الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  17%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96689 / تحميل: 5832
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

بسم الله الرحمن الرحيم

( سورة مريم مكّيّة و هي ثمان و تسعون آية)

( سورة مريم الآيات ١ - ١٥)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ كهيعص ( ١ ) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ( ٢ ) إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ( ٣ ) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ( ٤ ) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا ( ٥ ) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ( ٦ ) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا ( ٧ ) قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ( ٨ ) قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ( ٩ ) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ( ١٠ ) فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ( ١١ ) يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ( ١٢ ) وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ( ١٣ ) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا ( ١٤ ) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ( ١٥ )

٢

( بيان)

غرض السورة على ما ينبئ عنه قوله تعالى في آخرها:( فَإِنَّما يَسَّـرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا ) إلخ، هو التبشير و الإنذار غير أنّه ساق الكلام في ذلك سوقاً بديعاً فأشار أوّلاً إلى قصّة زكريّا و يحيى و قصّة مريم و عيسى و قصّة إبراهيم و إسحاق و يعقوب و قصّة موسى و هارون و قصّة إسماعيل و قصّة إدريس و ما خصّهم به من نعمة الولاية كالنبوّة و الصدق و الإخلاص ثمّ ذكر أنّ هؤلاء الّذين أنعم عليهم كان المعروف من حالهم الخضوع و الخشوع لربّهم لكنّ أخلافهم أعرضوا عن ذلك و أهملوا أمر التوجّه إلى ربّهم و اتّبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا و يضلّ عنهم الرشد إلّا أن يتوب منهم تائب و يرجع إلى ربّه فإنّه يلحق بأهل النعمة.

ثمّ ذكر نبذة من هفوات أهل الغيّ و تحكّماتهم كنفي المعاد، و قولهم:( اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ) ، و عبادتهم الأصنام، و ما يلحقهم بذلك من النكال و العذاب.

فالبيان في السورة أشبه شي‏ء ببيان المدّعى بإيراد أمثلته كأنّه قيل: إنّ فلاناً و فلاناً و فلاناً الّذين كانوا أهل الرشد و الموهبة كانت طريقتهم الانقلاع عن شهوات النفس و التوجّه إلى ربّهم و سبيلهم الخضوع و الخشوع إذا ذكّروا بآيات ربّهم فهذا طريق الإنسان إلى الرشد و النعمة لكنّ أخلافهم تركوا هذا الطريق بالإعراض عن صالح العمل، و الإقبال على مذموم الشهوة و لا يؤدّيهم ذلك إلّا إلى الغيّ خلاف الرشد، و لا يقرّهم إلّا على باطل القول كنفي الرجوع إلى الله و إثبات الشركاء لله و سدّ طريق الدعوة و لا يهديهم إلّا إلى النكال و العذاب.

فالسورة كما ترى تفتح بذكر أمثلة ثمّ تعقّبها باستخراج المعنى الكلّيّ المطلوب بيانه و ذلك قوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) الآيات، فالسورة تقسّم الناس إلى ثلاث طوائف: الّذين أنعم الله عليهم من النبيّين و أهل الاجتباء و الهدى. و أهل الغيّ، و الّذين تابوا و آمنوا و عملوا صالحا و هم ملحقون بأهل النعمة و الرشد

٣

ثمّ تذكر ثواب التائبين المسترشدين و عذاب الغاوين و هم قرناء الشياطين و أولياؤهم.

و السورة مكّيّة بلا ريب تدلّ على ذلك مضامين آياتها و قد نقل على ذلك اتّفاق المفسّرين.

قوله تعالى: ( كهيعص ) قد تقدّم في تفسير أوّل سورة الأعراف أنّ السور القرآنيّة المصدّرة بالحروف المقطّعة لا تخلو من ارتباط بين مضامينها و بين تلك الحروف فالحروف المشتركة تكشف عن مضامين مشتركة.

و يؤيّد ذلك ما نجده من المناسبة و المجانسة بين هذه السورة و سورة ص في سرد قصص الأنبياء، و سيوافيك بحث جامع إن شاء الله في روابط مقطّعات الحروف و مضامين السور الّتي صدّرت بها، و كذا ما بين السور المشتركة في بعض هذه الحروف كهذه السورة و سورة يس و قد اشتركتا في الياء، و هذه السورة و سورة الشورى و قد اشتركتا في العين.

قوله تعالى: ( ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ) ظاهر السياق أنّ الذكر خبر لمبتدء محذوف و المصدر بمعنى المفعول، و المال بحسب التقدير: هذا خبر رحمة ربّك المذكور، و المراد بالرحمة استجابته سبحانه دعاء زكريّا على التفصيل الّذي قصّة بدليل قوله تلواً:( إِذْ نادى‏ رَبَّهُ ) .

قوله تعالى: ( إِذْ نادى‏ رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا ) الظرف متعلّق بقوله:( رَحْمَتِ رَبِّكَ ) و النداء و المناداة الجهر بالدعوة خلاف المناجاة، و لا ينافيه توصيفه بالخفاء لإمكان الجهر بالدعوة في خلاء من الناس لا يسمعون معه الدعوة، و يشعر بذلك قوله الآتي:( فَخَرَجَ عَلى‏ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ ) .

و قيل: إنّ العناية في التعبير بالنداء أنّه تصوّر نفسه بعيدا منه تعالى بذنوبه و أحواله السيّئة كما يكون حال من يخاف عذابه.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) إلى آخر الآية، تمهيد لما سيسأله و هو قوله:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ) .

و قد قدّم قوله:( رَبِّ ) للاسترحام في مفتتح الدعاء، و التأكيد بإنّ للدلالة

٤

على تحقّقه بالحاجة، و الوهن هو الضعف و نقصان القوّة و قد نسبه إلى العظم لأنّه الدعامة الّتي يعتمد عليها البدن في حركته و سكونه، و لم يقل: العظام منّي و لا عظمي للدلالة على الجنس و ليأتي بالتفصيل بعد الإجمال.

و قوله:( وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) الاشتعال انتشار شواظ النار و لهيبها في الشي‏ء المحترق قال في المجمع،: و قوله:( وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) من أحسن الاستعارات و المعنى اشتعل الشيب في الرأس و انتشر، كما ينتشر شعاع النار، و كأنّ المراد بالشعاع الشواظ و اللهيب.

و قوله:( وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) الشقاوة خلاف السعادة، و كأنّ المراد بها الحرمان من الخير و هو لازم الشقاوة أو هو هي، و قوله:( بِدُعائِكَ ) متعلّق بالشقيّ و الباء فيه للسببيّة أو بمعنى في و المعنى و كنت سعيداً بسبب دعائي إيّاك كلّما دعوتك استجبت لي من غير أن تشقيني و تحرمني، أو لم أكن محروماً خائباً في دعائي إيّاك عوّدتني الإجابة إذا دعوتك و التقبّل إذا سألتك، و الدعاء على أيّ حال مصدر مضاف إلى المفعول.

و قيل: إنّ( بِدُعائِكَ ) مصدر مضاف إلى الفاعل، و المعنى لم أكن بدعوتك إيّاي إلى العبودية و الطاعة شقيّاً متمرّداً غير مطيع بل عابداً لك مخلصاً في طاعتك و المعنى الأوّل أظهر.

و في تكرار قوله:( رَبِّ ) و وضعه متخلّلاً بين اسم كان و خبره في قوله:( وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) من البلاغة ما لا يقدّر بقدر، و نظيره قوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) .

قوله تعالى: ( وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً ) تتمّة التمهيد الذي قدّمه لدعائه، و المراد بالموالي العمومة و بنو العمّ، و قيل: الكلالة و قيل: العصبة، و قيل: بنو العمّ فحسب، و قيل: الورثة، و كيف كان فهم غير الأولاد من صلب و المراد خفت فعل الموالي من ورائي أي بعد موتي و كان (عليه السلام) يخاف أن يموت بلا عقب من نسله فيرثوه، و هو كناية عن خوفه أن يموت بلا عقب.

٥

و قوله:( وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً ) العاقر المرأة التي لا تلد يقال: امرأة عاقر لا تلد و رجل عاقر لا يولد له ولد. و في التعبير بقوله:( وَ كانَتِ امْرَأَتِي ) دلالة على أنّ امرأته على كونها عاقراً جازت حين الدعاء سنّ الولادة.

و ظاهر عدم تكرار إنّ في قوله:( وَ كانَتِ امْرَأَتِي ) إلخ أنّ الجملة حاليّة و مجموع الكلام أعني قوله:( وَ إِنِّي خِفْتُ - إلى قوله -عاقِراً ) فصل واحد اُريد به أنّ كون امرأتي عاقراً اقتضى أن أخاف الموالي من ورائي و بعد وفاتي، فمجموع ما مهّده للدعاء يؤل إلى فصلين أحدهما أنّ الله سبحانه عوّده الاستجابة مدى عمره حتّى شاخ و هرم و الآخر أنّه خاف الموالي بعد موته من جهة عقر امرأته، و يمكن تصوير الكلام فصولاً ثلاثة بأخذ كلّ من شيخوخته و عقر امرأته فصلاً مستقلّاً.

قوله تعالى: ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) هذا هو الدعاء، و قد قيّد الموهبة الإلهيّة الّتي سألها بقوله:( مِنْ لَدُنْكَ ) لكونه آيسا من الأسباب العاديّة التي كانت عنده و هي نفسه و قد صار شيخا هرما ساقط القوى. و امرأته و قد شاخت و كانت قبل ذلك عاقرا.

و وليّ الإنسان من يلي أمره، و وليّ الميّت هو الّذي يقوم بأمره و يخلفه فيما ترك، و آل الرجل خاصّته الّذين يؤل إليه أمرهم كولده و أقاربه و أصحابه و قيل: أصله أهل، و المراد بيعقوب على ما قيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام)، و قيل هو يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان أبي مريم و كانت امرأة زكريّا اُخت مريم و على هذا يكون معنى قوله:( يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) يرثني و يرث امرأتي و هي بعض آل يعقوب، و الأشبه حينئذ أن تكون( مِنْ ) في قوله:( مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) للتبعيض و إن صحّ كونها ابتدائيّة أيضاً.

و قوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) الرضيّ بمعنى المرضيّ، و إطلاق الرضا يقتضي شموله للعلم و العمل جميعا فالمراد به المرضيّ في اعتقاده و عمله أي اجعله ربّ محلّى بالعلم النافع و العمل الصالح.

و قد قصّ الله سبحانه هذه القصّة في سورة آل عمران و هي مدنيّة متأخّرة نزولاً

٦

عن سورة مريم المكّيّة بقوله في ذيل قصّة مريم( فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ ) آل عمران: ٣٨.

و لا يرتاب المتدبّر في الآيتين أنّ الّذي دعا زكريّا و دفعه إلى دعائه بما دعا هو ما شاهده من حال مريم و كرامتها على الله سبحانه في عبوديّتها و إخلاصها العمل فأحبّ أن يخلفه خلف له من القرب و الكرامة ما شاهد مثله في مريم ثمّ ذكر ما هو عليه من الشيب و نفاد القوّة و ما عليه امرأته من كبر السنّ و العقر و له موال لا يرتضيهم فوجد لذلك و هو ذاكرٌ ما عوّده ربّه من استجابة الدعوة و كفاية كلّ مهمّة ففزع إلى ربّه بالدعاء و استيهاب ذرّيّة طيّبة.

فقوله في سورة آل عمران:( رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) بحذاء قوله في سورة مريم:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) و قوله هناك:( طَيِّبَةً ) بحذاء قوله هنا:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) و المراد به ما شاهده من القرب و الكرامة عند الله لمريم و عملها الصالح فيبقى قوله هناك:( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً ) ، بحذاء قوله هنا:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) و هو يفسّره فالمراد بقوله:( وَلِيًّا يَرِثُنِي ) إلخ، ولد صلبيّ يرثه.

و من هنا يظهر فساد ما قيل: إنّه (عليه السلام) طلب بقوله:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي ) إلخ، من يقوم مقامه و يرثه ولداً كان أو غيره، و كذا ما قيل: إنّه أيس أن يولد له من امرأته فطلب من يرثه و يقوم مقامه من سائر الناس.

و ذلك لصراحة قوله في نفس القصّة في سورة آل عمران:( رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) في طلب الولد.

على أنّ التعبير بمثل( هَبْ لِي ) المشعر بنوع من الملك لا يستقيم في سائر الناس

٧

من الأجانب و إنّما الملائم له التعبير بالجعل و نحوه كما في قوله تعالى:( وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ) النساء: ٧٥.

و من هنا يظهر أيضا أنّ المراد بقوله:( وَلِيًّا يَرِثُنِي ) الولد كما عبّر عنه في آية آل عمران بالذرّيّة فالمراد بالوليّ الذرّيّة و هو وليّ في الإرث، و المراد بالوراثة وراثة ما تركه الميّت من الأموال و أمتعة الحياة، و هو المتبادر إلى الذهن من الإرث بلا ريب إمّا لكونه حقيقة في المال و نحوه مجازاً في غيره كالإرث المنسوب إلى العلم و سائر الصفات و الحالات المعنويّة و إمّا لكونه منصرفاً إلى المال إن كان حقيقة في الجميع فاللفظ على أيّ حال ظاهر في وراثة المال و يتعيّن بانضمامه إلى الوليّ كون المراد به الولد، و يزيد في ظهوره في ذلك قوله قبل:( وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) على ما سيأتي من البيان إن شاء الله.

و أمّا قول من قال: إنّ المراد به وراثة النبوّة و إنّه طلب من ربّه أن يهب له ولدا يرثه النبوّة فيدفعه ما عرفت آنفاً أنّ الّذي دعاه (عليه السلام) إلى هذا الدعاء و المسألة هو ما شاهده من مريم و لا خبر في ذلك عن النبوّة و لا أثر فأيّ رابطة بين أن يشاهد منها عبادة و كرامة فيعجبه ذلك و بين أن يطلب من ربّه ولداً يرثه النبوّة؟.

على أنّ النبوّة ممّا لا يورّث بالنسب و هو ظاهر و لو اُصلح ذلك بأنّ المراد بالوراثة مجرّد إتيان نبيّ بعد نبيّ أو ظهور نبيّ من ذرّيّة نبيّ بنوع من العناية مجازاً ظهر الإشكال من جهة اُخرى و هي عدم ملائمة ذلك قوله بعد:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) إذ لا معنى لقول القائل: هب لي ولداً نبيّاً و اجعله رضيّاً، و لو حمل على التأكيد كان من تأكيد الشي‏ء بما هو دونه، و كذا احتمال أن يكون المراد بالرضىّ المرضيّ عند الناس لمنافاته إطلاق المرضيّ كما تقدّم مع عدم مناسبته لداعيه كما مرّ.

و يقرب منه في الفساد قول من قال: إنّ المراد به وراثة العلم و إنّه طلب من ربّه أن يهب له ولداً يرثه علمه، إذ لا معنى لأن يشاهد زكريّا من مريم عبادة و كرامة فيعجبه ذلك فيطلب من ربّه ولداً يرثه علمه من دون أيّ مناسبة بين الداعي و المدعوّ إليه.

٨

و القول بأنّ المراد بالوراثة وراثة العلم و بقوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) العمل الصالح و مجموع العلم النافع و العمل الصالح يقرب ممّا شاهده من مريم من الإخلاص و العبادة و الكرامة.

يدفعه أنّ قوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) يكفي وحده في الدلالة على طلب العلم النافع و العمل الصالح لمكان الإطلاق، و إنما الإنسان المحسن عملا مع الغضّ عن العلم مرضيّ العمل و لا يسمّى مرضيّاً مطلقاً البتّة، و نظير ذلك القول بأنّ المراد بالرضىّ المرضيّ عند الناس.

و يقرب منه في الفساد احتمال أن يكون المراد بالوراثة وراثة التقوى و الكرامة و أنّه طلب من ربّه أن يهب له ولداً يرث ما له من القرب و المنزلة عند الله إذ المناسب لذلك أن يطلب ولداً له ما لمريم من القرب و الكرامة أو مطلق القرب و الكرامة لا أن يطلب ولداً ينتقل إليه ما لنفسه من القرب و الكرامة.

على أنّه لا يلائمه قوله:( وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) إذ ظاهر السياق أنّه يطلب ولداً يرثه و ينتقل إليه ما لولاه لانتقل ذلك إلى الموالي و هو يخاف منهم أن يتلبّسوا بذلك بعد وفاته، و لا معنى لأن يخاف (عليه السلام) تلبّس مواليه بالقرب و المنزلة و اتّصافهم بالتقوى و الكرامة لا قبل وفاته و لا بعده فساحة الأنبياء أنزه و أطهر من هذه الضنّة و لا اُمنيّة لهم إلّا صلاح النّاس و سعادتهم.

و قول بعضهم إنّ مواليه (عليه السلام) كانوا شرار بني إسرائيل فخاف أن لا يحسنوا خلافته في اُمّته بعده، فيه أنّ هذه الخلافة إن كانت خلافة باطنيّة إلهيّة فهي ممّا لا يورث بالنسب قطعاً، على أنّها لا تخطئ المورد الصالح لها و لا يتلبّس بها إلّا أهلها و لا وجه للخوف من ذلك، و إن كانت خلافة ظاهريّة دنيويّة تورث بالنسب و نحوه فهي قنية اجتماعيّة و من أمتعة الحياة الدنيا نظير المال فلا جدوى لصرف الوراثة في الآية عن وراثة المال إلى وراثة الخلافة و الملك.

على أنّ يحيى (عليه السلام) لم يتقلّد من هذه الخلافة و الملك شيئاً حتّى يكون هو ميراثه الذي منع موالي أبيه أن يرثوه منه، و لم يكن لبني إسرائيل ملك في زمن

٩

زكريّا و يحيى بل كانت الروم مستولية عليهم حاكمة فيهم.

فإن قلت: يؤيّد حمل الوراثة في الآية على وراثة العلم و نحوه دون المال أنّه ليس في الأنظار العالية و الهمم العليا للنفوس القدسيّة الّتي انقطعت من تعلّقات هذا العالم المنقطع الفاني و اتّصلت بالعالم الباقي ميل إلى المتاع الدنيويّ قدر جناح بعوضة لا سيّما زكريّا (عليه السلام) فإنّه كان مشهوراً بكمال الانقطاع و التجرّد فيستحيل عادة أن يخاف من وراثة المال و المتاع الّذي ليس له في نظره العالي أدنى قدر أو يظهر من أجله الكلف و الحزن و الخوف و يستدعي من ربّه ذلك النحو من الاستدعاء و هو يدلّ على كمال المحبّة و تعلّق القلب بالدنيا و زخارفها.

و القول بأنّه خاف أن يصرف مواليه ماله بعد موته فيما لا ينبغي فطلب لذلك عن ربّه وارثاً مرضيّاً فاسد فإنّه إذا مات الرجل و انتقل ماله بالوراثة إلى آخر صار المال مال الوارث فصرفه على ذمّته صواباً أو خطأ و لا مؤاخذة في ذلك على الميّت و لا عتاب.

مع أنّ دفع هذا الخوف كان ميسّراً له (عليه السلام) بأن يصرفه قبل موته و يتصدّق به كلّه في سبيل الله و يترك بني عمّه الأشرار خائبين لسوء أحوالهم و قبح أفعالهم فليس قصده (عليه السلام) من مسألة الولد سوى إجراء أحكام الله تعالى و ترويج الشريعة و بقاء النبوّة في أولاده.

قلت: الإشكال مبنيّ على كون قوله:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي ) مسوقاً لبيان طلب الوراثة الماليّة لولده و الواقع خلافه فليس المقصود من قوله:( وَلِيًّا يَرِثُنِي ) بالقصد الأوّل إلّا طلب الولد كما هو الظاهر أيضاً من قوله في سورة آل عمران:( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً ) و قوله في موضع آخر:( رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً ) الأنبياء: ٨٩.

و إنّما قوله:( يَرِثُنِي ) قرينة معيّنة لكون المراد بالوليّ في الكلام ولاية الإرث الّتي تنطبق على الولد لكون الولاية معنى عامّاً ذا مصاديق مختلفة لا يتعيّن واحد منها إلّا بقرينة معيّنة كما قيّدت بالنصرة في قوله:( وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ

١٠

يَنْصُرُونَهُمْ ) الشورى: ٤٦، و المراد به ولاية النصرة، و قيّدت بالأمر و النهي في قوله:( وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) التوبة: ٧١، و المراد ولاية التدبير. إلى غير ذلك.

و لو لا أنّ المراد به الوراثة الماليّة و أنّها قرينة معيّنة لم يبق في الكلام ما يدلّ على طلب الولد الّذي هو المقصود الأصليّ بالدعاء فإنّ وراثة العلم أو النبوّة أو العبادة و الكرامة لا إشعار فيها بكون الوارث هو الولد كما اعترف به بعض من حمل الوراثة في الآية على شي‏ء من هذه المعاني فيبقى الدعاء خالياً عن الدلالة على المطلوب الأصليّ و كفى به سقوطاً للكلام.

و بالجملة، العناية إنّما هي متعلّقة بإفادة طلب الولد، و أمّا الوراثة الماليّة فليست مقصودة بالقصد الأوّل و إنّما هي قرينة معيّنة لكون المراد بالوليّ هو الولد نعم هي في نفسها تدلّ على أنّه لو كان له ولد لورثه ماله، و ليس في ذلك و لا في قوله:( وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) و حاله حال قوله:( وَلِيًّا يَرِثُنِي ) دلالة على تعلّق قلبه (عليه السلام) بالدنيا الفانية و لا بزخارف حياتها الّتي هي متاع الغرور.

و أمّا طلب الولد فهو ممّا فطر الله عليه النوع الإنسانيّ سواء في ذلك الصالح و الطالح و النبيّ و من دونه و قد جهّز الجميع بجهاز التوالد و التناسل و غرز فيهم ما يدعوهم إليه، فالواحد منهم لو لم ينحرف طباعه ينساق إلى طلب الولد و يرى بقاء ولده بعده بقاء لنفسه و استيلاءهم على ما كان مستولياً عليه من أمتعة الحياة - و هذا هو الإرث - استيلاء نفسه و عيش شخصه هذا.

و الشرائع الإلهيّة لم تبطل هذا الحكم الفطريّ و لا ذمّت هذه الداعية الغريزيّة بل مدحته و ندبت إليه، و في القرآن الكريم آيات كثيرة تدلّ على ذلك كقوله تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام):( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) الصافّات: ١٠٠ و قوله:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ ) إبراهيم: ٣٩، و قوله حكاية عن المؤمنين:( رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) الفرقان: ٧٤ إلى غير ذلك من الآيات.

١١

فإن قلت: ما تقدّم من الوجه في معنى الوراثة كان مبنيّاً على أن يستفاد من قوله:( هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ) الآية، أنّ الّذي دعاه إلى طلب الولد هو ما شاهده من عبادة مريم و كرامتها عند الله سبحانه فأحبّ أن يرزق ولداً يماثلها في العبادة و الكرامة لكن يمكن أن يكون داعيه غير ذلك فقد ورد في بعض الآثار أنّ زكريّا كان يجد عند مريم فواكه في غير موسمها ثمرة الشتاء في الصيف و ثمرة الصيف في الشتاء فقال في نفسه: إذا كان الله لا يعزّ عليه أن يرزقها ثمرة الشتاء في الصيف و ثمرة الصيف في الشتاء لم يعزّ عليه أن يرزقني ولداً في غير وقته و أنا شيخ فان و امرأتي عاقر فقال:( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي ) .

فمشاهدة الثمرة في غير موسمها بعثه إلى طلب الولد في غير وقته لكنّ هذا النبيّ الكريم أجلّ من أن يطلب الولد ليرث ماله فهو إنّما طلبه ليرث النبوّة أو العلم أو العبادة و الكرامة.

قلت: لا دليل من جهة السياق اللفظيّ على كون المراد بالرزق في قوله:( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) هي الثمرة في غير موسمها، و أنّ الّذي دعا زكريّا (عليه السلام) إلى طلب الولد مشاهدة ذلك أو قول مريم:( إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) و لو كان كذلك لكانت الإشارة إليه بوجه أبلغ بل ظاهر السياق و خاصّة صدر الآية( فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً ) أنّ العناية بإفادة كون مريم ذات كرامة عند ربّه يرزقها لا من طريق الأسباب العاديّة فهذا هو الداعي لزكريّا (عليه السلام) إلى طلب ذرّيّة طيّبة و ولد رضيّ.

و لو سلّم ذلك كان مقتضاه أن ينبعث زكريّا بالقصد الأوّل إلى طلب الذرّيّة و الولد و إذ كان نبيّاً كريماً لا إربة له في غير الولد الصالح دعا ثانياً أن يكون طيّباً مرضيّاً كما يدلّ عليه استئناف الدعاء بقوله:( وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) و التقييد بالطيّب في قوله:( ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) .

و قد أفاد مقصوده هذا على ما حكى عنه في سورة آل عمران بقوله:( هَبْ لِي

١٢

مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً ) و في هذه السورة بعد تقديم ذكر شيخوخته و عقر امرأته و خوفه الموالي بقوله:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي ) فالمراد بقوله:( وَلِيًّا يَرِثُنِي ) هو الولد بلا شكّ، و قد عبّر عنه و اُشير إليه بعنوان ولاية الإرث.

و ولاية الوراثة الّتي تصلح أن تكون عنواناً معرّفاً للولد هي ما يختصّ به من ولاية وراثة التركة، و أمّا ولاية وراثة النبوّة لو جازت تسميتها ولاية وراثة و كذا ولاية وراثة العلم كما يرث التلميذ علم اُستاذه و كذا ولاية وراثة المقامات المعنويّة و الكرامات الإلهيّة فهذه الولايات أجنبيّة عن النسب و الولادة ربّما جامعتها و ربّما فارقتها فلا تصلح أن تجعل معرّفة و مرآة لها إلّا مع قرينة قويّة، و ليس في الكلام ما يصلح لذلك، و كلّ ما فرض صالحاً له فهو صالح لخلافه فيكون قد اُهمل في الدعاء ما هو المقصود بالقصد الأوّل و اشتغل بما وراءه، و كفى به سقوطاً للكلام.

قوله تعالى: ( يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى‏ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) في الكلام حذف إيجازاً، و التقدير:( فاستجبنا له و ناديناه يا زكريّا إنّا نبشّرك) إلخ، و قد ورد في سورة الأنبياء في القصّة:( فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى) الأنبياء: ٩٠، و في سورة آل عمران:( فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى‏ ) آل عمران: ٣٩.

و تشهد آية آل عمران على أنّ قوله:( يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ ) إلخ، كان وحياً بتوسّط الملائكة فهو قوله تعالى أدّته الملائكة إلى زكريّا، و ذلك في قوله ثانياً:( قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) إلخ، أظهر.

و في الآية دلالة على أنّ الله سبحانه هو الّذي سمّاه يحيى، و هو قوله:( اسْمُهُ يَحْيى) و أنّه لم يسمّ بهذا الاسم قبله أحد، و هو قوله:( لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ) أي شريكاً في الاسم.

و ليس من البعيد أن يراد بالسميّ المثل على حدّ ما سيأتي من قوله تعالى:( فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) الآية: ٦٥ من السورة و يشهد عليه أنّ

١٣

الله سبحانه نعته في كلامه بنعوت لم ينعت به أحداً من أنبيائه و أوليائه قبله كقوله فيما سيأتي:( وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) و قوله:( وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً ) آل عمران: ٣٩، و قوله:( وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) ، و المسيح (عليه السلام) و إن شاركه في هذه النعوت و هما ابنا الخالة لكن ولادته بعد ولادة يحيى (عليهما السلام).

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ) قال الراغب: الغلام الطارّ الشارب(١) يقال: غلام بيّن الغلومة و الغلوميّة، قال تعالى:( أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ) . قال: و اغتلم الغلام: إذا بلغ حدّ الغلمة. انتهى.

و قال في المجمع: العتيّ و العسيّ بمعنى يقال: عتا يعتو عتوّاً و عتيّاً و عسي يعسو عسوّاً و عسيّاً فهو عات و عاس إذا غيّره طول الزمان إلى حال اليبس و الجفاف. انتهى. و بلوغ العتيّ كناية عن بطلان شهوة النكاح و انقطاع سبيل الإيلاد.

و استفهامه (عليه السلام) عن كون الغلام مع عقر امرأته و بلوغه العتيّ مع ذكره‏ الأمرين في ضمن دعائه إذ قال:( رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) إلخ، مبنيّ على استعجاب البشرى و استفسار خصوصيّاتها دون الاستبعاد و الإنكار فإنّ من بشّر بما لا يتوقّعه لتوفّر الموانع و فقدان الأسباب تضطرب نفسه بادئ ما يسمعها فيأخذ في السؤال عن خصوصيّات ما بشّر به ليطمئنّ قلبه و يسكن اضطراب نفسه و هو مع ذلك على يقين من صدق ما بشّر به فإنّ الخطورات النفسانيّة ربّما لا تنقطع مع وجود العلم و الإيمان و قد تقدّم نظيره في تفسير قوله تعالى:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى‏ قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى‏ وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) البقرة: ٢٦٠.

قوله تعالى: ( قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً ) جواب عمّا استفهمه و استفسره لتطيب به نفسه، و يسكن جاشه، و ضمير قال راجع إليه تعالى، و قوله:( كَذلِكَ ) مقول القول و هو خبر مبتدإ محذوف و التقدير

____________________

(١) غلام طر شاربه من باب نصر و ضرب: أي طلع.

١٤

( هو كذلك) أي الأمر واقع على ما أخبرناك به في البشرى لا ريب فيه.

و قوله:( قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) مقول ثان لقال الأوّل، و هو بمنزلة التعليل لقوله:( كَذلِكَ ) يرتفع به أيّ استعجاب فلا يتخلّف عن إرادته مراد و إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن، فخلق غلام من رجل بالغ في الكبر و امرأة عاقر هيّن سهل عليه.

و قد وقع التعبير عن هذا الاستفهام و الجواب في سرد القصّة من سورة آل عمران بقوله:( قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) آل عمران: ٤٠، فقوله:( قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) ههنا يحاذي قوله هناك:( اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) و هو يؤيّد ما قدّمناه من المعنى، و قوله ههنا:( وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً ) بيان لبعض مصاديق الخلق الذي يرفع به الاستعجاب.

و في الآية وجوه اُخر تعرّضوا لها: منها أنّ قوله:( كَذلِكَ ) متعلّق بقال الثاني و مجموع الجملة هو الجواب و المراد أمر ربّك بذلك و قضى كذلك، و قوله:( هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) مقول آخر للقول أو أنّه جيي‏ء به على سبيل الحكاية.

و منها أنّ الخطاب في قوله:( قالَ رَبُّكَ ) للنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) لا لزكريّا (عليه السلام) و تلك وجوه لا يساعد عليها السياق.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا ) قد تقدّم في القصّة من سورة آل عمران أنّ إلقاء البشرى إلى زكريّا كان بتوسّط الملائكة( فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) ، و هو (عليه السلام) إنّما سأل الآية ليتميّز به الحقّ من الباطل فتدلّه على أنّ ما سمعه من النداء وحي ملكيّ لا إلقاء شيطانيّ و لذلك اُجيب بآية إلهيّة لا سبيل للشيطان إليها و هو أن لا ينطلق لسانه ثلاثة أيّام إلّا بذكر الله سبحانه فإنّ الأنبياء معصومون بعصمة إلهيّة ليس للشيطان أن يتصرّف في نفوسهم.

فقوله:( قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ) سؤال لآية مميّزة، و قوله:( قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا ) إجابة ما سأل، و هو أن يعتقل لسانه ثلاثة

١٥

أيّام من غير ذكر الله و هو سويّ أي صحيح سليم من غير مرض و آفة.

فالمراد بعدم تكليم الناس عدم القدرة على تكليمهم، من قبيل إطلاق اللازم و إرادة الملزوم كناية، و المراد بثلاث ليال ثلاث ليال بأيّامها و هو شائع في الاستعمال فكان (عليه السلام) يذكر الله بفنون الذكر و لا يقدر على تكليم الناس إلّا رمزاً و إشارة، و الدليل على ذلك كلّه قوله تعالى في القصّة من سورة آل عمران:( قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ ) آل عمران: ٤١.

قوله تعالى: ( فَخَرَجَ عَلى‏ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى‏ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا ) قال في المجمع: و سمّي المحراب محراباً لأنّ المتوجّه إليه في صلاته كالمحارب للشيطان على صلاته، و الأصل فيه مجلس الأشراف الّذي يحارب دونه ذبّاً عن أهله. و قال: الإيحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفية بسرعة، و أصله من قولهم: الوحي الوحي أي الإسراع الإسراع. انتهى و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( يا يَحْيى‏ خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ ) قد تكرّر في كلامه تعالى ذكر أخذ الكتاب بقوّة و الأمر به كقوله:( فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها ) الأعراف: ١٤٥، و قوله:( خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ ) البقرة ٦٣، و قوله:( خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا ) البقرة: ٩٣ إلى غير ذلك من الآيات، و السابق إلى الذهن من سياقها أنّ المراد من أخذ الكتاب بقوّة التحقّق بما فيه من المعارف و العمل بما فيه من الأحكام بالعناية و الاهتمام.

و في الكلام حذف و إيجاز رعايةً للاختصار، و التقدير: فلمّا وهبنا له يحيى قلنا له: يا يحيى خذ الكتاب بقوّة في جانبي العلم و العمل، و بهذا المعنى يتأيّد أن يكون المراد بالكتاب التوراة أو هي و سائر كتب الأنبياء فإنّ الكتاب الّذي كان يشتمل على الشريعة يومئذ هو التوراة(١) .

قوله تعالى: ( وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكاةً ) فسّر الحكم بالفهم و بالعقل و بالحكمة و بمعرفة آداب الخدمة و بالفراسة الصادقة و بالنبوّة،

____________________

(١) و ليس من البعيد أن يكون له عليه السلام كتاب يخصّه. منه.

١٦

لكنّ المستفاد من مثل قوله تعالى:( وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ) الجاثية: ١٦، و قوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ) الأنعام: ٨٩، و غيرهما من الآيات أنّ الحكم غير النبوّة، فتفسير الحكم بالنبوّة ليس على ما ينبغي، و كذا تفسيره بمعرفة آداب الخدمة أو بالفراسة الصادقة أو بالعقل إذ لا دليل من جهة اللفظ و لا من جهة المعنى على شي‏ء من ذلك.

نعم ربّما يستأنس من مثل قوله:( يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ ) البقرة: ١٢٩، و قوله:( يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ ) الجمعة: ٢ - و الحكمة بناء نوع من الحكم - أنّ المراد بالحكم العلم بالمعارف الحقّة الإلهيّة و انكشاف ما هو تحت أستار الغيب بالنسبة إلى الأنظار العاديّة و لعلّه إليه مرجع تفسير الحكم بالفهم. و على هذا يكون المعنى إنّا أعطيناه العلم بالمعارف الحقيقيّة و هو صبيّ لم يبلغ الحلم بعد.

و قوله:( وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا ) معطوف على الحكم أي و أعطيناه حنانا من لدنّا و الحنان: العطف و الإشفاق، قال الراغب: و لكون الإشفاق لا ينفكّ من الرحمة عبّر عن الرحمة بالحنان في قوله تعالى:( وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا ) و منه قيل: الحنّان المنّان و حنانيك إشفاقاً بعد إشفاق.

و فسّر الحنان في الآية بالرحمة و لعلّ المراد بها النبوّة أو الولاية كقول نوح (عليه السلام):( وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ ) هود: ٢٨، و قول صالح:( وَ آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً ) هود: ٦٣.

و فسّر بالمحبّة و لعلّ المراد بها محبّة الناس له على حدّ قوله:( وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) طه: ٣٩، أي كان لا يراه أحد إلّا أحبّه.

و فسّر بتعطّفه على الناس و رحمته و رقّته عليهم فكان رؤفاً بهم ناصحاً لهم يهديهم إلى الله و يأمرهم بالتوبة و لذا سمّي في العهد الجديد بيوحنّا المعمّد.

و فسّر بحنان الله عليه كان إذا نادى ربّه لبّاه الله سبحانه على ما في الخبر فيدلّ على أنّه كان لله سبحانه حنان خاصّ به على ما يفيده تنكير الكلمة.

١٧

و الّذي يعطيه السياق و خاصّة بالنظر إلى تقييد الحنان بقوله:( مِنْ لَدُنَّا ) - و الكلمة إنّما تستعمل فيما لا مجرى فيه للأسباب الطبيعيّة العاديّة أو لا نظر فيه إليها - أنّ المراد به نوع عطف و انجذاب خاصّ إلهيّ بينه و بين ربّه غير مألوف، و بذلك يسقط التفسير الثاني و الثالث ثمّ تعقّبه بقوله:( زَكاةً ) و الأصل في معناه النموّ الصالح، و هو لا يلائم المعنى الأوّل كثير ملائمة فالمراد به إمّا حنان من الله سبحانه إليه بتولّي أمره و العناية بشأنه و هو ينمو عليه، و إمّا حنان و انجذاب منه إلى ربّه فكان ينمو عليه، و النموّ نموّ الروح.

و من هنا يظهر وهن ما قيل: إنّ المراد بالزكاة البركة و معناها كونه مباركاً نفّاعاً معلّماً للخير، و ما قيل: إنّ المراد به الصدقة، و المعنى و آتيناه الحكم حال كونه صدقة نتصدّق به على الناس أو المعنى أنّه صدقة من الله على أبويه أو المعنى أنّ الحكم المؤتى صدقة من الله عليه و ما قيل: إنّ المراد بالزكاة الطهارة من الذنوب.

قوله تعالى: ( وَ كانَ تَقِيًّا وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا ) التقيّ صفة مشبهة من التقوى مثال واويّ و هو الورع عن محارم الله و التجنّب عن اقتراف المناهي المؤدّي إلى عذاب الله، و البرّ بفتح الباء صفة مشبهة من البرّ بكسر الباء و هو الإحسان، و الجبّار قال في المجمع: الّذي لا يرى لأحد عليه حقّاً و فيه جبريّة و جبروت، و الجبّار من النخل ما فات اليد. انتهى. فيؤل معناه إلى أنّه المستكبر المستعلي الّذي يحمّل الناس ما أراد و لا يتحمّل عنهم، و يؤيّده تعقيبه بالعصيّ فإنّه صفة مشبهة من العصيان و الأصل في معناه الامتناع.

و من هنا يظهر أنّ الجمل الثلاث مسوقة لبيان جوامع أحواله بالنسبة إلى الخالق و المخلوق، فقوله:( وَ كانَ تَقِيًّا ) حاله بالنسبة إلى ربّه، و قوله:( وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ ) حاله بالنسبة إلى والديه، و قوله:( وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا ) حاله بالنسبة إلى سائر الناس، فكان رؤفاً رحيماً بهم ناصحاً متواضعاً لهم يعين ضعفاءهم و يهدي المسترشدين منهم، و به يظهر أيضا أنّ تفسير بعضهم لقوله:( عَصِيًّا ) بقوله: أي عاصيا لربه ليس على ما ينبغي.

١٨

قوله تعالى: ( وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) السلام قريب المعنى من الأمن، و الّذي يظهر من موارد استعمالها في الفرق بينهما أنّ الأمن خلوّ المحلّ ممّا يكرهه الإنسان و يخاف منه و السلام كون المحلّ بحيث كلّ ما يلقاه الإنسان فيه فهو يلائمه من غير أن يكرهه و يخاف منه.

و تنكير السلام لإفادة التفخيم أي سلام فخيم عليه ممّا يكرهه في هذه الأيّام الثلاثة الّتي كلّ واحد منها مفتتح عالم من العوالم الّتي يدخلها الإنسان و يعيش فيها فسلام عليه يوم ولد فلا يمسّه مكروه في الدنيا يزاحم سعادته، و سلام عليه يوم يموت، فسيعيش في البرزخ عيشة نعيمة، و سلام عليه يوم يبعث حيّاً فيحيي فيها بحقيقة الحياة و لا نصب و لا تعب.

و قيل: إنّ تقييد البعث بقوله:( حَيًّا ) للدلالة على أنّه سيقتل شهيداً لقوله تعالى في الشهداء:( بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) آل عمران: ١٦٩.

و اختلاف التعبير في قوله:( وُلِدَ ) ( يَمُوتُ ) ( يُبْعَثُ ) لتمثيل أنّ التسليم في حال حياته (عليه السلام).

( بحث روائي)

في المجمع: و روي عن أميرالمؤمنين (عليه السلام): أنّه قال في دعائه: أسألك يا كهيعص‏.

و في المعاني، بإسناده عن سفيان بن سعيد الثوريّ عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: و كهيعص معناه أنا الكافي الهادي الوليّ العالم الصادق الوعد.

أقول: و روى فيه أيضا ما يقرب منه عن محمّد بن عمارة عنه (عليه السلام). و روى في الدرّ المنثور، عن ابن عبّاس: في قوله: كهيعص قال: كبير هاد أمين عزيز صادق - و في لفظ - كاف بدل كبير، و روى عنه أيضا بطرق اُخر: كريم هاد حكيم عليم صادق و روي عن ابن مسعود و غيره ذلك، و محصّل الروايات - كما ترى - أنّ الحروف المقطّعة مأخوذة من أوائل الأسماء الحسنى على اختلافها كالكاف من الكافي أو الكبير

١٩

أو الكريم و هكذا غير أنّه لا يتمّ في الياء فقد اُخذ في الروايات من الوليّ أو الحكيم أو العزيز كما في بعضها، و روي فيه، عن اُمّ هانئ عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): أنّ معناها كاف هاد عالم صادق‏، و قد اُهمل في الحديث حرف الياء، و قد تقدّم في بيان الآية بعض الإشارة.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) يقول: لم يكن دعائي خائباً عندك.

و في المجمع: في قوله:( وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ ) قيل: هم العمومة و بنو العمّ عن أبي جعفر (عليه السلام)، و قرأ عليّ بن الحسين و محمّد بن عليّ الباقر (عليهم السلام):( وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ ) بفتح الخاء و تشديد الفاء و كسر التاء.

أقول: و به قرأ جمع من الصحابة و التابعين.

و في الإحتجاج، روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه (عليهم السلام): أنّه لمّا أجمع أبوبكر على منع فاطمة فدك و بلغها ذلك جاءت إليه و قالت له: يا بن أبي قحافة أ في كتاب الله أن ترث أباك و لا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً. أ فعلى عمد تركتم كتاب الله و نبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريّا( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) الحديث.

أقول: مضمون الرواية مرويّ بطرق من الشيعة و غيرهم، و استدلالها (عليها السلام) مبنيّ على كون المراد بالوراثة في الآية وراثة المال، و قد تقدّم الكلام في ذلك في بيان الآية، و قد ورد من طرق أهل السنّة بعض ما يدلّ على ذلك‏ ففي الدرّ المنثور، عن عدّة من أصحاب الجوامع عن الحسن أنّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: يرحم الله أخي زكريّا ما كان عليه من ورثة، و يرحم الله أخي لوطاً إن كان يأوي إلى ركن شديد، و روي فيه، أيضاً عن الفاريابي عن ابن عبّاس قال: كان زكريّا لا يولد له فسأل ربّه فقال:( ربّ هب لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) قال: يرثني مالي و يرث من آل يعقوب النبوّة.

و قال في روح المعاني: مذهب أهل السنّة أنّ الأنبياء (عليهم السلام) لا يرثون مالاً

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) (1) .

5 - قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا أَدْعُواْ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ) (2) .

هذه الآيات المباركة لسانها واحد واستدلالهم بها قريب من الاستدلال بالآية الأولى، حيث إن هذه الآيات القرآنية تنهى عن أن يدعو الإنسان مع اللَّه أحداً، أي لا يعبد مع اللَّه مخلوقاً من المخلوقات، وإذا كان الدعاء روح العبادة وقوامها، فسوف يكون منهيّاً عنه بمقتضى صريح هذه الآيات الكريمة؛ لكونه من الشرك الصريح.

6 - قوله تعالى: ( وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم ) (3) .

7 - قوله تعالى: ( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِى يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ) (4) .

وهذا اللسان من الآيات القرآنية يؤكّد على أن التوجّه إلى الغير بغية الاستنصار به شرك ومغالاة يوجب الخذلان الإلهي.

8 - قوله تعالى: ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ) (5) .

9 - قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ

____________________

(1) الحج: 62.

(2) الجن: 20.

(3) آل عمران: 126.

(4) آل عمران: 160.

(5) يونس: 18.

٢٤١

زُلْفَى ) (1) .

فهاتان الآيتان دلّتا على وجوب نبذ مقالة المشركين الذين جعلوا أصنامهم شركاء في الدعاء والتوسّل والتقرّب والتشفّع والوساطة بينهم وبين اللَّه عزَّ وجل، والإسلام جاء لكسر مثل هذه الأصنام وإبطال عقيدة الصنمية والوثنية والمغالاة والتشفّع والتوسّل بغير اللَّه تعالى، وهو ما ابتُلى به مشركو العرب؛ إذ لم يكن شركهم في ذات اللَّه تعالى أو صفاته، بل كان شركهم شركاً في العبادة والدعاء والاستغاثة والتوسّل.

فيُعلم من هذه الآيات أن التوحيد في العبادة والدعاء والاستغاثة والتوسّل أساس الدين، وهدف الرسالة الإسلامية الخاتمة؛ وذلك لأن صحة الأعمال والنسك العبادية مشروطة بصحّة العقيدة، فمَن يعمل ويعبد وكان في معتقده الدينيّ شي‏ء من الغلو والصنمية للأشخاص يحبط عمله كلّه؛ ويستدلّون لذلك بقوله تعالى: ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (2) ، وقوله تعالى: ( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (3) ، فصحّة العقيدة بالتوحيد شرطاً في صحة وقبول الأعمال، ولابدّ حينئذٍ من نبذ كلّ ما يوجب الشرك وبطلان العقيدة، كالتشفّع والتوسّل بغير اللَّه تعالى.

الجواب عن الشبهة الثالثة:

الشبهة الثالثة عبارة عن تمسّكهم ببعض الآيات القرآنية التي زعموا أنها

____________________

(1) الزمر: 3.

(2) الزمر: 65.

(3) الأنعام: 88.

٢٤٢

تنهى عن التوجّه والقصد إلى غير اللَّه عزَّ وجل، منها:

قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) (1) ، فلا يجوز التوسّل والدعاء بغير الأسماء الحسنى التي جاءت في قوله تعالى: ( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُواْ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) (2) .

إذن لابدّ من التوحيد في الدعاء الذي هو مخّ العبادة ولا يجوز القصد والتوجّه في الدعاء إلى غير اللَّه عزَّ وجلَّ وأسمائه الحسنى؛ لأنه شرك وإلحاد بالأسماء الإلهية.

الجواب الأول: حقيقة الأسماء الإلهية مستند للتوسّل

في البدء لابدّ من الإجابة عن التساؤل التالي:

ما هو المراد من الأسماء الإلهية الواردة في الآيات المباركة؟

الاسم في اللغة عبارة عن السّمة والعلامة.

قال ابن منظور: (واسم الشي‏ء علامته).

(قال أبو العبَّاس: الاسم وسمة توضع على الشي‏ء يُعرف به، قال ابن سيده: والاسم اللفظ الموضوع على الجوهر أو العرض لتفصل به بعضه عن بعض، كقولك مبتدئاً: اسم هذا كذا).

(قال أبو إسحاق: إنما جعل الاسم تنويهاً بالدلالة على المعنى) (3) .

____________________

(1) الأعراف: 180.

(2) الإسراء: 110.

(3) لسان العرب، ج14، ص 403 - 401.

٢٤٣

إذن اسم الشي‏ء سمته وعلامته وصفته الدالّة عليه.

والأسماء والصفات تنقسم إلى ذاتية وفعلية، فللّه تعالى أسماء وصفات ذاتية هي عين ذاته غير زائدة عليها، وله عزَّ وجلَّ أسماء وصفات فعلية هي عين فعله. فالقدرة والعلم والحياة صفات ذاتية يُشتقّ منها القادر والعالم والحيّ، وهي أسماء ذاتية غير زائدة على الذات الإلهية المقدّسة، والخَلق والرِّزق والتدبير والربوبية والحُكم والعَدل وغيرها صفات فعلية يشتقّ منها أسماء فعلية، هي الخالق والرازق والمدبّر والربّ والحَكَم والعدَْل، ولا ريب أن الأسماء الفعلية غير الذات وليست عينها، بل مخلوقة لها مشتقّة من أفعاله عزَّ وجل.

ولا ريب أيضاً أن جملة وافرة من الأسماء الإلهية هي أسماء فعلية مشتقّة من أفعاله ومخلوقاته تعالى.

والمخلوق يكون اسماً للَّه عزَّ وجلَّ بملاحظة صدوره من خالقه وأنه فقير له متقوّم به ليس له من نفسه شي‏ء، دالّ بسبب افتقاره بما فيه من كمال على كمال خالقه وباريه، فهو سمة وعلامة على صانعه، وما فيه من عظمة وحكمة دالّة على عظمة وحكمة الخالق؛ إذ ليس له من ذاته إلّا الفقر والاحتياج.

الجواب الثاني: الكلمة والآية

إن الكلمة والآية مع الاسم متقاربة المعنى متّحدة المضمون، فهي وإن لم تكن ألفاظاً مترادفة، إلّا أن مضمونها والمراد منها في اللغة وفي القرآن الكريم واحد؛ وهو الدلالة على الشي‏ء والعلامّية والمرآتية له.

٢٤٤

ففي لسان العرب:

(الآية العلامة) (وأيّا آية: وضع علامة).

وفيه أيضاً: (وقال ابن حمزة: الآية في القرآن كأنها العلامة التي يفضى منها إلى غيرها كأعلام الطريق المنصوبة للهداية) (1) .

كذلك قال في اللسان:

(كلمات اللَّه أي كلامه وهو صفته وصفاته) (2) .

أضف إلى ذلك أن الكلمة في حقيقتها دالّة على مراد المتكلم وكاشفة عنه.

إذن الأسماء والآيات والكلمات في شطر وافر منها عبارة عن مخلوقات دالّة بوجودها على وجود صانعها، ودالّة بعظمتها واتقانها وهادفيتها على عظمة وقدرة وحكمة الباري عزَّ وجل، ومن ثمّ يكون كلّ مخلوق اسماً من أسماء اللَّه تعالى وآية من آياته وكلمة من كلماته، ولكن الأسماء والآيات والكلمات على درجات في الصغر والكبر، فكلّما كان الاسم أعظم والآية أكبر لِمَا أعطيت من المقامات والكرامات الإلهية، كلّما كانت آييَّة ذلك المخلوق واسميَّته أعظم، لا سيما المخلوق الأول وهو نور النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام .

وقد ورد هذا الاستعمال في القرآن الكريم في موارد كثيرة جدّاً، منها:

1 - قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) (3) .

2 - قوله تعالى: ( وَالتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا

____________________

(1) لسان العرب، ج4، ص 61 - 62.

(2) لسان العرب، ج12، ص522.

(3) المؤمنون: 50.

٢٤٥

آيَةً لِلْعَالَمِينَ ) (1) .

3 - قوله تعالى: ( إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) (2) .

4 - قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) (3) .

5 - قوله تعالى: ( هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الِْمحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) (4) .

فقد أطلق في هذه الآيات المباركة على مريم عليها‌السلام أنها آية، وعلى عيسى عليه‌السلام أنه كلمة اللَّه وآيته للعالمين.

6 - قوله تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (5) .

7 - قوله تعالى: ( فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (6) .

8 - قوله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ

____________________

(1) الأنبياء: 91.

(2) آل عمران: 45.

(3) النساء: 171.

(4) آل عمران: 38 - 39.

(5) البقرة: 31.

(6) البقرة: 37.

٢٤٦

إ ِمَامًا ) (1) .

9 - ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) (2) .

فإن هذه المخلوقات العظيمة عند اللَّه عزَّ وجلَّ أسماء وآيات وكلمات وعلامات للَّه تعالى، وحينئذٍ تكون مشمولة لإطلاق قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) (3) فهذه الآية المباركة وغيرها، التي ذكروها للتدليل على مدّعاهم لا تعني النهي عن التوجّه إلى اللَّه عزَّ وجلَّ بالوسائط، بل هي توجب وتعيّن التوجّه إلى اللَّه تعالى بأعاظم مخلوقاته وأسمائه الفعلية.

إذن؛ ليست الآية المباركة غير صالحة للاستدلال بها على مدّعاهم فحسب، بل هي تحكُّمهم وتديُّنهم بالإلحاد عن اسمائه، وتنصُّ على ضرورة توسيط الأسماء الإلهية والمخلوقات الوجيهة عند اللَّه تعالى، ولابدّ من عدم الإلحاد فيها والإعراض عنها في الدعاء.

لكن لابدّ من الالتفات إلى أن النظرة إلى الوسائط لابد أن لا تكون نظرة استقلالية وموضوعية وبما هي هي، بل لابدّ أن تكون نظرة آلية حرفية آيتيّة، أي بما هي يُنظر بها إلى اللَّه تعالى، فالتوجّه بها لا إليها بما هي هي.

وبناء على ذلك يكون التعاطي مع الأسماء والآيات والوسائط على ثلاثة مناهج:

الأول: منهج إبليس؛ وهو رفض وساطة الآيات والأسماء والمخلوقات

____________________

(1 ) البقرة: 124.

(2) الأنعام: 115.

(3) الأعراف: 180.

٢٤٧

الوجيهة عند اللَّه عزَّ وجلَّ وإنكارها والإلحاد بها والصدّ عنها، وهذا شرّ المناهج، وهو الكفر والحجاب الأعظم؛ إذ مع الإلحاد في تلك المخلوقات العظيمة والأسماء الإلهية لا يمكن التوجّه والزلفى إلى اللَّه عزَّ وجل؛ لأنه ليس بجسم، وهو حقيقة الحقائق والمقوّم لها، فلا يجابه ولا يقابل، فلابدّ من التوجّه إلى المظاهر والمجالي والآيات.

الثاني: وهو منهج المغالين الذين ينظرون إلى الأسماء الإلهية بالنظرة الاستقلالية وبما هي هي ويتوجّهون إليها لا بها، وهذا أيضاً من الشرك والحجاب الذي يمنع عن معرفة اللَّه تعالى، ولكنّه أهون من سابقه؛ إذ أصحابه على سبيل نجاة فيما إذا شملهم اللَّه عزَّ وجلَّ بلطفه ورأوا ما وراء الآية من الحقائق، بخلاف مَن أعرض عن الآية بالمرّة.

الثالث: التوجّه بالآيات وتوسيطها في الدعاء، وهذا هو التوحيد التام الذي يوصل إلى معرفة اللَّه تبارك وتعالى.

فالنظرة في هذا المنهج إلى الأسماء الإلهية الفعلية من حيث هي مخلوقة للباري تعالى ومرتبطة به ومفتقرة إليه ودالّة عليه، وأكرم المخلوقات وأعظم الآيات هم النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ؛ إذ حباهم اللَّه عزَّ وجلَّ بالكرامات والمقامات التكوينية، التي تفضل جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين، فهم عليهم‌السلام الأسماء التي تعلّمها آدم وفُضَّل بها على الملائكة كلّهم أجمعون، وذلك بنصّ سورة البقرة في قوله تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )( 1 ) ، حيث

____________________

(1) البقرة: 31.

٢٤٨

جاء التعبير فيها بـ ( عَرَضَهُمْ ) ولم يقل: عرضها، وكذا التعبير بـ ( هؤُلآءِ ) ولم يقل: هذه، كلّ ذلك يدلّ على أن تلك الأسماء موجودات نورية مخلوقة حيّة شاعرة عاقلة، أفضل من جميع الملائكة، ولم يعلم بها الملائكة ولا يحيطون بها وهي تحيط بهم وهي أوّل ما خلق اللَّه تعالى، فهم عباد ليس على اللَّه أكرم منهم، أُسند إليهم ما لم يسند إلى غيرهم، ومكّنهم اللَّه عزَّ وجلَّ ما لم يمكّن به غيرهم بإرادته وإذنه وسلطانه.

والحاصل: إن تلك الآيات التي ذكروها لنفي التوسّل تدلّ على ضرورة التوجّه والتشفّع والتوسّل بالآيات الكبرى والأسماء الفعلية الحسنى والعظمى - وهم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام - إلى اللَّه عزَّ وجل، والباء في قوله تعالى: ( فَادْعُوهُ بِهَا ) للتوسيط وجعل الآيات والأسماء واسطة؛ ولذا ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال:

(ياهشام، اللَّه مشتق من إله، وإله يقتضي مألوهاً، والاسم غير المسمّى، فمَن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئاً، ومَن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد الاثنين، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد. أفهمت يا هشام؟) قال: قلت: زدني، قال: (للَّه تسعة وتسعون اسماً، فلو كان الاسم هو المسمَّى، لكان كل اسم منها إلهاً، ولكن اللَّه معنى يُدلّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره. ياهشام، الخبز اسم للمأكول والماء اسم للمشروب والثوب اسم للملبوس والنار اسم للمحرق، أفهمت ياهشام فهماً تدفع به وتناضل به أعداءنا المتَّخذين مع اللَّه عزَّ وجلَّ غيره؟) قلت: نعم، فقال: (نفعك اللَّه به وثبّتك يا هشام)

٢٤٩

قال: فواللَّه ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا) (1) .

فبيّن عليه‌السلام أن الاسم غير المسمَّى وهو الذات الإلهية ومغاير لها، ولو كان الاسم هو عين الذات الإلهية، لكان كل اسم إلهاً ولتكثَّرت الآلهة، ولكن اللَّه ذات أحدية واحدة يُدلّ عليه وله علامات هي هذه الأسماء المتكثرة المتعدّدة، فالأسماء آيات وعلامات وكلمات دالّة ووسيلة إلى الذات، فظهر أن قوله تعالى: ( لِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) (2) برهان قرآني على ضرورة الوسيلة، وهي الكلمات والآيات الإلهية، بأن يدعى اللَّه بها، فلا يُدعى اللَّه بدونها، بل لابدّ من توسيطها في دعاء اللَّه، وذلك بالتوجّه بها إليه، فلابدّ من تعلّق التوجّه بها كي يتوجّه منها إلى اللَّه، ولابدّ من تعلّق الدعاء بها ليتحقّق دعاء اللَّه تعالى، وقد جعلت الآية الإعراض عن الأسماء والكلمات والآيات الإلهية إلحاداً ومجانبة وزيغاً عن الطريق إلى اللَّه. ومن ثمّ قد أُكّد في الآية أن الأسماء الإلهية بكثرتها الكاثرة هي برمّتها ملك للَّه تعالى مملوكة له، فالاستخفاف بها استخفاف بالعظمة الإلهية، وجحود وساطتها استكبار وتمرّد على الشأن الإلهي، ومنه يعرف اتحاد الاسم والوجه وأن الأسماء هي وجه اللَّه التي يتوجّه بها إليه، وأن مَن له وجاهة ووجيه عند اللَّه هو وجه للَّه يتوجّه به إليه تعالى، فيكون اسماً وآية وكلمة للَّه تعالى.

نعم، بين الأسماء والكلمات والآيات درجات وتفاضل في الدلالة عليه تعالى عظمة وكبراً؛ وذلك لأن الاسم إذا كان من أسماء الأفعال يكون مخلوقاً للَّه تعالى وآية من

____________________

(1) توحيد الصدوق، ص521، وأصول الكافي، ج1، ص89، باب معاني الاسماء واشتقاقها، ح2.

(2) سورة الأعراف: 180.

٢٥٠

آياته، فالعبادة ليست له، بل لباريه تعالى، ومن ثم يتوجّه إليه كمرآة وآية يُنظر بها ولا ينظر إليها؛ ولذا تكون اسماً وعلامة. وأمَّا إذا نُظر إلى الاسم بما هو هو، فيكون حينئذٍ صنماً موجباً للشرك والكفر، وهو الغلو المنهيّ عنه، ولكن هذا لا يعني رفض الأسماء والوسائط، فإن ذلك يحجب عن المسمّى أيضاً، فلا يلحد بها ولا ينظر إليها بالاستقلال، بل ينظر بها؛ وذلك لِمَا بيّناه سابقاً من أنه لا تعطيل ولا تشبيه، فالإلحاد في الأسماء تعطيل للباري بعد عدم كونه جسماً يُقابل أو يجابه أو يشابه مخلوقاته، وهو نفي الجسميّة، فلا محيص عن التوجّه بالأسماء، لا سيّما الاسم الأعظم وهو أوّل ما خلق اللَّه عزَّ وجل، نور النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، الذين بواسطتهم وصل آدم إلى ما وصل إليه من الخلافة، عندما علّمه اللَّه عزَّ وجلَّ تلك الأسماء الحيّة الشاعرة العاقلة المجرّدة النوريّة، التي هي أعظم آيات الباري تعالى وأفضل من جميع الملائكة.

الكلمات التامّات:

هناك آيات عديدة تدلّ - بمعونة الروايات الواردة فيها - على أن الكلمات التامّات والآيات الكبرى للَّه عزَّ وجلَّ هم النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، منها:

1 - ما تقدّم من قوله تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (1) ، وقد سبق تقريب الاستدلال بهذه الآية المباركة، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال: (إن اللَّه تبارك وتعالى كان ولا شي‏ء، فخلق خمسة من نور جلاله، وجعل لكلّ واحد منهم اسماً من أسمائه المنزلة، فهو الحميد وسمّى النبيّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو الأعلى وسمّى

____________________

(1) البقرة: 31.

٢٥١

أمير المؤمنين عليه‌السلام عليّاً، وله الأسماء الحسنى فاشتقّ منها حسناً وحسيناً، وهو فاطر فاشتقّ لفاطمة من أسمائه اسماً، فلمّا خلقهم، جعلهم في الميثاق، فإنهم عن يمين العرش، وخلق الملائكة من نور، فلمَّا نظروا إليهم، عظّموا أمرهم وشأنهم ولقّنوا التسبيح فذلك قوله: ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) (1) فلمّا خلق اللَّه تعالى آدم(صلوات اللَّه وسلامه عليه) نظر إليهم عن يمين العرش، فقال: ياربّ مَنْ هؤلاء؟ قال: ياآدم، هؤلاء صفوتي وخاصّتي، خلقتهم من نور جلالي وشققت لهم اسماً من أسمائي، قال: ياربّ، فبحقّك عليهم علّمني أسماءهم، قال: ياآدم فهم عندك أمانة، سرّ من سرّي، لا يطّلع عليه غيرك إلّا بإذني، قال: نعم ياربّ، قال: ياآدم، أعطني على ذلك العهد، فأخذ عليه العهد، ثم علّمه أسماءهم، ثم عرضهم على الملائكة، ولم يكن علّمهم بأسمائهم، ( فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ ) (2) علمت الملائكة أنه مستودع وأنه مفضّل بالعلم، وأُمروا بالسجود إذ كانت سجدتهم لآدم تفضيلاً له وعبادة للَّه؛ إذ كان ذلك بحقّ له، وأبى إبليس الفاسق عن أمر ربّه) (3) .

2 - قوله تعالى: ( فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ) ، ويمكن تقريب دلالة الآية إجمالاً على كون الكلمات هي النبي وأهل بيته بما تقدّمت الإشارة من

____________________

(1) الصافات: 165 - 166.

(2) البقرة: 31 - 32 - 33.

(3) تفسير فرات الكوفي، ص56، وكمال الدين وتمام النعمة، ص14، والهداية الكبرى للخصيبي، ص428 (واللفظ للأوَّل).

٢٥٢

إطلاق الكلمة في القرآن الكريم على النبي عيسى عليه‌السلام بما هو حجّة للَّه اصطفاه على العباد، فمنه يعرف أن الكلمة في استعمال القرآن تطلق على حجج اللَّه وأصفيائه، ويشير إلى ذلك أيضاً قوله تعالى: ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً ) (1) حيث تومئ الآية إلى كون كلمة اللَّه تعرف بالصدق والعدالة، وهو وصف لحجج اللَّه، وهذا الوصف أحرى بالصدق على سيد الأنبياء بعد صدقه على النبي عيسى عليه‌السلام .

وقد وردت بذلك الروايات من الفريقين كما سيأتي معتضداً ذلك بأن الأسماء التي تعلّمها آدم وشرّف بها على الملائكة قد مرّ أنها عرّفت بضمير الجمع للحي الشاعر العاقل وأُشير إليها باسم الإشارة للجمع الحي الشاعر العاقل، ممَّا يدلُّ على أنها موجودات وكائنات حيّة شاعرة عاقلة، نشأتها في غيب السماوات والأرض؛ لعدم علم ملائكة السماوات والأرض بها، كما أُشير إلى ذلك بقوله تعالى: ( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (2) .

ولا ريب أن أشرف الكائنات بنصوصية الكثير من الآيات وروايات الفريقين هو سيد الأنبياء، كما قد تبيّن أن أوَّل وأسمى الكلمات التي بشرفها قُبلت توبة آدم هو سيد الأنبياء، وحينئذٍ تُبيّن الآيات أن تلك الأسماء والكلمات حيث عبّر عنها بلفظ الجمع يقتضي أن مع سيد الأنبياء حجج آخرين للَّه تعالى شُرّف بمعرفتهم آدم وتاب اللَّه بهم عليه.

ولا نجد القرآن الكريم يُنزّل منزلة نفس النبي أحداً من الأنبياء والرسل، بل نزَّل علي بن أبي طالب منزلة نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه خصيصة اختصّ هو عليه‌السلام بها. كما لم يُشرك اللَّه تعالى في طهارة

____________________

(1) سورة الأنعام: 115.

(2) سورة البقرة: 33.

٢٥٣

النبي وعصمته ونمط حُجِّيَّته وعلمه بالكتاب كلّه مع العديد من المقامات الأخرى أحداً من أنبيائه ورسله، لكنَّه أشرك أهل بيته؛ وهم علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، كما في آية التطهير والمباهلة ومسِّ الكتاب من المطهَّرين من هذه الأمة وغيرها من الآيات النازلة فيهم.

فتبيّن أن قرين سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله في المراد من الكلمات والأسماء هم أهل بيته عليهم‌السلام .

وقد ورد في كتب الفريقين من السنّة والشيعة أن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه هم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، فدعا اللَّه عزَّ وجلَّ بواسطة الكلمات فتاب عليه.

منها: ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لمَّا اقترف آدم الخطيئة، قال: يا ربّ، أسألك بحقّ محمّد لمّا غفرت لي، فقال: يا آدم، وكيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟، قال: يا ربّ؛ لأنك لمَّا خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلّا اللَّه محمّد رسول اللَّه، فعلمت أنك لم تُضف إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك، فقال: صدقت يا آدم إنه لأحبّ الخلق إليّ، ادعني بحقّه فقد غفرت لك، ولولا محمّد ما خلقتك) (1) ، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. ومنها: ما أخرجه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل عن ابن عبَّاس قال: سألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه، قال:

____________________

(1) المستدرك، ج2، ص615.

٢٥٤

سأل بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت علي فتاب عليه) (1) . ومنها: ما أخرجه السيوطي عن الإمام علي عليه‌السلام أنه ذكر أن اللَّه عزَّ وجلَّ علّم آدم الكلمات التي تاب بها عليه وهي: (اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد، سبحانك لا إله إلّا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم. اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد، سبحانك لا إله إلّا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي، فتب عليّ إنك أنت التوَّاب الرحيم. فهؤلاء الكلمات التي تلقّى آدم) (2) .

3 - قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ ) (3) .

فالكلمة أُطلقت على عيسى عليه‌السلام ، وهذا الإطلاق غير خاص به عليه‌السلام ، بل هو شامل لكلّ الأنبياء لا سيما أولوا العزم منهم ولا سيما خاتم النبيِّين، فهو أفضل الأنبياء وسيّدهم وأعظمهم، فلا محالة يكون هو الكلمة الأتمّ، وكذا من هم نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم أهل بيته عليهم‌السلام .

4 - قوله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) (4)

فلا شك أن إبراهيم عليه‌السلام كلمة وآية من آيات اللَّه تعالى؛ لأنه أفضل من عيسى عليه‌السلام ، ومع ذلك امتحنه اللَّه عزَّ وجلَّ بكلمات تفوقه في المقام والمنزلة، ولمَّا ثبت في الامتحان، فاز بمقام الإمامة بعد الخلّة والنبوّة والرسالة، فلا محالة

____________________

(1) شواهد التنزيل، ج1، ص101.

(2) الدر المنثور، ج1، ص60.

(3) النساء: 171.

(4) البقرة: 124.

٢٥٥

تكون الكلمات هم سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله وآخرين غير النبي إبراهيم والنبي عيسى وموسى وآدم عليهم‌السلام .

والكلمات - كما جاء في الروايات - هم خمسة أصحاب الكساء، فإبراهيم نال مقام الخلافة في الأرض والزلفى عند اللَّه عزَّ وجلَّ بالكلمات، كما أن آدم فُضّل على الملائكة وأصبح مسجوداً لهم لتعلّمه الأسماء الحسنى والآيات العظمى، وهم أهل آية التطهير عليهم‌السلام .

وكذلك آدم تسنّم مقام الخلافة الإلهية بتوسّط علم الأسماء الحيّة العاقلة النوريّة، التي تحيط بجميع المخلوقات، ولا يحيط بها مخلوق من المخلوقات إلّا بما شاء اللَّه عزَّ وجل.

عن المفضّل بن عمر عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام ، قال: سألته عن قول اللَّه عزَّ وجل: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) ما هذه الكلمات؟

قال: (هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب اللَّه عليه، وهو أنه قال: أسألك بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت عليَّ، فتاب اللَّه عليه إنه هو التواب الرحيم) (1) .

5 - قوله تعالى: ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) (2) .

وقد كان المعصومون الأربعة عشر كلّهم عليهم‌السلام يقرأون هذه الآية عند ولادتهم، فهم الكلمات التَّامَّات التي تمّت صدقاً وعدلاً لا مبدِّل لكلماته، وقد مرّت الإشارة إلى أن نعت الكلمة بالصدق والعدالة يشير إلى حجج اللَّه فيما

____________________

(1) كمال الدين وتمام النعمة، ص358.

(2) الأنعام: 115.

٢٥٦

يؤدّونه عن اللَّه وما هي عليه سيرتهم من الصدق والعدل والعدالة، هذا كلّه بالنسبة إلى الجواب الأوّل وتفصيلاته.

الجواب الثالث: الآيات القرآنية

1 - وهو ما جاء في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ) (1) . الاستكبار على الآيات الوارد في هذه الآية المباركة نظير ما فعله إبليس؛ حيث أبى واستكبر أن يسجد لآدم، فكذّب بآية من آيات اللَّه تعالى. وذلك عندما قال: ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) (2) وقد استند في تكذيبه هذا إلى القياس الباطل، وهو لا يعلم حقائق دين اللَّه تعالى، ولا يعلم أن جانباً آخر في آدم نوريّ يعلو على النار هو الذي أهّله لذلك المقام، وليس الطين إلّا وجوده النازل المادّي. ثم إن الآية المباركة ذكرت أثراً آخر من آثار التكذيب بالآيات الإلهية والاستكبار عليها، حيث قالت: ( لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ) ، ومن الواضح أن أبواب السماء إنما تفتّح حين الدعاء والعبادة والتوجّه إلى اللَّه عزَّ وجل، وحين إرادة الزلفى والقرب، وكذلك لتصاعد الإيمان والعقيدة، كما يشير إليه قوله تعالى: ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) (3) ، فهذه الآية المباركة تقول: إن الذين يكذّبون بآيات اللَّه تعالى وأسمائه وكلماته ويستكبرون عنها - كما فعل إبليس - لا

____________________

(1) الأعراف: 40.

(2) الأعراف: 12.

(3) سورة فاطر: 10.

٢٥٧

تفتّح لهم أبواب السماء، فلا يمكنهم أن يدعوا اللَّه أو يتقرّبوا إليه، ولا يستجاب لهم دعاؤهم ولا عباداتهم كالصلاة والصوم والحجّ. والربط بين ترك الآية والإعراض عنها والاستكبار عليها وبين عدم القرب وعدم قبول الدعاء وعدم تفتّح الأبواب هو أن اللَّه عزَّ وجلَّ ليس بمادّي ولا بجسم، فلا يمكن أن يقابل أو يجابه، فلا زلفى إلّا بالآيات والإيمان بها والطاعة والخضوع لها والتوجّه بها إلى اللَّه عزَّ وجل: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) ، وقد مرّ في هذا الفصل وفي الفصل الثالث أن الآيات هم الحجج المصطفون، فلابدّ عند إرادة التوجّه إلى سماء الحضرة الإلهية بالدعاء والعبادة والازدلاف من التوجّه بهم والتوسّل بهم؛ لأن ذلك مفتاح فتح أبواب السماء، فهذه الآية تتشاهد وتتطابق مع الآية المتقدمة من قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (1) وأن الأسماء التي يُدعى بها في مقام الدعاء والفوز على اللَّه هي الآيات التي لابدّ من الإيمان بها والخضوع والإقبال عليها والتوجّه بها إلى الحضرة السماوية. وهذا المضمون هو ما ورد في الروايات المتواترة من أن ولاية أهل البيت عليهم‌السلام شرط في قبول الأعمال والعقائد، فإمامتهم عليهم‌السلام مقام من مقامات التوحيد في الطاعة، وهي شرط التوحيد وكلمة لا إله إلّا اللَّه، فمَن لا ولاية ولا طاعة له لا يقبل اللَّه عزَّ وجلَّ له عملاً، كما هو الحال في إبليس، حيث لم يقبل اللَّه عزَّ وجلَّ أعماله، ولم يقم له وزناً وطُرد من جوار اللَّه وقربه.

____________________

(1) سورة الأعراف: 180.

٢٥٨

إذن؛ مَن لا يُذعِن بالواسطة والولاية لا يقبل له عمل، لأنه لا تفتّح له الأبواب، ولا يكون ناجياً يوم القيامة ( وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُْمجْرِمِينَ ) .

2 - وهو قوله تعالى: ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) (1) ، فهذه الآية جاءت في سياق واحد مع قوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا ِلآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ) (2) ، فالسياق الواحد في هذه الآيات دالّ على أن ما فعله إبليس كان إنكاراً وظلماً لآية من آيات اللَّه تعالى، ودالّ أيضاً على أن ثقل الميزان والقرب وقبول الأعمال إنما يتمّ بالخضوع للآيات والإيمان بها.

وليست الأصنام إلّا الوسائل والوسائط المقترحة.

3 - قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (3) ، وتقريب الاستدلال بهذه الآية كالتقريب الذي تقدّم في الآيات التي سبقتها، ولا يخفى ما في التعبير بـ(عنه) دون التعبير بـ(عليه) من دلالة على الإعراض والإنكار لوساطة الآيات الإلهية، وأنه موجب لبطلان الأعمال والخلود في النار.

____________________

(1) الأعراف: 9.

(2) الأعراف: 11 - 13.

(3) الأعراف: 36.

٢٥٩

الشبهة الرابعة: الأعمال الصالحة هي الوسيلة

التوسُّل والوسيلة حقيقة العقيدة بالنبوّة والرسالة

لقد قام أصحاب هذا الاتجاه المنكِر لمبدأ التوسّل بتوجيه قوله تعالى: ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) (1) ، حيث فسّروا الوسيلة في هذه الآية بالطاعات والقربات والأعمال الصالحة التي يتقرّب بها العبد إلى ربّه.

وقد ورد في الأحاديث بأن العبد لا يتقرّب إلى اللَّه عزَّ وجلَّ إلّا بالطاعة والعمل الصالح، فطوعانية العبد لربّه هي وسيلته الوحيدة، وليس بين اللَّه وبين خلقه قرابة وقرب إلّا بالطاعة ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) ، فالجنّة يدخلها المطيع ولو كان عبداً حبشياً، والنار يدخلها العاصي ولو كان سيّداً قرشيّاً.

الجواب عن الشبهة الرابعة:

كان حصيلة الشبهة الرابعة هو تمسّكهم بقوله تعالى: ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) حيث فسّروا الوسيلة بالأعمال الصالحة من البرّ والتقوى والورع وسائر العبادات، وأن طوعانية العبد لربّه هي الوسيلة الوحيدة للنجاة والفوز بالجنة.

وفي المقدّمة نحن لا ننفي كون الأعمال الصالحة وسيلة من وسائل القرب إلى اللَّه عزَّ وجل، ولكن نريد أن نقول هي أحد مصاديق الوسيلة وليست الوسيلة منحصرة بها، وذلك بمقتضى نفس زعمهم من أن الوسيلة هي الأعمال الصالحة والطاعات، حيث إن أعظم الأعمال الصالحة والطاعات هو الإيمان باللَّه ورسوله؛ إذ لا يقاس بالإيمان بقيّة الأعمال من الصلاة والصيام والحج وغيرها،

____________________

(1) المائدة: 35.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459