الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  8%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96750 / تحميل: 5840
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

من سابقه لأنّه يفي ببيان النكتة في ذكر الأهل في قوله السابق:( وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي ) أيضاً فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) إجابة لأدعيته جميعاً و هو إنشاء نظير ما مرّ من قوله:( وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) .

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى -‏ إلى قوله -كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ ) يذكّره تعالى بمنّ آخر له عليه قبل أن يختاره للنبوّة و الرسالة و يؤتي سؤله و هو منّه عليه حينما تولّد فقد كان بعض الكهنة أخبر فرعون أن سيولد في بني إسرائيل مولود يكون بيده زوال ملكه فأمر فرعون بقتل كلّ مولود يولد فيهم فكانوا يقتلون المواليد الذكور حتّى إذا ولد موسى أوحى الله إلى اُمّه أن لا تخاف و ترضعه فإذا خافت عليه من عمّال فرعون و جلاوزته تقذفه في تابوت فتقذفه في النيل فيلقيه اليمّ إلى الساحل حيال قصر فرعون فيأخذه فيتّخذه ابنا له و كان لا عقب له و لا يقتله ثمّ إنّ الله سيردّه إليها.

ففعلت كما اُوحي إليها فلمّا جرى التابوت بجريان النيل أرسلت بنتا لها و هي اُخت موسى أن تجسّ أخباره فكانت تطوف حول قصر فرعون حتّى وجدت نفرا يطلبون بأمر فرعون مرضعا ترضع موسى فدلّتهم اُخت موسى على اُمّها فاسترضعوها له فأخذت ولدها و قرّت به عينها و صدق الله وعده و قد عظم منّه على موسى.

فقوله:( وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) امتنان بما صنعه به أوّل عمره و قد تغيّر السياق من التكلّم وحده إلى التكلّم بالغير لأنّ المقام مقام إظهار العظمة و هو ينبئ عن ظهور قدرته التامّة بتخييب سعي فرعون الطاغية و إبطال كيده لإخماد نور الله و ردّ مكره إليه و تربية عدوّه في حجره، و أمّا موقف نداء موسى و تكليمه إذ قال:( يا مُوسى‏ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ) إلخ فسياق التكلّم وحده أنسب له.

و قوله:( إِذْ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّكَ ما يُوحى) المراد به الإلهام و هو نوع من القذف في القلب في يقظة أو نوم، و الوحي في كلامه تعالى لا ينحصر في وحي النبوّة كما قال تعالى:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) النحل: ٦٨، و أمّا وحي النبوّة فالنساء لا يتنبّأن

١٦١

و لا يوحى إليهنّ بذلك قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) يوسف: ١٠٩ و قوله:( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ ) إلى آخر الآية هو مضمون ما اُوحي إلى اُمّ موسى و( أَنِ ) للتفسير، و قيل: مصدريّة متعلّق باُوحي و التقدير اُوحي بأن اقذفيه، و قيل: مصدريّة و الجملة بدل من:( ما يُوحى) .

و التابوت الصندوق و ما يشبهه و القذف الوضع و الإلقاء و كأنّ القذف الأوّل في الآية بالمعنى الأوّل و القذف الثاني بالمعنى الثاني و يمكن أن يكونا معاً بالمعنى الثاني بعناية أنّ وضع الطفل في التابوت و إلقاءه في اليمّ إلقاء و طرح له من غير أن يعبأ بحاله، و اليمّ البحر: و قيل: البحر العذب، و الساحل شاطئ البحر و جانبه من البرّ، و الصنع و الصنيعة الإحسان.

و قوله:( فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ ) أمر عبّر به إشارة إلى تحقّق وقوعه و مفاده أنّا أمرنا اليمّ بذلك أمراً تكوينيّاً فهو واقع حتماً مقضيّاً، و كذا قوله:( يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي ) إلخ و هو جزاء مترتّب على هذا الأمر.

و معنى الآيتين إذ أوحينا و ألهمنا اُمّك بما يوحى و يلهم و هو أن ضعيه - أو ألقيه - في التابوت و هو الصندوق فألقيه في اليمّ و البحر و هو النيل فمن المقضيّ من عندنا أن يلقيه البحر بالساحل و الشاطئ يأخذه عدوّ لي و عدوّ له و هو فرعون لأنّه كان يعادي الله بدعوى الاُلوهيّة و يعادي موسى بقتله الأطفال و كان طفلا هذا ما أوحيناه إلى اُمّك.

و قوله:( وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى‏ عَيْنِي ) ظاهر السياق أنّ هذا الفصل إلى قوله:( وَ لا تَحْزَنَ ) فصل ثان تال للفصل السابق متمّم له و المجموع بيان للمنّ المشار إليه بقوله:( وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى‏ ) .

فالفصل الأوّل يقصّ الوحي إلى اُمّه بقذفه في التابوت ثمّ في البحر لينتهي إلى فرعون فيأخذه عدوّ الله و عدوّه و الفصل الثاني يقصّ إلقاء المحبّة عليه لينصرف فرعون عن قتله و يحسن إليه حتّى ينتهي الأمر إلى رجوعه إلى اُمّه و استقراره في حجرها لتقرّ عينها و لا تحزن و قد وعدها الله ذلك كما قال في سورة القصص:( فَرَدَدْناهُ

١٦٢

إِلى‏ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ) القصص: ١٣، و لازم هذا المعنى كون الجملة أعني قوله:( وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ ) إلخ، معطوفاً على قوله:( أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّكَ ) .

و معنى إلقاء محبّة منه عليه كونه بحيث يحبّه كلّ من يراه كأنّ المحبّة الإلهيّة استقرّت عليه فلا يقع عليه نظر ناظر إلّا تعلّقت المحبّة بقلبه و جذبته إلى موسى، ففي الكلام استعارة تخييليّة و في تنكير المحبّة إشارة إلى فخامتها و غرابة أمرها.

و اللّام في قوله:( وَ لِتُصْنَعَ عَلى‏ عَيْنِي ) للغرض، و الجملة معطوفة على مقدّر و التقدير ألقيت عليك محبّة منّي لاُمور كذا و كذا و ليحسن إليك على عيني أي بمرئى منّي فإنّي معك اُراقب حالك و لا أغفل عنك لمزيد عنايتي بك و شفقتي عليك. و ربّما قيل: إنّ المراد بقوله:( وَ لِتُصْنَعَ عَلى‏ عَيْنِي ) الإحسان إليه بإرجاعه إلى اُمّه و جعل تربيته في حجرها.

و كيف كان فهذا اللسان و هو لسان كمال العناية و الشفقة يناسب سياق التكلّم وحده و لذا عدل إليه من لسان التكلّم بالغير.

و قوله:( إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى‏ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ ) الظرف - على ما يعطيه السياق - متعلّق بقوله:( وَ لِتُصْنَعَ ) و المعنى: و ألقيت عليك محبّة منّي يحبّك كلّ من يراك لكذا و كذا و ليحسن إليك بمرئى منّي و تحت مراقبتي في وقت تمشي اُختك لتجوس خبرك و ترى ما يصنع بك فتجد عمّال فرعون يطلبون مرضعا ترضعك فتقول لهم - و الاستقبال في الفعل لحكاية الحال الماضية - عارضة عليهم: هل أدلّكم على من يكفله بالحضانة و الإرضاع فرددناك إلى اُمّك كي تسرّ و لا تحزن.

و قوله:( فَرَجَعْناكَ ) بصيغة المتكلّم مع الغير رجوع إلى السياق السابق و هو التكلّم بالغير و ليس بالتفات.

قوله تعالى: ( وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ ) إلى آخر الآية، إشارة إلى منّ أو منن اُخرى ملحقة بالمنّين السابقين و هو قصّة قتله (عليه السلام) القبطيّ و ايتمار الملإ أن

١٦٣

يقتلوه و فراره من مصر و تزوّجه هناك ببنت شعيب النبيّ و بقائه عنده بين أهل مدين عشر سنين أجيراً يرعى غنم شعيب، و القصّة مفصّلة مذكورة في سورة القصص.

فقوله:( وَ قَتَلْتَ نَفْساً ) هو قتله القبطيّ بمصر، و قوله:( فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ ) و هو ما كان يخافه أن يقتله الملأ من آل فرعون فأخرجه الله إلى أرض مدين فلمّا أحضره شعيب و ورد عليه و قصّ عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين.

و قوله:( وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً ) أي ابتليناك و اختبرناك ابتلاء و اختباراً، قال الراغب من المفردات: أصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، و استعمل في إدخال الإنسان النار، قال:( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) ( ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ) أي عذابكم، قال: و تارة يسمّون ما يحصل عنه العذاب فتنة فيستعمل فيه نحو قوله:( أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ) و تارة في الاختبار، نحو:( وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً ) و جعلت الفتنة كالبلاء في أنّهما تستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدّة و رخاء و هما في الشدّة أظهر معنى و أكثر استعمالاً و قد قال فيهما:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) انتهى موضع الحاجة من كلامه.

و قوله:( فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ) متفرّع على الفتنة. و قوله:( ثُمَّ جِئْتَ عَلى‏ قَدَرٍ يا مُوسى‏ ) لا يبعد أن يستفاد من السياق أنّ المراد بالقدر هو المقدار و هو ما حصّله من العلم و العمل عن الابتلاءات الواردة عليه في نجاته من الغمّ بالخروج من مصر و لبثه في أهل مدين.

و على هذا فمجموع قوله:( وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ - إلى قوله -يا مُوسى) منّ واحد و هو أنّه ابتلي ابتلاء بعد ابتلاء حتّى جاء على قدر و هو ما اكتسبه من فعليّة الكمال.

و ربّما اُجيب عن الاستشكال في عدّ الفتن من المنّ بأنّ الفتن ههنا بمعنى التخليص كتخليص الذهب بالنار، و ربّما اُجيب بأنّ كونه منّا باعتبار الثواب المترتّب على ذلك، و الوجهان مبنيّان على فصل قوله:( فَلَبِثْتَ ) إلى آخر الآية عمّا قبله و لذا قال بعضهم: إنّ المراد بالفتنة هو ما قاساه موسى من الشدّة بعد

١٦٤

خروجه من مصر إلى أن استقرّ في مدين لمكان فاء التفريع في قوله:( فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ) الدالّ على تأخّر اللبث عن الفتنة زماناً، و فيه أنّ الفاء إنّما تدلّ على التفرّع فحسب و ليس من الواجب أن يكون تفرّعاً زمانيّاً دائماً.

و قال بعضهم: إنّ القدر بمعنى التقدير و المراد ثمّ جئت إلى أرض مصر على ما قدّرنا ثمّ اعترض على أخذ القدر بمعنى المقدار بأنّ المعروف من القدر بهذا المعنى هو ما كان بسكون الدال لا بفتحها و فيه أنّ القدر و القدر بسكون الدال و فتحها - كما صرّحوا به كالنعل و النعل بمعنى واحد. على أنّ القدر بمعنى المقدار كما قدّمناه - أكثر ملاءمة للسياق أو متعيّن. و ذكر لمجيئه على مقدار بعض معان اُخر و هي سخيفة لا جدوى فيها.

و ختم ذكر المنّ بنداء موسى (عليه السلام) زيادة تشريف له.

قوله تعالى: ( وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ) الاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الإحسان - على ما ذكروا - يقال: صنعه أي أحسن إليه و اصطنعه أي حقّق إحسانه إليه و ثبّته فيه، و نقل عن القفّال أنّ معنى الاصطناع أنّه يقال: اصطنع فلان فلانا إذا أحسن إليه حتّى يضاف إليه فيقال: هذا صنيع فلان و خريجه. انتهى.

و على هذا يؤول معنى اصطناعه إيّاه إلى إخلاصه تعالى إيّاه لنفسه و يظهر موقع قوله:( لِنَفْسِي ) أتمّ ظهور و أمّا على المعنى الأوّل فالأنسب بالنظر إلى السياق أن يكون الاصطناع مضمّنا معنى الإخلاص، و المعنى على أيّ حال و جعلتك خالصاً لنفسي فيما عندك من النعم فالجميع منّي و إحساني و لا يشاركني فيك غيري فأنت لي مخلصاً و ينطبق ذلك على قوله:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى‏ إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً ) مريم: ٥١.

و من هنا يظهر أنّ قول بعضهم: المراد بالاصطناع الاختيار، و معنى اختياره لنفسه جعله حجّة بينه و بين خلقه كلامه كلامه و دعوته دعوته و كذا قول بعضهم إنّ المراد بقوله:( لِنَفْسِي ) لوحيي و رسالتي، و قول آخرين: لمحبّتي، كلّ ذلك من قبيل التقييد من غير مقيّد.

و يظهر أيضاً أنّ اصطناعه لنفسه منظوم في سلك المنن المذكورة بل هو أعظم

١٦٥

النعم و من الممكن أن يكون معطوفاً على قوله:( جِئْتَ عَلى‏ قَدَرٍ ) عطف تفسير.

و الاعتراض على هذا المعنى بأنّ توسيط النداء بينه و بين المنن المذكورة لا يلائم كونه منظوماً في سلكها - على ما ذكر الفخر الرازي في تفسيره - فالأولى جعله تمهيداً لإرساله إلى فرعون مع شركة من أخيه في أمره.

و فيه أنّ توسيط النداء لا ينحصر وجهه فيما ذكر فلعلّ الوجه فيه تشريفه بمزيد اللطف و تقريبه من موقف الاُنس ليكون ذلك تمهيداً للالتفات ثانياً من التكلّم بالغير إلى التكلّم وحده بقوله:( وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ) .

قوله تعالى: ( اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي ) تجديد للأمر السابق خطاباً لموسى وحده في قوله:( اذْهَبْ إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) بتغيير مّا فيه بإلحاق أخي موسى به لتغيّر مّا في المقام بإيتاء سؤال موسى أن يشرك هارون في أمره فوجّه الخطاب ثانياً إليهما معاً.

و أمرهما أن يذهباً بآياته و لم يؤت وقتئذ إلّا آيتين وعدٌ جميل بأنّه مؤيّد بغيرهما و سيؤتاه حين لزومه، و أمّا القول بأنّ المراد هما الآيتان و الجمع ربّما يطلق على الاثنين، أو أنّ كلّا من الآيتين ينحلّ إلى آيات كثيرة ممّا لا ينبغي الركون إليه.

و قوله:( وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي ) نهي عن الوني و هو الفتور، و الأنسب للسياق السابق أن يكون المراد بالذكر الدعوة إلى الإيمان به تعالى وحده لا ذكره بمعنى التوجّه إليه قلباً أو لساناً كما قيل.

قوله تعالى: ( اذْهَبا إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‏ فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) جمعهما في الأمر ثانياً فخاطب موسى و هارون معاً و كذلك في النهي الّذي قبله في قوله:( وَ لا تَنِيا ) و قد مهّد لذلك بإلحاق هارون بموسى في قوله:( اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ ) و ليس ببعيد أن يكون نقلاً لمشافهة اُخرى و تخاطب وقع بينه تعالى و بين رسوليه مجتمعين أو متفرّقين بعد ذاك الموقف و يؤيّده سياق قوله بعد:( قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا ) إلخ.

١٦٦

و المراد بقوله:( فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً ) المنع من أن يكلّماه بخشونة و عنف و هو من أوجب آداب الدعوة.

و قوله:( لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) رجاء لتذكّره أو خشيته و هو قائم بمقام المحاورة لا به تعالى العالم بما سيكون، و التذكّر مطاوعة التذكير فيكون قبولاً و التزاماً لما تقتضيه حجّة المذكّر و إيمانه به و الخشية من مقدّمات القبول و الإيمان فمآل المعنى لعلّه يؤمن أو يقرب من ذلك فيجيبكم إلى بعض ما تسألانه.

و استدلّ بعض من يرى قبول إيمان فرعون حين الغرق على إيمانه بالآية استناداً إلى أنّ( لعلّ ) من الله واجب الوقوع كما نسب إلى ابن عبّاس و قدماء المفسّرين فالآية تدلّ على تحتّم وقوع أحد الأمرين التذكّر أو الخشية و هو مدار النجاة.

و فيه أنّه ممنوع و لا تدلّ عسى و لعلّ في كلامه تعالى إلّا على ما يدلّ عليه في كلام غيره و هو الترجّي غير أنّ معنى الترجّي في كلامه لا يقوم به، تعالى عن الجهل و تقدّس و إنّما يقوم بالمقام بمعنى أنّ من وقف هذا الموقف و اطّلع على أطراف الكلام فهم أنّ من المرجوّ أن يقع كذا و كذا و أمّا في كلام غيره فربّما قام الترجّي بنفس المتكلّم و ربّما قام بمقام التخاطب.

و قال الإمام الرازي في تفسيره، إنّه لا يعلم سرّ إرساله تعالى إلى فرعون مع علمه بأنّه لا يؤمن إلّا الله، و لا سبيل في المقام و أمثاله إلى غير التسليم و ترك الاعتراض.

و هو عجيب فإنّه إن كان المراد بسرّ الإرسال وجه صحّة الأمر بالشي‏ء مع العلم باستحالة وقوعه في الخارج فاستحالة وقوع الشي‏ء أو وجوب وقوعه إنّما ذلك حال الفعل بالقياس إلى علّته التامّة الّتي هي الفاعل و سائر العوامل الخارجة عنه في وجوده و الأمر لا يتعلّق بالفعل من حيث حاله بالقياس إلى جميع أجزاء علّته التامّة و إنّما يتعلّق به من جهة حاله بالقياس إلى الفاعل الّذي هو أحد أجزاء علّته التامّة و نسبة الفعل و عدمه إليه بالإمكان دائماً لكونه علّة ناقصة لا تستوجب وجود الفعل و لا عدمه فالإرسال و الدعوة و كذا الأمر صحيح بالنسبة إلى فرعون لكون الإجابة

١٦٧

و الايتمار بالنسبة إليه نفسه اختياريّة ممكنة و إن كانت بالنسبة إليه مع انضمام سائر العوامل المانعة مستحيلة ممتنعة، هذا جواب القائلين بالاختيار، و أمّا المجبّرة - و هو منهم - فالشبهة تسري عندهم إلى جميع موارد التكاليف لعموم الجبر و قد أجابوا عنها على زعمهم بأنّ التكليف صوريّ يترتّب عليه تمام الحجّة و قطع المعذرة.

و إن كان المراد بسرّ الإرسال مع العلم بأنّه لا يؤمن الفائدة المترتّبة عليه بحيث يخرج بها عن اللغويّة فالدعوة الحقّة كما تؤثّر أثرها في قوم بتكميلهم في جانب السعادة كذلك تؤثّر أثرها في آخرين بتكميل شقائهم، قال تعالى:( وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ) الإسراء: ٨٢، و لو اُلغي التكميل في جانب الشقاء لغي الامتحان فيه فلم تتمّ الحجّة فيه، و لا انقطع العذر، و لو لم تتمّ الحجّة في جانب و انتقضت لم تنجع في الجانب الآخر و هو ظاهر.

قوله تعالى: ( قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) الفرط التقدّم و المراد به بقرينة مقابلته الطغيان أن يعجّل بالعقوبة و لا يصبر إلى إتمام الدعوة و إظهار الآية المعجزة، و المراد بأن يطغى أن يتجاوز حدّه في ظلمه فيقابل الدعوة بتشديد عذاب بني إسرائيل و الاجتراء على ساحة القدس بما كان لا يجترئ عليه قبل الدعوة و نسبة الخوف إليهما لا بأس بها كما تقدّم الكلام فيها في تفسير قوله تعالى:( قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ ) .

و استشكل على الآية بأنّ قوله تعالى في موضع آخر لموسى في جواب سؤاله إشراك أخيه في أمره قال:( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما ) القصص: ٣٥، يدلّ على إعطاء الأمن لهما في موقف قبل هذا الموقف لقوله:( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ) فلا معنى لإظهارهما الخوف بعد ذلك.

و اُجيب بأنّ خوفهما قبل كان على أنفسهما بدليل قول موسى هناك.( وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) الشعراء ١٤، و الّذي في هذه الآية خوف منهما على الدعوة كما تقدّم.

١٦٨

على أنّ من الجائز أن يكون هذا الخوف المحكيّ في الآية هو خوف موسى قبل في موقف المناجاة و خوف هارون بعد بلوغ الأمر إليه فالتقطا و جمعا معاً في هذا المورد، و قد تقدّم احتمال أن يكون قوله:( اذْهَبا إِلى‏ فِرْعَوْنَ ) إلى آخر الآيات، حكاية كلامهما في غير موقف واحد.

قوله تعالى: ( قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى‏ ) أي لا تخافا من فرطه و طغيانه إنّني حاضر معكما أسمع ما يقال و أرى ما يفعل فأنصركما و لا أخذلكما فهو تأمين بوعد النصرة، فقوله:( لا تَخافا ) تأمين، و قوله:( إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى) تعليل للتأمين بالحضور و السمع و الرؤية، و هو الدليل على أنّ الجملة كناية عن المراقبة و النصرة و إلّا فنفس الحضور و العلم يعمّ جميع الأشياء و الأحوال.

و قد استدلّ بعضهم بالآية على أنّ السمع و البصر صفتان زائدتان على العلم بناء على أنّ قوله:( إِنَّنِي مَعَكُما ) دالّ على العلم و لو دلّ( أَسْمَعُ وَ أَرى) عليه أيضاً لزم التكرار و هو خلاف الأصل.

و هو من أوهن الاستدلال، أمّا أوّلاً: فلمّا عرفت أنّ مفاد( إِنَّنِي مَعَكُما ) هو الحضور و الشهادة و هو غير العلم.

و أمّا ثانياً: فلقيام البراهين اليقينيّة على عينيّة الصفات الذاتيّة و هي الحياة و القدرة و العلم و السمع و البصر بعضها لبعض و المجموع للذات، و لا ينعقد مع اليقين ظهور لفظيّ ظنيّ مخالف البتّة.

و أمّا ثالثاً: فلأنّ المسألة من اُصول المعارف لا يركن فيها إلى غير العلم، فتتميم الدليل بمثل أصالة عدم التكرار كما ترى.

قوله تعالى: ( فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ) إلى آخر الآية، جدّد أمرهما بالذهاب إلى فرعون بعد تأمينهما و وعدهما بالحفظ و النصر و بيّن تمام ما يكلّفان به من الرسالة و هو أن يدعوا فرعون إلى الإيمان و إلى رفع اليد عن تعذيب بني إسرائيل و إرسالهم معهما فكلّما تحوّل حال في المحاورة جدّد الأمر حسب ما يناسبه و هو قوله أوّلاً لموسى:( اذْهَبْ إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) ، ثمّ قوله ثانياً لمّا ذكر

١٦٩

أسؤلته و اُجيب إليها:( اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ ) ( اذْهَبا إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) ، ثمّ قوله لمّا ذكراً خوفهما و اُجيباً بالأمن:( فَأْتِياهُ فَقُولا ) إلخ، و فيه تفصيل ما عليهما أن يقولا له.

فقوله:( فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ) تبليغ أنّهما رسولا الله، و في قوله بعد:( وَ السَّلامُ عَلى‏ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) إلخ، دعوته إلى بقية أجزاء الإيمان.

و قوله:( فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ ) تكليف فرعيّ متوجّه إلى فرعون.

و قوله:( قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ) استناد إلى حجّة تثبت رسالتهما و في تنكير الآية سكوت عن العدد و إشارة إلى فخامة أمرها و كبر شأنها و وضوح دلالتها.

و قوله:( وَ السَّلامُ عَلى‏ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) كالتحيّة للوداع يشار به إلى تمام الرسالة و يبيّن به خلاصة ما تتضمّنه الدعوة الدينيّة و هو أنّ السلامة منبسط على من اتّبع الهدى و السعادة لمن اهتدى فلا يصادف في مسير حياته مكروها يكرهه لا في دنيا و لا في عقبى.

و قوله:( إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى‏ مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ) في مقام التعليل لسابقه أي إنّما نسلّم على المهتدين فحسب لأنّ الله سبحانه أوحي إلينا أنّ العذاب و هو خلاف السلام على من كذّب بآيات الله - أو بالدعوة الحقّة الّتي هي الهدى - و تولّى و أعرض عنها.

و في سياق الآيتين من الاستهانة بأمر فرعون و بما تزيّن به من زخارف الدنيا و تظاهر به من الكبر و الخيلاء ما لا يخفى، فقد قيل:( فَأْتِياهُ ) و لم يقل: اذهبا إليه و إتيان الشي‏ء أقرب مساسا به من الذهاب إليه و لم يكن إتيان فرعون و هو ملك مصر و إله القبط بذاك السهل الميسور، و قيل:( فَقُولا ) و لم يقل: فقولا له كأنّه لا يعتني به، و قيل:( إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ) و( بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ) فقرع سمعه مرّتين بأنّ له ربّا و هو الّذي كان ينادي بقوله:( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ، و قيل:( وَ السَّلامُ عَلى‏ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) و لم يورد بالخطاب إليه، و نظيره قوله:( أَنَّ الْعَذابَ عَلى‏ مَنْ كَذَّبَ

١٧٠

وَ تَوَلَّى ) من غير خطاب.

و هذا كلّه هو الأنسب تجاه ما يلوح من لحن قوله تعالى:( لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى) من كمال الإحاطة و العزّة و القدرة الّتي لا يقوم لها شي‏ء.

و ليس مع ذلك فيما اُمرا أن يخاطباه به من قولهما:( إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ) إلى آخر الآيتين خشونة في الكلام و خروج عن لين القول الّذي اُمرا به أوّلاً فإنّ ذلك حقّ القول الّذي لا مناص من قرعه سمع فرعون من غير تملّق و لا احتشام و تأثّر من ظاهر سلطانه الباطل و عزّته الكاذبة.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله:( آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ ) يقول: آتيكم بقبس من النار تصطلون من البرد( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً ) كان قد أخطأ الطريق يقول: أو أجد على النار طريقا.

و في الفقيه سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ:( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ) قال: كانتا من جلد حمار ميّت.

أقول: و رواه أيضاً في تفسير القمّيّ، مرسلاً و مضمراً، و روى هذا المعنى في الدرّ المنثور، عن عبدالرزّاق و الفاريابي و عبد بن حميد و ابن أبي حاتم عن عليّ. و قد ردّ ذلك في بعض الروايات، و سياق الآية يعطي أنّ الخلع لاحترام الموقف.

و في المجمع في قوله تعالى:( أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) قيل: معناه أقم الصلاة متى ذكرت أنّ عليك صلاة كنت في وقتها أم لم تكن. عن أكثر المفسّرين، و هو المرويّ عن أبي جعفر (عليه السلام)، و يعضده‏ ما رواه أنس عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: من نسي صلاة فليصلّها إذا ذكرها لا كفّارة لها غير ذلك، رواه مسلم في الصحيح.

أقول: و الحديث مرويّ بطرق اُخرى مسندة و غير مسندة عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) من طرق أهل السنّة و عن الصادقين (عليهما السلام) من طرق الشيعة.

و في المجمع في قوله تعالى:( أَكادُ أُخْفِيها ) روي عن ابن عبّاس( أَكادُ أُخْفِيها

١٧١

عن نفسي ) و هي كذلك في قراءة اُبيّ و روي ذلك عن الصادق (عليه السلام).

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و الخطيب و ابن عساكر عن أسماء بنت عميس قالت: رأيت رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بإزاء ثبير و هو يقول: أشرق ثبير أشرق ثبير اللّهمّ إنّي أسألك بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري، و أن تيسّر لي أمري و أن تحلّ عقدة من لساني يفقهوا قولي، و اجعل لي وزيراً من أهلي عليّا أخي اشدد به أزرى و أشركه في أمري كي نسبّحك كثيراً و نذكرك كثيراً إنّك كنت بنا بصيرا.

أقول: و روي قريباً من هذا المعنى عن السلفيّ عن الباقر (عليه السلام) و روي أيضاً في المجمع، عن ابن عبّاس عن أبي ذرّ عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قريباً منه.

و قال في روح المعاني، بعد إيراد الحديث المذكور ما لفظه: و لا يخفى أنّه يتعيّن هنا حمل الأمر على أمر الإرشاد و الدعوة إلى الحقّ و لا يجوز حمله على النبوّة و لا يصحّ الاستدلال به على خلافة عليّ كرّم الله وجهه بعد النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بلا فصل.

و مثله: فيما ذكر ما صحّ من قوله (عليه السلام) له حين استخلفه في غزوة تبوك على أهل بيته( أ ما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي) انتهى.

قلت: أمّا الاستدلال بالحديث أو بحديث المنزلة على خلافته (عليه السلام) بلا فصل فالبحث فيه خارج عن غرض الكتاب و إنّما نبحث عن المراد بقوله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في دعائه لعليّ (عليه السلام):( وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) طبقاً لدعاء موسى (عليه السلام) المحكيّ في الكتاب العزيز فإنّ له مساسا بما فهمه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) من لفظ الآية و الحديث صحيح مؤيّد بحديث المنزلة المتواتر(١) .

فمراده (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بالأمر في قوله:( وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) ليس هو النبوّة قطعاً لنصّ حديث المنزلة باستثناء النبوّة، و هو الدليل القاطع على أنّ مراد موسى بالأمر في قوله:( وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) ليس هو النبوّة و إلّا بقي قول النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم):( أَمْرِي )

____________________

(١) نقل البحراني الحديث في غاية المرام بمائة من طرق أهل السنّة و سبعين طريقاً من طرق الشيعة.

١٧٢

بلا معنى يفيده.

و ليس المراد بالأمر هو مطلق الإرشاد و الدعوة إلى الحقّ - كما ذكره - قطعاً لأنّه تكليف يقوم به جميع الاُمّة و يشاركه فيه غيره و حجّة الكتاب و السنّة قائمة فيه كأمثال قوله تعالى:( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي ) يوسف: ١٠٨، و قوله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و قد رواه العامّة و الخاصّة: فليبلّغ الشاهد الغائب، و إذا كان أمراً مشتركاً بين الجميع فلا معنى لسؤال إشراك عليّ فيه.

على أنّ الإضافة في قوله:( أَمْرِي ) تفيد الاختصاص فلا يصدق على ما هو مشترك بين الجميع، و نظير الكلام يجري في قول موسى المحكيّ في الآية.

نعم التبليغ الابتدائيّ و هو تبليغ الوحي لأوّل مرّة أمر يختصّ بالنبيّ فليس له أن يستنيب لتبليغ أصل الوحي رجلاً آخر، فالإشراك فيه إشراك في أمره و في قول موسى ما يشهد بذلك إذ يقول:( وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي ) إذ ليس المراد بتصديقه إيّاه أن يقول: صدق أخي بل أن يوضح ما اُبهم من كلامه و يفصّل ما اُجمل و يبلّغ عنه بعض الوحي الّذي كان عليه أن يبلّغه.

فهذا النوع من التبليغ و ما معه من آثار النبوّة كافتراض الطاعة ممّا يختصّ بالنبيّ و الإشراك فيها إشراك في أمره، فهذا المعنى هو المراد بالأمر في دعائه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و هو المراد أيضاً مضافة إليه النبوّة في دعاء موسى.

و قد تقدّم ما يتعلّق بهذا البحث في تفسير أوّل سورة براءة في حديث بعث النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) عليّاً بآيات أوّل براءة إلى مكّة بعد عزل أبي بكر عنها استناداً إلى ما اُوحي إليه أنّه لا يبلّغها عنك إلّا أنت أو رجل منك، في الجزء التاسع من الكتاب.

و في تفسير القمّيّ، حدّثني أبي عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لمّا حملت به اُمّه لم يظهر حملها إلّا عند وضعها له، و كان فرعون قد وكّل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظنهنّ و ذلك لما كان بلغه عن بني إسرائيل أنّهم يقولون: إنّه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران يكون هلاك فرعون و أصحابه على يده، فقال فرعون عند ذلك: لأقتلنّ

١٧٣

ذكور أولادهم حتّى لا يكون ما يريدون، و فرّق بين الرجال و النساء و حبس الرجال في المحابس.

فلمّا وضعت اُمّ موسى بموسى نظرت إليه و حزنت عليه و اغتمّت و بكت و قالت: يذبح الساعة، فعطف الله الموكّلة بها عليه فقالت لاُمّ موسى: ما لك قد اصفرّ لونك؟ فقالت: أخاف أن يذبح ولدي، فقالت: لا تخافي، و كان موسى لا يراه أحد إلّا أحبّه و هو قول الله:( وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) فأحبّته القبطيّة الموكّلة بها.

و في العلل، بإسناده عن ابن أبي عمير قال: قلت لموسى بن جعفر (عليه السلام): أخبرني عن قول الله عزّوجلّ لموسى:( اذْهَبا إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‏ فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى‏ ) فقال: أمّا قوله:( فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً ) أي كنّياه و قولا له: يا أبا مصعب و كان كنية فرعون أبا مصعب الوليد بن مصعب، أمّا قوله:( لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى‏ ) فإنّما قال ليكون أحرص لموسى على الذهاب و قد علم الله عزّوجلّ أنّ فرعون لا يتذكّر و لا يخشى إلّا عند رؤية البأس، أ لا تسمع الله عزّوجلّ يقول:( حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ؟ فلم يقبل الله إيمانه و قال:( آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) .

أقول: و روى صدر الحديث في الدرّ المنثور، عن ابن أبي حاتم عن عليّ. و تفسير القول الليّن بالتكنية من قبيل ذكر بعض المصاديق لضرورة أنّه لا ينحصر فيه.

و روى ذيل الحديث أيضاً في الكافي، بإسناده عن عديّ بن حاتم عن عليّ (عليه السلام) و فيه تأييد ما قدّمنا أنّ لعلّ مستعملة في الآية للترجّي.

١٧٤

( سورة طه الآيات ٤٩ - ٧٩)

قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ ( ٤٩ ) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ( ٥٠ ) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ ( ٥١ ) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ( ٥٢ ) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ ( ٥٣ ) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ ( ٥٤ ) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ ( ٥٥ ) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ ( ٥٦ ) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ ( ٥٧ ) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى ( ٥٨ ) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ( ٥٩ ) فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ ( ٦٠ ) قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَىٰ ( ٦١ ) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَىٰ ( ٦٢ ) قَالُوا إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ ( ٦٣ ) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ

١٧٥

اسْتَعْلَىٰ ( ٦٤ ) قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ ( ٦٥ ) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ ( ٦٦ ) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ ( ٦٧ ) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ ( ٦٨ ) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ ( ٦٩ ) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ ( ٧٠ ) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ ( ٧١ ) قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( ٧٢ ) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ( ٧٣ ) إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ ( ٧٤ ) وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ ( ٧٥ ) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ ( ٧٦ ) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ ( ٧٧ ) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ( ٧٨ ) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ ( ٧٩ )

١٧٦

( بيان)

فصل آخر من قصّة موسى (عليه السلام) يذكر فيه خبر ذهاب موسى و هارون (عليهما السلام) إلى فرعون و تبليغهما رسالة ربّهما في نجاة بني إسرائيل، و قد فصّل في الآيات خبر ذهابهما إليه و إظهارهما آيات الله و مقابلة السحرة و ظهور الحقّ و إيمان السحرة و اُشير إجمالاً إلى إسراء بني إسرائيل و شقّ البحر و إتباع فرعون لهم بجنوده و غرقهم.

قوله تعالى: ( قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى‏ ) حكاية لمحاورة موسى و فرعون و قد علم ممّا نقله تعالى من أمره تعالى لهما أن يذهبا إلى فرعون و يدعواه إلى التوحيد و يكلّماه في إرسال بني إسرائيل معهما، ما قالا له فهو محذوف و ما نقل من كلام فرعون جواباً دالّ عليه.

و يظهر ممّا نقل من كلام فرعون أنّه علم بتعريفهما أنّهما معا داعيان شريكان في الدعوة غير أنّ موسى هو الأصل في القيام بها و هارون وزيره و لذا خاطب موسى وحده و سأل عن ربّهما معاً. و قد وقع في كلمة الدعوة الّتي اُمرا بأن يكلّماه بها( إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ) إلخ، لفظ( رَبِّكَ ) خطاباً لفرعون مرّتين و هو لا يرى لنفسه ربّاً بل يرى نفسه ربّاً لهما و لغيرهما كما قال في بعض كلامه المنقول منه:( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) النازعات: ٢٤، و قال:( لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ) الشعراء: ٢٩، فقوله:( فَمَنْ رَبُّكُما ) - و كان الحريّ بالمقام أن يقول فمن ربّي الّذي تدّعيانه ربّا لي؟ أو ما يقرب من ذلك - يلوّح إلى أنّه يتغافل عن كونه سبحانه ربّاً له كأنّه لم يسمع قولهما( رَبِّكَ ) و يسأل عن ربّهما الّذي هما رسولان من عنده.

و كان من المسلّم المقطوع عند الاُمم الوثنيّين أنّ خالق الكلّ حقيقة هي أعلى من أن يقدّر بقدر و أعظم من أن يحيط به عقل أو وهم فمن المستحيل أن يتوجّه إليه بعبادة أو يتقرّب إليه بقربان فلا يؤخذ إلهاً و ربّاً بل الواجب التوجّه إلى بعض مقرّبي خلقه بالعبادة و القربان ليقرّب الإنسان من الله زلفى و يشفع له عنده فهؤلاء

١٧٧

هم الآلهة و الأرباب و ليس الله سبحانه بإله و لا ربّ و إنّما هو إله الآلهة و ربّ الأرباب فقول القائل: إنّ لي ربّاً إنّما يعني به أحد الآلهة من دون الله و ليس يعني به الله سبحانه و لا يفهم ذلك من كلامه في محاوراتهم.

فقول فرعون:( فَمَنْ رَبُّكُما ) ليس إنكاراً لوجود خالق الكلّ و لا إنكار أن يكون له إله كما يظهر من قوله:( وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ ) الأعراف: ١٢٧، و إنّما هو طلب منه للمعرفة بحال من اتّخذاه إلهاً و ربّاً من هو غيره؟ و هذا معنى ما تقدّم أنّ فرعون يتغافل في قوله هذا عن دعوتهما إلى الله سبحانه و هما في أوّل الدعوة فهو يقدّر و لو كتقدير المتجاهل أنّ موسى و أخاه يدعوانه إلى بعض الآلهة الّتي يتّخذ فيما بينهم ربّاً من دون الله فيسأل عنه، و قد كان من دأب الوثنيّين التفنّن في اتّخاذ الآلهة يتّخذ كلّ منهم من يهواه إلهاً و ربّما بدّل إلهاً من إله فتلك طريقتهم و سيأتي قول الملإ:( وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) نعم، ربّما تفوّه عامّتهم ببعض ما لا يوافق اُصولهم كنسبة الخلق و التدبير إلى نفس الأصنام دون أربابها.

فمحصّل مذهبهم أنّهم ينزّهون الله تعالى عن العبادة و التقرّب و إنّما يتقرّبون استشفاعاً إليه ببعض خلقه كالملائكة و الجنّ و القدّيسين من البشر، و كان منهم الملوك العظام عند كثير منهم يرونهم مظاهر لعظمة اللّاهوت فيعبدونهم في عرض سائر الآلهة و الأرباب و كان لا يمنع ذلك الملك الربّ أن يتّخذ إلهاً من الآلهة فيعبده فيكون عابداً لربّه معبوداً لغيره من الرعيّة كما كان ربّ البيت يعبد في بيته عند الروم القديم و كان أكثرهم من الوثنيّة الصابئة، فقد كان فرعون موسى ملكاً متألّهاً و هو يعبد الأصنام و هو الظاهر من خلال الآيات الكريمة.

و من هنا يظهر ما في أقوال كثير من المفسّرين في أمره قال في روح المعاني: ذهب بعضهم إلى أنّ فرعون كان عارفاً بالله تعالى إلّا أنّه كان معانداً و استدلّوا عليه بعدّة من الآيات. و بأنّ ملكه لم يتجاوز القبط و لم يبلغ الشام أ لا ترى أنّ موسى (عليه السلام) لمّا هرب إلى مدين قال له شعيب (عليه السلام): لا تخف نجوت من القوم الظالمين فكيف يعتقد أنّه إله العالم؟ و بأنّه كان عاقلاً ضرورة أنّه كان مكلّفاً و كلّ عاقل

١٧٨

يعلم بالضرورة أنّه وجد بعد العدم و من كان كذلك افتقر إلى مدبّر فيكون قائلاً بالمدبّر.

و من الناس من قال: إنّه كان جاهلاً بالله تعالى بعد اتّفاقهم على أنّ العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنّه خالق السماوات و الأرض و ما بينهما و اختلفوا في كيفيّة جهله. فيحتمل أنّه كان دهريّاً نافياً للصانع أصلاً، و لعلّه كان يقول بعدم احتياج الممكن إلى مؤثّر و أنّ وجود العالم اتّفاقيّ كما نقل عن ذي‏مقراطيس و أتباعه.

و يحتمل أنّه كان فلسفيّاً قائلاً بالعلّة الموجبة و يحتمل أنّه كان من عبدة الكواكب و يحتمل أنّه كان من عبدة الأصنام، و يحتمل أنّه كان من الحلوليّة المجسّمة، و أمّا دعاؤه لنفسه بالربوبيّة فبمعنى أنّه يجب على من تحت يده طاعته و الانقياد له و عدم الاشتغال بطاعة غيره. انتهى بنحو من التلخيص.

و أنت بالرجوع إلى حاقّ مذهب القوم تعرف أنّ شيئاً من هذه الأقوال و المحتملات و لا ما استدلّوا عليه لا يوافق واقع الأمر.

قوله تعالى: ( قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) سياق الآية - و هي واقعة في جواب سؤال فرعون:( فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) - يعطي أنّ( خَلْقَهُ ) بمعنى اسم المصدر و الضمير للشي‏ء فالمراد الوجود الخاصّ بالشي‏ء.

و الهداية إراءة الشي‏ء الطريق الموصل إلى مطلوبه أو إيصاله إلى مطلوبه و يعود المعنيان في الحقيقة إلى معنى واحد و هو نوع من إيصال الشي‏ء إلى مطلوبه إمّا بإيصاله إليه نفسه أو إلى طريقه الموصل إليه. و قد اُطلق الهداية من حيث المهديّ و المهديّ إليه، و لم يسبق في الكلام إلّا الشي‏ء الّذي اُعطي خلقه فالظاهر أنّ المراد هداية كلّ شي‏ء - المذكور قبلاً - إلى مطلوبه و مطلوبه هو الغاية الّتي يرتبط بها وجوده و ينتهي إليها و المطلوب هو مطلوبه من جهة خلقه الّذي اُعطيه و معنى هدايته له إليها تسييره نحوها كلّ ذلك بمناسبة البعض للبعض.

فيؤول المعنى إلى إلقائه الرابطة بين كلّ شي‏ء بما جهّز به في وجوده من

١٧٩

القوى و الآلات و بين آثاره الّتي تنتهي به إلى غاية وجوده فالجنين من الإنسان مثلاً و هو نطفة مصوّرة بصورته مجهّز في نفسه بقوى و أعضاء تناسب من الأفعال و الآثار ما ينتهي به إلى الإنسان الكامل في نفسه و بدنه فقد اُعطيت النطفة الإنسانيّة بما لها من الاستعداد خلقها الّذي يخصّها و هو الوجود الخاصّ بالإنسان ثمّ هديت و سيّرت بما جهّزت به من القوى و الأعضاء نحو مطلوبها و هو غاية الوجود الإنسانيّ و الكمال الأخير الّذي يختصّ به هذا النوع.

و من هنا يظهر معنى عطف قوله:( هَدى) على قوله:( أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ) بثمّ و أنّ المراد التأخّر الرتبيّ فإنّ سير الشي‏ء و حركته بعد وجوده رتبة و هذا التأخّر في الموجودات الجسمانيّة تدريجيّ زمانيّ بنحو.

و ظهر أيضاً أنّ المراد بالهداية الهداية العامّة الشاملة لكلّ شي‏ء دون الهداية الخاصّة بالإنسان، و ذلك بتحليل الهداية الخاصّة و تعميمها بإلقاء الخصوصيّات فإنّ حقيقة هداية الإنسان بإراءته الطريق الموصل إلى المطلوب و الطريق رابطة القاصد بمطلوبه فكلّ شي‏ء جهّز بما يربطه بشي‏ء و يحرّكه نحوه فقد هدي إلى ذلك الشي‏ء فكلّ شي‏ء مهديّ نحو كماله بما جهّز به من تجهيز و الله سبحانه هو الهادي.

فنظام الفعل و الانفعال في الأشياء و إن شئت فقل: النظام الجزئيّ الخاصّ بكلّ شي‏ء و النظام العامّ الجامع لجميع الأنظمة الجزئيّة من حيث ارتباط أجزائها و انتقال الأشياء من جزء منها إلى جزء مصداق هدايته تعالى و ذلك بعناية اُخرى مصداق لتدبيره، و معلوم أنّ التدبير ينتهي إلى الخلق بمعنى أنّ الّذي ينتهي و ينتسب إليه تدبير الأشياء هو الّذي أوجد نفس الأشياء فكلّ وجود أو صفة وجود ينتهي إليه و يقوم به.

فقد تبيّن أنّ الكلام أعني قوله:( الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) مشتمل على البرهان على كونه تعالى ربّ كلّ شي‏ء لا ربّ غيره فإنّ خلقه الأشياء و إيجاده لها يستلزم ملكه لوجوداتها - لقيامها به - و ملك تدبير أمرها.

١٨٠

و عند هذا يظهر أنّ الكلام على نظمه الطبيعيّ و السياق جار على مقتضى المقام فإنّ المقام مقام الدعوة إلى التوحيد و طاعة الرسول و قد أتى فرعون بعد استماع كلمة الدعوة بما حاصله التغافل عن كونه تعالى ربّاً له، و حمل كلامهما على دعوتهما له إلى ربّهما فسأل: من ربّكما؟ فكان من الحريّ أن يجاب بأنّ ربّنا هو ربّ العالمين ليشملهما و إيّاه و غيرهم جميعاً فاُجيب بما هو أبلغ من ذلك فقيل:( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) فاُجيب بأنّه ربّ كلّ شي‏ء و اُفيد مع ذلك البرهان على هذا المدّعى، و لو قيل: ربّنا ربّ العالمين أفاد المدّعى فحسب دون البرهان، فافهم ذلك.

و إنّما اُثبت في الكلام الهداية دون التدبير مع كون موردهما متّحداً كما تقدّمت الإشارة إليه لأنّ المقام مقام الدعوة و الهداية و الهداية، العامّة أشدّ مناسبة له.

هذا هو الّذي يرشد إليه التدبّر في الآية الكريمة، و بذلك يعلم حال سائر التفاسير الّتي اُوردت للآية:

كقول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( خَلْقَهُ ) مثل خلقه و هو الزوج الّذي يماثل الشي‏ء، و المعنى: الّذي خلق لكلّ شي‏ء زوجاً، فيكون في معنى قوله:( وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ) .

و قول بعضهم: إنّ المراد بكلّ شي‏ء أنواع النعم و هو مفعول ثان لأعطى و بالخلق المخلوق و هو مفعول أوّل لأعطى، و المعنى: الّذي أعطى مخلوقاته كلّ شي‏ء من النعم.

و قول بعضهم: إنّ المراد بالهداية الإرشاد و الدلالة على وجوده تعالى و وحدته بلا شريك، و المعنى: الّذي أعطى كلّ شي‏ء من الوجود ما يطلبه بلسان استعداده ثمّ أرشد و دلّ بذلك على وجود نفسه و وحدته.

و التأمّل فيما مرّ يكفيك للتنبّه على فساد هذه الوجوه فإنّما هي معان بعيدة عن السياق و تقييدات للفظ الآية من غير مقيّد.

١٨١

قوله تعالى: ( قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) قيل: البال في الأصل بمعنى الفكر و منه قولهم: خطر ببالي كذا، ثمّ استعمل بمعنى الحال، و لا يثنّى و لا يجمع، و قولهم: بآلات، شاذّ.

لمّا كان جواب موسى (عليه السلام) مشتملاً على معنى الهداية العامّة الّتي لا تتمّ في الإنسان إلّا بنبوّة و معاد إذ لا يستقيم دين التوحيد إلّا بحساب و جزاء يتميّز به المحسن من المسي‏ء و لا يتمّ ذلك إلّا بتمييز ما يأمر تعالى به ممّا ينهى عنه و ما يرتضيه ممّا يسخطه، على أنّ كلمة الدعوة الّتي اُمرا أن يؤدّياها إلى فرعون مشتملة على الجزاء صريحاً ففي آخرها:( إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى‏ مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ) و الوثنيّون منكرون لذلك عدل فرعون عن الكلام في الربوبيّة - و قد انقطع بما أجاب به موسى - إلى أمر المعاد و السؤال عنه بانياً على الاستبعاد.

فقوله:( فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى‏ ) أي ما حال الاُمم و الأجيال الإنسانيّة الماضية الّتي ماتوا و فنوا لا خبر عنهم و لا أثر كيف يجزون بأعمالهم و لا عامل في الوجود و لا عمل و ليسوا اليوم إلّا أحاديث و أساطير؟ فالآية نظيرة ما نقل عن المشركين في قوله:( وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) الم السجدة: ١٠، و ظاهر الكلام أنّه مبنيّ على الاستبعاد من جهة انتفاء العلم بهم و بأعمالهم للموت و الفوت كما يشهد به جواب موسى (عليه السلام).

قوله تعالى: ( قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى) أجاب (عليه السلام) عن سؤاله بإثبات علمه تعالى المطلق بتفاصيل تلك القرون الخالية فقال:( عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) فأطلق العلم بها فلا يفوته شي‏ء من أشخاصهم و أعمالهم و جعلها عندالله فلا تغيب عنه و لا تفوته، و قد قال تعالى:( وَ ما عِنْدَ اللهِ باقٍ ) ثمّ قيّد ذلك بقوله:( فِي كِتابٍ ) - و كأنّه حال من العلم - ليؤكّد به أنّه مثبت محفوظ من غير أن يتغيّر عن حاله و قد نكّر الكتاب ليدلّ به على فخامة أمره من جهة سعة إحاطته و دقّتها فلا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلّا أحصاها.

فيؤول معنى الكلام إلى أنّ جزاء القرون الاُولى إنّما يشكل لو جهل و لم

١٨٢

يعلم بها لكنّها معلومة لربّي محفوظة عنده في كتاب لا يتطرّق إليه خطأ و لا تغيير و لا غيبة و زوال.

و قوله:( لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى) نفي للجهل الابتدائيّ و الجهل بعد العلم على ما نقل عن بعضهم و لكنّ الظاهر أنّ الجملة مسوقة لنفي الجهل بعد العلم بقسميه فإنّ الضلال هو قصد الغاية بسلوك سبيل لا يؤدّي إليها بل إلى غيرها فيكون الضلال في العلم هو أخذ الشي‏ء مكان غيره و إنّما يتحقّق ذلك بتغيّر المعلوم من حيث هو معلوم عمّا كانت عليه في العلم أوّلاً، و النسيان خروج الشي‏ء من العلم بعد دخوله فيه فهما معاً من الجهل بعد العلم، و نفيه هو المناسب لإثبات العلم أوّلاً فيفيد مجموع الآية أنّه عالم بالقرون الاُولى و لا سبيل إليه للجهل بعد العلم فيجازيهم على ما علم.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى) من تمام بيان الآية كأنّه دفع دخل مقدّر كأنّما قيل: إنّها و إن علم بها يوماً فهي اليوم باطلة الذوات معفوّة الآثار لا يتميّز شي‏ء منها من شي‏ء فاُجيب بأنّ شيئاً منها و من آثارها و أعمالها لا يختلط عليه تعالى بتغيّر ضلال و لا يغيب عنه بنسيان، و لذا اُوردت الجملة مفصولة غير معطوفة.

و قد أثبت العلم و نفى الجهل عنه تعالى بعنوان أنّه ربّ لتكون فيه إشارة إلى برهان المدّعى و ذلك أنّ فرض الربوبيّة لا يجامع فرض الجهل بالمربوب إذ فرض ربوبيّته المطلقة لكلّ شي‏ء و الربّ هو المالك للشي‏ء المدبّر لأمره - يستلزم كون الأشياء مملوكة له قائمة الوجود به من كلّ جهة و كونها مدبّرة له كيفما فرضت فهي معلومة له، و لو فرض شي‏ء منها مجهولاً له عن ضلال أو نسيان أو جهل ابتدائيّ فذلك الشي‏ء أيّا مّا كان و أينما تحقّق مملوك له قائم الوجود به مدبّر بتدبيره لا حاجب بينهما و لا فاصل و هو الحضور الّذي نسميه علماً و قد فرضناه مجهولا أي غائباً عنه هذا خلف.

و قد أضاف الربّ إلى نفسه في الآية في موضعين ثانيهما من وضع الظاهر موضع المضمر على ما قيل و لم يقل:( رَبُّنَا ) كما في الآية السابقة لأنّ السؤال السابق

١٨٣

إنّما كان عن ربّهما الّذي يدعوان إليه فاُجيب بما يطابقه فكان معناه بحسب المقام: الربّ الّذي أدعو أنا و أخي إليه هو كذا و كذا، و أمّا في هذه الآية فقد سئل عن أمر يرجع إلى القرون الاُولى و الّذي يصفه هو موسى فكان المعنى الربّ الّذي أصفه عليم بها، و الّذي يفيد هذا المعنى هو( رَبِّي ) لا غير فتأمّل فيه فهو لطيف.

و النكتة في( رَبِّي ) الثاني هي نظيرة ما في( رَبِّي ) الأوّل و في كونه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر تأمّل لفصل الجملة.

و قد اختلفت أقوال المفسّرين في تفسير الآيتين بالوجوه و الاحتمالات اختلافاً كثيراً أضربنا عن ذكرها لعدم جدوى فيها و من أعجبها قول كثير منهم أنّ قول فرعون لموسى:( فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) سؤال عن تاريخ الاُمم الاُولى المنقرضة سأل موسى عن ذلك ليصرفه عمّا هو فيه من التكلّم في اُصول المعارف الإلهيّة و إقامة البرهان على صريح الحقّ في مسائل المبدأ و المعاد ممّا ينكره الوثنيّة و يشغله بما لا فائدة فيه من تواريخ الأوّلين و أخبار الماضين، و جواب موسى:( عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) إلخ، محصّله إرجاع العلم بها إلى الله و أنّه من الغيب الّذي لا يعلمه إلّا علّام الغيوب.

قوله تعالى: ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً - إلى قوله -لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) قد عرفت أنّ لسؤاله( فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى ‏؟) ارتباطاً بما وصف الله به من الهداية العامّة الّتي منها هداية الإنسان إلى سعادته في الحياة و هي الحياة الخالدة الاُخرويّة و كذا الجواب عنه بقوله:( عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) إلخ مرتبط فقوله:( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ) مضىّ في الحديث عن الهداية العامّة و ذكر شواهد بارزة من ذلك.

فالله سبحانه أقرّ الإنسان في الأرض يحيا فيها حياة أرضيّة ليتّخذ منها زاداً لحياته العلويّة السماويّة كالصبيّ يقرّ في المهد و يربّى لحياة هي أشرف منه و أرقى، و جعل للإنسان فيها سبلا ليتنبّه بذلك أنّ بينه و بين غايته و هو التقرّب منه تعالى و الدخول في حظيرة الكرامة سبيلاً يجب أن يسلكها كما يسلك السبل الأرضيّة لمآربه الحيويّة و أنزل من السماء ماء و هو ماء الأمطار و منه مياه عيون الأرض و

١٨٤

أنهارها و بحارها فأنبت منه أزواجاً أي أنواعاً و أصنافاً متقاربة شتّى من نبات يهديكم إلى أكلها ففي ذلك آيات تدلّ أرباب العقول إلى هدايته و ربوبيّته تعالى.

فقوله:( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ) إشارة إلى قرار الإنسان في الأرض لإدامة الحياة و هو من الهداية، و قوله:( وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا ) إشارة إلى مسالك الإنسان الّتي يسلكها في الأرض لإدراك مآربه و هو أيضاً من الهداية، و قوله:( وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ ) إشارة إلى هداية الإنسان و الإنعام إلى أكل النبات لإبقاء الحياة، و فيه هداية السماء إلى الإمطار و ماء الأمطار إلى النزول و النبات إلى الخروج.

و الباء في( بِهِ ) للسببيّة و فيه تصديق السببيّة و المسبّبية بين الاُمور الكونيّة، و المراد بكون النبات أزواجاً كونها أنواعاً و أصنافاً متقاربة كما فسّره القوم أو حقيقة الازدواج بين الذكور و الإناث من النبات و هي من الحقائق الّتي نبّه عليها الكتاب العزيز.

و قوله:( فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى ) فيه التفات من الغيبة إلى التكلّم بالغير، قيل: و الوجه فيه ما في هذا الصنع العجيب و إبداع الصور المتشتّتة و الأزواج المختلفة على ما فيها من تنوّع الحياة من ماء واحد، من العظمة و الصنع العظيم لا يصدر إلّا من العظيم و العظماء يتكلّمون عنهم و عن غيرهم من أعوانهم و قد ورد الالتفات في معنى إخراج النبات بالماء في مواضع من كلامه تعالى كقوله:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها ) فاطر: ٢٧، و قوله:( وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ) النمل: ٦٠، و قوله:( وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) الأنعام: ٩٩.

و قوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) النهى جمع نهية بالضمّ فالسكون و هو العقل سمّي به لنهيه عن اتّباع الهوى.

قوله تعالى: ( مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) الضمير للأرض و الآية تصف ابتداء خلق الإنسان من الأرض ثمّ إعادته فيها

١٨٥

و صيرورته جزء منها ثمّ إخراجه منها للرجوع إلى الله ففيها الدورة الكاملة من هداية الإنسان.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَ أَبى‏ ) الظاهر أنّ المراد بالآيات العصا و اليد و سائر الآيات الّتي أراها موسى فرعون أيّام دعوته قبل الغرق كما مرّ في قوله:( اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي ) فالمراد جميع الآيات الّتي اُريها و إن لم يؤت بها جميعاً في أوّل الدعوة كما أنّ المراد بقوله:( فَكَذَّبَ وَ أَبى‏ ) مطلق تكذيبه و إبائه لا ما أتى به منهما في أوّل الدعوة.

قوله تعالى: ( قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى) الضمير لفرعون و قد اتّهم موسى أوّلاً بالسحر لئلّا يلزمه الاعتراف بصدق ما جاء به من الآيات المعجزة و حقيّة دعوته، و ثانياً بأنّه يريد إخراج القبط من أرضهم و هي أرض مصر، و هي تهمة سياسيّة يريد بها صرف الناس عنه و إثارة أفكارهم عليه بأنّه عدوّ يريد أن يطردهم من بيئتهم و وطنهم بمكيدته و لا حياة لمن لا بيئة له.

قوله تعالى: ( فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ مَكاناً سُوىً ) الظاهر كما يشهد به الآية التالية أنّ الموعد اسم زمان و إخلاف الوعد عدم العمل بمقتضاه، و مكان سُوىً بضمّ السين أي واقع المنتصف من المسافة أو مستوي الأطراف من غير ارتفاع و انخفاض قال في المفردات: و مكان سوى و سواء وسط، و يقال: سواء و سوى و سوى - بضمّ السين و كسرها - أي يستوي طرفاه، و يستعمل ذلك وصفاً و ظرفاً، و أصل ذلك مصدر. انتهى.

و المعنى: فاُقسم لنأتينّك بسحر يماثل سحرك لقطع حجّتك و إبطال إرادتك فاجعل بيننا و بينك زمان وعد لا نخلفه في مكان بيننا أو في مكان مستوي الأطراف أو اجعل بيننا و بينك مكاناً كذلك.

قوله تعالى: ( قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) الضمير لموسى و قد جعل الموعد يوم الزينة، و يظهر من السياق أنّه كان يوماً لهم يجري بينهم مجرى العيد، و يظهر من لفظه أنّهم كانوا يتزيّنون فيه و يزيّنون الأسواق، و حشر

١٨٦

الناس - على ما ذكره الراغب - إخراجهم عن مقرّهم و إزعاجهم عنه إلى الحرب و نحوها، و الضحى وقت انبساط الشمس من النهار.

و قوله:( وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) معطوف على الزينة أو على يوم بتقدير اليوم أو الوقت و نحوه و المعنى قال موسى موعدكم يوم الزينة و يوم حشر الناس في الضحى، و ليس من البعيد أن يكون مفعولاً معه و المعنى موعدكم يوم الزينة مع حشر الناس في الضحى و يرجع إلى الاشتراط. و إنّما اشترط ذلك ليكون ما يأتي به و يأتون به على أعين الناس في ساعة مبصرة.

قوله تعالى: ( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى‏ ) ظاهر السياق أنّ المراد بتولّي فرعون انصرافه عن مجلس المواعدة للتهيّؤ لما واعد، و المراد بجمع كيده جمع ما يكاد به من السحرة و سائر ما يتوسّل به إلى تعمية الناس و التلبيس عليهم و يمكن أن يكون المراد بجمع كيده جمع ذوي كيده بحذف المضاف و المراد بهم السحرة و سائر عماله و أعوانه و قوله:( ثُمَّ أَتى‏ ) أي ثمّ أتى الموعد و حضره.

قوله تعالى: ( قالَ لَهُمْ مُوسى‏ وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى‏ ) الويل كلمة عذاب و تهديد، و الأصل فيه معنى العذاب و معنى ويلكم عذّبكم الله عذاباً، و السحت بفتح السين استيصال الشعر بالحلق و الإسحات الاستئصال و الإهلاك.

و قوله:( قالَ لَهُمْ مُوسى‏ وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً ) ضمائر الجمع غيبة و خطاباً لفرعون و كيده و هم السحرة و سائر أعوانه على موسى (عليه السلام) و قد مرّ ذكرهم في الآية السابقة، و أمّا رجوعها إلى السحرة فقط فلم يسبق لهم ذكر و لا دلّ عليهم دليل من جهة اللفظ.

و هذا القول من موسى (عليه السلام) موعظة لهم و إنذار أن يفتروا على الله الكذب، و قد ذكر من افترائهم فيما مرّ تسمية فرعون الآيات الإلهيّة سحراً، و رمي الدعوة الحقّة بأنّها للتوسّل إلى إخراجهم من أرضهم و من الافتراء أيضاً السحر لكنّ افتراء الكذب على الله و هو اختلاق الكذب عليه إنّما يكون بنسبة ما ليس من الله إليه، و عدّ الآية

١٨٧

المعجزة سحراً و الدعوة الحقّة كيداً سياسيّاً قطع نسبتهما إلى الله و كذا إتيانهم بالسحر قبال المعجزة مع الاعتراف بكونه سحراً لا واقع له فلا يعدّ شي‏ء منها افتراء على الله.

فالظاهر أنّ المراد بافتراء الكذب على الله الاعتقاد باُصول الوثنيّة كاُلوهيّة الآلهة و شفاعتها و رجوع تدبير العالم إليها كما فسّروا الآية بذلك، و قد عدّ ذلك افتراء على الله في مواضع من القرآن كقوله:( قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ ) الأعراف: ٨٩.

و قوله:( فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ ) تفريع على النهي أي لا تشركوا بالله حتّى يستأصلكم و يهلككم بعذاب بسبب شرككم، و تنكير العذاب للدلالة على شدّته و عظمته.

قوله:( وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى‏ ) الخيبة اليأس من بلوغ النتيجة المأمولة و قد وضعت الجملة في الكلام وضع الأصل الكلّي الّذي يتمسّك به و هو كذلك فإنّ الافتراء من الكذب و سببيّته سببيّة كاذبة و الأسباب الكاذبة لا تهتدي إلى مسبّبات حقّة و آثار صادقة فنتائجها غير صالحة للبقاء و لا هي تسوق إلى سعادة فليس في عاقبتها إلّا الشؤم و الخسران فالآية أشمل معنى من قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ) يونس: ٦٩. لإثباتها الخيبة في مطلق الافتراء بخلاف الآية الثانية و قد تقدّم كلام في أنّ الكذب لا يفلح في ذيل قوله:( وَ جاؤُ عَلى‏ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ) يوسف: ١٨ في الجزء الحادي عشر من الكتاب.

قوله تعالى: ( فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوى ‏ - إلى قوله -مَنِ اسْتَعْلى‏ ) التنازع قريب المعنى من الاختلاف، من النزع بمعنى جذب الشي‏ء من مقرّه لينقلع منه و التنازع يتعدّى بنفسه كما في الآية و بفي كقوله:( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ ) النساء: ٥٩.

و النجوى الكلام الّذي يسارّ به، و أصله مصدر بمعنى المناجاة و هي المسارّة في الكلام، و المثلى مؤنّث أمثل كفضلى و أفضل و هو الأقرب الأشبه و الطريقة المثلى

١٨٨

السنّة الّتي هي أقرب من الحقّ أو من اُمنيّتهم و هي سنّة الوثنيّة الّتي كانت مصر اليوم تدار بها و هي عبادة الآلهة و في مقدّمتها فرعون إله القبط، و الإجماع - على ما ذكره الراغب - جمع الشي‏ء عن فكر و تروّ، و الصفّ جعل الأشياء على خطّ مستو كالإنسان و الأشجار و نحو ذلك و يستعمل مصدراً و اسم مصدر و قوله:( ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا ) يحتمل أن يكون مصدراً، و أن يكون بمعنى صافّين أي ائتوه باتّحاد و اتّفاق من دون أن تختلفوا و تتفرّقوا فتضعفوا و كونوا كيد واحدة عليه.

و يظهر من تفريع قوله:( فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ ) على ما في الآية السابقة من قوله:( قالَ لَهُمْ مُوسى‏ ) إلخ أنّ التنازع و الاختلاف إنّما ظهر بينهم عن موعظة وعظهم بها موسى فأثّرت فيهم بعض أثرها و من شأنها ذلك إذ ليست إلّا كلمة حقّ ما فيها مغمض و كان محصّلها أن لا علم لكم بما تدّعونه من اُلوهيّة الآلهة و شفاعتها فنسبتكم الشركاء و الشفعاء إلى الله افتراء عليه و قد خاب من افترى و هذا برهان واضح لا ستر عليه و لا غبار.

و يظهر من قوله الآتي الحاكي لقول السحرة:( إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ) أنّ الاختلاف إنّما ظهر أوّل ما ظهر بين السحرة و منهم و ربّما أشعر قوله الآتي:( ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا ) أنّ المتردّدين في مقابلة موسى منهم أو العازمين على ترك مقابلته أصلاً كانوا بعض السحرة إن كان الخطاب متوجّها إليهم و لعلّ السياق يساعد على ذلك.

و كيف كان لمّا رأى فرعون و أياديه تنازع القوم - و فيه خزيهم و خذلانهم - أسرّوهم النجوى و لم يكّلموهم فيما ألقاه إليهم موسى من الحكمة و الموعظة بل عدلوا عن ذلك إلى ما اتّهمه فرعون بالسحر و طرح خطّة سياسيّة لإخراج اُمّة القبط من أرضهم و لا ترضى الاُمّة بذلك ففيه خروج من ديارهم و أموالهم و سقوط من أوج سعادتهم إلى حضيض الشقاء و هم يرون ما يقاسيه بنو إسرائيل بينهم.

و أضافوا إلى ذلك أمراً آخر أمرّ من الجلاء و الخروج من الديار و الأموال و هو ذهاب طريقتهم المثلى و سنّتهم القوميّة الّتي هي ملّة الوثنيّة الحاكمة فيهم قرناً

١٨٩

بعد قرن و جيلاً بعد جيل و قد اشتدّ بها عظمهم و نبت عليها لحمهم و العامّة تقدّس السنن القوميّة و خاصّة ما اعتادت عليها و أذعنت بأنّها سنن طاهرة سماويّة. و هذا بالحقيقة إغراء لهم على التثبّت و الاستقامة على ملّة الوثنيّة لكن لا لأنّها دين حقّ لا شبهة فيه فإنّ حجّة موسى أوضحت فسادها و كشفت عن بطلانها بل بعنوان أنّها سنّة ملّيّة مقدّسة تعتمد عليها ملّيّتهم و تستند إليها شوكتهم و عظمتهم و تعتصم بها حياتهم فلو اختلفوا و تركوا مقابلة موسى و استعلى هو عليهم كان في ذلك فناؤهم بالمرّة.

فالرأي هو أن يجمعوا كلّ كيد لهم ثمّ يدعوا الاختلاف و يأتوا صفّا حتّى يستعلوا و قد أفلح اليوم من استعلى.

فأكّدوا عليهم القول بالتسويل أن يتّحدوا و يتّفقوا و لا يهنوا في حفظ ملّيّتهم و مدنيّتهم و يكرّوا على عدوّهم كرّة رجل واحد، و شفّع ذلك فرعون بمواعد جميلة وعدهم إيّاها كما يظهر من قوله تعالى في موضع آخر:( قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ، قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) الشعراء: ٤٢. و بأيّ وجه كان من ترغيب و ترهيب حملوهم على أن يثبتوا و يواجهوا موسى بمغالبته.

هذا ما يعطيه التدبّر في معنى الآيات بالاستمداد من السياق و القرائن المتّصلة و الشواهد المنفصلة، و على ذلك فقوله:( فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ) إشارة إلى اختلافهم إثر موعظة موسى و ما أومأ إليه من الحجّة.

و قوله:( وَ أَسَرُّوا النَّجْوى‏ ) إشارة إلى مسارّتهم في أمر موسى و اجتهادهم في رفع الاختلاف الناشئ من استماعهم وعظ موسى (عليه السلام)، و قوله:( قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ ) إلخ، بيان النجوى الّذي أسرّوه فيما بينهم و قد مرّ توضيح معناه.

و قوله:( إِنْ هذانِ لَساحِرانِ ) القراءة المعروفة( إن ) بكسر الهمزة و سكون النون و هي( إن ) المشبّهة بالفعل خفّفت فاُلغيت عن العمل بنصب الاسم و رفع الخبر.

قوله تعالى: ( قالُوا يا مُوسى‏ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى‏ ) إلى آخر الآية التالية، الحبال جمع حبل و العصيّ جمع عصا، و قد كان السحرة

١٩٠

استعملوها ليصوّروا بها في أعين الناس حيّات و ثعابين أمثال ما كان يظهر من عصا موسى (عليه السلام).

و هنا حذف و إيجاز كأنّه قيل: فأتوا الموعد و قد حضره موسى فقيل: فما فعلوا؟ فقيل:( قالُوا يا مُوسى‏ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أي عصاك وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى‏ ) و هذا تخيير منهم لموسى بين أن يبدء بالإلقاء أو يصبر حتّى يلقوا ثمّ يأتي بما يأتي،( قالَ موسى: بَلْ أَلْقُوا) فأخلى لهم الظرف كي يأتوا بما يأتون به و هو معتمد على ربّه واثق بوعده من غير قلق و اضطراب و قد قال له ربّه فيما قال:( إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى) .

و قوله:( فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) فيه حذف، و التقدير: فألقوا و إذا حبالهم و عصيّهم إلخ، و إنّما حذف لتأكيد المفاجاة كأنّه (عليه السلام) لمّا قال لهم: بل ألقوا، لم يلبث دون أن شاهد ما شاهد من غير أن يتوسّط هناك إلقاؤهم الحبال و العصيّ.

و الّذي خيّل إلى موسى خيّل إلى غيره من الناظرين من الناس كما ذكره في موضع آخر:( سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ ) الأعراف: ١١٦، غير أنّه ذكر ههنا موسى من بينهم و كأنّ ذلك ليكون تمهيداً لما في الآية التالية.

قوله تعالى: ( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) قال الراغب في المفردات: الوجس الصوت الخفيّ، و التوجّس التسمّع، و الإيجاس وجود ذلك في النفس، قال:( فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ) فالوجس هو حالة تحصل من النفس بعد الهاجس لأنّ الهاجس مبتدء التفكير ثمّ يكون الواجس الخاطر. انتهى.

فإيجاس الخيفة في النفس إحساسها فيها و لا يكون إلّا خفيفاً خفيّاً لا يظهر أثره في ظاهر البشرة و يتبع وجوده في النفس ظهور خاطر سوء فيها من غير إذعان بما يوجبه من تحذّر و تحرّز و إلّا لظهر أثره في ظاهر البشرة و عمل الإنسان قطعاً، و إلى ذلك يؤمي تنكير الخيفة كأنّه قيل: أحسّ في نفسه نوعاً من الخوف لا يعبؤ به، و من العجيب قول بعضهم: إنّ التنكير للتفخيم و كان الخوف عظيماً و هو خطأ و لو

١٩١

كان كذلك لظهر أثره في ظاهر بشرته و لم يكن لتقييد الخيفة بكونها في نفسه وجه.

فظهر أنّ الخيفة الّتي أوجسها في نفسه كانت إحساساً آنيّا لها نظيرة الخاطر الّذي عقّبها فقد خطرت بقلبه عظمة سحرهم و أنّه بحسب التخيّل مماثل أو قريب من آيته فأوجس الخيفة من هذا الخطور و هو كنفس الخطور لا أثر له.

و قيل: إنّه خاف أن يلتبس الأمر على الناس فلا يميّزوا بين آيته و سحرهم للتشابه فيشكّوا و لا يؤمنوا و لا يتبعوه و لم يكن يعلم بعد أنّ عصاه ستلقف ما يأفكون.

و فيه أنّ ذلك ينافي اطمئنانه بالله و وثوقه بأمره و قد قال له ربّه قبل ذلك:( بِآياتِنا أَنْتُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ ) القصص: ٣٥.

و قيل: إنّه خاف أن يتفرّق النّاس بعد رؤية سحرهم و لا يصبروا إلى أن يلقي عصاه فيدّعي التساوي و يخيب السعي.

و فيه: أنّه خلاف ظاهر الآية فإنّ ظاهر تفريع قوله:( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً ) إلخ، على قوله:( فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ ) إلخ، أنّه إنّما خاف ما خيّل إليه من سحرهم لا أنّه خاف تفرّق الناس قبل أن يتبيّن الأمر بإلقاء العصا، و لو خاف ذلك لم يسمح لهم بأن يلقوا حبالهم و عصيّهم أوّلاً، على أنّ هذا الوجه لا يلائم قوله تعالى في تقوية نفسه (عليه السلام):( قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى‏ ) و لقيل: لا تخف لا ندعهم يتفرّقون حتّى تلقي العصا.

و كيفما كان يظهر من إيجاسه (عليه السلام) خيفة في نفسه أنّهم أظهروا للناس من السحر ما يشابه آيته المعجزة أو يقرب منه و إن كان ما أتوا به سحراً لا حقيقة له و ما أتى به آية معجزة ذات حقيقة و قد استعظم الله سحرهم إذ قال:( فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ) الأعراف: ١١٦. و لذا أيّده الله ههنا بما لا يبقى معه لبس لناظر البتّة و هو تلقّف العصا جميع ما سحروا به.

قوله تعالى: ( قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى -‏ إلى قوله -حَيْثُ أَتى) نهي بداعي التقوية و التأييد و قد علّله بقوله:( إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) فالمعنى: أنّك فوقهم من كلّ

١٩٢

جهة و إذا كان كذلك لم يضرّك شي‏ء من كيدهم و سحرهم فلا موجب لأن تخاف.

و قوله:( وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا ) إلخ أمر بإلقاء العصا لتكون حيّة و تلقف ما صنعوا بالسحر و التعبير عن العصا بما في يمينك من ألطف التعبير و أعمقه فإنّ فيه إشارة إلى أن ليس للشي‏ء من الحقيقة إلّا ما أراد الله فإن أراد لما في اليمين أن يكون عصا كان عصاً و إن أراد أن يكون حيّة كان حيّة فما له من نفسه شي‏ء ثمّ التعبير عن حيّاتهم و ثعابينهم بقوله:( ما صَنَعُوا ) يشير إلى أنّ المغالبة واقعة بين تلك القدرة المطلقة الّتي تتبعها الأشياء في أساميها و حقائقها و بين هذا الصنع البشريّ الّذي لا يعدو أن يكون كيداً باطلاً و كلمة الله هي العليا و الله غالب على أمره فلا ينبغي له أن يخاف.

و في هذه الجملة أعني قوله:( وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا ) بيان لكونه (عليه السلام) أعلى بحسب ظاهر الحسّ كما أنّ في ذيله بياناً لكونه أعلى بحسب الحقيقة إذ لا حقيقة للباطل فمن كان على الحقّ فلا ينبغي له أن يخاف الباطل على حقّه.

و قوله:( إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى‏ ) تعليل بحسب اللفظ لقوله:( تَلْقَفْ ما صَنَعُوا ) و( ما ) مصدريّة أو موصولة و بيان بحسب الحقيقة لكونه (عليه السلام) أعلى لأنّ ما معهم كيد ساحر لا حقيقة له و ما معه آية معجزة ذات حقيقة و الحقّ يعلو و لا يعلى عليه.

و قوله:( وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى‏ ) بمنزلة الكبرى لقوله:( إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ ) فإنّ الّذي يناله الساحر بسحره خيال من الناظرين باطل لا حقيقة له و لا فلاح و لا سعادة حقيقيّة يظفر بها في أمر موهوم لا واقع له.

فقوله:( وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى‏ ) نظير قوله:( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الأنعام: ١٤٤،( وَ اللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) المائدة: ١٠٨، و غيرهما و الجميع من فروع( إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) الإسراء: ٨١،( وَ يَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ) الشورى: ٢٤، فلا يزال الباطل يزيّن اُموراً و يشبّهها بالحقّ و لا يزال الحقّ يمحوه و يلقف ما أظهره لوهم الناظرين سريعاً أو بطيئاً فمثل عصا

١٩٣

موسى و سحر السحرة يجري في كلّ باطل يبدو و حقّ يلقفه و يزهقه، و قد تقدّم في تفسير قوله:( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها ) الرعد: ١٧، كلام نافع في المقام.

قوله تعالى: ( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى‏ ) في الكلام حذف و إيجاز و التقدير فألقى ما في يمينه فتلقّف ما صنعوا فاُلقي السحرة و في التعبير بقوله:( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ) بالبناء للمفعول دون أن يقال: فسجد السحرة إشارة إلى إذلال القدرة الإلهيّة لهم و غشيان الحقّ بظهوره إيّاهم بحيث لم يجدوا بدّاً دون أن يخرّوا على الأرض سجّداً كأنّهم لا إرادة لهم في ذلك و إنّما ألقاهم ملق غيرهم دون أن يعرفوه من هو؟.

و قولهم:( آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى) شهادة منهم بالإيمان و إنّما أضافوه تعالى إلى موسى و هارون ليكون فيه الشهادة على ربوبيّته تعالى و رسالة موسى و هارون معاً و فصل قوله:( قالُوا) إلخ من غير عطف لكونه كالجواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل: فما قالوا فقيل: قالوا إلخ.

قوله تعالى: ( قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) إلى آخر الآية، الكبير الرئيس و قطع الأيدي و الأرجل من خلاف أن يقطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى و التصليب تكثير الصلب و تشديده كالتقطيع الّذي هو تكثير القطع و تشديده و الجذوع جمع جذع و هو ساقة النخل.

و قوله:( آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) تهديد من فرعون للسحرة حيث آمنوا و الجملة استفهاميّة محذوفة الأداة و الاستفهام للإنكار أو خبريّة مسوقة لتقرير الجرم، و قوله:( إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ) رمي لهم بتوطئة سياسيّة على المجتمع القبطي في أرض مصر كأنّهم تواطؤوا مع رئيسهم أن يتنبّأ موسى فيدعو أهل مصر إلى الله و يأتي في ذلك بسحر فيستنصروا بالسحرة حتّى إذا حضروه و اجتمعوا على مغالبته تخاذلوا و انهزموا عنه و آمنوا و اتّبعتهم العامّة فذهبت طريقتهم المثلى من بينهم و اُخرج من لم يؤمن منهم قال تعالى في موضع آخر:( إِنَّ هذا

١٩٤

لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها ) الأعراف: ١٢٣، و إنّما رماهم بهذا القول تهييجاً للعامّة عليهم كما رمى موسى (عليه السلام) بمثله في أوّل يوم.

و قوله:( فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ) إلى آخر الآية، إيعاد لهم و تهديد بالعذاب الشديد و لم يذكر تعالى في كلامه أنجز فيهم ذلك أم لا؟.

قوله تعالى: ( قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى‏ ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ) كلام بليغ في منطوقه بالغ في مفهومه بعيد في معناه رفيع في منزلته يغلي و يفور علماً و حكمة فهؤلاء قوم كانوا قبل ساعة و قد ملأت هيبة فرعون و اُبّهته قلوبهم و أذلّت زينات الدنيا و زخارفها الّتي عنده - و ليست إلّا أكاذيب خيال و أباطيل وهم - نفوسهم يسمّونه ربّاً أعلى و يقولون حينما ألقوا حبالهم و عصيّهم:( بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ ) فما لبثوا دون أن ظهرت لهم آيات الحقّ فبهرت أبصارهم فطاحت عند ذلك ما كانوا يرون لفرعون من عزّة و سلطان و لما عنده من زينة الدنيا و زخرفها من قدر و منزلة و غشيت قلوبهم فأزالت منها رذيلة الجبن و الملق و اتّباع الهوى و التولّه إلى سراب زينة الحياة الدنيا و مكّنت فيها التعلّق بالحقّ و الدخول تحت ولاية الله و الاعتزاز بعزّته فلا يريدون إلّا ما أراده الله و لا يرجون إلّا الله و لا يخافون إلّا الله عزّ اسمه.

يظهر ذلك كلّه بالتدبّر في المحاورة الجارية بين فرعون و بينهم إذا قيس بين القولين ففرعون في غفلة من مقام ربّه لا يرى إلّا نفسه و يضيف إليه أنّه ربّ القبط و له ملك مصر و له جنود مجنّدة، و له ما يريد و له ما يقضي و ليست في نظر الحقّ و الحقيقة إلّا دعاوي و قد غرّه جهله إلى حيث يرى أنّ الحقّ تبع باطله و الحقيقة خاضعة مطيعة لدعواه فيتوقّع أن لا تمسّ نفوس الناس - و في جبلّتها الفهم و القضاء - بشعورها و إدراكها الجبلّيّ شيئاً إلّا بعد إذنه، و لا يذعن قلوبهم و لا توقن بحقّ إلّا عن إجازته و هو قوله للسحرة:( آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) .

و يرى أن لا حقيقة للإنسان إلّا هذه البنية الجسمانيّة الّتي تعيش ثمّ تفسد و تفنى و أن لا سعادة له إلّا نيل هذه اللذائذ المادّيّة الفانية، و ذلك قوله:( فَلَأُقَطِّعَنَّ

١٩٥

أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى‏ ) و ليتدبّر في آخر كلامه.

و أمّا هؤلاء المؤمنون و قد أدركهم الحقّ و غشيهم فأصفاهم و أخلصهم لنفسه فهم يرون ما يعدّه فرعون حقيقة من أمتعة الحياة الدنيا من مالها و منزلتها سراباً خياليّاً و زينة غارّة باطلة، و أنّهم إذا خيّروا بينه و بين ما آمنوا به فقد خيّروا بين الحقّ و الباطل و الحقيقة و السراب، و حاشا أهل اليقين أن يشكّوا في يقينهم أو يقدّموا الباطل على الحقّ و السراب على الحقيقة و هم يشهدون ذلك شهادة عيان و ذلك قولهم:( لَنْ نُؤْثِرَكَ - أي لن نختارك -عَلى‏ ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الَّذِي فَطَرَنا ) فليس مرادهم به إيثار شخص بما هو جسد إنسانيّ ذو روح بل ما معه ممّا كان يدّعيه أنّه يملكه من الدنيا العريضة بمالها و منالها.

و ما كان يهدّدهم به فرعون من القتل الفجيع و العذاب الشديد و قطع دابر الحياة الدنيا و هو يرى أن ليس للإنسان إلّا الحياة الّتي فيها و فيها سعادته و شقاؤه فإنّهم يرون الأمر بالعكس من ذلك و أنّ للإنسان حياة خالدة أبديّة لا قدر عندها لهذه الحياة المعجّلة الفانية إن سعد فيها فلا عليه أن يشقى في حياته الدنيا و إن شقي فيها فلا ينفعه شي‏ء.

و على ذلك فلا يهابون أن يخسروا في حياتهم الدنيا الداثرة إذا ربحوا في الحياة الاُخرى الخالدة، و ذلك قولهم لفرعون - و هو جواب تهديده إيّاهم بالقتل -( فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ) ثمّ الآيات التالية الحاكية لتتمّة كلامهم مع فرعون تعليل و توضيح لقولهم:( لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى‏ ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الَّذِي فَطَرَنا ) .

و في قولهم:( ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ ) تلويح إلى أنّهم عدّوا ما شاهدوه من أمر العصا آيات عديدة كصيرورتها ثعبانا و تلقّفها الحبال و العصيّ و رجوعها ثانياً إلى حالتها الاُولى، و يمكن أن يكون( مِنَ ) للتبعيض فيفيد أنّهم شاهدوا آية واحدة و آمنوا بأنّ لله آيات اُخرى كثيرة و لا يخلو من بعد.

١٩٦

قوله تعالى: ( إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى) الخطايا جمع خطيئة و هي قريبة معنى من السيّئة و قوله:( وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ ) معطوف على( خَطايانا ) و( مِنَ السِّحْرِ ) بيان له و المعنى و ليغفر لنا السحر الّذي أكرهتنا عليه و فيه دلالة على أنّهم اُكرهوا عليه إمّا حين حشروا إلى فرعون من خلال ديارهم و إمّا حين تنازعوا أمرهم بينهم و أسرّوا النجوى فحملوا على المقابلة و المغالبة.

و أوّل الآية تعليل لقولهم:( لَنْ نُؤْثِرَكَ ) إلخ أي إنّما اخترنا الله الّذي فطرنا عليك و آمنّا به ليغفر لنا خطايانا و السحر الّذي أكرهتنا عليه، و ذيل الآية:( وَ اللهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى) من تمام البيان و بمنزلة التعليل لصدرها كأنّه قيل: و إنّما آثرنا غفرانه على إحسانك لأنّه خير و أبقى، أي خير من كلّ خير و أبقى من كلّ باق - لمكان الإطلاق - فلا يؤثر عليه شي‏ء و في هذا الذيل نوع مقابلة لما في ذيل كلام فرعون:( وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى) .

و قد عبّروا عنه تعالى أوّلاً بالّذي فطرنا، و ثانياً بربّنا، و ثالثاً بالله، أمّا الأوّل فلأنّ كونه تعالى فاطراً لنا أي مخرجاً لنا عن كتم العدم إلى الوجود و يتبعه انتهاء كلّ خير حقيقيّ إليه و أن ليس عند غيره إذا قوبل به إلّا سراب البطلان منشأ كلّ ترجيح و المقام مقام الترجيح بينه تعالى و بين فرعون.

و أمّا الثاني فلأنّ فيه إخباراً عن الإيمان به و أمسّ صفاته تعالى بالإيمان و العبوديّة صفة ربوبيّته المتضمّنة لمعنى الملك و التدبير.

و أمّا الثالث فلأنّ ملاك خيريّة الشي‏ء الكمال و عنده تعالى جميع صفات الكمال القاضية بخيريّته المطلقة فناسب التعبير بالعلم الدالّ على الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال، و على هذا فالكلام في المقامات الثلاثة على بساطته ظاهراً مشتمل على الحجّة على المدّعى و المعنى بالحقيقة: لن نؤثرك على الّذي فطرنا، لأنّه فطرنا و إنّا آمنّا بربّنا لأنّه ربّنا و الله خير لأنّه الله عزّ اسمه.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى)

١٩٧

تعليل لجعل غفران الخطايا غاية للإيمان بالله أي لأنّ من لم يغفر خطاياه كان مجرماً و من يأت ربّه مجرماً إلخ.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى‏ ) إلى آخر الآية التالية: الدرجة - على ما ذكره الراغب - هي المنزلة لكن يعتبر فيها الصعود كدرجات السلّم و تقابلها الدركة فهي المنزلة حدورا و لذا يقال درجات الجنّة و دركات النار، و التزكّي هو التنمّي بالنماء الصالح و المراد به أن يعيش الإنسان باعتقاد حقّ و عمل صالح.

و الآيتان تصفان ما يستتبعه الإيمان و العمل الصالح كما كانت الآية السابقة تصف ما يستتبعه الاجرام الحاصل بكفر أو معصية و الآيات الثلاث الواصفة لتبعة الاجرام و الإيمان ناظرة إلى وعيد فرعون و وعده لهم فقد أوعدهم فرعون على إيمانهم لموسى بالقطع و الصلب و ادّعى أنّه أشدّ العذاب و أبقاه فقابلوه بأنّ للمجرم عند ربّه جهنّم لا يموت فيها و لا يحيى لا يموت فيها حتّى ينجو من مقاساة ألم عذابها لكن منتهى عذاب الدنيا الموت و فيه نجاة المجرم المعذّب، و لا يحيى فيها إذ ليس فيها شي‏ء ممّا تطيب به الحياة و لا خير مرجوّا فيها حتّى يقاسى العذاب في انتظاره.

و وعدهم قبل ذلك المنزلة بجعلهم من مقرّبيه و الأجر كما حكى الله تعالى:( قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) الأعراف: ١١٤ فقابلوا ذلك بأنّ من يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فاُولئك - و في الإشارة البعيدة تفخيم شأنهم - لهم الدرجات العلى - و هذا يقابل وعد فرعون لهم بالتقريب - جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ذلك جزاء من تزكّى - بالإيمان و العمل الصالح و هذا يقابل وعده لهم بالأجر.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى‏ مُوسى‏ أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً - إلى قوله -وَ ما هَدى‏ ) . الإسراء السير بالليل و المراد بعبادي بنوإسرائيل و قوله:( فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً ) قيل المراد الضرب بالعصا كما يدلّ عليه كلامه تعالى في غير هذا الموضع و إنّ( طَرِيقاً ) مفعول به لأضرب على الاتّساع و هو

١٩٨

مجاز عقليّ و الأصل اضرب البحر ليكون لهم طريقاً. انتهى. و يمكن أن يكون المراد بالضرب البناء و الإقامة من باب ضربت الخيمة و ضربت القاعدة.

و اليبس - على ما ذكره الراغب - المكان الّذي كان فيه ماء ثمّ ذهب، و الدرك بفتحتين تبعة الشي‏ء، و في نسبة الغشيان إلى ما الموصولة المبهمة و جعله صلة لها أيضاً من تمثيل هول الموقف ما لا يخفى، قيل: و في قوله:( وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى) تكذيب لقول فرعون لقومه فيما خاطبهم:( وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ ) المؤمن: ٢٩، و على هذا فقوله:( وَ ما هَدى) ليس تأكيداً و تكراراً لمعنى قوله:( وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ ) .

( بحث روائي)

في نهج البلاغة، قال (عليه السلام): لم يوجس موسى خيفة على نفسه بل أشفق من غلبة الجهّال و دول الضلال.

أقول: معناه ما قدّمناه في تفسير الآية.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن جندب بن عبد الله البجليّ قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): إذا أخذتم الساحر فاقتلوه. ثمّ قرأ:( وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) ، قال: لا يأمن حيث وجد.

أقول: و في انطباق المعنى المذكور في الحديث على الآية بما لها من السياق خفاء.

١٩٩

( سورة طه الآيات ٨٠ - ٩٨)

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ( ٨٠ ) كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ ( ٨١ ) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ ( ٨٢ ) وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَىٰ ( ٨٣ ) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ ( ٨٤ ) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ( ٨٥ ) فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي ( ٨٦ ) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَٰكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَٰلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ( ٨٧ ) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ ( ٨٨ ) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ( ٨٩ ) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَٰنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ( ٩٠ ) قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ ( ٩١ )

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459