الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  17%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96725 / تحميل: 5835
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

و لا يورثون لما صحّ عندهم من الأخبار، و قد جاء أيضاً ذلك من طريق الشيعة فقد روى الكلينيّ في الكافي، عن أبي البختري عن أبي عبدالله جعفر الصادق رضي الله عنه أنّه قال: إنّ العلماء ورثة الأنبياء، و ذلك أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهماً و لا ديناراً و إنّما ورّثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشي‏ء منها فقد أخذ بحظّ وافر، و كلمة إنّما مفيدة للحصر قطعاً باعتراف الشيعة.

و الوراثة في الآية محمولة على ما سمعت، و لا نسلّم كونها حقيقة لغوية في وراثة المال بل هي حقيقة فيما يعمّ وراثة العلم و المنصب و المال، و إنّما صارت لغلبة الاستعمال في عرف الفقهاء مختصّة بالمال كالمنقولات العرفيّة.

و لو سلّمنا أنّها مجاز في ذلك فهو مجاز متعارف مشهور خصوصاً في استعمال القرآن المجيد بحيث يساوي الحقيقة، و من ذلك قوله تعالى:( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ) ، و قوله تعالى:( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ ) و قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) ، و قوله تعالى:( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) ،( وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) .

قولهم: لا داعي إلى الصرف عن الحقيقة. قلنا: الداعي متحقّق و هي صيانة قول المعصوم عن الكذب و دون تأويله خرط القتاد، و الآثار الدالّة على أنّهم يورّثون المال لا يعوّل عليها عند النقّاد.

و زعم البعض أنّه لا يجوز حمل الوراثة هنا على وراثة النبوّة لئلّا يلغو قوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) قد قدّمنا ما يعلم منه ما فيه، و زعم أنّ كسبيّة الشي‏ء تمنع من كونه موروثاً ليس بشي‏ء فقد تعلّقت الوراثة بما ليس بكسبي في كلام الصادق.

و من ذلك أيضاً ما رواه الكلينيّ في الكافي، عن أبي عبدالله رضي الله عنه قال: إنّ سليمان ورث داود، و إنّ محمّداً (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ورث سليمان (عليه السلام) فإنّ وراثة النبيّ سليمان لا يتصوّر أن تكون وراثة غير العلم و النبوّة و نحوهما انتهى.

و للبحث جهة كلاميّة ترجع إلى أمر فدك و هي من قرى خيبر و قد كانت في يد فاطمة بنت رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فانتزعها من يدها الخليفة الأوّل استناداً إلى حديث‏

٢١

رواها عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): أنّ الأنبياء لا يورّثون مالاً و ما تركوه صدقة، و قد طالت المشاجرة فيه بين متكلّمي الشيعة و أهل السنّة و هو نوع بحث خارج عن غرض هذا الكتاب فلا نتعرّض له، و جهة تفسيريّة يهمّنا التعرّض لها لتعلّقها بمدلول قوله تعالى:( وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) .

أمّا قوله: و قد جاء ذلك أيضاً من طريق الشيعة إلخ، فالرواية في ذلك غير منحصرة فيما نقله عن الصادق (عليه السلام) بل روي ما في مضمونها عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أيضاً من طريقهم، و معناه - على ما يسبق إلى ذهن كلّ سامع - أنّ الأنبياء ليس من شأنهم أن يهتمّوا بجمع المال و تركه لمن خلفهم من الورثة و إنّما الّذي من شأنهم أن يتركوا لمن خلفهم الحكمة، و هذا معنى سائغ و استعمال شائع لا سبيل إلى دفعه.

و أمّا قوله: و لا نسلّم كونها حقيقة لغويّة في وراثة المال إلى آخر ما ذكره فليس الكلام في كونه حقيقة لغويّة في شي‏ء أو مجازاً مشهوراً أو غير مشهور و لا إصرار على شي‏ء من ذلك، و إنّما الكلام في أنّ الوراثة سواء كانت حقيقة في وراثة المال مجازاً في مثل العلم و الحكمة أو حقيقة مشتركة بين ما يتعلّق بالمال و ما يتعلّق بمثل العلم و الحكمة تحتاج في إرادة وراثة العلم و الحكمة إلى قرينة صارفة أو معيّنة و سياق الآية و سائر آيات القصّة في سورتي آل عمران و الأنبياء و القرائن الحافّة بها تأبى إرادة وراثة العلم و نحوه من لفظة يرثني فضلاً أن يصرف عنها أو يعيّنها على ما قدّمنا توضيحه في بيان الآية.

نعم لا يصحّ تعلّق الوراثة بالنبوّة على ما يتحصّل من تعليم القرآن أنّها موهبة إلهيّة لا تقبل الانتقال و التحوّل، و لا ريب أنّ الترك و الانتقال مأخوذ في مفهوم الوراثة كوراثة المال و الملك و المنصب و العلم و نحو ذلك و لذا لم يرد استعمال الوراثة في النبوّة و الرسالة في كتاب و لا سنّة.

و أمّا قوله:( قلنا: الداعي متحقّق و هي صيانة قول المعصوم عن الكذب) ففيه

٢٢

اعتراف بأن لا قرينة على إرادة غير المال من لفظة يرثني من جهة سياق الآيات بل الأمر بالعكس و إنّما اضطرّهم إلى الحمل المذكور حفظ ظاهر الحديث لصحّته عندهم و فيه أنّه لا معنى لتوقّف كلامه تعالى في الدلالة الاستعماليّة على قرينة منفصلة و خاصّة من غير كلامه تعالى و خاصّة مع احتفاف الكلام بقرائن مخالفة، و هذا غير تخصيص روايات الأحكام و تقييدها لعمومات آيات الأحكام و مطلقاتها، فإنّ ذلك تصرّف في محصّل المراد من الخطاب لا في دلالة اللفظ بحسب الاستعمال.

على أنّه لا معنى لحجّيّة أخبار الآحاد في غير الأحكام الشرعيّة الّتي ينحصر فيها الجعل التشريعيّ لا سيّما مع مخالفة الكتاب و هذه كلّها اُمور مبيّنة في علم الاُصول.

و أمّا قوله:( قد قدّمنا ما يعلم منه ما فيه) يشير إلى أخذ قوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) تأكيداً لقوله:( وَلِيًّا يَرِثُنِي ) أي في النبوّة أو أخذ قوله:( رَضِيًّا ) ، بمعنى المرضيّ عند الناس دفعاً للغو الكلام و قد قدّمنا في بيان الآية ما يعلم منه ما فيه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنّ زكريّا لمّا دعا ربّه أن يهب له ذكراً فنادته الملائكة بما نادته به أحبّ أن يعلم أنّ ذلك الصوت من الله اُوحى إليه أنّ آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيّام. قال: لمّا أمسك لسانه و لم يتكلّم علم أنّه لا يقدر على ذلك إلّا الله. الحديث.

و في تفسير النعمانيّ، بإسناده عن الصادق (عليه السلام) قال: قال أميرالمؤمنين (عليه السلام) حين سألوه عن معنى الوحي فقال: منه وحي النبوّة و منه وحي الإلهام و منه وحي الإشارة - و ساقه إلى أن قال: و أمّا وحي الإشارة فقوله عزّوجلّ:( فَخَرَجَ عَلى‏ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى‏ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا ) أي أشار إليهم كقوله تعالى:( أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً ) .

و في المجمع: عن معمر قال: إنّ الصبيان قالوا ليحيي: اذهب بنا نلعب قال: ما للعب خلقنا، فأنزل الله تعالى:( وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) و روي ذلك عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام).

٢٣

أقول: و روي في الدرّ المنثور، هذا المعنى عن ابن عساكر عن معاذ بن جبل مرفوعاً، و روي أيضاً ما في معناه عن ابن عبّاس عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم).

و في الكافي، بإسناده عن عليّ بن أسباط قال: رأيت أباجعفر (عليه السلام) و قد خرج إليّ فأجدت النظر إليه و جعلت أنظر إلى رأسه و رجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر فبينا أنا كذلك حتّى قعد فقال: يا عليّ إنّ الله احتجّ في الإمامة بمثل ما احتجّ به في النبوّة فقال:( وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) ( حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) فقد يجوز أن يؤتى الحكمة و هو صبيّ، و يجوز أن يؤتى الحكمة و هو ابن أربعين سنة.

أقول: و في الرواية تفسير الحكم بالحكمة فتؤيّد ما قدّمناه.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و أحمد في الزهد و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن قتادة: في قوله:( وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا ) قال: كان سعيد بن المسيّب يقول: قال النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلّا ذا ذنب إلّا يحيى بن زكريّا. قال قتادة: و قال الحسن: قال النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): ما أذنب يحيى بن زكريّا قطّ و لا همّ بامرأة.

و فيه: أخرج أحمد و الحكيم الترمذيّ في نوادر الاُصول و الحاكم و ابن مردويه عن ابن عبّاس أنّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: ما من أحد من ولد آدم إلّا و قد أخطأ أو همّ بخطيئة إلّا يحيى بن زكريّا لم يهمّ بخطيئة و لم يعملها.

أقول: و هذا المعنى مرويّ من طرق أهل السنّة بألفاظ مختلفة و ينبغي تخصيص الجميع بأهل العصمة من الأنبياء و الأئمّة و إن كانت آبية عنه ظاهراً لكنّ الظاهر أنّ ذلك ناش من سوء تعبير الرواة لابتلائهم بالنقل بالمعنى و توغّلهم فيه. و بالجملة الأخبار في زهد يحيى (عليه السلام) كثيرة فوق الإحصاء، و كان (عليه السلام) - على ما فيها - يأكل العشب و يلبس الليف و بكى من خشية الله حتّى اتّخذت الدموع مجرى في وجهه.

و فيه: أخرج ابن عساكر عن قرّة قال: ما بكت السماء على أحد إلّا على يحيى

٢٤

بن زكريّا و الحسين بن عليّ، و حمرتها بكاؤها.

أقول: و روى هذا المعنى في المجمع، عن الصادق (عليه السلام)، و في آخره: و كان قاتل يحيى ولد زنا و قاتل الحسين ولد زنا.

و فيه، أخرج الحاكم و ابن عساكر عن ابن عباس قال: أوحى الله إلى محمد (صلّي الله عليه وآله وسلّم): إنّي قتلت بيحيى بن زكريّا سبعين ألفاً و إنّي قاتل بابن ابنتك سبعين ألفاً و سبعين ألفاً.

و في الكافي، بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: فما عنى بقوله في يحيى:( وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكاةً ) ؟ قال تحنّن الله. قلت: فما بلغ من تحنّن الله عليه؟ قال: كان إذا قال: يا ربّ قال الله عزّوجلّ: لبّيك يا يحيى. الحديث.

و في عيون الأخبار، بإسناده إلى ياسر الخادم قال: سمعت أباالحسن الرضا (عليه السلام) يقول: إنّ أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاث مواطن: يوم يولد و يخرج من بطن اُمّه فيرى الدنيا، و يوم يموت فيعاين الآخرة و أهلها، و يوم يبعث فيرى أحكاما لم يرها في دار الدنيا.

و قد سلّم الله عزّوجلّ على يحيى في هذه الثلاثة المواطن و آمن روعته فقال:( وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) ، و قد سلّم عيسى بن مريم على نفسه في هذه الثلاثة المواطن فقال:( وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) .

( قصّة زكريّا في القرآن)

وصفه (عليه السلام) : وصفه الله سبحانه في كلامه بالنبوّة و الوحي، و وصفه في أوّل سورة مريم بالعبوديّة، و ذكره في سورة الأنعام في عداد الأنبياء و عدّة من الصالحين ثمّ من المجتبين - و هم المخلصون - و المهديّين.

تاريخ حياته: لم يذكر من أخباره في القرآن إلّا دعاؤه لطلب الولد و

٢٥

استجابته و إعطاؤه يحيى (عليهما السلام)، و ذلك بعد ما رأى من أمر مريم في عبادتها و كرامتها عند الله ما رأى.

فذكر سبحانه أنّ زكريّا تكفّل مريم لفقدها أباها عمران ثمّ لمّا نشأت اعتزلت عن الناس و اشتغلت بالعبادة في محراب لها في المسجد، و كان يدخل عليها زكريّا يتفقّدها( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) .

هنالك دعا زكريّا ربّه و سأله أن يهب له من امرأته ذرّيّة طيّبة و كان هو شيخاً فانياً و امرأته عاقراً فاستجيب له و نادته الملائكة و هو قائم يصلّي في المحراب أنّ الله يبشّرك بغلام اسمه يحيى فسأل ربّه آية لتطمئنّ نفسه أنّ النداء من جانبه سبحانه فقيل له: إنّ آيتك أن يعتقل لسانك فلا تكلّم الناس ثلاثة أيّام إلّا رمزاً و كان كذلك و خرج على قومه من المحراب و أشار إليهم أن سبّحوا بكرة و عشيّا و أصلح الله له زوجه فولدت له يحيى (عليهما السلام) (آل عمران: ٣٧ - ٤١ مريم: ٢ - ١١ الأنبياء: ٨٩ - ٩٠).

و لم يذكر في القرآن مآل أمره (عليه السلام) و كيفيّة ارتحاله لكن وردت أخبار متكاثرة من طرق العامّة و الخاصّة، أنّ قومه قتلوه و ذلك أنّ أعداءه قصدوه بالقتل فهرب منهم و التجأ إلى شجرة فانفرجت له فدخل جوفها ثمّ التأمت فدلّهم الشيطان عليه و أمرهم أن ينشروا الشجرة بالمنشار ففعلوا و قطعوه نصفين فقتل (عليه السلام) عند ذلك.

و قد ورد في بعض الأخبار أنّ السبب في قتله أنّهم اتّهموه في أمر مريم و حبلها بالمسيح و قالوا: هو وحده كان المتردّد إليها الداخل عليها، و قيل غير ذلك.

( قصّة يحيى (عليه السلام) في القرآن)

١- الثناء عليه: ذكره الله في بضعة مواضع من كلامه و أثنى عليه ثناء جميلاً فوصفه بأنّه كان مصدّقاً بكلمة من الله و هو تصديقه بنبوّة المسيح، و أنّه كان سيّداً

٢٦

يسود قومه، و أنّه كان حصوراً لا يأتي النساء، و كان نبيّاً و من الصالحين (سورة آل عمران: ٣٩) و من المجتبين و هم المخلصون - و من المهديّين (الأنعام: ٨٥ ٨٧)، و أنّ الله هو سمّاه بيحيى و لم يجعل له من قبل سميّا، و أمره بأخذ الكتاب بقوّة و آتاه الحكم صبيّاً، و سلّم عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيّا (مريم: ٢ ١٥) و مدح بيت زكريّا بقوله:( إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ ) الأنبياء: ٩٠ و هم يحيى و أبوه و اُمّه.

٢- تاريخ حياته: ولد (عليه السلام) لأبويه على خرق العادة فقد كان أبوه شيخاً فانياً و اُمّه عاقراً فرزقهما الله يحيى و هما آيسان من الولد، و أخذ بالرشد و العبادة و الزهد في صغره و آتاه الله الحكم صبيّا، و قد تجرّد للتنسّك و الزهد و الانقطاع فلم يتزوّج قطّ و لا ألهاه شي‏ء من ملاذّ الدنيا.

و كان معاصراً لعيسى بن مريم (عليه السلام) و صدّق نبوّته، و كان سيّداً في قومه تحنّ إليه القلوب و تميل إليه النفوس و يجتمع إليه الناس فيعظهم و يدعوهم إلى التوبة و يأمرهم بالتقوى حتى استشهد (عليه السلام).

و لم يرد في القرآن مقتله (عليه السلام)، و الذي ورد في الأخبار أنّه كان السبب في قتله أنّ امرأة بغيّاً افتتن بها ملك بني إسرائيل و كان يأتيها فنهاه يحيى و وبّخه على ذلك - و كان مكرماً عند الملك يطيع أمره و يسمع قوله - فأضمرت المرأة عداوته و طلبت من الملك رأس يحيى و ألحّت عليه فأمر به فذبح و اُهدي إليها رأسه.

و في بعض الأخبار أنّ الّتي طلبت منه رأس يحيى كانت ابنة أخي الملك و كان يريد أن يتزوّج بها فنهاه يحيى عن ذلك فزيّنتها اُمها بما يأخذ بمجامع قلب الملك و أرسلتها إليه و لقّنتها إذا منح الملك عليها بسؤال حاجة أن تسأله رأس يحيى ففعلت فذبح (عليه السلام) و وضع رأسه في طست من ذهب و اُهدي إليها.

و في الروايات نوادر كثيرة من زهده و تنسّكه و بكائه من خشية الله و مواعظه و حكمه.

٢٧

٣- قصّة زكريّا و يحيى في الإنجيل: قال(١) : كان في أيّام هيرودُس ملك اليهوديّة كاهن اسمه زكريّا من فرقة أبيّا و امرأته من بنات هارون و اسمها إليصابات و كان كلاهما بارّين أمام الله سالكين في جميع وصايا الربّ و أحكامه بلا لوم. و لم يكن لهما ولد إذ كانت إليصابات عاقراً و كانا كلاهما متقدّمين في أيّامهما.

فبينما هو يكهن في نوبة فرقته أمام الله. حسب عادة الكهنوت، أصابته القرعة أن يدخل إلى هيكل الربّ و يبخّر. و كان كلّ جمهور الشعب يصلّون خارجاً وقت البخور. فظهر له ملاك الربّ واقفا عن يمين مذبح البخور. فلمّا رآه زكريّا اضطرب و وقع عليه خوف. فقال له الملاك لا تخف يا زكريّا لأنّ طلبتك قد سمعت و امرأتك إليصابات ستلد ابنا و تسمّيه يوحنّا. و يكون لك فرج و ابتهاج و كثيرون سيفرحون بولادته. لأنّه يكون عظيماً أمام الربّ و خمراً و مسكراً لا يشرب و من بطن اُمّه يمتلئ من الروح القدس. و يردّ كثيرين من بني إسرائيل إلى الربّ إلههم. و يتقدّم أمامه بروح‏ إيليا و قوّته ليردّ قلوب الآباء إلى الأبناء و العصاة إلى فكر الأبرار لكي يهيّئ للربّ شعباً مستعداً.

فقال زكريّا للملاك كيف أعلم هذا لأنّي أنا شيخ و امرأتي متقدّمة في أيّامها فأجاب الملاك و قال أنا جبريل الواقف قدّام الله و اُرسلت لاُكلّمك و اُبشّرك بهذا و ها أنت تكون صامتاً و لا تقدر أن تتكلّم إلى اليوم الّذي يكون فيه هذا لأنّك لم تصدّق كلامي الّذي سيتمّ في وقته.

و كان الشعب منتظرين زكريّا و متعجّبين من إبطائه في الهيكل. فلمّا خرج لم يستطع أن يكلّمهم ففهموا أنّه قد رأى رؤيا في الهيكل فكان يومئ إليهم و بقي صامتاً و لمّا كملت أيّام خدمته مضى إلى بيته. و بعد تلك الأيّام حبلت إليصابات امرأته و أخفت نفسها خمسة أشهر قائلة: هكذا قد فعل بي الربّ في الأيّام الّتي فيها

____________________

(١) إنجيل لوقا. الإصحاح الأوّل ٥.

٢٨

نظر إليّ لينزع عاري بين الناس.

إلى أن قال: و أمّا إليصابات فتمّ زمانها لتلد فولدت ابنا و سمع جيرانها و أقرباؤها أنّ الربّ عظّم رحمته لها ففرحوا معها. و في اليوم جاؤا ليختنوا الصبيّ و سمّوه باسم أبيه زكريّا فأجابت اُمّه و قالت لا بل يسمّى يوحنّا. فقالوا لها ليس أحد في عشيرتك تسمّى بهذا الاسم. ثمّ أومأوا إلى أبيه ما ذا يريد أن يسمّى. فطلب لوحا و كتب قائلا اسمه يوحنّا فتعجّب الجميع. و في الحال انفتح فمه و لسانه و تكلّم و بارك الله. فوقع خوف على كلّ جيرانهم و تحدّث بهذه الاُمور جميعها في كلّ جبال اليهوديّة. فأودعها جميع السامعين في قلوبهم قائلين أ ترى ما ذا يكون هذا الصبيّ و كانت يد الربّ معه. و امتلأ زكريّا أبوه من الروح القدس و تنبّأ إلخ.

و فيه(١) : و في السنة الخامسة عشرة من سلطنة طيباريوس قيصر إذ كان بيلاطس النبطيّ واليا على اليهوديّة، و هيرودس رئيس رُبع على الجليل، و فيلبّس أخوه رئيس ربع على إيطوريّة و كورة تراخوتينس، و ليسانيوس رئيس ربع على الأبليّة في أيّام رئيس الكهنة حنّان و قيافاً كانت كلمة الله على يوحنّا بن زكريّا في البرّيّة.

فجاء إلى جميع الكورة المحيطة بالاُردن يكرز بمعموديّة التوبة لمغفرة الخطايا. كما هو مكتوب في سفر أقوال أشعيا النبيّ القائل( صوت خارج في البرّيّة أعدّوا طريق الربّ اصنعوا سبله مستقيمة، كلّ واد يمتلئ و كلّ جبل و أكمة ينخفض و تصير المعوّجات مستقيمة و الشعاب طرقاً سهلة و يبصر كلّ بشر خلاص الله.

و كان يقول للجموع الّذين خرجوا ليعمّدوا منه يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة و لا تبتدؤا تقولون في أنفسكم لنا إبراهيم أباً لأنّي أقول لكم إنّ الله قادر على أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً

____________________

(١) إنجيل الإصحاح الثالث ١.

٢٩

لإبراهيم و الآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر فكلّ شجرة لا تصنع ثمراً جيّداً تقطع و تلقى في النار.

و سأله الجموع قائلين فما ذا نفعل. فأجاب و قال لهم من له ثوبان فليعط من ليس له و من له طعام فليفعل هكذا. و جاء عشّارون أيضاً ليعمّدوا فقالوا له يا معلّم ما ذا نفعل فقال لهم لا تستوفوا أكثر ممّا فرض لكم. و سأله جنديون أيضاً قائلين و ما ذا نفعل نحن، فقال لهم لا تظلموا أحداً و لا تشوا بأحد و اكتفوا بعلائقكم.

و إذ كان الشعب ينتظر و الجميع يفكّرون في قلوبهم عن يوحنّا لعلّه المسيح أجاب يوحنّا الجميع قائلاً أنا اُعمّدكم بماء و لكن يأتي من هو أقوى منّي الّذي لست أهلاً أن أحلّ سيور حذائه هو سيعمّدكم بروح القدس و نار الّذي رفشه في يده و سينقّي بيدره و يجمع القمح إلى مخزنة و أمّا التبن فيحرقه بنار لا تطفأ و بأشياء اُخر كثيرة كان يعظ الشعب و يبشّرهم.

أمّا هيرودس رئيس الربع فإذا توبّخ منه لسبب هيروديّا امرأة فيلبّس أخيه و لسبب جميع الشرور الّتي كان هيرودس يفعلها زاد هذا أيضاً على الجميع أنّه حبس يوحنّا في السجن. و لمّا اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضاً.

و فيه: أنّ(١) هيرودس نفسه كان قد أرسل و أمسك يوحنّا و أوثقه في السجن من أجل هيروديّا امرأة فيلبّس أخيه إذ كان قد تزوّج بها. لأنّ يوحنّا كان يقول لهيرودس لا يحلّ أن تكون لك امرأة أخيك. فحنقت هيروديّا عليه و أرادت أن‏ تقتله و لم تقدر. لأنّ هيرودس كان يهاب يوحنّا عالماً أنّه رجل بار و قدّيس و كان يحفظه. و إذ سمعه فعل كثيراً و سمعه بسرور.

و إذ كان يوم موافق لمّا صنع هيرودس في مولده عشاء لعظمائه و قوّاد الاُلوف و وجوه الجليل. دخلت ابنة هيروديّا و رقّصت، فسرّت هيرودس و المتّكئين معه. فقال الملك للصبيّة مهما أردت اطلبي منّي فاُعطيك. و أقسم لها أنّ مهما طلبت منّي

____________________

(١) إنجيل مرقس الإصحاح السادس ١٧ - ٢٩

٣٠

لاُعطينّك حتّى نصف مملكتي. فخرجت و قالت لاُمّها ما ذا أطلب. فقالت رأس يوحنّا المعمدان. فدخلت للوقت بسرعة إلى الملك و طلبت قائلة اُريد أن تعطيني حالا رأس يوحنّا المعمدان على طبق. فحزن الملك جدّاً و لأجل الإقسام و المتّكئين لم يرد أن يردّها.

فللوقت أرسل الملك سيّافا و أمر أن يؤتى برأسه فمضى و قطع رأسه في السجن و أتى برأسه على طبق و أعطاه للصبيّة و الصبيّة أعطته لاُمّها. و لمّا سمع تلاميذه جاؤا و رفعوا جثّته و وضعوها في قبر انتهى.

و ليحيي (عليه السلام) أخبار اُخر متفرّقة في الأناجيل لا تتعدّى حدود ما أوردناه و للمتدبّر الناقد أن يطبّق ما نقلناه من الأناجيل على ما تقدّم حتّى يحصل على موارد الاختلاف.

٣١

( سورة مريم الآيات ١٦ - ٤٠)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ( ١٦ ) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ( ١٧ ) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا ( ١٨ ) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ( ١٩ ) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ( ٢٠ ) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ( ٢١ ) فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ( ٢٢ ) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ( ٢٣ ) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ( ٢٤ ) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ( ٢٥ ) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ( ٢٦ ) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ( ٢٧ ) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ( ٢٨ ) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ( ٢٩ ) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ( ٣٠ ) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ( ٣١ )

٣٢

وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ( ٣٢ ) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ( ٣٣ ) ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ( ٣٤ ) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ٣٥ ) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( ٣٦ ) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ٣٧ ) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَٰكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( ٣٨ ) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( ٣٩ ) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ( ٤٠ )

( بيان)

انتقال من قصّة يحيى إلى قصّة عيسى (عليهما السلام) و بين القصّتين شبها تامّاً فولادتهما على خرق العادة، و قد اُوتي عيسى الرشد و النبوّة و هو صبيّ كيحيى، و قد أخبر أنّه برّ بوالدته و ليس بجبّار شقيّ و أنّ السلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيّاً كما أخبر الله عن يحيى (عليه السلام) بذلك إلى غير ذلك من وجوه الشبه و قد صدّق يحيى بعيسى و آمن به.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا ) المراد بالكتاب القرآن أو السورة فهي جزء من الكتاب و جزء الكتاب كتاب و الاحتمالان من حيث المال واحد فلا كثير جدوى في إصرار بعضهم على تقديم الاحتمال الثاني و تعيينه.

و النبذ - على ما ذكره الراغب - طرح الشي‏ء الحقير الذي لا يعبأ به يقال

٣٣

نبذه إذا طرحه مستحقرا له غير معتن به، و الانتباذ الاعتزال من الناس و الانفراد.

و مريم هي ابنة عمران اُمّ المسيح (عليهما السلام)، و المراد بمريم نبأ مريم و قوله:( إِذِ ) ظرف له، و قوله:( انْتَبَذَتْ ) إلى آخر القصّة تفصيل المظروف الّذي هو نبأ مريم، و المعنى و اذكر يا محمّد في هذا الكتاب نبأ مريم حين اعتزلت من أهلها في مكان شرقيّ، و كأنّه شرقيّ المسجد.

قوله تعالى: ( فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ) الحجاب ما يحجب الشي‏ء و يستره عن غيره، و كأنّها اتّخذت الحجاب من دون أهلها لتنقطع عنهم و تعتكف للعبادة كما يشير إليه قوله:( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ) آل عمران: ٣٧ و قد مرّ الكلام في تفسير الآية.

و قيل: إنّها كانت تقيم المسجد حتّى إذا حاضت خرجت منها و أقامت في بيت زكريّا حتّى إذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مشرفة لها في ناحية الدار و قد ضربت بينها و بين أهلها حجابا لتغتسل إذ دخل عليها جبرائيل في صورة شابّ أمرد سويّ الخلق فاستعاذت بالله منه.

و فيه أنّه لا دليل على هذا التفصيل من جهة اللفظ، و قد عرفت أنّ آية آل عمران لا تخلو من تأييد للمعنى السابق.

و قوله:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ) ظاهر السياق أنّ فاعل( فَتَمَثَّلَ ) ضمير عائد إلى الروح فالروح المرسل إليها هو المتمثّل لها بشراً سويا و معنى تمثّله لها بشراً ترائيه لها، و ظهوره في حاسّتها في صورة البشر و هو في نفسه روح و ليس ببشر.

و إذ لم يكن بشراً و ليس من الجنّ فقد كان ملكاً بمعنى الخلق الثالث الّذي وصفه الله سبحانه في كتابه و سمّاه ملكاً، و قد ذكر سبحانه ملك الوحي في كلامه و سمّاه جبريل بقوله:( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) البقرة: ٩٧ و سمّاه روحاً في قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) النحل: ١٠٢ و قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: ١٩٤ و سمّاه رسولاً في قوله:( إِنَّهُ

٣٤

لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) الحاقة: ٤٠، فبهذا كلّه يتأيّد أنّ الروح الّذي أرسله الله إليها إنّما هو جبريل.

و أمّا قوله:( إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - إلى أن قال -قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) آل عمران: ٤٧.

فتطبيقه على الآيات التي نحن فيها لا يدع ريباً في أنّ قول الملائكة لمريم و محاورتهم معها المذكور هناك هو قول الروح لها المذكور ههنا، و نسبة قول جبريل إلى الملائكة من قبيل نسبة قول الواحد من القوم إلى جماعتهم لاشتراكهم معه في خلق أو سنّة أو عادة، و في القرآن منه شي‏ء كثير كقوله تعالى:( يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ) المنافقون: ٨، و القائل واحد. و قوله:( وَ إِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ) الأنفال: ٣٢، و القائل واحد.

و إضافة الروح إليه تعالى للتشريف مع إشعار بالتعظيم، و قد تقدّم كلام في معنى الروح في تفسير قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) الآية الإسراء: ٨٥.

و من التفسير الرديّ قول بعضهم إنّ المراد بالروح في الآية عيسى (عليه السلام) و ضمير تمثل عائد على جبريل. و هو كما ترى.

و من القراءة الردية قراءة بعضهم( روحنّا) بتشديد النون على أنّ روحنّا اسم الملك الّذي اُرسل إلى مريم، و هو غير جبريل الروح الأمين. و هو أيضاً كما ترى.

( كلام في معنى التمثّل)

كثيراً ما ورد ذكر التمثّل في الروايات، و أمّا في الكتاب فلم يرد ذكره إلّا في قصّة مريم في سورتها قال تعالى:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ) الآية: ١٧ من السورة، و الآيات التالية الّتي يعرّف فيها جبريل نفسه لمريم خير شاهد أنّه

٣٥

كان حال تمثّله لها في صورة بشر باقياً على ملكيّته و لم يصر بذلك بشراً، و إنّما ظهر في صورة بشر و ليس ببشر بل ملك و إنّما كانت مريم تراها في صورة بشر.

فمعنى تمثّله لها كذلك ظهوره لها في صورة بشر و ليس عليها في نفسه بمعنى أنّه كان في ظرف إدراكها على صورة بشر و هو في الخارج عن إدراكها على خلاف ذلك.

و هذا هو الّذي ينطبق على معنى التمثّل اللغويّ فإنّ معنى تمثّل شي‏ء لشي‏ء في صورة كذا هو تصوّره عنده بصورته و هو هو لا صيرورة الشي‏ء شيئاً آخر فتمثّل الملك بشراً هو ظهوره لمن يشاهده في صورة الإنسان لا صيرورة الملك إنساناً، و لو كان التمثّل واقعاً في نفسه و في الخارج عن ظرف الإدراك كان من قبيل صيرورة الشي‏ء شيئاً آخر و انقلابه إليه لا بمعنى ظهوره له كذلك.

و استشكل أمر هذا التمثّل باُمور مذكورة في التفسير الكبير و غيره:

أحدها: أنّ جبريل شخص عظيم الجثّة حسبما نطقت به الأخبار فمتى صار في مقدار جثّة الإنسان فإن تساقطت أجزاؤه الزائدة على مقدار جثّة الإنسان لزم أن لا يبقى جبريل، و إن لم تتساقط لزم تداخلها و هو محال.

الثاني: أنّه لو جاز التمثّل ارتفع الوثوق و امتنع القطع بأنّ هذا الشخص الّذي يرى الآن هو زيد الّذي رئي بالأمس لاحتمال التمثّل.

الثالث: أنّه لو جاز التمثّل بصورة الإنسان جاز التمثّل بصورة غيره كالبعوض و الحشرات و غيرها و معلوم أنّ كلّ مذهب يجرّ إلى ذلك فهو باطل.

الرابع: أنّه لو جاز ذلك ارتفع الوثوق بالخبر المتواتر كخبر مقاتلة النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) يوم بدر لجواز أن يكون المقاتل هو المتمثّل به.

و أجيب عن الأوّل: بأنّه لا يمتنع أن يكون لجبريل أجزاء أصليّة قليلة و أجزاء فاضلة و يتمكّن بالأجزاء من أن يتمثّل بشراً هذا على القول بأنّه جسم و أمّا على القول بكونه روحانيّاً فلا استبعاد في أن يتدرّع تارة بالهيكل العظيم و اُخرى بالهيكل الصغير.

و أنت ترى أنّ أوّل الشقيّن في الجواب كأصل الإشكال مبنيّ على كون

٣٦

التمثّل تغيّراً من المتمثّل في نفسه و بطلان صورته الاُولى و انتقاله إلى صورة اُخرى، و قد تقدّم أنّ التمثّل ظهوره في صورة مّا و هو في نفسه بخلافها.

و الآية بسياقها ظاهرة في أنّ جبريل لم يخرج بالتمثّل عن كونه ملكاً و لا صار بشراً في نفسه و إنّما ظهر لها في صورة البشر فهو كذلك في ظرف إدراكها لا في نفسه و في الخارج عن ظرف إدراكها، و نظير ذلك نزول الملائكة الكرام في قصّة البشارة بإسحاق و تمثّلهم لإبراهيم و لوط (عليهما السلام) في صورة البشر - و نظيره ظهور إبليس في صورة سراقة بن مالك يوم بدر، و قد أشار تعالى إليه في سورة الأنفال الآية ٤٨ و قد كان سراقة يومئذ بمكّة.

و في الروايات من ذلك شي‏ء كثير كتمثّل إبليس يوم الندوة للمشركين في صورة شيخ كبير، و تمثّله يوم العقبة في صورة منبّه بن الحجّاج، و تمثّله ليحيي (عليه السلام) في صورة عجيبة، و نظير تمثّل الدنيا لعليّ (عليه السلام) في صورة مرأة حسناء فتّانة، كما في الرواية، و ما ورد من تمثّل المال و الولد و العمل للإنسان عند الموت، و ما ورد من تمثّل الأعمال للإنسان في القبر و يوم القيامة. و من هذا القبيل التمثّلات المناميّة كتمثّل العدوّ في صورة الكلب أو الحيّة أو العقرب و تمثّل الزوج في صورة النعل و تمثّل العلاء في صورة الفرس و الفخر في صورة التاج إلى غير ذلك.

فالمتمثّل في أغلب هذه الموارد - كما ترى - من المعاني الّتي لا صورة لها في نفسها و لا شكل، و لا يتحقّق فيها تغيّر من صورة إلى صورة و لا من شكل إلى شكل كما عليه بناء الإشكال و الجواب.

و اُجيب عن الثاني: بأنّه مشترك الورود فإنّ من اعترف بالصانع القادر يلزمه ذلك لجواز أن يخلق تعالى مثل زيد مثلاً و بذلك يرتفع الوثوق و يمتنع القطع على حذو ما ذكر في الإشكال، و كذا من لم يعترف بالصانع و أسند الحوادث إلى الأسباب الطبيعيّة أو الأوضاع السماويّة يجوز عنده أن يتحقّق من الأسباب ما يستتبع حدوث مثل زيد مثلاً فيعود الإشكال.

و لعلّه لمّا كان مثل هذه الحوادث نادراً لم يلزم منه قدح في العلوم العاديّة

٣٧

المستندة إلى الإحساس فلا يلزم الشكّ في كون زيد الّذي نشاهده الآن هو زيد الّذي شاهدناه أمس.

و أنت خبير بأنّ هذا الجواب لا يحسم مادّة الإشكال إذ تسليم المغايرة بين الحسّ و المحسوس كرؤية غير زيد في صورة زيد و إن كانت نادرة يبطل العلم الحسّيّ و لا يبقى إلّا أن يدّعى أنّه إنّما يسمّى علماً لأنّ ندرة التخلّف و الخطأ تستوجب غفلة الإنسان عن الالتفات إلى الشكّ فيه و احتمال المغايرة بين الحسّ و المحسوس.

على أنّه إذا جازت المغايرة و هي محتملة التحقّق في كلّ مورد مورد لم يكن لنا سبيل إلى العلم بكونها نادرة فمن أين يعلم أنّ مثل ذلك نادر الوجود؟.

و الحقّ أنّ الإشكال و الجواب فاسدان من أصلهما:

أمّا الإشكال فهو مبنيّ على أنّ الّذي يناله الحسّ هو عين المحسوس الخارجيّ بخارجيّته دون الصورة المأخوذة منه و يتفرّع على ذلك الغفلة عن معنى كون الأحكام الحسّيّة بديهيّة و الغفلة عن أنّ تحميل حكم الحسّ على المحسوس الخارجيّ إنّما هو بالفكر و النظر لا بنفس الحسّ.

فالّذي يناله الحسّ من العين الخارجيّ شي‏ء من كيفيّاته و هيآته يشابهه في الجملة لا نفس الشي‏ء الخارجيّ ثم التجربة و النظر يعرّفان حاله في نفسه و الدليل على ذلك أقسام المغايرة بين الحسّ و المحسوس الخارجي و هي المسمّاة بأغلاط الحسّ كمشاهدة الكبير صغيراً و العالي سافلاً و المستقيم مائلاً و المتحرّك ساكناً و عكس ذلك باختلاف المناظر و كذلك حكم سائر الحواسّ كما نرى الفرد من الإنسان مثلاً مع بعد المسافة أصغر ما يمكن و نحكم بتكرّر الحسّ و بالتجربة أنّه إنسان يماثلنا في عظم الجثّة، و نشاهد الشمس قدر صحفة و هي تدور حول الأرض ثمّ البراهين الرياضيّة تسوقنا إلى أنّها أكبر من الأرض كذا و كذا مرّة و أنّ الأرض هي الّتي تدور حول الشمس.

فتبيّن أنّ المحسوس لنا بالحقيقة هي الصورة الّتي في ظرف حسّنا دون الأمر الخارجيّ بخارجيّته، ثمّ إنّا لا نرتاب في أنّ الّذي أحسسناه و هو في حسّنا قد

٣٨

أحسسناه و هذا معنى بداهة الحسّ، و أما المحسوس و هو الذي في الخارج عنّا و عن حسّنا فالحكم الّذي نحكم به عليه إنّما هو ناشئ عن فكرنا و نظرنا و هذا ما قلناه إنّ الّذي نعتقده من حال الشي‏ء الخارجيّ حكم ناشئ عن الفكر و النظر دون الحسّ هذا. و قد بيّن في العلوم الباحثة عن الحسّ و المحسوس أنّ لجهازات الحواسّ أنواعاً من التصرّف في المحسوس.

ثمّ إنّ من الضروريّ عندنا أنّ في الخارج من إدراكنا سبباً تتأثّر عنه نفوسنا فتدرك ما تدرك، و هذا السبب ربّما كان خارجيّاً كالأجسام الّتي ترتبط بكيفيّاتها و أشكالها بنفوسنا من طريق الحواسّ فندرك بالحسّ صوراً منها ثمّ نحصّل بتجربة أو فكر شيئاً من أمرها في نفسها، و ربّما كان داخليّاً كالخوف الشديد الطارئ على الإنسان فجأة يصوّر له صوراً هائلة مهيبة على حسب ما عنده من الأوهام و الخواطر المؤلمة.

و في جميع هذه الأحوال ربّما أصاب الإنسان في تشخيصه حال المحسوس الخارجيّ و هو الأغلب و ربّما أخطأ كمن يرى سراباً فيقدّر أنّه ماء أو أشباحاً فيحسب أنّها أشخاص.

فقد تبيّن من جميع ما تقدّم أنّ المغايرة بين الحسّ و المحسوس الخارجيّ في نفسه - على كونها ممّا لا بدّ منه في الجملة - لا تستدعي ارتفاع الوثوق و بطلان الاعتماد على الحسّ فإنّ الأمر في ذلك يدور مدار ما حصّله الإنسان من تجربة أو نظر أو غير ذلك و أصدقها ما صدّقته التجربة.

و أمّا وجه فساد الجواب فبناؤه على تسليم ما تسلّمه في الإشكال من نيل الحسّ نفس المحسوس الخارجيّ بعينه، و أنّ العلم بالمحسوس في نفسه مستند إلى الحسّ نفسه مع التخلّف نادراً.

و اُجيب عن الإشكال الثالث بأنّ أصل تجويز تصوّر الملك بصور سائر الحيوان غير الإنسان قائم في الأصل، و إنّما عرف فساده بدلائل السمع.

و فيه أنّه لا دليل من جهة السمع يعتدّ به نعم يرد على أصل الإشكال أنّ المراد

٣٩

بالإمكان إن كان هو الإمكان المقابل للضرورة و الامتناع فمن البيّن أنّ تمثّل الملك بصورة الإنسان لا يستلزم إمكان تمثّله بصورة غيره من الحيوان، و إن كان هو الإمكان بمعنى الاحتمال العقلي فلا محذور في الاحتمال حتّى يقوم الدليل على نفيه أو إثباته.

و اُجيب عن الإشكال الرابع بمثل ما اُجيب به عن الثالث فإنّ احتمال التخلّف قائم في المتواتر لكن دلائل السمع تدفعه. و فيه أنّ نظير الاحتمال قائم في نفس دليل السمع، فإنّ الطريق إليه حاسّة السمع و الجواب الصحيح عن هذا الإشكال هو الّذي أوردناه جواباً عن الإشكال الثاني. و الله أعلم.

فظهر ممّا قدّمناه أنّ التمثّل هو ظهور الشي‏ء للإنسان بصورة يألفها الإنسان و تناسب الغرض الّذي لأجله الظهور كظهور جبريل لمريم في صورة بشر سويّ لما أنّ المعهود عند الإنسان من الرسالة أن يتحمّل إنسان الرسالة ثمّ يأتي المرسل إليه و يلقي إليه ما تحمّله من الرسالة من طريق التكلّم و التخاطب، و كظهور الدنيا لعليّ (عليه السلام) في صورة امرأة حسناء لتغرّها لما أنّ الفتاة الفائقة في جمالها هي في باب الأهواء و اللذائذ النفسانية أقوى سبب يتوسّل به للأخذ بمجامع القلب و الغلبة على العقل إلى غير ذلك من الأمثلة الواردة.

فإن قلت: لازم ذلك القول بالسفسطة فإنّ الإدراك الّذي ليست وراءه حقيقة تطابقه من جميع الجهات ليس إلّا وهماً سرابيّاً و خيالاً باطلاً و رجوعه إلى السفسطة.

قلت: فرق بين أن يكون هناك حقيقة يظهر للمدرك بما يألفه من الصور و تحتمله أدوات إدراكه و بين أن لا يكون هناك إلّا صورة إدراكيّة ليس وراءها شي‏ء، و السفسطة هي الثاني دون الأوّل و توخّي أزيد من ذلك في باب العلم الحصوليّ طمع فيما لا مطمع فيه و تمام الكلام في ذلك موكول إلى محلّه. و الله الهادي.

قوله تعالى: ( قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) ابتدرت إلى تكليمه لما أدهشها حضوره عندها و هي تحسب أنّه بشر هجم عليها لأمر يسوؤها و استعاذت بالرحمن استدرارا للرحمة العامّة الإلهيّة الّتي هي غاية آمال المنقطعين إليه من

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

[ وقال الشافعي : يأخذه الشفيع بمتعة مثلها لا بالمهر ؛ لأنّ المتعة هي التي وجبت بالطلاق ، والشقص عوض عنها(١) .

ولو أخذ من المكاتب شقصاً عوضاً عن النجوم ، فلا شفعة عندنا ](٢) .

وقال الشافعي : يأخذه الشفيع بمثل النجوم أو بقيمتها ؛ لأنّ النجوم هي التي قابلته(٣) .

ولو جعل الشقص اُجرة دار ، فلا شفعة عندنا.

وقال الشافعي : يؤخذ بقيمة المنفعة ، وهي اُجرة مثل الدار(٤) .

ولو صالح على الشقص عن دم ، فلا شفعة عندنا.

وقال الشافعي : يأخذه الشفيع بقيمة الدم ، وهي الدية(٥) . ويعود فيه مذهب مالك(٦) .

ولو استقرض شقصاً ، فلا شفعة عندنا.

وقال الشافعي : يأخذه الشفيع بقيمته وإن قلنا : إنّ المستقرض يردّ المثل ؛ لأنّ القرض مبنيّ على الإرفاق ، والشفعة ملحقة بالإتلاف(٧) (٨) .

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٢) بعض ما بين المعقوفين أضفناه من « العزيز شرح الوجيز » نصّاً ، ونحوه في « التهذيب » للبغوي ، و « روضة الطالبين ». وبعضه الآخَر من تصحيحنا لأجل السياق.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٤و٥) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٦) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة. وورد في العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ - تتمّةً لقول الشافعي - : « ويقود منه الجريح ويذهب ملكه » بدل « ويعود فيه مذهب مالك ».

(٧) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « بالإتلاف ». وما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٨) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

٢٦١

مسالة ٧٤٧ : لو كان الثمن مؤجَّلاً‌ ، مثلاً : اشترى الشقص بمائة مؤجَّلة إلى سنة ، فللشيخرحمه‌الله قولان :

أحدهما - وهو الأقوى عندي ، وبه قال مالك وأحمد والشافعي في القديم(١) - : أنّ للشفيع الأخذ كذلك بعد إقامة كفيل إذا لم يكن مليّاً ، وليس له الصبر والأخذ عند الأجل(٢) .

لنا : أنّ الأخذ إنّما يكون بالثمن ، ويجب أن يكون على الشفيع مثل الثمن قدراً ووصفاً ، والتأجيل وصف في الثمن. ولأنّ الشفعة على الفور ، وتأخير الطلب إلى الأجل مناف للفوريّة ، وأخذها بالثمن المعجّل إضرار بالشفيع بغير وجه ، فلم يبق إلّا ما قلنا توصّلاً إلى الجمع بين الحقوق كلّها.

وقال الشيخ أيضاً : يتخيّر الشفيع بين أن يأخذه ويعجّل الثمن ، وبين أن يصبر إلى أن يحلّ الأجل ثمّ يأخذه بالثمن(٣) - وبه قال أبو حنيفة والشافعي في الجديد(٤) - لأنّ ذلك يؤدّي إلى أن يلزم المشتري قبول ذمّة الشفيع ، والذمم لا تتماثل ، ولهذا إذا مات مَنْ عليه الدَّيْن المؤجَّل ، حلّ الأجل ، ولم ينتقل إلى ذمّة الورثة. وملاءة الأشخاص لا توجب تماثل الذمم ، فإنّها تختلف في كون بعضها أوفى وبعضها أسهل في المعاملة.

____________________

(١) الموطّأ ٢ : ٧١٥ ، ذيل الحديث ٣ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٥٩ ، المغني ٥ : ٥٠٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٣ ، المحلّى ٩ : ٩٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٩ ، وانظر : روضة الطالبين ٤ : ١٧١ - ١٧٢.

(٢) النهاية : ٤٢٥.

(٣) المبسوط - للطوسي - ٣ : ١١٢ ، الخلاف ٣ : ٤٣٣ ، المسألة ٩ من كتاب الشفعة.

(٤) بدائع الصنائع ٥ : ٢٧ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٤٣ / ١٩٥٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٥٦ ، الوسيط ٤ : ٨٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٩ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١ - ١٧٢ ، المغني ٥ : ٥٠٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٣.

٢٦٢

ولأنّ في ذلك تغريراً بالمشتري ؛ لجواز أن يذهب مال الشفيع قبل حلول الأجل ، فيلزمه غرمه ، ولا يجوز أن يلزمه ذلك ، ولم يحصل له حظّ بهذا البيع.

وهو ممنوع ؛ لأنّا نلزم الشفيع بكفيل مليّ يرتضيه المشتري ، فاندفع المحذور.

وللشافعي قولٌ ثالث : إنّ الشفيع يأخذه بسلعة قيمتها الثمن إلى سنة ؛ لأنّه لم يأخذ السلعة بثمن مؤجّل على ما تقدّم ، وإن أخذها بثمنٍ حالّ في الحال أو بعد انقضاء الأجل ، فقد كلّفناه أكثر من الثمن ؛ لأنّ ما يباع بمائة إلى سنة لا يساويها حالّا ، ولئلّا يتأخّر الأخذ ولا يتضرّر الشفيع(١)

وعلى ما اخترناه فإنّما يأخذه بثمنٍ مؤجّل إذا كان مليّاً موثوقاً به أو(٢) إذا أعطى كفيلاً مليّاً ، وإلّا لم يأخذه ؛ لأنّه إضرار بالمشتري ، وهو أحد قولي الشافعي على تقدير قوله بما قلناه. والثاني له : أنّ له الأخذ على الإطلاق ، ولا ينظر إلى صفته ، ولو أخذه ثمّ مات ، حلّ عليه الأجل(٣) .

وعلى قول أبي حنيفة والشيخ والشافعي في الجديد لا يبطل حقّ الشفيع بالتأخير ؛ لأنّه تأخير بعذر ، ولكن هل يجب تنبيه المشتري على الطلب؟ فيه وجهان ، أحدهما : لا ؛ إذ لا فائدة فيه. والثاني : نعم ؛ لأنّه ميسور وإن كان الأخذ معسوراً(٤) .

ولو مات المشتري وحلّ عليه الثمن ، لم يتعجّل الأخذ على الشفيع ،

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٩ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٢.

(٢) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « و» بدل « أو ». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٠ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٢.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٩ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٢.

٢٦٣

بل هو على خيرته إن شاء أخذ في الحال ، وإن شاء صبر إلى مجي‌ء ذلك المحلّ.

ولو مات الشفيع ، فالخيرة التي كانت له تثبت لورثته.

ولو باع المشتري الشقص قبل أن يحلّ الأجل ، صحّ البيع ؛ لأنّ الثمن لو كان حالّاً فباع المشتري صحّ بيعه ، فإذا كان مؤجّلاً وتأخّر الأخذ ، كان جواز البيع أولى ، ويتخيّر الشفيع بين أن يجيز البيع الثاني ويأخذه بالثمن الثاني وبين أن يفسخه إمّا في الحال أو عند حلول الأجل ، ويأخذه بالثمن الأوّل ؛ لأنّ ذلك كان له ، ولا يسقط بتصرّف المشتري.

هذا إذا قلنا : إنّ للشفيع نقض تصرّف المشتري ، وهو الظاهر عندهم(١) ، وفيه خلاف ، وإن قلنا بالثالث ، فتعيين(٢) العرض إلى الشفيع وتعديل القيمة [ إلى ](٣) مَنْ يعرفها.

ولو لم يتّفق طلب الشفعة حتى حلّ الأجل ، وجب أن لا يطالب على هذا القول إلّا بالسلعة المعدلة ؛ لأنّ الاعتبار في قيمة عوض المبيع بحال البيع ، ألا ترى أنّه إذا باع بمتقوّم ، تعتبر قيمته يوم البيع. وعلى القولين الآخَرَيْن لو أخّر الشفعة ، بطل حقّه.

مسالة ٧٤٨ : لو ضمّ شقصاً مشفوعاً إلى ما لا شفعة فيه في البيع‌ ، مثل أن يبيع نصفَ دار وثوباً أو عبداً أو غيرهما صفقةً واحدة ، بسط الثمن عليهما باعتبار القيمتين ، وأخذ الشفيع الشقص بحصّته من الثمن ، عند علمائنا ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد(٤) ، ولا شفعة في المضموم ؛

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٠ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٢.

(٢) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « فيتعيّن ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٠ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٢ ، المغني ٥ : ٥٠٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٢.

٢٦٤

لأنّ المضموم لا شفعة فيه ولا هو تابع لما فيه الشفعة ، فلا تثبت فيه الشفعة ، كما لو أفرده.

وقال مالك : تثبت الشفعة فيهما معاً. ويروى عنه أيضاً أنّه إن كان من مصالح الضيعة وتوابعها كالثيران وآلات الحرث والعبد العامل في البستان ، أخذه الشفيع مع الشقص. وإن كان غير ذلك ، لم يأخذه ؛ لأنّه لو أخذ الشقص وحده ، تبعّضت الصفقة على المشتري ، وفي ذلك ضرر ، ولا يزال الضرر عن الشفيع بإلحاق ضرر المشتري(١) .

وهو غلط ؛ لأنّه أدخله على نفسه بجمعه في العقد بين ما ثبت فيه الشفعة وما لا تثبت.

ثمّ النظر إلى قيمتهما يوم البيع ؛ فإنّه وقت المقابلة.

قال الجويني : إذا قلنا : إنّ الملك ينتقل بانقطاع الخيار ؛ فيجوز أن يعتبر وقت انقطاع الخيار ، لأنّ انتقال الملك - الذي هو سبب الشفعة - حينئذٍ يحصل(٢) .

وهذا يتأتّى على قول الشيخ أيضاً.

وإذا أخذ الشفيع الشقص ، لم يثبت للمشتري الخيار وإن تفرّقت الصفقة عليه ، لدخوله فيها عالماً بالحال.

مسالة ٧٤٩ : إذا اشترى شقصاً من دار فاستهدمت إمّا بفعل المشتري أو بغير فعله ، فلها أحوال :

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٠ ، المغني ٥ : ٥٠٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٠.

٢٦٥

أ - أن تتعيّب من غير تلف شي‌ء منها ولا انفصال بعضها عن بعض بأن يتشقّق جدار أو تميل أسطوانة أو ينكسر جذع أو يضطرب سقف ، فالشفيع بالخيار بين الأخذ بكلّ الثمن ، وبين الترك ، ويكون تعيّبه في يد المشتري كتعيّب المبيع في يد البائع ، فإنّه يتخيّر المشتري بين الفسخ وبين الأخذ بجميع الثمن ، عند بعض(١) علمائنا ، وبه قال الشافعي(٢) .

وعند بعضهم(٣) يسقط(٤) الأرش ، فينبغي هنا أن يكون كذلك.

ب - أن يتلف بعضها ، فيُنظر إن تلف شي‌ء من العرصة بأن غشيها السيل فغرّقها ، أخذ الباقي بحصّته من الثمن.

وإن بقيت العرصة بتمامها وتلفت السقوف والجدران باحتراقٍ وغيره ، فإن قلنا : إنّ الأبنية كأحد العبدين المبيعين(٥) ، أخذ العرصة بحصّتها من‌

____________________

(١) كالشيخ الطوسي في الخلاف ٣ : ١٠٩ ، المسألة ١٧٨ ، والمبسوط ٢ : ١٢٧ ، وابن إدريس في السرائر ٢ : ٣٠٥.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٢ - ١٧٣.

(٣) اُنظر : نكت النهاية ( النهاية ونكتها ) ٢ : ١٦١ - ١٦٢.

(٤) كذا بصيغة الإثبات. وفي جواهر الكلام ١٦ : ٣٥٩ حيث نقل عبارة التذكرة قال : « لا يسقط الأرش ». وقال المحقّق الكركي في جامع المقاصد ٤ : ٤١٧ - ٤١٨ عند شرح قول المصنّف في القواعد : « ولو انهدم أو تعيّب بفعل المشتري قبل المطالبة » : فهاهنا أربع صور : الاولى : أن يكون ذلك بفعل المشتري قبل مطالبة الشفيع بالشفعة بأن ينقض البناء أو يشقّ الجدار أو يكسر الجذع إلى أن ساق الكلام إلى قوله : وقد سبق في كتاب البيع وجوب الأرش على البائع إذا تعيّب المبيع في يده فينبغي أن يكون هنا كذلك ، وقد نبّه كلام المصنّف في التذكرة على ذلك. انتهى ، فلاحظ قوله : « وجوب الأرش على البائع » حيث إنّه يخالف قول المصنّف : « يسقط الأرش » ويوافق ما في الجواهر من قوله : « لا يسقط ». وانظر أيضاً : الكافي في الفقه - للحلبي -: ٣٥٥.

(٥) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « المسمّيين » بدل « المبيعين ». والظاهر ما أثبتناه.

٢٦٦

الثمن ، وهو الأصحّ ، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد(١) .

وإن قلنا : إنّها كأطراف العبد وصفاته ، أخذها بكلّ الثمن على رأي - وبه قال الشافعي(٢) - وبما بعد الأرش على رأي.

وفرّق بعضهم بين أن يكون التلف بآفة سماويّة ، فيأخذها بجميع الثمن ، أو بإتلاف متلفٍ ، فيأخذها بالحصّة ؛ لأنّ المشتري يحصل له بدل التالف ، فلا يتضرّر ، وبه قال أبو حنيفة(٣) .

ج - أن لا يتلف شي‌ء منها ولكن ينفصل بعضها عن بعض بالانهدام وسقوط الجدران ، فإنّ الشفيع يأخذ الشقص مع الأبعاض - وهو أحد قولي الشافعي(٤) - لأنّها دخلت في البيع وكانت متّصلة به حالة البيع ممّا يدخل في الشفعة ، فكذا بعد النقض ، وكونه منقولا عرض بعد البيع وبعد تعلّق حقّ الشفيع به ، والاعتبار بحال جريان العقد ، ولهذا لو اشترى داراً فانهدمت ، يكون النقض والعرصة للمشتري وإن كان النقض لا يندرج في البيع لو وقع بعد الانهدام.

والثاني للشافعي : لا يأخذ الشفيع النقض ؛ لأنّه منقول كما لو كان في الابتداء كذلك وأدخل النقض في البيع ، لا يؤخذ بالشفعة(٥) .

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٣ ، المغني ٥ : ٥٠٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٣.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٣.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٣ ، بدائع الصنائع ٥ : ٢٨ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٥١ / ١٩٧٢ ، المغني ٥ : ٥٠٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٣.

(٤و٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٣.

٢٦٧

فإن قلنا بالأوّل ، أخذه مع العرصة بجميع الثمن أو بما بعد الأرش على ما تقدّم ، أو يعرض عن الكلّ.

وإن قلنا : إنّه لا يأخذه - كما هو اختيار الشافعي في القول الثاني - فيبني على أنّ السقوف والجدران كأحد العبدين أو كطرف العبد؟ إن قلنا بالأوّل ، أخذ العرصة وما بقي من البناء بحصّتهما من الثمن.

وإن قلنا بالثاني ، فوجهان :

أحدهما : أنّه يأخذ بالحصّة ؛ لأنّ الأنقاض كانت من الدار المشتراة ، فيبعد أن تبقى للمشتري مجّاناً ويأخذ الشفيع ما سواه بتمام الثمن.

والثاني - وهو قياس الأصل المبنيّ عليه - : أن يأخذ بتمام الثمن ، كما في الحالة الاُولى. وعلى هذا فالأنقاض تشبه بالثمار والزوائد التي يفوز بها المشتري قبل قبض الشفيع(١) .

ومنهم مَنْ كان يطلق قولين - تفريعاً على أنّ النقض غير مأخوذ من غير البناء - على أنّ النقض كأحد العبدين أو كأطراف العبد؟(٢)

ووجه الأخذ بالكلّ : أنّه نَقْصٌ حصل عند المشتري ، فأشبه تشقّق الحائط ، والأخذِ بالحصّة : أنّ ما لا يؤخذ من المبيع بالشفعة تسقط حصّته من الثمن ، كما إذا اشترى شقصاً وسيفاً.

واعلم أنّ المزني نقل عن الشافعي أنّ الشفيع مخيّر بين أن يأخذه بجميع الثمن أو يردّ(٣) .

وقال في القديم ومواضع من الجديد : أنّه يأخذه بالحصّة(٤) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١١ - ٥١٢ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٣.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٢.

(٣) مختصر المزني : ١٢٠ ، الحاوي الكبير ٧ : ٢٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٢.

(٤) الحاوي الكبير ٧ : ٢٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٢.

٢٦٨

وقد ذكر بعض الشافعيّة فيه خمس طرق :

أ - منهم مَنْ قال : إنّ ما انهدم من الدار لا يدخل في الأخذ بالشفعة ، وإنّما يأخذ العرصة وما فيها من البناء ؛ لأنّ ذلك منفصل عنها ، كما لو باع داراً ، لم يدخل فيها ما كان منفصلاً عنها. وهل يأخذ العرصة والبناء الذي فيها بجميع الثمن أو بالحصّة؟ قولان.

ب - ما ذُكر في الطريقة الاُولى إلّا في أنّه يأخذ ذلك بحصّته من الثمن قولاً واحداً.

ج - إنّ ما انفصل من الدار يستحقّه الشفيع مع الدار ؛ لأنّ استحقاقه للشفعة إنّما كان حال عقد البيع وفي ذلك الحال كان متّصلاً.

د - المسألة على اختلاف حالين ، فالموضع الذي قال : يأخذها بالحصّة إذا ذهب بعض العرصة بغرقٍ أو غير ذلك ، والموضع الذي قال : يأخذها بجميع الثمن إذا كانت العرصة باقيةً وإنّما ذهب البناء.

ه- إنّ الموضع الذي قال : يأخذ بالحصّة إذا تلف بعض الأعيان بفعله أو فعل آدميّ ، والموضع الذي قال : يأخذه بجميع الثمن إذا حصل ذلك بأمر سماويّ(١) .

وبهذه(٢) الطريقة الأخيرة قال أبو حنيفة(٣) .

أقول : ما فعله المشتري مضمون ( وإن كان إذا )(٤) حصل بغير فعله لم يضمنه ، كما لو قلع عين المبيع ، كان تضمينها عليه ، ولو سقطت‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٢٦٥ - ٢٦٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٢.

(٢) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « هذه ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) بدائع الصنائع ٥ : ٢٨ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٥١ / ١٩٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١١ ، المغني ٥ : ٥٠٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٣.

(٤) بدل ما بين القوسين في الطبعة الحجريّة : « وإذا كان ».

٢٦٩

لم يسقط شي‌ء من الثمن.

هذا كلّه إذا كان التعيّب لا بفعل المشتري أو بفعله قبل الطلب ، أمّا إذا كان بفعل المشتري بعد الطلب ، فهل يضمن المشتري؟ قولان لعلمائنا ، الأقرب : الضمان.

ولو تلف بعض المبيع ، أخذه بحصّته من الثمن.

مسالة ٧٥٠ : إذا بنى المشتري أو غرس قبل القسمة ، كان للشريك قلعه‌ ، لا من حيث الشفعة ، بل من حيث إنّ أحد الشريكين إذا بنى أو غرس في الأرض المشتركة ، كان للشريك الآخر قلعه وتخريب البناء مجّاناً ، وله الأخذ بالشفعة بعد القلع وقبله.

وإن كان المشتري قد قسّم - إمّا لغيبة الشريك ، أو لصغره - بإذن الحاكم ، أو لكذبه في الإخبار بالثمن فعفا ، أو في الاتّهاب فظهر(١) البيع ، أو قاسمه وكيله وأخفى(٢) عنه وجه الحظّ في الأخذ بالشفعة ثمّ يجي‌ء الموكّل فيظهر له الوجه ثمّ بنى أو غرس أو زرع بعد القسمة والتمييز ثمّ علم الشفيع ، فللمشتري قلع غرسه وبنائه ؛ لأنّه ملكه.

فإذا قلعه ، لم يكن عليه تسوية الحفر ؛ لأنّه غرس وبنى في ملكه ، وما حدث من النقص فإنّما حدث في ملكه ، وذلك ممّا لا يقابله الثمن ، وإنّما يقابل الثمن سهام الأرض من نصف وثلث وربع ، ولا يقابل التراب ، فيكون الشفيع بالخيار بين أن يأخذ الأرض بجميع الثمن أو يترك.

وإن لم يقلع المشتري الغراس ، تخيّر الشفيع بين ثلاثة أشياء : ترك الشفعة ، وأخذها ودفع قيمة البناء والغراس إن رضي الغارس والباني ،

____________________

(١) في « س ، ي » : « فيظهر ».

(٢) في « س ، ي » : « خفي ».

٢٧٠

ويصير الملك له ، وأن يُجبر المشتري على القلع ، ويضمن له ما نقص له بالقلع.

وقيل : رابعٌ : أن يُبقيه في الأرض باُجرة(١) .

فأمّا إذا طالبه بقلع ذلك من غير أن يضمن له النقص ، لم يلزمه قلعه ، قاله الشيخ(٢) رحمه‌الله ، والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق والنخعي(٣) ؛ لأنّه بنى في ملكه الذي يملك نفعه ، فلم يُجبر على قلعه مع الإضرار به ، كما لو كان لا شفعة فيه.

وقال أبو حنيفة والثوري : يُجبر على قلعه ؛ لأنّه بنى في حقّ غيره بغير إذنه ، فكان عليه قلعه ، كما لو بنى فيها وبانت مستحقَّةً(٤) .

وفرّق(٥) الأوائل بأنّه غرس في ملك غيره(٦) .

وقول أبي حنيفة عندي لا بأس به ، والبناء وإن كان في ملكه لكنّه ملكٌ غير مستقرّ ، فلا يؤثّر في منع القلع ، والقياس على عدم الشفعة باطل.

لا يقال : القسمة تقطع الشركة ، وتردّ العلقة بينهما إلى الجوار ، وحينئذٍ وجب أن لا تبقى الشفعة ؛ لاندفاع الضرر الذي كُنّا نثبت الشفعة لدفعه ، كما لا تثبت ابتداءً للجار.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢٠ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٨.

(٢) المبسوط - للطوسي - ٣ : ١١٨ ، الخلاف ٣ : ٤٣٩ ، المسألة ١٤.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٩ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٦ - ١٧٧ ، المغني ٥ : ٥٠١ ، الشرح الكبير ٥ : ٥١٣.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٩ ، المغني ٥ : ٥٠١ ، الشرح الكبير ٥ : ٥١٣.

(٥) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « فرّقوا ».

(٦) المغني ٥ : ٥٠١ ، الشرح الكبير ٥ : ٥١٣.

٢٧١

لأنّا نقول : الجوار وإن لم يكن يكتفى به في الابتداء إلّا أنّه اكتفي به في الدوام عند حصول الشركة في الابتداء ، ولم يخرّج على الخلاف في بطلان الشفعة فيما إذا باع نصيبه جاهلاً بالشفعة ؛ لأنّ الجوار على حال ضرب اتّصال قد يؤدّي إلى التأذّي(١) بضيق المرافق وسوء الجوار ، ولذلك اختلف العلماء في ثبوت الشفعة به.

إذا عرفت هذا ، فلا فرق بين تصرّف المشتري والمستعير إذا بنى في أرض المعير أو غرس. ولو كان قد زرع ، ترك زرعه إلى أن يدرك ويحصد.

وهل للشفيع أن يطالبه باُجرة بقاء الزرع؟ الأقوى : العدم ، بخلاف المستعير ، فإنّه زرع أرض الغير وقد رجع في العارية ، فكان عليه الاُجرة ، أمّا المشتري فإنّه زرع ملك نفسه واستوفى منفعته بالزراعة ، وهو أحد وجهي الشافعيّة. وفي الثاني : له المطالبة ، كما أنّ المعير يبقي بالاُجرة(٢) . وقد بيّنّا الفرق.

وكذا لو باع أرضاً مزروعة ، لا يطالبه المشتري بالاُجرة لمدّة بقاء الزرع.

وللشافعيّة في الصور الثلاث - صورة بيع الأرض المزروعة ، وصورة العارية ، وصورة الشفعة - وجهان في وجوب الاُجرة ، لكنّ الظاهر عندهم في صورة العارية وجوب الاُجرة ، وفي الصورتين الاُخريين المنع ؛ للمعنى الجامع لهما ، وهو أنّه استوفى منفعة ملكه(٣) .

وأمّا إذا زرع بعد المقاسمة ، فإنّ الشفيع يأخذ بالشفعة ، ويبقى زرع المشتري إلى أوان الحصاد ، لأنّ ضرره لا يبقى ، والأجرة عليه ، لأنّه زرعه‌

____________________

(١) في « س » والطبعة الحجريّة : « على حال ضرر إيصال قد يتأدّى إلى التأذّي ». وفي « ي » : « على حال ضرر أيضاً . .». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢٠ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٧.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢٠.

٢٧٢

في ملكه.

تذنيب : إذا زرع ، لزم الشفيع إبقاء الزرع ، وحينئذٍ يجوز له تأخير الشفعة إلى الإدراك والحصاد ؛ لأنّه لا ينتفع به قبل ذلك ، ويخرج الثمن من يده ، فله في التأخير غرض صحيح ، وهو الانتفاع بالثمن إلى ذلك الوقت ، قاله بعض الشافعيّة(١) .

وقال بعضهم : ويحتمل أن لا يجوز التأخير وإن تأخّرت المنفعة ، كما لو بِيعت الأرض في وسط الشتاء ، لا تؤخّر الشفعة إلى أوان الانتفاع(٢) . ولعلّ بينهما فرقاً.

ولو كان في الشقص أشجار عليها ثمار لا تستحقّ بالشفعة ، ففي جواز التأخير إلى وقت القطاف وجهان للشافعيّة(٣) .

وعندي أنّه يجب الأخذ معجّلاً.

مسالة ٧٥١ : لو تصرّف المشتري بوقف أو هبة وغيرهما ، صحّ‌ ؛ لأنّه واقع في ملكه ، وثبوت حقّ التملّك للشفيع لا يمنع المشتري من التصرّف ، كما أنّ حقّ التملّك للواهب بالرجوع(٤) لا يمنع تصرّف المتّهب ، وكما أنّ حقّ التملّك للزوج بالطلاق لا يمنع تصرّف الزوجة.

وعن ابن سريج من الشافعيّة أنّ تصرَّفاته باطلة ؛ لأنّ للشفيع حقّاً لا سبيل إلى إبطاله ، فأشبه حقّ المرتهن(٥) .

وإذا قلنا بالصحّة على ما اخترناه نحن - وهو الظاهر من قول الشافعيّة(٦) - أنّه يُنظر إن كان التصرّف ممّا لا تثبت به الشفعة ، فللشفيع نقضه ، وأخذ‌

____________________

(٣-١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٨.

(٤) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « فالرجوع ». والصحيح ما أثبتناه.

(٥و٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٨.

٢٧٣

الشقص بالشفعة ، وإلّا تخيّر بين الأخذ بالأوّل وفسخ الثاني ، وبين إمضائه والأخذ بالثاني.

وعن المروزي أنّه ليس تصرّف المشتري بأقلّ من بنائه ، فكما لا ينقض المشتري بناؤه لا ينبغي أن ينقض تصرّفه(١) .

واختلفت الشافعيّة في موضع هذا الوجه :

فمنهم مَنْ خصّصه بما تثبت فيه الشفعة من التصرّفات ، أمّا ما لا تثبت فله نقضه ، لتعذّر الأخذ به.

ومنهم مَنْ عمّم وقال : تصرّف المشتري يُبطل حقَّ الشفيع ، كما يُبطل تصرّف المشتري المفلس حقَّ الفسخ للبائع ، وتصرّف المرأة حقَّ الرجوع إلى العين إذا طلّق قبل الدخول ، وتصرّف المتّهب رجوعَ الواهب. نعم ، لو كان التصرّف بيعاً ، تجدّد حقّ الشفعة بذلك(٢) .

وعن أبي إسحاق من الشافعيّة أنّها لا تتجدّد أيضاً ؛ لأنّ تصرّف المشتري إذا كان مبطلاً للشفعة ، لا يكون مثبتاً لها ، كما إذا تحرّم(٣) بالصلاة ثمّ شكّ فجدّد نيّةً وتكبيراً ، لا تنعقد بها الصلاة ؛ لأنّه يحصل بها الحلّ فلا يحصل العقد(٤) .

ووجه ظاهر المذهب : أنّ للشفيع نقض تصرّف المشتري ؛ لأنّ حقّه ثابت بأصل العقد ، فلا يتمكّن المشتري من إبطاله ، ولا يشبه تصرّف المفلس وتصرّف المرأة في الصداق ، فإنّ حقّ البائع والزوج لا يبطل بالكلّيّة ، بل ينتقل إلى الثمن والقيمة ، والواهب رضي بسقوط حقّه حيث سلّمه إليه وسلّطه عليه ، وهنا لم يبطل حقّ الشفيع بالكلّيّة ، ولم يوجد منه‌

____________________

(١و٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١.

(٣) في الطبعة الحجريّة : « أحرم » بدل « تحرّم ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢٢.

٢٧٤

رضا ولا تسليم(١) .

قال بعض الشافعيّة : يجوز أن يبنى الوجهان على القولين فيما إذا عُتقت الأمة تحت عبد وطلّقها قبل أن تختار الفسخ ، هل ينفذ الطلاق؟

ووجه الشبه : أنّ الطلاق يُبطل حقّها في الفسخ ولم تسلّطه عليه ، كما ذكرنا في الشفيع(٢) .

وحكي عن بعضهم أنّه لا ينقض الشفعةَ تصرّفُ الوقف ، وينقض ما عداه(٣) .

مسالة ٧٥٢ : النخل تتبع الأرض في الشفعة‌ ، وبه قال الشافعي(٤) .

فإن طالب بالشفعة وقد زادت النخل بطولٍ وسعفٍ ، رجع في ذلك ؛ لأنّ هذه زيادة غير متميّزة ، فتبعت الأرض في الرجوع ، كسمن الجارية.

اعترض بعض الشافعيّة بأنّه كيف جعلتم النخل تبعاً للأرض في الشفعة وقد قلتم : إنّ الأرض تتبع النخل في المساقاة ، فتجوز المزارعة على ما بين النخل من البياض تبعاً للنخيل!؟

واُجيب : بأنّه يجوز أن تكون الأرض تبعاً في حكمٍ يختصّ بالنخل ، والنخل تبعاً لها في حكم آخَر يختصّ بالأرض ، وإنّما لا يجوز أن يكون الشي‌ء تابعاً ومتبوعاً في أمرٍ واحد ، وقد عرفت الكلبُ مقيس على الخنزير في النجاسة ، والخنزير مقيس عليه في الغَسْل من ولوغه عندهم(٥) .

ولو طلّق الزوج قبل الدخول وكان الصداق نخلاً وقد طالت ، لا يرجع في النصف ، لأنّ الزوج يمكنه الرجوع في القيمة إذا تعذّر الرجوع في‌

____________________

(٣-١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢٢.

(٤) الحاوي الكبير ٧ : ٢٦٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٤.

(٥) لم نعثر على الاعتراض والجواب عنه في المصادر المتوفّرة لدينا.

٢٧٥

العين ، والقيمة تنوب منابها ، وفي الشفعة إذا لم يرجع في ذلك ، سقط حقّه من الشفعة ، فلهذا لم يسقط من الأصل لأجل ما حدث من البائع.

إذا عرفت هذا ، فإن كان في هذه النخل طلع حدث ، نُظر فإن كان قد اُبّر وتشقّق ، كان للمشتري ؛ لأنّه بمنزلة النماء المنفصل من ملكه.

وإن كان لم يؤبّر ، فهل يتبع في الشفعة؟

أمّا عندنا فلا ؛ لاختصاص الشفعة بالبيع خاصّةً.

وأمّا عند الشافعي فقولان(١) ، كالمفلس إذا ابتاع نخلاً وحدث فيها طلع لم يؤبّر وأراد البائع الرجوع في النخل.

ويفارق ذلك البيعَ ؛ لأنّه أزال ملكه باختياره ، وكان الطلع تابعاً إذا لم يكن ظاهراً ، ويكون في الردّ بالعيب كالشفعة.

وكذلك إذا كان انتقال الملك بغير عوض - كالهبة ، وفسخ الهبة - فيه قولان(٢) .

فإن كان المشتري اشترى النخل وفيها الطلع ، فإن كان مؤبَّراً ، فإنّه لا يتبع في البيع ، وإذا اشترطه ، دخل في البيع ، ولا تثبت فيه الشفعة ، وإنّما يأخذ الأرض والنخل بحصّتهما من الثمن.

فإن كانت غير مؤبَّرة ، تبعت بمطلق العقد.

فإن أخذ الشفيع الشقص قبل أن تؤبّر الثمرة ، لم يأخذه الشفيع بالثمرة إن تجدّدت بعد الشراء.

وإن كانت موجودةً حال البيع ، فالأقوى : الدخول في الشفعة ، كما دخلت في البيع ، فصارت بمنزلة النخل في الأرض.

____________________

(١ و ٢) لم نعثر عليه في مظانّه.

٢٧٦

وإن أخذ الشقص بعد التأبير ، لم يتبعه الطلع.

وقال بعض الشافعيّة : إذا أخذ الشفيع الشقص قبل أن يؤبّر الطلع ، كان في الطلع القولان ؛ لأنّه لو ثبت حقّ الشفيع في هذا الطلع ، لوجب أن يأخذه وإن تشقّق ؛ لأنّ ذلك زيادة متّصلة(١) .

والغراس تبع في الشفعة ؛ لأنّه يراد للتبقية في الأرض والتأبيد.

مسالة ٧٥٣ : إذا تبايعا بثمن ثمّ زاده المشتري عليه زيادة أو نقص البائع منه شيئاً بعد العقد، فإن كان ما اتّفقا عليه من الزيادة أو الحطّ بعد لزوم البيع وانقضاء الخيار ، لم يكن للشفيع في ذلك حقّ ، ولا عليه شي‌ء لا في حطّ الكلّ ولا في حطّ البعض ؛ لأنّ الشفيع إنّما يأخذ بما استقرّ عليه العقد ، والذي استقرّ عليه المسمّى.

ولو كان في زمن الخيار ، لم يلحق أيضاً الشفيع عندنا ؛ لوقوع العقد على شي‌ء ، فلا تضرّ الزيادة والنقيصة بعده.

وقال الشافعي : يثبت ذلك التغيير في حقّ الشفيع في أحد الوجهين ؛ لأنّ حقّ الشفيع إنّما ثبت إذا تمّ العقد ، وإنّما يستحقّ بالثمن الذي هو ثابت في حال استحقاقه. ولأنّ زمن الخيار بمنزلة حالة العقد ، والتغيير يلحق بالعقد ؛ لأنّهما على اختيارهما فيه كما كانا في حال العقد(٢) .

فأمّا إذا انقضى الخيار وانبرم(٣) العقد فزاد أو نقص ، لم يلحق بالعقد ؛ [ لأنّ الزيادة ](٤) لا تثبت إلّا أن تكون هبةً مقبوضةً ، والنقصان يكون‌

____________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٢) الوجيز ١ : ٢١٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٣ ، المغني ٥ : ٥٠٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٢.

(٣) في الطبعة الحجريّة : « لزم » بدل « انبرم ».

(٤) بدل ما بين المعقوفين في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « والزيادة ». والظاهر ما أثبتناه كما في المغني والشرح الكبير.

٢٧٧

إبراءً ، ولا يثبت [ ذلك ](١) في حقّ الشفيع ، وبه قال الشافعي(٢) .

وقال أبو حنيفة : يثبت النقصان بعد الخيار للشفيع ، ولا تثبت الزيادة وإن كانا(٣) عنده يلحقان بالعقد ، ويقول : الزيادة تضرّ بالشفيع فلم يملكها(٤) .

وهو غلط ؛ لأنّ ذلك تغيّر بعد استقرار العقد ، فلم يثبت في حقّ الشفيع ، كالزيادة.

والفرق ليس بصحيح ؛ لأنّ ذلك لو لحق بالعقد ، لثبت في حقّه وإن أضرّ به ، كما لو كان في زمن الخيار.

ولو حطّ كلّ الثمن في زمن الخيار ، لم يلحق الحطّ عندنا بالشفعة - وبه قال الشافعي(٥) - لأنّ ذلك بمنزلة ما لو باع بلا ثمن ، فلا شفعة للشريك ؛ لأنّه يصير هبةً ، فيبطل على رأي ، ويصحّ على رأي.

أمّا إذا حطّ منه أرش العيب ، فإنّه يثبت في حقّ الشفيع ؛ لأنّه سقط بجزء فقد من المبيع ، ولهذا فاته جزء من الثمن.

مسالة ٧٥٤ : لو كان ثمن الشقص عبداً ، ثبتت الشفعة عندنا‌ ، خلافاً لبعض علمائنا وبعض الجمهور ، وقد سبق(٦) ، ويأخذ الشفيع بقيمة العبد.

فإن وجد البائع بالعبد عيباً ، فإمّا أن يكون [ قبل ](٧) أن يحدث عنده‌

____________________

(١) ما بين المعقوفين من المغني والشرح الكبير.

(٢) المصادر في الهامش (٢) من ص ٢٧٦.

(٣) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « كان » بدل « كانا ». وما أثبتناه من المغني والشرح الكبير.

(٤) المغني ٥ : ٥٠٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٣.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٣.

(٦) في ص ٢٥٧ ، المسألة ٧٤٥.

(٧) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « بعد » بدل « قبل ». والصحيح ما أثبتناه.

٢٧٨

عيب أو يكون الوقوف على العيب بعد حدوث عيب عنده. فإن علمه قبل أن يحدث عنده عيب ، فإمّا أن يكون ذلك بعد أخذ الشفيع بالشفعة أو قبله.

فإن وقف عليه بعد أخذ الشفيع ، كان له ردّ العبد على المشتري ، ولم يكن له استرجاع الشقص ؛ لأنّ الشقص قد ملكه بالأخذ ، فلم يكن للبائع إبطال ملكه ، كما لو كان المشتري قد باعه ثمّ وجد البائع بالثمن عيباً ، فإنّه يردّه ، ولا يفسخ بيع المشتري ، ويرجع البائع إلى قيمة الشقص ، كذا هنا.

وقال بعض الشافعيّة : يستردّ المشتري الشقص من الشفيع ، ويردّ عليه ما أخذه ، ويسلّم الشقص إلى البائع ؛ لأنّ الشفيع نازل منزلة المشتري ، فردُّ البائع يتضمّن نقض ملكه ، كما يتضمّن نقض ملك المشتري لو كان في ملكه(١) .

والمشهور عندهم(٢) ما قلناه.

فإذا دفع الشفيع قيمة العبد إلى المشتري ودفع المشتري إلى البائع قيمة الشقص ، فإن تساويا ، فلا بحث. وإن تفاوتا ، لم يرجع المشتري على الشفيع إن كانت قيمة الشقص أكثر بشي‌ء ، ولا يرجع الشفيع على المشتري إن كانت قيمة العبد أكثر - وهو أحد قولي الشافعيّة(٣) - لأنّ الشفيع أخذه بالثمن الذي وقع عليه العقد ، فلا يلزمه أكثر من ذلك.

والثاني : يتراجعان ؛ لأنّ المشتري استقرّ عليه عوض الشفيع قيمته ، فينبغي أن يستحقّ ذلك على الشفيع ، فيرجع كلّ مَنْ كان ما دفعه أكثر على صاحبه بالزيادة(٤) .

ولو عاد الشقص إلى المشتري ببيع أو هبة أو ميراث أو غير ذلك ،

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٤ ، وأيضاً : فتح العزيز ١١ : ٤٥٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٤.

(٢ - ٤ ) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٤.

٢٧٩

لم يكن للبائع أخذه منه ، بخلاف الغاصب إذا دفع القيمة لتعذّر ردّ المغصوب ثمّ قدر عليه ، فإنّه يجب عليه ردّه على المالك ، واسترداد ما دفعه من القيمة ؛ لأنّ المالك لم يزل ملكه عن المغصوب بالتقويم ودفع القيمة ، وإنّما أخذنا القيمة للضرورة وقد زالت ، وهنا زال ملك البائع عنه وصار ملكاً للشفيع ، وانقطع حقّه عنه ، وإنّما انتقل حقّه إلى القيمة ، فإذا أخذها ، لم يبق له حقّ.

وحكى بعض الشافعيّة فيه وجهين بناءً على أنّ الزائل العائد كالذي لم يزل ، أو كالذي لم يعد؟(١)

وأمّا إذا كان قد علم بالعيب قبل أن يأخذ الشفيع بالشفعة ، فهنا حقّان ، ففي تقديم أيّهما للشافعيّة وجهان :

أحدهما : الشفيع أولى ؛ لأنّ حقّه سبق حقّ البائع في الردّ.

والثاني : البائع أولى ؛ لأنّ الشفعة تثبت لإزالة الضرر عن الشريك ، فلا نثبتها مع تضرّر البائع بإثباتها(٢) .

وحكى الجويني الجزم بتقديم البائع(٣) .

والوجه عندي : تقديم حقّ الشفيع ؛ لسبقه.

فإذا قلنا : الشفيع أحقّ ، فإنّ البائع يأخذ من المشتري قيمة الشقص ، ويرجع المشتري على الشفيع بقيمة العبد ، وهو أحد وجهي الشافعيّة. والثاني : يرجع على الشفيع بقيمة الشقص(٤) .

ولو وجد البائع العيب في العبد بعد أن حدث عنده عيب أو بعد‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٤.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٣.

(٤) لم نعثر عليه في مظانّه.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459