الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  17%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96783 / تحميل: 5845
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الحركات الرجعيّة

1

7

الجهميّة

قد عرفت أنّ المتّهمين بالقدرية كانوا دعاة الحرّية، لا نُفاة القضاء والقدر، بل كانوا قائلين بأنّه سبحانه تبارك وتعالى قدّر وقضى، ومع ذلك، لم يسلب الاختيار عن الإنسان، فخيّره بين الإيمان والكفر، بين الخير والشّر، فلو قدّر الخير فلعلم منه بأنّه يختار الخير عن اختيار، أو قدّر الشر فلعلم منه أنّ الفاعل يختار الشر كذلك، وهو نفس صميم الإسلام ولبّه، قال سبحانه: ( فَمَن شَاءَ فَلْيُوْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكُفُرْ ) (1) .

لكن ظهرت في القرن الثاني والثالث حركات رجعيّة استهدفت أركان الإسلام والعودة بالأُمّة إلى الأفكار الجاهلية الّتي سادت قبل الإسلام، من القول بالجبر والتجسيم، وإليك أبرز ممثّلي هذه الحركات الرجعية.

____________________

(1) الكهف: 29.

٨١

الجهميّة:

إنّ سمات الجهميّة، هي: القول بالجبر والتعطيل، أسّسها جهم بن صفوان السمرقندي (المتوفّى 128هـ).

قال الذهبي: جهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي الضال المبتدع، رأس الجهميّة في زمان صغار التابعين، وما علِمْته روى شيئاً، لكنّه زرع شرّاً عظيماً.

وقال المقريزي: الجهميّة،أتباع جهم بن صفوان الترمذي، مولى راسب، وقُتل في آخر دولة بني أُميّة، وتتلخّص عقائده في الأُمور التالية:

1 - ينفي الصفات الإلهيّة كلّها، ويقول: لا يجوز أن يوصف الباري بصفة يوصف بها خَلْقه.

2 - إنّ الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالقدرة ولا بالاستطاعة.

3 - إنّ الجنّة والنّار يفنيان، وتنقطع حركات أهلهما.

4 - إنّ من عرف الله ولم ينطق بالإيمان لم يكفر؛ لأنّ العلم لا يزول بالصمت، وهو مؤمن مع ذلك.

وقد كفّره المعتزلة في نفي الاستطاعة، وكفّره أهل السنّة بنفي الصفات وخلق القرآن ونفي الرؤية.

5 - وانفرد بجواز الخروج على السلطان الجائر.

6 - وزعم أنّ علم الله حادث لا بصفة يوصف بها غيره. (1)

____________________

(1). الخطط المقريزيّة: 3/349، ولاحظ: ص351.

٨٢

أقول: الظاهر أنّ قاعدة مذهبه أمران:

الأوّل: الجبر ونفي الاستطاعة، فجهم بن صفوان رأس الجبر وأساسه، ويُطْلق على أتباعه الجبريّة الخالصة، في مقابل غير الخالص منها.

الثاني: تعطيل ذاته سبحانه، عن التوصيف بصفات الجلال والجمال، ومن هنا نجمت المعطّلة.

وأمّا غير هذين الأمرين فمشكوك جداً.

التطورات الّتي مرّ بها مفهوم الجهمي:

لمّا كان نفي الصفات عن الله والقول بخلق القرآن ونفي الرؤية ممّا نسب إلى منهج الجهم، صار لفظ الجهمي رمزاً لكلِّ من قال بأحد هذه الأُمور، وإن كان غير قائل بالجبر ونفي القدر؛ ولأجل ذلك ربّما تطلق الجهميّة ويراد بها المعتزلة أو القدريّة، يقول أحد بن حنبل:

والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله ووقف، ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق، فهو أخبث من الأوّل، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهمي، ومن لم يكفّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم. (1)

____________________

(1) السنّة: 49.

٨٣

الحركات الرجعيّة

2

8

المجسّمة

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد، والبرهان عن التفكير، ألحق أضراراً جسيمة بالمجتمع الإسلامي، حيث ظهرت فيه حركات هدّامة ترمي إلى تقويض الأُسس الدينية والأخلاقيّة.

ومن تلك الحركات المجسّمة؛ الّتي رفع لواءها مقاتل بن سليمان المجسم (1) (المتوفّى عام 150هـ)، ونشر أقاصيص الأحبار والرهبان في القرن الثالث، فهو وجهم بن صفوان، مع تشاطرهما في دفع الأُمّة الإسلامية إلى حافة الجاهلية،على طرفي نقيض في مسألة التنزيه والتشبيه.

____________________

(1) مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي بالولاء، البلخي، أبو الحسن، من المفسرين، أصله من بلخ، انتقل إلى البصرة ودخل بغداد وحدّث بها، وتوفّي بالبصرة، كان متروك الحديث، من كتبه (التفسير الكبير)، و(نوادر التفسير)، و(الرّد على القدريّة)، و(متشابه القرآن)، و(الناسخ والمنسوخ)، و(القراءات)، و(الوجوه والنظائر)، [الأعلام: 7/281].

٨٤

أمّا صفوان، فقد بالغ في التنزيه حتّى عطّل وصف ذاته بالصفات.

وأمّا مقاتل، فقد أفرط في التشبيه فصار مجسّماً، وقد نقل المفسرون آراء مقاتل في كتب التفاسير.

فليعرف القارئ مكانه في الوثاقة وتنزيه الربّ عن صفات الخلق.

قال ابن حبّان: كان يأخذ من اليهود والنصارى - في علم القرآن - الّذي يوافق كتبهم، وكان يشبّه الربّ بالمخلوقات، وكان يكذب في الحديث.

وقال أبو حنيفة: أفرط جهم في نفي التشبيه، حتّى قال إنّه تعالى ليس بشيء، وأفرط مقاتل في الإثبات حتى جعله مثل خلقه. (1)

____________________

(1) لاحظ: ميزان الاعتدال، 4/173. وراجع تاريخ بغداد، 13/166.

٨٥

الحركات الرجعية

3

9

الكرّاميّة

وهذه الفرقة منسوبة إلى محمد بن كرام السجستاني (المتوفّى عام 255هـ) شيخ الكرامية.

قال الذهبي: ساقط الحديث على بدعته، أكَثَر عن أحمد الجويباري، ومحمد بن تميم السعدي؛ وكانا كذّابين.

وقال ابن حبّان: خذل، حتّى التقط من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها... وجعل الإيمان قولاً بلا معرفة.

وقال ابن حزم: قال ابن كرام: الإيمان قول باللسان، وإن اعتقد الكفر بقلبه، فهو مؤمن. ومن بِدَع الكرّاميّة قولهم في المعبود تعالى إنّه جسم لا كالأجسام، وقد سقت أخبار ابن كرّام في تاريخي الكبير، وله أتباع ومؤيّدون، وقد سجن في نيسابور لأجل بدعته ثمانية أعوام، ثُمَّ أُخرج وسار

٨٦

إلى بيت المقدس، ومات بالشام سنة 255هـ. (1)

إنّ للكرّامية نظريات في موضوعات أُخر، ذكرها البغدادي، وقد بلغت جُرأتهم في باب النبوّة حتّى قال بعضهم: إنّ النبي أخطأ في تبليغ قوله[ تعالى]: ( وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرَى ) ، حتّى قال بعده: (تلك الغرانيق العلى، وان شفاعتها لترتجى). (2)

مع أنّ قصة الغرانيق أُقصوصة ابتدعها قوم من أهل الضلالة، وقد أوضحنا حالها في كتابنا (سيد المرسلين (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم».

ونكتفي بهذا النزر في بيان عقائدهم، وكلّها وليد إقصاء العقل والمنطق عن ساحة العقائد، والاكتفاء بالروايات مع ما فيها من أباطيل وترّهات وضعها الأعداء واختلقتها الأهواء، فهي من أسوأ الحركات الرجعيّة الظاهرة في أواسط القرن الثالث.

____________________

(1) ميزان الاعتدال: 4/21.

(2) الفرق بين الفِرق: 222.

٨٧

الحركات الرّجعيّة

4

10

الظاهرية

وهذا المذهب منسوب إلى داود بن علي الأصفهاني الظاهري (200 - 270هـ).

وقد أسّس مذهباً في الفروع، فالمصدر الأصلي في الفقه عنده هو النصوص، بلا رأي في حكم من أحكام الشرع، فهم يأخذون بالنصوص وحدها، فإذا لم يكن بالنص، أخذوا بالإباحة الأصليّة.

ما هو السبب لظهور هذا المذهب؟

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد يستلزم طرده عن ساحة الفقه بوجه أولى، لأنّ أساسه هو التعبُّد بالنصوص، وعدم الإفتاء بشيء لا يوجد له أصل في الكتاب والسنّة، لكن الجمود على حرفيّة النصوص شيء، والتعبّد بالنصوص وعدم الإفتاء في مورد لا يوجد فيه أصل ودلالة في المصدرين الرئيسيّين شيء آخر،

٨٨

فالظاهرية على الأوّل، والفقهاء على الثاني، ولأجل إيضاح الحال نأتي بمثالين:

1 - إنّ الشكّل الأوّل من الأشكال الأربعة ضروري الإنتاج، من غير فرق بين الأُمور التكوينيّة أو الأحكام الشرعيّة؛ فكما أنّ الحكم بحدوث العالم نتيجة حتمية لقولنا: العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث، فهكذا الحكم بحرمة كلّ مسكر، نتيجة قطعيّة لقولنا: الفقاع مسكر، وكل مسكر حرام، فالفقاع حرام؛ لكنّ الظاهري يقبل المقدّمتين، ولكن لا يفتي بالنتيجة؛ بحجة أنّها غير مذكورة في النصوص.

2 - ما يسمّيه الفقهاء بلحن الخطاب، وإن كان شيئاً غير مذكور في نفس الخطاب، لكنّه من اللوازم البيّنة له، بحيث يتبادر إلى الذّهن من سماعه، فإذا خاطبنا سبحانه بقوله: ( فَلَا تَقُل لَهُمَا أُفٍ ) (1) ، يتوجّه الذهن إلى حرمة ضربهما وشتمهما بطريق أولى، ولكن الفقيه الظاهري يأبى عن الأخذ به بحجّة كونه غير منصوص.

قال سبحانه: ( قُل لِلّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنّتُ الْأَوّلِينَ ) (2) .

فالموضوع للحكم (مغفرة ما سلف عند الانتهاء)؛ وإن كان هو الكافر، لكن الذهن السليم يتبادر إلى فهم شيء آخر، لازم لهذا الحكم بالضرورة، وهو تعميم الحكم إلى المسلم أيضاً بوجه آكد، ولكنّ الظاهري يتركه؛ بحجة أنّه غير مذكور في النص.

____________________

(1) الإسراء: 23.

(2) الأنفال: 38.

٨٩

وهذا النوع من الجمود يجعل النصوص غير كافلة لاستخراج الفروع الكثيرة، وتصبح الشريعة ناقصة من حيث التشريع والتقنين، وغير صالحة لجميع الأجيال والعصور، وفاقدة للمرونة اللازمة الّتي عليها أساس خاتميّة نبوّة نبيّناً محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وكتابه وسنّته.

ثمَّ إنّ الاكتفاء بظاهر الشريعة؛ وأخذ الأحكام من ظواهر النصوص؛ له تفسيران: أحدهما صحيح جداً، والآخر باطل، فإن أُريد منه نفي الظنون؛ الّتي لم يدلّ على صحة الاحتجاج بها دليل، فهو نفس نص الكتاب العزيز، قال سبحانه: ( قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (1) ، فالشيعة الإماميّة، وبفضل النصوص الوافرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) المتّصلة اسنادها إلى الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، استطاعت أن تستخرج أحكام الحوادث والموضوعات الكثيرة منها، وامتنعت عن العمل بالقياس والاستحسان وغيرهما من الأدلّة الظنية؛ الّتي لم يقم الدليل القطعي على صحّة الاحتجاج بها، بل قام الدليل على حرمة العمل على بعضها، كالقياس، وقد ورد في نصوص أئمتهم (عليهم السلام): «إنّ السنّة إذا قيست مُحق الدين» (2) .

وإن أُريد بها لوازم الخطاب؛ أي ما يكون في نظر العقلاء، كالمذكور أخذاً بقولهم: (الكناية أبلغ من التصريح)، ويكون التفكيك بينهما أمراً غير صحيح، فليس ذلك عملاً بغير المنصوص. نعم ليس عملاً بالظاهر الحرفي، ولكنّه عمل بها بما يفهمه المخاطبون بها.

____________________

(1) يونس: 59.

(2) الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.

٩٠

أُفول نجمه:

إنّ هذا المذهب لأجل حرفيته قد أفل نجمه بسرعة.

نعم قد تبعه فقيه آخر باسم ابن حزم (384 - 458هـ)، وأعاد هذا المذهب إلى الساحة، وألّف حوله كتباً ورسائل، وخدمه بالتآليف التالية:

1 - الإحكام في أُصول الأحكام: بيّن فيه أُصول المذهب الظاهري.

2 - النُّبَذ: وهو خلاصة ذلك الكتاب.

3 - المحلّى: وهو كتاب كبير نشر في عشرة أجزاء، جمع أحاديث الأحكام وفقه علماء الأمصار، طبع في بيروت بتحقيق أحمد محمد شاكر، وله آراء شاذة - كبطلان الاجتهاد في استخراج الأحكام الفقهية، وجواز مس المصحف للمجنب، وقاتل الإمام عليّ كان مجتهداً - ذكرناها في موسوعتنا. (1)

وقد ذكرنا هذا المذهب، مع أنّه فقهي؛ لأجل اشتراكه مع ما سبق في الرجعيّة، وإقصاء العقل عن ساحة الاجتهاد الفقهي.

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 3/141 - 146.

٩١

11

المعتزلة

المعتزلة بين المدارس الكلاميّة المختلفة؛ مدرسة فكريّة عقليّة أعطت للعقل القسط الأوفر، ومن المؤسف أنّ هوى العصبية، بل يد الخيانة، لعبت بكثير من مخلّفاتهم الفكريّة، فأطاحت به فأضاعتها بالخرق والتمزيق، فلم يبق فيما بأيدينا من آثارهم إلاّ الشيء القليل، وأكثرها يرجع إلى كتب عبد الجبار المعتزلي (المتوفّى عام 415هـ)، ولأجل ذلك فقد اعتمد في تحرير هذا المذهب غير واحد من الباحثين على كتب خصومهم كالأشاعرة، ومن المعلوم أنّ الاعتماد على كتاب الخصم لا يُورث يقيناً.

وقد اهتمّ المستشرقون في العصور الأخيرة بدراسة مذهب الاعتزال، ولقد أُعجبوا بمنهج الاعتزال في حرّية الإنسان وأفعاله، وصار ذلك سبباً لرجوع المعتزلة إلى الساحة من قبل المفكّرين الإسلاميّين، ولذلك نُشرت في هذه الآونة الأخيرة كتباً حول المعتزلة.

ومؤسّس المذهب هو واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري، نقل الشهرستاني أنّه دخل شخص على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين!، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم تُخرج به

٩٢

عن الملّة، وهم وعيديّة الخوارج، وجماعة يُرجئون أصحاب الكبائر، ويقولون لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأُمّة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟

فتفكّر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب، قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثُمّ قام واعتزل إلى اسطوانة المسجد؛ يقرّر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل، فسمّي هو وأصحابه: معتزلة. (1)

سائر ألقاب المعتزلة:

إنّ للمعتزلة ألقاباً أُخر:

1 - العدليّة: لقولهم بعدل الله سبحانه وحكمته.

2 - الموحّدة: لقولهم لا قديم مع الله، وينفون قدم القرآن.

3 - أهل الحق: لأنّهم يعتبرون أنفسهم أهل الحق.

4 - القدريّة: يُعبَّر عن المعتزلة في الكتب الكلاميّة بالقدريّة، والمعتزلة يطلقونها على خصومهم، وذلك لما رُوي عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «أنّ القدريّة مجوس هذه الأُمّة». فلو قلنا بأنّ القدريّة منسوبة إلى القدر؛ عِدْل القضاء، فتنطبق على

____________________

(1) الملل والنحل: 1/62.

٩٣

خُصَماء المعتزلة؛ القائلين بالقدر السالب للاختيار. ولو قلنا بأنّها منسوبة إلى القدرة؛ أي القائلين بتأثير قدرة الإنسان في فعله واختياره وتمكّنه في إيجاده، فتنطبق - على زعم الخُصَماء - على المعتزلة؛ لقولهم بتأثير قدرة الإنسان في فعله. وقد طال الكلام بين المتكلّمين في تفسير الحديث وذِكْر كلِّ طائفة وجهاً لانطباقه على خصمها. (1)

5 - الثنويّة: ولعلّ وجهه ما يتراءى من بعضهم من نسبة الخير إلى الله والشر إلى العبد.

6 - الوعيدية: لقولهم إنّ الله صادق في وعده، كما هو صادق في وعيده، وإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ بعد التوبة، فلو مات بدونها يكون معذّباً قطعاً ويخلَّد في النار.

7 - المعطّلة: لتعطيل ذاته سبحانه عن الصفات الذاتية، ولكن هذا اللقب أُلصق بالجهميّة، وأمّا المعتزلة فلهم في الصفات مذهبان:

أ - القول بالنيابة، أي خلو الذات عن الصفات، ولكن تنوب الذّات مكان الصفات في الآثار المطلوبة منها، وقد اشتهر قولهم: (خُذ الغايات واترك المبادئ)، وهذا مخالف لكتاب الله والسنّة والعقل. فإنّ النقل يدلّ بوضوح على اتّصافه سبحانه بالصفات الكماليّة، وأمّا العقل، فحدِّث عنه ولا حرج؛ لأنّ الكمال يساوق الوجود، وكلّما كان الوجود أعلى وأشرف، تكون الكمالات فيه آكد.

____________________

(1) كشف المراد: 195، شرح المقاصد للتفتازاني: 2/143.

٩٤

ب - عينيّة الصفات مع الذّات واشتمالها على حقائقها، من دون أن يكون ذات وصفة، بل الذّات بلغت في الكمال إلى درجة صار نفس العلم قدرة.

8 - الجهميّة، وهذا اللّقب منحه أحمد بن حنبل لهم، فكل ما يقول: قالت الجهميّة، أو يصف القائل بأنّه جهميّ؛ يُريد به المعتزلة، لِمَا وجد من موافقتهم الجهميّة في بعض المسائل.

9 - المفنية.

10 - اللّفظيّة.

وهذان اللّقبان ذكرهما المقريزي وقال: إنّهم يوصفون بالمفنية، لما نسب إلى أبي الهذيل من فناء حركات أهل الجنة والنار؛ واللفظية لقولهم: ألفاظ القرآن مخلوقة. (1)

الأُصول الخمسة عند المعتزلة:

اشتهرت المعتزلة بأُصول خمسة، فمن دان بها فهو معتزلي، ومن نقص منها أو زاد عليها فليس منهم، وتلك الأُصول المرتبة حسب أهميتها عبارة عن: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فمن دان بها، ثُمَّ خالف بقية المعتزلة في تفاصيلها، لم يخرج بذلك عنهم.

وإليك تفصيل هذه الأُصول بنحو موجز:

____________________

(1) الخطط المقريزيّة: 4/169.

٩٥

إيعاز إلى الأُصول الخمسة

وقبل كلّ شيء نطرح هذه الأُصول على وجه الإجمال، حتّى يُعلم ماذا يريد منها المعتزلة، ثُمَّ نأخذ بشرحها واحداً بعد احد؛ فنقول:

1 - التوحيد: ويراد منه العلم بأنّ الله واحد، لا يشاركه غيره فيما يستحقُّ من الصفات نفياً وإثباتاً على الحدّ الّذي يستحقّه. والتوحيد عندهم رمز لتنزيهه سبحانه عن شوائب الإمكان ووهم المثليّة وغيرهما ممّا يجب تنزيه ساحته عنه، كالتجسيم والتشبيه وإمكان الرؤية وطروء الحوادث عليه. غير أنّ المهمّ في هذا الأصل؛ هو الوقوف على كيفيّة جريان صفاته عليه سبحانه، ونفي الرؤية، وغيرهما يقع في الدّرجة الثانية من الأهمية في هذا الأصل؛ لأنّ كثيراً منها لم يختلف المسلمون فيه، إلاّ القليل منهم.

2 - العدل: إذا قيل إنّه تعالى عادل، فالمراد أنّ أفعاله كلّها حسنة، وأنّه لا يفعل القبيح، وأنّه لا يَخِلّ بما هو واجب عليه. وعلى ضوء هذا: لا يكذب في خبره، ولا يجور في حكمه، ولا يعذِّب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، ولا يُظهر المعجزة على أيدي الكذّابين، ولا يكلِّف العباد وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، بل يُقْدِرهم على ما كلّفهم، ويعلِّمهم صفة ما كلّفهم، ويدلّهم على ذلك، ويبيّن لهم ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى‏ مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ ) (1) ، وأنّه إذا كلّف المكلّف وأتى بما كلّف على الوجه الّذي كُلِّف، فإنّه يثيبه لا محالة، وأنّه سبحانه إذا آلم وأسقم، فإنّما فعله لصلاحه ومنافعه، وإلاّ كان مخلاًّ بواجب...

3 - الوعد والوعيد: والمراد منه أنّ الله وعد المطيعين بالثواب، وتوعّد

____________________

(1) الأنفال: 42.

٩٦

العصاة بالعقاب، وأنّه يفعل ما وعد به وتوعّد عليه لا محالة. ولا يجوز الخُلف، لأنّه يستلزم الكذب. فإذا أخبر عن الفعل، ثُمَّ تركه، يكون كذباً. ولو أخبر عن العزم، فبما أنّه محال عليه، كان معناه الإخبار عن نفس الفعل، فيكون الخُلف كذباً. وعلى ضوء هذا الأصل، حكموا بتخليد مرتكب الكبائر في النار؛ إذا مات بلا توبة.

4 - المنزلة بين المنزلتين: وتلقّب بمسألة الأسماء والأحكام؛ وهي أنّ صاحب الكبيرة ليس بكافر كما عليه الخوارج، ولا منافق كما عليه الحسن البصري، ولا مؤمن كما عليه بعضهم، بل فاسق لا يحكم عليه بالكفر ولا بالإيمان.

5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والمعروف: كلّ فعل عرف فاعله حسنه أو دلّ عليه، والمنكر: كلّ فعل عرف فاعله قبحه أو دلّ عليه. ولا خلاف بين المسلمين في وجوبهما؛ إنّما الخلاف في أنّه هل يُعلم عقلاً أو لا يُعلم إلاّ سمعاً؟، ذهب أبو عليّ (المتوفّى 303هـ) إلى أنّه يُعلم عقلاً وسمعاً، وأبو هاشم (المتوفّى 321هـ) إلى أنّه يُعلم سمعاً، ولوجوبه شروط تُذكر في محلّها، ومنها أن لا يؤدّي إلى مضرّة في ماله أو نفسه، إلاّ أن يكون في تحمّله لتلك المذلّة إعزاز للدّين.

قال القاضي: وعلى هذا يحمل ما كان من الحسين بن عليّ (عليهما السّلام)؛ لِمَا كان في صبره على ما صبر، إعزاز لدين الله عزّ وجلّ، ولهذا نباهي به سائر الأُمم، فنقول: لم يبق من ولْد الرّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلاّ سبط واحد، فلم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى قتل دون ذلك. (1)

____________________

(1) الأُصول الخمسة: 142، نقلاً عن، بحوث في الملل والنحل: 3/254 - 255.

٩٧

سبب الاقتصار على هذه الأُصول الخمسة:

هناك سؤال يطرح نفسه، وهو:

لماذا اقتصروا على هذه الأُصول، مع أنّ أمر النبوّة والمعاد أولى بأن يُعدَّ من الأُصول؟

وقد ذكروا في وجه ذلك أُموراً لا يُعتمد عليها، والحق أن يقال: إنّ الأُصول الخمسة الّتي يتبنّاها المعتزلة، مؤلّفة من أُمور تعدُّ من أُصول الدين كالتوحيد والعدل على وجه، ومن أُصول كلاميّة أنتجوها من البحث والنقاش، وأقحموها في الأُصول لغاية ردِّ الفرق المخالفة؛ الّتي لا توافقهم في هذه المسائل الكلامية.

وعند ذلك يستنتج القارئ أنّ ما اتّخذته المعتزلة من الأُصول، وجعلته في صدر آرائها، ليست إلاّ آراء كلاميّة لهذه الفرقة، تظاهروا بها للردّ على المجبّرة والمشبّهة والمرجئة والإماميّة وغيرهم من الفرق، على نحو لو لا تلكم الفِرَق لما سمعت من هذه الأُصول ذكراً.

أئمة المعتزلة:

المراد بأئمتهم؛ مشايخهم الكبار؛ الّذين نضج المذهب بأفكارهم وآرائهم، ووصل إلى القمة في الكمال.

نعم، في مقابل أئمة المذهب، أعلامهم الّذين كان لهم دور في تبيين هذا المنهج من دون أن يتركوا أثراً يستحق الذكر في الأُصول الخمسة، وها نحن نذكر من الطائفيتن نماذج:

٩٨

1. واصل بن عطاء (80 - 131هـ):

أبو حذيفة واصل بن عطاء، مؤسّس الاعتزال، المعروف بالغزّال، يقول ابن خلّكان: كان واصل أحد الأعاجيب، وذلك أنّه كان ألثغ، قبيح اللثغة في الرّاء، فكان يُخلِّص كلامه من الرّاء ولا يُفطن لذلك، لاقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه، ففي ذلك يقول أبو الطروق؛ يمدحه بإطالة الخطب واجتنابه الراء على كثرة تردّدها في الكلام، حتّى كأنّها ليست فيه.

عـليم بـإبدال الحروف وقامع

لـكلّ خطيب يغلب الحقَّ باطلُه

وقال الآخر:

ويـجعل البرّ قمحاً في تصرّفه

وخالف الرّاء حتّى احتال للشعر

ولـم يطق مطراً والقول يعجله

فـعاذ بالغيث اشفاقاً من المطر

من آرائه ومصنّفاته:

إنّ واصل هو أوّل من أظهر المنزلة بين المنزلتين؛ لأنّ الناس كانوا في أسماء أهل الكبائر من أهل الصلاة على أقوال: كانت الخوارج تسمّيهم بالكفر والشرك، والمرجئة تسمّيهم بالإيمان، وكان الحسن وأصحابه يسمّونهم بالنفاق.

مؤلّفاته:

ذكر ابن النديم في (الفهرست)، وتبعه ابن خلّكان: إنّ لواصل التصانيف التالية:

٩٩

1 - كتاب أصناف المرجئة.

2 - كتاب التوبة.

3 - كتاب المنزلة المنزلتين.

4 - كتاب خطبه الّتي أخرج منها الرّاء.

5 - كتاب معاني القرآن.

6 - كتاب الخُطب في التوحيد والعدل.

ومن المحتمل أنّه قام بجمع خطب الإمام عليّ (عليه السّلام) في التوحيد والعدل فأفرده تأليفاً.

7 - كتاب ما جرى بينه وبين عمرو بن عبيد.

8 - كتاب السبيل إلى معرفة الحق.

9 - كتاب في الدعوة.

10 - كتاب طبقات أهل العلم والجهل. (1)

2. عمرو بن عبيد (80 - 143هـ):

وهو الإمام الثاني للمعتزلة بعد واصل بن عطاء، وكان من أعضاء حلقة الحسن البصري، مثل واصل، لكن التحق به بعد مناظرة جرت بينهما في مرتكب الكبيرة.

روى ابن المرتضى، عن الجاحظ، أنّه قال: صلَّى عمرو أربعين عاماً صلاة

____________________

(1) فهرست ابن النديم: 203، الفن الأوّل من المقالة الخامسة.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

لا يفعلون إلّا عن أمر.

و يمكن أن يستفاد من قوله تعالى:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) يس: ٨٣، و قوله:( وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر: ٥٠، حقيقة معنى أمره تعالى و قد تقدّم في بعض المباحث السابقة كلام في ذلك و سيجي‏ء استيفاء البحث في كلام خاصّ بالملائكة فيما يعطيه القرآن في حقيقة الملك.

قوله تعالى: ( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى‏ وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) فسّروا( ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ ) بما قدّموا من أعمالهم و ما أخّروا، و المعنى: يعلم ما عملوا و ما هم عاملون.

فقوله:( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ ) استئناف في مقام التعليل لما تقدّمه من قوله:( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) كأنّه قيل: إنّما لم يقدموا على قول أو عمل بغير أمره تعالى لأنّه يعلم ما قدّموا من قول و عمل و ما أخّروا فلا يزالون يراقبون أحوالهم حيث إنّهم يعلمون ذلك.

و هو معنى جيّد في نفسه لكنّه إنّما يصلح لتعليل عدم إقدامهم على المعصية لا لتعليل قصر عملهم على مورد الأمر و هو المطلوب، على أنّ لفظ الآية لا دلالة فيه على أنّهم يعلمون ذلك و لو لا ذلك لم يتمّ البيان.

و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) مريم: ٦٤، أنّ الأوجه حمل قوله:( ما بَيْنَ أَيْدِينا ) على الأعمال و الآثار المتفرّعة على وجودهم، و قوله:( وَ ما خَلْفَنا ) على ما هو من أسباب وجودهم ممّا تقدّمهم و تحقّق قبلهم فلو حمل اللفظتان في هذه الآية على ما حملتا عليه هناك كانت الجملة تعليلاً واضحاً لمجموع قوله:( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ - إلى قوله -بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الّذي يذكرهم بشرافة الذات و شرافة آثار الذات من القول و الفعل و يكون المعنى: إنّما أكرم الله ذواتهم و حمد آثارهم لأنّه يعلم أعمالهم و أقوالهم و هي ما بين أيديهم و يعلم السبب الّذي به وجدوا و الأصل الّذي عليه نشأوا

٣٠١

و هو ما خلفهم كما يقال: فلان كريم النفس حميد السيرة لأنّه مرضي الأعمال من اُسرة كريمة.

و قوله:( وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) تعرّض لشفاعتهم لغيرهم و هو الّذي تعلّق به الوثنيّون في عبادتهم الملائكة كما ينبئ عنه قولهم:( هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ ) ( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فردّ تعالى عليهم بأنّ الملائكة إنّما يشفعون لمن ارتضاه الله و المراد به ارتضاء دينه لقوله تعالى:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) النساء: ٤٨، فالإيمان بالله من غير شرك هو الارتضاء، و الوثنيّون مشركون، و من عجيب أمرهم أنّهم يشركون بنفس الملائكة الّذين لا يشفعون إلّا لغير المشركين من الموحّدين.

و قوله:( وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) هي الخشية من سخطه و عذابه مع الأمن منه بسبب عدم المعصية و ذلك لأنّ جعله تعالى إيّاهم في أمن من العذاب بما أفاض عليهم من العصمة لا يحدّد قدرته تعالى و لا ينتزع الملك من يده، فهو يملك بعد الأمن عين ما كان يملكه قبله، و هو على كلّ شي‏ء قدير، و بذلك يستقيم معنى الآية التالية.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) أي من قال كذا كان ظالماً و نجزيه جهنّم لأنّها جزاء الظالم، و الآية قضيّة شرطيّة و الشرطيّة لا تقتضي تحقّق الشرط.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ ) المراد بالرؤية العلم الفكريّ و إنّما عبّر بالرؤية لظهوره من حيث إنّه نتيجة التفكير في أمر محسوس.

و الرتق و الفتق معنيان متقابلان، قال الراغب في المفردات،: الرتق الضمّ و الالتحام خلقة كان أم صنعة، قال تعالى:( كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) و قال: الفتق الفصل بين المتّصلين و هو ضدّ الرتق. انتهى. و ضمير التثنية في( كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) للسماوات و الأرض بعدّ السماوات طائفة و الأرض طائفة فهما طائفتان اثنتان، و مجي‏ء الخبر أعني

٣٠٢

رتقاً مفرداً لكونه مصدراً و إن كان بمعنى المفعول و المعنى كانت هاتان الطائفتان منضمّتين متّصلتين ففصلناهما.

و هذه الآية و الآيات الثلاث التالية لها برهان على توحيده تعالى في ربوبيّته للعالم كلّه أوردها بمناسبة ما انجرّ الكلام إلى توحيده و نفي ما اتّخذوها آلهة من دون الله و عدّوا الملائكة و هم من الآلهة عندهم أولاداً له، بانين في ذلك على أنّ الخلقة و الإيجاد لله و الربوبيّة و التدبير للآلهة. فأورد سبحانه في هذه الآيات أشياء من الخليقة خلقتها ممزوجة بتدبير أمرها فتبيّن بذلك أنّ التدبير لا ينفكّ عن الخلقة فمن الضروريّ أن يكون الّذي خلقها هو الّذي يدبّر أمرها و ذلك كالسماوات و الأرض و كلّ ذي حياة و الجبال و الفجاج و الليل و النهار و الشمس و القمر في خلقها و أحوالها الّتي ذكرها سبحانه.

فقوله:( أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) المراد بالّذين كفروا - بمقتضى السياق - هم الوثنيّون حيث يفرّقون بين الخلق و التدبير بنسبة الخلق إلى الله سبحانه و التدبير إلى الآلهة من دونه و قد بيّن خطأهم في هذه التفرقة بعطف نظرهم إلى ما لا يرتاب فيه من فتق السماوات و الأرض بعد رتقهما فإنّ في ذلك خلقاً غير منفكّ عن التدبير، فكيف يمكن قيام خلقهما بواحد و قيام تدبيرهما بآخرين.

لا نزال نشاهد انفصال المركّبات الأرضيّة و الجوّيّة بعضها من بعض و انفصال أنواع النباتات من الأرض و الحيوان من الحيوان و الإنسان من الإنسان و ظهور المنفصل بالانفصال في صورة جديدة لها آثار و خواصّ جديدة بعد ما كان متّصلاً بأصله الّذي انفصله منه غير متميّز الوجود و لا ظاهر الأثر و لا بارز الحكم فقد كانت هذه الفعليّات محفوظة الوجود في القوّة مودعة الذوات في المادّة رتقاً من غير فتق حتّى فتقت بعد الرتق و ظهرت بفعليّة ذواتها و آثارها.

و السماوات و الأرض بأجرامها حالها حال أفراد الأنواع الّتي ذكرناها و هذه الأجرام العلويّة و الأرض الّتي نحن عليها و إن لم يسمح لنا أعمارنا على قصرها

٣٠٣

أن نشاهد منها ما نشاهده في الكينونات الجزئية الّتي ذكرناها، فنرى بدء كينونتها أو انهدام وجودها لكنّ المادّة هي المادّة و أحكامها هي أحكامها و القوانين الجارية فيها لا تختلف و لا تتخلّف.

فتكرار انفصال جزئيّات المركّبات و المواليد من الأرض و نظير ذلك في الجوّ يدلّنا على يوم كانت الجميع فيه رتقاً منضمّة غير منفصلة من الأرض و كذا يهدينا إلى مرحلة لم يكن فيها ميز بين السماء و الأرض و كانت الجميع رتقاً ففتقها الله تحت تدبير منظّم متقن ظهر به كلّ منها على ما له من فعليّة الذات و آثارها.

فهذا ما يعطيه النظر الساذج في كينونة هذا العالم المشهود بأجزائها العلويّة و السفليّة كينونة ممزوجة بالتدبير مقارنة للنظام الجاري في الجميع و قد قرّبت الأبحاث العلميّة الحديثة هذه النظرة حيث أوضحت أنّ الأجرام الّتي تحت الحسّ مؤلّفة من عناصر معدودة مشتركة و لكلّ منها بقاء محدود و عمر مؤجّل و إن اختلفت بالطول و القصر.

هذا لو اُريد برتق السماوات و الأرض عدم تميّز بعضها من بعض و بالفتق تمييز السماوات من الأرض و لو اُريد برتقها عدم الانفصال بين أجزاء كلّ منهما في نفسه حتّى ينزل من السماء شي‏ء أو يخرج من الأرض شي‏ء و بفتقها خلاف ذلك كان المعنى أنّ السماوات كانت رتقاً لا تمطر ففتقناها بالإمطار و الأرض كانت رتقاً لا تنبت ففتقناها بالإنبات و تمّ البرهان و ربّما أيّده قوله بعد:( وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ ) لكنّه يختصّ من بين جميع الحوادث بالإمطار و الإنبات، بخلاف البرهان على التقريب الأوّل.

و ذكر بعض المفسّرين و ارتضاه آخرون أنّ المراد برتق السماوات و الأرض عدم تميّز بعضها من بعض حال عدمها السابق، و بفتقها تميّز بعضها من بعض في الوجود بعد العدم فيكون احتجاجاً بحدوث السماوات و الأرض على وجود محدثها و هو الله سبحانه.

و فيه أنّ الاحتجاج بالحدوث على المحدث تامّ في نفسه، لكنّه لا ينفع قبال

٣٠٤

الوثنيّين المعترفين بوجوده تعالى و استناد الإيجاد إليه و وجه الكلام إليهم، و إنّما ينفع قبالهم من الحجّة ما يثبت بها استناد التدبير إليه تعالى تجاه ما يسندون التدبير إلى آلهتهم و يعلّقون العبادة على ذلك.

و قوله:( وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ ) ظاهر السياق أنّ الجعل بمعنى الخلق و( كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ ) مفعوله و المراد أنّ للماء دخلاً تامّاً في وجود ذوي الحياة كما قال:( وَ اللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ ) النور: ٤٥، و لعلّ ورود القول في سياق تعداد الآيات المحسوسة يوجب انصراف الحكم بغير الملائكة و من يحذو حذوهم، و قد اتّضح ارتباط الحياة بالماء بالأبحاث العلميّة الحديثة.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) قال في المجمع: الرواسي الجبال رست ترسو رسواً إذا ثبتت بثقلها فهي راسية كما ترسو السفينة إذا وقفت متمكّنة في وقوفها، و الميد الاضطراب بالذهاب في الجهات، و الفجّ الطريق الواسع بين الجبلين. انتهى.

و المعنى: و جعلنا في الأرض جبالاً ثوابت لئلّا تميل و تضطرب الأرض بهم و جعلنا في تلك الجبال طرقاً واسعة هي سبل لعلّهم يهتدون منها إلى مقاصدهم و مواطنهم.

و فيه دلالة على أنّ للجبال ارتباطاً خاصّاً بالزلازل و لولاها لاضطربت الأرض بقشرها.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ ) كأنّ المراد بكون السماء محفوظة حفظها من الشياطين كما قال:( وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ ) الحجر: ١٧، و المراد بآيات السماء الحوادث المختلفة السماويّة الّتي تدلّ على وحدة التدبير و استناده إلى موجدها الواحد.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) الآية ظاهرة في إثبات الفلك لكلّ من الليل و هو الظلّ المخروطيّ

٣٠٥

الملازم لوجه الأرض المخالف لمسامتة الشمس، و النهار و هو خلاف الليل، و للشمس و القمر فالمراد بالفلك مدار كلّ منها.

و المراد مع ذلك بيان الأوضاع و الأحوال الحادثة بالنسبة إلى الأرض و في جوّها و إن كانت حال الأجرام الاُخر على خلاف ذلك فلا ليل و لا نهار يقابله للشمس و سائر الثوابت، الّتي هي نيّرة بالذات و للقمر و سائر السيّارات الكاسبة للنور من الليل و النهار غير ما لنا.

و قوله:( يَسْبَحُونَ ) من السبح بمعنى الجري في الماء بخرقه قيل و إنّما قال: يسبحون لأنّه أضاف إليها فعل العقلاء كما قال:( وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ) يوسف: ٤.

( بحث روائي)

في المحاسن، بإسناده عن يونس رفعه قال: قال أبوعبدالله (عليه السلام): ليس من باطل يقوم بإزاء حقّ إلّا غلب الحقّ الباطل و ذلك قول الله:( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ) .

و فيه، بإسناده عن أيّوب بن الحرّ قال قال أبوعبدالله (عليه السلام): يا أيّوب ما من أحد إلّا و قد يرد عليه الحقّ حتّى يصدع قلبه قبله أم تركه و ذلك أنّ الله يقول في كتابه:( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) .

أقول: و الروايتان مبنيّتان على تعميم الآية.

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) في هاروت و ماروت في حديث: إنّ الملائكة معصومون محفوظون عن الكفر و القبائح بألطاف الله تعالى قال الله تعالى فيهم:( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) و قال عزّوجلّ:( وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ يعني الملائكة لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ

٣٠٦

يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ) .

و في نهج البلاغة، قال (عليه السلام) في وصف الملائكة: و مسبّحون لا يسأمون، و لا يغشاهم نوم العيون، و لا سهو العقول، و لا فترة الأبدان، و لا غفلة النسيان.

أقول: و به يضعف ما في بعض الروايات أنّ الملائكة ينامون كما في كتاب كمال الدين بإسناده عن داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله: أنّه سئل عن الملائكة أ ينامون؟ فقال: ما من حيّ إلّا و هو ينام خلا الله وحده: فقلت: يقول الله عزّوجلّ:( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ) ؟ قال: أنفاسهم تسبيح. على أنّ الرواية ضعيفة.

و في التوحيد، بإسناده عن هشام بن الحكم قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) ما الدليل على أنّ الله واحد؟ قال: اتّصال التدبير و تمام الصنع كما قال عزّوجلّ:( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ) .

أقول: و هو يؤيّد ما قدّمناه في تقرير الدليل.

و فيه، بإسناده عن عمرو بن جابر قال: قلت لأبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر (عليه السلام): يا بن رسول الله إنّا نرى الأطفال منهم من يولد ميّتاً، و منهم من يسقط غير تامّ، و منهم من يولد أعمى و أخرس و أصمّ، و منهم من يموت من ساعته إذا سقط إلى الأرض، و منهم من يبقى إلى الاحتلام، و منهم من يعمّر حتّى يصير شيخاً فكيف ذلك و ما وجهه؟

فقال (عليه السلام): إنّ الله تبارك و تعالى أولى بما يدبّره من أمر خلقه منهم و هو الخالق و المالك لهم فمن منعه التعمير فإنّما منعه ما ليس له، و من عمّره فإنّما أعطاه ما ليس له فهو المتفضّل بما أعطى و عادل فيما منع و لا يسأل عمّا يفعل و هم يسألون.

قال جابر: فقلت له: يا بن رسول الله و كيف لا يسأل عمّا يفعل؟ قال: لأنّه لا يفعل إلّا ما كان حكمة و صواباً، و هو المتكبّر الجبّار و الواحد القهّار، فمن وجد في نفسه حرجاً في شي‏ء ممّا قضى كفر و من أنكر شيئاً من أفعاله جحد.

٣٠٧

أقول: و هي رواية شريفة تعطي أصلاً كلّيّاً في الحسنات و السيّئات و هو أنّ الحسنات اُمور وجوديّة تستند إلى إعطائه و فضله تعالى، و السيّئات اُمور عدميّة تنتهي إلى عدم الإعطاء لما لا يملكه العبد. و ما ذكره (عليه السلام) أنّه تعالى أولى بما لعبده منه وجهه أنّه تعالى هو المالك لذاته و العبد إنّما يملك ما يملك بتمليك منه تعالى و هو المالك لما ملّكه و ملك العبد في طول ملكه.

و قوله:( لأنّه لا يفعل إلّا ما كان حكمة و صواباً) إشارة إلى التقريب الأوّل الّذي قدّمناه، و قوله:( و هو المتكبّر الجبّار و الواحد القهّار) إشارة إلى التقريب الثاني الّذي أوردناه في تفسير الآية.

و في نور الثقلين، عن الرضا (عليه السلام) قال: قال الله تبارك و تعالى: يا بن آدم بمشيّتي كنت أنت الّذي تشاء لنفسك ما تشاء، و بقوّتي أدّيت إليّ فرائضي، و بنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعاً بصيراً قويّاً ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيّئة فمن نفسك و ذلك أنّي أولى بحسناتك منك و أنت أولى بسيّئاتك منّي و ذلك أنّي لا اُسأل عمّا أفعل و هم يسألون.

و في المجمع في قوله تعالى:( هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ) قال أبوعبدالله (عليه السلام): يعني بذكر من معي ما هو كائن و بذكر من قبلي ما قد كان.

و في العيون، بإسناده إلى الحسين بن خالد عن عليّ بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه عن أميرالمؤمنين (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي، و من لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي، ثمّ قال (عليه السلام): إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من اُمّتي فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل.

قال الحسين بن خالد: فقلت للرضا (عليه السلام): يا بن رسول الله فما معنى قول الله عزّوجلّ:( وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) قال: لا يشفعون إلّا لمن ارتضى الله دينه.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في البعث عن جابر: أنّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) تلا قول الله:( وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) فقال: إنّ شفاعتي لأهل الكبائر من اُمّتي.

٣٠٨

و في الاحتجاج، و روي: أنّ عمرو بن عبيد وفد على محمّد بن عليّ الباقر (عليه السلام) لامتحانه بالسؤال عنه فقال له: جعلت فداك ما معنى قوله تعالى:( أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) ما هذا الرتق و الفتق؟ فقال أبوجعفر (عليه السلام): كانت السماء رتقاً لا تنزل القطر و كانت الأرض رتقاً لا تخرج النبات ففتق الله السماء بالقطر و فتق الأرض بالنبات فانقطع عمرو بن عبيد و لم يجد اعتراضاً و مضى.

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي عنه (عليه السلام) بطريقين.

و في نهج البلاغة، قال (عليه السلام): و فتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها.

٣٠٩

( سورة الأنبياء الآيات ٣٤ - ٤٧)

وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ( ٣٤ ) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ( ٣٥ ) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَٰذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ هُمْ كَافِرُونَ ( ٣٦ ) خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ( ٣٧ ) وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٣٨ ) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ( ٣٩ ) بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ( ٤٠ ) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٤١ ) قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَٰنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ ( ٤٢ ) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ ( ٤٣ ) بَلْ مَتَّعْنَا هَٰؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ( ٤٤ ) قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ ( ٤٥ ) وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( ٤٦ ) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ( ٤٧ )

٣١٠

( بيان)

من تتمّة الكلام حول النبوّة يذكر فيها بعض ما قاله المشركون في النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) كقولهم: سيموت فنتخلّص منه و نستريح و قولهم استهزاء به:( أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ) ، و قولهم استهزاء بالبعث و القيامة الّتي اُنذروا بها:( مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) و فيها جواب أقاويلهم و إنذار و تهديد لهم و تسلية للنبيّ (صلّي الله عليه وآله وٍسلّم).

قوله تعالى: ( وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ ) يلوح من الآية أنّهم كانوا يسلّون أنفسهم بأنّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) سيموت فيتخلّصون من دعوته و تنجو آلهتهم من طعنة كما حكى ذلك عنهم في مثل قولهم:( نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) الطور: ٣٠، فأجاب عنه بأنّا لم نجعل لبشر من قبلك الخلد حتّى يتوقّع ذلك لك بل إنّك ميّت و إنّهم ميّتون، و لا ينفعهم موتك شيئاً فلا أنّهم يقبضون على الخلود بموتك، فالجميع ميّتون، و لا أنّ حياتهم القصيرة المؤجّلة تخلو من الفتنة و الامتحان الإلهيّ فلا يخلو منه إنسان في حياته الدنيا، و لا أنّهم خارجون بالآخرة من سلطاننا بل إلينا يرجعون فنحاسبهم و نجزيهم بما عملوا.

و قوله:( أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ ) و لم يقل: فهم خالدون و الاستفهام للإنكار يفيد نفي قصر القلب كأنّه قيل: إنّ قولهم: نتربّص به ريب المنون كلام من يرى لنفسه خلوداً أنت مزاحمه فيه فلو متّ لذهب بالخلود و قبض عليه و عاش عيشة خالدة طيّبة ناعمة و ليس كذلك بل كلّ نفس ذائقة الموت، و الحياة الدنيا مبنيّة على الفتنة و الامتحان، و لا معنى للفتنة الدائمة و الامتحان الخالد بل يجب أن يرجعوا إلى ربّهم فيجازيهم على ما امتحنهم و ميّزهم.

قوله تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) لفظ النفس - على ما يعطيه التأمّل في موارد استعماله - أصل معناه هو معنى ما اُضيف إليه فنفس الشي‏ء معناه الشي‏ء و نفس الإنسان معناه هو الإنسان و

٣١١

نفس الحجر معناه هو الحجر فلو قطع عن الإضافة لم يكن له معنى محصّل، و على هذا المعنى يستعمل للتأكيد اللفظي كقولنا: جاءني زيد نفسه أو لإفادة معناه كقولنا: جاءني نفس زيد.

و بهذا المعنى يطلق على كلّ شي‏ء حتّى عليه تعالى كما قال:( كَتَبَ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) الأنعام: ١٢، و قال:( وَ يُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ ) آل عمران: ٢٨، و قال:( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ) المائدة: ١١٦.

ثمّ شاع استعمال لفظها في شخص الإنسان خاصّة و هو الموجود المركّب من روح و بدن فصار ذا معنى في نفسه و إن قطع عن الإضافة قال تعالى:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ) أي من شخص إنسانيّ واحد، و قال:( مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) المائدة: ٣٢، أي من قتل إنساناً و من أحيا إنساناً، و قد اجتمع المعنيان في قوله:( كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها ) فالنفس الاُولى بالمعنى الثاني و الثانية بالمعنى الأوّل.

ثمّ استعملوها في الروح الإنسانيّ لما أنّ الحياة و العلم و القدرة الّتي بها قوام الإنسان قائمة بها و منه قوله تعالى:( أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ ) الأنعام: ٩٣.

و لم يطّرد هذان الإطلاقان أعني الثاني و الثالث في غير الإنسان كالنبات و سائر الحيوان إلّا بحسب الاصطلاح العلميّ فلا يقال للواحد من النبات و الحيوان عرفاً نفس و لا للمبدء المدبّر لجسمه نفس نعم ربّما سمّيت الدم نفساً لأنّ للحياة توقّفاً عليها و منه النفس السائلة.

و كذا لا يطلق النفس في اللغة بأحد الإطلاقين الثاني و الثالث على الملك و الجنّ و إن كان معتقدهم أنّ لهما حياة، و لم يرد استعمال النفس فيهما في القرآن أيضاً و إن نطقت الآيات بأنّ للجنّ تكليفاً كالإنسان و موتاً و حشراً قال:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات: ٥٦، و قال:( فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ

٣١٢

قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ ) الأحقاف: ١٨، و قال:( وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ ) الأنعام: ١٢٨، هذا ما يتحصّل من معنى النفس بحسب عرف اللغة.

و أمّا الموت فهو فقد الحياة و آثارها من الشعور و الإرادة عمّا من شأنه أن يتّصف بها قال تعالى:( وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ) البقرة: ٢٨، و قال في الأصنام:( أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ ) النحل: ٢١، و أمّا أنّه مفارقة النفس للبدن بانقطاع تعلّقها التدبيريّ كما يعرّفه الأبحاث العقليّة أو أنّه الانتقال من دار إلى دار كما في الحديث النبويّ فهو معنى كشف عنه العقل أو النقل غير ما استقرّ عليه الاستعمال و من المعلوم أنّ الموت بالمعنى الّذي ذكر إنّما يتّصف به الإنسان المركّب من الروح و البدن باعتبار بدنه فهو الّذي يتّصف بفقدان الحياة بعد وجدانه و أمّا الروح فلم يرد في كلامه تعالى ما ينطق باتّصافه بالموت كما لم يرد ذلك في الملك، و أمّا قوله:( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) القصص: ٨٨، و قوله:( وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ) الزمر: ٦٨ فسيجي‏ء إن شاء الله أنّ الهلاك و الصعق غير الموت و إن انطبقاً عليه أحيانا.

فقد تبيّن ممّا قدّمناه أوّلاً: أنّ المراد بالنفس في قوله:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) الإنسان - و هو الاستعمال الثاني من استعمالاتها الثلاث - دون الروح الإنسانيّ إذ لم يعهد نسبة الموت إلى الروح في كلامه تعالى حتّى تحمل عليه.

و ثانياً: أنّ الآية إنّما تعمّ الإنسان لا غير كالملك و الجنّ و سائر الحيوان و إن كان بعضها ممّا يتّصف بالموت كالجنّ و الحيوان، و من القرينة على اختصاص الآية بالإنسان قوله قبله:( وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ) و قوله بعده:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) على ما سنوضحه.

و قد ذكر جمع منهم أنّ المراد بالنفس في الآية الروح، و قد عرفت خلافه و أصرّ كثير منهم على عموم الآية لكلّ ذي حياة من الإنسان و الملك و الجنّ و سائر الحيوانات حتّى النبات إن كان لها حياة حقيقة و قد عرفت ما فيه.

٣١٣

و من أعجب ما قيل في تقرير عموم الآية ما ذكره الإمام الرازيّ في التفسير الكبير، بعد ما قرّر أنّ الآية عامّة لكلّ ذي نفس: أنّ الآية مخصّصة فإنّ له تعالى نفساً كما قال حكاية عن عيسى (عليه السلام):( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ) مع أنّ الموت مستحيل عليه سبحانه، و كذا الجمادات لها نفوس و هي لا تموت. ثمّ قال: و العامّ المخصوص حجّة فيبقى معمولاً به على ظاهره فيما عدا ما اُخرج منه، و ذلك يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشريّة و العقول المفارقة و النفوس الفلكيّة أنّها لا تموت. انتهى كلامه.

و فيه أوّلاً: أنّ النفس بالمعنى الّذي تطلق عليه تعالى و على كلّ شي‏ء هي النفس بالاستعمال الأوّل من الاستعمالات الثلاث الّتي قدّمناها لا تستعمل إلّا مضافة كما في الآية الّتي استشهد بها و الّتي في الآية مقطوعة عن الإضافة فهي غير مرادة بهذا المعنى في الآية قطعاً فتبقى النفس بأحد المعنيين الآخرين و قد عرفت أنّ المعنى الثالث أيضاً غير مراد فيبقى الثاني.

و ثانياً: أنّ نفيه الموت عن الجمادات ينافي قوله تعالى:( كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ) و قوله:( أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ ) و غير ذلك.

و ثالثاً: أنّ قوله: إنّ عموم الآية يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشريّة و العقول المفارقة و النفوس الفلكيّة خطأ فإنّ هذه مسائل عقليّة يرام السلوك إليها من طريق البرهان، و البرهان حجّة مفيدة لليقين فإن كانت الحجج الّتي أقاموها عليها كلّها أو بعضها براهين كما أدّعوها لم ينعقد من الآية في مقابلها ظهور و الظهور حجّة ظنّيّة و كيف يتصوّر اجتماع العلم مع الظنّ بالخلاف، و إن لم تكن براهين لم تثبت المسائل و لا حاجة معه إلى ظنّ بالخلاف.

ثمّ إنّ قوله:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) كما هو تقرير و تثبيت لمضمون قوله قبلاً:( وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ) إلخ، كذلك توطئة و تمهيد لقوله بعد:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) - أي و نمتحنكم بما تكرهونه من مرض و فقر و نحوه و ما تريدونه من صحّة و غنى و نحوهما امتحاناً - كأنّه قيل: نحيي كلّا منكم

٣١٤

حياة محدودة مؤجّلة و نمتحنكم فيها بالشرّ و الخير امتحاناً ثمّ إلى ربّكم ترجعون فيقضي عليكم و لكم.

و فيه إشارة إلى علّة تحتّم الموت لكلّ نفس حيّة، و هي أنّ حياة كلّ نفس حياة امتحانيّة ابتلائيّة، و من المعلوم أنّ الامتحان أمر مقدّميّ و من الضروريّ أنّ المقدّمة لا تكون خالدة لا تنتهي إلى أمد و من الضروريّ أنّ وراء كلّ مقدّمة ذا مقدّمة و بعد كلّ امتحان موقف تتعيّن فيه نتيجته فلكلّ نفس حيّة موت محتوم ثمّ لها رجوع إلى الله سبحانه لفصل القضاء.

قوله تعالى: ( وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ ) إن نافية و المراد بقوله:( إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ) قصر معاملتهم معه على اتّخاذهم إيّاه هزؤا أي لم يتّخذوك إلّا هزؤا يستهزء به.

و قوله:( أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ) - و التقدير يقولون أو قائلين: أ هذا الّذي إلخ - حكاية كلمة استهزائهم، و الاستهزاء في الإشارة إليه بالوصف، و مرادهم ذكره آلهتهم بسوء و لم يصرّحوا به أدباً مع آلهتهم و هو نظير قوله:( قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ) الآية: ٦٠ من السورة.

و قوله:( وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ ) في موضع الحال من ضمير( إِنْ يَتَّخِذُونَكَ ) أو من فاعل يقولون المقدّر و هو أقرب و محصّله أنّهم يأنفون لآلهتهم عليك إذ تقول فيها إنّها لا تنفع و لا تضرّ - و هو كلمة حقّ - فلا يواجهونك إلّا بالهزء و الإهانة و لا يأنفون لله إذ يكفر بذكره و الكافرون هم أنفسهم.

و المراد بذكر الرحمن ذكره تعالى بأنّه مفيض كلّ رحمة و منعم كلّ نعمة و لازمه كونه تعالى هو الربّ الّذي تجب عبادته، و قيل: المراد بالذكر القرآن.

و المعنى: و إذا رآك الّذين كفروا و هم المشركون ما يتّخذونك و لا يعاملون معك إلّا بالهزء و السخريّة قائلين بعضهم لبعض أ هذا الّذي يذكر آلهتكم أي بسوء فيأنفون لآلهتهم حيث تذكرها و الحال أنّهم بذكر الرحمن كافرون و لا يعدّونه

٣١٥

جرماً و لا يأنفون له.

قوله تعالى: ( خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ) كان المشركون على كفرهم بالدعوة النبويّة يستهزؤن بالنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) كلّما رأوه، و هو زيادة في الكفر و العتوّ، و الاستهزاء بشي‏ء إنّما يكون بالبناء على كونه هزلاً غير جدّ فيقابل الهزل بالهزل لكنّه تعالى أخذ استهزاءهم هذا أخذ جدّ غير هزل فكان الاستهزاء بعد الكفر تعرّضاً للعذاب الإلهيّ بعد تعرّض و هو الاستعجال بالعذاب فإنّهم لا يقنعون بما جاءتهم من الآيات و هم في عافية و يطلبون آيات تجازيهم بما صنعوا، و لذلك عدّ سبحانه استهزاءهم بعد الكفر استعجالاً برؤية الآيات و هي الآيات الملازمة للعذاب و أخبرهم أنّه سيريهم إيّاها.

فقوله:( خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ ) كناية عن بلوغ الإنسان في العجل كأنّه خلق من عجل و لا يعرف سواه نظير ما يقال: فلان خير كلّه أو شرّ كلّه و خلق من خير أو من شرّ و هو أبلغ من قولنا، ما أعجله و ما أشدّ استعجاله، و الكلام وارد مورد التعجيب و فيه استهانة بأمرهم و أنّه لا يعجل بعذابهم لأنّهم لا يفوتونه.

و قوله:( سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ) الآية الآتية تشهد بأنّ المراد بإراءة الآيات تعذيبهم بنار جهنّم و هي قوله:( لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) القائلون هم الّذين كفروا و المخاطبون هم النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و المؤمنون و كان مقتضى الظاهر أن يقولوا؟ إن كنت من الصادقين لكنّهم عدلوا إلى ما ترى ليضيفوا إلى تعجيز النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بمطالبته ما لا يقدر عليه إضلال المؤمنين به و إغراءهم عليه و الوعد هو ما اشتملت عليه الآية السابقة و تفسّره الآية اللاحقة.

قوله تعالى: ( لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ ) ( لَوْ ) للتمنّي و( حِينَ ) مفعول يعلم على ما قيل و قوله:( لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ ) أي لا يدفعونها حيث تأخذهم من قدامهم و من خلفهم و فيه إشارة إلى إحاطتها بهم.

٣١٦

و قوله:( وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ ) معطوف على ما تقدّمه لرجوع معناه إلى الترديد بالمقابلة و المعنى لا يدفعون النار باستقلال من أنفسهم و لا بنصر من ينصرهم على دفعه.

و الآية في موضع الجواب لسؤالهم عن الموعد، و المعنى ليت الّذين كفروا يعلمون الوقت الّذي لا يدفعون النار عن وجوههم و لا عن ظهورهم لا باستقلال من أنفسهم و لا هم ينصرون في دفعها.

قوله تعالى: ( بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ ) الّذي يقتضيه السياق أنّ فاعل تأتيهم ضمير راجع إلى النار دون الساعة كما ذهب إليه بعضهم، و الجملة إضراب عن قوله في الآية السابقة:( لا يَكُفُّونَ ) إلخ. لا عن مقدّر قبله تقديره لا تأتيهم الآيات بحسب اقتراحهم بل تأتيهم بغتة، و لا عن قوله:( لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) بدعوى أنّه في معنى النفي و التقدير لا يعلمون ذلك بل تأتيهم بغتة فإنّ هذه كلّها وجوه يأبى عنها السياق.

و معنى إتيان النار بغتة أنّها تفاجؤهم حيث لا يدرون من أين تأتيهم و تحيط بهم فإنّ ذلك لازم ما وصفه الله من أمرها بقوله:( نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) الهمزة: ٧، و قوله:( النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ ) البقرة: ٢٤، و قوله:( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) الآية: ٩٨ من السورة، و النار الّتي هذا شأنها تأخذ باطن الإنسان كظاهره على حدّ سواء لا كنار الدنيا حتّى تتوجّه من جهة إلى جهة و تأخذ الظاهر قبل الباطن و الخارج قبل الداخل حتّى تمهلهم بقطع مسافة أو بتدرّج في عمل أو مفارقة في جهة فيحتال لدفعها بتجاف أو تجنّب أو إبداء حائل أو الالتجاء إلى ركن بل هي معهم كما أنّ أنفسهم معهم لا تستطاع ردّاً إذ لا اختلاف جهة و لا تقبل مهلة إذ لا مسافة بينها و بينهم فلا تسمح لهم في نزولها عليهم إلّا البهت و الحيرة.

فمعنى الآية - و الله أعلم - لا يدفعون النار عن وجوههم و ظهورهم بل تأتيهم من

٣١٧

حيث لا يشعرون بها و لا يدرون فتكون مباغتة لهم فلا يستطيعون ردّها و لا يمهلون في إتيانها.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) قال في المجمع: الفرق بين السخريّة و الهزء أنّ في السخريّة معنى طلب الذلّة لأنّ التسخير التذليل فأمّا الهزء فيقتضي طلب صغر القدر بما يظهر في القول. انتهى و الحيق الحلول، و المراد بما كانوا به يستهزؤن، العذاب و في الآية تسلية للنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و تخويف و تهديد للّذين كفروا.

قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ) الكلاءة الحفظ و المعنى أسألهم من الّذي يحفظهم من الرحمن إن أراد أن يعذّبهم ثمّ أضرب عن تأثير الموعظة و الإنذار فيهم فقال:( بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ ) أي القرآن( مُعْرِضُونَ ) فلا يعتنون به و لا يريدون أن يصغوا إليه إذا تلوته عليهم و قيل المراد بالذكر مطلق المواعظ و الحجج.

قوله تعالى: ( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ) أم منقطعة و الاستفهام للإنكار، و كلّ من( تَمْنَعُهُمْ ) و( مِنْ دُونِنا ) صفة آلهة، و المعنى بل أسألهم أ لهم آلهة من دوننا تمنعهم منّا.

و قوله:( لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ ) إلخ تعليل للنفي المستفاد من الاستفهام الإنكاريّ و لذا جي‏ء بالفصل و التقدير ليس لهم آلهة كذلك لأنّهم لا يستطيعون نصر أنفسهم بأن ينصر بعضهم بعضاً و لا هم منّا يجارون و يحفظون فكيف ينصرون عبّادهم من المشركين أو يجيرونهم، و ذكر بعضهم أنّ ضمائر الجمع راجعة إلى المشركين و السياق يأباه.

قوله تعالى: ( بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ) إلى آخر الآية هو إضراب عن مضمون الآية السابقة كما كان قوله:( بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ) إضراباً عمّا تقدّمه و المضامين - كما ترى - متقاربة.

٣١٨

و قوله:( حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ) غاية لدوام التمتّع المدلول عليه بالجملة السابقة و التقدير بل متّعنا هؤلاء المشركين و آباءهم و دام لهم التمتّع حتّى طال عليهم العمر فاغتروّا بذلك و نسوا ذكر الله و أعرضوا عن عبادته، و كذلك كان مجتمع قريش فإنّهم كانوا بعد أبيهم إسماعيل قاطنين في حرم آمن متمتّعين بأنواع النعم الّتي تحمل إليهم حتّى تسلّطوا على مكّة و أخرجوا جرهماً منها فنسوا ما هم عليه من دين أبيهم إبراهيم و عبدوا الأصنام.

و قوله:( أَ فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها ) الأنسب للسياق أن يكون المراد من نقص الأرض من أطرافها هو انقراض بعض الاُمم الّتي تسكنها فإنّ لكلّ اُمّة أجلاً ما تسبق من اُمّة أجلها و ما يستأخرون - و قد تقدّمت الإشارة إلى أنّ المراد بطول العمر عليهم طول عمر مجتمعهم.

و المعنى: أ فلا يرون أنّ الأرض تنقص منها اُمّة بعد اُمّة بالانقراض بأمر الله فما ذا يمنعه أن يهلكهم أ فهم الغالبون إن أرادهم الله سبحانه بضرّ أو هلاك و انقراض.

و قد مرّ بعض الكلام في الآية في نظيرتها من سورة الرعد فراجع. و اعلم أنّ في هذه الآيات وجوها من الالتفات لم نتعرّض لها لظهورها.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَ لا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ ) أي إنّ الّذي اُنذركم به وحي إلهيّ لا ريب فيه و إنّما لا يؤثّر فيكم أثره و هو الهداية لأنّ فيكم صمماً لا تسمعون الإنذار فالنقص في ناحيتكم لا فيه.

قوله تعالى: ( وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ ) النفحة الوقعة من العذاب، و المراد أنّ الإنذار بآيات الذكر لا ينفعهم بل هؤلاء يحتاجون إلى نفحة من العذاب حتّى يضطرّوا فيؤمنوا و يعترفوا بظلمهم.

قوله تعالى: ( وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ) القسط العدل و هو عطف بيان للموازين أو صفة للموازين بتقدير مضاف و التقدير الموازين ذوات القسط، و قد تقدّم الكلام في معنى الميزان المنصوب يوم القيامة في تفسير سورة الأعراف.

٣١٩

و قوله:( وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها ) الضمير في( وَ إِنْ كانَ ) للعمل الموزون المدلول عليه بذكر الموازين أي و إن كان العمل الموزون مقدار حبّة من خردل في ثقله أتينا بها و كفى بنا حاسبين و حبّة الخردل يضرب بها المثل في دقّتها و صغرها و حقارتها، و فيه إشارة إلى أنّ الوزن من الحساب.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال: لمّا نعى جبريل للنبيّ نفسه قال: يا ربّ فمن لاُمّتي؟ فنزلت:( وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ) الآية.

أقول: سياق الآيات و هو سياق العتاب لا يلائم ما ذكر. على أنّ هذا السؤال لا يلائم موقع النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم)، على أنّ النعي كان في آخر حياة النبيّ و السورة من أقدم السور المكّيّة.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ قال: مرّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) على أبي سفيان و أبي جهل و هما يتحدّثان فلمّا رآه أبوجهل ضحك و قال لأبي سفيان: هذا نبيّ بني عبد مناف فغضب أبو سفيان فقال: ما تنكرون ليكون لبني عبد مناف نبيّ؟ فسمعها النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فرجع إلى أبي جهل فوقع به و خوّفه و قال: ما أراك منتهياً حتّى يصيبك ما أصاب عمّك، و قال لأبي سفيان: أمّا إنّك لم تقل ما قلت إلّا حميّة فنزلت هذه الآية( وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ) الآية.

أقول: هو كسابقه في عدم انطباق القصّة على الآية ذاك الانطباق.

و في المجمع، روي عن أبي عبدالله (عليه السلام): أنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) مرض فعاده إخوانه فقالوا: كيف نجدك يا أميرالمؤمنين؟ قال: بشر. قالوا: ما هذا كلام مثلك قال: إنّ الله تعالى يقول:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) فالخير الصحّة و الغنى و الشرّ المرض و الفقر.

و فيه في قوله:( أَ فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها ) و قيل:

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459