما تحوّل حال في المحاورة جدّد الأمر حسب ما يناسبه و هو قوله أوّلاً لموسى:( اذْهَبْ إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) ، ثمّ قوله ثانياً لمّا ذكر

١٦٩

أسؤلته و اُجيب إليها:( اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ ) ( اذْهَبا إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) ، ثمّ قوله لمّا ذكراً خوفهما و اُجيباً بالأمن:( فَأْتِياهُ فَقُولا ) إلخ، و فيه تفصيل ما عليهما أن يقولا له.

فقوله:( فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ) تبليغ أنّهما رسولا الله، و في قوله بعد:( وَ السَّلامُ عَلى‏ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) إلخ، دعوته إلى بقية أجزاء الإيمان.

و قوله:( فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ ) تكليف فرعيّ متوجّه إلى فرعون.

و قوله:( قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ) استناد إلى حجّة تثبت رسالتهما و في تنكير الآية سكوت عن العدد و إشارة إلى فخامة أمرها و كبر شأنها و وضوح دلالتها.

و قوله:( وَ السَّلامُ عَلى‏ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) كالتحيّة للوداع يشار به إلى تمام الرسالة و يبيّن به خلاصة ما تتضمّنه الدعوة الدينيّة و هو أنّ السلامة منبسط على من اتّبع الهدى و السعادة لمن اهتدى فلا يصادف في مسير حياته مكروها يكرهه لا في دنيا و لا في عقبى.

و قوله:( إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى‏ مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ) في مقام التعليل لسابقه أي إنّما نسلّم على المهتدين فحسب لأنّ الله سبحانه أوحي إلينا أنّ العذاب و هو خلاف السلام على من كذّب بآيات الله - أو بالدعوة الحقّة الّتي هي الهدى - و تولّى و أعرض عنها.

و في سياق الآيتين من الاستهانة بأمر فرعون و بما تزيّن به من زخارف الدنيا و تظاهر به من الكبر و الخيلاء ما لا يخفى، فقد قيل:( فَأْتِياهُ ) و لم يقل: اذهبا إليه و إتيان الشي‏ء أقرب مساسا به من الذهاب إليه و لم يكن إتيان فرعون و هو ملك مصر و إله القبط بذاك السهل الميسور، و قيل:( فَقُولا ) و لم يقل: فقولا له كأنّه لا يعتني به، و قيل:( إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ) و( بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ) فقرع سمعه مرّتين بأنّ له ربّا و هو الّذي كان ينادي بقوله:( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ، و قيل:( وَ السَّلامُ عَلى‏ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) و لم يورد بالخطاب إليه، و نظيره قوله:( أَنَّ الْعَذابَ عَلى‏ مَنْ كَذَّبَ

١٧٠

وَ تَوَلَّى ) من غير خطاب.

و هذا كلّه هو الأنسب تجاه ما يلوح من لحن قوله تعالى:( لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى) من كمال الإحاطة و العزّة و القدرة الّتي لا يقوم لها شي‏ء.

و ليس مع ذلك فيما اُمرا أن يخاطباه به من قولهما:( إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ) إلى آخر الآيتين خشونة في الكلام و خروج عن لين القول الّذي اُمرا به أوّلاً فإنّ ذلك حقّ القول الّذي لا مناص من قرعه سمع فرعون من غير تملّق و لا احتشام و تأثّر من ظاهر سلطانه الباطل و عزّته الكاذبة.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله:( آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ ) يقول: آتيكم بقبس من النار تصطلون من البرد( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً ) كان قد أخطأ الطريق يقول: أو أجد على النار طريقا.

و في الفقيه سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ:( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ) قال: كانتا من جلد حمار ميّت.

أقول: و رواه أيضاً في تفسير القمّيّ، مرسلاً و مضمراً، و روى هذا المعنى في الدرّ المنثور، عن عبدالرزّاق و الفاريابي و عبد بن حميد و ابن أبي حاتم عن عليّ. و قد ردّ ذلك في بعض الروايات، و سياق الآية يعطي أنّ الخلع لاحترام الموقف.

و في المجمع في قوله تعالى:( أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) قيل: معناه أقم الصلاة متى ذكرت أنّ عليك صلاة كنت في وقتها أم لم تكن. عن أكثر المفسّرين، و هو المرويّ عن أبي جعفر (عليه السلام)، و يعضده‏ ما رواه أنس عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: من نسي صلاة فليصلّها إذا ذكرها لا كفّارة لها غير ذلك، رواه مسلم في الصحيح.

أقول: و الحديث مرويّ بطرق اُخرى مسندة و غير مسندة عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) من طرق أهل السنّة و عن الصادقين (عليهما السلام) من طرق الشيعة.

و في المجمع في قوله تعالى:( أَكادُ أُخْفِيها ) روي عن ابن عبّاس( أَكادُ أُخْفِيها

١٧١

عن نفسي ) و هي كذلك في قراءة اُبيّ و روي ذلك عن الصادق (عليه السلام).

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و الخطيب و ابن عساكر عن أسماء بنت عميس قالت: رأيت رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بإزاء ثبير و هو يقول: أشرق ثبير أشرق ثبير اللّهمّ إنّي أسألك بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري، و أن تيسّر لي أمري و أن تحلّ عقدة من لساني يفقهوا قولي، و اجعل لي وزيراً من أهلي عليّا أخي اشدد به أزرى و أشركه في أمري كي نسبّحك كثيراً و نذكرك كثيراً إنّك كنت بنا بصيرا.

أقول: و روي قريباً من هذا المعنى عن السلفيّ عن الباقر (عليه السلام) و روي أيضاً في المجمع، عن ابن عبّاس عن أبي ذرّ عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قريباً منه.

و قال في روح المعاني، بعد إيراد الحديث المذكور ما لفظه: و لا يخفى أنّه يتعيّن هنا حمل الأمر على أمر الإرشاد و الدعوة إلى الحقّ و لا يجوز حمله على النبوّة و لا يصحّ الاستدلال به على خلافة عليّ كرّم الله وجهه بعد النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بلا فصل.

و مثله: فيما ذكر ما صحّ من قوله (عليه السلام) له حين استخلفه في غزوة تبوك على أهل بيته( أ ما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي) انتهى.

قلت: أمّا الاستدلال بالحديث أو بحديث المنزلة على خلافته (عليه السلام) بلا فصل فالبحث فيه خارج عن غرض الكتاب و إنّما نبحث عن المراد بقوله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في دعائه لعليّ (عليه السلام):( وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) طبقاً لدعاء موسى (عليه السلام) المحكيّ في الكتاب العزيز فإنّ له مساسا بما فهمه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) من لفظ الآية و الحديث صحيح مؤيّد بحديث المنزلة المتواتر(١) .

فمراده (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بالأمر في قوله:( وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) ليس هو النبوّة قطعاً لنصّ حديث المنزلة باستثناء النبوّة، و هو الدليل القاطع على أنّ مراد موسى بالأمر في قوله:( وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) ليس هو النبوّة و إلّا بقي قول النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم):( أَمْرِي )

____________________

(١) نقل البحراني الحديث في غاية المرام بمائة من طرق أهل السنّة و سبعين طريقاً من طرق الشيعة.

١٧٢

بلا معنى يفيده.

و ليس المراد بالأمر هو مطلق الإرشاد و الدعوة إلى الحقّ - كما ذكره - قطعاً لأنّه تكليف يقوم به جميع الاُمّة و يشاركه فيه غيره و حجّة الكتاب و السنّة قائمة فيه كأمثال قوله تعالى:( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي ) يوسف: ١٠٨، و قوله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و قد رواه العامّة و الخاصّة: فليبلّغ الشاهد الغائب، و إذا كان أمراً مشتركاً بين الجميع فلا معنى لسؤال إشراك عليّ فيه.

على أنّ الإضافة في قوله:( أَمْرِي ) تفيد الاختصاص فلا يصدق على ما هو مشترك بين الجميع، و نظير الكلام يجري في قول موسى المحكيّ في الآية.

نعم التبليغ الابتدائيّ و هو تبليغ الوحي لأوّل مرّة أمر يختصّ بالنبيّ فليس له أن يستنيب لتبليغ أصل الوحي رجلاً آخر، فالإشراك فيه إشراك في أمره و في قول موسى ما يشهد بذلك إذ يقول:( وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي ) إذ ليس المراد بتصديقه إيّاه أن يقول: صدق أخي بل أن يوضح ما اُبهم من كلامه و يفصّل ما اُجمل و يبلّغ عنه بعض الوحي الّذي كان عليه أن يبلّغه.

فهذا النوع من التبليغ و ما معه من آثار النبوّة كافتراض الطاعة ممّا يختصّ بالنبيّ و الإشراك فيها إشراك في أمره، فهذا المعنى هو المراد بالأمر في دعائه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و هو المراد أيضاً مضافة إليه النبوّة في دعاء موسى.

و قد تقدّم ما يتعلّق بهذا البحث في تفسير أوّل سورة براءة في حديث بعث النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) عليّاً بآيات أوّل براءة إلى مكّة بعد عزل أبي بكر عنها استناداً إلى ما اُوحي إليه أنّه لا يبلّغها عنك إلّا أنت أو رجل منك، في الجزء التاسع من الكتاب.

و في تفسير القمّيّ، حدّثني أبي عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لمّا حملت به اُمّه لم يظهر حملها إلّا عند وضعها له، و كان فرعون قد وكّل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظنهنّ و ذلك لما كان بلغه عن بني إسرائيل أنّهم يقولون: إنّه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران يكون هلاك فرعون و أصحابه على يده، فقال فرعون عند ذلك: لأقتلنّ

١٧٣

ذكور أولادهم حتّى لا يكون ما يريدون، و فرّق بين الرجال و النساء و حبس الرجال في المحابس.

فلمّا وضعت اُمّ موسى بموسى نظرت إليه و حزنت عليه و اغتمّت و بكت و قالت: يذبح الساعة، فعطف الله الموكّلة بها عليه فقالت لاُمّ موسى: ما لك قد اصفرّ لونك؟ فقالت: أخاف أن يذبح ولدي، فقالت: لا تخافي، و كان موسى لا يراه أحد إلّا أحبّه و هو قول الله:( وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) فأحبّته القبطيّة الموكّلة بها.

و في العلل، بإسناده عن ابن أبي عمير قال: قلت لموسى بن جعفر (عليه السلام): أخبرني عن قول الله عزّوجلّ لموسى:( اذْهَبا إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‏ فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى‏ ) فقال: أمّا قوله:( فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً ) أي كنّياه و قولا له: يا أبا مصعب و كان كنية فرعون أبا مصعب الوليد بن مصعب، أمّا قوله:( لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى‏ ) فإنّما قال ليكون أحرص لموسى على الذهاب و قد علم الله عزّوجلّ أنّ فرعون لا يتذكّر و لا يخشى إلّا عند رؤية البأس، أ لا تسمع الله عزّوجلّ يقول:( حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ؟ فلم يقبل الله إيمانه و قال:( آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) .

أقول: و روى صدر الحديث في الدرّ المنثور، عن ابن أبي حاتم عن عليّ. و تفسير القول الليّن بالتكنية من قبيل ذكر بعض المصاديق لضرورة أنّه لا ينحصر فيه.

و روى ذيل الحديث أيضاً في الكافي، بإسناده عن عديّ بن حاتم عن عليّ (عليه السلام) و فيه تأييد ما قدّمنا أنّ لعلّ مستعملة في الآية للترجّي.

١٧٤

( سورة طه الآيات ٤٩ - ٧٩)

قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ ( ٤٩ ) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ( ٥٠ ) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ ( ٥١ ) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ( ٥٢ ) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ ( ٥٣ ) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ ( ٥٤ ) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ ( ٥٥ ) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ ( ٥٦ ) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ ( ٥٧ ) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى ( ٥٨ ) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ( ٥٩ ) فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ ( ٦٠ ) قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَىٰ ( ٦١ ) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَىٰ ( ٦٢ ) قَالُوا إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ ( ٦٣ ) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ

١٧٥

اسْتَعْلَىٰ ( ٦٤ ) قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ ( ٦٥ ) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ ( ٦٦ ) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ ( ٦٧ ) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ ( ٦٨ ) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ ( ٦٩ ) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ ( ٧٠ ) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ ( ٧١ ) قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( ٧٢ ) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ( ٧٣ ) إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ ( ٧٤ ) وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ ( ٧٥ ) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ ( ٧٦ ) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ ( ٧٧ ) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ( ٧٨ ) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ ( ٧٩ )

١٧٦

( بيان)

فصل آخر من قصّة موسى (عليه السلام) يذكر فيه خبر ذهاب موسى و هارون (عليهما السلام) إلى فرعون و تبليغهما رسالة ربّهما في نجاة بني إسرائيل، و قد فصّل في الآيات خبر ذهابهما إليه و إظهارهما آيات الله و مقابلة السحرة و ظهور الحقّ و إيمان السحرة و اُشير إجمالاً إلى إسراء بني إسرائيل و شقّ البحر و إتباع فرعون لهم بجنوده و غرقهم.

قوله تعالى: ( قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى‏ ) حكاية لمحاورة موسى و فرعون و قد علم ممّا نقله تعالى من أمره تعالى لهما أن يذهبا إلى فرعون و يدعواه إلى التوحيد و يكلّماه في إرسال بني إسرائيل معهما، ما قالا له فهو محذوف و ما نقل من كلام فرعون جواباً دالّ عليه.

و يظهر ممّا نقل من كلام فرعون أنّه علم بتعريفهما أنّهما معا داعيان شريكان في الدعوة غير أنّ موسى هو الأصل في القيام بها و هارون وزيره و لذا خاطب موسى وحده و سأل عن ربّهما معاً. و قد وقع في كلمة الدعوة الّتي اُمرا بأن يكلّماه بها( إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ) إلخ، لفظ( رَبِّكَ ) خطاباً لفرعون مرّتين و هو لا يرى لنفسه ربّاً بل يرى نفسه ربّاً لهما و لغيرهما كما قال في بعض كلامه المنقول منه:( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) النازعات: ٢٤، و قال:( لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ) الشعراء: ٢٩، فقوله:( فَمَنْ رَبُّكُما ) - و كان الحريّ بالمقام أن يقول فمن ربّي الّذي تدّعيانه ربّا لي؟ أو ما يقرب من ذلك - يلوّح إلى أنّه يتغافل عن كونه سبحانه ربّاً له كأنّه لم يسمع قولهما( رَبِّكَ ) و يسأل عن ربّهما الّذي هما رسولان من عنده.

و كان من المسلّم المقطوع عند الاُمم الوثنيّين أنّ خالق الكلّ حقيقة هي أعلى من أن يقدّر بقدر و أعظم من أن يحيط به عقل أو وهم فمن المستحيل أن يتوجّه إليه بعبادة أو يتقرّب إليه بقربان فلا يؤخذ إلهاً و ربّاً بل الواجب التوجّه إلى بعض مقرّبي خلقه بالعبادة و القربان ليقرّب الإنسان من الله زلفى و يشفع له عنده فهؤلاء

١٧٧

هم الآلهة و الأرباب و ليس الله سبحانه بإله و لا ربّ و إنّما هو إله الآلهة و ربّ الأرباب فقول القائل: إنّ لي ربّاً إنّما يعني به أحد الآلهة من دون الله و ليس يعني به الله سبحانه و لا يفهم ذلك من كلامه في محاوراتهم.

فقول فرعون:( فَمَنْ رَبُّكُما ) ليس إنكاراً لوجود خالق الكلّ و لا إنكار أن يكون له إله كما يظهر من قوله:( وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ ) الأعراف: ١٢٧، و إنّما هو طلب منه للمعرفة بحال من اتّخذاه إلهاً و ربّاً من هو غيره؟ و هذا معنى ما تقدّم أنّ فرعون يتغافل في قوله هذا عن دعوتهما إلى الله سبحانه و هما في أوّل الدعوة فهو يقدّر و لو كتقدير المتجاهل أنّ موسى و أخاه يدعوانه إلى بعض الآلهة الّتي يتّخذ فيما بينهم ربّاً من دون الله فيسأل عنه، و قد كان من دأب الوثنيّين التفنّن في اتّخاذ الآلهة يتّخذ كلّ منهم من يهواه إلهاً و ربّما بدّل إلهاً من إله فتلك طريقتهم و سيأتي قول الملإ:( وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) نعم، ربّما تفوّه عامّتهم ببعض ما لا يوافق اُصولهم كنسبة الخلق و التدبير إلى نفس الأصنام دون أربابها.

فمحصّل مذهبهم أنّهم ينزّهون الله تعالى عن العبادة و التقرّب و إنّما يتقرّبون استشفاعاً إليه ببعض خلقه كالملائكة و الجنّ و القدّيسين من البشر، و كان منهم الملوك العظام عند كثير منهم يرونهم مظاهر لعظمة اللّاهوت فيعبدونهم في عرض سائر الآلهة و الأرباب و كان لا يمنع ذلك الملك الربّ أن يتّخذ إلهاً من الآلهة فيعبده فيكون عابداً لربّه معبوداً لغيره من الرعيّة كما كان ربّ البيت يعبد في بيته عند الروم القديم و كان أكثرهم من الوثنيّة الصابئة، فقد كان فرعون موسى ملكاً متألّهاً و هو يعبد الأصنام و هو الظاهر من خلال الآيات الكريمة.

و من هنا يظهر ما في أقوال كثير من المفسّرين في أمره قال في روح المعاني: ذهب بعضهم إلى أنّ فرعون كان عارفاً بالله تعالى إلّا أنّه كان معانداً و استدلّوا عليه بعدّة من الآيات. و بأنّ ملكه لم يتجاوز القبط و لم يبلغ الشام أ لا ترى أنّ موسى (عليه السلام) لمّا هرب إلى مدين قال له شعيب (عليه السلام): لا تخف نجوت من القوم الظالمين فكيف يعتقد أنّه إله العالم؟ و بأنّه كان عاقلاً ضرورة أنّه كان مكلّفاً و كلّ عاقل

١٧٨

يعلم بالضرورة أنّه وجد بعد العدم و من كان كذلك افتقر إلى مدبّر فيكون قائلاً بالمدبّر.

و من الناس من قال: إنّه كان جاهلاً بالله تعالى بعد اتّفاقهم على أنّ العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنّه خالق السماوات و الأرض و ما بينهما و اختلفوا في كيفيّة جهله. فيحتمل أنّه كان دهريّاً نافياً للصانع أصلاً، و لعلّه كان يقول بعدم احتياج الممكن إلى مؤثّر و أنّ وجود العالم اتّفاقيّ كما نقل عن ذي‏مقراطيس و أتباعه.

و يحتمل أنّه كان فلسفيّاً قائلاً بالعلّة الموجبة و يحتمل أنّه كان من عبدة الكواكب و يحتمل أنّه كان من عبدة الأصنام، و يحتمل أنّه كان من الحلوليّة المجسّمة، و أمّا دعاؤه لنفسه بالربوبيّة فبمعنى أنّه يجب على من تحت يده طاعته و الانقياد له و عدم الاشتغال بطاعة غيره. انتهى بنحو من التلخيص.

و أنت بالرجوع إلى حاقّ مذهب القوم تعرف أنّ شيئاً من هذه الأقوال و المحتملات و لا ما استدلّوا عليه لا يوافق واقع الأمر.

قوله تعالى: ( قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) سياق الآية - و هي واقعة في جواب سؤال فرعون:( فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) - يعطي أنّ( خَلْقَهُ ) بمعنى اسم المصدر و الضمير للشي‏ء فالمراد الوجود الخاصّ بالشي‏ء.

و الهداية إراءة الشي‏ء الطريق الموصل إلى مطلوبه أو إيصاله إلى مطلوبه و يعود المعنيان في الحقيقة إلى معنى واحد و هو نوع من إيصال الشي‏ء إلى مطلوبه إمّا بإيصاله إليه نفسه أو إلى طريقه الموصل إليه. و قد اُطلق الهداية من حيث المهديّ و المهديّ إليه، و لم يسبق في الكلام إلّا الشي‏ء الّذي اُعطي خلقه فالظاهر أنّ المراد هداية كلّ شي‏ء - المذكور قبلاً - إلى مطلوبه و مطلوبه هو الغاية الّتي يرتبط بها وجوده و ينتهي إليها و المطلوب هو مطلوبه من جهة خلقه الّذي اُعطيه و معنى هدايته له إليها تسييره نحوها كلّ ذلك بمناسبة البعض للبعض.

فيؤول المعنى إلى إلقائه الرابطة بين كلّ شي‏ء بما جهّز به في وجوده من

١٧٩

القوى و الآلات و بين آثاره الّتي تنتهي به إلى غاية وجوده فالجنين من الإنسان مثلاً و هو نطفة مصوّرة بصورته مجهّز في نفسه بقوى و أعضاء تناسب من الأفعال و الآثار ما ينتهي به إلى الإنسان الكامل في نفسه و بدنه فقد اُعطيت النطفة الإنسانيّة بما لها من الاستعداد خلقها الّذي يخصّها و هو الوجود الخاصّ بالإنسان ثمّ هديت و سيّرت بما جهّزت به من القوى و الأعضاء نحو مطلوبها و هو غاية الوجود الإنسانيّ و الكمال الأخير الّذي يختصّ به هذا النوع.

و من هنا يظهر معنى عطف قوله:( هَدى) على قوله:( أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ) بثمّ و أنّ المراد التأخّر الرتبيّ فإنّ سير الشي‏ء و حركته بعد وجوده رتبة و هذا التأخّر في الموجودات الجسمانيّة تدريجيّ زمانيّ بنحو.

و ظهر أيضاً أنّ المراد بالهداية الهداية العامّة الشاملة لكلّ شي‏ء دون الهداية الخاصّة بالإنسان، و ذلك بتحليل الهداية الخاصّة و تعميمها بإلقاء الخصوصيّات فإنّ حقيقة هداية الإنسان بإراءته الطريق الموصل إلى المطلوب و الطريق رابطة القاصد بمطلوبه فكلّ شي‏ء جهّز بما يربطه بشي‏ء و يحرّكه نحوه فقد هدي إلى ذلك الشي‏ء فكلّ شي‏ء مهديّ نحو كماله بما جهّز به من تجهيز و الله سبحانه هو الهادي.

فنظام الفعل و الانفعال في الأشياء و إن شئت فقل: النظام الجزئيّ الخاصّ بكلّ شي‏ء و النظام العامّ الجامع لجميع الأنظمة الجزئيّة من حيث ارتباط أجزائها و انتقال الأشياء من جزء منها إلى جزء مصداق هدايته تعالى و ذلك بعناية اُخرى مصداق لتدبيره، و معلوم أنّ التدبير ينتهي إلى الخلق بمعنى أنّ الّذي ينتهي و ينتسب إليه تدبير الأشياء هو الّذي أوجد نفس الأشياء فكلّ وجود أو صفة وجود ينتهي إليه و يقوم به.

فقد تبيّن أنّ الكلام أعني قوله:( الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) مشتمل على البرهان على كونه تعالى ربّ كلّ شي‏ء لا ربّ غيره فإنّ خلقه الأشياء و إيجاده لها يستلزم ملكه لوجوداتها - لقيامها به - و ملك تدبير أمرها.

١٨٠