الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  8%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96752 / تحميل: 5840
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

ليكون بمنجاة من شرور الأمويّين.

كلمة الإمام الحسن :

وبادر ريحانة رسول الله 6 الإمام الحسن 7 فصافح عمّه أبا ذرّ وألقى عليه هذه الكلمات :

« يا عمّاه ، لو لا أنّه ينبغي للمودّع أن يسكت ، وللمشيّع أن ينصرف لقصر الكلام وإن طال الأسف ، وقد أتى القوم إليك ما ترى ، فضع عنك الدّنيا بتذكّر فراغها ، وشدّة ما اشتدّ منها برجاء ما بعدها ، واصبر حتّى تلقى نبيّك وهو عنك راض ».

وألمّت هذه الكلمات بما يحمل الإمام الحسن من أسى بالغ على ما حلّ بعمّه أبي ذرّ من الخطوب التي كانت من أجل إحقاق الحقّ ورفع كلمة الإسلام.

كلمة الإمام الحسين :

و ألقى الإمام الحسين 7 نظرة الوداع على أبي ذرّ وخاطبه بهذه الكلمات :

« يا عمّاه ، إنّ الله تبارك وتعالى قادر أن يغيّر ما قد ترى ، إنّ الله كلّ يوم هو في شأن ، وقد منعك القوم دنياهم ، ومنعتهم دينك ، فما أغناك عمّا منعوك ، وأحوجهم إلى ما منعتهم ، فاسأل الله الصّبر ، واستعذ به من الجشع والجزع ، فإنّ الصّبر من الدّين والكرم ، وإنّ الجشع لا يقدّم رزقا ، والجزع لا يؤخّر أجلا ».

وألقت هذه الكلمات الأضواء على ثورة أبي ذرّ التي كانت من أجل الصالح العامّ ، وحكت خوف الأمويّين منه ، فقد خافوه على مناصبهم ، وخافوه على الأموال التي اختلسوها من المسلمين.

كلمة عمّار :

وتقدّم الصحابي العظيم الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر وعيناه تفيض من الدموع ، فخاطب صاحبه وخليله أبا ذرّ بهذه الكلمات :

٢٦١

« لا آنس الله من أوحشك ، ولا آمن من أخافك ، أما والله! لو أردت دنياهم لآمنوك ، ولو رضيت أعمالهم لأحبّوك وما منع الناس أن يقولوا بقولك إلاّ الرضا بالدنيا والجزع من الموت ، ومالوا إلى سلطان جماعتهم عليه ، والملك لمن غلب فوهبوا لهم دينهم ، ومنحهم القوم دنياهم فخسروا الدنيا والآخرة ألا ذلك هو الخسران المبين ».

كلمة أبي ذرّ :

وقابل أبو ذرّ الاسرة النبوية وعيناه تفيضان دموعا ، وخاطبهم بهذه الكلمات قائلا :

« رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة! إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله 6 ، ما لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم ، إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز ، كما ثقلت على معاوية بالشام ، وكره أن اجاور أخاه وابن خاله بالمصرين ـ الكوفة والبصرة ـ فأفسد الناس عليهما ، فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلاّ الله ، والله! ما اريد إلاّ الله صاحبا وما أخشى مع الله وحشة ».

وتحرّكت راحلة أبي ذرّ تطوي البيداء حتى انتهت إلى الربذة ليموت فيها جوعا وفي يد عثمان ذهب المسلمين يصرفه على بني أميّة وآل أبي معيط ، ويحرمه على أبي ذرّ المصلح العظيم ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

غضب عثمان على الإمام :

ولمّا قفل الإمام 7 راجعا من توديع أبي ذرّ استقبلته جماعة من الناس فأخبروه بغضب عثمان لأنّه خالف أوامره التي حرّم فيها توديع أبي ذرّ ، فأجابهم الإمام : « غضب الخيل على اللّجم » (1) ، وبادر عثمان فصاح بالإمام :

__________________

(1) يضرب مثلا لمن يغضب غضبا لا ينتفع به.

٢٦٢

ما حملك على ردّ رسولي؟ ..

« أمّا مروان فإنّه استقبلني يردّني فرددته عن ردّي ، وأمّا أمرك فلم أردّه ».

أولم يبلغك أنّي قد نهيت الناس عن تشييع أبي ذرّ؟

« أو كلّ ما أمرتنا به من شيء يرى طاعة الله والحقّ في خلافه اتّبعنا فيه أمرك؟!! ».

أقد مروان ..

« وما أقيده؟ ».

ضربت بين اذني راحلته ..

« أمّا راحلتي فهي تلك ، فإن أراد أن يضربها كما ضربت راحلته فليفعل ، وأمّا أنا فو الله! لئن شتمني لأشتمنّك أنت بمثلها ، لا أكذب فيه ولا أقول إلاّ حقّا ».

ولم لا يشتمنّك إذ شتمته ، فو الله! ما أنت عندي بأفضل منه ..

وتألّم الإمام من عثمان الذي ساوى بينه وبين الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم ، ونسي جهاد الإمام ومنزلته من النبيّ وأنّه منه بمنزلة هارون من موسى ، وردّ الإمام على عثمان بأعنف القول قائلا له :

« إليّ تقول هذا القول ، وبمروان تعدلني؟ فأنا والله! أفضل منك ، وأبي أفضل من أبيك ، وأمّي أفضل من امّك ، وهذه نبلي قد نثلتها » (1) .

وسكت عثمان ولم يطق جوابا ، وتركه الإمام يموج في تيارات من الغضب ، قد ورم أنفه وانتفخت أوداجه.

3 ـ عبد الله بن مسعود :

وعبد الله بن مسعود القارئ من ألمع الصحابة ومن خيارهم ، وهو من الناقمين

__________________

(1) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 375 ـ 377.

٢٦٣

على عثمان لمّا استقرض الوليد من بيت المال فطالبه ابن مسعود بردّ ما استقرضه ، فأبى الوليد وكتب إلى عثمان يخبره بذلك ، فغضب عثمان وكتب إلى ابن مسعود إنّما أنت خازن لنا ، وغاظ ذلك ابن مسعود وألقى المفاتيح وقفل راجعا إلى يثرب ، فلمّا انتهى إليها وجد عثمان على المنبر يخطب ، فلمّا رأى ابن مسعود قال يخاطب الحاضرين :

قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقيء ويسلح ..

وردّ عليه ابن مسعود قائلا :

لست كذلك ، ولكنّي صاحب رسول الله 6 يوم بدر ويوم بيعة الرضوان ..

واندفعت عائشة منكرة على عثمان قائلة له :

أي عثمان ، أتقول هذا لصاحب رسول الله؟ ..

وأمر عثمان جلاوزته بإخراج ابن مسعود من الجامع إخراجا عنيفا ، وانبرى إليه أبو عبد الله بن زمعة فضرب به الأرض ، وقيل بل احتمله ( يحموم ) غلام عثمان فاحتمله ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الأرض فانكسر ضلعه ، و ثار الإمام 7 فخاطب عثمان بعنف قائلا :

« يا عثمان ، أتفعل هذا بصاحب رسول الله بقول الوليد بن عقبة؟ ».

فقال عثمان :

ما بقول الوليد فعلت هذا ، ولكنّي وجّهت زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة ، فقال له ابن مسعود : إن دم عثمان حلال ..

وأنكر عليه الإمام أن يأخذ بقول زبيد قائلا :

« أحلت عن زبيد على غير ثقة » (1) .

__________________

(1) أنساب الأشراف 5 : 36.

٢٦٤

وحمل الإمام ابن مسعود إلى منزله ، وقام برعايته حتى أبل من مرضه ، وقاطعه عثمان وهجره ، وفرض عليه الاقامة الجبرية في يثرب ، وقطع عنه عطاءه ..

ومرض ابن مسعود مرضه الّذي توفّي فيه فدخل عليه عثمان عائدا فقال له :

ما تشتكي؟

ذنوبي؟

ما تشتهي؟

رحمة ربّي.

أدعو لك طبيبا؟

الطبيب أمرضني.

آمر لك بعطائك؟

منعتني عنه وأنا محتاج إليه ، وتعطينيه وأنا مستغني عنه! يكون لولدك.

رزقهم على الله! استغفر لي يا أبا عبد الرحمن.

اسأل الله أن يأخذ لي منك بحقّي (1) .

وانصرف عثمان ولم يفز برضا ابن مسعود ولمّا ثقل حاله أوصى أن لا يصلّي عليه عثمان ، وأن يصلّي عليه صاحبه وخليله عمّار بن ياسر ولمّا توفّي قامت الصفوة من صحابة النبيّ 6 بتجهيزه ودفنه ، ولم يعلموا عثمان بذلك ، فلمّا علم غضب ، وقال : سبقتموني؟ فردّ عليه عمّار :

إنّه أوصى أن لا تصلّي عليه ..

__________________

(1) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 253 ـ 254.

٢٦٥

وقال ابن الزبير :

لأعرفنك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زوّدتني زادي (1)

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض المعارضين لعثمان والناقمين عليه وكان من أهمّ ما نقموا عليه من أعماله ما يلي :

1 ـ استبداده بأموال الدولة وإنفاقها على اسرته وذويه في حين أنّ المجاعة والحرمان قد عمّتا البلاد.

2 ـ منحه المناصب العالية في الدولة لبني أميّة وآل أبي معيط.

3 ـ تنكيله بخيار الصحابة الذين طالبوه بالعدل والكفّ عن سياسته الملتوية ، ولم يستجب لهم وإنّما نكّل بهم أفظع التنكيل وأقساه ، كما ذكرنا ذلك.

الثورة على عثمان :

وكان من الطبيعي أن تندلع الثورة على عثمان بعد ما اقترفه من الأحداث الجسام ، ولم تكن عفوية ، وإنّما كانت نتيجة للنضج الاجتماعي وكانت إصلاحية إلى حدّ كبير ـ كما يقول العلاّمة العلائلي ـ :

لقد شاع التنافر في جميع الأوساط وأخذت الأندية والمجالس تتحدّث عن مظالم عثمان ، وسوء سياسته (2) .

مذكرة المهاجرين لأهل مصر :

ورفع المهاجرون وخيار الصحابة مذكّرة لأهل مصر يستنجدون بهم للقيام بتغيير نظام الحكم القائم ، وهذا نصّ مذكّرتهم :

__________________

(1) مستدرك الحاكم 7 : 163. البداية والنهاية 3 : 13.

(2) الإمام الحسين 7 : 66.

٢٦٦

من المهاجرين الأوّلين وبقيّة الشورى إلى من بمصر من الصحابة والتابعين.

أمّا بعد ، أن تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله 6 قبل أن يسلبها أهلها ، فإنّ كتاب الله قد بدّل ، وسنّة رسوله قد غيّرت ، وأحكام الخليفتين قد بدّلت ، فننشد الله من قرأ كتابنا من بقيّة أصحاب رسول الله 6 والتابعين بإحسان إلاّ أقبل إلينا ، وأخذ الحقّ لنا وأعطاناه ، فاقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، وأقيموا الحقّ على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيّكم ، وفارقكم عليه الخلفاء ، غلبنا على حقّنا ، واستولى على فيئنا ، وحيل بيننا وبين أمرنا ، وكانت الخلافة بعد نبيّنا خلافة نبوة ورحمة ، وهي اليوم ملك عضوض ، من غلب على شيء أكله (1) .

وحفلت هذه المذكرة بالأخطاء التي ارتكبها عثمان وهي :

1 ـ تبديل كتاب الله وإلغاء أحكامه ونبذ نصوصه.

2 ـ تغيير سنّة الرسول.

3 ـ تبديل أحكام الخليفتين.

4 ـ استئثار السلطة بالفيء.

5 ـ صرف الخلافة الإسلامية عن مفاهيمها الخيرة إلى ملك عضوض (2) .

وتحفّز المصلحون حينما انتهت إليهم هذه المذكّرة إلى إرسال وفد للاطّلاع على أوضاع الخليفة والتعرف عليها.

مذكرة أخرى لأهل الثغور :

وأرسل صحابة الرسول 6 مذكّرة أخرى لأهل الثغور جاء فيها :

إنّكم إنّما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عزّ وجلّ تطلبون دين محمّد 6 ،

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 : 35.

(2) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 378 ـ 380.

٢٦٧

فإنّ دين محمّد قد أفسده خليفتكم فأقيموه (1) .

كما أوفدت الجبهة المعارضة مذكّرة أخرى لأهل الأمصار ، وقد أشاعت النقمة والسخط على حكومة عثمان.

وفود الأمصار :

واستجابت الأمصار الإسلامية لنداء الصحابة ، فأرسلت وفودها إلى المدينة للاطّلاع على حال عثمان ، أمّا الوفود فهي :

1 ـ الوفد المصري :

وأرسلت مصر وفدا كبيرا قدّر بأربعمائة شخص ، وقيل بأكثر ، بقيادة المؤمن محمّد بن أبي بكر وعبد الرحمن بن عديس البلوي.

2 ـ الوفد الكوفي :

وأرسلت الكوفة وفدا بقيادة الزعيم الكبير مالك الأشتر ، وزيد بن صوحان العبدي ، وزياد بن النضر الحارثي ، وعبد الله بن الأصمّ العامري ، وعمرو بن الأهثم.

3 ـ الوفد البصري :

وأوفدت البصرة مائة رجل بقيادة حكيم بن جبلة ، ثمّ أوفدت خمسين رجلا وفيهم ذريح بن عباد العبدي وبشر بن شريح القيسي وغيرهم من الوجوه والأعيان (2) .

واستقبلت الصحابة الوفود بمزيد من الحفاوة والتكريم وحرّضتها على استقالة عثمان والاطاحة بحكومته.

__________________

(1) تاريخ الطبري 5 : 115. الكامل في التاريخ 5 : 70.

(2) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 381 ـ 382.

٢٦٨

مذكّرة المصريّين لعثمان :

ورفع الوفد المصري مذكّرة لعثمان يدعوه فيها إلى الاستقامة في سلوكه والتوازن في سياسته ، وهذا نصّها :

أمّا بعد ، فاعلم أنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ، فالله الله ، ثمّ الله الله ، فإنّك على دنيا زائلة فاستقم معها ، ولا تنس نصيبك من الآخرة ، فلا تسوّغ لك الدنيا ، وأعلم أنّا لله ، ولله نغضب ، وفي الله نرضى ، وأنّا لا نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة أو ضلالة مجلحة مبلجة (1) ، فهذه مقالتنا لك ، وقضيتنا إليك ، والله عذيرنا منك والسلام » (2) .

وحوت هذه المذكّرة الدعوة إلى الاصلاح والاستقامة ، وقد قرأها عثمان بإمعان ، وحوله المصريّون قد أحاطوا به ، فبادر المغيرة بن شعبة فطلب منه أن يتكلّم مع المصريّين ، فأذن له ، ولمّا أراد أن يفتح معهم صاحوا جميعا :

يا أعور وراءك.

يا فاجر وراءك.

يا فاسق وراءك.

ورجع المغيرة خائبا لم تفلح وساطته ، ودعا عثمان عمرو بن العاص وطلب منه أن يكلّم القوم ، فبادر تجاههم وسلّم عليهم ، فلم يردّ أحد منهم 7 لعلمهم بفسقه وصاحوا به :

ارجع يا عدوّ الله ..

ارجع يا ابن النابغة ، لست عندنا بأمين ولا مأمون ..

__________________

(1) مجلحة : هي الإقدام على الشيء. مبلجة : واضحة بيّنة.

(2) تاريخ الطبري 5 : 111. أنساب الأشراف 5 : 64 ـ 65.

٢٦٩

ورجع ابن العاص خائبا في وفادته ، فقد قوبل بمزيد من الاستهانة.

استجارته بالإمام :

وسدّت على عثمان جميع الوسائل ، فلم ير هناك طريقا مفتوحا ليتخلّص به ممّا هو فيه من المحنة ، ورأى أنّه لا ملجأ له إلاّ الإمام أمير المؤمنين 7 ، فاستغاث به ، فأجابه الإمام بعد أن شرط عليه أن يدعو القوم ويلتزم لهم بالسير على كتاب الله وسنّة نبيّه ، فأجابه إلى ذلك ، وانطلق الإمام صوب الثوّار وهو يحمل لهم الضمان والالتزام بجميع ما طلبوه ، فلمّا رأوا الإمام قالوا له :

وراءك؟

فأجابهم الإمام بالالتزام الكامل بجميع مطالبهم قائلا :

« تعطون كتاب الله ، وتعتبون من كلّ ما سخطتم عليه ».

أتضمن ذلك؟ ..

« نعم ».

رضينا.

وأقبل وجوه الوفد وأشرافهم مع الإمام فدخلوا على عثمان وعاتبوه على سياسته ، وطلبوا منه أن يغيّر سلوكه ويسير بين المسلمين بسياسة قوامها العدل الخالص والحقّ المحض ، فأجابهم إلى ذلك.

كتاب عثمان :

وكتب عثمان إلى الوفود التي أحاطت به هذا الكتاب والتزم بتنفيذ ما فيه ، وهذا نصّه : هذا كتاب من عبد الله عثمان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين ، إنّ لكم أن أعمل فيكم بكتاب الله وسنّة نبيّه ، يعطى المحروم ، ويؤمن الخائف ، ويردّ المنفي ، ولا يجمر في البعوث ، ويوفّر الفيء ، وعليّ بن أبي طالب

٢٧٠

ضمين للمؤمنين ، وعلى عثمان الوفاء بما في هذا الكتاب.

وشهد فيه كلّ من الزبير بن العوّام ، وطلحة بن عبيد الله ، وعبد الله بن عمر ، وزيد بن ثابت ، وسهل بن حنيف ، وأبو أيّوب خالد بن زيد ، وكان توقيعه والشهادة عليه سنة ( 35 ه‍ ) (1) .

واستلم الثوّار الكتاب ، وانصرفوا إلى جماعتهم ، وطلب الإمام من عثمان أن يخرج إلى الناس ويعلن لهم تنفيذ ما أرادوا ، ففعل عثمان ذلك ، وقد أعطاهم عهد الله وميثاقه أن يسير فيهم بكتاب الله وسنّة نبيّه ، ويوفّر لهم الفيء ولا يؤثر به أحدا من بني أميّة ، وقفل المصريون راجعين إلى بلادهم.

نقضه للعهد :

ومن المؤسف أنّ عثمان نقض ما قطعه على نفسه ولم يف للمسلمين بما عاهدهم عليه ، أمّا سبب ذلك فتعزوه مصادر التاريخ إلى مروان الذي كان وزيرا ومستشارا له ، فقد لامه على ما أعطاه للمصريّين من العهد وطلب منه نقض ذلك ، فامتنع من إجابته إلاّ أنّه أصر عليه ، فاستجاب له ، فخرج إلى الناس واعتلى المنبر وقال : أمّا بعد ، إنّ هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر ، فلمّا تيقّنوا أنّه باطل ما بلغهم رجعوا إلى بلادهم وقطع عليه ابن العاص كلامه وقال له :

اتّق الله يا عثمان! فإنّك قد ركبت نهابير (2) وركبناها معك ، فتب إلى الله نتب معك.

فصاح به عثمان :

وإنّك هناك يا ابن النابغة! قملت والله! جبّتك منذ تركتك من العمل ..

__________________

(1) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 383 ـ 384.

(2) النهابير : المهالك.

٢٧١

وارتفعت أصوات الانكار من جميع جنبات المسجد وهي ذات لهجة واحدة :

اتّق الله يا عثمان! اتّق الله يا عثمان! (1) .

وانهار أمام هذا الحشد الهائل من الانكار ولم يدر ما يقول ، ولم يجد بدّا من إعلان التوبة مرّة ثانية ، فتاب وندم على ما فرّط في أمر نفسه.

استنجاده بمعاوية :

وأحاط الثوّار بعثمان لأنّه لم يقلع عن سياسته ، ولا يغيّر ولا يبدّل أي شيء منها ، وطالبوه بالاستقالة من منصبه فأبى ، ورأى أنّ خير وسيلة له أن يستنجد بابن عمّه معاوية ليبعث له قوّة عسكرية من أهل الشام تحميه من الثوّار ، فكتب إليه :

أمّا بعد ، فإنّ أهل المدينة قد كفروا ، وخلعوا الطاعة ونكثوا البيعة ، فابعث إليّ من قبلك مقاتلة أهل الشام على صعب وذلول (2) .

وحمل الكتاب مسوّر بن مخرمة ، وأخذ يجدّ في السير حتى انتهى إلى معاوية ، فناوله الكتاب وقال له :

يا معاوية ، انّ عثمان مقتول ، فانظر فيما كتب به إليك.

وسخر منه معاوية وأجابه :

يا مسوّر ، إنّي مصرّح أنّ عثمان بدأ فعمل بما يحب الله ورسوله ويرضاه ، ثمّ غيّر فغيّر الله عليه ، أفيتهيّأ لي أن أردّ ما غيّر الله عزّ وجلّ (3) ؟

__________________

(1) تاريخ الطبري 5 : 110. أنساب الأشراف 5 : 74.

(2) الكامل في التاريخ 5 : 67. تاريخ اليعقوبي 2 : 150.

(3) فتوح البلدان 2 : 218.

٢٧٢

ولم يبد معاوية أي اهتمام بشأن عثمان ، وكان يترقّب قتله ليتّخذ من دمه ورقة رابحة يطلب بها المطالبة بدمه.

وقد تنكّر معاوية لعثمان ، ولم يستجب له في وقت محنته.

يقول الدكتور محمّد طاهر دروش :

وإذا كان هناك وزر في قتل عثمان فوزره على معاوية ودمه في عنقه ، ومسئوليّته عن ذلك لا تدفع ، فهو أولى الناس به ، وأعظم الرجال شأنا في دولته ، وقد دعاه فيمن دعا ، يستشيره في هذا الأمر ، وهو داهية الدهاة ، فما نهض إليه برأيه ، ولا دافع عنه بجنده ، وكأنّه قد استطال ـ كما استطال غيره ـ حياته ، فترك الأيام ترسم بيدها مصيره ، وتحدّد نهايته ، فإذا جاز لأحد أن يظنّ بعلي أو بطلحة والزبير تقصيرا في حقّ عثمان فمعاوية هو المقصّر ، وإذا جاز أن يلام أحد غير عثمان فيما جرى فمعاوية هو الملوم (1) .

وكتب عثمان رسائل أخرى إلى أهل الأمصار يستنجد بهم ويطلب منهم المعونة لرفع الحصار عنه ، إلاّ أنّه لم يستجب أي أحد منهم لعلمهم بالأحداث الجسام التي اقترفها ..

الحصار على عثمان :

وفرض الثوّار الحصار على عثمان ، وأحاطوا بداره وهم يهتفون بسقوطه ، ويطالبونه بالاستقالة من منصبه ، وفي أثناء تلك المحنة الحازية التي أحاطت بعثمان انبرى مروان إلى الثوّار فأشعل نار الثورة في نفوسهم ودفعهم إلى الاطاحة بحكم عثمان قائلا لهم :

ما شأنكم؟ كأنّكم قد جئتم لنهب ، شاهت الوجوه تريدون أن تنزعوا ملكنا

__________________

(1) الخطابة في صدر الإسلام 2 : 23.

٢٧٣

من أيدينا أخرجوا عنّا ..

وكانت هذه الكلمات الطائشة قد أشعلت فتيل الحرب على عثمان ، ونقلت إلى الإمام أمير المؤمنين 7 ، فخفّ مسرعا إلى عثمان وقال له :

« أما رضيت من مروان ، ولا رضي منك إلاّ بتحرّفك عن دينك وعن عقلك ، مثل جمل الظّعينة يقاد حيث يشاء ربّه ، والله! ما مروان بذي رأي في دينه ولا في نفسه ، وأيم الله لأراه يوردك ولا يصدرك ، وما أنا عائذ بعد مقامي هذا لمعاتبتك ، أذهبت شرفك ، وغلبت على أمرك ».

وتركه الإمام وانصرف عنه ، والثوّار قد أحاطوا به ، والتفتت نائلة زوج عثمان إلى مروان وبني أميّة فقالت لهم :

أنتم والله! قاتلوه وميتّموا أطفاله ..

والتفتت إلى زوجها تحذّره من مروان قائلة له :

إنّك متى أطعت مروان قتلك ..

لقد كان مروان من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى قتل عثمان ، فقد أطاعه عثمان إطاعة عمياء ، وهو يدفع به إلى مهالك من دون أن يحسّ عثمان بذلك.

يوم الدار :

واندلعت نيران الثورة فقد نفد صبر الثوّار ، فلم يستقل عثمان من منصبه ، وقد أحاطوا بداره ، وقد شهروا سيوفهم ، فخرج إليهم مروان مدافعا عنه ، فبرز إليه عروة بن شيم الليثي فضربه على قفاه بالسيف فخر لوجهه صريعا ، وقام إليه عبيد بن رفاعة الزرقي ، فأراد أن يقطع رأسه فعذلته فاطمة الثقيفة وقالت له :

إن كنت تريد قتله ، فقد قتلته ، فما تصنع بلحمه أن تبضعه ، فاستحى منها وتركه.

٢٧٤

وتسلّق الثوّار عليه الدار ، ولم يكن عنده أحد يدافع عنه ، فقد ورمت منه القلوب ، ومجّته النفوس ، ورماه الناس بالحجار ونادوه :

لسنا نرميك ، بل الله يرميك ..

واحتفّ به بعض الأمويّين يدافعون عنه وقد نشب بينهم وبين الثوّار قتال عنيف ، وقد فرّ وانهزم خالد بن عقبة بن أبي معيط من ساحة القتال ، وإليه يشير عبد الرحمن بن سيحان بقوله :

يلومونني في الدار إن غبت عنهم

وقد فرّ عنهم خالد وهو دارع

وقتل من أصحاب عثمان زياد بن نعيم الفهري ، والمغيرة بن الأخنس ، ونيار بن عبد الله الأسلمي وجماعة.

مصرع عثمان :

وانهزم بنو أميّة وآل أبي معيط وتركوا عثمان وحده ، فأجهز عليه جماعة من المسلمين في مقدّمتهم محمّد بن أبي بكر ، فقد قبض على لحيته وقال له :

أخزاك الله يا نعثل (1) .

فردّ عليه عثمان :

لست بنعثل ، ولكنّي عبد الله وأمير المؤمنين.

فقال له محمّد بعنف :

ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان ، وأخذ يعدّد بني أميّة ..

__________________

(1) نعثل : هو طويل اللحية ، وقيل : هو رجل من أهل الكتاب كان طويل اللحية ، وكان يشبه عثمان ، ولذلك سمّي به ، جاء ذلك في حاشية لطائف المعارف : 35.

٢٧٥

وتضرّع عثمان إلى محمّد قائلا له :

يا ابن أخي ، دع عنك لحيتي ، فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه ..

فأجابه محمّد بعنف :

ما أريد بك أشدّ من قبضي على لحيتك ..

وطعن محمّد جبينه بمشقص كان في يده ، ورفع كنانة بن بشر مشاقص كانت في يده فوجأ بها في أصل اذنه حتى دخلت في حلقه ، ثمّ علاه بالسيف ، ووثب عليه عمرو بن الحمق الخزاعي ، فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات ، وكسر عمير بن ضابئ ضلعين من أضلاعه ، وحاولوا حزّ رأسه ، فألقت زوجتاه نائلة وابنة شبيبة بن ربيعة بأنفسهما عليه ، فأمر ابن عديس بتركه لهما (1) .

وألقيت جثّة عثمان ملطّخة بدمه على الأرض لم يفزع إليه أحد من الأمويّين وآل أبي معيط لمواراته في مقرّه الأخير ، وقد بالغ الثوّار في إهانته ، فقد ألقوا جثمانه على المزيلة ثلاثة أيام (2) مبالغة في توهينه وتحقيره ، وكلّم بعض خواصه الإمام 7 أن يتوسّط إلى الثوّار فيواروه ، فكلّمهم الإمام فأذنوا له في دفنه ، ووصف جولد تسهير كيفيّة دفنه بقوله :

وبسط جثمانه دون أن يغسّل على باب ، فكان رأسه يقرع قرعا ، يقابل بخطوات سريعة من حامليه ، وهم يسرعون في ظلام الليل ، والأحجار ترشفه ، واللعنات تتبعه ، ودفنوه في حش كوكب (3) ، ولم يسمح الأنصار بمواراته في مقابر المسلمين (4) ، وأمّا غلاماه اللذان قتلا معه فقد سحبوهما وألقوهما على التلّة

__________________

(1) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 390.

(2) تمام المتون ـ الصفدي : 79.

(3) حش كوكب : اسم بستان لليهود كانوا يدفنون موتاهم فيه.

(4) العقيدة والشريعة في الإسلام : 45.

٢٧٦

فأكلتهما الكلاب (1) .

وبذلك فقد انتهت حياة عثمان بهذه الصورة المروّعة ، وقد امتحن بها المسلمون كأشدّ وأقسى ما يكون الامتحان ، وأخلدت لهم الفتن والمصاعب ، وألقتهم في شرّ عظيم ، فقد ربح الأمويّون بقتله ، فقد طالبوا بدمه ، كما تذرّعت بالمطالبة بدمه القوى النفعية أمثال : طلحة والزبير وعائشة ، فقد رفعوه شعارا لهم ، وهم الذين أجهزوا عليه.

وعلى أي حال ، فقد مني العالم الإسلامي بحكومة عثمان وبمصرعه بمصاعب وفتن ، وقد تحدّثنا عنها في كتابنا ( حياة الإمام الحسين 7 ) فلا نرى حاجة لإعادتها ، وقد اقتبسنا معظم هذه الفصول منه ، وذلك لأنّها ترتبط ببحثنا ارتباطا موضوعيا لا غنى عنها ، فإنّها وإن ذكرت في كتاب ( حياة الإمام الحسن 7 ) وكتاب ( الإمام الحسين 7 ) فهي على سبيل الاستطراد لأنّها تمثّل الحياة الاجتماعية والسياسية في عصر الإمامين 8 ، أمّا ذكرها هنا فإنّها من صميم الموضوع.

__________________

(1) تاريخ الطبري 3 : 241. البداية والنهاية 7 : 214.

٢٧٧

٢٧٨

المحتويات

مع النبيّ 9

في جهاده وغزواته 9

واقعة بدر : 12

استنجاد أبي سفيان بقريش : 12

رؤيا عاتكة : 12

نصيحة عتبة بن ربيعة : 13

سقاية الإمام للجيش : 14

دعاء النبيّ للأنصار : 15

دعاء النبيّ على قريش : 15

النبي مع أصحابه : 15

المعركة : 16

بسالة الإمام : 16

أسماء من قتلهم الإمام : 17

وقوف النبيّ على قتلى بدر : 19

الأسرى من قريش : 20

حزن القرشيّين على قتلاهم : 20

انتصار الإسلام : 21

واقعة أحد : 22

الحرب : 23

هزيمة المسلمين : 24

مصرع الشهيد حمزة : 25

٢٧٩

مصرع الشهيد مصعب : 26

حماية الإمام للنبيّ : 26

تشفّي هند : 27

تشفّي أبي سفيان : 28

حزن النبيّ : 28

ملاحقة النبيّ للقرشيّين : 30

سرور القرشيّين : 30

واقعة الخندق : 30

دور اليهود في المعركة : 31

النبيّ مع نعيم : 32

حفر الخندق : 33

مبارزة الإمام لعمرو : 34

فتح خيبر : 38

مبارزة الإمام لمرحب : 40

غزوة بني قريظة : 41

نصيحة كعب لبني قريظة : 42

نزولهم على حكم الرسول : 43

تحكيم سعد : 43

غزوة بني النضير : 44

غزوة وادي القرى : 45

الإمام وفتح اليمن : 45

دعاء الإمام : 45

إسلام همدان : 46

فتح مكّة : 47

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

كورود ضوء الصباح على ظلمة اللّيل كشي‏ء يلج في شي‏ء ثمّ اتّساعه و إشغال النهار من الفضاء ما أشغله الليل، و ورود ظلمة المساء على نور النهار كشي‏ء يلج في شي‏ء ثمّ اتّساعها و شمول الليل.

و المشار إليه بذلك - بناء على ما تقدّم من معنى النصر - ظهور المظلوم بعقابه على الظالم الباغي عليه، و المعنى أنّ ذلك النصر بسبب أنّ من سنّة الله أن يظهر أحد المضادّين و المتزاحمين على الآخر كما يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل و إنّ الله سميع لأقوالهم بصير بأعمالهم فينصر المظلوم و هو مهضوم الحقّ بعينه و ما يسأله بلسان حاله في سمعه.

و ذكر في معنى الآية وجوه اُخر غير منطبقة على السياق رأينا الصفح عن ذكرها أولى.

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) الإشارة بذلك إلى النصر أو إليه و إلى ما ذكر من سببه.

و الحصران في قوله:( بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ) و قوله:( وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ ) إمّا بمعنى أنّه تعالى حقّ لا يشوبه باطل و أنّ ما يدعون من دونه و هي الأصنام باطل لا يشوبه حقّ فهو قادر على أن يتصرّف في تكوين الأشياء و أن يحكم لها و عليها بما شاء.

و إمّا بمعنى أنّه تعالى حقّ بحقيقة معنى الكلمة مستقلّاً بذلك لا حقّ غيره إلّا ما حقّقه هو، و أنّ ما يدعون من دونه و هي الأصنام بل كلّ ما يركن إليه و يدعى للحاجة من دون الله هو الباطل لا غيره إذ مصداق غيره هو الله سبحانه فافهم ذلك، و إنّما كان باطلاً إذ كان لا حقّيّة له باستقلاله.

و المعنى - على أيّ تقدير - أنّ ذلك التصرّف في التكوين و التشريع من الله سبحانه بسبب أنّه تعالى حقّ يتحقّق بمشيّته كلّ حقّ غيره، و أنّ آلهتهم من دون الله و كلّ ما يركن إليه ظالم باغ من دونه باطل لا يقدر على شي‏ء.

٤٤١

و قوله:( وَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) علوّه تعالى بحيث يعلو و لا يعلى عليه و كبره بحيث لا يصغر لشي‏ء بالهوان و المذلّة من فروع كونه حقّاً أي ثابتاً لا يعرضه زوال و موجوداً لا يمسّه عدم.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) استشهاد على عموم القدرة المشار إليها آنفاً بإنزال الماء من السماء - و المراد بها جهة العلو - و صيرورة الأرض بذلك مخضرّة.

و قوله:( إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) تعليل لجعل الأرض مخضرّة بإنزال الماء من السماء فتكون نتيجة هذا التعليل و ذاك الاستشهاد كأنّه قيل: إنّ الله ينزل كذا فيكون كذا لأنّه لطيف خبير و هو يشهد بعموم قدرته.

قوله تعالى: ( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) ظاهره أنّه خبر بعد خبر لأنّ فهو تتمّة التعليل في الآية السابقة كأنّه قيل: إنّ الله لطيف خبير مالك لما في السماوات و ما في الأرض يتصرّف في ملكه كما يشاء بلطف و خبرة، و يمكن أن يكون استئنافاً يفيد تعليلاً باستقلاله.

و قوله:( وَ إِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) يفيد عدم حاجته إلى شي‏ء من تصرّفاته بما هو غنيّ على الإطلاق و هي مع ذلك جميلة نافعة يحمد عليها بما هو حميد على الإطلاق فمفاد الاسمين معا أنّه تعالى لا يفعل إلّا ما هو نافع لكن لا يعود نفعه إليه بل إلى الخلق أنفسهم.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ) إلخ، استشهاد آخر على عموم القدرة، و المقابلة بين تسخير ما في الأرض و تسخير الفلك في البحر يؤيّد أنّ المراد بالأرض البرّ مقابل البحر، و على هذا فتعقيب الجملتين بقوله:( وَ يُمْسِكُ السَّماءَ ) إلخ، يعطي أنّ محصّل المراد أنّ الله سخّر لكم ما في السماء و الأرض برّها و بحرها.

و المراد بالسماء جهة العلو و ما فيها فالله يمسكها أن تقع على الأرض إلّا بإذنه ممّا يسقط من الأحجار السماويّة و الصواعق و نحوها.

٤٤٢

و قد ختم الآية بصفتي الرأفة و الرحمة تتميما للنعمة و امتناناً على الناس.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ ) سياق الماضي في( أَحْياكُمْ ) يدلّ على أنّ المراد به الحياة الدنيا و أهميّة المعاد بالذكر تستدعي أن يكون المراد من قوله:( ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) الحياة الآخرة يوم البعث دون الحياة البرزخيّة.

و هذه الحياة ثمّ الموت ثمّ الحياة من النعم الإلهيّة العظمى ختم بها الامتنان و لذا عقّبها بقوله:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ ) .

( بحث روائي)

في جامع الجوامع في قوله:( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا - إلى قوله -لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ) روي أنّهم قالوا: يا رسول الله هؤلاء الّذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير و نحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين.

و في المجمع في قوله تعالى:( وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ) الآية روي أنّ الآية نزلت في قوم من مشركي مكّة لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرّم فقالوا: إنّ أصحاب محمّد لا يقاتلون في هذا الشهر فحملوا عليهم فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام فأبوا فأظفر الله المسلمين بهم.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن أبي حاتم عن مقاتل‏ و أثر الضعف ظاهر عليه فإنّ المشركين كانوا يحرّمون الأشهر الحرم، و قد تقدّم في قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) الآية البقرة: ٢١٧، في الجزء الثاني من الكتاب من الروايات في قصّة عبدالله بن جحش و أصحابه ما يزيد في ضعف هذه الرواية.

٤٤٣

( سورة الحجّ الآيات ٦٧ - ٧٨)

لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ ( ٦٧ ) وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ٦٨ ) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( ٦٩ ) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ( ٧٠ ) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ( ٧١ ) وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ٧٢ ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ( ٧٣ ) مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ( ٧٤ ) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( ٧٥ ) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ( ٧٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٧٧ ) وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ

٤٤٤

الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( ٧٨ )

( بيان)

الآيات تأمره (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بالدعوة و تبيّن اُموراً من حقائق الدعوة و أباطيل الشرك ثمّ تأمر المؤمنين بإجمال الشريعة و هو عبادة الله و فعل الخير و تختم بالأمر بحقّ الجهاد في الله و بذلك تختتم السورة.

قوله تعالى: ( لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ) إلى آخر الآية. المنسك مصدر ميميّ بمعنى النسك و هو العبادة و يؤيّده قوله:( هُمْ ناسِكُوهُ ) أي يعبدون تلك العبادة، و ليس اسم مكان كما احتمله بعضهم.

و المراد بكلّ اُمّة هي الاُمّة بعد الاُمّة من الاُمم الماضين حتّى تنتهي إلى هذه الاُمّة دون الاُمم المختلفة الموجودة في زمانه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) كالعرب و العجم و الروم لوحدة الشريعة و عموم النبوّة.

و قوله:( فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ) نهي للكافرين بدعوة النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) عن منازعته في المناسك الّتي أتى بها و هم و إن كانوا لا يؤمنون بدعوته و لا يرون لما أتى به من الأوامر و النواهي وقعا يسلّمون له و لا أثر لنهي من لا يسلّم للناهي طاعة و لا مولويّة لكنّ هذا النهي لمّا كان معتمداً على الحجّة لم يصر لغواً لا أثر له و هي صدر الآية.

فكأنّ الكفّار من أهل الكتاب أو المشركين لمّا رأوا من عبادات الإسلام ما لا عهد لهم به في الشرائع السابقة كشريعة اليهود مثلاً نازعوه في ذلك من أين جئت به و لا عهد به في الشرائع السابقة و لو كان من شرائع النبوّة لعرفه المؤمنين من اُمم

٤٤٥

الأنبياء الماضين؟ فأجاب الله سبحانه عن منازعتهم بما في الآية.

و معناها أنّ كلّا من الاُمم كان لهم منسك هم ناسكوه و عبادة يعبدونها و لا يتعدّاهم إلى غيرهم لما أنّ الله سبحانه بدّل منسك السابقين ممّا هو أحسن منه في حقّ اللاحقين لتقدّمهم في الرقيّ الفكريّ و استعدادهم في اللاحق لما هو أكمل و أفضل من السابق فالمناسك السابقة منسوخة في حقّ اللاحقين فلا معنى لمنازعة النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فيما جاء به من المنسك المغاير لمناسك الأمم الماضين.

و لمّا كان نهيهم عن منازعته (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في معنى أمره بطيب النفس من قبل نزاعهم و نهيه عن الاعتناء به عطف عليه قوله:( وَ ادْعُ إِلى‏ رَبِّكَ ) كأنّه قيل: طب نفساً و لا تعبأ بمنازعتهم و اشتغل بما اُمرت به و هو الدعوة إلى ربّك.

و علّل ذلك بقوله:( إِنَّكَ لَعَلى‏ هُدىً مُسْتَقِيمٍ ) و توصيف الهدى بالاستقامة و هي وصف الصراط الّذي إليه الهداية من المجاز العقليّ.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ ) سياق الآية السابقة يؤيّد أنّ المراد بهذا الجدال المجادلة و المراء في أمر اختلاف منسكه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) مع الشرائع السابقة بعد الاحتجاج عليه بنسخ الشرائع، و قد اُمر (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بإرجاعهم إلى حكم الله من غير أن يشتغل بالمجادلة معهم بمثل ما يجادلون.

و قيل: المراد بقوله:( إِنْ جادَلُوكَ ) مطلق الجدال في أمر الدين، و قيل: الجدال في أمر الذبيحة و السياق السابق لا يساعد عليه.

و قوله:( فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ ) توطئة و تمهيد إلى إرجاعهم إلى حكم الله أي الله أعلم بعملكم و يحكم حكم من يعلم بحقيقة الحال، و إنّما يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون و تخالفون الحقّ و أهله - و الاختلاف و التخالف بمعنى كالاستباق و التسابق -.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) تعليل لعلمه تعالى بما يعملون أي إنّ ما يعملون بعض ما في السماء و الأرض و هو يعلم جميع ما فيهما فهو يعلم بعملهم.

٤٤٦

و قوله:( إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ ) تأكيد لما تقدّمه أي إنّ ما علمه من شي‏ء مثبت في كتاب فلا يزول و لا ينسى و لا يسهو فهو محفوظ على ما هو عليه حين يحكم بينهم، و قوله:( إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) أي ثبت ما يعلمه في كتاب محفوظ هيّن عليه.

قوله تعالى: ( وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ) إلخ الباء في( بِهِ ) بمعنى مع، و السلطان البرهان و الحجّة و المعنى و يعبد المشركون من دون الله شيئاً - و هو ما اتّخذوه شريكاً له تعالى - لم ينزّل الله معه حجّة حتّى يأخذوها و يحتجّوا بها و لا أنّ لهم به علماً.

قيل: إنّما أضاف قوله:( وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ) على قوله:( ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ) لأنّ الإنسان قد يعلم أشياء من غير حجّة و دليل كالضروريات.

و ربّما فسّر نزول السلطان بالدليل السمعيّ و وجود العلم بالدليل العقليّ أي يعبدون من دون الله ما لم يقم عليه دليل من ناحية الشرع و لا العقل، و فيه أنّه لا دليل عليه و تنزيل السلطان كما يصدق على تنزيل الوحي على النبيّ كذلك يصدق على تنزيل البرهان على القلوب.

و قوله:( وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) قيل: هو تهديد للمشركين و المراد أنّه ليس لهم ناصر ينصرهم فيمنعهم من العذاب.

و الظاهر - على ما يعطيه السياق - أنّه في محلّ الاحتجاج على أن ليس لهم برهان على شركائهم و لا علم، بأنّه لو كان لهم حجّة أو علم لكان لهم نصير ينصرهم إذ البرهان نصير لمن يحتجّ به و العلم نصير للعالم لكنّهم ظالمون و ما للظالمين من نصير فليس لهم برهان و لا علم، و هذا من ألطف الاحتجاجات القرآنيّة.

قوله تعالى: ( وَ إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ ) إلخ المنكر مصدر ميميّ بمعنى الإنكار، و المراد بمعرفة الإنكار في وجوههم معرفة أثر الإنكار و الكراهة، و( يَسْطُونَ ) من السطوة و هي على ما في مجمع البيان: إظهار الحال الهائلة للإخافة يقال سطا عليه يسطو سطوة و سطاعة

٤٤٧

و الإنسان مسطوّ عليه، و السطوة و البطشة بمعنى. انتهى.

و المعنى: و إذا تتلى عليهم آياتنا و الحال أنّها واضحات الدلالة تعرف و تشهد في وجوه الّذين كفروا أثر الإنكار يقربون من أن يبطشوا على الّذين يتلون و يقرؤن عليهم آياتنا لما يأخذهم من الغيظ.

و قوله:( قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ ) تفريع على إنكارهم و تحرّزهم من استماع القرآن أي قل: أ فاُخبركم بما هو شرّ من هذا الّذي تعدّونه شرّاً تحترزون منه و تتّقون أن تسمعوه أ فاُخبركم به لتتّقوه إن كنتم تتّقون.

و قوله:( النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ ) بيان للشرّ أي ذلكم الّذي هو شرّ من هذا هي النار، و قوله:( وَعَدَهَا اللهُ ) إلخ بيان لكونه شرّاً.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ) إلى آخر الآية خطاب للناس جميعاً و العناية بالمشركين منهم.

و قوله:( ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ) المثل هو الوصف الّذي يمثّل الشي‏ء في حالة سواء كان وصفاً محقّقاً واقعاً أو مقدّراً متخيّلاً كالأمثال الّتي تشتمل على محاورات الحيوانات و الجمادات و مشافهاتها، و ضرب المثل نصبه ليتفكّر فيه كضرب الخيمة ليسكن فيها.

و هذا المثل هو قوله:( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ) و المعنى أنّه لو فرض أنّ آلهتهم شاؤا أن يخلقوا ذباباً و هو أضعف الحيوانات عندهم لم يقدروا عليه أبداً و إن يسلبهم الذباب شيئاً ممّا عليهم لا يستنقذوه بالانتزاع منه.

فهذا الوصف يمثّل حال آلهتهم من دون الله في قدرتهم على الإيجاد و على تدبير الأمر حيث لا يقدرون على خلق ذباب و على تدبير أهون الاُمور و هو استرداد ما أخذه الذباب منهم و أضرّهم بذلك و كيف يستحقّ الدعوة و العبادة من كان هذا شأنه؟.

و قوله:( ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ ) مقتضى المقام أن يكون المراد بالطالب الآلهة

٤٤٨

و هي الأصنام المدعوّة فإنّ المفروض أنّهم يطلبون خلق الذباب فلا يقدرون و استنقاذ ما سلبه إيّاهم فلا يقدرون، و المطلوب الذباب حيث يطلب ليخلق و يطلب ليستنقذ منه.

و في هذه الجملة بيان غاية ضعفهم فإنّهم أضعف من أضعف ما يستضعفه الناس من الحيوانات الّتي فيها شي‏ء من الشعور و القدرة.

قوله تعالى: ( ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) قدر الشي‏ء هندسته و تعيين كمّيّته و يكنى به عن منزلة الشي‏ء الّتي تقتضيها أوصافه و نعوته يقال: قدر الشي‏ء حقّ قدره أي نزّله المنزلة الّتي يستحقّها و عامله بما يليق به.

و قدره تعالى حقّ القدر أن يلتزم بما يقتضيه صفاته العليا و يعامل كما يستحقّه بأن يتّخذ ربّاً لا ربّ غيره و يعبد وحده لا معبود سواه لكنّ المشركين ما قدروه حقّ قدره إذ لم يتّخذوه ربّاً و لم يعبدوه بل اتّخذوا الأصنام أرباباً من دونه و عبدوها دونه و هم يرون أنّها لا تقدر على خلق ذباب و يمكن أن يستذلّها ذباب فهي من الضعف و الذلّة في نهايتهما، و الله سبحانه هو القويّ العزيز الّذي إليه ينتهي الخلق و الأمر و هو القائم بالإيجاد و التدبير.

فقوله:( ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) إشارة إلى عدم التزامهم بربوبيّته تعالى و إعراضهم عن عبادته ثمّ اتّخاذهم الأصنام أرباباً من دونه يعبدونها خوفاً و طمعاً دونه تعالى.

و قوله:( إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) تعليل للنفي السابق و قد أطلق القوّة و العزّة فأفاد أنّه قويّ لا يعرضه ضعف و عزيز لا تعتريه ذلّة كما قال:( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) البقرة: ١٦٥، و قال:( فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) النساء: ١٣٩، و إنّما خصّ الاسمين بالذكر لمقابلتهما ما في المثل المضروب من صفة آلهتهم و هو الضعف و الذلّة فهؤلاء استهانوا أمر ربّهم إذ عدلوا بينه تعالى و هو القويّ الّذي يخلق ما يشاء و العزيز الّذي لا يغلبه شي‏ء و لا يستذلّه من سواه و بين الأصنام و الآلهة الّذين يضعفون من خلق ذباب و يستذلّهم ذباب ثمّ لم يرضوا بذلك حتّى قدّموهم عليه تعالى فاتّخذوهم

٤٤٩

أرباباً يعبدونهم دونه تعالى.

قوله تعالى: ( اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) الاصطفاء أخذ صفوة الشي‏ء و خالصته، قال الراغب: الاصطفاء تناول صفو الشي‏ء كما أنّ الاختيار تناول خيره و الاجتباء تناول جبايته. انتهى.

فاصطفاء الله تعالى من الملائكة رسلاً و من الناس اختياره من بينهم من يصفو لذلك و يصلح.

و هذه الآية و الّتي بعدها تبيّنان وجوب جعل الرسالة و صفتها و صفة الرسل و هي العصمة، و للكلام فيها بعض الاتّصال بقوله السابق:( لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ ) لإنبائه عن الرسالة.

تبيّن الآية أوّلاً أنّ لله رسلاً من الملائكة و من الناس، و ثانياً أنّ هذه الرسالة ليست كيفما اتّفقت و ممّن اتّفق بل هي بالاصطفاء و تعيين من هو صالح لذلك.

و قوله:( إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) تعليل لأصل الإرسال فإنّ الناس أعني النوع الإنسانيّ يحتاج حاجة فطريّة إلى أن يهديهم الله سبحانه نحو سعادتهم و كمالهم المطلوب من خلقهم كسائر الأنواع الكونيّة فالحاجة نحو الهداية عامّة، و ظهور الحاجة فيهم و إن شئت فقل: إظهارهم الحاجة من أنفسهم سؤال منهم و استدعاء لما ترتفع به حاجتهم و الله سبحانه سميع بصير يرى ببصره ما هم عليه من الحاجة الفطريّة إلى الهداية و يسمع بسمعه سؤالهم ذلك.

فمقتضى سمعه و بصره تعالى أن يرسل إليهم رسولاً و يهديهم به إلى سعادتهم الّتي خلقوا لنيلها و التلبّس بها فما كلّ الناس بصالحين للاتّصال بعالم القدس و فيهم الخبيث و الطيّب و الطالح و الصالح، و الرسول رسولان رسول ملكيّ يأخذ الوحي منه تعالى و يؤدّيه إلى الرسول الإنسانيّ و رسول إنسانيّ يأخذ الوحي من الرسول الملكيّ و يلقيه إلى الناس و بالجملة قوله:( إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) يتضمّن الحجّة على لزوم أصل الإرسال، و أمّا معنى الاصطفاء و الحجّة على لزومه فهو ما يشير إليه قوله:( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ ) .

٤٥٠

قوله تعالى: ( يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ إِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) ظاهر السياق أنّ ضمير الجمع في الموضعين للرسل من الملائكة و الناس، و يشهد وقوع هذا التعبير فيهم في غير هذا الموضع كقوله تعالى حكاية عن ملائكة الوحي:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا ) الآية: مريم: ٦٤، و قوله:( فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ) الجنّ: ٢٨.

و الآية - كما ترى - تنادي بأنّ ذكر علمه بما بين أيديهم و ما خلفهم لدلالة على أنّه تعالى مراقب للطريق الّذي يسلكه الوحي فيما بينه و بين الناس حافظ له أن يختلّ في نفسه بنسيان أو تغيير أو يفسد بشي‏ء من مكائد الشياطين و تسويلاتهم كلّ ذلك لأنّ حملة الوحي من الرسل بعينه و بمشهد منه يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و هو بالمرصاد.

و من هنا يظهر أنّ المراد بما بين أيديهم هو ما بينهم و بين من يؤدّون إليه فما بين أيدي الرسول الملكيّ هو ما بينه و بين الرسول الإنسانيّ و ما بين يدي الرسول الإنسانيّ هو ما بينه و بين الناس، و المراد بما خلفهم هو ما بينهم و بين الله سبحانه و الجميع سائرون من جانب الله إلى الناس.

فالوحي في مأمن إلهيّ منذ يصدر من ساحة العظمة و الكبرياء إلى أن يبلغ الناس و لازمه أنّ الرسل معصومون في تلقّي الوحي و معصومون في حفظه و معصومون في إبلاغه للناس.

و قوله:( وَ إِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) في مقام التعليل لعلمه بما بين أيديهم و ما خلفهم أي كيف يخفى عليه شي‏ء من ذلك؟ و إليه يرجع جميع الاُمور و إذ ليس هذا الرجوع رجوعاً زمانياً حتّى يجوز معه خفاء حاله قبل الرجوع و إنّما هو مملوكيّة ذاته له تعالى فلا استقلال له منه و لا خفاء فيه له فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) الأمر بالركوع و السجود أمر بالصلاة و مقتضى

٤٥١

المقابلة أن يكون المراد بقوله:( وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ ) الأمر بسائر العبادات المشرّعة في الدين كالحجّ و الصوم و يبقى لقوله:( وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ ) سائر الأحكام و القوانين المشرّعة فإنّ في إقامتها و العمل بها خير المجتمع و سعادة الأفراد و حياتهم كما قال:( اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ) الأنفال: ٢٤.

و في الآية أمر بإجماع الشرائع الإسلاميّة من عبادات و غيرها.

قوله تعالى: ( وَ جاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ) إلى آخر الآية. الجهاد بذل الجهد و استفراغ الوسع في مدافعة العدوّ، و يطلق في الأكثر على المدافعة بالقتال لكن ربّما يتوسّع في معنى العدوّ حتّى يشمل كلّ ما يتوقّع منه الشرّ كالشيطان الّذي يضلّ الإنسان و النفس الأمّارة بالسوء و غير ذلك فيطلق اللفظ على مخالفة النفس في هواها و الاجتناب عن طاعة الشيطان في وسوسته، و قد سمّى النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) مخالفة النفس جهاداً أكبر.

و الظاهر أنّ المراد بالجهاد في الآية هو المعنى الأعمّ و خاصّة بالنظر إلى تقييده بقوله:( فِي اللهِ ) و هو كلّ ما يرجع إليه تعالى، و يؤيّده أيضاً قوله:( وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) العنكبوت: ٦٩.

و على ذلك فمعنى كون الجهاد فيه حقّ جهاده أن يكون متمحّضاً في معنى الجهاد و يكون خالصاً لوجهه الكريم لا يشاركه فيه غيره نظير تقوى الله حقّ تقواه في قوله:( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) آل عمران: ١٢٤.

و قوله:( هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) امتنان منه تعالى على المؤمنين بأنّهم ما كانوا لينالوا سعادة الدّين من عند أنفسهم و بحولهم غير أنّ الله منّ عليهم إذ وفّقهم فاجتباهم و جمعهم للدين، و رفع عنهم كلّ حرج في الدين امتناناً سواء كان حرجاً في أصل الحكم أو حرجاً طارئاً عليه اتّفاقاً فهي شريعة سهلة سمحة ملّة أبيهم إبراهيم الحنيف الّذي أسلم لربّه.

و إنّما سمّي إبراهيم أبا المسلمين لأنّه (عليه السلام) أوّل من أسلم لله كما قال تعالى:( إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) البقرة: ١٣١، و قال حاكياً عنه (عليه السلام):

٤٥٢

( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) إبراهيم: ٣٦ فنسب أتباعه إلى نفسه، و قال أيضاً:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) إبراهيم: ٣٥، و مراده ببنيه المسلمون دون المشركين قطعاً و قال:( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) آل عمران: ٦٨.

و قوله:( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا ) امتنان ثان منه تعالى على المؤمنين بعد الامتنان بقوله:( هُوَ اجْتَباكُمْ) فالضمير له تعالى و قوله:( مِنْ قَبْلُ ) أي من قبل نزول القرآن و قوله:( وَ فِي هذا ) أي و في هذا الكتاب و في امتنانه عليهم بذكر أنّه سمّاهم المسلمين دلالة على قبوله تعالى إسلامهم.

و قوله:( لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) المراد به شهادة الأعمال و قد تقدّم الكلام في معنى الآية في سورة البقرة الآية ١٤٣ و غيرها و في الآية تعليل ما تقدّم من حديث الاجتباء و نفي الحرج و تسميتهم مسلمين.

و قوله:( فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللهِ ) تفريع على جميع ما تقدّم ممّا امتنّ به عليهم أي فعلى هذا يجب عليكم أن تقيموا الصلاة و تؤتوا الزكاة - و هو إشارة إلى العمل بالأحكام العباديّة و الماليّة - و تعتصموا بالله في جميع الأحوال فأتمروا بكلّ ما أمر به و تنتهوا عن جميع ما نهى عنه و لا تنقطعوا عنه في حال لأنّه مولاكم و ليس للعبد أن ينقطع عن مولاه في حال و لا للإنسان الضعيف أن ينقطع عن ناصره بوجه - على الاحتمالين في معنى المولى -.

فقوله:( هُوَ مَوْلاكُمْ ) في مقام التعليل لما قبله من الحكم، و قوله:( فَنِعْمَ الْمَوْلى‏ وَ نِعْمَ النَّصِيرُ ) كلمة مدح له تعالى و تطييب لنفوس المؤمنين و تقوية لقلوبهم بأنّ مولاهم و نصيرهم هو الله الّذي لا مولى غيره و لا نصير سواه.

و اعلم أنّ الّذي أوردناه من معنى الاجتباء و كذا الإسلام و غيره في الآية هو الّذي ذكره جلّ المفسّرين بالبناء على ظاهر الخطاب بيا أيّها الّذين آمنوا في صدر الكلام و شموله عامّة المؤمنين و جميع الاُمّة.

و قد بيّنّا غير مرّة أنّ الاجتباء بحقيقة معناه يساوق جعل العبد مخلصاً - بفتح

٤٥٣

اللام - مخصوصاً بالله لا نصيب لغيره تعالى فيه، و هذه صفة لا توجد إلّا في آحاد معدودين من الاُمّة دون الجميع قطعاً، و كذا الكلام في معنى الإسلام و الاعتصام، و المعنى بحقيقته مراد في الكلام قطعاً.

و على هذا فنسبة الاجتباء و الإسلام و الشهادة إلى جميع الاُمّة توسّع من جهة اشتمالهم على من يتّصف بهذه الصفات بحقيقتها نظير قوله في بني إسرائيل:( وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) المائدة: ٢٠، و قوله فيهم:( وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) الجاثية: ١٦ و نظائره كثيرة في القرآن.

( بحث روائي)

عن جوامع الجامع في قوله تعالى:( فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ) روي أنّ بديل بن ورقاء و غيره من كفّار خزاعة قالوا للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم و لا تأكلون ما قتل الله يعنون الميتة.

أقول: سياق الآية لا يساعد عليه.

و في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بيّاع الأنماط عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كانت قريش تلطخ الأصنام الّتي كانت حول الكعبة بالمسك و العنبر، و كان يغوث قبال الباب و يعوق عن يمين الكعبة، و كان نسر عن يسارها، و كانوا إذا دخلوا خرّوا سجدّا ليغوث و لا ينحنون ثمّ يستديرون بحيالهم إلى يعوق ثمّ يستديرون عن يسارها بحيالهم إلى نسر ثمّ يلبّون فيقولون: لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه و ما ملك.

قال: فبعث الله ذبابا أخضر له أربعة أجنحة فلم يبق من ذلك المسك و العنبر شيئاً إلّا أكله، و أنزل الله عزّوجلّ:( يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ) الآية.

و فيه، بإسناده عن بريد العجليّ قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام):( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ جاهِدُوا فِي

٤٥٤

اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ) قال: إيّانا عنى و نحن المجتبون و لم يجعل الله تبارك و تعالى لنا في الدين من حرج فالحرج أشدّ من الضيق.

( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ) إيّانا عنى خاصّة( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ) الله عزّوجلّ سمّانا المسلمين( مِنْ قَبْلُ ) في الكتب الّتي مضت( وَ فِي هذا ) القرآن( لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) فرسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) الشهيد علينا بما بلّغنا عن الله تبارك و تعالى و نحن الشهداء على الناس يوم القيامة فمن صدّق يوم القيامة صدّقناه و من كذب كذّبناه.

أقول: و الروايات من طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في هذا المعنى كثيرة، و قد تقدّم في ذيل الآية ما يتّضح به معنى هذه الروايات.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه و الحاكم و صحّحه عن عائشة: أنّها سألت النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) عن هذه الآية:( وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) قال: الضيق.

و في التهذيب، بإسناده عن عبدالأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة كيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا و أشباهه من كتاب الله عزّوجلّ قال الله:( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) امسح عليه.

أقول: و في معناها روايات اُخر تستشهد بالآية في رفع الحكم الحرجيّ و في التمسّك بالآية في الحكم دلالة على صحّة ما قدّمناه في معنى الآية.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف و إسحاق بن راهويه في مسنده عن مكحول أنّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: تسمّي الله باسمين سمّى بهما اُمّتي هو السلام و سمّى اُمّتي المسلمين، و هو المؤمن و سمّى اُمّتي المؤمنين‏

تم و الحمد لله.

٤٥٥

الفهرس

( سورة مريم مكّيّة و هي ثمان و تسعون آية )   ٢

( سورة مريم الآيات ١ - ١٥ ). ٢

( بيان ). ٣

( قصّة زكريّا في القرآن ). ٢٥

( قصّة يحيى (عليه السلام) في القرآن ). ٢٦

( سورة مريم الآيات ١٦ - ٤٠ ). ٣٢

( بيان ). ٣٣

( كلام في معنى التمثّل ). ٣٥

( بحث روائي ). ٥٢

( سورة مريم الآيات ٤١ - ٥٠ ). ٥٧

( بيان ). ٥٧

( سورة مريم الآيات ٥١ - ٥٧ ). ٦٥

( بيان ). ٦٥

( قصّة إسماعيل صادق الوعد ). ٦٧

( قصّة إدريس النبيّ (عليه السلام) ). ٦٨

( سورة مريم الآيات ٥٨ - ٦٣ ). ٧٧

( بيان ). ٧٧

( بحث روائي ). ٨٤

( سورة مريم الآيات ٦٤ - ٦٥ ). ٨٦

( بيان ). ٨٦

( سورة مريم الآيات ٦٦ - ٧٢ ). ٩٢

( بيان ). ٩٢

( بحث روائي ). ٩٨

( كلام في معنى وجوب الفعل و جوازه ). ١٠٠

( و عدم جوازه على الله سبحانه ). ١٠٠

٤٥٦

( سورة مريم الآيات ٧٣ - ٨٠ ). ١٠٦

( بيان ). ١٠٦

( بحث روائي ). ١١٣

( سورة مريم الآيات ٨١ - ٩٦ ). ١١٥

( بيان ). ١١٥

( بحث روائي ). ١٢١

( سورة مريم الآيات ٩٧ - ٩٨ ). ١٢٦

( بيان ). ١٢٦

( سورة طه مكّيّة و هي مائة و خمس و ثلاثون آية )   ١٢٨

( سورة طه الآيات ١ - ٨ ). ١٢٨

( بيان ). ١٢٨

( بحث روائي ). ١٣٦

( سورة طه الآيات ٩ - ٤٨ ). ١٤٦

( بيان ). ١٤٧

( بحث روائي ). ١٧١

( سورة طه الآيات ٤٩ - ٧٩ ). ١٧٥

( بيان ). ١٧٧

( بحث روائي ). ١٩٩

( سورة طه الآيات ٨٠ - ٩٨ ). ٢٠٠

( بيان ). ٢٠١

( بحث روائي ). ٢١٤

( سورة طه الآيات ٩٩ - ١١٤ ). ٢٢٤

( بيان ). ٢٢٥

( بحث روائي ). ٢٣٢

( سورة طه الآيات ١١٥ - ١٢٦ ). ٢٣٥

( بيان ). ٢٣٥

( بحث روائي ). ٢٤٦

٤٥٧

( سورة طه الآيات ١٢٧ - ١٣٥ ). ٢٥١

( بيان ). ٢٥٢

( بحث روائي ). ٢٦١

( سورة الأنبياء مكّيّة و هي مائة و اثنتا عشرة آية )   ٢٦٤

( سورة الأنبياء الآيات ١ - ١٥ ). ٢٦٤

( بيان ). ٢٦٥

( كلام في معنى حدوث الكلام و قدمه في فصول ). ٢٦٩

١- ما معنى حدوث الكلام و بقائه؟ ٢٦٩

٢- هل الكلام بما هو كلام فعل أو صفة ذاتيّة؟ ٢٧٠

٣- تحليل معنى الكلام: ٢٧٠

٤- محصّل البحث‏: ٢٧١

( بحث روائي ). ٢٧٨

( سورة الأنبياء الآيات ١٦ - ٣٣ ). ٢٨٠

( بيان ). ٢٨١

( بحث في حكمته تعالى ). ٢٩٥

( و معنى كون فعله مقارناً للمصلحة ). ٢٩٥

( و هو بحث فلسفي و قرآني‏ ). ٢٩٥

( بحث روائي ). ٣٠٦

( سورة الأنبياء الآيات ٣٤ - ٤٧ ). ٣١٠

( بيان ). ٣١١

( بحث روائي ). ٣٢٠

( سورة الأنبياء الآيات ٤٨ - ٧٧ ). ٣٢٢

( بيان ). ٣٢٣

( بحث روائي‏ ). ٣٣٦

( سورة الأنبياء الآيات ٧٨ - ٩١ ). ٣٣٩

( بيان ). ٣٤٠

( بحث روائي ). ٣٤٧

٤٥٨

( سورة الأنبياء الآيات ٩٢ - ١١٢ ). ٣٥١

( بيان ). ٣٥٢

( بحث روائي ). ٣٦٥

( سورة الحجّ مدنيّة و هي ثمان و سبعون آية )   ٣٧٠

( سورة الحجّ الآيات ١ - ٢ ). ٣٧٠

( بيان ). ٣٧٠

( بحث روائي ). ٣٧٢

( سورة الحجّ الآيات ٣ - ١٦ ). ٣٧٤

( بيان ). ٣٧٥

( بحث روائي ). ٣٨٧

( سورة الحجّ الآيات ١٧ - ٢٤ ). ٣٩١

( بيان ). ٣٩١

( بحث روائي ). ٣٩٦

( سورة الحجّ الآيات ٢٥ - ٣٧ ). ٤٠٠

( بيان ). ٤٠١

( بحث روائي ). ٤١٣

( سورة الحجّ الآيات ٣٨ - ٥٧ ). ٤١٨

( بيان ). ٤١٩

( بحث روائي ). ٤٣٤

( سورة الحجّ الآيات ٥٨ - ٦٦ ). ٤٣٧

( بيان ). ٤٣٧

( بحث روائي ). ٤٤٣

( سورة الحجّ الآيات ٦٧ - ٧٨ ). ٤٤٤

( بيان ). ٤٤٥

( بحث روائي ). ٤٥٤

٤٥٩