الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  0%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 91975
تحميل: 5125


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91975 / تحميل: 5125
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 14

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ٣٦ ) لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ( ٣٧ )

( بيان)

تذكر الآيات صدّ المشركين للمؤمنين عن المسجد الحرام و تقرعهم بالتهديد و تشير إلى تشريع حجّ البيت لأوّل مرّة لإبراهيم (عليه السلام) و أمره بتأذين الحجّ في الناس و جملة من أحكام الحجّ.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ ) إلخ. الصدّ المنع، و( سَواءً ) مصدر بمعنى الفاعل، و العكوف في المكان الإقامة فيه، و البادي من البدو و هو الظهور، و المراد به - كما قيل - الطارئ أي الّذي يقصده من خارج فيدخله، و الإلحاد الميل إلى خلاف الاستقامة و أصله إلحاد حافر الدابّة.

و المراد بالّذين كفروا مشركوا مكّة الّذين كفروا بالنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في أوّل البعثة قبل الهجرة و كانوا يمنعون الناس عن الإسلام و هو سبيل الله و المؤمنين عن دخول المسجد الحرام لطواف الكعبة و إقامة الصلاة و سائر المناسك فقوله:( يَصُدُّونَ ) للاستمرار و لا ضير في عطفه على الفعل الماضي في قوله:( الَّذِينَ كَفَرُوا ) و المعنى الّذين كفروا قبل و يستمرّون على منع الناس عن سبيل الله و المؤمنين عن المسجد الحرام.

و بذلك يظهر أنّ قوله:( وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) عطف على( سَبِيلِ اللهِ ) و المراد بصدّهم منعهم المؤمنين عن أداء العبادات و المناسك فيه و كان من لوازمه منع القاصدين

٤٠١

للبيت من خارج مكّة من دخولها.

و به يتبيّن أنّ المراد بقوله:( الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ ) - و هو وصف المسجد الحرام - جعله لعبادة الناس لا تمليك رقبته لهم فالناس يملكون أن يعبدوا الله فيه ليس لأحد أن يمنع أحداً من ذلك ففيه إشارة إلى أنّ منعهم و صدّهم عن المسجد الحرام تعدّ منهم إلى حقّ النّاس و إلحاد بظلم كما أنّ إضافة السبيل إلى الله تعدّ منهم إلى حقّ الله تعالى.

و يؤيّد ذلك أيضاً تعقيبه بقوله:( سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ ) أي المقيم فيه و الخارج منه مساويان في أنّ لهما حقّ العبادة فيه لله، و المراد بالإقامة فيه و في الخارج منه إمّا الإقامة بمكّة و في الخارج منها على طريق المجاز العقليّ أو ملازمة المسجد للعبادة و الطروّ عليه لها.

و قوله:( وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) بيان لجزاء من ظلم الناس في هذا الحقّ المشروع لهم في المسجد و لازمه تحريم صدّ الناس عن دخوله للعبادة فيه و مفعول( يُرِدْ ) محذوف للدلالة على العموم، و الباء في( بِإِلْحادٍ ) للملابسة و في( بِظُلْمٍ ) للسببيّة و الجملة تدلّ على خبر قوله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) في صدر الآية.

و المعنى الّذين كفروا و لا يزالون يمنعون الناس عن سبيل الله و هو دين الإسلام و يمنعون المؤمنين عن المسجد الحرام الّذي جعلناه معبداً للناس يستوي فيه العاكف فيه و البادي نذيقهم. من عذاب أليم لأنّهم يريدون الناس فيه بإلحاد بظلم و من يرد الناس فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم.

و للمفسّرين في إعراب مفردات الآية و جملها أقاويل كثيرة جدّاً و لعلّ ما أوردناه أنسب للسياق.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ ) بوّء له مكاناً كذا أي جعله مباءة و مرجعاً له يرجع إليه و يقصده، و المكان ما يستقرّ عليه الشي‏ء فمكان البيت القطعة من

٤٠٢

الأرض الّتي بني فيها، و المراد بالقائمين على ما يعطيه السياق هم الناصبون أنفسهم للعبادة و الصلاة. و الركّع جمع راكع كسجّد جمع ساجد و السجود جمع ساجد كالركوع جمع راكع.

و قوله:( وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ ) الظرف فيه متعلّق بمقدّر أي و اذكر وقت كذا و فيه تذكير لقصّة جعل البيت معبداً للناس ليتّضح به أنّ صدّ المؤمنين عن المسجد الحرام ليس إلّا إلحاداً بظلم.

و تبوئته تعالى مكان البيت لإبراهيم هي جعل مكانه مباءة و مرجعاً لعبادته لا لأنّ يتّخذه بيت سكنى يسكن فيه، و يلوّح إليه قوله بعد( طَهِّرْ بَيْتِيَ ) بإضافة البيت إلى نفسه، و لا ريب أنّ هذا الجعل كان وحياً لإبراهيم فقوله:( بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ ) في معنى قولنا: أوحينا إلى إبراهيم أن اتّخذ هذا المكان مباءة و مرجعا لعبادتي و إن شئت فقل: أوحينا إليه أن اقصد هذا المكان لعبادتي، و بعبارة اُخرى أن اعبدني في هذا المكان.

و بذلك يتّضح أن( مَكانَ ) في قوله:( أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ) مفسّرة تفسّر الوحي السابق باعتباره أنّه قول من غير حاجة إلى تقدير أوحينا أو قلنا و نحوه.

و يتّضح أيضاً أنّ قوله:( أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ) ليس المراد به - و هو واقع في هذا السياق - النهي عن الشرك مطلقاً و إن كان منهيّاً عنه مطلقاً بل المنهيّ عنه فيه هو الشرك في العبادة الّتي يأتي بها حينما يقصد البيت للعبادة و بعبارة واضحة الشرك فيما يأتي به من أعمال الحجّ كالتلبية للأوثان و الإهلال لها و نحوهما.

و كذا قوله:( وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ ) و التطهير إزالة الأقذار و الأدناس عن الشي‏ء ليعود إلى ما يقتضيه طبعه الأوّليّ، و قد أضاف البيت إلى نفسه إذ قال:( بَيْتِيَ ) أي بيتاً يختصّ بعبادتي، و تطهير المعبد بما أنّه معبد تنزيهه من الأعمال الدنسة و الأرجاس الّتي تفسد العبادة و ليست إلّا الشرك و مظاهره.

فتطهير بيته إمّا تنزيهه من الأرجاس المعنويّة خاصّة بأن يشرع إبراهيم (عليه السلام) للناس و يعلّمهم طريقاً من العبادة لا يداخلها قذارة شرك و لا يدنسها دنسه كما أمر

٤٠٣

لنفسه بذلك، و إمّا إزالة مطلق النجاسات عن البيت أعمّ من الصوريّة و المعنويّة لكنّ الّذي يمسّ سياق الآية منها هو الرجس المعنويّ فمحصّل تطهير المعبد عن الأرجاس المعنويّة و تنزيهه عنها للعبّاد الّذين يقصدونه بالعبادة وضع عبادة فيه خالصة لوجه الله لا يشوبها شائب شرك يعبدون الله سبحانه بها و لا يشركون به شيئاً.

فالمعنى بناء على ما يهدي إليه السياق و اذكر إذ أوحينا إلى إبراهيم أن اعبدني في بيتي هذا بأخذه مباءة و مرجعاً لعبادتي و لا تشرك بي شيئاً في عبادتي و سنّ لعبادي القاصدين بيتي من الطائفين و القائمين و الركّع السجود عبادة في بيتي خالصة من الشرك.

و في الآية تلويح إلى أنّ عمدة عبادة القاصدين له طواف و قيام و ركوع و سجود و إشعار بأنّ الركوع و السجود متقاربان كالمتلازمين لا ينفكّ أحدهما عن الآخر.

و ممّا قيل في الآية أنّ قوله:( بَوَّأْنا ) معناه( قلنا تبوء) و قيل: معناه( أعلمنا) و من ذلك أنّ( مَكانَ ) في قوله:( أَنْ لا ) مصدريّة و قيل: مخفّفة من الثقيلة، و من ذلك أنّ المراد بالطائفين الطارؤن و بالقائمين المقيمون بمكّة، و قيل: المراد بالقائمين و الركع السجود: المصلّون، و هي جميعاً وجوه بعيدة.

قوله تعالى: ( وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى‏ كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) التأذين: الإعلام برفع الصوت و لذا فسّر بالنداء، و الحجّ القصد سمّي به العمل الخاصّ الّذي شرعه أوّلاً إبراهيم (عليه السلام) و جرت عليه شريعة محمّد (صلّي الله عليه وآله وسلّم) لما فيه من قصد البيت الحرام، و رجال جمع راجل خلاف الراكب، و الضامر المهزول الّذي أضمره السير، و الفجّ العميق - على ما قيل - الطريق البعيد.

و قوله:( وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ) أي ناد الناس بقصد البيت أو بعمل الحجّ و الجملة معطوفة على قوله:( لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ) و المخاطب به إبراهيم و ما قيل: إنّ المخاطب نبيّنا محمّد (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بعيد من السياق.

و قوله:( يَأْتُوكَ رِجالًا ) إلخ، جواب الأمر أي أذّن فيهم و أن تؤذّن فيهم يأتوك

٤٠٤

راجلين و على كلّ بعير مهزول يأتين من كلّ طريق بعيد، و لفظة( كُلِّ ) تفيد في أمثال هذه الموارد معنى الكثرة دون الاستغراق.

قوله تعالى: ( لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ ) إلخ، اللّام للتعليل أو الغاية و الجارّ و المجرور متعلّق بقوله:( يَأْتُوكَ ) و المعنى يأتوك لشهادة منافع لهم أو يأتوك فيشهدوا منافع لهم و قد اُطلقت المنافع و لم تتقيّد بالدنيويّة أو الاُخرويّة.

و المنافع نوعان: منافع دنيويّة و هي الّتي تتقدّم بها حياة الإنسان الاجتماعيّة و يصفو بها العيش و ترفع بها الحوائج المتنوّعة و تكمل بها النواقص المختلفة من أنواع التجارة و السياسة و الولاية و التدبير و أقسام الرسوم و الآداب و السنن و العادات و مختلف التعاونات و التعاضدات الاجتماعيّة و غيرها.

فإذا اجتمعت أقوام و اُمم من مختلف مناطق الأرض و أصقاعها على ما لهم من اختلاف الأنساب و الألوان و السنن و الآداب ثمّ تعارفوا بينهم و كلمتهم واحدة هي كلمة الحقّ و إلههم واحد و هو الله عزّ اسمه و وجهتهم واحدة هي الكعبة البيت الحرام حملهم اتّحاد الأرواح على تقارب الأشباح و وحدة القول على تشابه الفعل فأخذ هذا من ذاك ما يرتضيه و أعطاه ما يرضيه، و استعان قوم بآخرين في حلّ مشكلتهم و أعانوهم بما في مقدرتهم فيبدّل كلّ مجتمع جزئيّ مجتمعاً أرقى، ثمّ امتزجت المجتمعات فكونت مجتمعاً وسيعاً له من القوّة و العدّة ما لا تقوم له الجبال الرواسي، و لا تقوى عليه أيّ قوّة جبّارة طاحنة، و لا وسيلة إلى حلّ مشكلات الحياة كالتعاضد و لا سبيل إلى التعاضد كالتفاهم، و لا تفاهم كتفاهم الدين.

و منافع اُخرويّة و هي وجوه التقرّب إلى الله تعالى بما يمثّل عبوديّة الإنسان من قول و فعل و عمل الحجّ بما له من المناسك يتضمّن أنواع العبادات من التوجّه إلى الله و ترك لذائذ الحياة و شواغل العيش و السعي إليه بتحمّل المشاقّ و الطواف حول بيته و الصلاة و التضحية و الإنفاق و الصيام و غير ذلك.

و قد تقدّم فيما مرّ أنّ عمل الحجّ بما له من الأركان و الأجزاء يمثّل دورة

٤٠٥

كاملة ممّا جرى على إبراهيم (عليه السلام) في مسيره في مراحل التوحيد و نفي الشريك و إخلاص العبوديّة لله سبحانه.

فإتيان الناس إبراهيم (عليه السلام) أي حضورهم عند البيت لزيارته يستعقب شهودهم هذه المنافع اُخرويّها و دنيويّها و إذا شهدوها تعلّقوا بها فالإنسان مجبول على حبّ النفع.

و قوله:( وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى‏ ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ ) قال الراغب: و البهيمة ما لا نطق له و ذلك لما في صوته من الإبهام لكن خصّ في التعارف بما عدا السباع و الطير فقال تعالى:( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) . انتهى.

و قال: و النعم مختصّ بالإبل و جمعه أنعام و تسميته بذلك لكون الإبل عندهم أعظم نعمة، لكنّ الأنعام تقال للإبل و البقر و الغنم، و لا يقال لها: أنعام حتّى تكون في جملتها الإبل. انتهى.

فالمراد ببهيمة الأنعام الأنواع الثلاثة: الإبل و البقر و الغنم من معز أو ضأن و الإضافة بيانيّة.

و الجملة أعني قوله:( وَ يَذْكُرُوا ) ، إلخ معطوف على قوله:( لِيَشْهَدُوا ) أي و ليذكروا اسم الله في أيّام معلومات أي في أيّام التشريق على ما فسّرها أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) و هي يوم الأضحى عاشر ذي الحجّة و ثلاثة أيّام بعده.

و ظاهر قوله:( عَلى‏ ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ ) أنّه متعلّق بقوله:( يَذْكُرُوا ) و قوله:( مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ ) بيان للموصول و المراد ذكرهم اسم الله على البهيمة - الأضحية - عند ذبحها أو نحوها على خلاف ما كان المشركون يهلّونها لأصنامهم.

و قد ذكر الزمخشريّ أنّ قوله:( وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ ) إلخ كناية عن الذبح و النحر و يبعّده أنّ في الكلام عناية خاصّة بذكر اسمه تعالى بالخصوص و العناية في الكناية متعلّقة بالمكنيّ عنه دون نفس الكناية، و يظهر من بعضهم أنّ المراد مطلق ذكر اسم الله في أيّام الحجّ و هو كما ترى.

و قوله:( فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ) البائس من البؤس و هو شدّة

٤٠٦

الضرّ و الحاجة، و الّذي اشتمل عليه الكلام حكم ترخيصيّ إلزاميّ.

قوله تعالى: ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) التفث شعث البدن، و قضاء التفث إزالة ما طرأ بالإحرام من الشعث بتقليم الأظفار و أخذ الشعر و نحو ذلك و هو كناية عن الخروج من الإحرام.

و المراد بقوله:( وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) إتمام ما لزمهم بنذر أو نحوه، و بقوله:( وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) طواف النساء على ما في تفسير أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) فإنّ الخروج من الإحرام يحلّل له كلّ ما حرم به إلّا النساء فتحلّ بطواف النساء و هو آخر العمل.

و البيت العتيق هو الكعبة المشرّفة سمّيت به لقدمه فإنّه أوّل بيت بني لعبادة الله كما قال تعالى:( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ ) آل عمران: ٩٦، و قد مضى على هذا البيت اليوم زهاء أربعة آلاف سنة و هو معمور و كان له يوم نزول الآيات أكثر من ألفين و خمسمائة سنة.

قوله تعالى: ( ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) إلى آخر الآية الحرمة، ما لا يجوز انتهاكه و وجب رعايته، و الأوثان جمع وثن و هو الصنم، و الزور الميل عن الحقّ و لذا يسمّى الكذب و قول الباطل زورا.

و قوله:( ذلِكَ ) أي الأمر ذلك أي الّذي شرعناه لإبراهيم (عليه السلام) و من بعده من نسك الحجّ هو ذلك الّذي ذكرناه و أشرنا إليه من الإحرام و الطواف و الصلاة و التضحية بالإخلاص لله و التجنّب عن الشرك.

و قوله:( وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ) ندب إلى تعظيم حرمات الله و هي الاُمور الّتي نهى عنها و ضرب دونها حدوداً منع عن تعدّيها و اقتراف ما وراءها و تعظيمها الكفّ عن التجاوز إليها.

و الّذي يعطيه السياق أنّ هذه الجملة توطئة و تمهيد لما بعدها من قوله( وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ ) فإنّ انضمام هذه الجملة إلى الجملة قبلها يفيد أنّ الأنعام - على كونها ممّا رزقهم الله و قد أحلّها لهم - فيها حرمة إلهيّة و

٤٠٧

هي الّتي يدلّ عليها الاستثناء إلّا ما يتلى عليكم.

و المراد بقوله:( ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ ) استمرار التلاوة، فإنّ محرّمات الأكل نزلت في سورة الأنعام و هي مكّيّة و في سورة النحل و هي نازلة في آخر عهده (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بمكّة و أوّل عهده بالمدينة، و في سورة البقرة و قد نزلت في أوائل الهجرة بعد مضيّ ستّة أشهر منها - على ما روي - و لا موجب لجعل( يُتْلى) للاستقبال و أخذه إشارة إلى آية سورة المائدة كما فعلوه.

و الآيات المتضمّنة لمحرّمات الأكل و إن تضمّنت منها عدّة اُمور كالميتة و الدم و لحم الخنزير و ما اُهلّ به لغير الله إلّا أنّ العناية في الآية بشهادة سياق ما قبلها و ما بعدها بخصوص ما اُهلّ به لغير الله فإنّ المشركين كانوا يتقرّبون في حجّهم - و هو السنّة الوحيدة الباقية بينهم من ملّة إبراهيم - بالأصنام المنصوبة على الكعبة و على الصفا و على المروة و بمنى و يهلّون بضحاياهم لها فالتجنّب منها و من الإهلال بذكر أسمائها هو الغرض المعنىّ به من الآية و إن كان أكل الميتة و الدم و لحم الخنزير أيضاً من جملة حرمات الله.

و يؤيّد ذلك أيضاً تعقيب الكلام بقوله:( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) فإنّ اجتناب الأوثان و اجتناب قول الزور و إن كانا من تعظيم حرمات الله و لذلك تفرّع( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ ) على ما تقدّمه من قوله:( وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) لكن تخصيص هاتين الحرمتين من بين جميع الحرمات في سياق آيات الحجّ بالذكر ليس إلّا لكونهما مبتلى بهما في الحجّ يومئذ و إصرار المشركين على التقرّب من الأصنام هناك و إهلال الضحايا باسمها.

و بذلك يظهر أنّ قوله:( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) نهي عامّ عن التقرّب إلى الأصنام و قول الباطل اُورد لغرض التقرّب إلى الأصنام في عمل الحجّ كما كانت عادة المشركين جارية عليه، و عن التسمية باسم الأصنام على الذبائح من الضحايا، و على ذلك يبتني التفريع بالفاء.

و في تعليق حكم الاجتناب أوّلاً بالرجس ثمّ بيانه بقوله:( مِنَ الْأَوْثانِ )

٤٠٨

إشعار بالعلّيّة كأنّه قيل: اجتنبوا الأوثان لأنّها رجس و في تعليقه بنفس الأوثان دون عبادتها أو التقرّب أو التوجّه إليها أو مسّها و نحو ذلك - مع أنّ الاجتناب إنّما يتعلّق على الحقيقة بالأعمال دون الأعيان - مبالغة ظاهرة.

و قد تبيّن بما مرّ أنّ( مَنْ ) في قوله:( مِنَ الْأَوْثانِ ) بيانيّة، و ذكر بعضهم أنّها ابتدائيّة، و المعنى: اجتنبوا الرجس الكائن من الأوثان و هو عبادتها، و ذكر آخرون أنّها تبعيضيّة، و المعنى: اجتنبوا الرجس الّذي هو بعض جهات الأوثان و هو عبادتها، و في الوجهين من التكلّف و إخراج معنى الكلام عن استقامته ما لا يخفى.

قوله تعالى: ( حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ ) إلخ، الحنفاء جمع حنيف و هو المائل من الأطراف إلى حاقّ الوسط. و كونهم حنفاء لله ميلهم عن الأغيار و هي الآلهة من دون الله إليه فيتّحد مع قوله غير مشركين به معنى.

و هما أعني قوله:( حُنَفاءَ لِلَّهِ ) و قوله:( غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ) حالان عن فاعل( فَاجْتَنِبُوا ) أي اجتنبوا التقرّب من الأوثان و الإهلال لها حال كونكم مائلين إليه ممّن سواه غير مشركين به في حجّكم فقد كان المشركون يلبّون في الحجّ بقولهم: لبّيك لا شريك لك إلّا شريكاً هو لك تملكه و ما ملك.

و قوله:( وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ ) أي تأخذه بسرعة، شبّه المشرك في شركه و سقوطه به من أعلى درجات الإنسانيّة إلى هاوية الضلال فيصيده الشيطان، بمن سقط من السماء فتأخذه الطير.

و قوله:( أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ ) أي بعيد في الغاية و هو معطوف على( فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ ) تشبيه آخر من جهة البعد.

قوله تعالى: ( ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) ( ذلِكَ ) خبر لمبتدء محذوف أي الأمر ذلك الّذي قلنا، و الشعائر جمع شعيرة و هي العلامة، و شعائر الله الأعلام الّتي نصبها الله تعالى لطاعته كما قال:( إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) و قال:( وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) الآية.

٤٠٩

و المراد بها البدن الّتي تساق هديا و تشعر أي يشقّ سنامها من الجانب الأيمن ليعلم أنّها هدي على ما في تفسير أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) و يؤيّده ظاهر قوله تلوا:( لَكُمْ فِيها مَنافِعُ ) إلخ، و قوله بعد:( وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها ) الآية، و قيل: المراد بها جميع الأعلام المنصوبة للطاعة، و السياق لا يلائمه.

و قوله:( فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) أي تعظيم الشعائر الإلهيّة من التقوى، فالضمير لتعظيم الشعائر المفهوم من الكلام ثمّ كأنّه حذف المضاف و اُقيم المضاف إليه مقامه فأرجع إليه الضمير.

و إضافة التقوى إلى القلوب للإشارة إلى أنّ حقيقة التقوى و هي التحرّز و التجنّب عن سخطه تعالى و التورّع عن محارمه أمر معنويّ يرجع إلى القلوب و هي النفوس و ليست هي جسد الأعمال الّتي هي حركات و سكنات فإنّها مشتركة بين الطاعة و المعصية كالمسّ في النكاح و الزنا، و إزهاق الروح في القتل قصاصاً أو ظلماً و الصلاة المأتيّ بها قربة أو رياء و غير ذلك، و لا هي العناوين المنتزعة من الأفعال كالإحسان و الطاعة و نحوها.

قوله تعالى: ( لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) المحلّ بكسر الحاء اسم زمان بمعنى وقت حلول الأجل، و ضمير فِيها للشعائر، و المعنى على تقدير كون المراد بالشعائر بدن الهدي أنّ لكم في هذه الشعائر - و هي البدن - منافع من ركوب ظهرها و شرب ألبانها عند الحاجة إلى أجل مسمّى هو وقت نحرها ثمّ محلّها أي وقت حلول أجلها للنحر منته إلى البيت العتيق أو بانتهائها إليه، و الجملة في معنى قوله:( هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ) هذا على تفسير أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).

و أمّا على القول بكون المراد بالشعائر مناسك الحجّ فقيل: المراد بالمنافع التجارة إلى أجل مسمّى ثمّ محلّ هذه المناسك و منتهاها إلى البيت العتيق لأنّ آخر ما يأتي به من الأعمال الطواف بالبيت.

قوله تعالى: ( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى‏ ما رَزَقَهُمْ

٤١٠

مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ ) إلى آخر الآية. المنسك مصدر ميميّ و اسم زمان و مكان، و ظاهر قوله:( لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ ) إلخ أنّه مصدر ميميّ بمعنى العبادة و هي العبادة الّتي فيها ذبح و تقريب قربان.

و المعنى: و لكلّ اُمّة - من الاُمم السالفة المؤمنة - جعلنا عبادة من تقريب القرابين ليذكروا اسم الله على بهيمة الأنعام الّتي رزقهم الله أي لستم معشر أتباع إبراهيم أوّل اُمّة شرعت لهم التضحية و تقريب القربان فقد شرعنا لمن قبلكم ذلك.

و قوله:( فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ) أي إذ كان الله سبحانه هو الّذي شرع لكم و للاُمم قبلكم هذا الحكم فإلهكم و إله من قبلكم إله واحد فأسلموا و استسلموا له بإخلاص عملكم له و لا تتقرّبوا في قرابينكم إلى غيره فالفاء في( فَإِلهُكُمْ ) لتفريع السبب على المسبّب و في قوله:( فَلَهُ أَسْلِمُوا ) لتفريع المسبّب على السبب.

و قوله:( وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ) فيه تلويح إلى أنّ من أسلم لله في حجّه مخلصاً فهو من المخبتين، و قد فسّره بقوله:( الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ الصَّابِرِينَ عَلى‏ ما أَصابَهُمْ وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) و انطباق الصفات المعدودة في الآية و هي الوجل و الصبر و إقامة الصلاة و الإنفاق، على من حجّ البيت مسلماً لربّه معلوم.

قوله تعالى: ( وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ ) إلى آخر الآية البدن بالضمّ فالسكون جمع بدنة بفتحتين و هي السمينة الضخمة من الإبل، و السياق أنّها من الشعائر باعتبار جعلها هديا.

و قوله:( فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ ) الصوافّ جمع صافّة و معنى كونها صافّة أن تكون قائمة قد صفّت يداها و رجلاها و جمعت و قد ربطت يداها.

و قوله:( فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ ) الوجوب السقوط يقال: وجبت الشمس أي سقطت و غابت، و الجنوب جمع جنب، و المراد بوجوب جنوبها سقوطها على الأرض على جنوبها و هو كناية عن موتها، و الأمر في قوله:( فَكُلُوا مِنْها ) للإباحة و ارتفاع الحظر، و القانع هو الفقير الّذي يقنع بما

٤١١

اُعطيه سواء سأل أم لا، و المعترّ هو الّذي أتاك و قصدك من الفقراء، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ ) إلى آخر الآية. بمنزلة دفع الدخل كأنّ متوهّماً بسيط الفهم يتوهّم أنّ لله سبحانه نفعاً في هذه الضحايا و لحومها و دمائها فاُجيب أنّ الله سبحانه لن يناله شي‏ء من لحومها و دمائها لتنزّهه عن الجسميّة و عن كلّ حاجة و إنّما يناله التقوى نيلاً معنويّاً فيقرّب المتّصفين به منه تعالى.

أو يتوهّم أنّ الله سبحانه لمّا كان منزّهاً عن الجسميّة و عن كلّ نقص و حاجة و لا ينتفع بلحم أو دم فما معنى التضحية بهذه الضحايا فاُجيب بتقرير الكلام و أنّ الأمر كذلك لكنّ هذه التضحية يصحبها صفة معنويّة لمن يتقرّب بها و هذه الصفة المعنويّة من شأنها أن تنال الله سبحانه بمعنى أن تصعد إليه تعالى و تقرّب صاحبها منه تقريباً لا يبقى معه بينه و بينه حجاب يحجبه عنه.

و قوله:( كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى‏ ما هَداكُمْ ) الظاهر أنّ المراد بالتكبير ذكره تعالى بالكبرياء و العظمة، فالهداية هي هدايته إلى طاعته و عبوديّته و المعنى كذلك سخّرها لكم ليكون تسخيرها وصلة إلى هدايتكم إلى طاعته و التقرّب إليه بتضحيتها فتذكروه بالكبرياء و العظمة على هذه الهداية.

و قيل: المراد بالتكبير معرفته تعالى بالعظمة و بالهداية الهداية إلى تسخيرها و المعنى كذلك سخرّها لكم لتعرفوا الله بالعظمة على ما هداكم إلى طريق تسخيرها.

و أوّل الوجهين أوجه و أمسّ بالسياق فإنّ التعليل عليه بأمر مرتبط بالمقام و هو تسخيرها لتضحّى و يتقرّب بها إلى الله فيذكر تعالى بالكبرياء على ما هدى إلى هذه العبادة الّتي فيها رضاه و ثوابه، و أمّا مطلق تسخيرها لهم بالهداية إلى طريق تسخيرها لهم فلا اختصاص له بالمقام.

و قوله:( وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ) أي الّذين يأتون بالأعمال الحسنة أو بالإحسان و هو الإنفاق في سبيل الله.

٤١٢

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس: في قوله تعالى:( وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ ) إلخ قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أنيس إنّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بعثه مع رجلين أحدهما مهاجريّ و الآخر من الأنصار فافتخروا في الأنساب فغضب عبدالله بن أنيس فقتل الأنصاريّ ثمّ ارتدّ عن الإسلام و هرب إلى مكّة فنزلت فيه:( وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) يعني من لجأ إلى الحرام بإلحاد يعني بميل عن الإسلام.

أقول: نزول الآية فيما ذكر لا يلائم سياقها و رجوع الذيل إلى الصدر و كونه متمّماً لمعناه كما مرّ.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا - إلى قوله -وَ الْبادِ ) قال: نزلت في قريش حين صدّوا رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) عن مكّة، و قوله:( سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ ) قال: أهل مكّة و من جاء من البلدان فهم سواء لا يمنع من النزول و دخول الحرم‏

و في التهذيب، بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء قال: ذكر أبوعبدالله (عليه السلام) هذه الآية:( سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ ) فقال كانت مكّة ليس على شي‏ء منها باب، و كان أوّل من علّق على بابه المصراعين معاوية بن أبي سفيان، و ليس ينبغي لأحد أن يمنع الحاجّ شيئاً من الدور و منازلها.

أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة و تحرير المسألة في الفقه.

و في الكافي، عن ابن أبي عمير عن معاوية قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ:( وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ ) قال: كلّ ظلم إلحاد، و ضرب الخادم في غير ذنب من ذلك الإلحاد.

و فيه، بإسناده عن أبي الصباح الكنانيّ قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن قوله عزّوجلّ:( وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) فقال: كلّ ظلم يظلم

٤١٣

الرجل نفسه بمكّة من سرقة أو ظلم أحد أو شي‏ء من الظلم فإنّي أراه إلحاداً، و لذلك كان يتّقي أن يسكن الحرم.

أقول: و رواه أيضاً في العلل عن أبي الصباح عنه (عليه السلام) و فيه: و لذلك كان ينهى أن يسكن الحرم‏ ، و في معنى هذه الرواية و الّتي قبلها روايات اُخر.

و في الكافي، أيضاً بإسناده عن الربيع بن خثيم قال: شهدت أباعبدالله (عليه السلام) و هو يطاف به حول الكعبة في محمل و هو شديد المرض فكان كلّما بلغ الركن اليمانيّ أمرهم فوضعوه بالأرض فأخرج يده من كوّة المحمل حتّى يجرّها على الأرض ثمّ يقول: ارفعوني.

فلمّا فعل ذلك مراراً في كلّ شوط قلت له: جعلت فداك يا ابن رسول الله إنّ هذا يشقّ عليك فقال: إنّي سمعت الله عزّوجلّ يقول:( لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ) فقلت: منافع الدنيا أو منافع الآخرة؟ فقال: الكلّ.

و في المجمع، في الآية و قيل: منافع الآخرة و هي العفو و المغفرة و هو المرويّ عن أبي عبدالله (عليه السلام).

أقول: و إثبات إحدى المنفعتين لا ينفي العموم كما في الرواية السابقة.

و في العيون، فيما كتبه الرضا (عليه السلام) إلى محمّد بن سنان في جواب مسائله في العلل: و علّة الحجّ الوفادة إلى الله عزّوجلّ و طلب الزيادة و الخروج من كلّ ما اقترف و ليكون تائباً ممّا مضى مستأنفاً لما يستقبل، و ما فيه من استخراج الأموال و تعب الأبدان، و حظرها عن الشهوات و اللّذّات و التقرّب بالعبادة إلى الله عزّوجلّ و الخضوع و الاستكانة. و الذلّ شاخصاً في الحرّ و البرد و الأمن و الخوف، دائباً في ذلك دائماً.

و ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع، و الرغبة و الرهبة إلى الله تعالى، و منه ترك قساوة القلب و جساؤة النفس و نسيان الذكر و انقطاع الرجاء و الأمل، و تجديد الحقوق و حظر النفس عن الفساد، و منفعة من في شرق الأرض و غربها و من في البرّ و البحر ممّن يحجّ و من لا يحجّ من تاجر و جالب و بائع و مشتر و كاسب

٤١٤

و مسكين، و قضاء حوائج أهل الأطراف و المواضع الممكن لهم الاجتماع فيها كذلك ليشهدوا منافع لهم.

أقول: و روى فيه أيضاً ما يقرب منه عن الفضل بن شاذان عنه (عليه السلام).

و في المعاني، بإسناده عن أبي الصباح الكنانيّ عن أبي عبدالله (عليه السلام): في قول الله عزّوجلّ:( وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ ) قال: هي أيّام التشريق.

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر عن الباقر و الصادق (عليهما السلام)، و هناك ما يعارضها كما يدلّ على أنّ الأيّام المعلومات عشر ذي الحجّة، و ما يدلّ على أنّ المعلومات عشر ذي الحجّة و المعدودات أيّام التشريق، و الآية أشدّ ملاءمة لما يدلّ على أنّ المراد بالمعلومات أيّام التشريق.

و في الكافي، بإسناده عن أبي الصباح الكنانيّ عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى:( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) قال: هو الحلق و ما في جلد الإنسان.

و في الفقيه، في رواية البزنطيّ عن الرضا (عليه السلام) قال: التفث تقليم الأظفار و طرح الوسخ و طرح الإحرام عنه.

و في التهذيب، بإسناده عن حمّاد الناب قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ:( وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) قال: هو طواف النساء.

أقول: و في معنى الروايات الثلاث روايات اُخرى عنهم (عليه السلام).

و في الكافي، بإسناده عن أبان عمّن أخبره عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: لم سمّى الله البيت العتيق؟ قال: هو بيت حرّ عتيق من الناس لم يملكه أحد.

و في تفسير القمّيّ، حدّثني أبي عن صفوان بن يحيى عن أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث يذكر فيه غرق قوم نوح قال: و إنّما سمّي البيت العتيق لأنّه اُعتق من الغرق.

و في الدرّ المنثور، أخرج البخاريّ في تاريخه و الترمذيّ و حسّنه و ابن جرير و الطبرانيّ و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل عن عبدالله بن الزبير قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): إنّما سمّى الله البيت العتيق لأنّ الله أعتقه من

٤١٥

الجبابرة فلم يظهر عليه جبّار قط.

أقول: أمّا هذه الرواية فالتاريخ لا يصدّقها و قد خرّب البيت ثمّ غيّره عبدالله بن الزبير نفسه ثمّ الحصين بن نمير بأمر يزيد ثمّ الحجاج بأمر عبدالملك ثمّ القرامطة، و يمكن أن يكون مراده (صلّي الله عليه وآله وسلّم) الإخبار عمّا مضى على البيت و أمّا الرواية السابقة عليها فلم تثبت.

و فيه، أخرج سفيان بن عيينة و الطبرانيّ و الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في سننه عن ابن عبّاس قال: الحجر من البيت لأنّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) طاف بالبيت من ورائه، قال الله:( وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) .

أقول: و في معناه روايات عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).

و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و الحاكم و صحّحه عن جبير بن مطعم: أنّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت و صلّى أيّ ساعة شاء من ليل أو نهار.

و في المجمع:( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ ) و روى أصحابنا أنّ اللعب بالشطرنج و النرد و سائر أنواع القمار من ذلك.( وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) و روى أصحابنا أنّه يدخل فيه الغناء و سائر الأقوال الملهية.

و فيه، و روى أيمن بن خزيم عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أنّه خطبنا فقال: أيّها الناس عدلت شهادة الزور بالشرك بالله ثمّ قرأ:( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) .

أقول: و روى ما في الذيل في الدرّ المنثور، عن أحمد و الترمذيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن أيمن.

و في الكافي، بإسناده عن أبي الصباح الكنانيّ عن أبي عبدالله (عليه السلام): في قول الله عزّوجلّ:( لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ) قال: إن احتاج إلى ظهرها ركبها من غير عنف عليها و إن كان لها لبن حلبها حلاباً لا ينهكها(١) .

____________________

(١) نهك الضرع: استوفى ما فيه.

٤١٦

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة عن عليّ قال: يركب الرجل بدنته بالمعروف.

أقول: و روى أيضاً نظيره عن جابر عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم).

و في تفسير القمّيّ قوله:( فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ) قال: العابدين.

و في الكافي، بإسناده عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام): في قول الله تعالى:( فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ ) قال: ذلك حين تصفّ للنحر تربط يديها ما بين الخفّ إلى الركبة، و وجوب جنوبها إذا وقعت على الأرض.

و فيه، بإسناده عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله عن أبي عبدالله (عليه السلام): في قول الله:( فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها ) قال: إذا وقعت على الأرض( فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ ) قال: القانع الّذي يرضى بما أعطيته و لا يسخط و لا يكلح و لا يلوي شدقه غضبا، و المعترّ المارّ بك لتطعمه.

و في المعاني، عن سيف التمّار قال: قال أبوعبدالله (عليه السلام): إنّ سعيد بن عبدالملك قدم حاجّا فلقي أبي فقال: إنّي سقت هديا فكيف أصنع؟ فقال: أطعم أهلك ثلثا، و أطعم القانع ثلثا، و أطعم المسكين ثلثا. قلت: المسكين هو السائل؟ قال: نعم، و القانع يقنع بما أرسلت إليه من البضعة فما فوقها، و المعترّ يعتريك لا يسألك.

أقول: و الروايات في المعاني السابقة عن الأئمّة كثيرة و ما نقلناه نبذة منها.

و في جوامع الجامع في قوله تعالى:( لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها ) وروي أنّ أهل الجاهليّة كانوا إذا نحروا لطخوا البيت بالدم فلمّا حجّ المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت.

أقول: روى ما في معناه في الدرّ المنثور، عن ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عبّاس.

و في تفسير القمّيّ قوله عزّوجلّ:( لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى‏ ما هَداكُمْ ) قال: التكبير أيّام التشريق في الصلوات بمنى في عقيب خمس عشر صلاة، و في الأمصار عقيب عشرة صلوات.

٤١٧

( سورة الحجّ الآيات ٣٨ - ٥٧)

إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ( ٣٨ ) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ( ٣٩ ) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ( ٤٠ ) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ( ٤١ ) وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ( ٤٢ ) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ( ٤٣ ) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَىٰ فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( ٤٤ ) فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ( ٤٥ ) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ( ٤٦ ) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ( ٤٧ ) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ( ٤٨ ) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ٤٩ ) فَالَّذِينَ آمَنُوا

٤١٨

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( ٥٠ ) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( ٥١ ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٥٢ ) لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( ٥٣ ) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٥٤ ) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ( ٥٥ ) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( ٥٦ ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ( ٥٧ )

( بيان)

تتضمّن الآيات إذن المؤمنين في القتال و هي - كما قيل - أوّل ما نزلت في الجهاد و قد كان المؤمنون منذ زمان يسألون النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أن يأذن لهم في قتال المشركين فيقول لهم: لم اُؤمر بشي‏ء في القتال، و كان يأتيه كلّ يوم و هو بمكّة قبل الهجرة أفراد من المؤمنين بين مضروب و مشجوج و معذّب بالفتنة يشكون إليه ما يلقونه من عتاة مكّة من المشركين فيسلّيهم و يأمرهم بالصبر و انتظار الفرج حتّى نزلت الآيات و هي تشتمل على قوله:( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ ) إلخ.

و هي - كما تقدّم - أوّل ما نزلت في الجهاد، و قيل: أوّل ما نزل فيه قول تعالى:

٤١٩

( وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ) البقرة: ١٩٠، و قيل: إنّه قوله:( إِنَّ اللهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ ) الآية: التوبة: ١١١.

و الاعتبار يستدعي أن تكون آية سورة الحجّ هي الّتي نزلت أوّلاً و ذلك لاشتمالها على الإذن صريحاً و احتفافها بالتوطئة و التمهيد و تهييج القوم و تقوية قلوبهم و تثبيت أقدامهم بوعد النصر تلويحاً و تصريحاً و ذكر ما فعل الله بالقرى الظالمة قبلهم و كلّ ذلك من لوازم تشريع الأحكام الهامّة و بيانها و إبلاغها لأوّل مرّة و خاصّة الجهاد الّذي بناؤه على أساس التضحية و التفدية و هو أشقّ حكم اجتماعيّ و أصعبه في الإسلام و أمسّه بحفظ المجتمع الدينيّ قائماً على ساقه فإنّ إبلاغ مثله لأوّل مرّة أحوج إلى بسط الكلام و استيقاظ الأفهام كما هو مشاهد في هذه الآيات.

فقد افتتحت أوّلاً بأنّ الله هو مولى المؤمنين المدافع عنهم. ثمّ نصّ على إذنهم في القتال و ذكر أنّهم مظلومون و القتال هو السبيل لحفظ المجتمعات الصالحة و وصفهم بأنّهم صالحون لعقد مجتمع دينيّ يعمل فيه الصالحات ثمّ ذكر ما فعله بالقرى الظالمة قبلهم و أنّه سيأخذهم كما أخذ الّذين قبلهم.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) المدافعة مبالغة في الدفع، و الخوّان اسم مبالغة من الخيانة و كذا الكفور من الكفران و المراد بالّذين آمنوا المؤمنون من الاُمّة و إن انطبق بحسب المورد على المؤمنين في ذلك الوقت لأنّ الآيات تشرّع القتال و لا يختصّ حكمه بطائفة دون طائفة، و المورد لا يكون مخصّصاً.

و المراد بكلّ خوّان كفور المشركون، و إنّما كانوا مكثرين في الخيانة و الكفران لأنّ الله حملهم أمانة الدين الحقّ و جعلها وديعة عند فطرتهم لينالوا بحفظه و رعايته سعادة الدارين و عرّفهم إيّاه من طريق الرسالة فخانوه بالجحد و الإنكار و غمّرهم بنعمه الظاهرة و الباطنة فكفروا بها و لم يشكروه بالعبوديّة.

و في الآية تمهيد لما في الآية التالية من الإذن في القتال فذكر تمهيدا أنّ الله يدافع عن الّذين آمنوا و إنّما يدفع عنهم المشركين لأنّه يحبّ هؤلاء و لا يحبّ

٤٢٠