الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  0%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 91905
تحميل: 5124


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91905 / تحميل: 5124
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 14

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بكفرهم. الحديث.

أقول: و من عجيب ما اشتمل عليه قصّة إنبات الذهب على شوارب محبّي العجل عن شرب الماء، و حمله قوله تعالى:( وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ) عليه و لفظة( فِي قُلُوبِهِمُ ) نعم الدليل على أنّ المراد بالإشراب حلول حبّه و نفوذه في قلوبهم دون شرب الماء الّذي نسف فيه بعد السحك.

و أعجب منه جمعه بين ذبحه و سحكه و لا يكون ذبح إلّا في حيوان ذي لحم و دم و لا يتيسّر السحك و البرد إلّا في جسد مسبوك من ذهب أو فلزّ آخر.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ عن عليّ قال: إنّ جبريل لمّا نزل فصعد بموسى إلى السماء بصر به السامريّ من بين الناس فقبض قبضة من أثر الفرس و حمل جبريل موسى خلفه حتّى إذا دنا من باب السماء صعد و كتب الله الألواح و هو يسمع صرير الأقلام في الألواح فلمّا أخبره أنّ قومه قد فتنوا من بعده نزل موسى فأخذ العجل فأحرقه.

أقول: و هو يتضمّن ما هو أعجب من سوابقه و هو عروج جبريل بموسى إلى السماء و سياق آيات القصّة في هذه السورة و غيرها لا يساعده، و أعجب منه أخذ التراب من أثر حافر فرس جبريل حين نزل للعروج بموسى و هو في الطور و السامريّ مع بني إسرائيل، و لو صحّ هذا النزول و الصعود فقد كان في آخر الميقات و إضلال السامريّ بني إسرائيل قبل ذلك بأيّام.

و نظير هذا الإشكال وارد على سائر الأخبار الّتي تتضمّن أخذه التربة من تحت حافر فرس جبريل حين تمثّل لفرعون حتّى دخل فرسه البحر فإنّ فرعون و أصحابه إنّما دخلوا البحر بعد خروج بني إسرائيل و معهم السامريّ - لو كان هناك - من البحر على ما لعرض البحر من المسافة فأين كان السامريّ من فرعون؟.

و أعظم ما يرد على هذه الأخبار - كما تقدّمت الإشارة إليه - أوّلاً كونها مخالفة للكتاب حيث أنّ الكتاب ينصّ على كون العجل جسداً غير ذي روح و هي تثبت له جسماً ذا حياة و روح و لا حجّيّة لخبر و إن كان صحيحاً اصطلاحاً مع مخالفة

٢٢١

الكتاب و لو لا ذلك لسقط الكتاب عن الحجيّة مع مخالفة الخبر فيتوقّف حجّيّة الكتاب على موافقة الخبر أو عدم مخالفته مع توقّف حجّيّة الخبر بل نفس قول النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) الّذي يحكيه الخبر بل نبوّة النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) على حجّيّة ظاهر الكتاب و هو دور ظاهر، و تمام البحث في علم الاُصول.

و ثانياً: كونها أخبار آحاد و لا معنى لجعل حجّيّة أخبار الآحاد في غير الأحكام الشرعيّة فإنّ حقيقة الجعل التشريعيّ إيجاب ترتيب أثر الواقع على الحجّة الظاهريّة و هو متوقّف على وجود أثر عمليّ للحجّة كما في الأحكام، و أمّا غيرها فلا أثر فيه حتّى يترتّب على جعل الحجّيّة مثلا إذا وردت الرواية بكون البسملة جزء من السورة كان معنى جعل حجّيّتها وجوب الإتيان بالبسملة في القراءة في الصلاة و أمّا إذا ورد مثلاً أنّ السامريّ كان رجلاً من كرمان و هو خبر واحد ظنّيّ كان معنى جعل حجّيّته أن يجعل الظنّ بمضمونه قطعاً و هو حكم تكوينيّ ممتنع و ليس من التشريع في شي‏ء و تمام الكلام في علم الاُصول.

و قد أورد بعض من لا يرتضي تفسير الجمهور للآية بمضمون هذه الأخبار عليها إيرادات اُخر رديّة و أجاب عنها بعض المنتصرين لهم بوجوه هي أردئ منها.

و قد أيّد بعضهم التفسير المذكور بأنّه تفسير بالمأثور من خير القرون - القرن الأوّل قرن الصحابة و التابعين - و ليس ممّا يقال فيه بالرأي فهو في حكم الخبر المرفوع و العدول عنه ضلال.

و فيه أوّلاً: أنّ كون قرن مّا خير القرون لا يوجب حجّيّة كلّ قول انتهى إليه و لا ملازمة بين خيريّة القرن و بين كون كلّ قول فيه حقّاً صدقاً و كلّ رأي فيه صواباً و كلّ عمل فيه صالحاً، و يوجد في الأخبار المأثورة عنهم كمّيّة وافرة من الأقوال المتناقضة و الروايات المتدافعة و صريح العقل يقضي ببطلان أحد المتناقضين و كذب أحد المتدافعين، و يوجب على الباحث الناقد أن يطالبهم الحجّة على قولهم كما يطالب غيرهم و لهم فضلهم فيما فضّلوا.

و ثانياً: أنّ كون المورد الّذي ورد عنهم الأثر فيه ممّا لا يقال فيه بالرأي كجزئيّات القصص مثلاً مقتضيّاً لكون أثرهم في حكم الخبر المرفوع إنّما ينفع إذا كانوا منتهين

٢٢٢

في رواياتهم إلى النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) لكنّا نجدهم حتّى الصحابة كثيراً مّا يروون من الروايات ما ينتهي إلى اليهود و غيرهم كما لا يرتاب فيه من راجع الأخبار المأثورة في قصص ذي القرنين و جنّة إرم و قصّة موسى و الخضر و العمالقة و معجزات موسى و ما ورد في عثرات الأنبياء و غير ذلك ممّا لا يعدّ و لا يحصى فكونها في حكم المرفوعة لا يستلزم رفعها إلى النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم).

و ثالثاً: سلّمنا كونها في حكم المرفوعة لكنّ المرفوعة منها و حتّى الصحيحة في غير الأحكام لا حجّيّة فيها و خاصّة ما كان مخالفاً للكتاب منها كما تقدّم.

و في المحاسن، بإسناده عن الوصّافيّ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إنّ فيما ناجى الله به موسى أن قال: يا ربّ هذا السامريّ صنع العجل، الخوار من صنعه؟ فأوحى الله تبارك و تعالى إليه: إنّ تلك فتنتي فلا تفحص عنها.

أقول: و هذا المعنى وارد في مختلف الروايات بألفاظ مختلفة، و عمدة الوجه في ذلك شيوع النقل بالمعنى و خاصّة في النبويّات من جهة منعهم كتابة الحديث في القرن الأوّل الهجريّ حتّى ضربه بعض الرواة في قالب الجبر و ليس به فإنّه إضلال مجازاة و ليس بإضلال ابتدائيّ. و قد نسب هذا النوع من الإضلال في كتابه إلى نفسه كثيراً كما قال:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦.

و أحسن تعبير عن معنى هذا الإضلال في الروايات‏ ما تقدّم في رواية القمّيّ:( فقال يعني موسى: يا ربّ العجل من السامريّ فالخوار ممّن؟ فقال: منّي يا موسى إنّي لمّا رأيتهم قد ولّوا عنّي إلى العجل أحببت أن أزيدهم فتنة) .

و ما وقع في رواية راشد بن سعد المنقولة في الدرّ المنثور و فيه( قال: يا ربّ فمن جعل فيه الروح؟ قال: أنا، قال: فأنت يا ربّ أضللتهم! قال: يا موسى يا رأس النبيّين و يا أبا الحكّام، إنّي رأيت ذلك في قلوبهم فيسّرته لهم) . الحديث.

و في المجمع، قال الصادق (عليه السلام): إنّ موسى همّ بقتل السامريّ فأوحى الله سبحانه إليه: لا تقتله يا موسى فإنّه سخيّ.

٢٢٣

( سورة طه الآيات ٩٩ - ١١٤)

كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا ( ٩٩ ) مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ( ١٠٠ ) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا ( ١٠١ ) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ( ١٠٢ ) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا ( ١٠٣ ) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ( ١٠٤ ) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ( ١٠٥ ) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ( ١٠٦ ) لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ( ١٠٧ ) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ( ١٠٨ ) يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ( ١٠٩ ) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ( ١١٠ ) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ( ١١١ ) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ( ١١٢ ) وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ( ١١٣ ) فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ( ١١٤ )

٢٢٤

( بيان)

تذييل لقصّة موسى بآيات متضمّنة للوعيد يذكر فيها من أهوال يوم القيامة لغرض الإنذار.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَ قَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً ) الظاهر أنّ الإشارة إلى خصوصيّة قصّة موسى و المراد بما قد سبق الاُمور و الحوادث الماضية و الاُمم الخالية أي على هذا النحو قصصنا قصّة موسى و على شاكلته نقصّ عليك من أخبار ما قد مضى من الحوادث و الاُمم.

و قوله:( وَ قَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً ) المراد به القرآن الكريم أو ما يشتمل عليه من المعارف المتنوّعة الّتي يذكر بها الله سبحانه من حقائق و قصص و عبر و أخلاق و شرائع و غير ذلك.

قوله تعالى: ( مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً ) ضمير( عَنْهُ ) للذكر و الوزر الثقل و الإثم و الظاهر بقرينة الحمل إرادة المعنى الأوّل و تنكيره للدلالة على عظم خطره، و المعنى: من أعرض عن الذكر فإنّه يحمل يوم القيامة ثقلاً عظيم الخطر و مرّ الأثر، شبّه الإثم من حيث قيامه بالإنسان بالثقل الّذي يحمله الإنسان و هو شاقّ عليه فاستعير له اسمه.

قوله تعالى: ( خالِدِينَ فِيهِ وَ ساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا ) المراد من خلودهم في الوزر خلودهم في جزائه و هو العذاب بنحو الكناية و التعبير في( خالِدِينَ ) بالجمع باعتبار معنى قوله:( مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ ) كما أنّ التعبير في( أَعْرَضَ ) و( فَإِنَّهُ يَحْمِلُ ) باعتبار لفظه، فالآية كقوله:( وَ مَنْ يَعْصِ اللهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ) الجن: ٢٣.

و مع الغضّ عن الجهات اللّفظيّة فقوله:( مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ ) من أوضح الآيات دلالة على أنّ الإنسان إنّما يعذّب بعمله و يخلد فيه و هو تجسّم الأعمال.

٢٢٥

و قوله:( وَ ساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا ) ساء من أفعال الذمّ كبئس، و المعنى: و بئس الحمل حملهم يوم القيامة، و الحمل بكسر الحاء و فتحها واحد، غير أنّ ما بالكسر هو المحمول في الظاهر كالمحمول على الظهر و ما بالفتح هو المحمول في الباطن كالولد في البطن.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً ) ( يَوْمَ يُنْفَخُ ) إلخ، بدل من يوم القيامة في الآية السابقة، و نفخ في الصور كناية عن الإحضار و الدعوة و لذا أتبعه فيما سيأتي بقوله:( يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ) الآية: ١٠٨ من السورة.

و الزرق جمع أزرق من الزرقة و هي اللون الخاصّ، و عن الفرّاء أنّ المراد بكونهم زرقاً كونهم عمياً لأنّ العين إذا ذهب نورها أزرق ناظرها و هو معنى حسن و يؤيّده قوله تعالى:( وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى‏ وُجُوهِهِمْ عُمْياً ) الإسراء: ٩٧.

و قيل: المراد زرقة أبدانهم من التعب و العطش، و قيل: زرقة عيونهم لأنّ أسوء ألوان العين و أبغضها عند العرب زرقتها، و قيل: المراد به كونهم عطاشا لأنّ العطش الشديد يغيّر سواد العين و يريها كالأزرق و هي وجوه غير مرضيّة.

قوله تعالى: ( يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً - إلى قوله -إِلَّا يَوْماً ) التخافت تكليم القوم بعضهم بعضاً بخفض الصوت و ذلك من أهل المحشر لهول المطّلع، و قوله:( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً ) بيان لكلامهم الّذي يتخافتون فيه، و معنى الجملة على ما يعطيه السياق: يقولون ما لبثتم في الدنيا قبل الحشر إلّا عشرة أيّام، يستقلّون لبثهم فيها بقياسه إلى ما يلوح لهم من حكم الخلود و الأبديّة.

و قوله:( نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً ) أي لنا إحاطة علميّة بجميع ما يقولون في تقرير لبثهم إذ يقول أمثلهم طريقة أي الأقرب منهم إلى الصدق إن لبثتم في الأرض إلّا يوماً و إنّما كان قائل هذا القول أمثل القوم طريقة و أقربها إلى الصدق لأنّ اللبث المحدود الأرضيّ لا مقدار له إذا قيس من اللبث الأبديّ الخالد، و عدّه يوماً و هو أقلّ من العشرة أقرب إلى الواقع من

٢٢٦

عدّه عشرة، و القول مع ذلك نسبيّ غير حقيقيّ و حقيقة القول فيه ما حكاه سبحانه في قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى‏ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) الروم: ٥٦، و سيجي‏ء استيفاء البحث في معنى هذا اللبث في تفسير الآية إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ - إلى قوله -وَ لا أَمْتاً ) تدلّ الآية على أنّهم سألوه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) عن حال الجبال يوم القيامة فاُجيب عنه بالآيات.

و قوله:( فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ) أي يذرؤها و يثيرها فلا يبقى منها في مستقرّها شي‏ء، و قوله:( فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً ) القاع الأرض المستوية و الصفصف الأرض المستوية الملساء، و المعنى فيتركها أرضاً مستوية ملساء لا شي‏ء عليها، و كأنّ الضمير للأرض باعتبار أنّها كانت جبالاً، و قوله:( لا تَرى‏ فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً ) قيل: العوج ما انخفض من الأرض و الأمت ما ارتفع منها، و الخطاب للنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و المراد كلّ من له أن يرى و المعنى لا يرى راء فيها منخفضاً كالأودية و لا مرتفعاً كالروابي و التلال.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً ) نفي العوج إن كان متعلّقاً بالاتّباع - بأن يكون( لا عِوَجَ لَهُ ) حالاً عن ضمير الجمع و عامله يتّبعون - فمعناه أن ليس لهم إذا دعوا إلّا الاتّباع محضاً من غير أيّ توقّف أو استنكاف أو تثبّط أو مساهلة فيه لأنّ ذلك كلّه فرع القدرة و الاستطاعة أو توهّم الإنسان ذلك لنفسه و هم يعاينون اليوم أنّ الملك و القدرة لله سبحانه لا شريك له قال تعالى:( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن: ١٦، و قال:( وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) البقرة: ١٦٥.

و إن كان متعلّقاً بالداعي كان معناه أنّ الداعي لا يدع أحداً إلّا دعاه من غير أن يهمل أحداً بسهو أو نسيان أو مساهلة في الدعوة.

لكن تعقيب الجملة بقوله:( وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ ) إلخ يناسب المعنى الأوّل فإنّ ارتفاع الأصوات عند الدعوة و الإحضار إنّما يكون للتمرّد و الاستكبار

٢٢٧

عن الطاعة و الاتّباع.

و قوله:( وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً ) قال الراغب: الهمس الصوت الخفيّ و همس الأقدام أخفى ما يكون من صوتها قال تعالى:( فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً ) . انتهى. و الخطاب في قوله:( فَلا تَسْمَعُ ) للنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و المراد كلّ سامع يسمع و المعنى و انخفضت الأصوات لاستغراقهم في المذلّة و المسكنة لله فلا يسمع السامع إلّا صوتاً خفيّاً.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا ) نفي نفع الشفاعة كناية عن أنّ القضاء بالعدل و الحكم الفصل على حسب الوعد و الوعيد الإلهيّين جار نافذ يومئذ من غير أن يسقط جرم مجرم أو يغمض عن معصية عاص لمانع يمنع منه فمعنى نفع الشفاعة تأثيرها.

و قوله:( إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا ) الاستثناء يدلّ على أنّ العناية في الكلام متعلّقة بنفي الشفعاء لا بتأثير الشفاعة في المشفوع لهم و المراد الإذن في الكلام للشفاعة كما يبيّنه قوله بعده:( وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا ) فإنّ التكلّم يومئذ منوط بإذنه تعالى، قال:( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) هود: ١٠٥ و قال:( لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً ) النبأ: ٣٨. و قد مرّ القول في معنى الإذن في التكلّم في تفسير سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب.

و أمّا كون القول مرضيّاً فمعناه أن لا يخالطه ما يسخط الله من خطإ أو خطيئة قضاء لحقّ الإطلاق و لا يكون ذلك إلّا ممّن أخلص الله سريرته من الخطإ في الاعتقاد و الخطيئة في العمل و طهّر نفسه من رجس الشرك و الجهل في الدنيا أو من ألحقه بهم فإنّ البلاء و الابتلاء اليوم مع السرائر قال تعالى:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) و للبحث ذيل طويل سيمرّ بك بعضه إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) إن كان ضمائر الجمع في الآية راجعة إلى( مَنْ أَذِنَ لَهُ ) باعتبار معناه كان المراد أنّ مرضيّ قولهم لا يخفى على الله فإنّ علمه محيط بهم و هم لا يحيطون به علماً فليس في وسعهم أن يغرّوه

٢٢٨

بقول مزوّق غير مرضيّ.

و إن كانت راجعة إلى المجرمين فالآية تصف علمه تعالى بهم في موقف الجزاء و هو ما بين أيديهم و قبل أن يحضروا الموقف في الدنيا حيّاً أو ميّتاً و هو ما خلفهم فهم محاطون لعلمه و لا يحيطون به علماً فيجزيهم بما فعلوا و قد عنت وجوههم للحيّ القيّوم فلا يستطيعون ردّاً لحكمه و عند ذلك خيبتهم. و هذا الاحتمال أنسب لسياق الآيات.

قوله تعالى: ( وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) العنوة هي الذلّة قبال قهر القاهر و هي شأن كلّ شي‏ء دون الله سبحانه يوم القيامة بظهور السلطنة الإلهيّة كما قال:( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن: ١٦، فلا يملك شي‏ء شيئاً بحقيقة معنى الكلمة و هو الذلّة و المسكنة على الإطلاق و إنّما نسبت العنوة إلى الوجوه لأنّها أوّل ما تبدو و تظهر في الوجوه، و لازم هذه العنوة أن لا يمنع حكمه و لا نفوذه فيهم مانع و لا يحول بينه و بين ما أراد بهم حائل.

و اختير من أسمائه الحيّ القيّوم لأنّ مورد الكلام الأموات اُحيوا ثانياً و قد تقطّعت عنهم الأسباب اليوم و المناسب لهذا الظرف من صفاته حياته المطلقة و قيامه بكلّ أمر.

قوله تعالى: ( وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَ لا هَضْماً ) بيان لجزائهم أمّا قوله:( وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ) فالمراد بهم المجرمون غير المؤمنين فلهم الخيبة بسوء الجزاء لا كلّ من حمل ظلماً مّا أيّ ظلم كان من مؤمن أو كافر فإنّ المؤمن لا يخيب يومئذ بالشفاعة.

و لو كان المراد العموم و أنّ كلّ من حمل ظلماً مّا فهو خائب فالمراد بالخيبة الخيبة من السعادة الّتي يضادّها ذلك الظلم دون الخيبة من السعادة مطلقاً.

و أمّا قوله:( وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ) إلخ فهو بيان استطراديّ لحال المؤمنين الصلحاء جي‏ء به لاستيفاء الأقسام و تتميم القول في الفريقين الصلحاء و المجرمين، و قد قيّد العمل الصالح بالإيمان لأنّ الكفر يحبط العمل الصالح بمقتضى

٢٢٩

آيات الحبط، و الهضم هو النقص، و معنى الآية ظاهر.

و قد تمّ باختتام هذه الآية بيان إجمال ما يجري عليهم يوم الجزاء من حين يبعثون إلى أن يجزوا بأعمالهم فقد ذكر إحضارهم بقوله:( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) أوّلاً ثمّ حشرهم و قرب ذلك منهم حتّى أنّه يرى أمثلهم طريقة أنّهم لبثوا في الأرض يوماً واحداً بقوله:( يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ ) إلخ ثانياً. ثمّ تسطيح الأرض لاجتماعهم عليها بقوله:( وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ ) إلخ، ثالثاً. ثم طاعتهم و اتّباعهم الداعي للحضور بقوله:( يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ) إلخ، رابعاً. ثمّ عدم تأثير الشفاعة لإسقاط الجزاء بقوله:( يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ ) إلخ خامساً. ثمّ إحاطة علمهم بحالهم من غير عكس و هي مقدّمة للحساب و الجزاء بقوله:( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ ) إلخ سادساً. ثمّ سلطانه عليهم و ذلّتهم عنده و نفوذ حكمه فيهم بقوله:( وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) سابعاً. ثمّ الجزاء بقوله:( وَ قَدْ خابَ ) إلخ ثامناً، و بهذا يظهر وجه ترتّب الآيات و ذكر ما ذكر فيها.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ) ظاهر سياقها أنّ الإشارة بكذلك إلى خصوصيّات بيان الآيات، و( قُرْآناً عَرَبِيًّا ) حال من الضمير في( أَنْزَلْناهُ ) و التصريف، هو التحويل من حال إلى حال، و المعنى و على ذلك النحو من البيان المعجز أنزلنا الكتاب و الحال أنّه قرآن مقروّ عربيّ و أتينا فيه ببعض ما أوعدناهم في صورة بعد صورة.

و قوله:( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ) قد أورد فيما تقدّم من قوله:( لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) الذكر مقابلاً للخشية و يستأنس منه أنّ المراد بالاتّقاء ههنا هو التحرّز من المعاداة و اللجاج الّذي هو لازم الخشية باحتمال الضرر دون الاتّقاء المترتّب على الإيمان بإتيان الطاعات و اجتناب المعاصي، و يكون المراد بإحداث الذكر لهم حصول التذكّر فيهم و تتمّ المقابلة بين الذكر و التقوى من غير تكلّف.

و المعنى - و الله أعلم - لعلّهم يتحرّزون المعاداة مع الحقّ لحصول الخشية في قلوبهم باحتمال الخطر لاحتمال كونه حقّاً أو يحدث لهم ذكراً للحقّ فيعتقدوا به.

٢٣٠

قوله تعالى: ( فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ) تسبيح و تنزيه له عن كلّ ما لا يليق بساحة قدسه، و هو يقبل التفرّع على إنزال القرآن و تصريف الوعيد فيه لهداية الناس و التفرّع عليه و على ما ذكر قبله من حديث الحشر و الجزاء و هذا هو الأنسب نظراً إلى انسلاك الجميع في سلك واحد و هو أنّه تعالى ملك يتصرّف في ملكه بهداية الناس إلى ما فيه صلاح أمرهم ثمّ إحضارهم و جزائهم على ما عملوا من خير أو شرّ.

فتعالى الله الّذي يملك كلّ شي‏ء ملكاً مطلقاً لا مانع من تصرّفه و لا معقّب لحكمه يرسل الرسل و ينزل الكتب لهداية الناس و هو من شؤون ملكه ثمّ يبعثهم بعد موتهم و يحضرهم فيجزيهم على ما عملوا و قد عنوا للحيّ القيّوم و هذا أيضاً من شؤون ملكه فهو الملك في الاُولى و الآخرة و هو الحقّ الثابت على ما كان لا يزول عمّا هو عليه.

و يمكن أن يتفرّع على جميع ما تقدّم من قصّة موسى و ما فرّع عليها إلى هنا و يكون بمنزلة ختم ذلك بالتسبيح و الاستعظام.

قوله تعالى: ( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) السياق يشهد بأنّ في الكلام تعرّضاً لتلقّي النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وحي القرآن، فضمير( وَحْيُهُ ) للقرآن، و قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ) نهي عن العجل بقراءته، و معنى قوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) من قبل أن يتمّ وحيه من ملك الوحي.

فيفيد أنّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) كان إذا جاءه الوحي بالقرآن يعجّل بقراءة ما يوحى إليه قبل أن يتمّ الوحي فنهى عن أن يعجل في قراءته قبل انقضاء الوحي و تمامه فيكون الآية في معنى قوله تعالى في موضع آخر:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) القيامة: ١٨.

و يؤيّد هذا المعنى قوله بعد:( وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) فإنّ سياق قوله: لا تعجل به و قل ربّ زدني، يفيد أنّ المراد هو الاستبدال أي بدّل الاستعجال في قراءة ما لم ينزل بعد، طلبك زيادة العلم و يؤول المعنى إلى أنّك تعجل بقراءة ما لم

٢٣١

ينزل بعد لأنّ عندك علماً به في الجملة لكن لا تكتف به و اطلب من الله علماً جديداً بالصبر و استماع بقيّة الوحي.

و هذه الآية ممّا يؤيّد ما ورد من الروايات أنّ للقرآن نزولاً دفعة واحدة غير نزوله نجوماً على النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فلو لا علم مّا منه بالقرآن قبل ذلك لم يكن لعجله بقراءة ما لم ينزل منه بعد معنى.

و قيل: المراد بالآية و لا تعجل بقراءة القرآن لأصحابك و إملائه عليهم من قبل أن يتبيّن لك معانيه، و أنت خبير بأنّ لفظ الآية لا تعلّق له بهذا المعنى.

و قيل: المراد و لا تسأل إنزال القرآن قبل أن يقضي الله وحيه إليك، و هو كسابقه غير منطبق على لفظ الآية.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً ) قال: أعلمهم و أصلحهم يقولون:( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً ) .

و في المجمع قيل: إنّ رجلاً من ثقيف سأل النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): كيف تكون الجبال مع عظمها يوم القيامة؟ فقال: إنّ الله يسوقها بأن يجعلها كالرمال ثمّ يرسل عليها الرياح فتفرّقها.

أقول: و روى هذا المعنى في الدرّ المنثور، عن ابن المنذر عن ابن جريح و لفظه: قالت قريش: يا محمّد كيف يفعل ربّك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت:( وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ ) الآية

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( لا تَرى‏ فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً ) قال: الأمت: الارتفاع، و العوج: الحزون و الذكوات.

و فيه في قوله تعالى:( يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ) قال: مناد من عند الله عزّوجلّ.

و فيه في قوله تعالى:( وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً ) حدّثني

٢٣٢

أبي عن الحسن بن محبوب عن أبي محمّد الوابشيّ عن أبي الورد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الناس في صعيد واحد حفاة عراة فيوقفون في المحشر حتّى يعرقوا عرقاً شديداً و تشتدّ أنفاسهم فيمكثون في ذلك مقدار خمسين عامّاً و هو قول الله:( وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً ) الحديث.

و في الكافي، أحمد بن إدريس عن محمّد بن عبد الجبّار عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرّة المحدّث أن اُدخله إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه فسأله عن الحلال و الحرام و الأحكام حتّى بلغ سؤاله إلى التوحيد.

فقال أبو قرّة: إنّا روينا أنّ الله قسّم الرؤية و الكلام بين نبيّين فقسم الكلام لموسى و لمحمّد الرؤية، فقال أبوالحسن (عليه السلام): فمن المبلّغ عن الله إلى الثقلين من الجنّ و الإنس( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) ( وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) ( و لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) ؟ أ ليس محمّد؟ قال بلى. قال: كيف يجي‏ء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند الله و أنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول:( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) ( وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) و( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) ثمّ يقول: أنا رأيته بعيني و أحطت به علماً و هو على صورة البشر؟ أ ما تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشي‏ء ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر، إلى قوله: و قد قال الله:( وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم و وقعت المعرفة.

فقال أبو قرّة: فتكذّب بالروايات؟ فقال أبوالحسن (عليه السلام) إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذّبتها، و ما أجمع المسلمون عليه أنّه لا يحاط به علماً و لا تدركه الأبصار و ليس كمثله شي‏ء.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ) الآية، قال: كان رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) إذا نزل عليه القرآن بادر بقراءته قبل تمام نزول الآية، و المعنى: فأنزل الله( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) أي يفرغ من قراءته( وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) .

أقول: و روى هذا المعنى في الدرّ المنثور، عن ابن أبي حاتم عن السدّيّ: إلّا

٢٣٣

أنّ فيه أنّه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) كان يفعل ذلك خوفاً من النسيان‏ و أنت تعلم أنّ نسيان الوحي لا يلائم عصمة النبوّة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن الحسن قال: لطم رجل امرأته فجاءت إلى النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) تطلب قصاصاً، فجعل النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بينهما القصاص، فأنزل الله( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) ، فوقف النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) حتّى نزلت( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) الآية.

أقول: و الحديث لا يخلو من شي‏ء فلا الآية الاُولى بمضمونها تنطبق على المورد و لا الثانية، و قد سبق البحث عن كليهما.

و في المجمع، روت عائشة عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: إذا أتى عليّ يوم لا أزداد فيه علما يقرّبني إلى الله فلا بارك الله لي في طلوع شمسه.

أقول: و الحديث لا يخلو من شي‏ء و كيف يظنّ بالنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أن يدعو على نفسه في أمر ليس إليه، و لعلّ في الرواية تحريفاً من جهة النقل بالمعنى.

٢٣٤

( سورة طه الآيات ١١٥ - ١٢٦)

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ( ١١٥ ) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ ( ١١٦ ) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ ( ١١٧ ) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ ( ١١٨ ) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ ( ١١٩ ) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ ( ١٢٠ ) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ( ١٢١ ) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ ( ١٢٢ ) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ ( ١٢٣ ) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ( ١٢٤ ) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ( ١٢٥ ) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ ( ١٢٦ )

( بيان)

قصّة دخول آدم و زوجه الجنّة و خروجهما منها بوسوسة من الشيطان و قضائه تعالى عند ذلك بتشريع الدين و سعادة من اتّبع الهدى و شقاء من أعرض

٢٣٥

عن ذكر الله.

و قد وردت القصّة في هذه السورة بأوجز لفظ و أجمل بيان، و عمدة العناية فيها - كما يشهد به تفصيل ذيلها - متعلّقة ببيان ما حكم به من تشريع الدين و الجزاء بالثواب و العقاب، و يؤيّده أيضاً التفريع بعدها بقوله:( وَ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ ) إلخ، نعم للقصّة تعلّق ما أيضاً من جهة ذكرها توبة آدم بقوله فيما تقدّم:( وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) .

و القصّة - كما يظهر من سياقها في هذه السورة و غيرها ممّا ذكرت فيها كالبقرة و الأعراف - تمثّل حال الإنسان بحسب طبعه الأرضيّ المادّيّ فقد خلقه الله سبحانه في أحسن تقويم و غمّره في نعمه الّتي لا تحصى و أسكنه جنّة الاعتدال و منعه عن تعدّيه بالخروج إلى جانب الإسراف باتّباع الهوى و التعلّق بسراب الدنيا و نسيان جانب الربّ تعالى بترك عهده إليه و عصيانه و اتّباع وسوسة الشيطان الّذي يزيّن له الدنيا و يصوّر له و يخيّل إليه أنّه لو تعلّق بها و نسي ربّه اكتسب بذلك سلطاناً على الأسباب الكونيّة يستخدمها و يستذلّ بها كلّ ما يتمنّاه من لذائذ الحياة و أنّها باقية له و هو باق لها، حتّى إذا تعلّق بها و نسي مقام ربّه ظهرت له سوآت الحياة و لاحت له مساوئ الشقاء بنزول النوازل و خيانة الدهر و نكول الأسباب و تولّي الشيطان عنه فطفق يخصف عليه من ظواهر النعم يستدرك بموجود نعمة مفقود اُخرى و يميل من عذاب إلى ما هو أشدّ منه و يعالج الداء المؤلم بآخر أكثر منه ألما حتّى يؤمر بالخروج من جنّة النعمة و الكرامة إلى مهبط الشقاء و الخيبة.

فهذه هي الّتي مثّلت لآدم (عليه السلام) إذ أدخله الله الجنّة و ضرب له بالكرامة حتّى آل أمره إلى ما آل إلّا أنّ واقعته (عليه السلام) كانت قبل تشريع أصل الدين و جنّته جنّة برزخيّة ممثّلة في عيشة غير دنيويّة فكان النهي لذلك إرشاديّاً لا مولويّاً و مخالفته مؤدّية إلى أمر قهريّ ليس بجزاء تشريعيّ كما تقدّم تفصيله في تفسير سورتي البقرة و الأعراف.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى‏ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) المراد

٢٣٦

بالعهد الوصيّة و بهذا المعنى يطلق على الفرامين و الدساتير العهود، و النسيان معروف و ربّما يكنّى به عن الترك لأنّه لازمه إذ الشي‏ء إذا نسي ترك، و العزم القصد الجازم إلى الشي‏ء قال تعالى:( فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) آل عمران: ١٥٩ و ربّما اُطلق على الصبر و لعلّه لكون الصبر أمراً شاقّاً على النفوس فيحتاج إلى قصد أرسخ و أثبت فسمّي الصبر باسم لازمه قال تعالى:( إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) .

فالمعنى و اُقسم لقد وصّينا آدم من قبل فترك الوصيّة و لم نجد له قصداً جازماً إلى حفظها أو صبراً عليها و العهد المذكور - على ما يظهر من قصّته (عليه السلام) في مواضع من كلامه تعالى - هو النهي عن أكل الشجرة، بمثل قوله:( لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ ) . الأعراف: ١٩.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) معطوف على مقدّر و التقدير اذكر عهدنا إليه و اذكر وقتاً أمرنا الملائكة بالسجود له فسجدوا إلّا إبليس حتّى يظهر أنّه نسي و لم يعزم على حفظ الوصيّة، و قوله:( أَبى) جواب سؤال مقدّر تقديره ما ذا فعل إبليس؟ فقيل: أبى.

قوله تعالى: ( فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى‏ ) تفريع على إباء إبليس عن السجدة أي فلمّا أبى قلنا إرشاداً لآدم إلى ما فيه صلاح أمره و نصحاً: إنّ هذا الآبي عن السجدة - إبليس - عدوّ لك و لزوجك إلخ.

و قوله:( فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ ) توجيه نهي إبليس عن إخراجهما من الجنّة إلى آدم كناية عن نهيه عن طاعته أو عن الغفلة عن كيده و الاستهانة بمكره أي لا تطعه أو لا تغفل عن كيده و تسويله حتّى يتسلّط عليكما و يقوى على إخراجكما من الجنّة و إشقائكما.

و قد ذكر الإمام الرازيّ في تفسيره وجوهاً لسبب عداوة إبليس لآدم و زوجه و هي وجوه سخيفة لا فائدة في الإطناب بنقلها، و الحقّ أنّ السبب فيها هو طرده من حضرة القرب و رجمه و جعل اللعن عليه إلى يوم القيامة كما يظهر من قوله لعنه الله على

٢٣٧

ما حكاه الله:( قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) الحجر: ٣٩. و قوله:( قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ) الإسراء: ٦٢، و معلوم أنّ تكريم آدم عليه هو تكريم نوع الإنسان عليه كما أنّ أمره بالسجدة له كان أمراً بالسجدة لنوع الإنسان فأصل السبب هو تقدّم الإنسان و تأخّر الشيطان ثمّ الطرد و اللعن.

و قوله:( فَتَشْقى) تفريع على خروجهما من الجنّة و المراد بالشقاء التعب أي فتتعب إن خرجتما من الجنّة و عشتما في غيرها و هو الأرض عيشة أرضيّة لتهاجم الحوائج و سعيك في رفعها كالحاجة إلى الطعام و الشراب و اللباس و المسكن و غيرها.

و الدليل على أنّ المراد بالشقاء التعب الآيتان التاليتان المشيرتان إلى تفسيره:( إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى‏ وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى) .

و هو أيضاً دليل على أنّ النهي إرشاديّ ليس في مخالفته إلّا الوقوع في المفسدة المترتّبة على نفس الفعل و هو تعب السعي في رفع حوائج الحياة و اكتساب ما يعاش به و ليس بمولويّ تكون نفس مخالفته مفسدة يقع فيها العبد و تستتبع مؤاخذة اُخرويّة. على أنّك عرفت أنّه عهد قبل تشريع أصل الدين الواقع عند الأمر بالخروج من الجنّة و الهبوط إلى الأرض.

و أمّا إفراد قوله:( فَتَشْقى) و لم يقل فتشقيا بصيغة التثنية فلأنّ العهد إنّما نزل على آدم (عليه السلام) و كان التكليم متوجّها إليه، و لذلك جي‏ء بصيغة الإفراد في جميع ما يرجع إليه كقوله:( فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) ( فَتَشْقى) ( أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى) ( لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى‏ ) ( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ) إلخ( وَ عَصى) إلخ( ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ ) نعم جي‏ء بلفظ التثنية فيما لا غنى عنه كقوله:( عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما ) ( فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما ) ( وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما ) ( قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) فتدبّر فيه.

و قيل: إنّ إفراد:( فَتَشْقى) من جهة أنّ نفقة المرأة على المرء و لذا نسب الشقاء و هو التعب في اكتساب المعاش إلى آدم و فيه. أنّ الآيتين التاليتين لا تلائمان ذلك

٢٣٨

و لو كان كما قال لقيل: إنّ لكما أن لا تجوعا إلخ، و قيل: إنّ الإفراد لرعاية الفواصل و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى‏ وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى) يقال: ضحى يضحى كسعى يسعى ضحواً و ضحياً إذا أصابته الشمس أو برز لها و كأنّ المراد بعدم الضحو أن ليس هناك أثر من حرارة الشمس حتّى تمسّ الحاجة إلى الاكتنان في مسكن يقي من الحرّ و البرد.

و قد رتّبت الاُمور الأربعة على نحو اللفّ و النشر المرتّب لرعاية الفواصل و الأصل في الترتيب أن لا تجوع فيها و لا تظمأ و لا تعرى و لا تضحى.

قوله تعالى: ( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى‏ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى‏ ) الشيطان هو الشرير لقّب به إبليس لشرارته، و المراد بشجرة الخلد الشجرة المنهيّة و البلى صيرورة الشي‏ء خلقاً خلاف الجديد.

و المراد بشجرة الخلد شجرة يعطي أكلها خلود الحياة، و المراد بملك لا يبلى سلطنة لا تتأثّر عن مرور الدهور و اصطكاك المزاحمات و الموانع فيؤول المعنى إلى نحو قولنا هل أدلّك على شجرة ترزق بأكل ثمرتها حياة خالدة و ملكاً دائماً فليس قوله:( لا يَبْلى‏ ) تكراراً لإفادة التأكيد كما قيل.

و الدليل على ما ذكره ما في سورة الأعراف في هذا المعنى من قوله:( ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ ) الأعراف: ٢٠ و لا منافاة بين جمع خلود الحياة و دوام الملك ههنا بواو الجمع و بين الترديد بينهما في سورة الأعراف لإمكان أن يكون الترديد هناك لمنع الخلوّ لا لمنع الجمع، أو يكون الجمع هاهنا باعتبار الاتّصاف بهما جميعاً و الترديد هناك باعتبار تعلّق النهي كأنّه قيل: إنّ في هذه الشجرة صفتين و إنّما نهاكما ربّكما عنها إمّا لهذه، أو لهذه أو إنّما نهاكما ربّكما عنها أن لا تخلداً في الجنّة مع ملك خالد أو أن لا تخلداً بناء على أنّ الملك الخالد يستلزم حياة خالدة فافهم ذلك و كيف كان فلا منافاة بين الترديد في آية و الجمع في اُخرى.

٢٣٩

قوله تعالى: ( فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ) تقدّم تفسيره في سورة الأعراف.

قوله تعالى: ( وَ عَصى‏ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) الغيّ خلاف الرشد الّذي هو بمعنى إصابة الواقع و هو غير الضلال الّذي هو الخروج من الطريق، و الهدى يقابلهما و يكون بمعنى الإرشاد إذا قابل الغيّ كما في الآية التالية و بمعنى إراءة الطريق، أو الإيصال إلى المطلوب بتركيب الطريق إذا قابل الضلال فليس من المرضيّ تفسير الغيّ في الآية بمعنى الضلال.

و معصية آدم ربّه - كما أشرنا إليه آنفاً و قد تقدّم تفصيله - إنّما هي معصية أمر إرشاديّ لا مولويّ و الأنبياء (عليهم السلام) معصومون من المعصية و المخالفة في أمر يرجع إلى الدين الّذي يوحى إليهم من جهة تلقّيه فلا يخطؤون، و من جهة حفظه فلا ينسون و لا يحرّفون، و من جهة إلقائه إلى الناس و تبليغه لهم قولا فلا يقولون إلّا الحقّ الّذي اُوحي إليهم و فعلاً فلا يخالف فعلهم قولهم و لا يقترفون معصية صغيرة و لا كبيرة لأنّ في الفعل تبليغاً كالقول، و أمّا المعصية بمعنى مخالفة الأمر الإرشاديّ الّذي لا داعي فيه إلّا إحراز المأمور خيراً أو منفعة من خيرات حياته و منافعها بانتخاب الطريق الأصلح كما يأمر و ينهى المشير الناصح نصحاً فإطاعته و معصيته خارجتان من مجرى أدلّة العصمة و هو ظاهر.

و ليكن هذا معنى قول القائل إنّ الأنبياء (عليهم السلام) على عصمتهم يجوز لهم ترك الاُولى و منه أكل آدم (عليه السلام) من الشجرة و الآية من معارك الآراء و قد اختلفت فيها التفاسير على حسب اختلاف مذاهبهم في عصمة الأنبياء و كلّ يجرّ النار إلى قرصته.

قوله تعالى: ( ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى) الاجتباء - كما تقدّم مراراً - بمعنى الجمع على طريق الاصطفاء ففيه جمعه تعالى عبده لنفسه لا يشاركه فيه أحد و جعله من المخلصين بفتح اللام، و على هذا المعنى يتفرّع عليه قوله:( فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى) ، كأنّه كان ذا أجزاء متفرّقة متشتّتة فجمعها من هنا و هناك إلى

٢٤٠