الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  8%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96750 / تحميل: 5840
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

رحمته فلا يبقى لتولّي أمرك إلّا الشيطان فتكون وليّاً للشيطان و الشيطان مولاك.

و قد ظهر ممّا تقدم:

أوّلاً: أنّ المراد بالعبادة في قوله:( لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ ) عبادة الطاعة، و لوصف الشيطان - و معناه الشرير - دخلٌ في الحكم.

و ثانياً: وجه تبديل اسم الجلالة من وصف الرحمن في موضعين فإنّ لوصف الرحمة المطلقة دخلاً في الحكمين فإنّ كونه تعالى مصدراً لكلّ رحمة و نعمة هو الموجب لقبح الإصرار على معصيته و المصحّح للنهي عن طاعة من يقيم على عصيانه، و كذا مصدريّته لكلّ رحمة هو الباعث على الخوف من عذابه الّذي يلازم إمساك الرحمة و غشيان النقمة و الشقوة.

و ثالثاً: أنّ المراد بالعذاب هو الخذلان، أو ما هو بمعناه كإمساك الرحمة و ترك الإنسان و نفسه، و ما ذكره بعضهم أنّ المراد به العذاب الاُخروي لا يساعد عليه السياق.

قوله تعالى: ( قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا ) الرغبة عن الشي‏ء نقيض الرغبة فيه كما في المجمع، و الانتهاء: الكفّ عن الفعل بعد النهي، و الرجم: الرمي بالحجارة، و المعروف من معناه القتل برمي الحجارة، و الهجر هو الترك و المفارقة، و المليّ الدهر الطويل.

و في الآية تهديد لإبراهيم بأخزى القتل و أذلّه و هو الرجم الّذي يقتل به المطرودون، و فيها طرد آزر لإبراهيم عن نفسه.

قوله تعالى: ( قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ) الحفيّ على ما ذكره الراغب: البرّ اللطيف و هو الّذي يتتبّع دقائق الحوائج فيحسن و يرفعها واحداً بعد واحد، يقال: حفا يحفو حفي و حفوة، و إحفاء السؤال و الإحفاء فيه: الإلحاح و الإمعان فيه.

قابل إبراهيم (عليه السلام) أباه فيما أساء إليه و هدّده و فيه سلب الأمن عنه من قبله بالسلام الّذي فيه إحسان و إعطاء أمن، و وعده أن يستغفر له ربّه و أن يعتزلهم و ما

٦١

يدعون من دون الله كما أمره أن يهجره مليّا.

أمّا السلام فهو من دأب الكرام قابل به جهالة أبيه إذ هدّده بالرجم و طرده لكلمة حقّ قالها، قال تعالى:( وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ) الفرقان: ٧٢، و قال:( وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) الفرقان: ٦٣، و أمّا ما قيل: إنّه كان سلام توديع و تحيّة مفارقة و هجرة امتثالاً لقوله:( وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا ) ففيه أنّه اعتزله و قومه بعد مدّة غير قصيرة.

و أمّا استغفاره لأبيه و هو مشرك فظاهر قوله:( يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا ) أنّه (عليه السلام) لم يكن وقتئذ قاطعاً بكونه من أولياء الشيطان أي مطبوعاً على قلبه بالشرك جاحداً معانداً للحقّ عدوّاً لله سبحانه و لو كان قاطعاً لم يعبّر بمثل قوله:( إِنِّي أَخافُ ) بل كان يحتمل أن يكون جاهلاً مستضعفاً لو ظهر له الحقّ اتّبعه، و من الممكن أن تشمل الرحمة الإلهيّة لأمثال هؤلاء قال تعالى:( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً ) النساء: ٩٩، فاستعطفه (عليه السلام) بوعد الاستغفار و لم يحتم له المغفرة بل أظهر الرجاء بدليل قوله:( إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ) و قوله تعالى:( إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) الممتحنة: ٤.

و يؤيّد ما ذكر قوله تعالى:( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى‏ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ، وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) التوبة: ١١٤، فتبرّيه بعد تبيّن عداوته دليل على أنّه كان قبل ذلك عند الموعدة يرجو أن يكون غير عدوّ لله مع كونه مشركاً، و ليس ذلك إلّا الجاهل غير المعاند.

و يؤيّد هذا النظر قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ - إلى أن قال -لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ

٦٢

يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) الخ الممتحنة: ٨.

و ممّا قيل في توجيه استغفاره لأبيه و هو مشرك أنّه وعده الاستغفار و استغفر له بمقتضى العقل فإنّ العقل لا يأبى عن تجويزه و إنّما منع منه النقل و لم يثبت يومئذ المنع عنه شرعاً ثمّ لمّا حرّم ذلك في شرعه تبرأ منه.

و فيه: أنّه لا ينطبق على آيات القصّة كما يظهر بالتأمّل فيما قدّمناه.

و منها: أنّ معنى استغفاره كان مشروطاً بتوبته و إيمانه. و هو كما ترى.

و منها: أنّ معنى( سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ) سأدعو الله أن لا يعذّبك في الدنيا. و هو كسابقه تقييد من غير مقيّد.

و منها: أنّه وعد الدعاء بالمسبّب و هو بالاستلزام وعد للدعاء بالسبب فمعنى سأسأل الله أن يغفر لك، سأسأله أن يوفّقك للتوبة و يهديك للإيمان فيغفر لك، و يمكن أن يجعل طلب المغفرة كناية عن طلب توفيق التوبة و الهداية إلى الإيمان.

و هذا و إن كان أعدل الوجوه لكنّه لا يخلو عن بعد لأنّ في الكلام استعطافاً و هو بطلب المغفرة أنسب منه بطلب التوفيق و الهداية، تأمّل فيه.

و نظير دعائه لأبيه دعاؤه لعامّة المشركين في قوله:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) إبراهيم: ٣٦.

قوله تعالى: ( وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى‏ أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا ) وعد باعتزالهم و الابتعاد منهم و من أصنامهم ليخلو بربّه و يخلص الدعاء له رجاء أن لا يكون بسبب دعائه شقيّاً و إنّما أخذ بالرجاء لأنّ هذه الأسباب من الدعاء و التوجّه إلى الله و نحوه ليست بأسباب موجبة عليه تعالى شيئاً بل الإثابة و الإسعاد و نحوه بمجرّد التفضّل منه تعالى. على أنّ الاُمور بخواتمها و لا يعلم الغيب إلّا الله فعلى المؤمن أن يسير بين الخوف و الرجاء.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ

٦٣

وَ يَعْقُوبَ ) إلى آخر الآيتين. لعلّ الاقتصار على ذكر إسحاق لتعلّق الغرض بذكر توالي النبوّة في الشجرة الإسرائيليّة و لذلك عقّب إسحاق بذكر يعقوب فإنّ في نسله جمّاً غفيراً من الأنبياء، و يؤيّد ذلك أيضاً قوله:( وَ كُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا ) .

و قوله:( وَ وَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا ) من الممكن أن يكون المراد به الإمامة كما وقع في قوله:( وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) الأنبياء: ٧٣، أو التأييد بروح القدس كما يشير إليه قوله:( وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ ) الآية: الأنبياء: ٧٣ على ما سيجي‏ء من معناه أو مطلق الولاية الإلهيّة.

و قوله:( وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ) اللسان - على ما ذكروا - هو الذكر بين الناس بالمدح أو الذمّ و إذا اُضيف إلى الصدق فهو الثناء الجميل الّذي لا كذب فيه، و العليّ هو الرفيع و المعنى و جعلنا لهم ثناء جميلاً صادقاً رفيع القدر.

٦٤

( سورة مريم الآيات ٥١ - ٥٧)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا ( ٥١ ) وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ( ٥٢ ) وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ( ٥٣ ) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا ( ٥٤ ) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ( ٥٥ ) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا ( ٥٦ ) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ( ٥٧ )

( بيان)

ذكر جمع آخرين من الأنبياء و شي‏ء من موهبة الرحمة الّتي خصّهم الله بها، و هم موسى و هارون و إسماعيل و إدريس (عليه السلام).

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى‏ إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا ) قد تقدّم معنى المخلص بفتح اللام و أنّه الّذي أخلصه الله لنفسه فلا نصيب لغيره تعالى فيه لا في نفسه و لا في عمله، و هو أعلى مقامات العبوديّة. و تقدّم أيضاً الفرق بين الرسول و النبيّ.

قوله تعالى: ( وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا ) الأيمن: صفة لجانب أي الجانب الأيمن من الطور، و في المجمع النجيّ بمعنى المناجي كالجليس و الضجيع.

و ظاهر أنّ تقريبه (عليه السلام) كان تقريباً معنويّاً و إن كانت هذه الموهبة الإلهيّة في مكان و هو الطور ففيه كان التكليم، و مثاله من الحسّ أن ينادي السيّد

٦٥

العزيز عبده الذليل فيقرّبه من مجلسه حتّى يجعله نجيّاً يناجيه ففيه نيل ما لا سبيل لغيره إليه.

قوله تعالى: ( وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا ) إشارة إلى إجابة ما دعا به موسى عند ما اُوحى إليه لأوّل مرّة في الطور إذ قال:( وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) : طه: ٣٢.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ ) إلى آخر الآيتين. اختلفوا في( إِسْماعِيلَ ) هذا فقال الجمهور هو إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن، و إنّما ذكر وحده و لم يذكر مع إسحاق و يعقوب اعتناء بشأنه، و قيل: هو غيره، و هو إسماعيل بن حزقيل من أنبياء بني إسرائيل، و لو كان هو ابن إبراهيم لذكر مع إسحاق و يعقوب.

و يضعّف ما وجّه به قول الجمهور: إنّه استقلّ بالذكر اعتناء بشأنه، أنّه لو كان كذلك لكان الأنسب ذكره بعد إبراهيم و قبل موسى (عليهم السلام) لا بعد موسى.

قوله تعالى: ( وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ) المراد بأهله خاصّته من عترته و عشيرته و قومه كما هو ظاهر اللفظ، و قيل: المراد بأهله اُمّته و هو قول بلا دليل.

و المراد بكونه عند ربّه مرضيّاً كون نفسه مرضيّة دون عمله كما ربّما فسّره به بعضهم فإنّ إطلاق اللفظ لا يلائم تقييد الرضا بالعمل.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ) إلى آخر الآيتين. قالوا: إنّ إدريس النبيّ كان اسمه اُخنوخ و هو من أجداد نوح (عليهما السلام) على ما ذكر في سفر التكوين من التوراة، و إنّما اشتهر بإدريس لكثرة اشتغاله بالدرس.

و قوله:( وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ) من الممكن أن يستفاد من سياق القصص المسرودة في السورة و هي تعدّ مواهب النبوّة و الولاية و هي مقامات إلهيّة معنويّة أنّ المراد بالمكان العليّ الّذي رفع إليه درجة من درجات القرب إذ لا مزيّة في الارتفاع المادّي

٦٦

و الصعود إلى أقاصي الجوّ البعيدة أينما كان.

و قيل: إنّ المراد بذلك - كما ورد به الحديث - أنّ الله رفعه إلى بعض السماوات و قبضه هناك، و فيه إراءة آية خارقة و قدرة إلهيّة بالغة و كفى بها مزيّة.

( قصّة إسماعيل صادق الوعد)

لم ترد قصّة إسماعيل بن حزقيل النبيّ في القرآن إلّا في هاتين الآيتين على أحد التفسيرين و قد أثنى الله سبحانه عليه بجميل الثناء فعدّه صادق الوعد و آمراً بالمعروف و مرضيّاً عند ربّه، و ذكر أنّه كان رسولاً نبيّاً.

و أمّا الحديث ففي علل الشرائع، بإسناده عن ابن أبي عمير و محمّد بن سنان عمّن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنّ إسماعيل الّذي قال الله عزّوجلّ في كتابه:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا ) لم يكن إسماعيل بن إبراهيم بل كان نبيّاً من الأنبياء بعثه الله عزّوجلّ إلى قومه فأخذوه و سلخوا فروة رأسه و وجهه فأتاه ملك فقال: إنّ الله جلّ جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت فقال: لي اُسوة بما يصنع بالأنبياء (عليهم السلام).

أقول: و روى هذا المعنى أيضاً بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام) و في آخره: يكون لي اُسوة بالحسين (عليه السلام).

و في العيون، بإسناده إلى سليمان الجعفريّ عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: أ تدري لم سمّي إسماعيل صادق الوعد؟ قال: قلت: لا أدري. قال: وعد رجلاً فجلس له حولاً ينتظره.

أقول: و روى هذا المعنى في الكافي، عن ابن أبي عمير عن منصور بن حازم عن أبي عبدالله (عليه السلام)، و رواه أيضاً في المجمع، مرسلاً عنه (عليه السلام).

و في تفسير القمّيّ في قوله:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ ) قال: وعد وعداً فانتظر صاحبه سنة، و هو إسماعيل بن حزقيل.

أقول: وعده (عليه السلام) و هو أن يثبت في مكانه في انتظار صاحبه كان مطلقاً لم يقيّده

٦٧

بساعة أو يوم و نحوه فألزمه مقام الصدق أن يفي به بإطلاقه و يصبّر نفسه في المكان الّذي وعد صاحبه أن يقيم فيه حتّى يرجع إليه.

و صفة الوفاء كسائر الصفات النفسانيّة من الحبّ و الإرادة و العزم و الإيمان و الثقة و التسليم ذات مراتب مختلفة باختلاف العلم و اليقين فكما أنّ من الإيمان ما يجتمع مع أيّ خطيئة و إثم و هو أنزل مراتبه و لا يزال ينمو و يصفو حتّى يخلص من كلّ شرك خفيّ فلا يتعلّق القلب بشي‏ء غير الله و لو بالتفات إلى من دونه و هو أعلى مراتبه كذلك الوفاء بالوعد ذو مراتب فمن مراتبه في المقال مثلاً إقامة ساعة أو ساعتين حتّى تعرض حاجة اُخرى توجب الانصراف إليها و هو الّذي يصدق عليه الوفاء عرفاً، و أعلى منه مرتبة الإقامة بالمكان حتّى يوأس من رجوع الصديق إليه عادة بمجي‏ء اللّيل و نحوه فيقيّد به إطلاق الوعد، و أعلى منه مرتبة الأخذ بإطلاق القول و الإقامة حتّى يرجع و إن طال الزمان فالنفوس القويّة الّتي تراقب قولها و فعلها لا تلقي من القول إلّا ما في وسعها أن تصدّقه بالفعل ثمّ إذا لفظت لم يصرفها عن إتمام الكلمة و إنفاذ العزيمة أيّ صارف.

و في الرواية: أنّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وعد بعض أصحابه بمكّة أن ينتظره عند الكعبة حتّى يرجع إليه فمضى الرجل لشأنه و نسي الأمر فبقي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ثلاثة أيّام هناك ينتظره فاطّلع بعض الناس عليه فأخبر الرجل بذلك فجاء و اعتذر إليه و هذا مقام الصدّيقين لا يقولون إلّا ما يفعلون.

( قصّة إدريس النبيّ (عليه السلام))

١- لم يذكر (عليه السلام) في القرآن إلّا في الآيتين من سورة مريم:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ) الآية ٥٦ - ٥٧ و في قوله:( وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) الأنبياء: ٨٥ - ٨٦.

و في الآيات ثناء منه تعالى عليه جميل فقد عدّه نبيّاً و صدّيقاً و من الصابرين

٦٨

و من الصالحين، و أخبر أنّه رفعه مكاناً عليّاً.

٢- و من الروايات الواردة في قصّته ما عن كتاب كمال الدين و تمام النعمة، بإسناده عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن الباقر (عليه السلام) - و الحديث طويل لخّصناه - أنّه كان بدء نبوّة إدريس (عليه السلام) أنّه كان في زمانه ملك جبّار، و ركب ذات يوم في بعض النزهة فمرّ بأرض خضراء نضرة أعجبته فأحبّ أن يمتلكها و كانت الأرض لعبد مؤمن فأمر بإحضاره و ساومه فيها ليشتريها فلم يبعها و لم يرض به فرجع الملك إلى البلدة و هو مغموم متحيّر في أمره فاستشار امرأة له كان يستشيرها في هامّة الاُمور فأشارت عليه أن يقيم عليه شهوداً أنّه خرج عن دين الملك فيقتله و يملك أرضه ففعل ما أشارت إليه و غصب الأرض.

فأوحى الله إلى إدريس أن يأتي الملك و يقول له عنه: أ ما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلماً حتّى استخلصت أرضه خالصة لك و أحوجت عياله من بعده و أجعتهم؟ أما و عزّتي لأنتقمنّ له منك في الآجل و لأسلبنّ ملكك في العاجل، و لاُخرّبنّ مدينتك و لأذلّنّ عزّك و لأطعمنّ الكلاب لحم امرأتك فقد غرّك يا مبتلى حلمي عنك.

فأتاه إدريس برسالة الله و بلّغه ذلك في ملإ من أصحابه فأخرجه الملك من مجلسه ثمّ أرسل إليه بإشارة من امرأته قوماً يقتلونه، فانتبه لذلك بعض أصحاب إدريس و أشاروا عليه بالخروج و الهجرة فخرج منها ليومه و معه بعض أصحابه ثمّ ناجى ربّه و شكى إليه ما لقيه من الملك في رسالته إليه فأوحى إليه بالخروج من القرية، و أنّه سينفذ في الملك أمره و يصدّق فيه قوله، ثمّ سأل أن لا تمطر السماء على القرية و ما حولها حتّى يسأل ذلك فاُجيب إليه.

فأخبر إدريس بذلك أصحابه من المؤمنين و أمرهم بالخروج منها فخرجوا و تفرّقوا في البلاد و كانوا عشرين رجلاً و شاع خبر وحيه و خروجه بين الناس، و خرج هو متنحّياً إلى كهف في جبل شاهق يعبد الله فيه و يصوم النهار و يأتيه ملك بطعام يفطر به عند كلّ مساء.

٦٩

و أنفذ الله في الملك و امرأته و مدينته ما أوحاه إلى إدريس و ظهر في المدينة جبّار آخر عاص، و أمسكت السماء عنهم أمطارها عشرين سنة حتّى جهدوا و اشتدّت حالهم فلمّا بلغ بهم الجهد ذكر بعضهم لبعض أنّ الّذي لقوه من الجهد و المشقّة إنّما هو لدعاء إدريس عليهم أن لا يمطروا حتّى يسألوه و خروجه من بينهم و هم لا يعلمون أين هو؟ فالرأي أن يرجعوا و يتوبوا إلى الله و يسألوه المطر فهو أرحم بهم منه فاجتمعوا على الدعاء و التضرّع.

فأوحى الله إلى إدريس أنّ القوم عجّوا إليّ بالتوبة و الاستغفار و البكاء و التضرّع و قد رحمتهم و ما يمنعني من أمطارهم إلّا مناظرتك فيما سألتني أن لا اُمطر السماء عليهم حتّى تسألني فاسألني حتّى اُغيثهم، قال إدريس: اللّهمّ إنّي لا أسألك.

فأوحى الله إلى الملك الّذي كان يأتيه بالطعام أن يمسك عنه فأمسك عنه ثلاثة أيّام حتّى بلغ به الجوع: فنادى اللّهمّ حبست عنّي رزقي من قبل أن تقبض روحي فأوحى الله إليه: يا إدريس جزعت أن حبست عنك طعامك ثلاثة أيّام و لم تجزع من جوع أهل قريتك و جهدهم منذ عشرين سنة ثمّ سألتك أن تسألني أن اُمطر عليهم فبخلت و لم تسأل فأدّبتك بالجوع فاهبط من موضعك و اطلب المعاش لنفسك فقد وكلّتك في طلبه إلى حيلتك.

فهبط إدريس إلى قرية هناك و نظر إلى بيت يصعد منه دخان فهجم عليه و إذا عجوز كبيرة ترفق قرصتين لها على مقلاة فسألها أن تطعمه فقد بلغ به جهد الجوع فقالت: يا عبدالله ما تركت لنا دعوة إدريس فضلا نطعمه أحداً - و حلفت أنّها لا تملك غيره شيئاً - فاطلب المعاش من غير أهل هذه القرية، فقال لها: أطعميني ما اُمسك به روحي و تقوم به رجلي حتّى أطلب، قالت: إنّهما قرصتان واحدة لي و الاُخرى لابني فإن أطعمتك قوتي متّ و إن أطعمتك قوت ابني مات و ليس هاهنا فضل، قال: إنّ ابنك صغير يجزيه نصف قرصة فأطعمي كلّا منّا نصفا يكون لنا بلغة فرضيت و فعلت.

فلمّا رأى ابنها إدريس و هو يأكل من قرصته اضطرب حتّى مات، قالت اُمّه: يا عبدالله قتلت ابني جزعاً على قوته فقال: لا تجزعي فأنا اُحييه لك الساعة بإذن

٧٠

الله و أخذ بعضدي الصبيّ و قال: أيّتها الروح الخارجة عن بدنه بأمر الله ارجعي إلى بدنه بإذن الله و أنا إدريس النبيّ، فرجعت روح الغلام إليه.

فلمّا سمعت اُمّه كلام إدريس و قوله: أنا إدريس و نظرت إلى ابنها حيّا قالت: أشهد أنّك إدريس النبيّ و خرجت تنادي بأعلى صوتها في القرية: أبشروا بالفرج فقد دخل إدريس في قريتكم، فمضى إدريس حتّى جلس على موضع مدينة الجبّار الأوّل و قد تبدّلت تلّا من تراب فاجتمع إليه اُناس من أهل قريته و استرحموه و سألوه أن يدعو لهم فيمطروا. قال: لا، حتّى يأتيني جبّاركم هذا و جميع أهل قريتكم مشاة حفاة فيسألوني ذلك.

فبلغ ذلك الجبّار فبعث إلى إدريس أربعين رجلاً و أمرهم أن يأتوا به إليه، فلمّا جاؤه و كلّفوه الذهاب معهم إليه، دعا عليهم فماتوا عن آخرهم، ثمّ أرسل خمسمائة رجل فلمّا أتوه كلّفوه الذهاب و استرحموه فأراهم مصارع أصحابهم و قال: ما أنا بذاهب إليه و لا سائل حتّى يأتيني هو و جميع أهل القرية مشاة حفاة و يسألوني الدعاء للمطر.

فانطلقوا إليه و أخبروه بما قال و سألوه أن يمضي إليه هو و جميع أهل القرية مشاة حفاة و يسألوه أن يسأل الله أن تمطر السماء فأتوه حتّى وقفوا بين يديه خاضعين متذلّلين و سألوه أن يسأل الله أن تمطر السماء عليهم، فعند ذلك دعا إدريس أن تمطر السماء عليهم فأظلّتهم سحابة من السماء و أرعدت و أبرقت و هطلت عليهم من ساعتهم حتّى ظنّوا أنّه الغرق فما رجعوا إلى منازلهم حتّى أهمّتهم أنفسهم من الماء.

و في الكافي، بإسناده عن عبدالله بن أبان عن أبي عبدالله (عليه السلام): في حديث يذكر فيه مسجد السهلة: أ مّا علمت أنّه موضع بيت إدريس النبيّ الّذي كان يخيط فيه.

أقول: و قد شاع بين أهل السير و الآثار أنّه (عليه السلام) أوّل من خطّ بالقلم و أوّل من خاط.

و في تفسير القمّيّ، قال: و سمّي إدريس لكثرة دراسته الكتب.

٧١

أقول: ورد في بعض الروايات: في معنى قوله تعالى في إدريس (عليه السلام):( وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ) أنّ الله غضب على ملك من الملائكة فقطع جناحه و ألقاه في جزيرة من جزائر البحر فبقي هناك ما شاء الله، فلمّا بعث الله إدريس جاءه ذلك الملك و سأله أن يدعو الله أن يرضى عنه و يردّ إليه جناحه، فدعا له إدريس فردّ الله جناحه إليه و رضي عنه.

قال الملك لإدريس: أ لك حاجة؟ قال: نعم اُحبّ أن ترفعني إلى السماء حتّى أنظر إلى ملك الموت فلا عيش لي مع ذكره، فأخذه الملك على جناحه حتّى انتهى به إلى السماء الرابعة فإذا هو بملك الموت يحرّك رأسه تعجّباً، فسلّم عليه إدريس و قال له: ما لك تحرّك رأسك؟ قال: إنّ ربّ العزّة أمرني أن أقبض روحك بين السماء الرابعة و الخامسة. فقلت: يا ربّ كيف يكون هذا و بيني و بينه أربع سماوات و غلظ كلّ سماء مسيرة خمسمائة عام و بين كلّ سماءين مسيرة خمسمائة عام؟ ثمّ قبض روحه بين السماء الرابعة و الخامسة و هو قوله تعالى:( وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ) .

روى الحديث عليّ بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره، عن أبيه عن ابن أبي عمير عمّن حدّثه عن أبي عبدالله (عليه السلام)، و روى ما في معناه في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن عمرو بن عثمان عن مفضّل بن صالح عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) عن النبيّ (صلّي الله وعليه وآله وسلّم).

و الروايتان على ما بهما و خاصّة في الثانية(١) منهما من ضعف السند لا معوّل عليهما لمخالفتهما ظاهر الكتاب لنصّه على عصمة الملائكة و نزاهتهم عن الذنب و الخطيئة.

و روى الثعلبي في العرائس، عن ابن عبّاس و غيره ما ملخّصه: أنّ إدريس سار ذات يوم فأصابه وهج الشمس فقال: إنّي مشيت في الشمس يوماً فتأذّيت فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد! اللّهمّ خفّف عنه ثقلها و احمل عنه حرّها، فاستجاب الله له فأحسّ الملك الّذي يحملها بذلك فسأل الله في ذلك فأخبره بما كان

____________________

(١) لمكان مفضّل بن صالح و كان كذّاباً يضع الحديث.

٧٢

من دعاء إدريس و استجابته فسأله تعالى أن يجمع بينه و بين إدريس و يجعل بينهما خلّة فأذن له.

فكان إدريس يسأله و كان ممّا سأله: أنّك أخبرت أنّك أكرم الملائكة على ملك الموت و أمكنهم عنده فاشفع لي إليه ليؤخّر أجلي حتّى أزداد شكراً و عبادة فقال الملك: لا يؤخّر الله نفساً إذا جاء أجلها. قال: نعم و لكنّه أطيب لنفسي. قال الملك أنا مكلّمه لك، و ما كان يستطيع أن يفعله لأحد من بني آدم فهو فاعله لك.

ثمّ حمله الملك على جناحه و رفعه إلى السماء فوضعه عند مطلع الشمس ثمّ أتى ملك الموت و ذكر له حاجة إدريس و شفع له فقال ملك الموت: ليس ذلك إليّ و لكن إن أحببت أعلمته أجله. قال: نعم فنظر في ديوانه و أخبره باسمه و قال: ما أراه يموت أبداً. فإنّه أجده يموت عند مطلع الشمس! قال: فإنّي أتيتك و قد تركته هناك. قال له: انطلق فلا أراك تجده إلّا ميتا فوالله ما بقي من أجله شي‏ء فرجع الملك إليه فوجده ميتا.

و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن أبي شيبة و ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس عن كعب: إلّا أنّ فيه أنّ النازل على إدريس الملك الّذي كان يرفع إليه عمله و قد كان يرفع له من العمل ما يعدل عمل أهل الأرض في زمانه فأعجبه ذلك فسأل الله أن ينزل إليه فأذن له فنزل إليه و صحبه إلخ و روى ابن أبي حاتم بطريق آخر عن ابن عبّاس هذا الحديث و فيه: أنّ إدريس مات بين جناحي الملك.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر عن عمر مولى غفرة يرفعه إلى النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): أنّ إدريس كان يرفع له وحده من العمل ما يعدل عمل أهل الأرض كلّهم فأعجب ذلك ملك الموت فاستأذن الله في النزول إلى الأرض و صحبته فأذن له فنزل إليه و صحبه فكانا يسيحان في الأرض و يعبدان الله فأعجب إدريس ما رآه من عبادة صاحبه من غير كسل و لا فتور فسأله عن ذلك و أحفى في السؤال حتّى عرّفه ملك الموت نفسه و ذكر له قصّة نزوله و صحبته.

فلمّا عرفه إدريس سأله ثلاث حوائج له: أن يقبض روحه ساعة ثمّ يردّها

٧٣

إليه فاستأذن الله و فعل، و أن يرفعه إلى السماء و يريه النار فاستأذن و فعل، و أن يريه الجنّة فاستأذن و فعل فدخل الجنّة و أكل من ثمارها و شرب من مائها فقال له ملك الموت: اخرج يا نبيّ الله فقد أصبت حاجتك، فامتنع من الخروج و تعلّق بشجرة هناك، و خاصم ملك الموت قائلا: قال الله:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) و قد ذقته، و قال:( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) و قد وردت النار، و قال:( وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ ) و لست أخرج من الجنّة بعد دخولها فأوحى الله إلى ملك الموت خصمك عبدي فاتركه و لا تتعرّض له فبقي في الجنّة.

و رواه في العرائس، عن وهب و في آخره: فهو حيّ هناك فتارة يعبد الله في السماء الرابعة و تارة يتنعّم في الجنّة.

و في مستدرك الحاكم، عن سمرة: كان إدريس أبيض طويلاً ضخم عريض الصدر قليل شعر الجسد كثير شعر الرأس، و كانت إحدى عينيه أعظم من الاُخرى، و كانت في صدره نكتة بيضاء من غير برص فلمّا رأى الله من أهل الأرض ما رأى من جورهم و اعتدائهم في أمر الله، رفعه الله إلى السماء السادسة فهو حيث يقول:( وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ) .

أقول: و لا يرتاب الناقد البصير في أنّ هذه الروايات إسرائيليّات لعبت بها أيدي الوضع، و يدفعها الموازين العلميّة و الاُصول المسلّمة من الدين.

٣- و يسمّى (عليه السلام) بهرمس قال القفطيّ في كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء، في ترجمة إدريس: اختلف الحكماء في مولده و منشأه و عمّن أخذ العلم قبل النبوّة فقالت فرقة: ولد بمصر و سمّوه هرمس الهرامسة، و مولده بمنف، و قالوا: هو باليونانيّة إرميس و عرّب بهرمس، و معنى إرميس عطارد، و قال آخرون: اسمه باليونانيّة طرميس، و هو عند العبرانيّين خنوخ و عرّب أخنوخ، و سمّاه الله عزّوجلّ في كتابه العربيّ المبين إدريس.

و قال هؤلاء: إنّ معلّمه اسمه الغوثاذيمون و قيل: أغثاذيمون المصريّ، و لم يذكروا من كان هذا الرجل؟ إلّا أنّهم قالوا: إنّه أحد الأنبياء اليونانيّين و

٧٤

المصريّين، و سمّوه أيضاً اُورين الثاني و إدريس عندهم اُورين الثالث، و تفسير غوثاذيمون السعيد الجدّ، و قالوا: خرج هرمس من مصر و جاب الأرض كلّها ثمّ عاد إليها و رفعه الله إليه بها، و ذلك بعد اثنين و ثمانين سنة من عمره.

و قالت فرقة اُخرى: إنّ إدريس ولد ببابل و نشأ بها و أنّه أخذ في أوّل عمره بعلم شيث بن آدم و هو جدّ جدّ أبيه لأنّ إدريس ابن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث. قال الشهرستانيّ: إنّ أغثاذيمون هو شيث.

و لمّا كبر إدريس آتاه الله النبوّة فنهى المفسدين من بني آدم عن مخالفتهم شريعة آدم و شيث فأطاعه أقلّهم و خالفه جلّهم فنوى الرحلة عنهم و أمر من أطاعه منهم بذلك فثقل عليهم الرحيل من أوطانهم فقالوا له: و أين نجد إذا رحلنا مثل بابل؟ و بابل بالسريانيّة النهر و كأنّهم عنوا بذلك دجلة و الفرات، فقال: إذا هاجرنا لله رزقنا غيره.

فخرج و خرجوا و ساروا إلى أن وافوا هذا الإقليم الّذي سمّي بابليون فرأوا النيل و رأوا واديا خالياً من ساكن فوقف إدريس على النيل و سبّح الله و قال لجماعته: بابليون، و اختلف في تفسيره فقيل: نهر كبير، و قيل: نهر كنهركم، و قيل: نهر مبارك، و قيل: إنّ يون في السريانيّة مثل أفعل الّتي للمبالغة في كلام العرب و كأنّ معناه نهر أكبر فسمّي الإقليم عند جميع الاُمم بابليون، و سائر فرق الاُمم على ذلك إلّا العرب فإنّهم يسمّونه إقليم مصر نسبة إلى مصر بن حام النازل به بعد الطوفان و الله أعلم بكلّ ذلك.

و أقام إدريس و من معه بمصر يدعو الخلائق إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و طاعة الله عزّوجلّ، و تكلّم الناس في أيّامه باثنين و سبعين لساناً، و علّمه الله عزّوجلّ منطقهم ليعلّم كلّ فرقة منهم بلسانها، و رسم لهم تمدين المدن، و جمع له طالبي العلم بكلّ مدينة فعرّفهم السياسيّة المدنيّة، و قرّر لهم قواعدها فبنت كلّ فرقة من الاُمم مدنا في أرضها، و كانت عدّة المدن الّتي اُنشئت في زمانه مائة مدينة و ثماني و ثمانين مدينة أصغرها الرها و علّمهم العلوم.

٧٥

و هو أوّل من استخرج الحكمة و علم النجوم فإنّ الله عزّوجلّ أفهمه سرّ الفلك و تركيبه و نقط اجتماع الكواكب فيه و أفهمه عدد السنين و الحساب و لولا ذلك لم تصل الخواطر باستقرائها إلى ذلك.

و أقام للاُمم سننا في كلّ إقليم تليق كلّ سنّة بأهلها، و قسم الأرض أربعة أرباع و جعل على كلّ ربع ملكاً يسوس أمر المعمور من ذلك الربع، و تقدّم إلى كلّ ملك بأن يلزم أهل كلّ ربع بشريعة سأذكر بعضها، و أسماء الأربعة الملوك الّذين ملكوا: الأوّل إيلاوس و تفسيره الرحيم، و الثاني أوس، و الثالث سقلبيوس، و الرابع أوس‏ آمون، و قيل: إيلاوس ‏آمون، و قيل: يسيلوخس و هو آمون الملك انتهى موضع الحاجة.

و هذه أحاديث و أنباء تنتهي إلى ما قبل التاريخ لا يعوّل عليها ذاك التعويل غير أنّ بقاء ذكره الحيّ بين الفلاسفة و أهل العلم جيلاً بعد جيل و تعظيمهم له و احترامهم لساحته و إنهاءهم اُصول العلم إليه يكشف عن أنّه من أقدم أئمّة العلم الّذين ساقوا العالم الإنساني إلى ساحة التفكّر الاستدلاليّ و الإمعان في البحث عن المعارف الإلهيّة أو هو أوّلهم (عليه السلام).

٧٦

( سورة مريم الآيات ٥٨ - ٦٣)

أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ( ٥٨ ) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ( ٥٩ ) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ( ٦٠ ) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ( ٦١ ) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ( ٦٢ ) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا ( ٦٣ )

( بيان)

قد تقدّم في الكلام على غرض السورة أنّ الّذي يستفاد من سياقها بيان أنّ عبادته تعالى - و هو دين التوحيد - هو دين أهل السعادة و الرشد من الأنبياء و الأولياء، و أنّ التخلّف عن سبيلهم بإضاعة الصلاة و اتّباع الشهوات اتّباع سبيل الغيّ إلّا من تاب و آمن و عمل صالحاً.

فالآيات و خاصّة الثلاث الاُول منها تتضمّن حاقّ غرض السورة و قد أوردته في صورة الاستنباط من القصص المسرودة فيما تقدّم من الآيات، و هذا ممّا

٧٧

تمتاز به هذه السورة من سائر سور القرآن الطوال فإنّما يشار في سائر السور إلى أغراضها بالتلويح في مفتتح السورة و مختتمها ببراعة الاستهلال و حسن الختام لا في وسطها.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ) إلخ، الإشارة بقوله:( أُولئِكَ ) إلى المذكورين قبل الآية في السورة و هم زكريّا و يحيى و مريم و عيسى و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و موسى و هارون و إسماعيل و إدريس (عليهم السلام).

و قد تقدّمت الإشارة إليه من سياق آيات السورة و أنّ القصص الموردة فيها أمثلة، و أنّ هذه الآية و اللتين بعدها نتيجة مستخرجة منها، و لازم ذلك أن يكون قوله:( أُولئِكَ ) مشيراً إلى أصحاب القصص بأعيانهم مبتدأ، و قوله:( الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) صفة له، و قوله:( إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ ) إلخ، خبراً له فهذا هو الّذي يهدي إليه التدبّر في السياق. و لو اُخذ قوله:( الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) خبراً لقوله:( أُولئِكَ ) فقوله:( إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ ) إلخ، خبر له بعد خبر لكنّه لا يلائم غرض السورة تلك الملاءمة.

و قد أخبر الله سبحانه أنّه أنعم عليهم و أطلق القول فيهم ففيه دلالة على أنّهم قد غشيتهم النعمة الإلهيّة من غير نقمة و هذا هو معنى السعادة فليست السعادة إلّا النعمة من غير نقمة فهؤلاء أهل السعادة و الفلاح بتمام معنى الكلمة و قد أخبر تعالى عنهم أنّهم أصحاب الصراط المستقيم المصون سالكه عن الغضب و الضلال إذ قال:( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ ) الحمد: ٧، و هم في أمن و اهتداء لقوله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) الأنعام: ٨٢، فأصحاب الصراط المستقيم المصونون عن الغضب و الضلال و لم يلبسوا إيمانهم بظلم في أمن من كلّ خطر يهدّد الإنسان تهديداً فهم سعداء في سلوكهم سبيل الحياة الّتي سلكوها و السبيل الّتي سلكوها، هي سبيل السعادة.

و قوله:( مِنَ النَّبِيِّينَ ) من فيه للتبعيض و عديله قوله الآتي:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا ) على ما سيأتي توضيحه. و قد جوّز المفسّرون كون( من) بيانيّة و أنت

٧٨

خبير بأنّ ذلك لا يلائم كون( أُولئِكَ ) مشيرا إلى المذكورين من قبل، لأنّ النبيّين أعمّ، اللّهمّ إلّا أن يكون إشارة إليهم بما هم أمثلة لأهل السعادة و يكون المعنى اُولئك المذكورون و أمثالهم الّذين أنعم الله عليهم هم النبيّون و من هدينا و اجتبينا.

و قوله:( مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ) في معنى الصفة للنبيّين و من فيه للتبعيض أي من النبيّين الّذين هم بعض ذرّيّة آدم، و ليس بياناً للنبيّين لاختلال المعنى بذلك.

و قوله:( وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ) معطوف على قوله:( مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ) و المراد بهم المحمولون في سفينة نوح (عليه السلام) و ذرّيّتهم و قد بارك الله عليهم، و هم من ذرّيّة نوح لقوله تعالى:( وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ ) الصافّات: ٧٧.

و قوله:( وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ ) معطوف كسابقه على قوله:( مِنَ النَّبِيِّينَ ) .

و قد قسم الله تعالى الّذين أنعم عليهم من النبيّين على هذه الطوائف الأربع أعني ذرّيّة آدم و من حمله مع نوح و ذرّيّة إبراهيم و ذرّيّة إسرائيل و قد كان ذكر كلّ سابق يغني عن ذكر لاحقه لكون ذرّيّة إسرائيل من ذرّيّة إبراهيم و الجميع ممّن حمل مع نوح و الجميع من ذرّيّة آدم (عليهم السلام).

و لعلّ الوجه فيه الإشارة إلى نزول نعمة السعادة و بركة النبوّة على نوع الإنسان كرّة بعد كرّة فقد ذكر ذلك في القرآن الكريم في أربعة مواطن لطوائف أربع: أحدها لعامّة بني آدم حيث قال:( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) البقرة: ٣٩.

و الثاني ما في قوله تعالى:( قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى‏ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ ) هود: ٤٨، و الثالث ما في قوله تعالي :( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) الحديد: ٢٦، و الرابع ما في قوله تعالى :( وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ

٧٩

عَلَى الْعالَمِينَ ) الجاثية: ١٦.

فهذه مواعد أربع بتخصيص نوع الإنسان بنعمة النبوّة و موهبة السعادة، و قد اُشير إليها في الآية المبحوث عنها بقوله:( مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ ) ، و قد ذكر في القصص السابقة من كلّ من الذراري الأربع كإدريس من ذرّيّة آدم، و إبراهيم من ذرّيّة من حمل مع نوح، و إسحاق و يعقوب من ذرّيّة إبراهيم، و زكريّا و يحيى و عيسى و موسى و هارون و إسماعيل - على ما استظهرنا - من ذرّيّة إسرائيل.

و قوله:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا ) معطوف على قوله:( مِنَ النَّبِيِّينَ ) و هؤلاء غير النبيّين من الّذين أنعم الله عليهم فإنّ هذه النعمة غير خاصّة بالنبيّين و لا منحصرة فيهم بدليل قوله تعالى:( وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ) النساء: ٦٩ و قد ذكر الله سبحانه بين من قصّ قصّته مريم (عليها السلام) معتنيا بها إذ قال:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ ) و ليست من النبيّين فالمراد بقوله:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا ) غير النبيّين من الصدّيقين و الشهداء و الصالحين لا محالة، و كانت مريم من الصدّيقين لقوله تعالى:( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ) المائدة: ٧٥.

و ممّا تقدّم من مقتضى السياق يظهر فساد قول من جعل( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا ) معطوفاً على قوله:( مِنَ النَّبِيِّينَ ) مع أخذ من للبيان، و أورد عليه بعضهم أيضا بأنّ ظاهر العطف المغايرة فيحتاج إلى أن يقال: المراد ممّن جمعنا له بين النبوّة و الهداية و الاجتباء للكرامة و هو خلاف الظاهر. و فيه منع كون ظاهر العطف المغايرة مصداقاً و إنّما هو المغايرة في الجملة و لو بحسب الوصف و البيان.

و نظيره قول من قال بكونه معطوفاً على قوله:( مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ) و من للتبعيض و قد اتّضح وجه فساده ممّا قدّمناه.

و نظيره قول من قال: إنّ قوله:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا ) استئناف من غير عطف فقد

٨٠

تمّ الكلام عند قوله:( إِسْرائِيلَ ) ثمّ ابتدأ فقال: و ممّن هدينا و اجتبينا من الاُمم قوم إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّداً و بكيّاً فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه، و الوجه منسوب إلى أبي مسلم المفسّر.

و فيه أنّه تقدير من غير دليل. على أنّ في ذلك إفساد غرض على ما يشهد به السياق إذ الغرض منها بيان طريقة اُولئك العباد المنعم عليهم و أنّهم كانوا خاضعين لله خاشعين له و أنّ أخلافهم أعرضوا عن طريقتهم و أضاعوا الصلاة و اتّبعوا الشهوات و هذا لا يتأتّى إلّا بكون قوله:( إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ ) إلخ خبراً لقوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) و أخذ قوله:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا ) إلى آخر الآية استئنافاً مقطوعاً عمّا قبله إفساد للغرض المذكور من رأس.

و قوله:( إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا ) السجّد جمع ساجد و البكيّ على فعول جمع باكي و الجملة خبر للّذين في صدر الآية و يحتمل أن يكون الخرور سجّداً و بكيّاً كناية عن كمال الخضوع و الخشوع فإنّ السجدة ممثّل لكمال الخضوع و البكاء لكمال الخشوع و الأنسب على هذا أن يكون المراد بالآيات و تلاوتها ذكر مطلق ما يحكي شأناً من شؤونه تعالى.

و أمّا قول القائل إنّ المراد بتلاوة الآيات قراءة الكتب السماويّة مطلقاً أو خصوص ما يشتمل على عذاب الكفّار و المجرمين، أو أنّ المراد بالسجود الصلاة أو سجدة التلاوة أو أنّ المراد بالبكاء البكاء عند استماع الآيات أو تلاوتها فكما ترى.

فمعنى الآية - و الله أعلم - اُولئك المنعم عليهم الّذين بعضهم من النبيّين من ذرّيّة آدم و ممّن حملنا مع نوح و من ذرّيّة إبراهيم و إسرائيل و بعضهم من أهل الهداية و الاجتباء خاضعون للرحمن خاشعون إذا ذكر عندهم و تليت آياته عليهم.

و لم يقل: كانوا إذا تتلى عليهم إلخ لأنّ العناية في المقام متعلّقه ببيان حال النوع من غير نظر إلى ماضي الزمان و مستقبله بل بتقسيمه إلى سلف صالح و خلف طالح و ثالث تاب و آمن و عمل صالحاً و هو ظاهر.

قوله تعالى: ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ

٨١

يَلْقَوْنَ غَيًّا ) قالوا: الخلف بسكون اللام البدل السيّئ و بفتح اللام ضدّه و ربّما يعكس على ندرة، و ضياع الشي‏ء فساده أو افتقاده بسبب ما كان ينبغي أن يتسلّط عليه يقال: أضاع المال إذا أفسده بسوء تدبيره أو أخرجه من يده بصرفه فيما لا ينبغي صرفه فيه، و الغيّ خلاف الرشد و هو إصابة الواقع و هو قريب المعنى من الضلال خلاف الهدى و هو ركوب الطريق الموصل إلى الغاية المقصودة.

فقوله:( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ) إلخ أي قام مقام اُولئك الّذين أنعم الله عليهم و كانت طريقتهم الخضوع و الخشوع لله تعالى بالتوجّه إليه بالعبادة قوم سوء أضاعوا ما أخذوه منهم من الصلاة و التوجّه العبادي إلى الله سبحانه بالتهاون فيه و الإعراض عنه، و اتّبعوا الشهوات الصارفة لهم عن المجاهدة في الله و التوجّه إليه.

و من هنا يظهر أنّ المراد بإضاعة الصلاة إفسادها بالتهاون فيها و الاستهانة بها حتّى ينتهي إلى أمثال اللعب بها و التغيير فيها و الترك لها بعد الأخذ و القبول فما قيل: إنّ المراد بإضاعة الصلاة تركها ليس بسديد إذ لا يسمّى ترك الشي‏ء من رأس إضاعة له و العناية في الآية متعلّقه بأنّ الدين الإلهيّ انتقل من اُولئك السلف الصالح بعدهم إلى هؤلاء الخلف الطالح فلم يحسنوا الخلافة و أضاعوا ما ورثوه من الصلاة الّتي هي الركن الوحيد في العبوديّة و اتّبعوا الشهوات الصارفة عن الحقّ.

و قوله:( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) أي جزاء غيّهم على ما قيل فهو كقوله:( وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ) .

و من الممكن أن يكون المراد به نفس الغيّ بفرض الغيّ غاية للطريق الّتي يسلكونها و هي طريق إضاعة الصلاة و اتّباع الشهوات فإذ كانوا يسلكون طريقاً غايتها الغيّ فسيلقونه إذا قطعوها إمّا بانكشاف غيّهم لهم يوم القيامة حيث ينكشف لهم الحقائق أو برسوخ الغيّ في قلوبهم و صيرورتهم من أولياء الشيطان كما قال:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) الحجر: ٤٢، و كيف كان فهو استعارة بالكناية لطيفة.

قوله تعالى: ( إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ

٨٢

شَيْئاً ) استثناء من الآية السابقة فهؤلاء الراجعون إلى الله سبحانه ملحقون باُولئك الّذين أنعم الله عليهم و هم معهم لا منهم كما قال تعالى:( وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ) النساء: ٦٩.

و قوله:( فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ) من وضع المسبّب موضع السبب و الأصل فاُولئك يوفّون أجرهم، و الدليل على ذلك قوله بعده:( وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً ) فإنّه من لوازم توفية الأجر لا من لوازم دخول الجنّة.

قوله تعالى: ( جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ) العدن الإقامة ففي تسميتها به إشارة إلى خلودها لداخليها، و الوعد بالغيب هو الوعد بما ليس تحت إدراك الموعود له، و كون الوعد مأتيّا عدم تخلّفه، قال في المجمع: و المفعول هنا بمعنى الفاعل لأنّ ما أتيته فقد أتاك و ما أتاك فقد أتيته يقال: أتيت خمسين سنة و أتت عليّ خمسون سنة، و قيل: إنّ الموعود الجنّة و الجنّة يأتيها المؤمنون انتهى.

قوله تعالى: ( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا ) عدم سمع اللغو من أخصّ صفات الجنّة و قد ذكره الله سبحانه و امتنّ به في مواضع من كلامه و سنفصّل القول فيه إن شاء الله في موضع يناسبه، و استثناء السلام منه استثناء منفصل، و السلام قريب المعنى من الأمن - و قد تقدّم الفرق بينهما - فقولك: أنت منّي في أمن معناه لا تلقى منّي ما يسوؤك، و قولك: سلام منّي عليك معناه كلّ ما تلقاه منّي لا يسوؤك. و إنّما يسمعون السلام من الملائكة و من رفقائهم في الجنّة، قال تعالى حكاية عن الملائكة:( سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ ) الزمر: ٧٣، و قال:( فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ) الواقعة: ٩١.

و قوله:( وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا ) الظاهر أنّ إتيان الرزق بكرة و عشيّاً كناية عن تواليه من غير انقطاع.

قوله تعالى: ( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا ) الإرث

٨٣

و الوراثة هو أن ينتقل مال أو ما يشبهه من شخص إلى آخر بعد ترك الأوّل له بموت أو جلاء أو نحوهما، و إذ كانت الجنّة في معرض العطاء لكلّ إنسان بحسب الوعد الإلهيّ المشروط بالإيمان و العمل الصالح فاختصاص المتّقين بها بعد حرمان غيرهم عنها بإضاعة الصلاة و اتّباع الشهوات وراثة المتّقين، و نظير هذه العناية ما في قوله تعالى:( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ: ) الأنبياء: ١٠٥، و قوله:( وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) الزمر: ٧٤، و الآية كما ترى جمعت بين الإيراث و الأجر.

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا ) الآية، و روي عن عليّ بن الحسين (عليه السلام) أنّه قال: نحن عنينا بها.

أقول: و عن مناقب ابن شهرآشوب، عنه (عليه السلام) مثله‏، و قد اتّضح معنى الحديث بما قدّمناه في تفسير الآية فإنّ المراد بالجملة أهل الهداية و الاجتباء من غير النبيّين و هم (عليهم السلام) منهم كما ذكر الله سبحانه مريم منهم و ليست بنبيّة.

قال في روح المعاني: و روى بعض الإماميّة عن عليّ بن الحسين رضي الله عنهما أنّه قال: نحن عنينا بهؤلاء القوم. و لا يخفى أنّ هذا خلاف الظاهر جدّاً و حال روايات الإماميّة لا يخفى على أرباب التميز. انتهى. و قد تبيّن خطؤه ممّا تقدّم و الّذي أوقعه في ذلك أخذه قوله تعالى:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا ) معطوفاً على قوله:( مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ) و قوله:( مِنَ النَّبِيِّينَ ) بيانا لقوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ ) إلخ، فانحصر( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) في النبيّين فاضطرّ إلى القول بأنّ الآية لا تشمل غير النبيّين و هو يرى أنّ الله ذكر فيمن ذكر مريم بنت عمران و ليست بنبيّة.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبّان و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدريّ قال: سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و تلا هذه الآية:( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ) فقال: يكون خلف من بعد ستّين

٨٤

سنة أضاعوا الصلاة و اتّبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّاً، ثمّ يكون خلف يقرؤن القرآن لا يعدو تراقيهم، و يقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن و منافق و فاجر.

و في المجمع في قوله تعالى:( أَضاعُوا الصَّلاةَ ) و قيل: أضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها من غير أن تركوها أصلاً و هو المرويّ عن أبي عبدالله (عليه السلام).

أقول: و روى في الكافي، ما في معناه بإسناده عن داود بن فرقد عنه (عليه السلام)، و روي ذلك من طرق أهل السنّة عن ابن مسعود و عدّة من التابعين.

و عن جوامع الجامع، و في روح المعاني في قوله:( وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ ) عن عليّ (عليه السلام) من بنى الشديد و ركب المنظور و لبس المشهور.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه من طريق نهشل عن الضحّاك عن ابن عبّاس عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: الغيّ واد في جهنّم.

أقول: و في روايات اُخرى أنّ الغيّ و أثام نهران في جهنّم، و هذا على تقدير صحّة الحديث ليس بتفسير آخر كما زعمه أكثر المفسّرين بل بيان لما سيؤل إليه الغيّ بحسب الجزاء، و نظيره ما ورد أنّ الويل بئر في جهنّم و أنّ طوبى شجرة في الجنّة، إلى غير ذلك من الروايات.

٨٥

( سورة مريم الآيات ٦٤ - ٦٥)

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ( ٦٤ ) رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ( ٦٥ )

( بيان)

الآيتان معترضتان بين آيات السورة و سياقهما يشهد بأنّهما من كلام ملك الوحي بوحي قرآني من الله سبحانه فإنّ النظم نظم قرآنيّ بلا ريب. و بذلك يتأيّد ما ورد بطرق مختلفة من طرق أهل السنّة و رواه في مجمع البيان، أيضاً عن ابن عبّاس: أنّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) استبطأ نزول جبريل فسأله عن ذلك فأجابه بوحي من الله تعالى:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) إلى آخر الآيتين.

و قد تكلّف جمع في بيان اتّصال الآيتين بالآيات السابقة فقال بعضهم: إنّ التقدير: هذا و قال جبريل: و ما نتنزّل إلّا بأمر ربّك إلخ، و قال آخرون: إنّهما متّصلتان بقول جبريل لمريم المنقول سابقاً:( إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا ) الآية، و ذكر قوم أنّ قوله:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) إلى آخر الآية من كلام المتّقين حين يدخلون الجنّة فالتقدير و قال المتّقون و ما نتنزّل الجنّة إلّا بأمر ربّك إلخ و قيل غير ذلك.

و هي جميعاً وجوه ظاهرة السخافة يأباها السياق و لا يقبلها النظم البليغ لا حاجة إلى الاشتغال ببيان وجوه فسادها. و سيأتي في ذيل البحث في الآية الثانية وجه آخر للاتّصال.

٨٦

قوله تعالى: ( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) إلى آخر الآية، التنزّل هو النزول على مهل و تؤدة فإنّ تنزّل مطاوع نزّل يقال: نزّله فتنزّل و النفي و الاستثناء يفيدان الحصر فلا يتنزّل الملائكة إلّا بأمر من الله كما قال:( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) التحريم: ٦.

و قوله:( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ ) يقال: كذا قدّامه و أمامه و بين يديه و المعنى واحد غير أنّ قولنا: بين يديه إنّما يطلق فيما كان بقرب منه و هو مشرف عليه له فيه نوع من التصرّف و التسلّط فظاهر قوله:( ما بَيْنَ أَيْدِينا ) أنّ المراد به ما نشرف عليه ممّا هو مكشوف علينا مشهود لنا: و ظاهر قوله:( وَ ما خَلْفَنا ) بالمقابلة ما هو غائب عنّا مستور علينا.

و على هذا فلو اُريد بقوله:( ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ ) المكان شمل بعض المكان الّذي أمامهم و المكان الّذي هم فيه و جميع المكان الّذي خلفهم و لم يشمل كل مكان، و كذا لو اُريد به الزمان شمل الماضي كلّه و الحال و المستقبل القريب فقط و سياق قوله:( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ ) ، ينادي بالإحاطة و لا يلائم التبعيض.

فالوجه حمل( ما بَيْنَ أَيْدِينا ) على الأعمال و الآثار المتفرّعة على وجودهم الّتي هم قائمون بها متسلّطون عليها، و حمل( ما خَلْفَنا ) على ما هو من أسباب وجودهم ممّا تقدّمهم و تحقّق قبلهم، و حمل( ما بَيْنَ ذلِكَ ) على وجودهم أنفسهم و هو من أبدع التعبير و ألطفه و بذلك تتمّ الإحاطة الإلهيّة بهم من كلّ جهة لرجوع المعنى إلى أنّ الله تعالى هو المالك لوجودنا و ما يتعلّق به وجودنا من قبل و من بعد.

و لقد اختلفت كلماتهم في تفسير هذه الجملة فقيل: المراد بما بين أيدينا ما هو قدّامنا من الزمان المستقبل و بما خلفنا الماضي و بما بين ذلك الحال، و قيل: ما بين أيدينا ما قبل الإيجاد من الزمان. و ما خلفنا ما بعد الموت إلى استمرار الآخرة و ما بين ذلك هو مدّة الحياة و قيل: ما بين الأيدي الدنيا إلى النفخة الاُولى و ما خلفهم هو ما بعد النفخة الثانية و ما بين ذلك ما بين النفختين و هو أربعون سنة، و قيل:

٨٧

ما بين أيديهم الآخرة و ما خلفهم الدنيا، و قيل: ما بين أيديهم ما قبل الخلق و ما خلفهم ما بعد الفناء و ما بين ذلك ما بين الدنيا و الآخرة، و قيل: ما بين أيديهم ما بقي من أمر الدنيا و ما خلفهم ما مضى منه و ما بين ذلك ما هم فيه و قيل: المعنى ابتداء خلقنا و منتهى آجالنا و مدّة حياتنا.

و قيل: ما بين أيديهم السماء و ما خلفهم الأرض و ما بين ذلك ما بينهما، و قيل: بعكس ذلك، و قيل: ما بين أيديهم المكان الّذي ينتقلون إليه و ما خلفهم المكان الّذي ينتقلون منه و ما بين ذلك المكان الّذي هم فيه.

و تشترك الأقوال الثلاثة الأخيرة في أنّ الماءآت عليها مكانيّة كما يشترك السبعة في أنّ الماءآت عليها زمانيّة و هناك قول بكون الآية تعمّ الزمان و المكان فهذه أحد عشر قولاً و لا دليل على شي‏ء منها مع ما فيها من قياس الملك على الإنسان و الوجه ما قدّمناه.

فقوله:( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ ) يفيد إحاطة ملكه تعالى بهم ملكا حقيقيّاً لا يجري فيه تصرّف غيره و لا إرادة من سواه إلّا عن إذن منه و مشيّة و إذ لا معصية للملائكة فلا تفعل فعلاً إلّا عن أمره و من بعد إذنه و لا تريد إلّا ما أراده الله فلا يتنزّل ملك إلّا بأمر ربّه.

و قد تقرّر بهذا البيان أنّ قوله:( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ ) في مقام التعليل لقوله:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) و أنّ قوله:( وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) - و النسيّ فعول من النسيان - من تمام التعليل أي إنّه تعالى لا ينسى شيئاً من ملكه حتّى يختلّ بإهماله أمر التدبير فلا يأمر بالنزول حينما يجب فيه النزول أو يأمر به حينما لا يجب و هكذا و كأنّ هذا هو وجه العدول في الآية عن إثبات العلم أو الذكر إلى نفي النسيان.

و قيل المعنى و ما كان ربّك نسيّاً أي تاركاً لأنبيائه أي ما كان عدم النزول إلّا لعدم الأمر به و لم تكن عن تركه تعالى لك و توديعه إيّاك.

و فيه أنّه و إن وافق ما تقدّم من سبب النزول بوجه لكن يبقى معه التعليل

٨٨

بقوله:( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا ) إلخ، ناقصاً و ينقطع قوله:( رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما ) عمّا تقدّمه كما سيتضّح.

قوله تعالى: ( رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) صدر الآية أعني قوله:( رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما ) تعليل لقوله في الآية السابقة( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا ) إلى آخر الآية أي كيف لا يملك ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك و كيف يكون نسيّاً و هو تعالى ربّ السماوات و الأرض و ما بينهما؟ و ربّ الشي‏ء هو مالكه، المدبّر لأمره، فملكه و عدم نسيانه مقتضى ربوبيّته.

و قوله:( فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ ) تفريع على صدر الآية و المعنى إذا كنّا لا نتنزّل إلّا بأمر ربّك و قد نزّلنا عليك هذا الكلام المتضمّن للدعوة إلى عبادته فالكلام كلامه و الدعوة دعوته فاعبده وحده و اصطبر لعبادته فليس هناك من يسمّى ربّاً غير ربّك حتّى لا تصطبر على عبادة ربّك و تنتقل إلى عبادة ذلك الغير الّذي يسمّى ربّاً فتكتفي بعبادته عن عبادة ربّك أو تشرك به و ربّما قيل: إنّ الجملة تفريع على قوله:( رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أو على قوله:( وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) أي لم ينسك ربّك فاعبده إلخ و الوجهان كما ترى.

و قد بان بهذا التقرير اُمور:

أحدها أنّ قوله:( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) من تمام البيان المقصود بقوله:( فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ ) و هو في مقام التعليل له.

و الثاني أنّ المراد بالسميّ المشارك في الاسم و المراد بالاسم هو الربّ لأنّ مقتضى بيان الآية ثبوت الربوبيّة المطلقة له تعالى على كلّ شي‏ء فهو يقول: هل تعلم من اتّصف بالربوبيّة فسمّي لذلك ربّاً حتّى تعدل عنه إليه فتعبده دونه.

و بذلك يظهر عدم استقامة عامّة ما قيل في معنى السميّ في الآية فقد قيل: إنّ المراد بالسميّ المماثل مجازاً، و قيل: السميّ بمعنى الولد و قيل: هو بمعناه

٨٩

الحقيقيّ غير أنّ المراد بالاسم الّذي لا مشاركة فيه هو ربّ السماوات و الأرض و قيل: هو اسم الجلالة، و قيل: هو الإله، و قيل: هو الرحمن، و قيل: هو الإله الخالق الرازق المحيي المميت القادر على الثواب و العقاب.

و الثالث: أنّ النكتة في إضافة الربّ إلى ضمير الخطاب و تكراره في الآية الاُولى إذ قال: بأمر ربّك و قال: و ما كان ربّك و لم يقل: ربّنا هي التوطئة لما في ذيل الكلام من توحيد الربّ ففي قوله:( رَبِّكَ ) إشارة إلى أنّ ربّنا الّذي نتنزّل عن أمره هو ربّك فالدعوة دعوته فاعبده، و يمكن أن تكون هذه هي النكتة فيما في مفتتح السورة إذ قال:( ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ ) إلخ لأنّ الآيات كما نبّهنا عليه ذات سياق واحد لغرض واحد.

و الرابع: أنّ قوله:( فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ ) مسوق لتوحيد العبادة و ليس أمراً بالعبادة و أمراً بالثبات عليها و إدامتها إلّا من جهة الملازمة فافهم ذلك.

و يمكن أن يستفاد من التفريع أنّه تأكيد للبيان الّذي يتضمّنه السياق السابق على هاتين الآيتين و بذلك يظهر اتّصالهما بالآيات السابقة عليهما من غير أن تؤخذاً معترضتين من كلّ جهة.

فكأنّ ملك الوحي لمّا تنزّل عليه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بالسورة و أوحى إليه الآيات الثلاث و الستّين منها و هي مشتملة على دعوة كاملة إلى الدين الحنيف خاطبه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بأنّه لم يتنزّل و ليس يتنزّل بما تنزّل به من عند نفسه بل عن أمر من ربّه و برسالة من عنده فالكلام كلامه و الدعوة دعوته و هو ربّ النبيّ و ربّ كلّ شي‏ء فليعبده وحده فليس هناك ربّ آخر يعدل عنه إليه فالآيتان ممّا اُوحي إلى ملك الوحي ليلقيه إلى النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) تثبيتاً له و تأكيداً للآيات السابقة.

و هذا نظير أن يرسل ملك رسولاً بكتاب من عنده أو رسالة إلى بعض عمّاله فيأتيه الرسول ثمّ إذا قرأ الكتاب أو أدّى الرسالة قال للعامل: إنّي ما جئتك من عند نفسي بل بأمر من الملك و إشارة منه و الكتاب كتابه و الرسالة قوله و حكمه و هو

٩٠

مليكك و مليك عامّة من في المملكة فاسمع له و أطع و أقم على ذلك فليس هناك مليك غيره حتّى تعدل عنه إليه.

فكلام هذا الرسول تأكيد لكلام الملك و إذا فرض أنّ الملك، هو الّذي أمره أن يعقّب رسالته بهذا الكلام كان الكلام كلاماً للرسول و رسالة أيضاً عن قبل الملك و كلامه.

و غير خفيّ عليك أنّ هذا الوجه أوفق بالآيتين و أوضح انطباقاً عليهما ممّا تذكره روايات سبب النزول على ما فيها من الاختلاف و الوهن.

٩١

( سورة مريم الآيات ٦٦ - ٧٢)

وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ( ٦٦ ) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ( ٦٧ ) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ( ٦٨ ) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَٰنِ عِتِيًّا ( ٦٩ ) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيًّا ( ٧٠ ) وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ( ٧١ ) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ( ٧٢ )

( بيان)

عود إلى ما قبل قوله:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) الآيتين و مضىّ في الحديث السابق و هو كالتذنيب لقوله:( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) بذكر بعض ما تفوّهوا به عن غيّهم و قد خصّ بالذكر قول لهم في المعاد و آخر في النبوّة و آخر في المبدإ.

ففي هذه الآيات أعني قوله:( وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ - إلى قوله -وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) و هي سبع آيات ذكر استبعادهم للبعث و الجواب عنه و ذكر الإشارة إلى ما لقولهم هذا من التبعة و الوبال.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ) إنكار للبعث في صورة الاستبعاد، و هو قول الكفّار من الوثنيّين و من يلحق بهم من منكري الصانع

٩٢

بل ممّا يميل إليه طبع الإنسان قبل الرجوع إلى الدليل، قيل: و لذلك نسب القول إلى الإنسان حينما كان مقتضى طبع الكلام أن يقال: و يقول الكافر، أو: و يقول الّذين كفروا إلخ، و فيه أنّه لا يلائم قوله الآتي:( فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ إلى قوله صِلِيًّا ) .

و ليس ببعيد أن يكون المراد بالإنسان القائل ذلك هو الكافر المنكر للبعث و إنّما عبّر بالإنسان لكونه لا يترقّب منه ذلك و قد جهّزه الله تعالى بالإدراك العقليّ و هو يذكر أنّ الله خلقه من قبل و لم يك شيئاً، فليس من البعيد أن يعيده ثانياً فاستبعاده مستبعد منه، و لذا كرّر لفظ الإنسان حيث أخذ في الجواب قائلاً:( أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً ) أي إنّه إنسان لا ينبغي له أن يستبعد وقوع ما شاهد وقوع مثله و هو غير ناسية.

و لعلّ التعبير بالمضارع في قوله:( وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ ) للإشارة إلى استمرار هذا الاستبعاد بين المنكرين للمعاد و المرتابين فيه.

قوله تعالى: ( أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً ) الاستفهام للتعجيب و الاستبعاد و معنى الآية ظاهر و قد أخذ فيها برفع الاستبعاد بذكر وقوع المثل ليثبت به الإمكان، فالآية نظيرة قوله تعالى في موضع آخر:( وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ - إلى أن قال -أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) يس: ٨١.

فإن قيل: الاحتجاج بوقوع المثل إنّما ينتج إمكان المثل و المطلوب في إثبات المعاد هو رجوع الإنسان بشخصه و عينه لا بمثله فإنّ مثل الشي‏ء غيره، قيل: إنّ هذه الآيات بصدد إثبات رجوع الأجساد و المخلوق منها ثانياً مثل المخلوق أوّلاً و شخصيّة الشخص الإنسانيّ بنفسه لا ببدنه فإذا خلق البدن ثانياً و تعلّقت به النفس كان شخص الإنسان الدنيويّ بعينه و إن كان البدن و هو جزء الإنسان بالقياس إلى البدن الدنيويّ مثلاً لا عيناً و هذا كما أنّ شخصيّة الإنسان و وحدته محفوظة في الدنيا مدى عمره مع

٩٣

تغيّر البدن و تبدّله بتغيّر أجزائه و تبدّلها حالاً بعد حال و البدن في الحال الثاني غيره في الحال الأوّل لكنّ الإنسان باق في الحالين على وحدته الشخصيّة لبقاء نفسه بشخصها.

و إلى هذا يشير قوله تعالى:( وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ - إلى أن قال -قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) الم السجدة: ١١ أي إنّكم مأخوذون من أبدانكم محفوظون لا تضلّون و لا تفتقدون.

قوله تعالى: ( فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) الجثيّ في أصله على فعول جمع جاثي و هو البارك على ركبتيه، و نسب إلى ابن عبّاس أنّه جمع جثوة و هو المجتمع من التراب و الحجارة، و المراد أنّهم يحضرون زمراً و جماعات متراكماً بعضهم على بعض، و هذا المعنى أنسب للسياق.

و ضمير الجمع في( لَنَحْشُرَنَّهُمْ ) و( لَنُحْضِرَنَّهُمْ ) للكفّار، و الآية إلى تمام ثلاث آيات متعرّضة لحالهم يوم القيامة و هو ظاهر و ربّما قيل: إنّ الضميرين للناس أعمّ من المؤمن و الكافر كما أنّ ضمير الخطاب في قوله الآتي:( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) كذلك و فيه أنّ لحن الآيات الثلاث و هو لحن السخط و العذاب يأبى ذلك.

و المراد بقوله:( لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ ) جمعهم خارج القبور مع أوليائهم من الشياطين لأنّهم لعدم إيمانهم غاوون كما قال:( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) و الشياطين أولياؤهم قال تعالى:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ: ) الحجر: ٤٢، و قال:( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) الأعراف: ٢٧، أو المراد حشرهم مع قرنائهم من الشياطين كما قال:( وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ، وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) الزخرف: ٣٩.

و المعنى: فاُقسم بربّك لنجمعنّهم - يوم القيامة - و أولياءهم أو قرناءهم من الشياطين ثمّ لنحضرنّهم حول جهنّم لإذاقة العذاب و هم باركون على ركبهم من الذلّة أو و هم جماعات و زمرة زمرة.

٩٤

و في قوله:( فَوَ رَبِّكَ ) التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة و لعلّ النكتة فيه ما تقدّم في قوله:( بِأَمْرِ رَبِّكَ ) و نظيره قوله الآتي:( كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً ) .

قوله تعالى: ( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ) النزع هو الاستخراج، و الشيعة الجماعة المتعاونون على أمر أو التابعون لعقيدة و العتيّ على فعول مصدر بمعنى التمرّد في العصيان و الظاهر أنّ قوله:( أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ) جملة استفهاميّة وضع موضع مفعول لننزعنّ للدلالة على العناية بالتعيين و التمييز فهو نظير قوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى‏ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) الإسراء: ٥٧.

و المعنى: ثمّ لنستخرجنّ من كلّ جماعة متشكّلة أشدّهم تمرّداً على الرحمن و هم الرؤساء و أئمّة الضلال، و قيل المعنى لنستخرجنّ الأشدّ ثمّ الأشدّ حتّى يحاط بهم.

و في قوله:( عَلَى الرَّحْمنِ ) التفات و النكتة تلويح أنّ تمرّدهم عظيم لكونه تمرّداً على من شملت رحمته كلّ شي‏ء و هم لم يلقوا منه إلّا الرحمة و التمرّد على من هذا شأنه عظيم.

قوله تعالى: ( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى‏ بِها صِلِيًّا ) الصليّ في الأصل على فعول مصدر يقال صلي النار يصلاها صليا و صليّا إذا قاسى حرّها فالمعنى ثمّ اُقسم لنحن أعلم بمن أولى بالنار مقاساة لحرّها أي إنّ الأمر في دركات عذابهم و مراتب استحقاقهم لا يشتبه علينا.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) الخطاب للناس عامّة مؤمنيهم و كافريهم بدليل قوله في الآية التالية:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) و الضمير في( وارِدُها ) للنار، و ربّما قيل: إنّ الخطاب للكفّار المذكورين في الآيات الثلاث الماضية و في الكلام التفات من الغيبة إلى الحضور و فيه أنّ سياق الآية التالية يأبى ذلك.

و الورود خلاف الصدور و هو قصد الماء على ما يظهر من كتب اللغة قال الراغب

٩٥

في المفردات،: الورود أصله قصد الماء ثمّ يستعمل في غيره يقال: وردت الماء أرده، ورودا فأنا وارد و الماء مورود، و قد أوردت الإبل الماء قال تعالى:( وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ) و الورد الماء المرشّح للورود، و الورد خلاف الصدر، و الورد يوم الحمّى إذا وردت، و استعمل في النار على سبيل الفظاعة قال تعالى:( فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) ( وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) ( إِلى‏ جَهَنَّمَ وِرْداً ) ( أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ) ( ما وَرَدُوها ) و الوارد الّذي يتقدّم القوم فيسقي لهم قال تعالى:( فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ ) أي ساقيهم من الماء المورود انتهى موضع الحاجة.

و إلى ذلك استند من قال من المفسّرين إن الناس إنّما يحضرون النار و يشرفون عليها من غير أن يدخلوها و استدلّوا عليه بقوله تعالى:( وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) القصص: ٢٣، و قوله:( فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى‏ دَلْوَهُ ) يوسف: ١٩، و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏ أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) الأنبياء: ١٠٢.

و فيه أنّ استعماله في مثل قوله:( وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ) و قوله:( فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ ) في الحضور بعلاقة الإشراف لا ينافي استعماله في الدخول على نحو الحقيقة كما ادّعي في آيات اُخرى، و أمّا قوله:( أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) فمن الجائز أن يكون الإبعاد بعد الدخول كما يستظهر من قوله:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ) ، و أن يحجب الله بينهم و بين أن يسمعوا حسيسها إكراماً لهم كما حجب بين إبراهيم و بين حرارة النار إذ قال للنار:( كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى‏ إِبْراهِيمَ ) .

و قال آخرون و لعلّهم أكثر المفسّرين بدلالة الآية على دخولهم النار استناداً إلى مثل قوله تعالى:( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها ) الأنبياء: ٩٩، و قوله في فرعون:( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) هود: ٩٨، و يدلّ عليه قوله في الآية التالية:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) أي نتركهم باركين على ركبهم و إنّما يقال

٩٦

نذر و نترك فيما إذا كان داخلاً مستقرّاً في المحلّ قبل الترك ثمّ اُبقي على ما هو عليه و لعدّة من الروايات الواردة في تفسير الآية.

و هؤلاء بين من يقول بدخول عامّة الناس فيها و من يقول بدخول غير المتّقين مدّعيا أنّ قوله:( مِنْكُمْ ) بمعنى منهم على حدّ قوله:( وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً، إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً ) الدهر: ٢٢، هذا و لكن لا يلائمه سياق قوله:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) الآية.

و فيه أنّ كون الورود في مثل قوله:( لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها ) بمعنى الدخول ممنوع بل الأنسب كونه بمعنى الحضور و الإشراف فإنّه أبلغ كما هو ظاهر و كذا في قوله:( فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) فإنّ شأن فرعون و هو من أئمّة الضلال هو أن يهدي قومه إلى النار و أمّا إدخالهم فيها فليس إليه.

و أمّا قوله:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ) فالآية دالّة على كونهم داخلين فيها بدليل قوله:( نَذَرُ ) لكن دلالتها على كونهم داخلين غير كون قوله:( وارِدُها ) مستعملاً في معنى الدخول و كذا تنجية المتّقين لا تستلزم كونهم داخلين فيها فإنّ التنجية كما تصدق مع إنقاذ من دخل المهلكة تصدق مع إبعاد من أشرف على الهلاك و حضر المهلكة من ذلك.

و أمّا الروايات فإنّما وردت في شرح الواقعة لا في تشخيص ما استعمل فيه لفظ( وارِدُها ) في الآية فالاستدلال بها على كون الورود بمعنى الدخول ساقط.

فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المراد شأنيّة الدخول و المعنى: ما من أحد منكم إلّا من شأنه أن يدخل النار و إنّما ينجو من ينجو بإنجاء الله على حدّ قوله:( وَ لَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى‏ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ) النور: ٢١.

قلت: معناه كون الورود مقتضى طبع الإنسان من جهة أنّ ما يناله من خير و سعادة فمن الله و لا يبقى له من نفسه إلّا الشرّ و الشقاء لكن ينافيه ما في ذيل الآية من قوله:( كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) فإنّه صريح في أنّ هذا الورود بإيراد من الله و بقضائه المحتوم لا باقتضاء من طبع الأشياء.

٩٧

و الحقّ أنّ الورود لا يدلّ على أزيد من الحضور و الإشراف عن قصد - على ما يستفاد من كتب اللّغة - فقوله:( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) إنّما يدلّ على القصد و الحضور و الإشراف، و لا ينافي دلالة قوله في الآية التالية:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) على دخولهم جميعاً أو دخول الظالمين خاصّة فيها بعد ما وردوها.

و قوله:( كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) ضمير كان للورود أو للجملة السابقة باعتبار أنّه حكم، و الحتم و الجزم و القطع بمعنى واحد أي هذا الورود أو الحكم كان واجباً عليه تعالى مقضيّاً في حقّه و إنّما قضى ذلك نفسه على نفسه إذ لا حاكم يحكم عليه.

قوله تعالى: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) قد تقدّمت الإشارة إلى أنّ قوله:( وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ) يدلّ على كون الظالمين داخلين فيها ثمّ يتركون على ما كانوا عليه، و أمّا تنجية الّذين اتّقوا فلا تدلّ بلفظها على كونهم داخلين إذ التنجية ربّما تحقّقت بدونه اللّهمّ إلّا أن يستظهر ذلك من ورود اللفظين مقترنين في سياق واحد.

و في التعبير بلفظ الظالمين إشارة إلى علّيّة الوصف للحكم.

و معنى الآيتين: ما من أحد منكم - متّق أو ظالم - إلّا و هو سيرد النار كان هذا الإيراد واجباً مقضيّاً على ربّك ثمّ ننجّي الّذين اتّقوا منها و نترك الظالمين فيها لظلمهم باركين على ركبهم.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن مالك الجهنيّ قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ:( أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً ) قال: فقال: لا مقدّراً و لا مكتوباً.

و في المحاسن، بإسناده عن حمران قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن قوله:( أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ ) الآية، قال: لم يكن في كتاب و لا علم.

٩٨

أقول: المراد بالحديثين أنّه لم يكن في كتاب و لا علم من كتب المحو و الإثبات ثمّ أثبته الله حين أراد كونه و أمّا اللوح المحفوظ فلا يعزب عنه شي‏ء بنصّ القرآن.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) قال: قال: على ركبهم.

و فيه، بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله عزّوجلّ:( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) قال: أ ما تسمع الرجل يقول: وردنا بني فلان فهو الورود و لم يدخله.

و في المجمع، عن السدّيّ قال: سألت مرّة الهمدانيّ عن هذه الآية فحدّثني أنّ عبدالله بن مسعود حدّثهم عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: يرد الناس النار ثمّ يصدرون بأعمالهم فأوّلهم كلمع البرق ثمّ كمر الريح ثمّ كحضر الفرس ثمّ كالراكب ثمّ كشدّ الرجل ثمّ كمشيه.

و فيه، و روى أبوصالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد عن أبي سميّة قال: اختلفنا في الورود فقال قوم: لا يدخلها مؤمن و قال آخرون: يدخلونها جميعاً ثم ينجّي الله الّذين اتّقوا فلقيت جابر بن عبدالله فسألته فأومي بإصبعيه إلى اُذنيه و قال: صمّتا إن لم أكن سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) يقول: الورود الدخول لا يبقى برّ و لا فاجر حتّى يدخلها فتكون على المؤمنين برداً و سلاماً كما كانت على إبراهيم حتّى أنّ للنار - أو قال: لجهنّم - ضجيجاً من بردها ثمّ ينجّي الله الّذين اتّقوا و يذر الظالمين فيها جثيّاً.

أقول: و الرواية من التفسير غير أنّ سندها ضعيف بالجهالة.

و فيه، و روي مرفوعاً عن يعلى بن منبّه عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.

و فيه، و روي عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): أنّه سئل عن المعنى فقال: إنّ الله يجعل النّار كالسمن الجامد و يجمع عليها الخلق ثمّ ينادي المنادي أن خذي أصحابك و ذري أصحابي فو الّذي نفسي بيده لهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها.

٩٩

أقول: و الروايات الأربع الأخيرة رواها في الدرّ المنثور، عن عدّة من أرباب الكتب و الجوامع،، غير أنّه لم يذكر في الرواية الثانية - فيما عندنا من نسخة الدرّ المنثور - قوله: الورود الدخول.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبونعيم في الحلية، عن عروة بن الزبير قال: لمّا أراد ابن رواحة الخروج إلى أرض مؤتة من الشام أتاه المسلمون يودّعونه فبكى فقال: أما و الله ما بي حبّ الدنيا و لا صبابة لكم و لكنّي سمعت رسول الله قرأ هذه الآية( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) فقد علمت أنّي وارد النار و لا أدري كيف الصدور بعد الورود؟.

و اعلم أنّ ظاهر بعض الروايات السابقة أنّ ورود الناس النار هو جوازهم منها فينطبق على روايات الصراط و فيها أنّه جسر ممدود على النار يؤمر بالعبور عليها البرّ و الفاجر فيجوزه الأبرار و يسقط فيها الفجّار، و عن الصدوق في الاعتقاد، أنّه حمل الآية عليه.

و قال في مجمع البيان: و قيل: إنّ الفائدة في ذلك يعني ورود النار ما روي في بعض الأخبار: أنّ الله تعالى لا يدخل أحداً الجنّة حتّى يطلعه على النار و ما فيها من العذاب ليعلم تمام فضل الله عليه و كمال فضله و إحسانه إليه فيزداد لذلك فرحاً و سروراً بالجنّة و نعيمها، و لا يدخل أحداً النار حتّى يطلعه على الجنّة و ما فيها من أنواع النعيم و الثواب ليكون ذلك زيادة عقوبة له و حسرة على ما فاته من الجنّة و نعيمها. انتهى.

( كلام في معنى وجوب الفعل و جوازه)

( و عدم جوازه على الله سبحانه)

قد تقدّم في الجزء الأوّل من الكتاب في ذيل قوله تعالى:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦ في بحث قرآنيّ تقريباً أنّ له تعالى الملك المطلق على الأشياء بمعنى أنّه يملك كلّ شي‏ء ملكاً مطلقاً غير مقيّد بحال أو زمان أو أيّ شرط مفروض

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459