الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  0%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 91952
تحميل: 5124


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91952 / تحميل: 5124
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 14

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إنّ الضمير لداود و سليمان و المحكوم لهم إذ لا وجه يوجّه به نسبة الحكم إلى المحكوم لهم أصلاً فكان الحكم حكماً واحداً هو حكم الأنبياء و الظاهر أنّه ضمان صاحب الغنم للمال الّذي أتلفته غنمه.

فكان الحكم حكماً واحداً اختلفاً في كيفيّة إجرائه عملاً إذ لو كان الاختلاف في أصل الحكم لكان فرض صدور حكمين منهما بأحد وجهين إمّا بكون كلا الحكمين حكماً واقعيّاً لله ناسخاً أحدهما - و هو حكم سليمان - الآخر و هو حكم داود لقوله تعالى:( فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ) و إمّا بكون الحكمين معاً عن اجتهاد منهما بمعنى الرأي الظنّيّ مع الجهل بالحكم الواقعيّ و قد صدّق تعالى اجتهاد سليمان فكان هو حكمه.

أمّا الأوّل و هو كون حكم سليمان ناسخاً لحكم داود فلا ينبغي الارتياب في أنّ ظاهر جمل الآية لا يساعد عليه إذ الناسخ و المنسوخ متباينان و لو كان حكماهما من قبيل النسخ و متباينين لقيل: و كنّا لحكمهما أو لحكميهما ليدلّ على التعدّد و التباين و لم يقل:( وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ) المشعر بوحدة الحكم و كونه تعالى شاهداً له الظاهر في صونهم عن الخطاء، و لو كان داود حكم في الواقعة بحكم منسوخ لكان على الخطاء، و لا يناسبه أيضاً قوله:( وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً ) و هو مشعر بالتأييد ظاهر في المدح.

و أمّا الثاني و هو كون الحكمين عن اجتهاد منهما مع الجهل بحكم الله الواقعيّ فهو أبعد من سابقه لأنّه تعالى يقول:( فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ) و هو العلم بحكم الله الواقعيّ و كيف ينطبق على الرأي الظنّيّ بما أنّه رأي ظنّيّ. ثمّ يقول:( وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً ) فيصدّق بذلك أنّ الّذي حكم به داود أيضاً كان حكماً علميّاً لا ظنّياً و لو لم يشمل قوله:( وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً ) حكم داود في الواقعة لم يكن وجه لإيراد الجملة في المورد.

على أنّك سمعت أنّ قوله:( وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ) لا يخلو من إشعار بل دلالة على أنّ الحكم كان واحداً و مصوناً عن الخطإ. فلا يبقى إلّا أن يكون حكمهما

٣٤١

واحداً في نفسه مختلفاً من حيث كيفيّة الإجراء و كان حكم سليمان أوفق و أرفق.

و قد وردت في روايات الشيعة و أهل السنّة ما إجماله أنّ داود حكم لصاحب الحرث برقاب الغنم و سليمان حكم له بمنافعها في تلك السنة من ضرع و صوف و نتاج.

و لعلّ الحكم كان هو ضمان ما أفسدته الغنم من الحرث على صاحبها و كان ذلك مساويّاً لقيمة رقاب الغنم فحكم داود لذلك برقابها لصاحب الحرث، و حكم سليمان بما هو أرفق منه و هو أن يستوفي ما أتلفت من ماله من منافعها في تلك السنة و المنافع المستوفاة من الغنم كلّ سنة تعدل قيمتها قيمة الرقبة عادة.

فقوله:( وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ ) أي و اذكر داود و سليمان( إِذْ ) حين( يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ( إِذْ ) حين( نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) أي تفرّقت فيه ليلاً و أفسدته( وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ ) أي لحكم الأنبياء، و قيل: الضمير راجع إلى داود و سليمان و المحكوم له، و قد عرفت ما فيه، و قيل: الضمير لداود و سليمان لأنّ الاثنين جمع و هو كما ترى( شاهِدِينَ ) حاضرين نرى و نسمع و نوقفهم على وجه الصواب فيه( فَفَهَّمْناها ) أي الحكومة و القضيّة( سُلَيْمانَ وَ كُلًّا ) من داود و سليمان( آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً ) و ربّما قيل: إنّ تقدير صدر الآية( و آتينا داود و سليمان حكماً و علماً) إذ يحكمان إلخ.

قوله تعالى: ( وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ وَ كُنَّا فاعِلِينَ ) التسخير هو تذليل الشي‏ء بحيث يكون عمله على ما هو عليه في سبيل مقاصد المسخّر - بكسر الخاء - و هذا غير الإجبار و الإكراه و القسر فإنّ الفاعل فيها خارج عن مقتضى اختياره أو طبعه بخلاف الفاعل المسخّر - بفتح الخاء - فإنّه جار على مقتضى طبعه و اختياره كما أنّ إحراق الإنسان الحطب بالنار فعل تسخيريّ من النار و ليست بمقسورة و كذا فعل الأجير لمؤجره فعل تسخيري من الأجير و ليس بمجبر و لا مكره.

و من هنا يظهر أنّ معنى تسخير الجبال و الطير مع داود يسبّحن معه أنّ لهما تسبيحاً في نفسهما و تسخيرهما أن يسبّحن مع داود بمواطاة تسبيحه فقوله:( يُسَبِّحْنَ ) بيان لقوله:( وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ ) و قوله:( وَ الطَّيْرَ ) معطوف على الجبال.

٣٤٢

و قوله:( وَ كُنَّا فاعِلِينَ ) أي كانت أمثال هذه المواهب و العنايات من سنّتنا و ليس ما أنعمنا به عليهما ببدع منّا.

قوله تعالى: ( وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ ) قال في المجمع: اللّبوس اسم للسلاح كلّه عند العرب - إلى أن قال - و قيل: هو الدرع انتهى. و في المفردات: و قوله تعالى:( صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ ) يعني به الدرع.

و البأس شدّة القتال و كأنّ المراد به في الآية شدّة وقع السلاح و ضمير( وَ عَلَّمْناهُ ) لداود كما قال في موضع آخر:( وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ) و المعنى و علّمنا داود صنعة درعكم - أي علّمناه كيف يصنع لكم الدرع لتحرزكم و تمنعكم شدّة وقع السلاح و قوله:( فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ ) تقرير على الشكر.

قوله تعالى: ( وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ ) إلخ. عطف على قوله( مَعَ داوُدَ ) أي و سخّرنا لسليمان الريح عاصفة أي شديدة الهبوب تجري الريح بأمره إلى الأرض الّتي باركنا فيها و هي أرض الشام الّتي كان يأوي إليها سليمان و كنّا عالمين بكلّ شي‏ء.

و ذكر تسخير الريح عاصفة مع أنّ الريح كانت مسخّرة له في حالتي شدّتها و رخائها كما قال:( رُخاءً حَيْثُ أَصابَ ) ص: ٣٦ لأنّ تسخير الريح عاصفة أعجب و أدلّ على القدرة.

قيل: و لشيوع كونه (عليه السلام) ساكناً في تلك الأرض لم يذكر جريانها بأمره منها و اقتصر على ذكر جريانها إليها و هو أظهر في الامتنان انتهى، و يمكن أن يكون المراد جريانها بأمره إليها لتحمله منها إلى حيث أراد لا جريانها إليها لتردّه إليها و تنزله فيها بعد ما حملته، و على هذا يشمل الكلام الخروج منها و الرجوع إليها جميعاً.

قوله تعالى: ( وَ مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَ كُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ ) كان الغوص لاستخراج أمتعة البحر من اللئالي و غيرها، و المراد

٣٤٣

بالعمل الّذي دون ذلك ما ذكره بقوله:( يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ ) سبأ: ١٣، و المراد بحفظ الشياطين حفظهم في خدمته و منعهم من أن يهربوا أو يمتنعوا أو يفسدوا عليه الأمر، و المعنى ظاهر و ستجي‏ء قصّتا داود و سليمان (عليهما السلام) في سورة سباء إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى‏ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) الضرّ بالضمّ خصوص ما يمسّ النفس من الضرر كالمرض و الهزال و نحوهما و بالفتح أعمّ.

و قد شملته (عليه السلام) البليّة فذهب ماله و مات أولاده و ابتلي في بدنه بمرض شديد مدّة مديدة ثمّ دعا الله و شكى إليه حاله فاستجاب الله له و نجّاه من مرضه و أعاد عليه ماله و ولده و مثلهم معهم و هو قوله في الآية التالية:( فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ ) أي نجّيناه من مرضه و شفيناه( وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ ) أي من مات من أولاده( وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ ذِكْرى‏ لِلْعابِدِينَ ) ليتذكّروا و يعلموا أنّ الله يبتلي أولياءه امتحاناً منه لهم ثمّ يؤتيهم أجرهم و لا يضيع أجر المحسنين.

و ستجي‏ء قصّة أيّوب (عليه السلام) في سورة ص إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ ) إلخ. أمّا إدريس (عليه السلام) فقد تقدّمت قصّته في سورة مريم، و أمّا إسماعيل فستجي‏ء قصّته في سورة الصافّات، و تأتي قصّة ذي الكفل في سورة ص إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) إلخ. النون الحوت و ذو النون هو يونس النبيّ ابن متّى صاحب الحوت الّذي بعث إلى أهل نينوى فدعاهم فلم يؤمنوا فسأل الله أن يعذّبهم فلمّا أشرف عليهم العذاب تابوا و آمنوا فكشفه الله عنهم ففارقهم يونس فابتلاه الله أن ابتلعه حوت فناداه تعالى في بطنه فكشف عنه و أرسله ثانياً إلى قومه.

و قوله:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) أي و اذكر ذا النون إذ ذهب مغاضباً أي لقومه حيث لم يؤمنوا به فظنّ أن لن نقدر عليه أي

٣٤٤

لن نضيّق عليه من قدر عليه رزقه أي ضاق كما قيل.

و يمكن أن يكون قوله:( إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) وارداً مورد التمثيل أي كان ذهابه هذا و مفارقة قومه ذهاب من كان مغاضباً لمولاه و هو يظنّ أنّ مولاه لن يقدر عليه و هو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته و أمّا كونه (عليه السلام) مغاضباً لربّه حقيقة و ظنّه أنّ الله لا يقدر عليه جدّاً فممّا يجلّ ساحة الأنبياء الكرام عن ذلك قطعاً و هم معصومون بعصمة الله.

و قوله:( فَنادى‏ فِي الظُّلُماتِ ) إلخ. فيه إيجاز بالحذف و الكلام متفرّع عليه و التقدير فابتلاه الله بالحوت فالتقمه فنادى في بطنه ربّه، و الظاهر أنّ المراد بالظلمات - كما قيل - ظلمة البحر و ظلمة بطن الحوت و ظلمة الليل.

و قوله:( أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ ) تبرّ منه (عليه السلام) ممّا كان يمثّله ذهابه لوجهه و مفارقته قومه من غير أن يؤمر فإنّ ذهابه ذلك كان يمثّل - و إن لم يكن قاصداً ذلك متعمّداً فيه - أنّ هناك مرجعاً يمكن أن يرجع إليه غير ربّه فتبرّء من ذلك بقوله:( لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ ) ، و كان يمثّل أنّ من الجائز أن يعترض على فعله فيغاضب منه و أنّ من الممكن أن يفوته تعالى فائت فيخرج من حيطة قدرته فتبرّء من ذلك بتنزيهه بقوله: سبحانك.

و قوله:( إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) اعتراف بالظلم من حيث إنّه أتى بعمل كان يمثّل الظلم و إن لم يكن ظلماً في نفسه و لا هو (عليه السلام) قصد به الظلم و المعصية غير أنّ ذلك كان تأديباً منه تعالى و تربية لنبيّه ليطأ بساط القرب بقدم مبرّأة في مشيتها من تمثيل الظلم فضلاً عن نفس الظلم.

قوله تعالى: ( فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) هو (عليه السلام) و إن لم يصرّح بشي‏ء من الطلب و الدعاء، و إنّما أتى بالتوحيد و التنزيه و اعترف بالظلم لكنّه أظهر بذلك حاله و أبدى موقفه من ربّه و فيه سؤال النجاة و العافية فاستجاب الله له. و نجّاه من الغمّ و هو الكرب الّذي نزل به.

و قوله:( وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) وعد بالإنجاء لمن ابتلي من المؤمنين بغمّ

٣٤٥

ثمّ نادى ربّه بمثل ما نادى به يونس (عليه السلام) و ستجي‏ء قصّته (عليه السلام) في سورة الصافّات إن شاء الله.

قوله تعالى: ( وَ زَكَرِيَّا إِذْ نادى‏ رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ) معطوف على ما عطف عليه ما قبله أي و اذكر زكريّا حين نادى ربّه يسأل ولداً و قوله:( رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً ) بيان لندائه، و المراد بتركه فردا أن يترك و لا ولد له يرثه.

و قوله:( وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ) ثناء و تحميد له تعالى بحسب لفظه و نوع تنزيه له بحسب المقام إذ لمّا قال:( لا تَذَرْنِي فَرْداً ) و هو كناية عن طلب الوارث و الله سبحانه هو الّذي يرث كلّ شي‏ء نزّهه تعالى عن مشاركة غيره له في معنى الوراثة و رفعه عن مساواة غيره فقال:( وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ) .

قوله تعالى: ( فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى‏ وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ ) إلخ. ظاهر الكلام أنّ المراد بإصلاح زوجه أي زوج زكريّا له جعلها شابة ولودا بعد ما كانت عاقرا كما يصرّح به في دعائه( وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً ) مريم: ٨.

و قوله:( إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ ) ظاهر السياق أنّ ضمير الجمع لبيت زكريّا، و كأنّه تعليل لمقدّر معلوم من سابق الكلام و التقدير نحو من قولنا: أنعمنا عليهم لأنّهم كانوا يسارعون في الخيرات.

و الرغب و الرهب مصدران كالرغبة و الرهبة بمعنى الطمع و الخوف و هما تمييزان إن كانا باقيين على معناهما المصدريّ و حالان إن كانا بمعنى الفاعل و الخشوع هو تأثّر القلب من مشاهدة العظمة و الكبرياء.

و المعنى: أنعمنا عليهم لأنّهم كانوا يسارعون في الخيرات من الأعمال و يدعوننا رغبة في رحمتنا أو ثوابنا رهبة من غضبنا أو عقابنا أو يدعوننا راغبين راهبين و كانوا لنا خاشعين بقلوبهم.

و قد تقدّمت قصّة زكريّا و يحيى (عليهما السلام) في أوائل سورة مريم.

٣٤٦

قوله تعالى: ( وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) المراد بالّتي أحصنت فرجها مريم ابنة عمران و فيه مدح لها بالعفّة و الصيانة و ردّ لما اتّهمها به اليهود.

و قوله:( فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا ) الضمير لمريم و النفخ فيها من الروح كناية عن عدم استناد ولادة عيسى (عليهما السلام) إلى العادة الجارية في كينونة الولد من تصوّر النطفة أوّلاً ثمّ نفخ الروح فيها فإذا لم يكن هناك نطفة مصوّرة لم يبق إلّا نفخ الروح فيها و هي الكلمة الإلهيّة كما قال:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) آل عمران: ٥٩ أي مثلهما واحد في استغناء خلقهما عن النطفة.

و قوله:( وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) أفرد الآية فعدهما أعني مريم و عيسى (عليهما السلام) معاً آية واحدة للعالمين لأنّ الآية هي الولادة كذلك و هي قائمة بهما معاً و مريم أسبق قدما في إقامة هذه الآية و لذا قال تعالى:( وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً ) و لم يقل: و جعلنا ابنها و إيّاها آية. و كفى لها فخراً أن يدخل ذكرها في ذكر الأنبياء (عليهم السلام) في كلامه تعالى و ليست منهم.

( بحث روائي)

في الفقيه، روى جميل بن درّاج عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله عزّوجلّ:( وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) قال: لم يحكما إنّما كانا يتناظران ففهمها سليمان.

أقول: تقدّم في بيان معنى الآية ما يتّضح به معنى الحديث.

و في الكافي، بإسناده عن الحسين بن سعيد عن بعض أصحابنا عن المعلّى أبي عثمان عن أبي بصير قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ:( وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) فقال: لا يكون النفش إلّا بالليل إنّ على صاحب الحرث أن يحفظ الحرث بالنهار، و ليس على صاحب الماشية

٣٤٧

حفظها بالنهار إنّما رعاها(١) بالنهار و أرزاقها فما أفسدت فليس عليها، و على صاحب الماشية حفظ الماشية بالليل عن حرث الناس فما أفسدت بالليل فقد ضمنوا و هو النفش.

و إنّ داود حكم للّذي أصاب زرعه برقاب الغنم، و حكم سليمان الرسل و الثلاثة و هو اللبن و الصوف في ذلك العام.

أقول: و روى فيه، أيضاً بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام) و في الحديث: فحكم داود بما حكمت به الأنبياء (عليهم السلام) من قبله، و أوحى الله إلى سليمان (عليه السلام): و أيّ غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلّا ما خرج من بطونها. و كذلك جرت السنّة بعد سليمان و هو قول الله عزّوجلّ:( وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً ) فحكم كلّ واحد منهما بحكم الله عزّوجلّ.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) في حديث ذكر فيه: أنّ الحرث كان كرماً نفشت فيه الغنم و ذكر حكم سليمان ثمّ قال: و كان هذا حكم داود و إنّما أراد أن يعرّف بني إسرائيل أنّ سليمان وصيّه بعده، و لم يختلفاً في الحكم و لو اختلف حكمهما لقال: و كنا لحكمهما شاهدين.

و في المجمع: و اختلف في الحكم الّذي حكماً به فقيل: إنّه كان كرماً قد بدت عناقيده فحكم داود بالغنم لصاحب الكرم فقال سليمان: غير هذا يا نبيّ الله ارفق. قال: و ما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتّى يعود كما كان و تدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتّى إذا عاد الكرم كما كان ثمّ دفع كلّ واحد منهما إلى صاحبه ماله، و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبدالله (عليهما السلام).

أقول: و روي كون الحرث كرماً من طرق أهل السنّة عن عبدالله بن مسعود و هناك روايات اُخر عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) قريبة المضامين ممّا أوردناه، و ما مرّ في بيان معنى الآية يكفي في توضيح مضامين الروايات.

____________________

(١) بضمّ الراء جمع راعي‏

٣٤٨

و في تفسير القمّيّ: و قوله عزّوجلّ:( وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً ) قال: تجري من كلّ جانب( إِلى‏ الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها ) قال: إلى بيت المقدّس و الشام.

و فيه، أيضاً بإسناده عن عبدالله بن بكير و غيره عن أبي عبدالله (عليه السلام): في قول الله عزّوجلّ:( وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) قال: أحيا الله عزّوجلّ له أهله الّذين كانوا قبل البليّة و أحيا له الّذين ماتوا و هو في البليّة.

و فيه، أيضاً و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ) يقول: من أعمال قومه( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) يقول: ظنّ أن لن يعاقب بما صنع.

و في العيون، بإسناده عن أبي الصلت الهرويّ في حديث الرضا (عليه السلام) مع المأمون في عصمة الأنبياء قال (عليه السلام): و أمّا قوله:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) إنّما( فَظَنَّ ) بمعنى استيقن أن لن يضيّق عليه رزقه أ لا تسمع قول الله عزّوجلّ:( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) أي ضيّق عليه رزقه. و لو ظنّ أنّ الله لا يقدر عليه لكان قد كفر.

و في التهذيب، بإسناده عن الزيّات عن رجل عن كرام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أربع لأربع - إلى أن قال - و الرابعة للغمّ و الهمّ( لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) قال الله سبحانه:( فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) .

أقول: و روى هذا المعنى في الخصال، عنه (عليه السلام) مرسلاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن سعد سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) يقول: اسم الله الّذي إذا دعي به أجاب و إذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متّى قلت: يا رسول الله هي ليونس خاصّة أم لجماعة المسلمين؟ قال: هي ليونس خاصّة و للمؤمنين إذا دعوا بها أ لم تسمع قول الله:( وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) فهو شرط من الله لمن دعاه.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ ) قال: كانت لا تحيض فحاضت.

٣٤٩

و في المعاني، بإسناده إلى عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: الرغبة أن تستقبل براحتيك السماء و تستقبل بهما وجهك، و الرهبة أن تلقي كفّيك و ترفعهما إلى الوجه.

أقول: و روى مثله في الكافي، بإسناده عن أبي إسحاق عن أبي عبدالله (عليه السلام) و لفظه قال: الرغبة أن تستقبل ببطن كفّيك إلى السماء، و الرهبة أن تجعل ظهر كفّيك إلى السماء.

و في تفسير القمّيّ:( يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً ) قال: راغبين راهبين، و قوله:( الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها ) قال: مريم لم ينظر إليها شي‏ء، و قوله:( فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا ) قال: روح مخلوقة يعني من أمرنا.

٣٥٠

( سورة الأنبياء الآيات ٩٢ - ١١٢)

إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ( ٩٢ ) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ( ٩٣ ) فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ( ٩٤ ) وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ( ٩٥ ) حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ ( ٩٦ ) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ( ٩٧ ) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ( ٩٨ ) لَوْ كَانَ هَٰؤُلَاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٩٩ ) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ ( ١٠٠ ) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ( ١٠١ ) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ( ١٠٢ ) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ( ١٠٣ ) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ( ١٠٤ ) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ( ١٠٥ ) إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ( ١٠٦ ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ( ١٠٧ ) قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ١٠٨ ) فَإِن تَوَلَّوْا

٣٥١

فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ( ١٠٩ ) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ( ١١٠ ) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ( ١١١ ) قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَٰنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ( ١١٢ )

( بيان)

في الآيات رجوع إلى أوّل الكلام فقد بيّن فيما تقدّم أنّ للبشر إلهاً واحداً و هو الّذي فطر السماوات و الأرض فعليهم أن يعبدوه من طريق النبوّة و إجابة دعوتها و يستعدّوا بذلك لحساب يوم الحساب، و لم تندب النبوّة إلّا إلى دين واحد و هو دين التوحيد كما دعا إليه موسى من قبل و من قبله إبراهيم و من قبله نوح و من جاء بعد موسى و قبل نوح ممّن أشار الله سبحانه إلى أسمائهم و نبذة ممّا أنعم به عليهم كأيّوب و إدريس و غيرهما.

فالبشر ليس إلّا اُمّة واحدة لها ربّ واحد هو الله عزّ اسمه و دين واحد هو دين التوحيد يعبد فيه الله وحده قطعت به الدعوة الإلهيّة لكنّ الناس تقطّعوا أمرهم بينهم و تشتّتوا في أديانهم و اختلقوا لهم آلهة دون الله و أدياناً غير دين الله فاختلف بذلك شأنهم و تباينت غاية مسيرهم في الدنيا و الآخرة.

أمّا في الآخرة فإنّ الصالحين منهم سيشكر الله سعيهم و لا يشاهدون ما يسوؤهم و لن يزالوا في نعمة و كرامة، و أمّا غيرهم فإلى العذاب و العقاب.

و أمّا في الدنيا فإنّ الله وعد الصالحين منهم أن يورثهم الأرض و يجعل لهم عاقبة الدار و الطالحون إلى هلاك و دمار و خسران و سعي و بوار.

قوله تعالى: ( إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) الاُمّة جماعة يجمعها مقصد واحد، و الخطاب في الآية على ما يشهد به سياق الآيات - خطاب عامّ يشمل جميع الأفراد المكلّفين من الإنسان، و المراد بالاُمّة النوع الإنسانيّ الّذي هو نوع واحد، و تأنيث الإشارة في قوله:( هذِهِ أُمَّتُكُمْ ) لتأنيث الخبر.

٣٥٢

و المعنى: أنّ هذا النوع الإنسانيّ اُمّتكم معشر البشر و هي اُمّة واحدة و أنا - الله الواحد عزّ اسمه - ربّكم إذ ملكتكم و دبّرت أمركم فاعبدوني لا غير.

و في قوله:( أُمَّةً واحِدَةً ) إشارة إلى حجّة الخطاب بالعبادة لله سبحانه فإنّ النوع الإنسانيّ لمّا كان نوعاً واحداً و اُمّة واحدة ذات مقصد واحد و هو سعادة الحياة الإنسانيّة لم يكن له إلّا ربّ واحد إذ الربوبيّة و الاُلوهيّة ليست من المناصب التشريفيّة الوضعيّة حتّى يختار الإنسان منها لنفسه ما يشاء و كم يشاء و كيف يشاء بل هي مبدئيّة تكوينيّة لتدبير أمره، و الإنسان حقيقة نوعيّة واحدة، و النظام الجاري في تدبير أمره نظام واحد متّصل مرتبط بعض، أجزائه ببعض و نظام التدبير الواحد لا يقوم به إلّا مدبّر واحد فلا معنى لأن يختلف الإنسان في أمر الربوبيّة فيتّخذ بعضهم ربّاً غير ما يتّخذه الآخر أو يسلك قوم في عبادته غير ما يسلكه الآخرون فالإنسان نوع واحد يجب أن يتّخذ ربّاً واحداً هو ربّ بحقيقة الربوبيّة. و هو الله عزّ اسمه.

و قيل: المراد بالاُمّة الدين، و الإشارة بهذه إلى دين الإسلام الّذي كان دين الأنبياء و المراد بكونه اُمّة واحدة اجتماع الأنبياء بل إجماعهم عليه، و المعنى أنّ ملّة الإسلام ملّتكم الّتي يجب أن تحافظوا على حدودها و هي ملّة اتّفقت الأنبياء (عليهم السلام) عليها.

و هو بعيد فإنّ استعمال الاُمّة في الدين لو جاز لكان تجوّز الإيصال إليه إلّا بقرينة صارفة و لا وجه للانصراف عن المعنى الحقيقيّ بعد صحّته و استقامته و تأيّده بسائر كلامه تعالى كقوله:( وَ ما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ) يونس: ١٩ و هو - كما ترى - يتضمّن إجمال ما يتضمّنه هذه الآية و الآية الّتي تليها.

على أنّ التعبير في قوله:( وَ أَنَا رَبُّكُمْ ) بالربّ دون الإله يبقى على ما ذكروه بلا وجه بخلاف أخذ الاُمّة بمعنى الجماعة فإنّ المعنى عليه أنّكم نوع واحد و أنا المالك المدبّر لأمركم فاعبدوني لتكونوا متّخذين لي إلهاً.

و في الآية وجوه كثيرة اُخر ذكروها لكنّها جميعاً بعيدة من السياق تركنا

٣٥٣

إيرادها من أراد الوقوف عليها فليراجع المطوّلات.

قوله تعالى: ( وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ ) التقطّع على ما قال في مجمع البيان، بمعنى التقطيع و هو التفريق، و قيل: هو بمعناه المتبادر و هو التفرّق و الاختلاف و( أَمْرَهُمْ ) منصوب بنزع الخافض، و التقدير فتقطّعوا في أمرهم و قيل( تَقَطَّعُوا ) مضمّن معنى الجعل و لذا عدّي إلى المفعول بنفسه.

و كيف كان فقوله:( وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ) استعارة بالكناية و المراد به أنّهم جعلوا هذا الأمر الواحد و هو دين التوحيد المندوب إليه من طريق النبوّة و هو أمر وحدانيّ قطعاً متقطّعة وزّعوه فيما بينهم أخذ كلّ منهم شيئاً منه و ترك شيئاً كالوثنيّين و اليهود و النصارى و المجوس و الصابئين على اختلاف طوائفهم و هذا نوع تقريع للناس و ذمّ لاختلافهم في الدين و تركهم الأمر الإلهيّ أن يعبدوه وحده.

و قوله:( كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ ) فيه بيان أنّ اختلافهم في أمر الدين لا يترك سدى لا أثر له بل هؤلاء راجعون إلى الله جميعاً و هم مجزيّون حسب ما اختلفوا كما يلوح إليه التفصيل المذكور في قوله بعد:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ ) إلخ.

و الفصل في جملة:( كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ ) لكونها في معنى الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه قيل: فإلا مَ ينتهي اختلافهم في أمر الدين؟ و ما ذا ينتج؟ فقيل: كلّ إلينا راجعون فنجازيهم كما علموا.

قوله تعالى: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنَّا لَهُ كاتِبُونَ ) تفصيل لحال المختلفين بحسب الجزاء الاُخرويّ و سيأتي ما في معنى تفصيل جزائهم في الدنيا من قوله:( وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) .

فقوله:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ ) أي من يعمل منهم شيئاً من الأعمال الصالحات و قد قيّد عمل بعض الصالحات بالإيمان إذ قال:( وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ) فلا أثر للعمل الصالح بغير إيمان.

و المراد بالإيمان - على ما يظهر من السياق و خاصّة قوله في الآية الماضية:

٣٥٤

( وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) - الإيمان بالله قطعاً غير أنّ الإيمان بالله لا يفارق الإيمان بأنبيائه من دون استثناء لقوله:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ - إلى قوله -أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا ) النساء: ١٥١.

و قوله:( فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ ) أي لا ستر على ما عمله من الصالحات و الكفران يقابل الشكر و لذا عبّر عن هذا المعنى في موضع آخر بقوله:( وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) الدهر: ٢٢.

و قوله:( وَ إِنَّا لَهُ كاتِبُونَ ) أي مثبتون في صحائف الأعمال إثباتاً لا ينسى معه فالمراد بقوله:( فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنَّا لَهُ كاتِبُونَ ) أنّ عمله الصالح لا ينسى و لا يكفر.

و الآية من الآيات الدالّة على أنّ قبول العمل الصالح مشروط بالإيمان كما تؤيّده آيات حبط الأعمال مع الكفر، و تدلّ أيضاً على أنّ المؤمن العامل لبعض الصالحات من أهل النجاة.

قوله تعالى: ( وَ حَرامٌ عَلى‏ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) الّذي يستبق من الآية إلى الذهن بمعونة من سياق التفصيل أن يكون المراد أنّ أهل القرية الّتي أهلكناها لا يرجعون ثانياً إلى الدنيا ليحصلوا على ما فقدوه من نعمة الحياة و يتداركوا ما فوّتوه من الصالحات و هو واقع محلّ أحد طرفي التفصيل الّذي تضمّن طرفه الآخر قوله:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ) إلخ. فيكون الطرف الآخر من طرفي التفصيل أنّ من لم يكن مؤمناً قد عمل من الصالحات فليس له عمل مكتوب و سعي مشكور و إنّما هو خائب خاسر ضلّ سعيه في الدنيا و لا سبيل له إلى حياة ثانية في الدنيا يتدارك فيها ما فاته.

غير أنّه تعالى وضع المجتمع موضع الفرد إذ قال:( وَ حَرامٌ عَلى‏ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها ) و لم يقل: و حرام على من أهلكناه لأنّ فساد الفرد يسري بالطبع إلى

٣٥٥

المجتمع و ينتهي إلى طغيانهم فيحقّ عليهم كلمة العذاب فيهلكون كما قال:( وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً ) إسراء: ٥٨.

و يمكن - على بعد - أن يكون المراد بالإهلاك الإهلاك بالذنوب بمعنى بطلان استعداد السعادة و الهدى كما في قوله:( وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ ) الأنعام: ٢٦ فتكون الآية في معنى قوله:( فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ ) النحل: ٣٧، و المعنى و حرام على قوم أهلكناهم بذنوبهم و قضينا عليهم الضلال أن يرجعوا إلى التوبة و حال الاستقامة.

و معنى الآية و القرية الّتي لم تعمل من الصالحات و هي مؤمنة و أنجرّ أمرها إلى الإهلاك ممتنع عليهم أن يرجعوا فيتداركوا ما فاتهم من السعي المشكور و العمل المكتوب المقبول.

و أمّا قوله:( أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) و كان الظاهر أن يقال: إنّهم يرجعون فالحقّ أنّه مجاز عقليّ وضع فيه نتيجة تعلّق الفعل بشي‏ء - أعني ما يؤول إليه حال المتعلّق بعد تعلّقه به - موضع نفس المتعلّق فنتيجة تعلّق الحرمة برجوعهم عدم الرجوع فوضعت هذه النتيجة موضع نفس الرجوع الّذي هو متعلّق الحرمة و في هذا الصنع إفادة نفوذ الفعل كأنّ الرجوع يصير بمجرّد تعلّق الحرمة عدم رجوع من غير تخلّل فصل.

و نظيره أيضاً قوله:( ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) الأعراف: ١٢ حيث إنّ تعلّق المنع بالسجدة يؤول إلى عدم السجدة فوضع عدم السجدة الّذي هو النتيجة موضع نفس السجدة الّتي هي متعلّق المنع.

و نظيره أيضاً قوله:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) الأنعام: ١٥١ حيث إنّ تعلّق التحريم بالشرك ينتج عدم الشرك فوضع عدم الشرك الّذي هو النتيجة مكان نفس الشرك الّذي هو المتعلّق و قد وجّهنا هاتين الآيتين فيما مرّ بتوجيه آخر أيضاً.

و للقوم في توجيه الآية وجوه:

٣٥٦

منها: أنّ لا زائدة و الأصل أنّهم يرجعون.

و منها: أنّ الحرام بمعنى الواجب أي واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون و استدلّ على إتيان الحرام بمعنى الواجب بقول الخنساء.

و إنّ حراماً لا أرى الدهر باكياً

على شجوة إلّا بكيت على صخر

و منها: أنّ متعلّق الحرمة محذوف و التقدير حرام على قرية أهلكناها بالذنوب أي وجدناها هالكة بها أن يتقبّل منهم عمل لأنّهم لا يرجعون إلى التوبة.

و منها: أنّ المراد بعدم الرجوع عدم الرجوع إلى الله سبحانه بالبعث لا عدم الرجوع إلى الدنيا و المعنى - على استقامة اللفظ - و ممتنع على قرية أهلكناها بطغيان أهلها أن لا يرجعوا إلينا للمجازاة و أنت خبير بما في كلّ من هذه الوجوه من الضعف.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) الحدب بفتحتين الارتفاع من الأرض بين الانخفاض، و النُسول الخروج بإسراع و منه نسلان الذئب، و السياق يقتضي أن يكون قوله:( حَتَّى إِذا فُتِحَتْ ) إلخ. غاية للتفصيل المذكور في قوله:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ ) إلى آخر الآيتين، و أن يكون ضمير الجمع راجعاً إلى يأجوج و مأجوج.

و المعنى: لا يزال الأمر يجري هذا المجرى نكتب الأعمال الصالحة للمؤمنين و نشكر سعيهم و نهلك القرى الظالمة و نحرّم رجوعهم بعد الهلاك إلى الزمان الّذي يفتح فيه يأجوج و مأجوج أي سدّهم أو طريقهم المسدود و هم أي يأجوج و مأجوج يخرجون إلى سائر الناس من ارتفاعات الأرض مسرعين نحوهم و هو من أشراط الساعة و أمارات القيامة كما يشير إليه بقوله:( فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً ) الكهف: ٩٩ و قد استوفينا الكلام في معنى يأجوج و مأجوج و السدّ المضروب دونهم في تفسير سورة الكهف.

و قيل: ضمير الجمع للناس و المراد خروجهم من قبورهم إلى أرض المحشر.

٣٥٧

و فيه أنّ سياق ما قبل الجملة( حَتَّى إِذا فُتِحَتْ ) إلخ. و ما بعدها( وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ) لا يناسب هذا المعنى، و كذا نفس الجملة من جهة كونها حالاً. على أنّ النسول من كلّ حدب - و قد اشتملت عليه الجملة - لا يصدق على الخروج من القبور

و لذا قرأ صاحب هذا القول و هو مجاهد الجدث بالجيم و الثاء المثلّثة و هو القبر.

قوله تعالى: ( وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلخ. المراد بالوعد الحقّ الساعة، و شخوص البصر نظره بحيث لا تطرف أجفانه، كذا ذكره الراغب و هو لازم كمال اهتمام الناظر بما ينظر إليه بحيث لا يشتغل بغيره و يكون غالباً في الشرّ الّذي يظهر للإنسان بغتة.

و قوله:( يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا ) حكاية قول الكفّار إذا شاهدوا الساعة بغتة فدعوا لأنفسهم بالويل مدّعين أنّهم غفلوا عمّا يشاهدونه كأنّهم اُغفلوا إغفالاً ثمّ أضربوا عن ذلك بالاعتراف بأنّ الغفلة لم تنشأ إلّا عن ظلمهم بالاشتغال بما ينسي الآخرة و يغفل عنها من اُمور الدنيا فقالوا:( بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ) الحصب الوقود، و قيل: الحطب، و قيل: أصله ما يرمى في النار فيكون أعمّ.

و المراد بقوله:( وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) و لم يقل: و من تعبدون - مع تعبيره تعالى عن الأصنام في أغلب كلامه بألفاظ تختصّ باُولي العقل كما في قوله بعد:( ما وَرَدُوها ) - الأصنام و التماثيل الّتي كانوا يعبدونها دون المعبودين من الأنبياء و الصلحاء و الملائكة كما قيل و يدلّ على ذلك قوله بعد:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏ ) إلخ.

و الظاهر أنّ هذه الآيات من خطابات يوم القيامة للكفّار و فيها القضاء بدخولهم في النار و خلودهم فيها لا أنّها إخبار في الدنيا بما سيجري عليهم في الآخرة و استدلال على بطلان عبادة الأصنام و اتّخاذهم آلهة من دون الله.

و قوله:( أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ) اللام لتأكيد التعدّي أو بمعنى إلى، و ظاهر

٣٥٨

السياق أنّ الخطاب شامل للكفّار و الآلهة جميعاً أي أنتم و آلهتكم تردون جهنّم أو تردون إليها.

قوله تعالى: ( لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَ كُلٌّ فِيها خالِدُونَ ) تفريع و إظهار لحقيقة حال الآلهة الّتي كانوا يعبدونها لتكون لهم شفعاء، و قوله:( وَ كُلٌّ فِيها خالِدُونَ ) أي كلّ منكم و من الآلهة.

قوله تعالى: ( لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ ) الزفير هو الصوت بردّ النفس إلى داخل و لذا فسّر بصوت الحمار، و كونهم لا يسمعون جزاء عدم سمعهم في الدنيا كلمة الحقّ كما أنّهم لا يبصرون جزاء لإعراضهم عن النظر في آيات الله في الدنيا.

و في الآية عدول عن خطاب الكفّار إلى خطاب النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) إعراضاً عن خطابهم ليبيّن سوء حالهم لغيرهم، و عليه فضمائر الجمع للكفّار خاصّة لا لهم و للآلهة معاً.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏ أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) الحسنى مؤنّث أحسن و هي وصف قائم مقام موصوفه و التقدير العدة أو الموعدة الحسنى بالنجاة أو بالجنّة و الموعدة بكلّ منهما وارد في كلامه تعالى قال:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) مريم: ٧٢ و قال:( وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ) التوبة: ٧٢.

قوله تعالى: ( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها - إلى قوله -تُوعَدُونَ ) الحسيس الصوت الّذي يحسّ به، و الفزع الأكبر الخوف الأعظم و قد أخبر سبحانه عن وقوعه في نفخ الصور حيث قال:( وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ) النمل: ٨٧.

و قوله:( وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) أي بالبشرى و هي قولهم:( هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .

قوله تعالى: ( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ

٣٥٩

نُعِيدُهُ ) إلى آخر الآية، قال في المفردات: و السجلّ قيل: حجر كان يكتب فيه ثمّ سمّي كلّ ما يكتب فيه سجلّاً قال تعالى:( كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) أي كطيّه لما كتب فيه حفظاً له، انتهى. و هذا أوضح معنى قيل في معنى هذه الكلمة و أبسطه.

و على هذا فقوله:( لِلْكُتُبِ ) مفعول طيّ كما أنّ السجلّ فاعله و المراد أنّ السجلّ و هو الصحيفة المكتوب فيها الكتاب إذا طوي انطوى بطيّه الكتاب و هو الألفاظ أو المعانيّ الّتي لها نوع تحقّق و ثبوت في السجلّ بتوسّط الخطوط و النقوش فغاب الكتاب بذلك و لم يظهر منه عين و لا أثر كذلك السماء تنطوي بالقدرة الإلهيّة كما قال:( وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) الزمر: ٦٧ فتغيب عن غيره و لا يظهر منها عين و لا أثر غير أنّها لا تغيب عن عالم الغيب و إن غاب عن غيره كما لا يغيب الكتاب عن السجلّ و إن غاب عن غيره.

فطيّ السماء على هذا رجوعها إلى خزائن الغيب بعد ما نزلت منها و قدّرت كما قال تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: ٢١ و قال مطلقاً:( وَ إِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ) آل عمران: ٢٨ و قال:( إِنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الرُّجْعى‏ ) العلق: ٨.

و لعلّه بالنظر إلى هذا المعنى قيل: إنّ قوله:( كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) ناظر إلى رجوع كلّ شي‏ء إلى حاله الّتي كان عليها حين ابتدئ خلقه و هي أنّه لم يكن شيئاً مذكوراً كما قال تعالى:( وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً ) مريم: ٩، و قال( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) الدهر: ١.

و هذا معنى ما نسب إلى ابن عبّاس أنّ معنى الآية يهلك كلّ شي‏ء كما كان أوّل مرّة و هو و إن كان مناسباً للاتّصال بقوله:( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ ) إلخ. ليقع في مقام التعليل له لكنّ الأغلب على سياق الآيات السابقة بيان الإعادة بمعنى إرجاع الأشياء بعد فنائها لا الإعادة بمعنى إفناء الأشياء و إرجاعها إلى حالها قبل ظهورها بالوجود.

٣٦٠