الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  0%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 91907
تحميل: 5124


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91907 / تحميل: 5124
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 14

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أهل القنوت.

و اشتراطها بقولها:( إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) من قبيل الاشتراط بوصف يدّعيه المخاطب لنفسه أو هو محقّق فيه ليفيد إطلاق الحكم المشروط و علّيّة الوصف للحكم، و التقوى وصف جميل يشقّ على الإنسان أن ينفيه عن نفسه و يعترف بفقده فيؤل المعنى إلى مثل قولنا: إنّي أعوذ و أعتصم بالرحمن منك إن كنت تقيّاً و من الواجب أن تكون تقيّاً فليردعك تقواك عن أن تتعرّض بي و تقصدني بسوء.

فالآية من قبيل خطاب المؤمنين بمثل قوله تعالى:( وَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) المائدة: ٥٧، و قوله:( وَ عَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) المائدة: ٢٣.

و ربّما احتمل في قوله:( إِنْ كُنْتَ ) أن تكون إن نافية و المعنى ما كنت تقيّاً إذ هتكت علىّ ستري و دخلت بغير إذني. و أوّل الوجهين أوفق بالسياق. و القول بأنّ التقيّ اسم رجل طالح أو صالح لا يعبأ به.

قوله تعالى: ( قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا ) جواب الروح لمريم و قد صدّر الكلام بالقصر ليفيد أنّه ليس ببشر كما حسبته فيزول بذلك روعها ثمّ يطيّب نفسها بالبشرى، و الزكيّ هو النامي نموّاً صالحاً و النابت نباتاً حسناً.

و من لطيف التوافق في هذه القصص الموردة في السورة أنّه تعالى ذكر زكريّا و أنّه وهب له يحيى، و ذكر مريم و أنّه وهب لها عيسى، و ذكر إبراهيم و أنّه وهب له إسحاق و يعقوب، و ذكر موسى و أنّه وهب له هارون (عليه السلام).

قوله تعالى: ( قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا ) مسّ البشر بقرينة مقابلته للبغي و هو الزنا كناية عن النكاح و هو في نفسه أعمّ و لذا اكتفى في القصّة من سورة آل عمران بقوله:( وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ) و الاستفهام للتعجّب أي كيف يكون لي ولد و لم يخالطني قبل هذا الحين رجل لا من طريق الحلال بالنكاح و لا من طريق الحرام بالزنا.

و السياق يشهد أنّها فهمت من قوله:( لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً ) إلخ، أنّه سيهبه حالاً

٤١

و لذا قالت:( وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا ) فنفت النكاح و الزنا في الماضي.

قوله تعالى: ( قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) إلخ، أي قال الروح الأمر كذلك أي كما وصفته لك ثمّ قال:( قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) ، و قد تقدّم في قصّة زكريّا و يحيى (عليهما السلام) توضيح مّا للجملتين.

و قوله:( وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا ) ذكر بعض ما هو الغرض من خلق المسيح على هذا النهج الخارق، و هو معطوف على مقدّر أي خلقناه بنفخ الروح من غير أب لكذا و كذا و لنجعله آية للناس بخلقته و رحمة منّا برسالته و الآيات الجارية على يده و حذف بعض الغرض و عطف بعضه المذكور عليه كثير في القرآن كقوله تعالى:( وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الأنعام: ٧٥، و في هذه الصنعة إيهام أنّ الأغراض الإلهيّة أعظم من أن يحيط بها فهم أو يفي بتمامها لفظ.

و قوله:( وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا ) إشارة إلى تحتّم القضاء في أمر هذا الغلام الزكيّ فلا يردّ بإباء أو دعاء.

قوله تعالى: ( فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا ) القصيّ البعيد أي حملت بالولد فانفرد و اعتزلت به مكاناً بعيداً من أهله.

قوله تعالى: ( فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى‏ جِذْعِ النَّخْلَةِ ) إلى آخر الآية، الإجاءة إفعال من جاء يقال: أجاءه و جاء به بمعنى و هو في الآية كناية عن الدفع و الإلجاء، و المخاض و الطلق وجع الولادة، و جذع النخلة ساقها، و النسي بفتح النون و كسرها كالوتر و الوتر هو الشي‏ء الحقير الّذي من شأنه أن ينسى، و المعنى - أنّها لمّا اعتزلت من قومها في مكان بعيد منهم - دفعها و ألجأها الطلق إلى جذع نخلة كان هناك لوضع حملها - و التعبير بجذع النخلة دون النخلة مشعر بكونها يابسة غير مخضرّة - و قالت استحياء من الناس يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسياً و شيئاً لا يعبأ به منسيّاً لا يذكر فلم يقع فيه الناس كما سيقع الناس فيّ.

قوله تعالى: ( فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي ) إلى آخر الآيتين ظاهر السياق أنّ ضمير الفاعل في( فَناداها ) لعيسى (عليه السلام) لا للروح السابق الذكر، و يؤيّده تقييده

٤٢

بقوله:( مِنْ تَحْتِها ) فإنّ هذا القيد أنسب لحال المولود مع والدته حين الوضع منه لحال الملك المنادي مع من يناديه، و يؤيّده أيضاً احتفافه بالضمائر الراجعة إلى عيسى (عليه السلام).

و قيل: الضمير للروح و اُصلح كون الروح تحتها بأنّها كانت حين الوضع في أكمة و كان الروح واقفا تحت الأكمة فناداها من تحتها، و لا دليل على شي‏ء من ذلك من جهة اللّفظ.

و لا يبعد أن يستفاد من ترتّب قوله:( فَناداها ) على قوله:( قالَتْ يا لَيْتَنِي ) إلخ، أنّها إنّما قالت هذه الكلمة حين الوضع أو بعده فعقّبها (عليه السلام) بقوله: لا تخزني، إلخ.

و قوله:( أَلَّا تَحْزَنِي ) تسلية لها لما أصابها من الحزن و الغمّ الشديد فإنّه لا مصيبة هي أمرّ و أشقّ على المرأة الزاهدة المتنسّكة و خاصة إذا كانت عذراء بتولا من أن تتّهم في عرضها و خاصّة إذا كانت من بيت معروف بالعفّة و النزاهة في حاضر حاله و سابق عهده و خاصّة إذا كانت تهمة لا سبيل لها إلى الدفاع عن نفسها و كانت الحجّة للخصم عليها، و لذا أشار أن لا تتكلّم مع أحد و تكفّل هو الدفاع عنها و تلك حجّة لا يدفعها دافع.

و قوله:( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) السريّ جدول الماء، و السريّ هو الشريف الرفيع، و المعنى الأوّل هو الأنسب للسياق، و من القرينة عليه قوله: بعد:( فَكُلِي وَ اشْرَبِي ) كما لا يخفى.

و قيل: المراد هو المعنى الثاني و مصداقه عيسى (عليه السلام)، و قد عرفت أنّ السياق لا يساعد عليه، و على أيّ تقدير الجملة إلى آخر كلامه تطييب لنفس مريم (عليها السلام).

و قوله:( وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا ) الهزّ هو التحريك الشديد، و نقل عن الفرّاء أنّ العرب تقول: هزّه و هزّ به، و المساقطة هي الإسقاط، و ضمير( تُساقِطْ ) للنخلة، و نسبة الهزّ إلى الجذع و المساقطة إلى النخلة

٤٣

لا تخلو من إشعار بأنّ النخلة كانت يابسة و إنّما اخضرّت و أورقت و أثمرت رطباً جنيّاً لساعتها، و الرطب هو نضيج البسر، و الجنيّ هو المجنيّ و ذكر في القاموس - على ما نقل - أنّ الجنيّ إنّما يقال لما جني من ساعته.

قوله تعالى: ( فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً ) قرار العين كناية عن المسرّة يقال: أقرّ الله عليك أي سرّك، و المعنى: فكلي من الرطب الجنيّ الّذي تسقط و اشربي من السريّ الّذي تحتك و كوني على مسرّة من غير أن تحزني، و التمتّع بالأكل و الشرب من أمارات السرور و الابتهاج فإنّ المصاب في شغل من التمتّع بلذيذ الطعام و مري‏ء الشراب و مصيبته شاغلة، و المعنى: فكلي من الرطب الجنيّ و اشربي من السريّ و كوني على مسرّة - ممّا حباك الله به - من غير أن تحزني، و أمّا ما تخافين من تهمة الناس و مساءلتهم فالزمي السكوت و لا تكلّمي أحداً فأنا أكفيكهم.

قوله تعالى: ( فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ) المراد بالصوم صوم الصمت كما يدلّ عليه التفريع الّذي في قوله:( فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ) و كذا يستفاد من السياق أنّه كان أمراً مسنونا في ذلك الوقت و لذا اُرسل عذراً إرسال المسلّم، و الإنسيّ منسوب إلى الإنس مقابل الجنّ و المراد به الفرد من الإنسان.

و قوله:( فَإِمَّا تَرَيِنَّ ) إلخ، ما زائدة و الأصل إن ترى بشراً فقولي إلخ، و المعنى: إن ترى بشراً و كلّمك أو سألك عن شأن الولد فقولي إلخ، و المراد بالقول التفهيم بالإشارة فربّما يسمّى التفهيم بالإشارة قولاً، و عن الفرّاء أنّ العرب تسمّي كلّ ما وصل إلى الإنسان كلاماً بأيّ طريق وصل ما لم يؤكّد بالمصدر فإذا اُكّد لم يكن إلّا حقيقة الكلام.

و ليس ببعيد أن يستفاد من قوله:( فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً ) بمعونة السياق أنّه أمرها أن تنوي الصوم لوقتها و تنذره لله على نفسها فلا يكون إخباراً بما لا حقيقة له.

و قوله:( فَإِمَّا تَرَيِنَّ ) إلخ، على أيّ حال متفرّع على قوله:( وَ قَرِّي

٤٤

عَيْناً ) و المراد لا تكلّمي بشراً و لا تجيبي أحداً سألك عن شأني بل ردّي الأمر إليّ فأنا أكفيك جواب سؤالهم و اُدافع خصامهم.

قوله تعالى: ( فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ أنى لك هذا لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا ) الضميران في( بِهِ ) و( تَحْمِلُهُ ) لعيسى،طعن و تقبيح حملهم عليه ما شاهدوه عن عجيب أمرها مع ما لها من سابقة الزهد و الاحتجاب و كانت ابنة عمران و من آل هارون القدّيس، و الفريّ هو العظيم البديع و قيل: هو من الافتراء بمعنى الكذب كناية عن القبيح المنكر و الآية التالية تؤيّد المعنى الأوّل، و معنى الآية واضح.

قوله تعالى: ( يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) ذكر في المجمع، أنّ في المراد من هارون أربعة أقوال: أحدها: أنّه كان رجلاً صالحاً من بني إسرائيل ينسب إليه كلّ صالح و على هذا فالمراد بالاُخوّة الشباهة و معنى( يا أُخْتَ هارُونَ ) يا شبيهة هارون، و الثاني: أنّه كان أخاها لأبيها لا من اُمّها، و الثالث: أنّ المراد به هارون أخو موسى الكليم و على هذا فالمراد بالاُخوّة الانتساب كما يقال: أخو تميم، و الرابع: أنّه كان رجلاً معروفاً بالعهر و الفساد انتهى ملخّصاً و البغيّ الزانية، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) إشارتها إليه إرجاع لهم إليه حتّى يجيبهم و يكشف لهم عن حقيقة الأمر، و هو جرى منها على ما أمرها به حينما ولد بقوله:( فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ) على ما تقدّم البحث عنه.

و المهد السرير الّذي يهيّؤ للصبيّ فيوضع فيه و ينوّم عليه، و قيل: المراد بالمهد في الآية حجر اُمّه، و قيل المرباة أي المرجحة، و قيل المكان الّذي استقرّ عليه كلّ ذلك لأنّها لم تكن هيّئت له مهداً، و الحقّ أنّ الآية ظاهرة في ذلك و لا دليل على أنّها لم تكن هيّئت وقتئذ له مهدا فلعلّ الناس هجموا عليها و كلّموها بعد ما رجعت إلى بيتها و استقرّت فيه و هيّئت له مهداً أو مرجحة و تسمّى أيضاً مهداً.

٤٥

و قد استشكلت الآية بأنّ الإتيان بلفظة كان مخلّ بالمعنى فإنّ ما يقتضيه المقام هو أن يستغربوا تكليم من هو في المهد صبيّ لا تكليم من كان في المهد صبيّاً قبل ذلك فكلّ من يكلّمه الناس من رجل أو امرأة كان في المهد صبيّاً قبل التكليم بحين و لا استغراب فيه.

و اُجيب عنه أوّلاً أنّ الزمان الماضي منه بعيد و منه قريب يلي الحال و إنّما يفسد المعنى لو كان مدلول كان في الآية هو الماضي البعيد، و أمّا لو كان هو القريب المتّصل بالحال و هو زمان التكليم فلا محذور فساد فيه. و الوجه للزمخشريّ في الكشّاف.

و فيه أنّه و إن دفع الإشكال غير أنّه لا ينطبق على نحو إنكارهم فإنّهم إنّما كانوا ينكرون تكليمه و تكلّمه من جهة أنّه صبيّ في المهد بالفعل لا من جهة أنّه كان قبل زمان يسير صبيّاً في المهد فيكون( كانَ ) زائداً مستدركاً.

و اُجيب عنه ثانياً: بأنّ قوله:( كَيْفَ نُكَلِّمُ ) لحكاية الحال الماضية و( مَنْ ) موصولة و المعنى كيف نكلّم الموصوفين بأنّهم في المهد أي لم نكلّمهم إلى الآن حتّى نكلّم هذا. و هذا الوجه أيضاً للزمخشريّ في الكشّاف.

و فيه أنّه و إن استحسنه غير واحد لكنّه معنى بعيد عن الفهم!.

و اُجيب عنه ثالثاً أنّ كان زائد للتأكيد من غير دلالة على الزمان، و( مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ ) مبتدأ و خبر، و صبيّاً حال مؤكّدة.

و فيه أنّه لا دليل عليه، على أنّه زيادة موجبة للالتباس من غير ضرورة على أنّه قيل إنّ:( كانَ ) الزائدة تدلّ على الزمان و إن لم تدلّ على الحدث.

و اُجيب عنه رابعاً بأنّ( مَنْ ) في الآية شرطيّة و( كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ) شرطها و قوله:( كَيْفَ نُكَلِّمُ ) في محلّ الجزاء و المعنى من كان في المهد صبيّاً لا يمكن تكليمه و الماضي في الجملة الشرطيّة بمعنى المستقبل فلا إشكال.

و فيه أنّه تكلّف ظاهر.

و يمكن أن يقال: إنّ( كانَ ) منعزلة عن الدلالة على الزمان لما في الكلام من

٤٦

معنى الشرط و الجزاء فإنّه في معنى من كان صبيّاً لا يمكن تكليمه أو أنّ كان جيي‏ء بها للدلالة على ثبوت الوصف لموصوفه ثبوتاً يقضي مضيّه عليه و تحقّقه فيه و لزومه له كقوله تعالى:( قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا ) الإسراء: ٩٣ أي إنّ البشريّة و الرسالة تحقّقاً فيّ فلا يسعني ما لا يسع البشر الرسول، و قوله تعالى:( وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ) الإسراء: ٦٣ أي إنّ النصرة لازمة له بجعلنا لزوم الوصف الماضي لموصوفه و يكون المعنى كيف نكلّم صبيّاً في المهد ممعنا في صباه من شأنه أنّه لبث و سيلبث في صباه برهة من الزمان. و الله أعلم.

قوله تعالى: ( قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا ) شروع منه (عليه السلام) في الجواب و لم يتعرّض لمشكلة الولادة الّتي كانوا يكرّون بها على مريم (عليها السلام) لأنّ نطقه على صباه و هو آية معجزة و ما أخبر به من الحقيقة لا يدع ريباً لمرتاب في أمره على أنّه سلّم في آخر كلامه على نفسه فشهد بذلك على نزاهته و أمنة من كلّ قذارة و خباثة و من نزاهته طهارة مولده.

و قد بدأ بقوله:( إِنِّي عَبْدُ اللهِ ) اعترافاً بالعبوديّة لله ليبطل به غلوّ الغالين و تتمّ الحجّة عليهم، كما ختمه بمثل ذلك إذ يقول:( وَ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ) .

و في قوله:( آتانِيَ الْكِتابَ ) إخبار بإعطاء الكتاب و الظاهر أنّه الإنجيل، و في قوله:( وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا ) إعلام بنبوّته، و قد تقدّم في مباحث النبوّة في الجزء الثاني من الكتاب الفرق بين النبوّة و الرسالة، فقد كان يومئذ نبيّاً فحسب ثمّ اختاره الله للرسالة، و ظاهر الكلام أنّه كان اُوتي الكتاب و النبوّة لا أنّ ذلك إخبار بما سيقع.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ) كونه (عليه السلام) مباركاً أينما كان هو كونه محلّاً لكلّ بركة و البركة نماء الخير كان نفّاعاً للناس يعلّمهم العلم النافع و يدعوهم إلى العمل الصالح و يربّيهم تربية

٤٧

زاكية و يبرئ الأكمه و الأبرص و يصلح القوي و يعين الضعيف.

و قوله:( وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ) إلخ، إشارة إلى تشريع الصلاة و الزكاة في شريعته، و الصلاة هي التوجّه العباديّ الخاصّ إلى الله سبحانه و الزكاة الإنفاق المالي و هذا هو الّذي استقرّ عليه عرف القرآن كلّما ذكر الصلاة و الزكاة و قارن بينهما و ذلك في نيّف و عشرين موضعاً فلا يعتدّ بقول من قال: إنّ المراد بالزكاة تزكية النفس و تطهيرها دون الإنفاق المالي.

قوله تعالى: ( وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا ) أي جعلني حنيناً رؤفا بالناس و من ذلك أنّي برّ بوالدتي و لست جبّاراً شقيّاً بالنسبة إلى سائر الناس، و الجبّار هو الّذي يحمّل الناس و لا يتحمّل منهم، و نقل عن ابن عطاء أنّ الجبّار الّذي لا ينصح و الشقيّ الّذي لا ينتصح.

قوله تعالى: ( وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) تسليم منه على نفسه في المواطن الثلاثة الكلّيّة الّتي تستقبله في كونه و وجوده، و قد تقدّم توضيحه في آخر قصّة يحيى المتقدّمة.

نعم بين التسليمتين فرق، فالسلام في قصّة يحيى نكرة يدلّ على النوع، و في هذه القصّة محلّى بلام الجنس يفيد بإطلاقه الاستغراق، و فرق آخر و هو أنّ المسلّم على يحيى هو الله سبحانه و على عيسى هو نفسه.

قوله تعالى: ( ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) الظاهر أنّ هذه الآية و الّتي تليها معترضتان، و الآية الثالثة:( وَ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ ) من تمام قول عيسى (عليه السلام).

و قوله:( ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) الإشارة فيه إلى مجموع ما قصّ من أمره و شرح من وصفه أي ذلك الّذي ذكرنا كيفيّة ولادته و ما وصفه هو للناس من عبوديّته و إيتائه الكتاب و جعله نبيّاً هو عيسى بن مريم.

و قوله:( قَوْلَ الْحَقِّ ) منصوب بمقدّر أي أقول قول الحقّ، و قوله:( الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) أي يشكّون أو يتنازعون، وصف لعيسى، و المعنى: ذلك عيسى بن مريم

٤٨

الّذي يشكّون أو يتنازعون فيه.

و قيل: المراد بقول الحقّ كلمة الحقّ و هو عيسى (عليه السلام) لأنّ الله سبحانه سمّاه كلمته في قوله:( وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ ) النساء: ١٧١ و قوله:( يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ) آل عمران: ٤٥، و قوله:( بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ ) آل عمران: ٣٩، و عليه فقول الحقّ منصوب على المدح، و يؤيّد المعنى الأوّل قوله تعالى في هذا المعنى في آخر القصّة من سورة آل عمران:( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) آل عمران: ٦٠.

قوله تعالى: ( ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) نفي و إبطال لما قالت به النصارى من بنوّة المسيح، و قوله:( إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ ) حجّة اُقيمت على ذلك، و قد عبّر بلفظ القضاء للدلالة على ملاك الاستحالة.

و ذلك أنّ الولد إنّما يراد للاستعانة به في الحوائج، و الله سبحانه غنيّ عن ذلك لا تتخلّف مراد عن إرادته إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون.

و أيضاً الولد هو أجزاء من وجود الوالد يعزلها ثمّ يربّيها بالتدريج حتّى يصير فردا مثله، و الله سبحانه غنيّ عن التوسّل في فعله إلى التدريج و لا مثل له بل ما أراده كان كما أراده من غير مهلة و تدريج من غير أن يماثله، و قد تقدّم نظير هذا المعنى في تفسير قوله:( وَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ ) ، الآية: البقرة: ١١٦ في الجزء الأوّل من الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) معطوف على قوله:( إِنِّي عَبْدُ اللهِ ) و هو من قول عيسى (عليه السلام)، و من الدليل عليه وقوع الآية بعينها في المحكيّ من دعوته قومه في قصّته من سورة آل عمران، و نظيره في سورة الزخرف حيث قال:( إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) الزخرف: ٦٥.

فلا وجه لما احتمله بعضهم أنّ الآية استئناف و ابتداء كلام من الله سبحانه أو أمر منه للنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أن يقول: إنّ الله ربّي و ربّكم إلخ على أنّ سياق الآيات

٤٩

أيضاً لا يساعد على شي‏ء من الوجهين فهو من كلام عيسى (عليه السلام) ختم كلامه بالاعتراف بالمربوبيّة كما بدأ كلامه بالشهادة على العبوديّة ليقطع به دابر غلوّ الغالين في حقّه و يتمّ الحجّة عليهم.

قوله تعالى: ( فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) الأحزاب جمع حزب و هو الجمع المنقطع في رأيه عن غيره فاختلاف الأحزاب هو قول كلّ منهم فيه (عليه السلام) خلاف ما يقوله الآخرون، و إنّما قال:( مِنْ بَيْنِهِمْ ) لأنّ فيهم من ثبت على الحقّ، و ربّما قيل( مِنْ ) زائدة و الأصل اختلف الأحزاب بينهم، و هو كما ترى.

و الويل كلمة تهديد تفيد تشديد العذاب، و المشهد مصدر ميميّ بمعنى الشهود: هذا.

و قد تقدّم الكلام في تفصيل قصص المسيح (عليه السلام) و كلّيّات اختلافات النصارى فيه في الجزء الثالث من الكتاب.

قوله تعالى: ( أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) أي ما أسمعهم و أبصرهم بالحقّ يوم يأتوننا و يرجعون إلينا و هو يوم القيامة فيتبيّن لهم وجه الحقّ فيما اختلفوا فيه كما حكى اعترافهم به في قوله:( رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) الم السجدة: ١٢.

و أمّا الاستدراك الّذي في قوله:( لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) فهو لدفع توهّم أنّهم إذا سمعوا و أبصروا يوم القيامة و انكشف لهم الحقّ سيهتدون فيسعدون بحصول المعرفة و اليقين فاستدرك أنّهم لا ينتفعون بذلك و لا يهتدون بل الظالمون اليوم في ضلال مبين لظلمهم.

و ذلك أنّ اليوم يوم جزاء لا يوم عمل فلا يواجهون اليوم إلّا ما قدّموه من العمل و أثره و ما اكتسبوه في أمسهم ليومهم و أمّا أن يستأنفوا يوم القيامة عملاً يتوقّعون جزاءه غدا فليس لليوم غد، و بعبارة اُخرى هؤلاء قد رسخت فيهم ملكة الضلال في الدنيا و انقطعوا عن موطن الاختيار بحلول الموت فليس لهم إلّا

٥٠

أن يعيشوا مضطرّين على ما هيّئوا لأنفسهم من الضلال لا معدل عنه فلا ينفعهم انكشاف الحقّ و ظهور الحقيقة.

و ذكر بعضهم أنّ المراد بالآية أمر النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) أن يسمع القوم و يبصّرهم ببيان أنّهم يوم يحضرون للحساب و الجزاء سيكونون في ضلال مبين. و هو وجه سخيف لا ينطبق على الآية البتّة.

قوله تعالى: ( وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ظاهر السياق أنّ قوله:( إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ ) بيان لقوله:( يَوْمَ الْحَسْرَةِ ) ففيه إشارة إلى أنّ الحسرة إنّما تأتيهم من ناحية قضاء الأمر و القضاء إنّما يوجب الحسرة إذا كان بحيث يفوت به عن المقضيّ عليه ما فيه قرّة عينه و اُمنيّة نفسه و مخّ سعادته الّذي كان يقدّر حصوله لنفسه و لا يرى طيبا للعيش دونه لتعلّق قلبه به و تولّهه فيه، و معلوم أنّ الإنسان لا يرضى لفوت ما هذا شأنه و إن احتمل في سبيل حفظه أيّ مكروه إلّا أن يصرفه عنه الغفلة فيفرّط في جنبه و لذلك عقّب الكلام بقوله:( وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

فالمعنى - و الله أعلم - و خوّفهم يوماً يقضى فيه الأمر فيتحتّم عليهم الهلاك الدائم فينقطعون عن سعادتهم الخالدة الّتي فيها قرّة أعينهم فيتحسّرون عليها حسرة لا تقدّر بقدر إذ غفلوا في الدنيا فلم يسلكوا الصراط الّذي يهديهم و يوصلهم إليها بالاستقامة و هو الإيمان بالله وحده و تنزيهه عن الولد و الشريك.

و فيما قدّمناه كفاية عن تفاريق الوجوه الّتي أوردوها في تفسير الآية و الله الهادي.

قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها وَ إِلَيْنا يُرْجَعُونَ ) قال الراغب في المفردات: الوراثة و الإرث انتقال قنية إليك عن غيرك من غير عقد و لا ما يجري مجرى العقد و سمّي بذلك المنتقل عن الميّت - إلى أن قال - و يقال: ورثت مالاً عن زيد و ورثت زيداً. انتهى.

و الآية - كأنّها - تثبيت و نوع تقريب لقوله في الآية السابقة:( قُضِيَ الْأَمْرُ )

٥١

فالمعنى و هذا القضاء سهل يسير علينا فإنّا نرث الأرض و إيّاهم و إلينا يرجعون و وراثة الأرض أنّهم يتركونها بالموت فيبقى لله تعالى و وراثة من عليها أنّهم يموتون فيبقى ما بأيديهم لله سبحانه، و على هذا فالجملتان( نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها ) في معنى جملة واحدة( نرث عنهم الأرض) .

و يمكن أن نحمل الآية على معنى أدقّ من ذلك و هو أن يراد أنّ الله سبحانه هو الباقي بعد فناء كلّ شي‏ء فهو الباقي بعد فناء الأرض يملك عنها ما كانت تملكه من الوجود و آثار الوجود و هو الباقي بعد فناء الإنسان يملك ما كان يملكه كما قصر الملك لنفسه في قوله:( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن: ١٦، و قوله:( وَ نَرِثُهُ ما يَقُولُ وَ يَأْتِينا فَرْداً ) مريم: ٨٤.

و يرجع معنى هذه الوراثة إلى رجوع الكلّ و حشرهم إليه تعالى فيكون قوله:( وَ إِلَيْنا يُرْجَعُونَ ) عطف تفسير و بمنزلة التعليل للجملة الثانية أو لمجموع الجملتين بتغليب اُولي العقل على غيرهم أو لبروز كلّ شي‏ء يومئذ أحياء عقلاء.

و هذا الوجه أسلم من شبهة التكرار اللازم للوجه الأوّل فإنّ الكلام عليه نظير أن يقال ورثت مال زيد و زيداً.

و اختتام الكلام على قصّة عيسى (عليه السلام) بهذه الآية لا يخلو عن مناسبة فإنّ وراثته تعالى من الحجج على نفي الولد فإنّ الولد إنّما يراد ليكون وارثاً لوالده فالّذي يرث كلّ شي‏ء في غنى عن الولد.

( بحث روائي)

في المجمع و روي عن الباقر (عليه السلام): أنّه يعني جبرئيل تناول جيب مدرعتها فنفخ فيه نفخة فكمل الولد في الرحم من ساعته كما يكمل الولد في أرحام النساء تسعة أشهر فخرجت من المستحمّ و هي حامل محج مثقل فنظرت إليها خالتها فأنكرتها و مضت مريم على وجهها مستحية من خالتها و من زكريّا، و قيل: كانت مدّة حملها تسع ساعات: و هذا مرويّ عن أبي عبدالله (عليه السلام).

٥٢

أقول: و في بعض الروايات أنّ مدّة حملها كانت ستّة أشهر.

و في المجمع في قوله تعالى:( قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا ) الآية و إنّما تمنّت الموت - إلى أن قال - و روي عن الصادق (عليه السلام): لأنّها لم تر في قومها رشيداً ذا فراسة ينزّهها من السوء.

و فيه في قوله تعالى:( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) قيل: ضرب جبرئيل برجله فظهر ماء عذب و قيل: بل ضرب عيسى برجله فظهرت عين ماء تجري: و هو المرويّ عن أبي جعفر (عليه السلام).

و في الدرّ المنثور، أخرج الطبرانيّ في الصغير و ابن مردويه عن البراء بن عازب عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): في قوله:( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ) قال النهر.

أقول: و في رواية اُخرى فيه‏ عن ابن عمر عنه (صلّي الله عليه وآله وسلّم): أنّه نهر أخرجه الله لها لتشرب منه.

و في الخصال، عن عليّ (عليه السلام) من حديث الأربعمائة: ما تأكل الحامل من شي‏ء و لا تتداوى به أفضل من الرطب قال الله تعالى لمريم:( وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً ) .

أقول: و هذا المعنى مرويّ في عدّة روايات من طرق أهل السنّة عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و من طرق الشيعة عن الباقر (عليه السلام).

و في الكافي، بإسناده عن جرّاح المدائنيّ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنّ الصيام ليس من الطعام و الشراب وحده. ثمّ قال: قالت مريم:( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً ) أي صوما صمتا - و في نسخة أي صمتاً - فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم و غضّوا أبصاركم و لا تنازعوا و لا تحاسدوا. الحديث.

و في كتاب سعد السعود، لابن طاووس من كتاب عبد الرحمن بن محمّد الأزديّ: و حدّثني سماك بن حرب عن المغيرة بن شعبة: أنّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بعثه إلى نجران فقالوا: أ لستم تقرؤن:( يا أُخْتَ هارُونَ ) و بينهما كذا و كذا؟ فذكر ذلك للنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فقال: أ لا قلت لهم: إنّهم كانوا يسمّون بأنبيائهم و الصالحين منهم.

٥٣

أقول: و أورد الحديث في الدرّ المنثور، مفصّلاً و في مجمع البيان، مختصراً عن المغيرة عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم)، و معنى الحديث أنّ المراد بهارون في قوله:( يا أُخْتَ هارُونَ ) رجل مسمّى باسم هارون النبيّ أخي موسى (عليه السلام)، و لا دلالة فيه على كونه من الصالحين كما توهّمه بعضهم.

و في الكافي، و معاني الأخبار، عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى:( وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ ) قال: نفّاعاً.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن أرباب الكتب عن أبي هريرة عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و لفظ الحديث: قال النبيّ قول عيسى (عليه السلام):( وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ ) قال: جعلني نفّاعاً للناس أين اتّجهت.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن عديّ و ابن عساكر عن ابن مسعود عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم):( وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ ) قال: معلّماً و مؤدّياً.

و في الكافي، بإسناده عن بريد الكناسيّ قال: سألت أباجعفر (عليه السلام) أ كان عيسى بن مريم حين تكلّم في المهد حجّة الله على أهل زمانه؟ فقال: كان يومئذ نبيّاً حجّة لله غير مرسل، أ ما تسمع لقوله حين قال:( إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ) .

قلت: فكان يومئذ حجّة لله على زكريّا في تلك الحال و هو في المهد؟ فقال: كان عيسى في تلك الحال آية لله و رحمة من الله لمريم حين تكلّم فعبّر عنها و كان نبيّاً حجّة على من سمع كلامه في تلك الحال ثمّ صمت فلم يتكلّم حتّى مضت له سنتان و كان زكريّا الحجّة لله عزوجلّ بعد صمت عيسى بسنتين.

ثمّ مات زكريّا فورثه ابنه يحيى الكتاب و الحكمة و هو صبيّ صغير أ ما تسمع لقوله عزّوجلّ:( يا يَحْيى‏ خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) فلمّا بلغ سبع سنين تكلّم بالنبوّة و الرسالة حين أوحى الله إليه، فكان عيسى الحجّة على يحيى و على الناس أجمعين.

و ليس تبقى الأرض يا أبا خالد يوماً واحداً بغير حجّة لله على الناس منذ يوم

٥٤

خلق الله آدم (عليه السلام) و أسكنه الأرض. الحديث.

و فيه، بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: قلت للرضا (عليه السلام) قد كنّا نسألك قبل أن يهب الله لك أباجعفر فكنت تقول: يهب الله لي غلاماً فقد وهب الله لك فقرّ عيوننا فلا أرانا الله يومك فإن كان كون فإلى من؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر (عليه السلام) و هو قائم بين يديه: فقلت: جعلت فداك هذا ابن ثلاث سنين قال: و ما يضرّه من ذلك شي‏ء قد قام عيسى بالحجّة و هو ابن ثلاث سنين.

أقول: و يقرب منه ما في بعض آخر من الروايات.

و فيه، بإسناده عن معاوية بن وهب قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن أفضل ما يتقرّب به العباد إلى ربّهم و أحبّ ذلك إلى الله عزّوجلّ ما هو؟ فقال: ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة أ لا ترى أنّ العبد الصالح عيسى بن مريم قال:( وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ) .

و في عيون الأخبار، بإسناده عن الصادق (عليه السلام) في حديث: و منها عقوق الوالدين لأنّ الله عزّوجلّ جعل العاقّ جبّاراً شقيّاً في قوله حكاية عن عيسى (عليه السلام):( وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا ) .

أقول: ظاهر الرواية أنّه (عليه السلام) أخذ قوله:( وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا ) عطف تفسير لقوله:( وَ بَرًّا بِوالِدَتِي ) .

و في المجمع، و روى مسلم في الصحيح بالإسناد عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): إذا دخل أهل الجنّة الجنّة و أهل النار النار قيل: يا أهل الجنّة فيشرفون و ينظرون، و قيل: يا أهل النار فيشرفون و ينظرون فيجاء بالموت كأنّه كبش أملح فيقال لهم: تعرفون الموت؟ فيقولون: هذا هذا و كلّ قد عرفه. قال: فيقدّم فيذبح ثمّ يقال: يا أهل الجنّة خلود فلا موت و يا أهل النار خلود فلا موت: قال: فذلك قوله:( وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ) الآية.

قال: و رواه أصحابنا عن أبي جعفر و أبي عبدالله (عليه السلام) ثمّ جاء في آخره: فيفرح

٥٥

أهل الجنّة فرحاً لو كان أحد يومئذ ميّتاً لماتوا فرحاً، و يشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميّتاً لماتوا.

أقول: و روى هذا المعنى غير مسلم من أرباب الجوامع كالبخاريّ و الترمذيّ و النسائيّ و الطبريّ و غيرهم عن أبي سعيد و أبي هريرة و ابن مسعود و ابن عبّاس.

و في تفسير القمّيّ و قوله:( إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها ) قال: كلّ شي‏ء خلقه الله يرثه الله يوم القيامة.

أقول: و هذا هو المعنى الثاني من معنيي الآية المتقدّمة في تفسيرها.

٥٦

( سورة مريم الآيات ٤١ - ٥٠)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا ( ٤١ ) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا ( ٤٢ ) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ( ٤٣ ) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا ( ٤٤ ) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ( ٤٥ ) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ( ٤٦ ) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ( ٤٧ ) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ( ٤٨ ) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ( ٤٩ ) وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ( ٥٠ )

( بيان)

تشير الآيات إلى نبذة من قصّة إبراهيم (عليه السلام) و هي محاجّته أباه في أمر الأصنام بما آتاه الله من الهدى الفطريّ و المعرفة اليقينيّة و اعتزاله إيّاه و قومه و آلهتهم فوهب الله له إسحاق و يعقوب و خصّه بكلمة باقية في عقبه و جعل له و لأعقابه ذكراً

٥٧

جميلاً باقياً مدى الدهر.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ) الظاهر أنّ الصدّيق اسم مبالغة من الصدق فهو الّذي يبالغ في الصدق فيقول ما يفعل و يفعل ما يقول لا مناقضة بين قوله و فعله، و كذلك كان إبراهيم (عليه السلام) قال بالتوحيد في عالم وثنيّ و هو وحده فحاجّ أباه و قومه و قاوم ملك بابل و كسر الآلهة و ثبت على ما قال حتّى ألقي في النار ثمّ اعتزلهم و ما يعبدون كما وعد أباه أوّل يوم فوهب الله له إسحاق و يعقوب إلى آخر ما عدّه تعالى من مواهبه.

و قيل: إنّ الصدّيق اسم مبالغة للتصديق، و معناه: أنّه كان كثير التصديق للحقّ يصدّقه بقوله و فعله، و هذا المعنى و إن وافق المعنى الأوّل بحسب المال لكن يبعّده ندرة مجي‏ء صيغة المبالغة من المزيد فيه.

و النبيّ على وزن فعيل مأخوذ من النبأ سمّي به النبيّ لأنّه عنده نبأ الغيب بوحي من الله، و قيل: هو مأخوذ من النبوة بمعنى الرفعة سمّي به لرفعة قدره.

قوله تعالى: ( إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ) ظرف لإبراهيم حيث إنّ المراد بذكره و ذكر نبائه و قصّته كما تقدّم نظيره في قوله:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ ) و أمّا قول من قال بكونه ظرفاً لقوله:( صِدِّيقاً ) أو قوله:( نَبِيًّا ) فهو تكلّف يستبشعه الطبع السليم.

و قد نبّه إبراهيم أباه فيما ألقى إليه من الخطاب أوّلاً أنّ طريقه الّذي يسلكه بعبادة الأصنام لغو باطل، و ثانياً أنّ له من العلم ما ليس عنده فليتّبعه ليهديه إلى طريق الحقّ لأنّه على خطر من ولاية الشيطان.

فقوله:( يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ ) إلخ، إنكار توبيخيّ لعبادته الأصنام و قد عدل من ذكر الأصنام إلى ذكر أوصافها( ما لا يَسْمَعُ )

إلخ، ليشير إلى الدليل في ضمن إلقاء المدلول و يعطي الحجّة في طيّ المدّعى و هو أنّ عبادة الأصنام لغو باطل من وجهين: أحدهما أنّ العبادة إظهار الخضوع و تمثيل التذلّل من العابد للمعبود فلا يستقيم إلّا مع علم المعبود بذلك، و الأصنام جمادات مصوّرة فاقدة للشعور

٥٨

لا تسمع و لا تبصر فعبادتها لغو لا أثر لها، و هذا هو الذي أشار إليه بقوله:( لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ ) .

و ثانيهما: أنّ العبادة و الدعاء و رفع الحاجة إلى شي‏ء إنّما ذلك ليجلب للعابد نفعاً أو يدفع عنه ضرراً فيتوقّف و لا محالة على قدرة في المعبود على ذلك، و الأصنام لا قدرة لها على شي‏ء فلا تغني عن عابدها شيئاً بجلب نفع أو دفع ضرر فعبادتها لغو لا أثر لها، و هذا هو الّذي أشار إليه بقوله:( وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ) .

و قد تقدّم في تفسير سورة الأنعام أنّ هذا الذي كان يخاطبه إبراهيم (عليه السلام) بقوله:( يا أَبَتِ ) لم يكن والده و إنّما كان عمّه أو جدّه لاُمّه أو زوج أمه بعد وفاة والده فراجع.

و المعروف من مذهب النحاة في لفظ( يا أبت) أنّ التاء عوض من ياء المتكلّم و مثله( يا اُمّت) و يختصّ التعويض بالنداء فلا يقال مثلا قال أبت و قالت اُمّت.

قوله تعالى: ( يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا ) لمّا بيّن له بطلان عبادته للأصنام و لغويّتها و كان لازم معناه أنّه سألك طريق غير سويّ عن جهل نبّهه أنّ له علماً بهذا الشأن ليس عنده و عليه أن يتّبعه حتّى يهديه إلى صراط - و هو الطريق الّذي لا يضلّ سالكه لوضوحه - سويّ هو في غفلة من أمره، و لذا نكّره إذ قال:( أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا ) و لم يقل: أهدك الصراط السوي كأنّه يقول: إذ كنت تسلك صراطاً و لا محالة من سلوكه فلا تسلك هذا الصراط غير السويّ بجهالة بل اتّبعني أهدك صراطاً سويّاً فإنّي لذو علم بهذا الشأن.

و في قوله:( قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ) دليل على أنّه اُوتي العلم بالحقّ قبل دعوته و محاجّته هذه و فيه تصديق ما قدّمناه في قصّته (عليه السلام) من سورة الأنعام أنّه اُوتي العلم بالله و مشاهدة ملكوت السماوات و الأرض قبل أن يلقى أباه و قومه و يحاجّهم.

٥٩

و المراد بالهداية في قوله:( أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا ) الهداية بمعنى إراءة الطريق دون الإيصال إلى المطلوب فإنّه شأن الإمام و لم يجعل إماماً، بعد و قد فصّلنا القول في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى:( قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) البقرة: ١٣٤.

قوله تعالى: ( يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا ) إلى آخر الآيتين الوثنيّون يرون وجود الجنّ - و إبليس من الجنّ - و يعبدون أصنامهم كما يعبدون أصنام الملائكة و القدّيسين من البشر، غير أنّه ليس المراد بالنهي النهي عن العبادة بهذا المعنى إذ لا موجب لتخصيص الجنّ من بين معبوديهم بالنهي عن عبادتهم بل المراد بالعبادة الطاعة كما في قوله تعالى:( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ) الآية: يس: ٦٠، فالنهي عن عبادة الشيطان نهي عن طاعته فيما يأمر به و ممّا يأمر به عبادة غير الله.

لمّا دعاه إلى اتّباعه ليهديه إلى صراط سويّ أراد أن يحرّضه على الاتّباع بقلعه عمّا هو عليه فنبّهه على أنّ عبادة الأصنام ليست مجرّد لغو لا يضرّ و لا ينفع بل هي في معرض أن تورد صاحبها مورد الهلاك و تدخله تحت ولاية الشيطان الّتي لا مطمع بعدها في صلاح و فلاح و لا رجاء لسلامة و سعادة.

و ذلك أنّ عبادتها - و المستحقّ للعبادة هو الله سبحانه لكونه رحمانا تنتهي إليه كلّ رحمة - و التقرّب إليها إنّما هي من الشيطان و تسويله، و الشيطان عصيّ للرحمن لا يأمر بشي‏ء فيه رضاه و إنّما يوسوس بما فيه معصيته المؤدّية إلى عذابه و سخطه و العكوف على معصيته و خاصّة في أخصّ حقوقه و هي عبادته وحده، فيه مخافة أن ينقطع عن العاصي رحمته و هي الهداية إلى السعادة و ينزل عليه عذاب الخذلان فلا يتولّى الله أمره فيكون الشيطان هو مولاه و هو وليّ الشيطان و هو الهلاك.

فمعنى الآيتين - و الله أعلم - يا أبت لا تطع الشيطان فيما يأمرك به من عبادة الأصنام لأنّ الشيطان عصيّ مقيم على معصية الله الذي هو مصدر كلّ رحمة و نعمة فهو لا يأمر إلّا بما فيه معصيته و الحرمان عن رحمته، و إنّما أنهاك عن معصيته في طاعة الشيطان لأنّي أخاف يا أبت أن يأخذك شي‏ء من عذاب خذلانه و ينقطع عنك

٦٠