الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  8%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101723 / تحميل: 6420
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

بسم الله الرحمن الرحيم

( سورة مريم مكّيّة و هي ثمان و تسعون آية)

( سورة مريم الآيات ١ - ١٥)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ كهيعص ( ١ ) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ( ٢ ) إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ( ٣ ) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ( ٤ ) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا ( ٥ ) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ( ٦ ) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا ( ٧ ) قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ( ٨ ) قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ( ٩ ) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ( ١٠ ) فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ( ١١ ) يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ( ١٢ ) وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ( ١٣ ) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا ( ١٤ ) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ( ١٥ )

٢

( بيان)

غرض السورة على ما ينبئ عنه قوله تعالى في آخرها:( فَإِنَّما يَسَّـرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا ) إلخ، هو التبشير و الإنذار غير أنّه ساق الكلام في ذلك سوقاً بديعاً فأشار أوّلاً إلى قصّة زكريّا و يحيى و قصّة مريم و عيسى و قصّة إبراهيم و إسحاق و يعقوب و قصّة موسى و هارون و قصّة إسماعيل و قصّة إدريس و ما خصّهم به من نعمة الولاية كالنبوّة و الصدق و الإخلاص ثمّ ذكر أنّ هؤلاء الّذين أنعم عليهم كان المعروف من حالهم الخضوع و الخشوع لربّهم لكنّ أخلافهم أعرضوا عن ذلك و أهملوا أمر التوجّه إلى ربّهم و اتّبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا و يضلّ عنهم الرشد إلّا أن يتوب منهم تائب و يرجع إلى ربّه فإنّه يلحق بأهل النعمة.

ثمّ ذكر نبذة من هفوات أهل الغيّ و تحكّماتهم كنفي المعاد، و قولهم:( اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ) ، و عبادتهم الأصنام، و ما يلحقهم بذلك من النكال و العذاب.

فالبيان في السورة أشبه شي‏ء ببيان المدّعى بإيراد أمثلته كأنّه قيل: إنّ فلاناً و فلاناً و فلاناً الّذين كانوا أهل الرشد و الموهبة كانت طريقتهم الانقلاع عن شهوات النفس و التوجّه إلى ربّهم و سبيلهم الخضوع و الخشوع إذا ذكّروا بآيات ربّهم فهذا طريق الإنسان إلى الرشد و النعمة لكنّ أخلافهم تركوا هذا الطريق بالإعراض عن صالح العمل، و الإقبال على مذموم الشهوة و لا يؤدّيهم ذلك إلّا إلى الغيّ خلاف الرشد، و لا يقرّهم إلّا على باطل القول كنفي الرجوع إلى الله و إثبات الشركاء لله و سدّ طريق الدعوة و لا يهديهم إلّا إلى النكال و العذاب.

فالسورة كما ترى تفتح بذكر أمثلة ثمّ تعقّبها باستخراج المعنى الكلّيّ المطلوب بيانه و ذلك قوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) الآيات، فالسورة تقسّم الناس إلى ثلاث طوائف: الّذين أنعم الله عليهم من النبيّين و أهل الاجتباء و الهدى. و أهل الغيّ، و الّذين تابوا و آمنوا و عملوا صالحا و هم ملحقون بأهل النعمة و الرشد

٣

ثمّ تذكر ثواب التائبين المسترشدين و عذاب الغاوين و هم قرناء الشياطين و أولياؤهم.

و السورة مكّيّة بلا ريب تدلّ على ذلك مضامين آياتها و قد نقل على ذلك اتّفاق المفسّرين.

قوله تعالى: ( كهيعص ) قد تقدّم في تفسير أوّل سورة الأعراف أنّ السور القرآنيّة المصدّرة بالحروف المقطّعة لا تخلو من ارتباط بين مضامينها و بين تلك الحروف فالحروف المشتركة تكشف عن مضامين مشتركة.

و يؤيّد ذلك ما نجده من المناسبة و المجانسة بين هذه السورة و سورة ص في سرد قصص الأنبياء، و سيوافيك بحث جامع إن شاء الله في روابط مقطّعات الحروف و مضامين السور الّتي صدّرت بها، و كذا ما بين السور المشتركة في بعض هذه الحروف كهذه السورة و سورة يس و قد اشتركتا في الياء، و هذه السورة و سورة الشورى و قد اشتركتا في العين.

قوله تعالى: ( ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ) ظاهر السياق أنّ الذكر خبر لمبتدء محذوف و المصدر بمعنى المفعول، و المال بحسب التقدير: هذا خبر رحمة ربّك المذكور، و المراد بالرحمة استجابته سبحانه دعاء زكريّا على التفصيل الّذي قصّة بدليل قوله تلواً:( إِذْ نادى‏ رَبَّهُ ) .

قوله تعالى: ( إِذْ نادى‏ رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا ) الظرف متعلّق بقوله:( رَحْمَتِ رَبِّكَ ) و النداء و المناداة الجهر بالدعوة خلاف المناجاة، و لا ينافيه توصيفه بالخفاء لإمكان الجهر بالدعوة في خلاء من الناس لا يسمعون معه الدعوة، و يشعر بذلك قوله الآتي:( فَخَرَجَ عَلى‏ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ ) .

و قيل: إنّ العناية في التعبير بالنداء أنّه تصوّر نفسه بعيدا منه تعالى بذنوبه و أحواله السيّئة كما يكون حال من يخاف عذابه.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) إلى آخر الآية، تمهيد لما سيسأله و هو قوله:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ) .

و قد قدّم قوله:( رَبِّ ) للاسترحام في مفتتح الدعاء، و التأكيد بإنّ للدلالة

٤

على تحقّقه بالحاجة، و الوهن هو الضعف و نقصان القوّة و قد نسبه إلى العظم لأنّه الدعامة الّتي يعتمد عليها البدن في حركته و سكونه، و لم يقل: العظام منّي و لا عظمي للدلالة على الجنس و ليأتي بالتفصيل بعد الإجمال.

و قوله:( وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) الاشتعال انتشار شواظ النار و لهيبها في الشي‏ء المحترق قال في المجمع،: و قوله:( وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) من أحسن الاستعارات و المعنى اشتعل الشيب في الرأس و انتشر، كما ينتشر شعاع النار، و كأنّ المراد بالشعاع الشواظ و اللهيب.

و قوله:( وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) الشقاوة خلاف السعادة، و كأنّ المراد بها الحرمان من الخير و هو لازم الشقاوة أو هو هي، و قوله:( بِدُعائِكَ ) متعلّق بالشقيّ و الباء فيه للسببيّة أو بمعنى في و المعنى و كنت سعيداً بسبب دعائي إيّاك كلّما دعوتك استجبت لي من غير أن تشقيني و تحرمني، أو لم أكن محروماً خائباً في دعائي إيّاك عوّدتني الإجابة إذا دعوتك و التقبّل إذا سألتك، و الدعاء على أيّ حال مصدر مضاف إلى المفعول.

و قيل: إنّ( بِدُعائِكَ ) مصدر مضاف إلى الفاعل، و المعنى لم أكن بدعوتك إيّاي إلى العبودية و الطاعة شقيّاً متمرّداً غير مطيع بل عابداً لك مخلصاً في طاعتك و المعنى الأوّل أظهر.

و في تكرار قوله:( رَبِّ ) و وضعه متخلّلاً بين اسم كان و خبره في قوله:( وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) من البلاغة ما لا يقدّر بقدر، و نظيره قوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) .

قوله تعالى: ( وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً ) تتمّة التمهيد الذي قدّمه لدعائه، و المراد بالموالي العمومة و بنو العمّ، و قيل: الكلالة و قيل: العصبة، و قيل: بنو العمّ فحسب، و قيل: الورثة، و كيف كان فهم غير الأولاد من صلب و المراد خفت فعل الموالي من ورائي أي بعد موتي و كان (عليه السلام) يخاف أن يموت بلا عقب من نسله فيرثوه، و هو كناية عن خوفه أن يموت بلا عقب.

٥

و قوله:( وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً ) العاقر المرأة التي لا تلد يقال: امرأة عاقر لا تلد و رجل عاقر لا يولد له ولد. و في التعبير بقوله:( وَ كانَتِ امْرَأَتِي ) دلالة على أنّ امرأته على كونها عاقراً جازت حين الدعاء سنّ الولادة.

و ظاهر عدم تكرار إنّ في قوله:( وَ كانَتِ امْرَأَتِي ) إلخ أنّ الجملة حاليّة و مجموع الكلام أعني قوله:( وَ إِنِّي خِفْتُ - إلى قوله -عاقِراً ) فصل واحد اُريد به أنّ كون امرأتي عاقراً اقتضى أن أخاف الموالي من ورائي و بعد وفاتي، فمجموع ما مهّده للدعاء يؤل إلى فصلين أحدهما أنّ الله سبحانه عوّده الاستجابة مدى عمره حتّى شاخ و هرم و الآخر أنّه خاف الموالي بعد موته من جهة عقر امرأته، و يمكن تصوير الكلام فصولاً ثلاثة بأخذ كلّ من شيخوخته و عقر امرأته فصلاً مستقلّاً.

قوله تعالى: ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) هذا هو الدعاء، و قد قيّد الموهبة الإلهيّة الّتي سألها بقوله:( مِنْ لَدُنْكَ ) لكونه آيسا من الأسباب العاديّة التي كانت عنده و هي نفسه و قد صار شيخا هرما ساقط القوى. و امرأته و قد شاخت و كانت قبل ذلك عاقرا.

و وليّ الإنسان من يلي أمره، و وليّ الميّت هو الّذي يقوم بأمره و يخلفه فيما ترك، و آل الرجل خاصّته الّذين يؤل إليه أمرهم كولده و أقاربه و أصحابه و قيل: أصله أهل، و المراد بيعقوب على ما قيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام)، و قيل هو يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان أبي مريم و كانت امرأة زكريّا اُخت مريم و على هذا يكون معنى قوله:( يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) يرثني و يرث امرأتي و هي بعض آل يعقوب، و الأشبه حينئذ أن تكون( مِنْ ) في قوله:( مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) للتبعيض و إن صحّ كونها ابتدائيّة أيضاً.

و قوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) الرضيّ بمعنى المرضيّ، و إطلاق الرضا يقتضي شموله للعلم و العمل جميعا فالمراد به المرضيّ في اعتقاده و عمله أي اجعله ربّ محلّى بالعلم النافع و العمل الصالح.

و قد قصّ الله سبحانه هذه القصّة في سورة آل عمران و هي مدنيّة متأخّرة نزولاً

٦

عن سورة مريم المكّيّة بقوله في ذيل قصّة مريم( فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ ) آل عمران: ٣٨.

و لا يرتاب المتدبّر في الآيتين أنّ الّذي دعا زكريّا و دفعه إلى دعائه بما دعا هو ما شاهده من حال مريم و كرامتها على الله سبحانه في عبوديّتها و إخلاصها العمل فأحبّ أن يخلفه خلف له من القرب و الكرامة ما شاهد مثله في مريم ثمّ ذكر ما هو عليه من الشيب و نفاد القوّة و ما عليه امرأته من كبر السنّ و العقر و له موال لا يرتضيهم فوجد لذلك و هو ذاكرٌ ما عوّده ربّه من استجابة الدعوة و كفاية كلّ مهمّة ففزع إلى ربّه بالدعاء و استيهاب ذرّيّة طيّبة.

فقوله في سورة آل عمران:( رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) بحذاء قوله في سورة مريم:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) و قوله هناك:( طَيِّبَةً ) بحذاء قوله هنا:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) و المراد به ما شاهده من القرب و الكرامة عند الله لمريم و عملها الصالح فيبقى قوله هناك:( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً ) ، بحذاء قوله هنا:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) و هو يفسّره فالمراد بقوله:( وَلِيًّا يَرِثُنِي ) إلخ، ولد صلبيّ يرثه.

و من هنا يظهر فساد ما قيل: إنّه (عليه السلام) طلب بقوله:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي ) إلخ، من يقوم مقامه و يرثه ولداً كان أو غيره، و كذا ما قيل: إنّه أيس أن يولد له من امرأته فطلب من يرثه و يقوم مقامه من سائر الناس.

و ذلك لصراحة قوله في نفس القصّة في سورة آل عمران:( رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) في طلب الولد.

على أنّ التعبير بمثل( هَبْ لِي ) المشعر بنوع من الملك لا يستقيم في سائر الناس

٧

من الأجانب و إنّما الملائم له التعبير بالجعل و نحوه كما في قوله تعالى:( وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ) النساء: ٧٥.

و من هنا يظهر أيضا أنّ المراد بقوله:( وَلِيًّا يَرِثُنِي ) الولد كما عبّر عنه في آية آل عمران بالذرّيّة فالمراد بالوليّ الذرّيّة و هو وليّ في الإرث، و المراد بالوراثة وراثة ما تركه الميّت من الأموال و أمتعة الحياة، و هو المتبادر إلى الذهن من الإرث بلا ريب إمّا لكونه حقيقة في المال و نحوه مجازاً في غيره كالإرث المنسوب إلى العلم و سائر الصفات و الحالات المعنويّة و إمّا لكونه منصرفاً إلى المال إن كان حقيقة في الجميع فاللفظ على أيّ حال ظاهر في وراثة المال و يتعيّن بانضمامه إلى الوليّ كون المراد به الولد، و يزيد في ظهوره في ذلك قوله قبل:( وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) على ما سيأتي من البيان إن شاء الله.

و أمّا قول من قال: إنّ المراد به وراثة النبوّة و إنّه طلب من ربّه أن يهب له ولدا يرثه النبوّة فيدفعه ما عرفت آنفاً أنّ الّذي دعاه (عليه السلام) إلى هذا الدعاء و المسألة هو ما شاهده من مريم و لا خبر في ذلك عن النبوّة و لا أثر فأيّ رابطة بين أن يشاهد منها عبادة و كرامة فيعجبه ذلك و بين أن يطلب من ربّه ولداً يرثه النبوّة؟.

على أنّ النبوّة ممّا لا يورّث بالنسب و هو ظاهر و لو اُصلح ذلك بأنّ المراد بالوراثة مجرّد إتيان نبيّ بعد نبيّ أو ظهور نبيّ من ذرّيّة نبيّ بنوع من العناية مجازاً ظهر الإشكال من جهة اُخرى و هي عدم ملائمة ذلك قوله بعد:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) إذ لا معنى لقول القائل: هب لي ولداً نبيّاً و اجعله رضيّاً، و لو حمل على التأكيد كان من تأكيد الشي‏ء بما هو دونه، و كذا احتمال أن يكون المراد بالرضىّ المرضيّ عند الناس لمنافاته إطلاق المرضيّ كما تقدّم مع عدم مناسبته لداعيه كما مرّ.

و يقرب منه في الفساد قول من قال: إنّ المراد به وراثة العلم و إنّه طلب من ربّه أن يهب له ولداً يرثه علمه، إذ لا معنى لأن يشاهد زكريّا من مريم عبادة و كرامة فيعجبه ذلك فيطلب من ربّه ولداً يرثه علمه من دون أيّ مناسبة بين الداعي و المدعوّ إليه.

٨

و القول بأنّ المراد بالوراثة وراثة العلم و بقوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) العمل الصالح و مجموع العلم النافع و العمل الصالح يقرب ممّا شاهده من مريم من الإخلاص و العبادة و الكرامة.

يدفعه أنّ قوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) يكفي وحده في الدلالة على طلب العلم النافع و العمل الصالح لمكان الإطلاق، و إنما الإنسان المحسن عملا مع الغضّ عن العلم مرضيّ العمل و لا يسمّى مرضيّاً مطلقاً البتّة، و نظير ذلك القول بأنّ المراد بالرضىّ المرضيّ عند الناس.

و يقرب منه في الفساد احتمال أن يكون المراد بالوراثة وراثة التقوى و الكرامة و أنّه طلب من ربّه أن يهب له ولداً يرث ما له من القرب و المنزلة عند الله إذ المناسب لذلك أن يطلب ولداً له ما لمريم من القرب و الكرامة أو مطلق القرب و الكرامة لا أن يطلب ولداً ينتقل إليه ما لنفسه من القرب و الكرامة.

على أنّه لا يلائمه قوله:( وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) إذ ظاهر السياق أنّه يطلب ولداً يرثه و ينتقل إليه ما لولاه لانتقل ذلك إلى الموالي و هو يخاف منهم أن يتلبّسوا بذلك بعد وفاته، و لا معنى لأن يخاف (عليه السلام) تلبّس مواليه بالقرب و المنزلة و اتّصافهم بالتقوى و الكرامة لا قبل وفاته و لا بعده فساحة الأنبياء أنزه و أطهر من هذه الضنّة و لا اُمنيّة لهم إلّا صلاح النّاس و سعادتهم.

و قول بعضهم إنّ مواليه (عليه السلام) كانوا شرار بني إسرائيل فخاف أن لا يحسنوا خلافته في اُمّته بعده، فيه أنّ هذه الخلافة إن كانت خلافة باطنيّة إلهيّة فهي ممّا لا يورث بالنسب قطعاً، على أنّها لا تخطئ المورد الصالح لها و لا يتلبّس بها إلّا أهلها و لا وجه للخوف من ذلك، و إن كانت خلافة ظاهريّة دنيويّة تورث بالنسب و نحوه فهي قنية اجتماعيّة و من أمتعة الحياة الدنيا نظير المال فلا جدوى لصرف الوراثة في الآية عن وراثة المال إلى وراثة الخلافة و الملك.

على أنّ يحيى (عليه السلام) لم يتقلّد من هذه الخلافة و الملك شيئاً حتّى يكون هو ميراثه الذي منع موالي أبيه أن يرثوه منه، و لم يكن لبني إسرائيل ملك في زمن

٩

زكريّا و يحيى بل كانت الروم مستولية عليهم حاكمة فيهم.

فإن قلت: يؤيّد حمل الوراثة في الآية على وراثة العلم و نحوه دون المال أنّه ليس في الأنظار العالية و الهمم العليا للنفوس القدسيّة الّتي انقطعت من تعلّقات هذا العالم المنقطع الفاني و اتّصلت بالعالم الباقي ميل إلى المتاع الدنيويّ قدر جناح بعوضة لا سيّما زكريّا (عليه السلام) فإنّه كان مشهوراً بكمال الانقطاع و التجرّد فيستحيل عادة أن يخاف من وراثة المال و المتاع الّذي ليس له في نظره العالي أدنى قدر أو يظهر من أجله الكلف و الحزن و الخوف و يستدعي من ربّه ذلك النحو من الاستدعاء و هو يدلّ على كمال المحبّة و تعلّق القلب بالدنيا و زخارفها.

و القول بأنّه خاف أن يصرف مواليه ماله بعد موته فيما لا ينبغي فطلب لذلك عن ربّه وارثاً مرضيّاً فاسد فإنّه إذا مات الرجل و انتقل ماله بالوراثة إلى آخر صار المال مال الوارث فصرفه على ذمّته صواباً أو خطأ و لا مؤاخذة في ذلك على الميّت و لا عتاب.

مع أنّ دفع هذا الخوف كان ميسّراً له (عليه السلام) بأن يصرفه قبل موته و يتصدّق به كلّه في سبيل الله و يترك بني عمّه الأشرار خائبين لسوء أحوالهم و قبح أفعالهم فليس قصده (عليه السلام) من مسألة الولد سوى إجراء أحكام الله تعالى و ترويج الشريعة و بقاء النبوّة في أولاده.

قلت: الإشكال مبنيّ على كون قوله:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي ) مسوقاً لبيان طلب الوراثة الماليّة لولده و الواقع خلافه فليس المقصود من قوله:( وَلِيًّا يَرِثُنِي ) بالقصد الأوّل إلّا طلب الولد كما هو الظاهر أيضاً من قوله في سورة آل عمران:( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً ) و قوله في موضع آخر:( رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً ) الأنبياء: ٨٩.

و إنّما قوله:( يَرِثُنِي ) قرينة معيّنة لكون المراد بالوليّ في الكلام ولاية الإرث الّتي تنطبق على الولد لكون الولاية معنى عامّاً ذا مصاديق مختلفة لا يتعيّن واحد منها إلّا بقرينة معيّنة كما قيّدت بالنصرة في قوله:( وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ

١٠

يَنْصُرُونَهُمْ ) الشورى: ٤٦، و المراد به ولاية النصرة، و قيّدت بالأمر و النهي في قوله:( وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) التوبة: ٧١، و المراد ولاية التدبير. إلى غير ذلك.

و لو لا أنّ المراد به الوراثة الماليّة و أنّها قرينة معيّنة لم يبق في الكلام ما يدلّ على طلب الولد الّذي هو المقصود الأصليّ بالدعاء فإنّ وراثة العلم أو النبوّة أو العبادة و الكرامة لا إشعار فيها بكون الوارث هو الولد كما اعترف به بعض من حمل الوراثة في الآية على شي‏ء من هذه المعاني فيبقى الدعاء خالياً عن الدلالة على المطلوب الأصليّ و كفى به سقوطاً للكلام.

و بالجملة، العناية إنّما هي متعلّقة بإفادة طلب الولد، و أمّا الوراثة الماليّة فليست مقصودة بالقصد الأوّل و إنّما هي قرينة معيّنة لكون المراد بالوليّ هو الولد نعم هي في نفسها تدلّ على أنّه لو كان له ولد لورثه ماله، و ليس في ذلك و لا في قوله:( وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) و حاله حال قوله:( وَلِيًّا يَرِثُنِي ) دلالة على تعلّق قلبه (عليه السلام) بالدنيا الفانية و لا بزخارف حياتها الّتي هي متاع الغرور.

و أمّا طلب الولد فهو ممّا فطر الله عليه النوع الإنسانيّ سواء في ذلك الصالح و الطالح و النبيّ و من دونه و قد جهّز الجميع بجهاز التوالد و التناسل و غرز فيهم ما يدعوهم إليه، فالواحد منهم لو لم ينحرف طباعه ينساق إلى طلب الولد و يرى بقاء ولده بعده بقاء لنفسه و استيلاءهم على ما كان مستولياً عليه من أمتعة الحياة - و هذا هو الإرث - استيلاء نفسه و عيش شخصه هذا.

و الشرائع الإلهيّة لم تبطل هذا الحكم الفطريّ و لا ذمّت هذه الداعية الغريزيّة بل مدحته و ندبت إليه، و في القرآن الكريم آيات كثيرة تدلّ على ذلك كقوله تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام):( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) الصافّات: ١٠٠ و قوله:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ ) إبراهيم: ٣٩، و قوله حكاية عن المؤمنين:( رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) الفرقان: ٧٤ إلى غير ذلك من الآيات.

١١

فإن قلت: ما تقدّم من الوجه في معنى الوراثة كان مبنيّاً على أن يستفاد من قوله:( هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ) الآية، أنّ الّذي دعاه إلى طلب الولد هو ما شاهده من عبادة مريم و كرامتها عند الله سبحانه فأحبّ أن يرزق ولداً يماثلها في العبادة و الكرامة لكن يمكن أن يكون داعيه غير ذلك فقد ورد في بعض الآثار أنّ زكريّا كان يجد عند مريم فواكه في غير موسمها ثمرة الشتاء في الصيف و ثمرة الصيف في الشتاء فقال في نفسه: إذا كان الله لا يعزّ عليه أن يرزقها ثمرة الشتاء في الصيف و ثمرة الصيف في الشتاء لم يعزّ عليه أن يرزقني ولداً في غير وقته و أنا شيخ فان و امرأتي عاقر فقال:( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي ) .

فمشاهدة الثمرة في غير موسمها بعثه إلى طلب الولد في غير وقته لكنّ هذا النبيّ الكريم أجلّ من أن يطلب الولد ليرث ماله فهو إنّما طلبه ليرث النبوّة أو العلم أو العبادة و الكرامة.

قلت: لا دليل من جهة السياق اللفظيّ على كون المراد بالرزق في قوله:( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) هي الثمرة في غير موسمها، و أنّ الّذي دعا زكريّا (عليه السلام) إلى طلب الولد مشاهدة ذلك أو قول مريم:( إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) و لو كان كذلك لكانت الإشارة إليه بوجه أبلغ بل ظاهر السياق و خاصّة صدر الآية( فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً ) أنّ العناية بإفادة كون مريم ذات كرامة عند ربّه يرزقها لا من طريق الأسباب العاديّة فهذا هو الداعي لزكريّا (عليه السلام) إلى طلب ذرّيّة طيّبة و ولد رضيّ.

و لو سلّم ذلك كان مقتضاه أن ينبعث زكريّا بالقصد الأوّل إلى طلب الذرّيّة و الولد و إذ كان نبيّاً كريماً لا إربة له في غير الولد الصالح دعا ثانياً أن يكون طيّباً مرضيّاً كما يدلّ عليه استئناف الدعاء بقوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) و التقييد بالطيّب في قوله:( ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) .

و قد أفاد مقصوده هذا على ما حكى عنه في سورة آل عمران بقوله:( هَبْ لِي

١٢

مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً ) و في هذه السورة بعد تقديم ذكر شيخوخته و عقر امرأته و خوفه الموالي بقوله:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي ) فالمراد بقوله:( وَلِيًّا يَرِثُنِي ) هو الولد بلا شكّ، و قد عبّر عنه و اُشير إليه بعنوان ولاية الإرث.

و ولاية الوراثة الّتي تصلح أن تكون عنواناً معرّفاً للولد هي ما يختصّ به من ولاية وراثة التركة، و أمّا ولاية وراثة النبوّة لو جازت تسميتها ولاية وراثة و كذا ولاية وراثة العلم كما يرث التلميذ علم اُستاذه و كذا ولاية وراثة المقامات المعنويّة و الكرامات الإلهيّة فهذه الولايات أجنبيّة عن النسب و الولادة ربّما جامعتها و ربّما فارقتها فلا تصلح أن تجعل معرّفة و مرآة لها إلّا مع قرينة قويّة، و ليس في الكلام ما يصلح لذلك، و كلّ ما فرض صالحاً له فهو صالح لخلافه فيكون قد اُهمل في الدعاء ما هو المقصود بالقصد الأوّل و اشتغل بما وراءه، و كفى به سقوطاً للكلام.

قوله تعالى: ( يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى‏ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) في الكلام حذف إيجازاً، و التقدير:( فاستجبنا له و ناديناه يا زكريّا إنّا نبشّرك) إلخ، و قد ورد في سورة الأنبياء في القصّة:( فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى) الأنبياء: ٩٠، و في سورة آل عمران:( فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى‏ ) آل عمران: ٣٩.

و تشهد آية آل عمران على أنّ قوله:( يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ ) إلخ، كان وحياً بتوسّط الملائكة فهو قوله تعالى أدّته الملائكة إلى زكريّا، و ذلك في قوله ثانياً:( قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) إلخ، أظهر.

و في الآية دلالة على أنّ الله سبحانه هو الّذي سمّاه يحيى، و هو قوله:( اسْمُهُ يَحْيى) و أنّه لم يسمّ بهذا الاسم قبله أحد، و هو قوله:( لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) أي شريكاً في الاسم.

و ليس من البعيد أن يراد بالسميّ المثل على حدّ ما سيأتي من قوله تعالى:( فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) الآية: ٦٥ من السورة و يشهد عليه أنّ

١٣

الله سبحانه نعته في كلامه بنعوت لم ينعت به أحداً من أنبيائه و أوليائه قبله كقوله فيما سيأتي:( وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) و قوله:( وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً ) آل عمران: ٣٩، و قوله:( وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) ، و المسيح (عليه السلام) و إن شاركه في هذه النعوت و هما ابنا الخالة لكن ولادته بعد ولادة يحيى (عليهما السلام).

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ) قال الراغب: الغلام الطارّ الشارب(١) يقال: غلام بيّن الغلومة و الغلوميّة، قال تعالى:( أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ) . قال: و اغتلم الغلام: إذا بلغ حدّ الغلمة. انتهى.

و قال في المجمع: العتيّ و العسيّ بمعنى يقال: عتا يعتو عتوّاً و عتيّاً و عسي يعسو عسوّاً و عسيّاً فهو عات و عاس إذا غيّره طول الزمان إلى حال اليبس و الجفاف. انتهى. و بلوغ العتيّ كناية عن بطلان شهوة النكاح و انقطاع سبيل الإيلاد.

و استفهامه (عليه السلام) عن كون الغلام مع عقر امرأته و بلوغه العتيّ مع ذكره‏ الأمرين في ضمن دعائه إذ قال:( رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) إلخ، مبنيّ على استعجاب البشرى و استفسار خصوصيّاتها دون الاستبعاد و الإنكار فإنّ من بشّر بما لا يتوقّعه لتوفّر الموانع و فقدان الأسباب تضطرب نفسه بادئ ما يسمعها فيأخذ في السؤال عن خصوصيّات ما بشّر به ليطمئنّ قلبه و يسكن اضطراب نفسه و هو مع ذلك على يقين من صدق ما بشّر به فإنّ الخطورات النفسانيّة ربّما لا تنقطع مع وجود العلم و الإيمان و قد تقدّم نظيره في تفسير قوله تعالى:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى‏ قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى‏ وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) البقرة: ٢٦٠.

قوله تعالى: ( قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً ) جواب عمّا استفهمه و استفسره لتطيب به نفسه، و يسكن جاشه، و ضمير قال راجع إليه تعالى، و قوله:( كَذلِكَ ) مقول القول و هو خبر مبتدإ محذوف و التقدير

____________________

(١) غلام طر شاربه من باب نصر و ضرب: أي طلع.

١٤

( هو كذلك) أي الأمر واقع على ما أخبرناك به في البشرى لا ريب فيه.

و قوله:( قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) مقول ثان لقال الأوّل، و هو بمنزلة التعليل لقوله:( كَذلِكَ ) يرتفع به أيّ استعجاب فلا يتخلّف عن إرادته مراد و إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن، فخلق غلام من رجل بالغ في الكبر و امرأة عاقر هيّن سهل عليه.

و قد وقع التعبير عن هذا الاستفهام و الجواب في سرد القصّة من سورة آل عمران بقوله:( قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) آل عمران: ٤٠، فقوله:( قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) ههنا يحاذي قوله هناك:( اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) و هو يؤيّد ما قدّمناه من المعنى، و قوله ههنا:( وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً ) بيان لبعض مصاديق الخلق الذي يرفع به الاستعجاب.

و في الآية وجوه اُخر تعرّضوا لها: منها أنّ قوله:( كَذلِكَ ) متعلّق بقال الثاني و مجموع الجملة هو الجواب و المراد أمر ربّك بذلك و قضى كذلك، و قوله:( هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) مقول آخر للقول أو أنّه جيي‏ء به على سبيل الحكاية.

و منها أنّ الخطاب في قوله:( قالَ رَبُّكَ ) للنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) لا لزكريّا (عليه السلام) و تلك وجوه لا يساعد عليها السياق.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا ) قد تقدّم في القصّة من سورة آل عمران أنّ إلقاء البشرى إلى زكريّا كان بتوسّط الملائكة( فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) ، و هو (عليه السلام) إنّما سأل الآية ليتميّز به الحقّ من الباطل فتدلّه على أنّ ما سمعه من النداء وحي ملكيّ لا إلقاء شيطانيّ و لذلك اُجيب بآية إلهيّة لا سبيل للشيطان إليها و هو أن لا ينطلق لسانه ثلاثة أيّام إلّا بذكر الله سبحانه فإنّ الأنبياء معصومون بعصمة إلهيّة ليس للشيطان أن يتصرّف في نفوسهم.

فقوله:( قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ) سؤال لآية مميّزة، و قوله:( قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا ) إجابة ما سأل، و هو أن يعتقل لسانه ثلاثة

١٥

أيّام من غير ذكر الله و هو سويّ أي صحيح سليم من غير مرض و آفة.

فالمراد بعدم تكليم الناس عدم القدرة على تكليمهم، من قبيل إطلاق اللازم و إرادة الملزوم كناية، و المراد بثلاث ليال ثلاث ليال بأيّامها و هو شائع في الاستعمال فكان (عليه السلام) يذكر الله بفنون الذكر و لا يقدر على تكليم الناس إلّا رمزاً و إشارة، و الدليل على ذلك كلّه قوله تعالى في القصّة من سورة آل عمران:( قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ ) آل عمران: ٤١.

قوله تعالى: ( فَخَرَجَ عَلى‏ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى‏ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا ) قال في المجمع: و سمّي المحراب محراباً لأنّ المتوجّه إليه في صلاته كالمحارب للشيطان على صلاته، و الأصل فيه مجلس الأشراف الّذي يحارب دونه ذبّاً عن أهله. و قال: الإيحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفية بسرعة، و أصله من قولهم: الوحي الوحي أي الإسراع الإسراع. انتهى و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( يا يَحْيى‏ خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ ) قد تكرّر في كلامه تعالى ذكر أخذ الكتاب بقوّة و الأمر به كقوله:( فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها ) الأعراف: ١٤٥، و قوله:( خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ ) البقرة ٦٣، و قوله:( خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا ) البقرة: ٩٣ إلى غير ذلك من الآيات، و السابق إلى الذهن من سياقها أنّ المراد من أخذ الكتاب بقوّة التحقّق بما فيه من المعارف و العمل بما فيه من الأحكام بالعناية و الاهتمام.

و في الكلام حذف و إيجاز رعايةً للاختصار، و التقدير: فلمّا وهبنا له يحيى قلنا له: يا يحيى خذ الكتاب بقوّة في جانبي العلم و العمل، و بهذا المعنى يتأيّد أن يكون المراد بالكتاب التوراة أو هي و سائر كتب الأنبياء فإنّ الكتاب الّذي كان يشتمل على الشريعة يومئذ هو التوراة(١) .

قوله تعالى: ( وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكاةً ) فسّر الحكم بالفهم و بالعقل و بالحكمة و بمعرفة آداب الخدمة و بالفراسة الصادقة و بالنبوّة،

____________________

(١) و ليس من البعيد أن يكون له عليه السلام كتاب يخصّه. منه.

١٦

لكنّ المستفاد من مثل قوله تعالى:( وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ) الجاثية: ١٦، و قوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ) الأنعام: ٨٩، و غيرهما من الآيات أنّ الحكم غير النبوّة، فتفسير الحكم بالنبوّة ليس على ما ينبغي، و كذا تفسيره بمعرفة آداب الخدمة أو بالفراسة الصادقة أو بالعقل إذ لا دليل من جهة اللفظ و لا من جهة المعنى على شي‏ء من ذلك.

نعم ربّما يستأنس من مثل قوله:( يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ ) البقرة: ١٢٩، و قوله:( يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ ) الجمعة: ٢ - و الحكمة بناء نوع من الحكم - أنّ المراد بالحكم العلم بالمعارف الحقّة الإلهيّة و انكشاف ما هو تحت أستار الغيب بالنسبة إلى الأنظار العاديّة و لعلّه إليه مرجع تفسير الحكم بالفهم. و على هذا يكون المعنى إنّا أعطيناه العلم بالمعارف الحقيقيّة و هو صبيّ لم يبلغ الحلم بعد.

و قوله:( وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا ) معطوف على الحكم أي و أعطيناه حنانا من لدنّا و الحنان: العطف و الإشفاق، قال الراغب: و لكون الإشفاق لا ينفكّ من الرحمة عبّر عن الرحمة بالحنان في قوله تعالى:( وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا ) و منه قيل: الحنّان المنّان و حنانيك إشفاقاً بعد إشفاق.

و فسّر الحنان في الآية بالرحمة و لعلّ المراد بها النبوّة أو الولاية كقول نوح (عليه السلام):( وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ ) هود: ٢٨، و قول صالح:( وَ آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً ) هود: ٦٣.

و فسّر بالمحبّة و لعلّ المراد بها محبّة الناس له على حدّ قوله:( وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) طه: ٣٩، أي كان لا يراه أحد إلّا أحبّه.

و فسّر بتعطّفه على الناس و رحمته و رقّته عليهم فكان رؤفاً بهم ناصحاً لهم يهديهم إلى الله و يأمرهم بالتوبة و لذا سمّي في العهد الجديد بيوحنّا المعمّد.

و فسّر بحنان الله عليه كان إذا نادى ربّه لبّاه الله سبحانه على ما في الخبر فيدلّ على أنّه كان لله سبحانه حنان خاصّ به على ما يفيده تنكير الكلمة.

١٧

و الّذي يعطيه السياق و خاصّة بالنظر إلى تقييد الحنان بقوله:( مِنْ لَدُنَّا ) - و الكلمة إنّما تستعمل فيما لا مجرى فيه للأسباب الطبيعيّة العاديّة أو لا نظر فيه إليها - أنّ المراد به نوع عطف و انجذاب خاصّ إلهيّ بينه و بين ربّه غير مألوف، و بذلك يسقط التفسير الثاني و الثالث ثمّ تعقّبه بقوله:( زَكاةً ) و الأصل في معناه النموّ الصالح، و هو لا يلائم المعنى الأوّل كثير ملائمة فالمراد به إمّا حنان من الله سبحانه إليه بتولّي أمره و العناية بشأنه و هو ينمو عليه، و إمّا حنان و انجذاب منه إلى ربّه فكان ينمو عليه، و النموّ نموّ الروح.

و من هنا يظهر وهن ما قيل: إنّ المراد بالزكاة البركة و معناها كونه مباركاً نفّاعاً معلّماً للخير، و ما قيل: إنّ المراد به الصدقة، و المعنى و آتيناه الحكم حال كونه صدقة نتصدّق به على الناس أو المعنى أنّه صدقة من الله على أبويه أو المعنى أنّ الحكم المؤتى صدقة من الله عليه و ما قيل: إنّ المراد بالزكاة الطهارة من الذنوب.

قوله تعالى: ( وَ كانَ تَقِيًّا وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا ) التقيّ صفة مشبهة من التقوى مثال واويّ و هو الورع عن محارم الله و التجنّب عن اقتراف المناهي المؤدّي إلى عذاب الله، و البرّ بفتح الباء صفة مشبهة من البرّ بكسر الباء و هو الإحسان، و الجبّار قال في المجمع: الّذي لا يرى لأحد عليه حقّاً و فيه جبريّة و جبروت، و الجبّار من النخل ما فات اليد. انتهى. فيؤل معناه إلى أنّه المستكبر المستعلي الّذي يحمّل الناس ما أراد و لا يتحمّل عنهم، و يؤيّده تعقيبه بالعصيّ فإنّه صفة مشبهة من العصيان و الأصل في معناه الامتناع.

و من هنا يظهر أنّ الجمل الثلاث مسوقة لبيان جوامع أحواله بالنسبة إلى الخالق و المخلوق، فقوله:( وَ كانَ تَقِيًّا ) حاله بالنسبة إلى ربّه، و قوله:( وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ ) حاله بالنسبة إلى والديه، و قوله:( وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا ) حاله بالنسبة إلى سائر الناس، فكان رؤفاً رحيماً بهم ناصحاً متواضعاً لهم يعين ضعفاءهم و يهدي المسترشدين منهم، و به يظهر أيضا أنّ تفسير بعضهم لقوله:( عَصِيًّا ) بقوله: أي عاصيا لربه ليس على ما ينبغي.

١٨

قوله تعالى: ( وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) السلام قريب المعنى من الأمن، و الّذي يظهر من موارد استعمالها في الفرق بينهما أنّ الأمن خلوّ المحلّ ممّا يكرهه الإنسان و يخاف منه و السلام كون المحلّ بحيث كلّ ما يلقاه الإنسان فيه فهو يلائمه من غير أن يكرهه و يخاف منه.

و تنكير السلام لإفادة التفخيم أي سلام فخيم عليه ممّا يكرهه في هذه الأيّام الثلاثة الّتي كلّ واحد منها مفتتح عالم من العوالم الّتي يدخلها الإنسان و يعيش فيها فسلام عليه يوم ولد فلا يمسّه مكروه في الدنيا يزاحم سعادته، و سلام عليه يوم يموت، فسيعيش في البرزخ عيشة نعيمة، و سلام عليه يوم يبعث حيّاً فيحيي فيها بحقيقة الحياة و لا نصب و لا تعب.

و قيل: إنّ تقييد البعث بقوله:( حَيًّا ) للدلالة على أنّه سيقتل شهيداً لقوله تعالى في الشهداء:( بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) آل عمران: ١٦٩.

و اختلاف التعبير في قوله:( وُلِدَ ) ( يَمُوتُ ) ( يُبْعَثُ ) لتمثيل أنّ التسليم في حال حياته (عليه السلام).

( بحث روائي)

في المجمع: و روي عن أميرالمؤمنين (عليه السلام): أنّه قال في دعائه: أسألك يا كهيعص‏.

و في المعاني، بإسناده عن سفيان بن سعيد الثوريّ عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: و كهيعص معناه أنا الكافي الهادي الوليّ العالم الصادق الوعد.

أقول: و روى فيه أيضا ما يقرب منه عن محمّد بن عمارة عنه (عليه السلام). و روى في الدرّ المنثور، عن ابن عبّاس: في قوله: كهيعص قال: كبير هاد أمين عزيز صادق - و في لفظ - كاف بدل كبير، و روى عنه أيضا بطرق اُخر: كريم هاد حكيم عليم صادق و روي عن ابن مسعود و غيره ذلك، و محصّل الروايات - كما ترى - أنّ الحروف المقطّعة مأخوذة من أوائل الأسماء الحسنى على اختلافها كالكاف من الكافي أو الكبير

١٩

أو الكريم و هكذا غير أنّه لا يتمّ في الياء فقد اُخذ في الروايات من الوليّ أو الحكيم أو العزيز كما في بعضها، و روي فيه، عن اُمّ هانئ عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): أنّ معناها كاف هاد عالم صادق‏، و قد اُهمل في الحديث حرف الياء، و قد تقدّم في بيان الآية بعض الإشارة.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) يقول: لم يكن دعائي خائباً عندك.

و في المجمع: في قوله:( وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ ) قيل: هم العمومة و بنو العمّ عن أبي جعفر (عليه السلام)، و قرأ عليّ بن الحسين و محمّد بن عليّ الباقر (عليهم السلام):( وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ ) بفتح الخاء و تشديد الفاء و كسر التاء.

أقول: و به قرأ جمع من الصحابة و التابعين.

و في الإحتجاج، روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه (عليهم السلام): أنّه لمّا أجمع أبوبكر على منع فاطمة فدك و بلغها ذلك جاءت إليه و قالت له: يا بن أبي قحافة أ في كتاب الله أن ترث أباك و لا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً. أ فعلى عمد تركتم كتاب الله و نبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريّا( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) الحديث.

أقول: مضمون الرواية مرويّ بطرق من الشيعة و غيرهم، و استدلالها (عليها السلام) مبنيّ على كون المراد بالوراثة في الآية وراثة المال، و قد تقدّم الكلام في ذلك في بيان الآية، و قد ورد من طرق أهل السنّة بعض ما يدلّ على ذلك‏ ففي الدرّ المنثور، عن عدّة من أصحاب الجوامع عن الحسن أنّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: يرحم الله أخي زكريّا ما كان عليه من ورثة، و يرحم الله أخي لوطاً إن كان يأوي إلى ركن شديد، و روي فيه، أيضاً عن الفاريابي عن ابن عبّاس قال: كان زكريّا لا يولد له فسأل ربّه فقال:( ربّ هب لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) قال: يرثني مالي و يرث من آل يعقوب النبوّة.

و قال في روح المعاني: مذهب أهل السنّة أنّ الأنبياء (عليهم السلام) لا يرثون مالاً

٢٠

و لا يورثون لما صحّ عندهم من الأخبار، و قد جاء أيضاً ذلك من طريق الشيعة فقد روى الكلينيّ في الكافي، عن أبي البختري عن أبي عبدالله جعفر الصادق رضي الله عنه أنّه قال: إنّ العلماء ورثة الأنبياء، و ذلك أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهماً و لا ديناراً و إنّما ورّثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشي‏ء منها فقد أخذ بحظّ وافر، و كلمة إنّما مفيدة للحصر قطعاً باعتراف الشيعة.

و الوراثة في الآية محمولة على ما سمعت، و لا نسلّم كونها حقيقة لغوية في وراثة المال بل هي حقيقة فيما يعمّ وراثة العلم و المنصب و المال، و إنّما صارت لغلبة الاستعمال في عرف الفقهاء مختصّة بالمال كالمنقولات العرفيّة.

و لو سلّمنا أنّها مجاز في ذلك فهو مجاز متعارف مشهور خصوصاً في استعمال القرآن المجيد بحيث يساوي الحقيقة، و من ذلك قوله تعالى:( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ) ، و قوله تعالى:( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ ) و قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) ، و قوله تعالى:( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) ،( وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) .

قولهم: لا داعي إلى الصرف عن الحقيقة. قلنا: الداعي متحقّق و هي صيانة قول المعصوم عن الكذب و دون تأويله خرط القتاد، و الآثار الدالّة على أنّهم يورّثون المال لا يعوّل عليها عند النقّاد.

و زعم البعض أنّه لا يجوز حمل الوراثة هنا على وراثة النبوّة لئلّا يلغو قوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) قد قدّمنا ما يعلم منه ما فيه، و زعم أنّ كسبيّة الشي‏ء تمنع من كونه موروثاً ليس بشي‏ء فقد تعلّقت الوراثة بما ليس بكسبي في كلام الصادق.

و من ذلك أيضاً ما رواه الكلينيّ في الكافي، عن أبي عبدالله رضي الله عنه قال: إنّ سليمان ورث داود، و إنّ محمّداً (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ورث سليمان (عليه السلام) فإنّ وراثة النبيّ سليمان لا يتصوّر أن تكون وراثة غير العلم و النبوّة و نحوهما انتهى.

و للبحث جهة كلاميّة ترجع إلى أمر فدك و هي من قرى خيبر و قد كانت في يد فاطمة بنت رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فانتزعها من يدها الخليفة الأوّل استناداً إلى حديث‏

٢١

رواها عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): أنّ الأنبياء لا يورّثون مالاً و ما تركوه صدقة، و قد طالت المشاجرة فيه بين متكلّمي الشيعة و أهل السنّة و هو نوع بحث خارج عن غرض هذا الكتاب فلا نتعرّض له، و جهة تفسيريّة يهمّنا التعرّض لها لتعلّقها بمدلول قوله تعالى:( وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) .

أمّا قوله: و قد جاء ذلك أيضاً من طريق الشيعة إلخ، فالرواية في ذلك غير منحصرة فيما نقله عن الصادق (عليه السلام) بل روي ما في مضمونها عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أيضاً من طريقهم، و معناه - على ما يسبق إلى ذهن كلّ سامع - أنّ الأنبياء ليس من شأنهم أن يهتمّوا بجمع المال و تركه لمن خلفهم من الورثة و إنّما الّذي من شأنهم أن يتركوا لمن خلفهم الحكمة، و هذا معنى سائغ و استعمال شائع لا سبيل إلى دفعه.

و أمّا قوله: و لا نسلّم كونها حقيقة لغويّة في وراثة المال إلى آخر ما ذكره فليس الكلام في كونه حقيقة لغويّة في شي‏ء أو مجازاً مشهوراً أو غير مشهور و لا إصرار على شي‏ء من ذلك، و إنّما الكلام في أنّ الوراثة سواء كانت حقيقة في وراثة المال مجازاً في مثل العلم و الحكمة أو حقيقة مشتركة بين ما يتعلّق بالمال و ما يتعلّق بمثل العلم و الحكمة تحتاج في إرادة وراثة العلم و الحكمة إلى قرينة صارفة أو معيّنة و سياق الآية و سائر آيات القصّة في سورتي آل عمران و الأنبياء و القرائن الحافّة بها تأبى إرادة وراثة العلم و نحوه من لفظة يرثني فضلاً أن يصرف عنها أو يعيّنها على ما قدّمنا توضيحه في بيان الآية.

نعم لا يصحّ تعلّق الوراثة بالنبوّة على ما يتحصّل من تعليم القرآن أنّها موهبة إلهيّة لا تقبل الانتقال و التحوّل، و لا ريب أنّ الترك و الانتقال مأخوذ في مفهوم الوراثة كوراثة المال و الملك و المنصب و العلم و نحو ذلك و لذا لم يرد استعمال الوراثة في النبوّة و الرسالة في كتاب و لا سنّة.

و أمّا قوله:( قلنا: الداعي متحقّق و هي صيانة قول المعصوم عن الكذب) ففيه

٢٢

اعتراف بأن لا قرينة على إرادة غير المال من لفظة يرثني من جهة سياق الآيات بل الأمر بالعكس و إنّما اضطرّهم إلى الحمل المذكور حفظ ظاهر الحديث لصحّته عندهم و فيه أنّه لا معنى لتوقّف كلامه تعالى في الدلالة الاستعماليّة على قرينة منفصلة و خاصّة من غير كلامه تعالى و خاصّة مع احتفاف الكلام بقرائن مخالفة، و هذا غير تخصيص روايات الأحكام و تقييدها لعمومات آيات الأحكام و مطلقاتها، فإنّ ذلك تصرّف في محصّل المراد من الخطاب لا في دلالة اللفظ بحسب الاستعمال.

على أنّه لا معنى لحجّيّة أخبار الآحاد في غير الأحكام الشرعيّة الّتي ينحصر فيها الجعل التشريعيّ لا سيّما مع مخالفة الكتاب و هذه كلّها اُمور مبيّنة في علم الاُصول.

و أمّا قوله:( قد قدّمنا ما يعلم منه ما فيه) يشير إلى أخذ قوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) تأكيداً لقوله:( وَلِيًّا يَرِثُنِي ) أي في النبوّة أو أخذ قوله:( رَضِيًّا ) ، بمعنى المرضيّ عند الناس دفعاً للغو الكلام و قد قدّمنا في بيان الآية ما يعلم منه ما فيه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنّ زكريّا لمّا دعا ربّه أن يهب له ذكراً فنادته الملائكة بما نادته به أحبّ أن يعلم أنّ ذلك الصوت من الله اُوحى إليه أنّ آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيّام. قال: لمّا أمسك لسانه و لم يتكلّم علم أنّه لا يقدر على ذلك إلّا الله. الحديث.

و في تفسير النعمانيّ، بإسناده عن الصادق (عليه السلام) قال: قال أميرالمؤمنين (عليه السلام) حين سألوه عن معنى الوحي فقال: منه وحي النبوّة و منه وحي الإلهام و منه وحي الإشارة - و ساقه إلى أن قال: و أمّا وحي الإشارة فقوله عزّوجلّ:( فَخَرَجَ عَلى‏ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى‏ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا ) أي أشار إليهم كقوله تعالى:( أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً ) .

و في المجمع: عن معمر قال: إنّ الصبيان قالوا ليحيي: اذهب بنا نلعب قال: ما للعب خلقنا، فأنزل الله تعالى:( وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) و روي ذلك عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام).

٢٣

أقول: و روي في الدرّ المنثور، هذا المعنى عن ابن عساكر عن معاذ بن جبل مرفوعاً، و روي أيضاً ما في معناه عن ابن عبّاس عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم).

و في الكافي، بإسناده عن عليّ بن أسباط قال: رأيت أباجعفر (عليه السلام) و قد خرج إليّ فأجدت النظر إليه و جعلت أنظر إلى رأسه و رجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر فبينا أنا كذلك حتّى قعد فقال: يا عليّ إنّ الله احتجّ في الإمامة بمثل ما احتجّ به في النبوّة فقال:( وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) ( حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) فقد يجوز أن يؤتى الحكمة و هو صبيّ، و يجوز أن يؤتى الحكمة و هو ابن أربعين سنة.

أقول: و في الرواية تفسير الحكم بالحكمة فتؤيّد ما قدّمناه.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و أحمد في الزهد و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن قتادة: في قوله:( وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا ) قال: كان سعيد بن المسيّب يقول: قال النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلّا ذا ذنب إلّا يحيى بن زكريّا. قال قتادة: و قال الحسن: قال النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): ما أذنب يحيى بن زكريّا قطّ و لا همّ بامرأة.

و فيه: أخرج أحمد و الحكيم الترمذيّ في نوادر الاُصول و الحاكم و ابن مردويه عن ابن عبّاس أنّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: ما من أحد من ولد آدم إلّا و قد أخطأ أو همّ بخطيئة إلّا يحيى بن زكريّا لم يهمّ بخطيئة و لم يعملها.

أقول: و هذا المعنى مرويّ من طرق أهل السنّة بألفاظ مختلفة و ينبغي تخصيص الجميع بأهل العصمة من الأنبياء و الأئمّة و إن كانت آبية عنه ظاهراً لكنّ الظاهر أنّ ذلك ناش من سوء تعبير الرواة لابتلائهم بالنقل بالمعنى و توغّلهم فيه. و بالجملة الأخبار في زهد يحيى (عليه السلام) كثيرة فوق الإحصاء، و كان (عليه السلام) - على ما فيها - يأكل العشب و يلبس الليف و بكى من خشية الله حتّى اتّخذت الدموع مجرى في وجهه.

و فيه: أخرج ابن عساكر عن قرّة قال: ما بكت السماء على أحد إلّا على يحيى

٢٤

بن زكريّا و الحسين بن عليّ، و حمرتها بكاؤها.

أقول: و روى هذا المعنى في المجمع، عن الصادق (عليه السلام)، و في آخره: و كان قاتل يحيى ولد زنا و قاتل الحسين ولد زنا.

و فيه، أخرج الحاكم و ابن عساكر عن ابن عباس قال: أوحى الله إلى محمد (صلّي الله عليه وآله وسلّم): إنّي قتلت بيحيى بن زكريّا سبعين ألفاً و إنّي قاتل بابن ابنتك سبعين ألفاً و سبعين ألفاً.

و في الكافي، بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: فما عنى بقوله في يحيى:( وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكاةً ) ؟ قال تحنّن الله. قلت: فما بلغ من تحنّن الله عليه؟ قال: كان إذا قال: يا ربّ قال الله عزّوجلّ: لبّيك يا يحيى. الحديث.

و في عيون الأخبار، بإسناده إلى ياسر الخادم قال: سمعت أباالحسن الرضا (عليه السلام) يقول: إنّ أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاث مواطن: يوم يولد و يخرج من بطن اُمّه فيرى الدنيا، و يوم يموت فيعاين الآخرة و أهلها، و يوم يبعث فيرى أحكاما لم يرها في دار الدنيا.

و قد سلّم الله عزّوجلّ على يحيى في هذه الثلاثة المواطن و آمن روعته فقال:( وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) ، و قد سلّم عيسى بن مريم على نفسه في هذه الثلاثة المواطن فقال:( وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) .

( قصّة زكريّا في القرآن)

وصفه (عليه السلام) : وصفه الله سبحانه في كلامه بالنبوّة و الوحي، و وصفه في أوّل سورة مريم بالعبوديّة، و ذكره في سورة الأنعام في عداد الأنبياء و عدّة من الصالحين ثمّ من المجتبين - و هم المخلصون - و المهديّين.

تاريخ حياته: لم يذكر من أخباره في القرآن إلّا دعاؤه لطلب الولد و

٢٥

استجابته و إعطاؤه يحيى (عليهما السلام)، و ذلك بعد ما رأى من أمر مريم في عبادتها و كرامتها عند الله ما رأى.

فذكر سبحانه أنّ زكريّا تكفّل مريم لفقدها أباها عمران ثمّ لمّا نشأت اعتزلت عن الناس و اشتغلت بالعبادة في محراب لها في المسجد، و كان يدخل عليها زكريّا يتفقّدها( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) .

هنالك دعا زكريّا ربّه و سأله أن يهب له من امرأته ذرّيّة طيّبة و كان هو شيخاً فانياً و امرأته عاقراً فاستجيب له و نادته الملائكة و هو قائم يصلّي في المحراب أنّ الله يبشّرك بغلام اسمه يحيى فسأل ربّه آية لتطمئنّ نفسه أنّ النداء من جانبه سبحانه فقيل له: إنّ آيتك أن يعتقل لسانك فلا تكلّم الناس ثلاثة أيّام إلّا رمزاً و كان كذلك و خرج على قومه من المحراب و أشار إليهم أن سبّحوا بكرة و عشيّا و أصلح الله له زوجه فولدت له يحيى (عليهما السلام) (آل عمران: ٣٧ - ٤١ مريم: ٢ - ١١ الأنبياء: ٨٩ - ٩٠).

و لم يذكر في القرآن مآل أمره (عليه السلام) و كيفيّة ارتحاله لكن وردت أخبار متكاثرة من طرق العامّة و الخاصّة، أنّ قومه قتلوه و ذلك أنّ أعداءه قصدوه بالقتل فهرب منهم و التجأ إلى شجرة فانفرجت له فدخل جوفها ثمّ التأمت فدلّهم الشيطان عليه و أمرهم أن ينشروا الشجرة بالمنشار ففعلوا و قطعوه نصفين فقتل (عليه السلام) عند ذلك.

و قد ورد في بعض الأخبار أنّ السبب في قتله أنّهم اتّهموه في أمر مريم و حبلها بالمسيح و قالوا: هو وحده كان المتردّد إليها الداخل عليها، و قيل غير ذلك.

( قصّة يحيى (عليه السلام) في القرآن)

١- الثناء عليه: ذكره الله في بضعة مواضع من كلامه و أثنى عليه ثناء جميلاً فوصفه بأنّه كان مصدّقاً بكلمة من الله و هو تصديقه بنبوّة المسيح، و أنّه كان سيّداً

٢٦

يسود قومه، و أنّه كان حصوراً لا يأتي النساء، و كان نبيّاً و من الصالحين (سورة آل عمران: ٣٩) و من المجتبين و هم المخلصون - و من المهديّين (الأنعام: ٨٥ ٨٧)، و أنّ الله هو سمّاه بيحيى و لم يجعل له من قبل سميّا، و أمره بأخذ الكتاب بقوّة و آتاه الحكم صبيّاً، و سلّم عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيّا (مريم: ٢ ١٥) و مدح بيت زكريّا بقوله:( إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ ) الأنبياء: ٩٠ و هم يحيى و أبوه و اُمّه.

٢- تاريخ حياته: ولد (عليه السلام) لأبويه على خرق العادة فقد كان أبوه شيخاً فانياً و اُمّه عاقراً فرزقهما الله يحيى و هما آيسان من الولد، و أخذ بالرشد و العبادة و الزهد في صغره و آتاه الله الحكم صبيّا، و قد تجرّد للتنسّك و الزهد و الانقطاع فلم يتزوّج قطّ و لا ألهاه شي‏ء من ملاذّ الدنيا.

و كان معاصراً لعيسى بن مريم (عليه السلام) و صدّق نبوّته، و كان سيّداً في قومه تحنّ إليه القلوب و تميل إليه النفوس و يجتمع إليه الناس فيعظهم و يدعوهم إلى التوبة و يأمرهم بالتقوى حتى استشهد (عليه السلام).

و لم يرد في القرآن مقتله (عليه السلام)، و الذي ورد في الأخبار أنّه كان السبب في قتله أنّ امرأة بغيّاً افتتن بها ملك بني إسرائيل و كان يأتيها فنهاه يحيى و وبّخه على ذلك - و كان مكرماً عند الملك يطيع أمره و يسمع قوله - فأضمرت المرأة عداوته و طلبت من الملك رأس يحيى و ألحّت عليه فأمر به فذبح و اُهدي إليها رأسه.

و في بعض الأخبار أنّ الّتي طلبت منه رأس يحيى كانت ابنة أخي الملك و كان يريد أن يتزوّج بها فنهاه يحيى عن ذلك فزيّنتها اُمها بما يأخذ بمجامع قلب الملك و أرسلتها إليه و لقّنتها إذا منح الملك عليها بسؤال حاجة أن تسأله رأس يحيى ففعلت فذبح (عليه السلام) و وضع رأسه في طست من ذهب و اُهدي إليها.

و في الروايات نوادر كثيرة من زهده و تنسّكه و بكائه من خشية الله و مواعظه و حكمه.

٢٧

٣- قصّة زكريّا و يحيى في الإنجيل: قال(١) : كان في أيّام هيرودُس ملك اليهوديّة كاهن اسمه زكريّا من فرقة أبيّا و امرأته من بنات هارون و اسمها إليصابات و كان كلاهما بارّين أمام الله سالكين في جميع وصايا الربّ و أحكامه بلا لوم. و لم يكن لهما ولد إذ كانت إليصابات عاقراً و كانا كلاهما متقدّمين في أيّامهما.

فبينما هو يكهن في نوبة فرقته أمام الله. حسب عادة الكهنوت، أصابته القرعة أن يدخل إلى هيكل الربّ و يبخّر. و كان كلّ جمهور الشعب يصلّون خارجاً وقت البخور. فظهر له ملاك الربّ واقفا عن يمين مذبح البخور. فلمّا رآه زكريّا اضطرب و وقع عليه خوف. فقال له الملاك لا تخف يا زكريّا لأنّ طلبتك قد سمعت و امرأتك إليصابات ستلد ابنا و تسمّيه يوحنّا. و يكون لك فرج و ابتهاج و كثيرون سيفرحون بولادته. لأنّه يكون عظيماً أمام الربّ و خمراً و مسكراً لا يشرب و من بطن اُمّه يمتلئ من الروح القدس. و يردّ كثيرين من بني إسرائيل إلى الربّ إلههم. و يتقدّم أمامه بروح‏ إيليا و قوّته ليردّ قلوب الآباء إلى الأبناء و العصاة إلى فكر الأبرار لكي يهيّئ للربّ شعباً مستعداً.

فقال زكريّا للملاك كيف أعلم هذا لأنّي أنا شيخ و امرأتي متقدّمة في أيّامها فأجاب الملاك و قال أنا جبريل الواقف قدّام الله و اُرسلت لاُكلّمك و اُبشّرك بهذا و ها أنت تكون صامتاً و لا تقدر أن تتكلّم إلى اليوم الّذي يكون فيه هذا لأنّك لم تصدّق كلامي الّذي سيتمّ في وقته.

و كان الشعب منتظرين زكريّا و متعجّبين من إبطائه في الهيكل. فلمّا خرج لم يستطع أن يكلّمهم ففهموا أنّه قد رأى رؤيا في الهيكل فكان يومئ إليهم و بقي صامتاً و لمّا كملت أيّام خدمته مضى إلى بيته. و بعد تلك الأيّام حبلت إليصابات امرأته و أخفت نفسها خمسة أشهر قائلة: هكذا قد فعل بي الربّ في الأيّام الّتي فيها

____________________

(١) إنجيل لوقا. الإصحاح الأوّل ٥.

٢٨

نظر إليّ لينزع عاري بين الناس.

إلى أن قال: و أمّا إليصابات فتمّ زمانها لتلد فولدت ابنا و سمع جيرانها و أقرباؤها أنّ الربّ عظّم رحمته لها ففرحوا معها. و في اليوم جاؤا ليختنوا الصبيّ و سمّوه باسم أبيه زكريّا فأجابت اُمّه و قالت لا بل يسمّى يوحنّا. فقالوا لها ليس أحد في عشيرتك تسمّى بهذا الاسم. ثمّ أومأوا إلى أبيه ما ذا يريد أن يسمّى. فطلب لوحا و كتب قائلا اسمه يوحنّا فتعجّب الجميع. و في الحال انفتح فمه و لسانه و تكلّم و بارك الله. فوقع خوف على كلّ جيرانهم و تحدّث بهذه الاُمور جميعها في كلّ جبال اليهوديّة. فأودعها جميع السامعين في قلوبهم قائلين أ ترى ما ذا يكون هذا الصبيّ و كانت يد الربّ معه. و امتلأ زكريّا أبوه من الروح القدس و تنبّأ إلخ.

و فيه(١) : و في السنة الخامسة عشرة من سلطنة طيباريوس قيصر إذ كان بيلاطس النبطيّ واليا على اليهوديّة، و هيرودس رئيس رُبع على الجليل، و فيلبّس أخوه رئيس ربع على إيطوريّة و كورة تراخوتينس، و ليسانيوس رئيس ربع على الأبليّة في أيّام رئيس الكهنة حنّان و قيافاً كانت كلمة الله على يوحنّا بن زكريّا في البرّيّة.

فجاء إلى جميع الكورة المحيطة بالاُردن يكرز بمعموديّة التوبة لمغفرة الخطايا. كما هو مكتوب في سفر أقوال أشعيا النبيّ القائل( صوت خارج في البرّيّة أعدّوا طريق الربّ اصنعوا سبله مستقيمة، كلّ واد يمتلئ و كلّ جبل و أكمة ينخفض و تصير المعوّجات مستقيمة و الشعاب طرقاً سهلة و يبصر كلّ بشر خلاص الله.

و كان يقول للجموع الّذين خرجوا ليعمّدوا منه يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة و لا تبتدؤا تقولون في أنفسكم لنا إبراهيم أباً لأنّي أقول لكم إنّ الله قادر على أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً

____________________

(١) إنجيل الإصحاح الثالث ١.

٢٩

لإبراهيم و الآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر فكلّ شجرة لا تصنع ثمراً جيّداً تقطع و تلقى في النار.

و سأله الجموع قائلين فما ذا نفعل. فأجاب و قال لهم من له ثوبان فليعط من ليس له و من له طعام فليفعل هكذا. و جاء عشّارون أيضاً ليعمّدوا فقالوا له يا معلّم ما ذا نفعل فقال لهم لا تستوفوا أكثر ممّا فرض لكم. و سأله جنديون أيضاً قائلين و ما ذا نفعل نحن، فقال لهم لا تظلموا أحداً و لا تشوا بأحد و اكتفوا بعلائقكم.

و إذ كان الشعب ينتظر و الجميع يفكّرون في قلوبهم عن يوحنّا لعلّه المسيح أجاب يوحنّا الجميع قائلاً أنا اُعمّدكم بماء و لكن يأتي من هو أقوى منّي الّذي لست أهلاً أن أحلّ سيور حذائه هو سيعمّدكم بروح القدس و نار الّذي رفشه في يده و سينقّي بيدره و يجمع القمح إلى مخزنة و أمّا التبن فيحرقه بنار لا تطفأ و بأشياء اُخر كثيرة كان يعظ الشعب و يبشّرهم.

أمّا هيرودس رئيس الربع فإذا توبّخ منه لسبب هيروديّا امرأة فيلبّس أخيه و لسبب جميع الشرور الّتي كان هيرودس يفعلها زاد هذا أيضاً على الجميع أنّه حبس يوحنّا في السجن. و لمّا اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضاً.

و فيه: أنّ(١) هيرودس نفسه كان قد أرسل و أمسك يوحنّا و أوثقه في السجن من أجل هيروديّا امرأة فيلبّس أخيه إذ كان قد تزوّج بها. لأنّ يوحنّا كان يقول لهيرودس لا يحلّ أن تكون لك امرأة أخيك. فحنقت هيروديّا عليه و أرادت أن‏ تقتله و لم تقدر. لأنّ هيرودس كان يهاب يوحنّا عالماً أنّه رجل بار و قدّيس و كان يحفظه. و إذ سمعه فعل كثيراً و سمعه بسرور.

و إذ كان يوم موافق لمّا صنع هيرودس في مولده عشاء لعظمائه و قوّاد الاُلوف و وجوه الجليل. دخلت ابنة هيروديّا و رقّصت، فسرّت هيرودس و المتّكئين معه. فقال الملك للصبيّة مهما أردت اطلبي منّي فاُعطيك. و أقسم لها أنّ مهما طلبت منّي

____________________

(١) إنجيل مرقس الإصحاح السادس ١٧ - ٢٩

٣٠

لاُعطينّك حتّى نصف مملكتي. فخرجت و قالت لاُمّها ما ذا أطلب. فقالت رأس يوحنّا المعمدان. فدخلت للوقت بسرعة إلى الملك و طلبت قائلة اُريد أن تعطيني حالا رأس يوحنّا المعمدان على طبق. فحزن الملك جدّاً و لأجل الإقسام و المتّكئين لم يرد أن يردّها.

فللوقت أرسل الملك سيّافا و أمر أن يؤتى برأسه فمضى و قطع رأسه في السجن و أتى برأسه على طبق و أعطاه للصبيّة و الصبيّة أعطته لاُمّها. و لمّا سمع تلاميذه جاؤا و رفعوا جثّته و وضعوها في قبر انتهى.

و ليحيي (عليه السلام) أخبار اُخر متفرّقة في الأناجيل لا تتعدّى حدود ما أوردناه و للمتدبّر الناقد أن يطبّق ما نقلناه من الأناجيل على ما تقدّم حتّى يحصل على موارد الاختلاف.

٣١

( سورة مريم الآيات ١٦ - ٤٠)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ( ١٦ ) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ( ١٧ ) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا ( ١٨ ) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ( ١٩ ) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ( ٢٠ ) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ( ٢١ ) فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ( ٢٢ ) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ( ٢٣ ) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ( ٢٤ ) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ( ٢٥ ) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ( ٢٦ ) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ( ٢٧ ) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ( ٢٨ ) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ( ٢٩ ) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ( ٣٠ ) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ( ٣١ )

٣٢

وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ( ٣٢ ) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ( ٣٣ ) ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ( ٣٤ ) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ٣٥ ) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( ٣٦ ) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ٣٧ ) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَٰكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( ٣٨ ) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( ٣٩ ) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ( ٤٠ )

( بيان)

انتقال من قصّة يحيى إلى قصّة عيسى (عليهما السلام) و بين القصّتين شبها تامّاً فولادتهما على خرق العادة، و قد اُوتي عيسى الرشد و النبوّة و هو صبيّ كيحيى، و قد أخبر أنّه برّ بوالدته و ليس بجبّار شقيّ و أنّ السلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيّاً كما أخبر الله عن يحيى (عليه السلام) بذلك إلى غير ذلك من وجوه الشبه و قد صدّق يحيى بعيسى و آمن به.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا ) المراد بالكتاب القرآن أو السورة فهي جزء من الكتاب و جزء الكتاب كتاب و الاحتمالان من حيث المال واحد فلا كثير جدوى في إصرار بعضهم على تقديم الاحتمال الثاني و تعيينه.

و النبذ - على ما ذكره الراغب - طرح الشي‏ء الحقير الذي لا يعبأ به يقال

٣٣

نبذه إذا طرحه مستحقرا له غير معتن به، و الانتباذ الاعتزال من الناس و الانفراد.

و مريم هي ابنة عمران اُمّ المسيح (عليهما السلام)، و المراد بمريم نبأ مريم و قوله:( إِذِ ) ظرف له، و قوله:( انْتَبَذَتْ ) إلى آخر القصّة تفصيل المظروف الّذي هو نبأ مريم، و المعنى و اذكر يا محمّد في هذا الكتاب نبأ مريم حين اعتزلت من أهلها في مكان شرقيّ، و كأنّه شرقيّ المسجد.

قوله تعالى: ( فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ) الحجاب ما يحجب الشي‏ء و يستره عن غيره، و كأنّها اتّخذت الحجاب من دون أهلها لتنقطع عنهم و تعتكف للعبادة كما يشير إليه قوله:( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ) آل عمران: ٣٧ و قد مرّ الكلام في تفسير الآية.

و قيل: إنّها كانت تقيم المسجد حتّى إذا حاضت خرجت منها و أقامت في بيت زكريّا حتّى إذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مشرفة لها في ناحية الدار و قد ضربت بينها و بين أهلها حجابا لتغتسل إذ دخل عليها جبرائيل في صورة شابّ أمرد سويّ الخلق فاستعاذت بالله منه.

و فيه أنّه لا دليل على هذا التفصيل من جهة اللفظ، و قد عرفت أنّ آية آل عمران لا تخلو من تأييد للمعنى السابق.

و قوله:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ) ظاهر السياق أنّ فاعل( فَتَمَثَّلَ ) ضمير عائد إلى الروح فالروح المرسل إليها هو المتمثّل لها بشراً سويا و معنى تمثّله لها بشراً ترائيه لها، و ظهوره في حاسّتها في صورة البشر و هو في نفسه روح و ليس ببشر.

و إذ لم يكن بشراً و ليس من الجنّ فقد كان ملكاً بمعنى الخلق الثالث الّذي وصفه الله سبحانه في كتابه و سمّاه ملكاً، و قد ذكر سبحانه ملك الوحي في كلامه و سمّاه جبريل بقوله:( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) البقرة: ٩٧ و سمّاه روحاً في قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) النحل: ١٠٢ و قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: ١٩٤ و سمّاه رسولاً في قوله:( إِنَّهُ

٣٤

لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) الحاقة: ٤٠، فبهذا كلّه يتأيّد أنّ الروح الّذي أرسله الله إليها إنّما هو جبريل.

و أمّا قوله:( إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - إلى أن قال -قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) آل عمران: ٤٧.

فتطبيقه على الآيات التي نحن فيها لا يدع ريباً في أنّ قول الملائكة لمريم و محاورتهم معها المذكور هناك هو قول الروح لها المذكور ههنا، و نسبة قول جبريل إلى الملائكة من قبيل نسبة قول الواحد من القوم إلى جماعتهم لاشتراكهم معه في خلق أو سنّة أو عادة، و في القرآن منه شي‏ء كثير كقوله تعالى:( يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ) المنافقون: ٨، و القائل واحد. و قوله:( وَ إِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ) الأنفال: ٣٢، و القائل واحد.

و إضافة الروح إليه تعالى للتشريف مع إشعار بالتعظيم، و قد تقدّم كلام في معنى الروح في تفسير قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) الآية الإسراء: ٨٥.

و من التفسير الرديّ قول بعضهم إنّ المراد بالروح في الآية عيسى (عليه السلام) و ضمير تمثل عائد على جبريل. و هو كما ترى.

و من القراءة الردية قراءة بعضهم( روحنّا) بتشديد النون على أنّ روحنّا اسم الملك الّذي اُرسل إلى مريم، و هو غير جبريل الروح الأمين. و هو أيضاً كما ترى.

( كلام في معنى التمثّل)

كثيراً ما ورد ذكر التمثّل في الروايات، و أمّا في الكتاب فلم يرد ذكره إلّا في قصّة مريم في سورتها قال تعالى:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ) الآية: ١٧ من السورة، و الآيات التالية الّتي يعرّف فيها جبريل نفسه لمريم خير شاهد أنّه

٣٥

كان حال تمثّله لها في صورة بشر باقياً على ملكيّته و لم يصر بذلك بشراً، و إنّما ظهر في صورة بشر و ليس ببشر بل ملك و إنّما كانت مريم تراها في صورة بشر.

فمعنى تمثّله لها كذلك ظهوره لها في صورة بشر و ليس عليها في نفسه بمعنى أنّه كان في ظرف إدراكها على صورة بشر و هو في الخارج عن إدراكها على خلاف ذلك.

و هذا هو الّذي ينطبق على معنى التمثّل اللغويّ فإنّ معنى تمثّل شي‏ء لشي‏ء في صورة كذا هو تصوّره عنده بصورته و هو هو لا صيرورة الشي‏ء شيئاً آخر فتمثّل الملك بشراً هو ظهوره لمن يشاهده في صورة الإنسان لا صيرورة الملك إنساناً، و لو كان التمثّل واقعاً في نفسه و في الخارج عن ظرف الإدراك كان من قبيل صيرورة الشي‏ء شيئاً آخر و انقلابه إليه لا بمعنى ظهوره له كذلك.

و استشكل أمر هذا التمثّل باُمور مذكورة في التفسير الكبير و غيره:

أحدها: أنّ جبريل شخص عظيم الجثّة حسبما نطقت به الأخبار فمتى صار في مقدار جثّة الإنسان فإن تساقطت أجزاؤه الزائدة على مقدار جثّة الإنسان لزم أن لا يبقى جبريل، و إن لم تتساقط لزم تداخلها و هو محال.

الثاني: أنّه لو جاز التمثّل ارتفع الوثوق و امتنع القطع بأنّ هذا الشخص الّذي يرى الآن هو زيد الّذي رئي بالأمس لاحتمال التمثّل.

الثالث: أنّه لو جاز التمثّل بصورة الإنسان جاز التمثّل بصورة غيره كالبعوض و الحشرات و غيرها و معلوم أنّ كلّ مذهب يجرّ إلى ذلك فهو باطل.

الرابع: أنّه لو جاز ذلك ارتفع الوثوق بالخبر المتواتر كخبر مقاتلة النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) يوم بدر لجواز أن يكون المقاتل هو المتمثّل به.

و أجيب عن الأوّل: بأنّه لا يمتنع أن يكون لجبريل أجزاء أصليّة قليلة و أجزاء فاضلة و يتمكّن بالأجزاء من أن يتمثّل بشراً هذا على القول بأنّه جسم و أمّا على القول بكونه روحانيّاً فلا استبعاد في أن يتدرّع تارة بالهيكل العظيم و اُخرى بالهيكل الصغير.

و أنت ترى أنّ أوّل الشقيّن في الجواب كأصل الإشكال مبنيّ على كون

٣٦

التمثّل تغيّراً من المتمثّل في نفسه و بطلان صورته الاُولى و انتقاله إلى صورة اُخرى، و قد تقدّم أنّ التمثّل ظهوره في صورة مّا و هو في نفسه بخلافها.

و الآية بسياقها ظاهرة في أنّ جبريل لم يخرج بالتمثّل عن كونه ملكاً و لا صار بشراً في نفسه و إنّما ظهر لها في صورة البشر فهو كذلك في ظرف إدراكها لا في نفسه و في الخارج عن ظرف إدراكها، و نظير ذلك نزول الملائكة الكرام في قصّة البشارة بإسحاق و تمثّلهم لإبراهيم و لوط (عليهما السلام) في صورة البشر - و نظيره ظهور إبليس في صورة سراقة بن مالك يوم بدر، و قد أشار تعالى إليه في سورة الأنفال الآية ٤٨ و قد كان سراقة يومئذ بمكّة.

و في الروايات من ذلك شي‏ء كثير كتمثّل إبليس يوم الندوة للمشركين في صورة شيخ كبير، و تمثّله يوم العقبة في صورة منبّه بن الحجّاج، و تمثّله ليحيي (عليه السلام) في صورة عجيبة، و نظير تمثّل الدنيا لعليّ (عليه السلام) في صورة مرأة حسناء فتّانة، كما في الرواية، و ما ورد من تمثّل المال و الولد و العمل للإنسان عند الموت، و ما ورد من تمثّل الأعمال للإنسان في القبر و يوم القيامة. و من هذا القبيل التمثّلات المناميّة كتمثّل العدوّ في صورة الكلب أو الحيّة أو العقرب و تمثّل الزوج في صورة النعل و تمثّل العلاء في صورة الفرس و الفخر في صورة التاج إلى غير ذلك.

فالمتمثّل في أغلب هذه الموارد - كما ترى - من المعاني الّتي لا صورة لها في نفسها و لا شكل، و لا يتحقّق فيها تغيّر من صورة إلى صورة و لا من شكل إلى شكل كما عليه بناء الإشكال و الجواب.

و اُجيب عن الثاني: بأنّه مشترك الورود فإنّ من اعترف بالصانع القادر يلزمه ذلك لجواز أن يخلق تعالى مثل زيد مثلاً و بذلك يرتفع الوثوق و يمتنع القطع على حذو ما ذكر في الإشكال، و كذا من لم يعترف بالصانع و أسند الحوادث إلى الأسباب الطبيعيّة أو الأوضاع السماويّة يجوز عنده أن يتحقّق من الأسباب ما يستتبع حدوث مثل زيد مثلاً فيعود الإشكال.

و لعلّه لمّا كان مثل هذه الحوادث نادراً لم يلزم منه قدح في العلوم العاديّة

٣٧

المستندة إلى الإحساس فلا يلزم الشكّ في كون زيد الّذي نشاهده الآن هو زيد الّذي شاهدناه أمس.

و أنت خبير بأنّ هذا الجواب لا يحسم مادّة الإشكال إذ تسليم المغايرة بين الحسّ و المحسوس كرؤية غير زيد في صورة زيد و إن كانت نادرة يبطل العلم الحسّيّ و لا يبقى إلّا أن يدّعى أنّه إنّما يسمّى علماً لأنّ ندرة التخلّف و الخطأ تستوجب غفلة الإنسان عن الالتفات إلى الشكّ فيه و احتمال المغايرة بين الحسّ و المحسوس.

على أنّه إذا جازت المغايرة و هي محتملة التحقّق في كلّ مورد مورد لم يكن لنا سبيل إلى العلم بكونها نادرة فمن أين يعلم أنّ مثل ذلك نادر الوجود؟.

و الحقّ أنّ الإشكال و الجواب فاسدان من أصلهما:

أمّا الإشكال فهو مبنيّ على أنّ الّذي يناله الحسّ هو عين المحسوس الخارجيّ بخارجيّته دون الصورة المأخوذة منه و يتفرّع على ذلك الغفلة عن معنى كون الأحكام الحسّيّة بديهيّة و الغفلة عن أنّ تحميل حكم الحسّ على المحسوس الخارجيّ إنّما هو بالفكر و النظر لا بنفس الحسّ.

فالّذي يناله الحسّ من العين الخارجيّ شي‏ء من كيفيّاته و هيآته يشابهه في الجملة لا نفس الشي‏ء الخارجيّ ثم التجربة و النظر يعرّفان حاله في نفسه و الدليل على ذلك أقسام المغايرة بين الحسّ و المحسوس الخارجي و هي المسمّاة بأغلاط الحسّ كمشاهدة الكبير صغيراً و العالي سافلاً و المستقيم مائلاً و المتحرّك ساكناً و عكس ذلك باختلاف المناظر و كذلك حكم سائر الحواسّ كما نرى الفرد من الإنسان مثلاً مع بعد المسافة أصغر ما يمكن و نحكم بتكرّر الحسّ و بالتجربة أنّه إنسان يماثلنا في عظم الجثّة، و نشاهد الشمس قدر صحفة و هي تدور حول الأرض ثمّ البراهين الرياضيّة تسوقنا إلى أنّها أكبر من الأرض كذا و كذا مرّة و أنّ الأرض هي الّتي تدور حول الشمس.

فتبيّن أنّ المحسوس لنا بالحقيقة هي الصورة الّتي في ظرف حسّنا دون الأمر الخارجيّ بخارجيّته، ثمّ إنّا لا نرتاب في أنّ الّذي أحسسناه و هو في حسّنا قد

٣٨

أحسسناه و هذا معنى بداهة الحسّ، و أما المحسوس و هو الذي في الخارج عنّا و عن حسّنا فالحكم الّذي نحكم به عليه إنّما هو ناشئ عن فكرنا و نظرنا و هذا ما قلناه إنّ الّذي نعتقده من حال الشي‏ء الخارجيّ حكم ناشئ عن الفكر و النظر دون الحسّ هذا. و قد بيّن في العلوم الباحثة عن الحسّ و المحسوس أنّ لجهازات الحواسّ أنواعاً من التصرّف في المحسوس.

ثمّ إنّ من الضروريّ عندنا أنّ في الخارج من إدراكنا سبباً تتأثّر عنه نفوسنا فتدرك ما تدرك، و هذا السبب ربّما كان خارجيّاً كالأجسام الّتي ترتبط بكيفيّاتها و أشكالها بنفوسنا من طريق الحواسّ فندرك بالحسّ صوراً منها ثمّ نحصّل بتجربة أو فكر شيئاً من أمرها في نفسها، و ربّما كان داخليّاً كالخوف الشديد الطارئ على الإنسان فجأة يصوّر له صوراً هائلة مهيبة على حسب ما عنده من الأوهام و الخواطر المؤلمة.

و في جميع هذه الأحوال ربّما أصاب الإنسان في تشخيصه حال المحسوس الخارجيّ و هو الأغلب و ربّما أخطأ كمن يرى سراباً فيقدّر أنّه ماء أو أشباحاً فيحسب أنّها أشخاص.

فقد تبيّن من جميع ما تقدّم أنّ المغايرة بين الحسّ و المحسوس الخارجيّ في نفسه - على كونها ممّا لا بدّ منه في الجملة - لا تستدعي ارتفاع الوثوق و بطلان الاعتماد على الحسّ فإنّ الأمر في ذلك يدور مدار ما حصّله الإنسان من تجربة أو نظر أو غير ذلك و أصدقها ما صدّقته التجربة.

و أمّا وجه فساد الجواب فبناؤه على تسليم ما تسلّمه في الإشكال من نيل الحسّ نفس المحسوس الخارجيّ بعينه، و أنّ العلم بالمحسوس في نفسه مستند إلى الحسّ نفسه مع التخلّف نادراً.

و اُجيب عن الإشكال الثالث بأنّ أصل تجويز تصوّر الملك بصور سائر الحيوان غير الإنسان قائم في الأصل، و إنّما عرف فساده بدلائل السمع.

و فيه أنّه لا دليل من جهة السمع يعتدّ به نعم يرد على أصل الإشكال أنّ المراد

٣٩

بالإمكان إن كان هو الإمكان المقابل للضرورة و الامتناع فمن البيّن أنّ تمثّل الملك بصورة الإنسان لا يستلزم إمكان تمثّله بصورة غيره من الحيوان، و إن كان هو الإمكان بمعنى الاحتمال العقلي فلا محذور في الاحتمال حتّى يقوم الدليل على نفيه أو إثباته.

و اُجيب عن الإشكال الرابع بمثل ما اُجيب به عن الثالث فإنّ احتمال التخلّف قائم في المتواتر لكن دلائل السمع تدفعه. و فيه أنّ نظير الاحتمال قائم في نفس دليل السمع، فإنّ الطريق إليه حاسّة السمع و الجواب الصحيح عن هذا الإشكال هو الّذي أوردناه جواباً عن الإشكال الثاني. و الله أعلم.

فظهر ممّا قدّمناه أنّ التمثّل هو ظهور الشي‏ء للإنسان بصورة يألفها الإنسان و تناسب الغرض الّذي لأجله الظهور كظهور جبريل لمريم في صورة بشر سويّ لما أنّ المعهود عند الإنسان من الرسالة أن يتحمّل إنسان الرسالة ثمّ يأتي المرسل إليه و يلقي إليه ما تحمّله من الرسالة من طريق التكلّم و التخاطب، و كظهور الدنيا لعليّ (عليه السلام) في صورة امرأة حسناء لتغرّها لما أنّ الفتاة الفائقة في جمالها هي في باب الأهواء و اللذائذ النفسانية أقوى سبب يتوسّل به للأخذ بمجامع القلب و الغلبة على العقل إلى غير ذلك من الأمثلة الواردة.

فإن قلت: لازم ذلك القول بالسفسطة فإنّ الإدراك الّذي ليست وراءه حقيقة تطابقه من جميع الجهات ليس إلّا وهماً سرابيّاً و خيالاً باطلاً و رجوعه إلى السفسطة.

قلت: فرق بين أن يكون هناك حقيقة يظهر للمدرك بما يألفه من الصور و تحتمله أدوات إدراكه و بين أن لا يكون هناك إلّا صورة إدراكيّة ليس وراءها شي‏ء، و السفسطة هي الثاني دون الأوّل و توخّي أزيد من ذلك في باب العلم الحصوليّ طمع فيما لا مطمع فيه و تمام الكلام في ذلك موكول إلى محلّه. و الله الهادي.

قوله تعالى: ( قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) ابتدرت إلى تكليمه لما أدهشها حضوره عندها و هي تحسب أنّه بشر هجم عليها لأمر يسوؤها و استعاذت بالرحمن استدرارا للرحمة العامّة الإلهيّة الّتي هي غاية آمال المنقطعين إليه من

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459