الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  13%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96772 / تحميل: 5841
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

(٥)

بعثته ونزول الوحي إليه

«بَعَثَ اللهُ سُبْحانَهُ نَبِيَّهُ الأَكْرَم عَلَى حِينِ فَتَرةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَطُولِ هَجعَةٍ مِنَ الاُمَمِ، وَاعْتِزَام مِنَ الفِتَنِ وَانتِشَارٍ مِنَ الأُمُورِ، وَتَلَظٍّ مِنَ الحُروبِ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ، ظَاهِرةُ الغُرورِ، عَلى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا، وإياسٍ مِن ثَمرِهَا، وَاغوِرَار مِنْ مَائِهَا، قَدْ دَرَسَتْ مَنَار الهُدى، وَظَهَرتْ اَعلامُ الرَّدى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لأَهْلِهَا، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبَها، ثَمَرُهَا الفِتْنَةُ، وَطَعَامُهَا الجِيفَةُ، وَشِعارُهَا الخَوْفُ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ » (١) .

بعث على رأس الأربعين من عمره، وبُشّر بالنبوّة والرسالة، وأمّا الشهر الذي بعث فيه، ففيه أقوال وآراء، فالشيعة الإمامية تبعاً لأئمّة أهل البيت: على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث في سبع وعشرين من رجب.

روى الكليني عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: لا تدع صيام يوم سبع وعشرين من رجب فإنّه اليوم الذي نزلت فيه النبوّة على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

وروى أيضاً عن الإمام الكاظمعليه‌السلام أنّه قال: بعث الله عزّ وجلّ محمّداً رحمة للعالمين في سبع وعشرين من رجب(٣) .

روى المفيد عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: في اليوم السابع والعشرين من رحب نزلت النبوّة على رسول الله، إلى غير ذلك من الروايات(٤) .

وأمّا غيرهم فمن قائل بأنّه بعث في سبعة عشر من شهر رمضان أو ثمانية عشر أو أربع وعشرين من هذا الشهر أو في الثاني عشر من ربيع الأوّل.

__________________

(١) إقتباس من كلام الإمام أمير المؤمنين في نهج البلاغة الخطبة ٨٥، طبعة عبده.

(٢) و (٣) البحار: ج ١٨ ص ١٨٩ ـ نقلاً عن الكافي وأمالي ابن الشيخ.

(٤) البحار: ج ١٨ ص ١٨٩ ـ نقلاً عن الكافي وأمالي ابن الشيخ.

١٠١

وبما أنّ أهل البيت أدرى بما في البيت، كيف وهم نجوم الهدى ومصابيح الدجى وأحد الثقلين الذين تركهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعده، فيجب علينا الوقوف دون نظرهم ولا نجتازه، نعم دلّ الذكر الحكيم على أنّ القرآن نزل في شهر رمضان قال سبحانه:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) ( البقرة / ١٨٥ ).

وقال سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ( القدر / ١ ).

وقال سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) ( الدخان / ٣ ).

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على نزوله في شهر رمضان.

والإستدلال بهذه الآيات على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث في شهر رمضان مبني على إقتران البشارة بالنبوّة، بنزول القرآن وهو بعد غير ثابت، فلو قلنا بالتفكيك وأنّه بعث في شهر رجب، وبشّر بالنبوّة فيه، ونزل القرآن في شهر رمضان، لما كان هناك منافاة بين بعثته في رجب، ونزول القرآن في شهر رمضان.

ويؤيّد ذلك أي عدم اقتران النبوّة بنزول القرآن ما نقله غير واحد عن عائشة: إنّ أوّل ما بدء به رسول الله من النبوّة حين أراد الله كرامته، الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رؤيا في نومه إلّا جاءت كفلق الصبح، قالت: وحبّب الله تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحبّ إليه من أن يخلو وحده(١) .

لكن الظاهر من ذيل ما روته عائشة أنّ النبوّة كانت مقترنة بنزول الوحي والقرآن الكريم، ولنذكر نص الحديث بتمامه ثمّ نذيّله ببيان بعض الملاحظات حوله.روى البخاري: « كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يخلو بغار حراء، فيتحنّث فيه وهو التعبّد في الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاء الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد ثمّ أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني

__________________

(١) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣، السيرة النبوية: ج ١ ص ٣٣٤.

١٠٢

فقال: إقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثالثة ثمّ أرسلني، فقال:( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) (١) .

وفي هذه الرواية تأمّلات واضحة:

١ ـ ما هو المبرّر لجبرئيل أن يروّع النبي الأعظم، وأن يؤذيه بالعصر إلى حدٍّ أنّه يظن انّه الموت ؟ يفعل به ذلك وهو يراه عاجزاً عن القيام بما يأمره به، ولا يرحمه ولا يلين معه ؟

٢ ـ لماذا يفعل ذلك ثلاث مرات لا أكثر ولا أقل ؟

٣ ـ لماذا صدّقه في الثالثة، لا في المرّة الاُولى ولا الثانية مع أنّه يعلم أنّ النبي لا يكذب ؟

٤ ـ هل السند الذي روى به البخاري قابل للإحتجاج مع أنّ فيه الزهري وعروة.

أمّا الزهري فهو الذي عرف بعمالته للحكام، وإرتزاقه من موائدهم، وكان كاتباً لهشام بن عبد الملك ومعلّماً لأولاده، وجلس هو وعروة في مسجد المدينة فنالا من عليٍّ، فبلغ ذلك السجادعليه‌السلام حتى وقف عليهما فقال: أمّا أنت يا عروة فإنّ أبي حاكم أباك، فحُكِم لأبي على أبيك، وأمّا أنت يا زهري فلو كنت أنا وأنت بمكّة لأريتك كن أبيك(٢) .

أمّا عروة بن الزبير الذي حكم عليه ابن عمر بالنفاق وعدّه الاسكافي من التابعيين الذين يضعون أخباراً قبيحة في عليّعليه‌السلام (٣) .

نعم رواه ابن هشام والطبري في تفسيره وتاريخه(٤) بسند آخر ينتهي إلى

__________________

(١) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣.

(٢) أي بيت أبيك.

(٣) الصحيح من سيرة النبي الأعظم: ص ٢٢٣.

(٤) السيرة النبوية: ج ١ ص ٢٣٥، تفسير الطبري: ج ٣٠ ص ١٦٢، وتاريخه: ج ٣ ص ٣٥٣.

١٠٣

أشخاص يستبعد سماعهم الحديث عن نفس الرسول الأكرم ودونك أسماؤهم:

١ ـ عبيد بن عمير، ترجمه ابن الاثير، قال: ذكر البخاري أنّه رأى النبي وذكر مسلم أنّه ولد على عهد النبي وهو معدود من كبار التابعين يروي عن عمر وغيره(١) .

٢ ـ عبد الله بن شداد، ترجمه ابن الأثير وقال: ولد على عهد النبي، روى عن أبيه وعن عمر وعليّ(٢) .

٣ ـ عائشة، زوجة النبي، حيث تفرّدت بنقل هذا الحديث ومن المستبعد جداً أن لا يحدّث النبي هذا الحديث غيرها مع تلهف غيرها إلى سماع أمثال هذا الحديث.

نعم ورد مضمون الحديث في تفسير الإمام العسكريعليه‌السلام ونقله من أعلام الطائفة ابن شهر آشوب في مناقبه(٣) أو المجلسي في بحاره(٤) .

لكن الكلام في صحّة نسبة التفسير الموجود إلى الإمام العسكريعليه‌السلام وأمّا المناقب فإنّه يورد الأحاديث والتواريخ مرسلة لا مسندة، والمجلسي اعتمد على هذه المصادر التي عرفت حالها.

وبذلك يظهر أنّه لا دليل على أنّ البشارة بالنبوّة كانت مقترنة بنزول القرآن، وبذلك ينسجم نزول القرآن في شهر رمضان مع كون البعثة في شهر رجب، نعم أورد العلّامة الطباطبائي على هذه النظرية بقوله: إذا بعث النبي في اليوم الثاني والعشرين من شهر رجب وبينه وبين شهر رمضان أكثر من ثلاثين يوماً فكيف تخلو البعثة في هذه المدّة من نزول القرآن ؟ على أنّ سورة العلق أوّل سورة نزلت على رسول الله وأنّها

__________________

(١) اُسد الغابة: ج ٣ ص ٣٥٣.

(٢) نفس المصدر: ج ٤ ص ١٨٣.

(٣) مناقب آل أبي طالب: ج ١ ص ٤٠ ـ ٤٤.

(٤) بحار الأنوار: ج ١٨ ص ١٩٦.

١٠٤

نزلت بمصاحبة البعثة(١) .

يلاحظ على ما ذكر:

١ ـ انّ الوجه الأوّل من كلامه مجرّد استبعاد، فأيّ إشكال في أن يكون النبي قد بشّر بالنبوّة ونزِّل القرآن بعد شهر وبضعة أيام.

٢ ـ وأمّا الوجه الثاني فلأنّ الروايات نطقت بأنّها أوّل سورة نزلت وليس فيها ما يدلّ على اقتران نزولها بأوّل عهد البعثة.

سؤال وإجابة:

إذا كان القرآن نازلاً في شهر رمضان فإنّ معناه أنّ مجموعه نزل في هذا الشهر مع أنّه نزل قرابة مدّة ثلاثة وعشرين سنة فكيف التوفيق بين هذين الأمرين ؟

وأمّا الإجابة فقد اُجيب عنه بأجوبة نذكرها واحداً تلو الآخر.

الأوّل: إنّ للقرآن نزولين: نزول دفعي وقد عبّر عنه بلفظ الإنزال الدال على الدفعة، ونزول تدريجي وهو الذي يعبّر عنه بالتنزيل. قال سبحانه:( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) ( هود / ١ ) فإنّ هذا الإحكام في مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعله فصلاً فصلاً، وقطعة قطعة، والإحكام كونه على وجه لا يتفصّل فيه جزء من جزء ولا يتميّز بعض من بعض، لرجوعه إلى معنى واحد، لا أجزاء ولا فصول فيه، فعلى ذلك فالقرآن نزل دفعة واحدة على قلب النبي الأعظم، ثمّ صار ينزل تدريجياً حسب المناسبات والوقائع والأحداث(٢) .

وعلى ذلك فلا مانع من نزول جميع القرآن في شهر رمضان نزولاً دفعياً، ثمّ نزوله نحو ما في بضعة وعشرين سنة.

__________________

(١) تفسير الميزان: ج ٢ ص ١٣.

(٢) الميزان: ج ٢ ص ١٤ ـ ١٦.

١٠٥

ويلاحظ عليه: أنّ ما ذكره مبني على الفرق بين « الإنزال » و « التنزيل »، وأنّ الأوّل عبارة عن النزول الدفعي، والثاني عن النزول التدريجي مع أنّه لا دليل عليه، فإنّ الثاني أيضاً استعمل في النزول الدفعي. قال تعالى حاكياً عن المشركين:( وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ) ( الاسراء / ٩٣ ).

وقال تعالى:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) ( الفرقان / ٣٢ ) فلو كان التنزيل هو النزول التدريجي فلماذا وصفه بقوله: « جملة واحدة ».

الثاني: إنّ القرآن نزل دفعة واحدة إلى البيت المعمور حسب ما نطقت به الروايات الكثيرة ثمّ صار ينزل تدريجياً على الرسول الأعظم.

روى حفص بن غياث عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال سألته عن قول الله عزّ وجلّ:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) وإنّما اُنزل في عشرين بين أوّله وآخره، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام « نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثمّ نزل في طول عشرين سنة »(١) .

ولو صحّت الرواية يجب التعبّد بها، وإلّا فما معنى نزول القرآن الذي هو هدى للناس إلى البيت المعمور، وأيّ صلة بهذا النزول بهداية الناس الذي يتكلّم عنه القرآن ويقول:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ) ؟

قال الشيخ المفيد:

« الذي ذهب إليه أبو جعفر(٢) حديث واحد لا يوجب علماً ولا عملاً ونزول

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن: ج ١ ص ١٨٢، والدر المنثور: ج ٦ ص ٣٧٠.

(٢) مراده الصدوق، وقد ذهب إلى أنّ القرآن قد نزل في شهر رمضان في ليلة القدر جملة واحدة إلى البيت المعمور، ثمّ انزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة.

١٠٦

القرآن على الأسباب الحادثة حالاً لا يدلّ على خلاف ما تضمّنه الحديث، وذلك أنّه قد تضمّن حكم ما حدث، وذكر ما جرى على وجهه، وذلك لا يكون على الحقيقة إلّا لحدوثه عند السبب، الخ.

ثمّ استعرض آيات كثيرة نزلت لحوادث متجددة(١) .

الثالث: إنّ القرآن يطلق على الكلّ والجزء، فمن الممكن أن يكون المراد بنزول القرآن في شهر رمضان هو شروع نزوله في ليلة مباركة وهي ليلة القدر، فكما يصحّ نسبة النزول إليه في شهر رمضان إذا نزل جملة واحدة، تصحّ نسبتة إليه إذا نزل أوّل جزء منه في شهر رمضان واستمرّ نزوله في الأشهر القادمة طيلة حياة النبي.

فيقال: نزل القرآن في شهر رمضان أي بدأ نزوله في هذا الشهر، وله نظائر في العرف، فلو بدأ فيضان الماء في المسيل يقال جرى السيل في يوم كذا وإن استمرّ جريانه وفيضانه عدّة أيام.

وهذا هو الظاهر من صاحب « المنار » حيث يقول: وأمّا معنى إنزال القرآن في رمضان مع أنّ المعروف باليقين أنّ القرآن نزل منجّماً في مدّة البعثة كلّها، فهو أنّ إبتداء نزوله كان في رمضان، ذلك في ليلة منه سمّيت ليلة القدر أي الشرف، والليلة المباركة كما في آيات اُخرى. وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه، على أنّ لفظ القرآن يطلق على هذا الكتاب كلّه ويطلق على بعضه.

الرابع: إنّ جملة القرآن وإن لم تنزل في تلك الليلة، لكن لـمّا نزلت سورة الحمد بها وهي تشتمل على جلِّ معارف القرآن، فكأنّ القرآن اُنزل فيه جميعاً فصحّ أن يقال: إنّا اَنزلناه في ليلة القدر.

يلاحظ عليه: أنّه لو كانت سورة الحمد أوّل سورة نزلت على رسول الله لكان حق الكلام أن يقال: قل بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، أو يقال:

__________________

(١) تصحيح الإعتقاد: ص ٥٨.

١٠٧

بسم الله الرحمن الرحيم، قل: الحمد لله ربّ العالمين(١) .

وهذا يعرب عن أنّ سورة الحمد ليست أوّل سورة نزلت على النبي.

هذه هي الوجوه التي ذكرها المفسّرون المحقّقون والثالث هو الأقوى.

أوّل ما نزل على رسول الله:

ذكر أكثر المفسّرين أنّ أوّل سورة نزلت على رسول الله هي سورة العلق، وتدل عليه روايات أئمّة أهل البيت. روى الكليني عن الصادقعليه‌السلام قال: أوّل ما نزل على رسول الله( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) وآخر سورة هو قوله:( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ) ومثله عن الإمام الرضاعليه‌السلام (٢) .

ولعلّ المراد نزول آيات خمس من أوّلها لا جميع السورة.

لأنّ قوله سبحانه في نفس تلك السورة:( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ *عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ ) لا يناسب أن تكون أوّل ما نزل، بل هو حاك عن وجود تشريع للصلاة، ووجود من يقيمها حتّى واجه نهي بعض المشركين، وهذا لا يتّفق مع كونه أوّل ما نزل.

أساطير وخرافات

دلّت الأدلة العقلية والآيات القرآنية على أنّ الأنبياء مصونون عن الخطأ والإشتباه في تلقّي الوحي أوّلاً، وضبطه ثانياً، وإبلاغه ثالثاً وأنّهم لا يشكّون فيما يلقى في روعهم من أنّه ربّ العالمين وأنّ ما يعاينونه رسول إله العالمين، والكلام كلامه، لا يشكّون في ذلك طرفة عين ولا يتردّدون بل يتلقّونه بنفس مطمئنة.

__________________

(١) الميزان: ج ٢ ص ٢١ ـ ٢٢.

(٢) البرهان في تفسير القرآن: ج ١ المقدّمة الباب الخامس عشر ص ٢٩، وتاريخ القرآن للزنجاني: ص ٣٠.

١٠٨

هذا هو القرآن الكريم يذكر كيفيّة بدء نزول الوحي إلى موسى وأنّه تلقّاه بلا تردّد ولا تريّث. بذكره في سور مختلفة:

يقول:( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ *إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى *وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ *إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَٰهَ إلّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي *إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ *اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ *قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي *وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي *وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي *يَفْقَهُوا قَوْلِي *وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي *هَارُونَ أَخِي *اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي *وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي *كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا *وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا *إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا ) ( طه / ١١ ـ ٣٥ ).

ترى أنّ الكليم عندما فُوجئ بنزول الوحي، تلقّاه بصدر رحب، ولم يتردّد في أنّه وحيه سبحانه وأمره، ولذلك سأل سبحانه أن يشرح له صدره، وييسر له أمره، ويحلّ العقدة التي في لسانه، ويجعل له وزيراً من أهله، يشدّ به أزره ويشركه في أمره.

يقول سبحانه:( فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *يَا مُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( النحل / ٨ ـ ٩ ).

وجاءت هذه القصة في سورة القصص على وفق ما وردت في السورتين(١) .

ومن لاحظ هذه الآيات يقف على أنّ موقف الأنبياء من الوحي هو موقف الإنسان المتيقّن المطمئنّ إليه، وهذه خاصّة تعمّ جميع الأنبياء:

نرى أنّه سبحانه يذكر رؤية النبي الأكرم، ومواجهته لمعلّمه الذي وصفه القرآن بـ « شديد القوى ».

يقول:( إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحَىٰ *عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ *ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ *وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَىٰ *ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ *فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ

__________________

(١) القصص: ٢٩ ـ ٣٥.

١٠٩

مَا أَوْحَىٰ *مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ *أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ ) ( النجم / ٤ ـ ١٢ ).

فأي كلمة أصرح في توصيف إيمان النبي واذعانه في مجال الوحي ومواجهة أمينه من قوله سبحانه:( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ) أي صدق القلب عمل العين. ويحتمل أن يكون المراد، ما رآه الفؤاد.

قال العلّامة الطباطبائي:

فالمراد بالفؤاد، فؤاد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وضمير الفاعل في « ما رأى » راجع إلى الفؤاد، والرؤيا رؤيته ولابدع في نسبة الرؤية وهي مشاهدة العيان إلى الفؤاد، فإنّ للإنسان نوعاً من الإدراك الشهودي وراء الإدراك بإحدى الحواسّ الظاهرة، والتخيّل والتفكّر بالقوى الباطنة كما أنّنا نشاهد من أنفسنا أنّنا نرى وليست هذه المشاهدة العيانية رؤية بالبصر ولا معلوماً بالفكر، وكذا نرى من أنفسنا أنّنا نسمع ونشمّ ونذوق ونلمس، ونشاهد أنّنا نتخيّل ونتفكّر، وليست هذه الرؤية ببصر أو بشيء من الحواسّ الظاهرة أو الباطنة(١) .

فالله سبحانه يؤيّد صدق النبي فيما يدّعيه من الوحي ورؤية آيات الله الكبرى، سواء كانت بالعين أو بالفؤاد.

وعلى كل تقدير فهذه الآيات وغيرها تدلّ على أنّ الأنبياء وغيرهم لا يشكّون ولا يتردّدون فيما يواجهون من الاُمور الغيبيّة.

وعلى ضوء ذلك تقف على أنّ ما ملأ كتب السيرة وبعض التفاسير في مجال بدء الوحي وأنّه تردّد النبي وشكّ عندما بشّر بالنبوّة وشاهد ملك الوحي وامتلأ روعاً وخوفاً إلى حدّ حاول أن يلقي نفسه من شاهق، وعاد إلى البيت فكلّم زوجته فيما واجهه، وعادت زوجته تسلّيه وتقنعه بأنّه رسول ربّ العالمين، وأنّ ما رآه ليس إلّا أمراً حقّاً.

إذ كل ذلك أساطير وخرافات، تناقض البراهين العقليّة وما يتلقّاه الإنسان

__________________

(١) الميزان: ج ١٩ ص ٣٠.

١١٠

من قصص الأنبياء الواردة في القرآن الكريم، وقد دسّها الأحبار والرهبان وسماسرة الحديث والقصّاصون في كتب القصص والسير والحديث، ونحن نكتفي في المقام بما ذكره البخاري في صحيحه وابن هشام في سيرته، فإنّ استقصاء كل ما ورد حول هذا الموضوع من الروايات المدسوسة يدفع بنا إلى تأليف رسالة مفردة، ولكن فيما ذكرنا غنىً وكفاية. قال البخاري:

( بعد ذكر نزول أمين الوحي عليه في جبل حراء ) « فرجع بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد ( رضي الله عنها ) فقال: زمّلوني زمّلوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة ـ واخبرها الخبر ـ لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلاّ والله ما يخزيك الله أبداً إنّك لتصل الرحم، وتحمل الكل وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عمّ خديجة، وكان أمرئً تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعاً ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمخرجي هم ؟ قال: نعم، لم يأتِ رجل قطّ بمثل ما جئت به إلّا عودي، وان يدركني يومك، أنصرك نصراً مؤزّراً ثمّ لم ينشب(١) ورقة أن توفّي وفتر الوحي »(٢) .

هذا ما لدى البخاري، وأمّا صاحب السيرة النبوية فبعدما ذكر مسألة الغتّ ينقل عن النبي أنّه قال:

« فخرجت حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول:

__________________

(١) أي لم يلبث.

(٢) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣.

١١١

يا محمّد، أنت رسول الله وأنا جبرئيل، قال: فوقفت أنظر إليه، فما أتقدّم وما أتأخّر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، قال: فلا أنظر في ناحية منها إلّا رأيته كذلك، فما زلت واقفاً، ما أتقدّم أمامي، وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا على مكّة ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك، ثمّ انصرف عنّي وانصرفت راجعاً إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها، فقالت: يا أبا القاسم، أين كنت ؟ فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكّة ورجعوا إليّ، ثمّ حدّثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يا ابن عمّ واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده إنّي لأرجو أن تكون نبيّ هذه الاُمّة ».

ثمّ يذكر انطلاق خديجة إلى ورقة بن نوفل، وما أجابها به ورقة بنفس النص الذي ذكره البخاري ثمّ يذكر لقاء النبي ورقة بن نوفل، وهو يطوف بالكعبة، فسأله ورقة بما رأى وسمع، فأخبره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنّك لنبيّ هذه الاُمّة.

ثمّ عقبه بذكر ما قامت به خديجة من إمتحان صدق نبوّته فذكر أنّها قالت لرسول الله: أي ابن عمّ، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا إذا جاءك ؟ قال: نعم. قالت: فإذا جاءك فاخبرني به، فجاءه جبرئيل، فقال رسول الله لخديجة: هذا جبرئيل قد جائني، قالت: قم يا بن عمّ فاجلس على فخذي اليسرى، قال: فقام رسول الله فجلس عليها، قالت: هل ترى ؟ قال: نعم، قالت: فتحوّل فاجلس على فخذي اليمنى، فجلس على فخذها اليمنى، فقالت: هل تراه ؟ قال: نعم، قالت: فتحوّل واجلس في حجري، فتحوّل فجلس في حجرها، قالت هل تراه، قال: نعم، فتحسّرت وألقت خمارها ورسول الله جالس في حجرها، ثم قالت له: هل تراه ؟ قال: لا.

قالت: يا ابن عم أثبت وابشر، فو الله هذا ملك وما هذا بشيطان(١) .

وقال الطبري ـ بعد ما ذكر نزول جبرئيل إليه وتعليم آيات من سورة العلق ـ

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٢٣٧ ـ ٢٣٩، وتاريخ الطبري: ج ٢ ص ٤٩ ـ ٥٠.

١١٢

ثمّ دخلت على خديجة وقلت: زمّلوني زمّلوني حتى ذهب عنّي الروع، ثمّ أتاني وقال: يا محمّد، أنت رسول الله.

قال: لقد هممت أن أطرح نفسي من حالق من جبل فتبدّى لي حين هممت بذلك، فقال: يا محمّد، أنا جبرئيل وأنت رسول الله، ثمّ قال: إقرأ، قلت: ما اقرأ ؟ قال: فأخذني فغتني ثلاث مرات حتّى بلغ منّي الجهد ثمّ قال: اقرأ باسم ربّك الذي خلق، فقرأت فأتيت خديجة، فقلت: لقد أشفقت على نفسي، فأخبرتها خبري فقالت: أبشر فو الله لا يخزيك الله أبداً، ووالله إنّك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدّي الأمانة، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ، ثمّ انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل بن أسد، فقالت: اسمع من ابن أخيك، فسألني فأخبرته خبري، فقال: هذا الناموس الذي اُنزل على موسى بن عمران .

نظرة تحليلية حول هذه النصوص:

إنّ هذه النصوص التاريخية التي نقلها المشايخ كالبخاري وابن هشام والطبري، وتلقّاها الآخرون من بعدهم على أنّها حادثة متسالم عليها تضاد ما يستشفه الإنسان من التدبّر في حالات الأنبياء في القرآن الكريم وتناقض البديهة العقلية، وإليك بيان ما فيها من نقاط الضعف وعلائم الجعل والتهافت:

١ ـ إنّ النبوّة كما عرفت منصب إلهي لا يفيضه الله إلّا على من امتلك زخماً هائلاً من القدرات الروحية والقوى النفسية العالية حتّى يقوى على معاينة الوحي، ومشاهدة الملائكة، فعندئذٍ فلا معنى لما ذكره البخاري: « لقد خشيت على نفسي » أفيمكن أن ينزل الوحي الإلهي على من لا يفرّق بين لقاء الملك، ولقاء الجنّ ومكالمتهما حتى يخشى على نفسه الجنون أو الموت ؟

٢ ـ وأسوأ منه ما ذكره الطبري من أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله همّ أن يرمي بنفسه من شاهق من جبل، فندم عليه ورجع عنه حين سمع كلام جبرئيل يا محمّد أنا جبرئيل.

١١٣

إنّ هذا الكلام يعرب من أنّ نفسهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن نفساً مستعدّة لتحمّل الوحي على حدٍّ، همّ أن يقتل نفسه بالإلقاء من حالق، وهل هذا هو إلّا نفس الجنون الذي كان المشركون يصفونه به طيلة بعثته، فوا عجباً نسمعه من أعوانه وأنصاره ومن لسان زوجته.

٣ ـ إنّ قول خديجة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّا والله ما يخزيك الله أبداً، تعرب من أنّها كانت أوثق إيماناً بنبوّته من نفس الرسول. فهل يمكن التفوّه بذلك، وما حاجة النبي الأعظم الذي قال تعالى في حقّه:( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) ( النساء / ١١٣ ) إلى هذا التسلّي ؟

وهل يصحّ ويتعقّل للنبيّ أنّ يشكّ في رسالة نفسه حتى يستفتي زوجته فيزول شكّه بتصديقها ؟

٤ ـ ذكر البخاري: أنّ خديجة انطلقت مع رسول الله إلى ورقة، فأخبره رسول الله بما وقع، فأجاب ورقة بما ذكره، وأنّ ما نزل عليه هو الناموس الذي نزّله الله على موسى.

ومعنى هذا أن يكون ورقة أعلم بالسرّ المودع في قلب رسول الله من نفسه، كما أنّ معنى ذلك أنّ كلاًّ من الزوجين كانا شاكّين في صحّة الرسالة، فانطلقا إلى متنصّر وقرأ وريقات من العهدين حتى يستفتياه ليزيل عنهما حجاب الشكّ وغشاوة الريب.

٥ ـ إنّ معنى ما ذكره البخاري من أنّ ورقة أخبر النبي بأنّه: يسخر منك قومك، وتعجّب الرسول من هذا الكلام وقال: أوَ مخرجي هم ؟ كون المرسل إليه أعلم من الرسول وأفضل منه.

٦ ـ إنّ ما ذكره ابن هشام من « أنّ الرسول كلّما رفع رأسه إلى السماء لينظر ما رأى إلّا رجلاً صافّاً قدميه في اُفق السماء، فلا ينظر في ناحية من السماء إلّا رآه فيها » يشبه كلام المصابين في عقولهم وشعورهم، والمختلّين في أفكارهم، فلا يرون في

١١٤

كل جهة إلّا الصورة المتخيّلة، لطغيانها على مخيّلتهم وشعورهم، أعاذنا الله من إكالة الشنائع بمقام النبوّة، بنحو لا يليق بساحة العاديين من الناس فضلاً عن النبي الأكرم خاتم النبّيين.

٧ ـ انظر إلى امتحان خديجة لبرهان النبوّة فإنّ ظاهرها أنّها كانت شاكّة في نبوّة زوجها، ولكنّها استحصلت اليقين على الوجه الذي سمعته في كلام ابن هشام والطبري، ولكن أيّ صلة بين رفع الخمار وإلقائه وعدم رؤية جبرئيل، وهل لرفع الخمار وتعرية شعر الرأس تأثير في غياب أمين الوحي عن البيت ؟

نرى أنّه سبحانه ينقل في غير سورة من سور القرآن الكريم مكالمة الملائكة زوجة الخليل وتبشيرها بالولد. فهل يمكن لنا أن نقول بعد ذلك: إنّ زوجة الخليل لو كانت مكشوفة الرأس لامتنعت الملائكة من دخول بيت الخليلعليه‌السلام (١) .

٨ ـ إنّ ورقة بن نوفل على حدّ تصريح نصّ الرواية كان بادي بدئه نصرانيّاً بعد ما كان مشركاً، فمقتضى الحال أن يشبّه الرسول الأعظم بالمسيح الذي كان يعتقد بنبوّته، لا بالكليم. أو ليس هذا يعرب عن لعب يد الأحبار في الخفاء في اصطناع هذه الأحاديث ودورهم في تشويش صفاء رسالة الرسول الأعظم بأمثال هذه الأساطير والمهاترات والخرافات ؟

٩ ـ نحن على ثقة ويقين بأنّ النبوّة منصب إلهي لا يتحمّله إلّا الأمثل والأكمل فالأكمل من الناس، ولا يقوم بأعباء مهامّها إلّا من امتلك قدرة روحيّة خاصّة تبعث في نفسه الإذعان والتسليم، والإنقياد حينما يتمثّل له رسول ربّه وأمين وحيه، فلا تأخذه المسكنة ولا يستولي عليه الخوف عند سماع كلامه ووحيه، وقد درسنا وضع الكليم عندما فوجئ بالوحي فما حاق به الروع ولا أحاط به الخوف، ولا همّ بإلقاء نفسه إلى غير ذلك ممّا ورد في هذه الروايات، وبما أنّ القرآن هو المرجع الفصل في تمييز الصحيح من الزائف في جملة هذه الروايات، يحتّم علينا إعراض

__________________

(١) لاحظ هود / ٧١ ـ ٧٣، الذاريات / ٢٩.

١١٥

الصفح عنها، وضربها عرض الجدار، مضافاً إلى ما فيها من التناقض والإختلاف في حكاية القصّة كما هو معلوم لمن تدبّر فيها وتأمّل نصّها.

فرية إنقطاع الوحي وفتوره

وقفت على ما في الروايات السابقة من الوضع والدسّ بهدف تشويه صفاء صورة رسالة النبي الأكرم فهلمّ معي نتناول فريّة اُخرىٰ حيكت على المنوال السابق، وللغاية نفسها، وهي مسألة إنقطاع الوحي بعد نزول آيات من سورة العلق، أو سورة المدّثّر، أو سورة الحمد على إختلاف في أوّل سورة نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد حازت هذه الفريّة على نصيب من الإهتمام والتقدير في كتب السيرة والتفسير حتى أنّ الدكتور محمد حسنين هيكل، أرسلها إرسال المسلّمات في كتابه بقوله: « انتظر هداية الوحي إيّاه في أمره، وإنارة سبيله، فإذا الوحي يفتر، واذا جبرئيل لا ينزل عليه، إلى أن قال: وقد روي أنّ خديجة قالت له: ما أرىٰ ربّك إلّا قد قلاك، وتولّاه الخوف والوجل، فهما يبعثانه من جديد، يطوي الجبال وينقطع في حراء يرتفع بكل نفسه ابتغاء وجه ربّه، يسأله: لم قلاه بعد أن اصطفاه، ولم تكن خديجة بأقلّ منه إشفاقاً ووجلاً ويتمنّى الموت صادقاً لولا أنّه كان يشعر بما اُمر به، فيرجع إلى نفسه، ثمّ إلى ربّه، ولقد قيل: إنّه فكّر في أن يلقي بنفسه من أعلى حراء أو أبي قبيس وأيّ خير في الحياة، وهذا أكبر عمله فيها يدوي وينقضي، وأنّه لذلك تساور هذه المخاوف، إذ جاءه الوحي بعد طول فتوره إذ نزل عليه بقوله تعالى:( وَالضُّحَىٰ *وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ *مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ *وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَىٰ *وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ *أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ *وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَىٰ *وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ *فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ *وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ *وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) ( سورة الضحى )(١) .

هذا ما يذكره رجل مثقّف في القرن العشرين في حقّ النبي الأكرم، فما ظنّك

__________________

(١) حياة محمد:صلى‌الله‌عليه‌وآله ص ١٣٨.

١١٦

بغيره ممّن سبقه من الذين يتعبّدون بالروايات ولا يحيدون عن شاذّها وسقيمها قيد أنملة وقدر شعرة، وأصل هذه الفرية يرجع إلى كتب السيرة والتفسير، وإليك ما يذكره واحد من اُولئك من أمثال الطبري حيث يصرّح في تفسيره بما نصّه:

١ ـ عن ابن زيد: إنّ هذه السورة نزلت على رسول الله تكذيباً من الله قريشاً في قيلهم لرسول الله لـمّا أبطأ عليه الوحي: « قد ودّع محمّداً ربّه وقلاه ».

٢ ـ عن ابن عبد الله: لـمّا أبطأ جبرئيل على رسول الله، فقالت امرأة من أهله أو من قومه: ودّع الشيطان محمّداً، فأنزل الله عليه:( وَالضُّحَىٰ ـ إلى قوله ـمَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ) .

٣ ـ عن جندب البجلي: أبطأ جبرئيل على النبي حتّى قال المشركون ودّع محمّداً ربّه، فأنزل الله:( وَالضُّحَىٰ ) ، وعنه قالت امرأة لرسول الله: ما أرى صاحبك إلّا قد أبطأ عنك، فنزلت هذه الآية.

وفي رواية اُخرى عنه: ما أرى شيطانك إلّا قد تركك.

٤ ـ عن عبد الله بن شدّاد: إنّ خديجة قالت للنبي: ما أرىٰ ربّك إلّا قد قَلاك، فأنزل الله( وَالضُّحَىٰ ) .

٥ ـ وعن قتادة: إنّ جبرئيل أبطأ عليه بالوحي، فقال ناس من الناس: ما نرى صاحبك إلّا قد قلاك فودّعك، فأنزل الله:( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ) .

٦ ـ عن ضحّاك: مكث جبرئيل عن محمّد، فقال المشركون: قد ودّعه ربّه.

٧ ـ عن ابن عروة، عن أبيه قال: أبطأ جبرئيل على النبي، فجزع جزعاً شديداً، وقالت خديجة: أرىٰ ربّك قد قلاك، ممّا نرى من جزعك، قالت: فنزلت( وَالضُّحَىٰ ) (١) .

يلاحظ على هذه الروايات وعلى فرية فترة إنقطاع الوحي عدّة اُمور:

١ ـ إنّ هذه الروايات التي ملأت التفاسير وكتب السير، رويت عن اُناس

__________________

(١) تفسير الطبري: ج ٣٠ ص ١٤٨.

١١٧

لا يركن إليهم كقتادة والضحّاك فإنّهما كانا يأخذان تفسير القرآن عن أهل الكتاب(١) . وجلّها بل كلّها مرسلة غير مسندة إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢ ـ إنّها اختلفت في القائل الذي شَمِت برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله: « ودّعك ربّك » فربّما يسند إلى امرأة من أهله أو قومه وأخرى إلى المشركين، وثالثة إلى طائفة من الناس، ورابعة إلى زوجته خديجة.

إنّ نسبة هذا القول إلى زوجته الطاهرة التي آمنت به يوم بعثته، وقد عرفت فضائله وملكاته النفسيّة عن كثب، بعيداً جداً.

٣ ـ إنّها إختلفت في مدة الفترة. قال ابن جريج: احتبس عنه الوحي إثنى عشر يوماً، وقال ابن عباس: خمسة عشر يوماً، وقيل: خمسة وعشرين يوماً، وقال مقاتل: أربعين يوماً(٢) ، وفي فتح الباري: أنّه كان ثلاث سنين(٣) كما في السيرة الحلبية وفيها أيضاً: إنّها كانت سنتين ونصفاً، وعلى قول: سنتين، إلى غير ذلك من الأقوال المختلفة التي تحكي عن اضطراب في الرواية والنقل.

٤ ـ إختلفت الرواية في سبب الفترة وانقطاع الوحي.فتارة زعموا أنّ سببها هو أنّ اليهود سألوا رسول الله عن مسائل ثلاث: عن أصحاب الكهف وعن الروح وعن قصّة ذي القرنين، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : سأخبركم غداً ولم يستثنِ، فاحتبس عنه الوحي، فقال المشركون ما قالوا، فنزلت(٤) .

واُخرى قالوا: إنّ عثمان أهدى إليه عنقود عنب، وقيل: عذق تمر، فجاء سائل فأعطاه، ثمّ اشتراه عثمان بدرهم، فقدّمه إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) لاحظ آلاء الرحمن في تفسير القرآن: ج ١، ص ٤٦، يقول: إنّ الضحّاك بن مزاحم فقد ضعّفه يحيى بن سعيد، وكان يروي عن ابن عباس، وأنكر ملاقاته له حتى قيل: إنّه ما رآه قط، وأمّا قتادة فقد ذكروا: أنّه مدلّس.

(٢) تفسير القرطبي: ج ٢٠ ص ٩٢.

(٣) السيرة الحلبية: ج ١ ص ٢٦٢.

(٤) روح المعاني: ج ١٠ ص ١٥٧، نقله عن جمع من المفسّرين.

١١٨

ثانياً، ثمّ عاد السائل فأعطى وهكذا ثلاث مرّات، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله ملاطفاً لا غضبان: أسائل أنت يا فلان أم تاجر ؟ فتأخّر الوحي أيّاماً فاستوحش فنزلت.

وثالثة: رووا عن ابن أبي شيبة في مسنده والطبراني وابن مردويه من حديث خولة، وكانت تخدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ جرواً دخل تحت سرير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فمات ولم تشعر به، فمكث رسول الله أربعة أيّام لا ينزل عليه الوحي، فقال: يا خولة ! ما حدث في بيت رسول الله ؟ جبرئيل لا يأتيني ! فقلت يا نبي الله ما أتى علينا يوم خير من هذا اليوم، فأخذ برده فلبسها وخرج، فقلت في نفسي لو هيّأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا بشيء ثقيل فلم أزل به حتى بدا لي الجرو ميّتاً، فأخذته بيدي فألقيته خلف الدار، فجاء النبي ترعد لحيته، وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة، فقال يا خولة دثّريني، فأنزل الله تعالى:( وَالضُّحَىٰ *وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ ) (١) .

ورابعة: انّ المسلمين قالوا: يا رسول الله مالك لا ينزل عليك الوحي ؟ فقال: وكيف ينزل عليّ وأنتم لا تنقّون رواجبكم، وفي رواية: براجمكم، ولا تقصّون أظفاركم، ولا تأخذون من شواربكم، فنزل جبرئيل بهذه السورة، فقال النبي: ما جئت حتى اشتقت إليك، فقال جبرئيل: وأنا كنت أشدّ إليك شوقاً، ولكنّي عبد مأمور، ثمّ أنزل عليه:( وَمَا نَتَنَزَّلُ إلّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) ( مريم / ٦٤ )(٢) .

إنّ الإضطراب في أسباب فتور الوحي يعرب عن عدم صحّة الرواية.

أمّا الأوّل: فلو صحّ فيلزم كون زمان إنقطاع الوحي في العام السابع من البعثة لأنّ قريشاً أرسلت النضر بن الحارث وابن أبي معيط إلى أحبار اليهود يسألانهم عن النبي الأكرم، وقالا لهم: إنّكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقالت لهم أحبار اليهود: سلوهُ عن ثلاث نأمركم بهنّ، فجاؤوا إلى رسول الله، وقالوا: يا محمّد أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل، قد كانت لهم قصّة عجب ،

__________________

(١) روح المعاني: ج ١٠ ص ١٥٧.

(٢) تفسير القرطبي: ج ٢٠ ص ٩٣، ومجمع البيان: ج ١٠ ص ٥٥ ( طبع صيدا ).

١١٩

وعن رجل كان طوّافاً قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي ؟ فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أخبركم بما سألتم عنه غداً ولم يستثن، فانصرفوا عنه(١) .

نحن ننزّه ساحة النبي الأكرم الذي نشأ نشأة الأنبياء في عالم مليء بالطهر والقداسة، أن يخبرهم على وجه قاطع بأنّه سيجيبهم غداً على أسئلتهم تلك فمن أين علم أنّه سبحانه ينزل الوحي عليه غداً ؟ أو أنّه سبحانه يجيب عن أسئلتهم عن طريق الوحي ؟

وأمّا الثاني: فهو أشبه بالقصص الموضوعة، فهل من المعتاد أن يباع عنقود عنب ثلاث مرّات في السوق، ومثله عذق تمر ؟ ولعلّ الجاعل كان يهدف إلى إختلاق الفضائل لعثمان فحسب أنّ هذا الموضع مناسب له.

وأمّا الثالث: فبعيد جدّاً، إذ كيف يمكن أن يموت الجرو تحت سرير النبي أو في زاوية من البيت ولا يلتفت إليه ؟ على أنّ ظاهر الرواية أنّ إنقطاع الوحي كان بعد تلقّي النبي لنزول الوحي مدّة مديدة حيث إنّ خولة قالت: « وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة » فإنّ ذلك يعرب عن أنّ الحادثة كانت في أزمنة متأخّرة من بدء البعثة، مع أنّ المشهور أنّها كانت في بدء البعثة ـ أي بعد نزول سورة العلق أو آيات منها ـ.

وأمّا الرابع: فهو أشبه بحمل النبي وزر الغير، فإنّ عدم قصّ المسلمين شواربهم، أو عدم تنظيف رواجبهم لا يكون سبباً لإنقطاع الوحي، قال سبحانه:( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) ( الأنعام / ١٦٤ ).

هذه الوجوه كلّها تدفع بنا إلى القول: بأنّ مسألة انقطاع الوحي فرية تاريخيّة صنعتها يد الجعل والوضع لغاية أو غايات خاصّة، ولم يكن هناك أيّة فترة، وإنّما المسألة كانت بصورة اُخرى:

__________________

(١) السيرة النبويّة لإبن هشام: ج ١، ص ٣٠١.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

لا يفعلون إلّا عن أمر.

و يمكن أن يستفاد من قوله تعالى:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) يس: ٨٣، و قوله:( وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر: ٥٠، حقيقة معنى أمره تعالى و قد تقدّم في بعض المباحث السابقة كلام في ذلك و سيجي‏ء استيفاء البحث في كلام خاصّ بالملائكة فيما يعطيه القرآن في حقيقة الملك.

قوله تعالى: ( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى‏ وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) فسّروا( ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ ) بما قدّموا من أعمالهم و ما أخّروا، و المعنى: يعلم ما عملوا و ما هم عاملون.

فقوله:( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ ) استئناف في مقام التعليل لما تقدّمه من قوله:( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) كأنّه قيل: إنّما لم يقدموا على قول أو عمل بغير أمره تعالى لأنّه يعلم ما قدّموا من قول و عمل و ما أخّروا فلا يزالون يراقبون أحوالهم حيث إنّهم يعلمون ذلك.

و هو معنى جيّد في نفسه لكنّه إنّما يصلح لتعليل عدم إقدامهم على المعصية لا لتعليل قصر عملهم على مورد الأمر و هو المطلوب، على أنّ لفظ الآية لا دلالة فيه على أنّهم يعلمون ذلك و لو لا ذلك لم يتمّ البيان.

و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) مريم: ٦٤، أنّ الأوجه حمل قوله:( ما بَيْنَ أَيْدِينا ) على الأعمال و الآثار المتفرّعة على وجودهم، و قوله:( وَ ما خَلْفَنا ) على ما هو من أسباب وجودهم ممّا تقدّمهم و تحقّق قبلهم فلو حمل اللفظتان في هذه الآية على ما حملتا عليه هناك كانت الجملة تعليلاً واضحاً لمجموع قوله:( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ - إلى قوله -بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الّذي يذكرهم بشرافة الذات و شرافة آثار الذات من القول و الفعل و يكون المعنى: إنّما أكرم الله ذواتهم و حمد آثارهم لأنّه يعلم أعمالهم و أقوالهم و هي ما بين أيديهم و يعلم السبب الّذي به وجدوا و الأصل الّذي عليه نشأوا

٣٠١

و هو ما خلفهم كما يقال: فلان كريم النفس حميد السيرة لأنّه مرضي الأعمال من اُسرة كريمة.

و قوله:( وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) تعرّض لشفاعتهم لغيرهم و هو الّذي تعلّق به الوثنيّون في عبادتهم الملائكة كما ينبئ عنه قولهم:( هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ ) ( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فردّ تعالى عليهم بأنّ الملائكة إنّما يشفعون لمن ارتضاه الله و المراد به ارتضاء دينه لقوله تعالى:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) النساء: ٤٨، فالإيمان بالله من غير شرك هو الارتضاء، و الوثنيّون مشركون، و من عجيب أمرهم أنّهم يشركون بنفس الملائكة الّذين لا يشفعون إلّا لغير المشركين من الموحّدين.

و قوله:( وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) هي الخشية من سخطه و عذابه مع الأمن منه بسبب عدم المعصية و ذلك لأنّ جعله تعالى إيّاهم في أمن من العذاب بما أفاض عليهم من العصمة لا يحدّد قدرته تعالى و لا ينتزع الملك من يده، فهو يملك بعد الأمن عين ما كان يملكه قبله، و هو على كلّ شي‏ء قدير، و بذلك يستقيم معنى الآية التالية.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) أي من قال كذا كان ظالماً و نجزيه جهنّم لأنّها جزاء الظالم، و الآية قضيّة شرطيّة و الشرطيّة لا تقتضي تحقّق الشرط.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ ) المراد بالرؤية العلم الفكريّ و إنّما عبّر بالرؤية لظهوره من حيث إنّه نتيجة التفكير في أمر محسوس.

و الرتق و الفتق معنيان متقابلان، قال الراغب في المفردات،: الرتق الضمّ و الالتحام خلقة كان أم صنعة، قال تعالى:( كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) و قال: الفتق الفصل بين المتّصلين و هو ضدّ الرتق. انتهى. و ضمير التثنية في( كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) للسماوات و الأرض بعدّ السماوات طائفة و الأرض طائفة فهما طائفتان اثنتان، و مجي‏ء الخبر أعني

٣٠٢

رتقاً مفرداً لكونه مصدراً و إن كان بمعنى المفعول و المعنى كانت هاتان الطائفتان منضمّتين متّصلتين ففصلناهما.

و هذه الآية و الآيات الثلاث التالية لها برهان على توحيده تعالى في ربوبيّته للعالم كلّه أوردها بمناسبة ما انجرّ الكلام إلى توحيده و نفي ما اتّخذوها آلهة من دون الله و عدّوا الملائكة و هم من الآلهة عندهم أولاداً له، بانين في ذلك على أنّ الخلقة و الإيجاد لله و الربوبيّة و التدبير للآلهة. فأورد سبحانه في هذه الآيات أشياء من الخليقة خلقتها ممزوجة بتدبير أمرها فتبيّن بذلك أنّ التدبير لا ينفكّ عن الخلقة فمن الضروريّ أن يكون الّذي خلقها هو الّذي يدبّر أمرها و ذلك كالسماوات و الأرض و كلّ ذي حياة و الجبال و الفجاج و الليل و النهار و الشمس و القمر في خلقها و أحوالها الّتي ذكرها سبحانه.

فقوله:( أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) المراد بالّذين كفروا - بمقتضى السياق - هم الوثنيّون حيث يفرّقون بين الخلق و التدبير بنسبة الخلق إلى الله سبحانه و التدبير إلى الآلهة من دونه و قد بيّن خطأهم في هذه التفرقة بعطف نظرهم إلى ما لا يرتاب فيه من فتق السماوات و الأرض بعد رتقهما فإنّ في ذلك خلقاً غير منفكّ عن التدبير، فكيف يمكن قيام خلقهما بواحد و قيام تدبيرهما بآخرين.

لا نزال نشاهد انفصال المركّبات الأرضيّة و الجوّيّة بعضها من بعض و انفصال أنواع النباتات من الأرض و الحيوان من الحيوان و الإنسان من الإنسان و ظهور المنفصل بالانفصال في صورة جديدة لها آثار و خواصّ جديدة بعد ما كان متّصلاً بأصله الّذي انفصله منه غير متميّز الوجود و لا ظاهر الأثر و لا بارز الحكم فقد كانت هذه الفعليّات محفوظة الوجود في القوّة مودعة الذوات في المادّة رتقاً من غير فتق حتّى فتقت بعد الرتق و ظهرت بفعليّة ذواتها و آثارها.

و السماوات و الأرض بأجرامها حالها حال أفراد الأنواع الّتي ذكرناها و هذه الأجرام العلويّة و الأرض الّتي نحن عليها و إن لم يسمح لنا أعمارنا على قصرها

٣٠٣

أن نشاهد منها ما نشاهده في الكينونات الجزئية الّتي ذكرناها، فنرى بدء كينونتها أو انهدام وجودها لكنّ المادّة هي المادّة و أحكامها هي أحكامها و القوانين الجارية فيها لا تختلف و لا تتخلّف.

فتكرار انفصال جزئيّات المركّبات و المواليد من الأرض و نظير ذلك في الجوّ يدلّنا على يوم كانت الجميع فيه رتقاً منضمّة غير منفصلة من الأرض و كذا يهدينا إلى مرحلة لم يكن فيها ميز بين السماء و الأرض و كانت الجميع رتقاً ففتقها الله تحت تدبير منظّم متقن ظهر به كلّ منها على ما له من فعليّة الذات و آثارها.

فهذا ما يعطيه النظر الساذج في كينونة هذا العالم المشهود بأجزائها العلويّة و السفليّة كينونة ممزوجة بالتدبير مقارنة للنظام الجاري في الجميع و قد قرّبت الأبحاث العلميّة الحديثة هذه النظرة حيث أوضحت أنّ الأجرام الّتي تحت الحسّ مؤلّفة من عناصر معدودة مشتركة و لكلّ منها بقاء محدود و عمر مؤجّل و إن اختلفت بالطول و القصر.

هذا لو اُريد برتق السماوات و الأرض عدم تميّز بعضها من بعض و بالفتق تمييز السماوات من الأرض و لو اُريد برتقها عدم الانفصال بين أجزاء كلّ منهما في نفسه حتّى ينزل من السماء شي‏ء أو يخرج من الأرض شي‏ء و بفتقها خلاف ذلك كان المعنى أنّ السماوات كانت رتقاً لا تمطر ففتقناها بالإمطار و الأرض كانت رتقاً لا تنبت ففتقناها بالإنبات و تمّ البرهان و ربّما أيّده قوله بعد:( وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ ) لكنّه يختصّ من بين جميع الحوادث بالإمطار و الإنبات، بخلاف البرهان على التقريب الأوّل.

و ذكر بعض المفسّرين و ارتضاه آخرون أنّ المراد برتق السماوات و الأرض عدم تميّز بعضها من بعض حال عدمها السابق، و بفتقها تميّز بعضها من بعض في الوجود بعد العدم فيكون احتجاجاً بحدوث السماوات و الأرض على وجود محدثها و هو الله سبحانه.

و فيه أنّ الاحتجاج بالحدوث على المحدث تامّ في نفسه، لكنّه لا ينفع قبال

٣٠٤

الوثنيّين المعترفين بوجوده تعالى و استناد الإيجاد إليه و وجه الكلام إليهم، و إنّما ينفع قبالهم من الحجّة ما يثبت بها استناد التدبير إليه تعالى تجاه ما يسندون التدبير إلى آلهتهم و يعلّقون العبادة على ذلك.

و قوله:( وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ ) ظاهر السياق أنّ الجعل بمعنى الخلق و( كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ ) مفعوله و المراد أنّ للماء دخلاً تامّاً في وجود ذوي الحياة كما قال:( وَ اللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ ) النور: ٤٥، و لعلّ ورود القول في سياق تعداد الآيات المحسوسة يوجب انصراف الحكم بغير الملائكة و من يحذو حذوهم، و قد اتّضح ارتباط الحياة بالماء بالأبحاث العلميّة الحديثة.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) قال في المجمع: الرواسي الجبال رست ترسو رسواً إذا ثبتت بثقلها فهي راسية كما ترسو السفينة إذا وقفت متمكّنة في وقوفها، و الميد الاضطراب بالذهاب في الجهات، و الفجّ الطريق الواسع بين الجبلين. انتهى.

و المعنى: و جعلنا في الأرض جبالاً ثوابت لئلّا تميل و تضطرب الأرض بهم و جعلنا في تلك الجبال طرقاً واسعة هي سبل لعلّهم يهتدون منها إلى مقاصدهم و مواطنهم.

و فيه دلالة على أنّ للجبال ارتباطاً خاصّاً بالزلازل و لولاها لاضطربت الأرض بقشرها.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ ) كأنّ المراد بكون السماء محفوظة حفظها من الشياطين كما قال:( وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ ) الحجر: ١٧، و المراد بآيات السماء الحوادث المختلفة السماويّة الّتي تدلّ على وحدة التدبير و استناده إلى موجدها الواحد.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) الآية ظاهرة في إثبات الفلك لكلّ من الليل و هو الظلّ المخروطيّ

٣٠٥

الملازم لوجه الأرض المخالف لمسامتة الشمس، و النهار و هو خلاف الليل، و للشمس و القمر فالمراد بالفلك مدار كلّ منها.

و المراد مع ذلك بيان الأوضاع و الأحوال الحادثة بالنسبة إلى الأرض و في جوّها و إن كانت حال الأجرام الاُخر على خلاف ذلك فلا ليل و لا نهار يقابله للشمس و سائر الثوابت، الّتي هي نيّرة بالذات و للقمر و سائر السيّارات الكاسبة للنور من الليل و النهار غير ما لنا.

و قوله:( يَسْبَحُونَ ) من السبح بمعنى الجري في الماء بخرقه قيل و إنّما قال: يسبحون لأنّه أضاف إليها فعل العقلاء كما قال:( وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ) يوسف: ٤.

( بحث روائي)

في المحاسن، بإسناده عن يونس رفعه قال: قال أبوعبدالله (عليه السلام): ليس من باطل يقوم بإزاء حقّ إلّا غلب الحقّ الباطل و ذلك قول الله:( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ) .

و فيه، بإسناده عن أيّوب بن الحرّ قال قال أبوعبدالله (عليه السلام): يا أيّوب ما من أحد إلّا و قد يرد عليه الحقّ حتّى يصدع قلبه قبله أم تركه و ذلك أنّ الله يقول في كتابه:( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) .

أقول: و الروايتان مبنيّتان على تعميم الآية.

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) في هاروت و ماروت في حديث: إنّ الملائكة معصومون محفوظون عن الكفر و القبائح بألطاف الله تعالى قال الله تعالى فيهم:( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) و قال عزّوجلّ:( وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ يعني الملائكة لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ

٣٠٦

يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ) .

و في نهج البلاغة، قال (عليه السلام) في وصف الملائكة: و مسبّحون لا يسأمون، و لا يغشاهم نوم العيون، و لا سهو العقول، و لا فترة الأبدان، و لا غفلة النسيان.

أقول: و به يضعف ما في بعض الروايات أنّ الملائكة ينامون كما في كتاب كمال الدين بإسناده عن داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله: أنّه سئل عن الملائكة أ ينامون؟ فقال: ما من حيّ إلّا و هو ينام خلا الله وحده: فقلت: يقول الله عزّوجلّ:( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ) ؟ قال: أنفاسهم تسبيح. على أنّ الرواية ضعيفة.

و في التوحيد، بإسناده عن هشام بن الحكم قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) ما الدليل على أنّ الله واحد؟ قال: اتّصال التدبير و تمام الصنع كما قال عزّوجلّ:( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ) .

أقول: و هو يؤيّد ما قدّمناه في تقرير الدليل.

و فيه، بإسناده عن عمرو بن جابر قال: قلت لأبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر (عليه السلام): يا بن رسول الله إنّا نرى الأطفال منهم من يولد ميّتاً، و منهم من يسقط غير تامّ، و منهم من يولد أعمى و أخرس و أصمّ، و منهم من يموت من ساعته إذا سقط إلى الأرض، و منهم من يبقى إلى الاحتلام، و منهم من يعمّر حتّى يصير شيخاً فكيف ذلك و ما وجهه؟

فقال (عليه السلام): إنّ الله تبارك و تعالى أولى بما يدبّره من أمر خلقه منهم و هو الخالق و المالك لهم فمن منعه التعمير فإنّما منعه ما ليس له، و من عمّره فإنّما أعطاه ما ليس له فهو المتفضّل بما أعطى و عادل فيما منع و لا يسأل عمّا يفعل و هم يسألون.

قال جابر: فقلت له: يا بن رسول الله و كيف لا يسأل عمّا يفعل؟ قال: لأنّه لا يفعل إلّا ما كان حكمة و صواباً، و هو المتكبّر الجبّار و الواحد القهّار، فمن وجد في نفسه حرجاً في شي‏ء ممّا قضى كفر و من أنكر شيئاً من أفعاله جحد.

٣٠٧

أقول: و هي رواية شريفة تعطي أصلاً كلّيّاً في الحسنات و السيّئات و هو أنّ الحسنات اُمور وجوديّة تستند إلى إعطائه و فضله تعالى، و السيّئات اُمور عدميّة تنتهي إلى عدم الإعطاء لما لا يملكه العبد. و ما ذكره (عليه السلام) أنّه تعالى أولى بما لعبده منه وجهه أنّه تعالى هو المالك لذاته و العبد إنّما يملك ما يملك بتمليك منه تعالى و هو المالك لما ملّكه و ملك العبد في طول ملكه.

و قوله:( لأنّه لا يفعل إلّا ما كان حكمة و صواباً) إشارة إلى التقريب الأوّل الّذي قدّمناه، و قوله:( و هو المتكبّر الجبّار و الواحد القهّار) إشارة إلى التقريب الثاني الّذي أوردناه في تفسير الآية.

و في نور الثقلين، عن الرضا (عليه السلام) قال: قال الله تبارك و تعالى: يا بن آدم بمشيّتي كنت أنت الّذي تشاء لنفسك ما تشاء، و بقوّتي أدّيت إليّ فرائضي، و بنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعاً بصيراً قويّاً ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيّئة فمن نفسك و ذلك أنّي أولى بحسناتك منك و أنت أولى بسيّئاتك منّي و ذلك أنّي لا اُسأل عمّا أفعل و هم يسألون.

و في المجمع في قوله تعالى:( هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ) قال أبوعبدالله (عليه السلام): يعني بذكر من معي ما هو كائن و بذكر من قبلي ما قد كان.

و في العيون، بإسناده إلى الحسين بن خالد عن عليّ بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه عن أميرالمؤمنين (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي، و من لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي، ثمّ قال (عليه السلام): إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من اُمّتي فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل.

قال الحسين بن خالد: فقلت للرضا (عليه السلام): يا بن رسول الله فما معنى قول الله عزّوجلّ:( وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) قال: لا يشفعون إلّا لمن ارتضى الله دينه.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في البعث عن جابر: أنّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) تلا قول الله:( وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) فقال: إنّ شفاعتي لأهل الكبائر من اُمّتي.

٣٠٨

و في الاحتجاج، و روي: أنّ عمرو بن عبيد وفد على محمّد بن عليّ الباقر (عليه السلام) لامتحانه بالسؤال عنه فقال له: جعلت فداك ما معنى قوله تعالى:( أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) ما هذا الرتق و الفتق؟ فقال أبوجعفر (عليه السلام): كانت السماء رتقاً لا تنزل القطر و كانت الأرض رتقاً لا تخرج النبات ففتق الله السماء بالقطر و فتق الأرض بالنبات فانقطع عمرو بن عبيد و لم يجد اعتراضاً و مضى.

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي عنه (عليه السلام) بطريقين.

و في نهج البلاغة، قال (عليه السلام): و فتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها.

٣٠٩

( سورة الأنبياء الآيات ٣٤ - ٤٧)

وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ( ٣٤ ) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ( ٣٥ ) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَٰذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ هُمْ كَافِرُونَ ( ٣٦ ) خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ( ٣٧ ) وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٣٨ ) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ( ٣٩ ) بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ( ٤٠ ) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٤١ ) قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَٰنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ ( ٤٢ ) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ ( ٤٣ ) بَلْ مَتَّعْنَا هَٰؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ( ٤٤ ) قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ ( ٤٥ ) وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( ٤٦ ) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ( ٤٧ )

٣١٠

( بيان)

من تتمّة الكلام حول النبوّة يذكر فيها بعض ما قاله المشركون في النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) كقولهم: سيموت فنتخلّص منه و نستريح و قولهم استهزاء به:( أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ) ، و قولهم استهزاء بالبعث و القيامة الّتي اُنذروا بها:( مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) و فيها جواب أقاويلهم و إنذار و تهديد لهم و تسلية للنبيّ (صلّي الله عليه وآله وٍسلّم).

قوله تعالى: ( وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ ) يلوح من الآية أنّهم كانوا يسلّون أنفسهم بأنّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) سيموت فيتخلّصون من دعوته و تنجو آلهتهم من طعنة كما حكى ذلك عنهم في مثل قولهم:( نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) الطور: ٣٠، فأجاب عنه بأنّا لم نجعل لبشر من قبلك الخلد حتّى يتوقّع ذلك لك بل إنّك ميّت و إنّهم ميّتون، و لا ينفعهم موتك شيئاً فلا أنّهم يقبضون على الخلود بموتك، فالجميع ميّتون، و لا أنّ حياتهم القصيرة المؤجّلة تخلو من الفتنة و الامتحان الإلهيّ فلا يخلو منه إنسان في حياته الدنيا، و لا أنّهم خارجون بالآخرة من سلطاننا بل إلينا يرجعون فنحاسبهم و نجزيهم بما عملوا.

و قوله:( أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ ) و لم يقل: فهم خالدون و الاستفهام للإنكار يفيد نفي قصر القلب كأنّه قيل: إنّ قولهم: نتربّص به ريب المنون كلام من يرى لنفسه خلوداً أنت مزاحمه فيه فلو متّ لذهب بالخلود و قبض عليه و عاش عيشة خالدة طيّبة ناعمة و ليس كذلك بل كلّ نفس ذائقة الموت، و الحياة الدنيا مبنيّة على الفتنة و الامتحان، و لا معنى للفتنة الدائمة و الامتحان الخالد بل يجب أن يرجعوا إلى ربّهم فيجازيهم على ما امتحنهم و ميّزهم.

قوله تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) لفظ النفس - على ما يعطيه التأمّل في موارد استعماله - أصل معناه هو معنى ما اُضيف إليه فنفس الشي‏ء معناه الشي‏ء و نفس الإنسان معناه هو الإنسان و

٣١١

نفس الحجر معناه هو الحجر فلو قطع عن الإضافة لم يكن له معنى محصّل، و على هذا المعنى يستعمل للتأكيد اللفظي كقولنا: جاءني زيد نفسه أو لإفادة معناه كقولنا: جاءني نفس زيد.

و بهذا المعنى يطلق على كلّ شي‏ء حتّى عليه تعالى كما قال:( كَتَبَ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) الأنعام: ١٢، و قال:( وَ يُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ ) آل عمران: ٢٨، و قال:( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ) المائدة: ١١٦.

ثمّ شاع استعمال لفظها في شخص الإنسان خاصّة و هو الموجود المركّب من روح و بدن فصار ذا معنى في نفسه و إن قطع عن الإضافة قال تعالى:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ) أي من شخص إنسانيّ واحد، و قال:( مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) المائدة: ٣٢، أي من قتل إنساناً و من أحيا إنساناً، و قد اجتمع المعنيان في قوله:( كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها ) فالنفس الاُولى بالمعنى الثاني و الثانية بالمعنى الأوّل.

ثمّ استعملوها في الروح الإنسانيّ لما أنّ الحياة و العلم و القدرة الّتي بها قوام الإنسان قائمة بها و منه قوله تعالى:( أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ ) الأنعام: ٩٣.

و لم يطّرد هذان الإطلاقان أعني الثاني و الثالث في غير الإنسان كالنبات و سائر الحيوان إلّا بحسب الاصطلاح العلميّ فلا يقال للواحد من النبات و الحيوان عرفاً نفس و لا للمبدء المدبّر لجسمه نفس نعم ربّما سمّيت الدم نفساً لأنّ للحياة توقّفاً عليها و منه النفس السائلة.

و كذا لا يطلق النفس في اللغة بأحد الإطلاقين الثاني و الثالث على الملك و الجنّ و إن كان معتقدهم أنّ لهما حياة، و لم يرد استعمال النفس فيهما في القرآن أيضاً و إن نطقت الآيات بأنّ للجنّ تكليفاً كالإنسان و موتاً و حشراً قال:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات: ٥٦، و قال:( فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ

٣١٢

قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ ) الأحقاف: ١٨، و قال:( وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ ) الأنعام: ١٢٨، هذا ما يتحصّل من معنى النفس بحسب عرف اللغة.

و أمّا الموت فهو فقد الحياة و آثارها من الشعور و الإرادة عمّا من شأنه أن يتّصف بها قال تعالى:( وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ) البقرة: ٢٨، و قال في الأصنام:( أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ ) النحل: ٢١، و أمّا أنّه مفارقة النفس للبدن بانقطاع تعلّقها التدبيريّ كما يعرّفه الأبحاث العقليّة أو أنّه الانتقال من دار إلى دار كما في الحديث النبويّ فهو معنى كشف عنه العقل أو النقل غير ما استقرّ عليه الاستعمال و من المعلوم أنّ الموت بالمعنى الّذي ذكر إنّما يتّصف به الإنسان المركّب من الروح و البدن باعتبار بدنه فهو الّذي يتّصف بفقدان الحياة بعد وجدانه و أمّا الروح فلم يرد في كلامه تعالى ما ينطق باتّصافه بالموت كما لم يرد ذلك في الملك، و أمّا قوله:( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) القصص: ٨٨، و قوله:( وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ) الزمر: ٦٨ فسيجي‏ء إن شاء الله أنّ الهلاك و الصعق غير الموت و إن انطبقاً عليه أحيانا.

فقد تبيّن ممّا قدّمناه أوّلاً: أنّ المراد بالنفس في قوله:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) الإنسان - و هو الاستعمال الثاني من استعمالاتها الثلاث - دون الروح الإنسانيّ إذ لم يعهد نسبة الموت إلى الروح في كلامه تعالى حتّى تحمل عليه.

و ثانياً: أنّ الآية إنّما تعمّ الإنسان لا غير كالملك و الجنّ و سائر الحيوان و إن كان بعضها ممّا يتّصف بالموت كالجنّ و الحيوان، و من القرينة على اختصاص الآية بالإنسان قوله قبله:( وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ) و قوله بعده:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) على ما سنوضحه.

و قد ذكر جمع منهم أنّ المراد بالنفس في الآية الروح، و قد عرفت خلافه و أصرّ كثير منهم على عموم الآية لكلّ ذي حياة من الإنسان و الملك و الجنّ و سائر الحيوانات حتّى النبات إن كان لها حياة حقيقة و قد عرفت ما فيه.

٣١٣

و من أعجب ما قيل في تقرير عموم الآية ما ذكره الإمام الرازيّ في التفسير الكبير، بعد ما قرّر أنّ الآية عامّة لكلّ ذي نفس: أنّ الآية مخصّصة فإنّ له تعالى نفساً كما قال حكاية عن عيسى (عليه السلام):( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ) مع أنّ الموت مستحيل عليه سبحانه، و كذا الجمادات لها نفوس و هي لا تموت. ثمّ قال: و العامّ المخصوص حجّة فيبقى معمولاً به على ظاهره فيما عدا ما اُخرج منه، و ذلك يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشريّة و العقول المفارقة و النفوس الفلكيّة أنّها لا تموت. انتهى كلامه.

و فيه أوّلاً: أنّ النفس بالمعنى الّذي تطلق عليه تعالى و على كلّ شي‏ء هي النفس بالاستعمال الأوّل من الاستعمالات الثلاث الّتي قدّمناها لا تستعمل إلّا مضافة كما في الآية الّتي استشهد بها و الّتي في الآية مقطوعة عن الإضافة فهي غير مرادة بهذا المعنى في الآية قطعاً فتبقى النفس بأحد المعنيين الآخرين و قد عرفت أنّ المعنى الثالث أيضاً غير مراد فيبقى الثاني.

و ثانياً: أنّ نفيه الموت عن الجمادات ينافي قوله تعالى:( كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ) و قوله:( أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ ) و غير ذلك.

و ثالثاً: أنّ قوله: إنّ عموم الآية يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشريّة و العقول المفارقة و النفوس الفلكيّة خطأ فإنّ هذه مسائل عقليّة يرام السلوك إليها من طريق البرهان، و البرهان حجّة مفيدة لليقين فإن كانت الحجج الّتي أقاموها عليها كلّها أو بعضها براهين كما أدّعوها لم ينعقد من الآية في مقابلها ظهور و الظهور حجّة ظنّيّة و كيف يتصوّر اجتماع العلم مع الظنّ بالخلاف، و إن لم تكن براهين لم تثبت المسائل و لا حاجة معه إلى ظنّ بالخلاف.

ثمّ إنّ قوله:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) كما هو تقرير و تثبيت لمضمون قوله قبلاً:( وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ) إلخ، كذلك توطئة و تمهيد لقوله بعد:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) - أي و نمتحنكم بما تكرهونه من مرض و فقر و نحوه و ما تريدونه من صحّة و غنى و نحوهما امتحاناً - كأنّه قيل: نحيي كلّا منكم

٣١٤

حياة محدودة مؤجّلة و نمتحنكم فيها بالشرّ و الخير امتحاناً ثمّ إلى ربّكم ترجعون فيقضي عليكم و لكم.

و فيه إشارة إلى علّة تحتّم الموت لكلّ نفس حيّة، و هي أنّ حياة كلّ نفس حياة امتحانيّة ابتلائيّة، و من المعلوم أنّ الامتحان أمر مقدّميّ و من الضروريّ أنّ المقدّمة لا تكون خالدة لا تنتهي إلى أمد و من الضروريّ أنّ وراء كلّ مقدّمة ذا مقدّمة و بعد كلّ امتحان موقف تتعيّن فيه نتيجته فلكلّ نفس حيّة موت محتوم ثمّ لها رجوع إلى الله سبحانه لفصل القضاء.

قوله تعالى: ( وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ ) إن نافية و المراد بقوله:( إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ) قصر معاملتهم معه على اتّخاذهم إيّاه هزؤا أي لم يتّخذوك إلّا هزؤا يستهزء به.

و قوله:( أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ) - و التقدير يقولون أو قائلين: أ هذا الّذي إلخ - حكاية كلمة استهزائهم، و الاستهزاء في الإشارة إليه بالوصف، و مرادهم ذكره آلهتهم بسوء و لم يصرّحوا به أدباً مع آلهتهم و هو نظير قوله:( قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ) الآية: ٦٠ من السورة.

و قوله:( وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ ) في موضع الحال من ضمير( إِنْ يَتَّخِذُونَكَ ) أو من فاعل يقولون المقدّر و هو أقرب و محصّله أنّهم يأنفون لآلهتهم عليك إذ تقول فيها إنّها لا تنفع و لا تضرّ - و هو كلمة حقّ - فلا يواجهونك إلّا بالهزء و الإهانة و لا يأنفون لله إذ يكفر بذكره و الكافرون هم أنفسهم.

و المراد بذكر الرحمن ذكره تعالى بأنّه مفيض كلّ رحمة و منعم كلّ نعمة و لازمه كونه تعالى هو الربّ الّذي تجب عبادته، و قيل: المراد بالذكر القرآن.

و المعنى: و إذا رآك الّذين كفروا و هم المشركون ما يتّخذونك و لا يعاملون معك إلّا بالهزء و السخريّة قائلين بعضهم لبعض أ هذا الّذي يذكر آلهتكم أي بسوء فيأنفون لآلهتهم حيث تذكرها و الحال أنّهم بذكر الرحمن كافرون و لا يعدّونه

٣١٥

جرماً و لا يأنفون له.

قوله تعالى: ( خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ) كان المشركون على كفرهم بالدعوة النبويّة يستهزؤن بالنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) كلّما رأوه، و هو زيادة في الكفر و العتوّ، و الاستهزاء بشي‏ء إنّما يكون بالبناء على كونه هزلاً غير جدّ فيقابل الهزل بالهزل لكنّه تعالى أخذ استهزاءهم هذا أخذ جدّ غير هزل فكان الاستهزاء بعد الكفر تعرّضاً للعذاب الإلهيّ بعد تعرّض و هو الاستعجال بالعذاب فإنّهم لا يقنعون بما جاءتهم من الآيات و هم في عافية و يطلبون آيات تجازيهم بما صنعوا، و لذلك عدّ سبحانه استهزاءهم بعد الكفر استعجالاً برؤية الآيات و هي الآيات الملازمة للعذاب و أخبرهم أنّه سيريهم إيّاها.

فقوله:( خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ ) كناية عن بلوغ الإنسان في العجل كأنّه خلق من عجل و لا يعرف سواه نظير ما يقال: فلان خير كلّه أو شرّ كلّه و خلق من خير أو من شرّ و هو أبلغ من قولنا، ما أعجله و ما أشدّ استعجاله، و الكلام وارد مورد التعجيب و فيه استهانة بأمرهم و أنّه لا يعجل بعذابهم لأنّهم لا يفوتونه.

و قوله:( سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ) الآية الآتية تشهد بأنّ المراد بإراءة الآيات تعذيبهم بنار جهنّم و هي قوله:( لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) القائلون هم الّذين كفروا و المخاطبون هم النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و المؤمنون و كان مقتضى الظاهر أن يقولوا؟ إن كنت من الصادقين لكنّهم عدلوا إلى ما ترى ليضيفوا إلى تعجيز النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بمطالبته ما لا يقدر عليه إضلال المؤمنين به و إغراءهم عليه و الوعد هو ما اشتملت عليه الآية السابقة و تفسّره الآية اللاحقة.

قوله تعالى: ( لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ ) ( لَوْ ) للتمنّي و( حِينَ ) مفعول يعلم على ما قيل و قوله:( لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ ) أي لا يدفعونها حيث تأخذهم من قدامهم و من خلفهم و فيه إشارة إلى إحاطتها بهم.

٣١٦

و قوله:( وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ ) معطوف على ما تقدّمه لرجوع معناه إلى الترديد بالمقابلة و المعنى لا يدفعون النار باستقلال من أنفسهم و لا بنصر من ينصرهم على دفعه.

و الآية في موضع الجواب لسؤالهم عن الموعد، و المعنى ليت الّذين كفروا يعلمون الوقت الّذي لا يدفعون النار عن وجوههم و لا عن ظهورهم لا باستقلال من أنفسهم و لا هم ينصرون في دفعها.

قوله تعالى: ( بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ ) الّذي يقتضيه السياق أنّ فاعل تأتيهم ضمير راجع إلى النار دون الساعة كما ذهب إليه بعضهم، و الجملة إضراب عن قوله في الآية السابقة:( لا يَكُفُّونَ ) إلخ. لا عن مقدّر قبله تقديره لا تأتيهم الآيات بحسب اقتراحهم بل تأتيهم بغتة، و لا عن قوله:( لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) بدعوى أنّه في معنى النفي و التقدير لا يعلمون ذلك بل تأتيهم بغتة فإنّ هذه كلّها وجوه يأبى عنها السياق.

و معنى إتيان النار بغتة أنّها تفاجؤهم حيث لا يدرون من أين تأتيهم و تحيط بهم فإنّ ذلك لازم ما وصفه الله من أمرها بقوله:( نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) الهمزة: ٧، و قوله:( النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ ) البقرة: ٢٤، و قوله:( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) الآية: ٩٨ من السورة، و النار الّتي هذا شأنها تأخذ باطن الإنسان كظاهره على حدّ سواء لا كنار الدنيا حتّى تتوجّه من جهة إلى جهة و تأخذ الظاهر قبل الباطن و الخارج قبل الداخل حتّى تمهلهم بقطع مسافة أو بتدرّج في عمل أو مفارقة في جهة فيحتال لدفعها بتجاف أو تجنّب أو إبداء حائل أو الالتجاء إلى ركن بل هي معهم كما أنّ أنفسهم معهم لا تستطاع ردّاً إذ لا اختلاف جهة و لا تقبل مهلة إذ لا مسافة بينها و بينهم فلا تسمح لهم في نزولها عليهم إلّا البهت و الحيرة.

فمعنى الآية - و الله أعلم - لا يدفعون النار عن وجوههم و ظهورهم بل تأتيهم من

٣١٧

حيث لا يشعرون بها و لا يدرون فتكون مباغتة لهم فلا يستطيعون ردّها و لا يمهلون في إتيانها.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) قال في المجمع: الفرق بين السخريّة و الهزء أنّ في السخريّة معنى طلب الذلّة لأنّ التسخير التذليل فأمّا الهزء فيقتضي طلب صغر القدر بما يظهر في القول. انتهى و الحيق الحلول، و المراد بما كانوا به يستهزؤن، العذاب و في الآية تسلية للنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و تخويف و تهديد للّذين كفروا.

قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ) الكلاءة الحفظ و المعنى أسألهم من الّذي يحفظهم من الرحمن إن أراد أن يعذّبهم ثمّ أضرب عن تأثير الموعظة و الإنذار فيهم فقال:( بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ ) أي القرآن( مُعْرِضُونَ ) فلا يعتنون به و لا يريدون أن يصغوا إليه إذا تلوته عليهم و قيل المراد بالذكر مطلق المواعظ و الحجج.

قوله تعالى: ( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ) أم منقطعة و الاستفهام للإنكار، و كلّ من( تَمْنَعُهُمْ ) و( مِنْ دُونِنا ) صفة آلهة، و المعنى بل أسألهم أ لهم آلهة من دوننا تمنعهم منّا.

و قوله:( لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ ) إلخ تعليل للنفي المستفاد من الاستفهام الإنكاريّ و لذا جي‏ء بالفصل و التقدير ليس لهم آلهة كذلك لأنّهم لا يستطيعون نصر أنفسهم بأن ينصر بعضهم بعضاً و لا هم منّا يجارون و يحفظون فكيف ينصرون عبّادهم من المشركين أو يجيرونهم، و ذكر بعضهم أنّ ضمائر الجمع راجعة إلى المشركين و السياق يأباه.

قوله تعالى: ( بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ) إلى آخر الآية هو إضراب عن مضمون الآية السابقة كما كان قوله:( بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ) إضراباً عمّا تقدّمه و المضامين - كما ترى - متقاربة.

٣١٨

و قوله:( حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ) غاية لدوام التمتّع المدلول عليه بالجملة السابقة و التقدير بل متّعنا هؤلاء المشركين و آباءهم و دام لهم التمتّع حتّى طال عليهم العمر فاغتروّا بذلك و نسوا ذكر الله و أعرضوا عن عبادته، و كذلك كان مجتمع قريش فإنّهم كانوا بعد أبيهم إسماعيل قاطنين في حرم آمن متمتّعين بأنواع النعم الّتي تحمل إليهم حتّى تسلّطوا على مكّة و أخرجوا جرهماً منها فنسوا ما هم عليه من دين أبيهم إبراهيم و عبدوا الأصنام.

و قوله:( أَ فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها ) الأنسب للسياق أن يكون المراد من نقص الأرض من أطرافها هو انقراض بعض الاُمم الّتي تسكنها فإنّ لكلّ اُمّة أجلاً ما تسبق من اُمّة أجلها و ما يستأخرون - و قد تقدّمت الإشارة إلى أنّ المراد بطول العمر عليهم طول عمر مجتمعهم.

و المعنى: أ فلا يرون أنّ الأرض تنقص منها اُمّة بعد اُمّة بالانقراض بأمر الله فما ذا يمنعه أن يهلكهم أ فهم الغالبون إن أرادهم الله سبحانه بضرّ أو هلاك و انقراض.

و قد مرّ بعض الكلام في الآية في نظيرتها من سورة الرعد فراجع. و اعلم أنّ في هذه الآيات وجوها من الالتفات لم نتعرّض لها لظهورها.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَ لا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ ) أي إنّ الّذي اُنذركم به وحي إلهيّ لا ريب فيه و إنّما لا يؤثّر فيكم أثره و هو الهداية لأنّ فيكم صمماً لا تسمعون الإنذار فالنقص في ناحيتكم لا فيه.

قوله تعالى: ( وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ ) النفحة الوقعة من العذاب، و المراد أنّ الإنذار بآيات الذكر لا ينفعهم بل هؤلاء يحتاجون إلى نفحة من العذاب حتّى يضطرّوا فيؤمنوا و يعترفوا بظلمهم.

قوله تعالى: ( وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ) القسط العدل و هو عطف بيان للموازين أو صفة للموازين بتقدير مضاف و التقدير الموازين ذوات القسط، و قد تقدّم الكلام في معنى الميزان المنصوب يوم القيامة في تفسير سورة الأعراف.

٣١٩

و قوله:( وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها ) الضمير في( وَ إِنْ كانَ ) للعمل الموزون المدلول عليه بذكر الموازين أي و إن كان العمل الموزون مقدار حبّة من خردل في ثقله أتينا بها و كفى بنا حاسبين و حبّة الخردل يضرب بها المثل في دقّتها و صغرها و حقارتها، و فيه إشارة إلى أنّ الوزن من الحساب.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال: لمّا نعى جبريل للنبيّ نفسه قال: يا ربّ فمن لاُمّتي؟ فنزلت:( وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ) الآية.

أقول: سياق الآيات و هو سياق العتاب لا يلائم ما ذكر. على أنّ هذا السؤال لا يلائم موقع النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم)، على أنّ النعي كان في آخر حياة النبيّ و السورة من أقدم السور المكّيّة.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ قال: مرّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) على أبي سفيان و أبي جهل و هما يتحدّثان فلمّا رآه أبوجهل ضحك و قال لأبي سفيان: هذا نبيّ بني عبد مناف فغضب أبو سفيان فقال: ما تنكرون ليكون لبني عبد مناف نبيّ؟ فسمعها النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فرجع إلى أبي جهل فوقع به و خوّفه و قال: ما أراك منتهياً حتّى يصيبك ما أصاب عمّك، و قال لأبي سفيان: أمّا إنّك لم تقل ما قلت إلّا حميّة فنزلت هذه الآية( وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ) الآية.

أقول: هو كسابقه في عدم انطباق القصّة على الآية ذاك الانطباق.

و في المجمع، روي عن أبي عبدالله (عليه السلام): أنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) مرض فعاده إخوانه فقالوا: كيف نجدك يا أميرالمؤمنين؟ قال: بشر. قالوا: ما هذا كلام مثلك قال: إنّ الله تعالى يقول:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) فالخير الصحّة و الغنى و الشرّ المرض و الفقر.

و فيه في قوله:( أَ فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها ) و قيل:

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459