الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  13%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96738 / تحميل: 5838
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

رحمته فلا يبقى لتولّي أمرك إلّا الشيطان فتكون وليّاً للشيطان و الشيطان مولاك.

و قد ظهر ممّا تقدم:

أوّلاً: أنّ المراد بالعبادة في قوله:( لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ ) عبادة الطاعة، و لوصف الشيطان - و معناه الشرير - دخلٌ في الحكم.

و ثانياً: وجه تبديل اسم الجلالة من وصف الرحمن في موضعين فإنّ لوصف الرحمة المطلقة دخلاً في الحكمين فإنّ كونه تعالى مصدراً لكلّ رحمة و نعمة هو الموجب لقبح الإصرار على معصيته و المصحّح للنهي عن طاعة من يقيم على عصيانه، و كذا مصدريّته لكلّ رحمة هو الباعث على الخوف من عذابه الّذي يلازم إمساك الرحمة و غشيان النقمة و الشقوة.

و ثالثاً: أنّ المراد بالعذاب هو الخذلان، أو ما هو بمعناه كإمساك الرحمة و ترك الإنسان و نفسه، و ما ذكره بعضهم أنّ المراد به العذاب الاُخروي لا يساعد عليه السياق.

قوله تعالى: ( قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا ) الرغبة عن الشي‏ء نقيض الرغبة فيه كما في المجمع، و الانتهاء: الكفّ عن الفعل بعد النهي، و الرجم: الرمي بالحجارة، و المعروف من معناه القتل برمي الحجارة، و الهجر هو الترك و المفارقة، و المليّ الدهر الطويل.

و في الآية تهديد لإبراهيم بأخزى القتل و أذلّه و هو الرجم الّذي يقتل به المطرودون، و فيها طرد آزر لإبراهيم عن نفسه.

قوله تعالى: ( قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ) الحفيّ على ما ذكره الراغب: البرّ اللطيف و هو الّذي يتتبّع دقائق الحوائج فيحسن و يرفعها واحداً بعد واحد، يقال: حفا يحفو حفي و حفوة، و إحفاء السؤال و الإحفاء فيه: الإلحاح و الإمعان فيه.

قابل إبراهيم (عليه السلام) أباه فيما أساء إليه و هدّده و فيه سلب الأمن عنه من قبله بالسلام الّذي فيه إحسان و إعطاء أمن، و وعده أن يستغفر له ربّه و أن يعتزلهم و ما

٦١

يدعون من دون الله كما أمره أن يهجره مليّا.

أمّا السلام فهو من دأب الكرام قابل به جهالة أبيه إذ هدّده بالرجم و طرده لكلمة حقّ قالها، قال تعالى:( وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ) الفرقان: ٧٢، و قال:( وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) الفرقان: ٦٣، و أمّا ما قيل: إنّه كان سلام توديع و تحيّة مفارقة و هجرة امتثالاً لقوله:( وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا ) ففيه أنّه اعتزله و قومه بعد مدّة غير قصيرة.

و أمّا استغفاره لأبيه و هو مشرك فظاهر قوله:( يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا ) أنّه (عليه السلام) لم يكن وقتئذ قاطعاً بكونه من أولياء الشيطان أي مطبوعاً على قلبه بالشرك جاحداً معانداً للحقّ عدوّاً لله سبحانه و لو كان قاطعاً لم يعبّر بمثل قوله:( إِنِّي أَخافُ ) بل كان يحتمل أن يكون جاهلاً مستضعفاً لو ظهر له الحقّ اتّبعه، و من الممكن أن تشمل الرحمة الإلهيّة لأمثال هؤلاء قال تعالى:( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً ) النساء: ٩٩، فاستعطفه (عليه السلام) بوعد الاستغفار و لم يحتم له المغفرة بل أظهر الرجاء بدليل قوله:( إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ) و قوله تعالى:( إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) الممتحنة: ٤.

و يؤيّد ما ذكر قوله تعالى:( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى‏ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ، وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) التوبة: ١١٤، فتبرّيه بعد تبيّن عداوته دليل على أنّه كان قبل ذلك عند الموعدة يرجو أن يكون غير عدوّ لله مع كونه مشركاً، و ليس ذلك إلّا الجاهل غير المعاند.

و يؤيّد هذا النظر قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ - إلى أن قال -لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ

٦٢

يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) الخ الممتحنة: ٨.

و ممّا قيل في توجيه استغفاره لأبيه و هو مشرك أنّه وعده الاستغفار و استغفر له بمقتضى العقل فإنّ العقل لا يأبى عن تجويزه و إنّما منع منه النقل و لم يثبت يومئذ المنع عنه شرعاً ثمّ لمّا حرّم ذلك في شرعه تبرأ منه.

و فيه: أنّه لا ينطبق على آيات القصّة كما يظهر بالتأمّل فيما قدّمناه.

و منها: أنّ معنى استغفاره كان مشروطاً بتوبته و إيمانه. و هو كما ترى.

و منها: أنّ معنى( سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ) سأدعو الله أن لا يعذّبك في الدنيا. و هو كسابقه تقييد من غير مقيّد.

و منها: أنّه وعد الدعاء بالمسبّب و هو بالاستلزام وعد للدعاء بالسبب فمعنى سأسأل الله أن يغفر لك، سأسأله أن يوفّقك للتوبة و يهديك للإيمان فيغفر لك، و يمكن أن يجعل طلب المغفرة كناية عن طلب توفيق التوبة و الهداية إلى الإيمان.

و هذا و إن كان أعدل الوجوه لكنّه لا يخلو عن بعد لأنّ في الكلام استعطافاً و هو بطلب المغفرة أنسب منه بطلب التوفيق و الهداية، تأمّل فيه.

و نظير دعائه لأبيه دعاؤه لعامّة المشركين في قوله:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) إبراهيم: ٣٦.

قوله تعالى: ( وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى‏ أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا ) وعد باعتزالهم و الابتعاد منهم و من أصنامهم ليخلو بربّه و يخلص الدعاء له رجاء أن لا يكون بسبب دعائه شقيّاً و إنّما أخذ بالرجاء لأنّ هذه الأسباب من الدعاء و التوجّه إلى الله و نحوه ليست بأسباب موجبة عليه تعالى شيئاً بل الإثابة و الإسعاد و نحوه بمجرّد التفضّل منه تعالى. على أنّ الاُمور بخواتمها و لا يعلم الغيب إلّا الله فعلى المؤمن أن يسير بين الخوف و الرجاء.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ

٦٣

وَ يَعْقُوبَ ) إلى آخر الآيتين. لعلّ الاقتصار على ذكر إسحاق لتعلّق الغرض بذكر توالي النبوّة في الشجرة الإسرائيليّة و لذلك عقّب إسحاق بذكر يعقوب فإنّ في نسله جمّاً غفيراً من الأنبياء، و يؤيّد ذلك أيضاً قوله:( وَ كُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا ) .

و قوله:( وَ وَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا ) من الممكن أن يكون المراد به الإمامة كما وقع في قوله:( وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) الأنبياء: ٧٣، أو التأييد بروح القدس كما يشير إليه قوله:( وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ ) الآية: الأنبياء: ٧٣ على ما سيجي‏ء من معناه أو مطلق الولاية الإلهيّة.

و قوله:( وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ) اللسان - على ما ذكروا - هو الذكر بين الناس بالمدح أو الذمّ و إذا اُضيف إلى الصدق فهو الثناء الجميل الّذي لا كذب فيه، و العليّ هو الرفيع و المعنى و جعلنا لهم ثناء جميلاً صادقاً رفيع القدر.

٦٤

( سورة مريم الآيات ٥١ - ٥٧)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا ( ٥١ ) وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ( ٥٢ ) وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ( ٥٣ ) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا ( ٥٤ ) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ( ٥٥ ) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا ( ٥٦ ) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ( ٥٧ )

( بيان)

ذكر جمع آخرين من الأنبياء و شي‏ء من موهبة الرحمة الّتي خصّهم الله بها، و هم موسى و هارون و إسماعيل و إدريس (عليه السلام).

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى‏ إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا ) قد تقدّم معنى المخلص بفتح اللام و أنّه الّذي أخلصه الله لنفسه فلا نصيب لغيره تعالى فيه لا في نفسه و لا في عمله، و هو أعلى مقامات العبوديّة. و تقدّم أيضاً الفرق بين الرسول و النبيّ.

قوله تعالى: ( وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا ) الأيمن: صفة لجانب أي الجانب الأيمن من الطور، و في المجمع النجيّ بمعنى المناجي كالجليس و الضجيع.

و ظاهر أنّ تقريبه (عليه السلام) كان تقريباً معنويّاً و إن كانت هذه الموهبة الإلهيّة في مكان و هو الطور ففيه كان التكليم، و مثاله من الحسّ أن ينادي السيّد

٦٥

العزيز عبده الذليل فيقرّبه من مجلسه حتّى يجعله نجيّاً يناجيه ففيه نيل ما لا سبيل لغيره إليه.

قوله تعالى: ( وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا ) إشارة إلى إجابة ما دعا به موسى عند ما اُوحى إليه لأوّل مرّة في الطور إذ قال:( وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) : طه: ٣٢.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ ) إلى آخر الآيتين. اختلفوا في( إِسْماعِيلَ ) هذا فقال الجمهور هو إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن، و إنّما ذكر وحده و لم يذكر مع إسحاق و يعقوب اعتناء بشأنه، و قيل: هو غيره، و هو إسماعيل بن حزقيل من أنبياء بني إسرائيل، و لو كان هو ابن إبراهيم لذكر مع إسحاق و يعقوب.

و يضعّف ما وجّه به قول الجمهور: إنّه استقلّ بالذكر اعتناء بشأنه، أنّه لو كان كذلك لكان الأنسب ذكره بعد إبراهيم و قبل موسى (عليهم السلام) لا بعد موسى.

قوله تعالى: ( وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ) المراد بأهله خاصّته من عترته و عشيرته و قومه كما هو ظاهر اللفظ، و قيل: المراد بأهله اُمّته و هو قول بلا دليل.

و المراد بكونه عند ربّه مرضيّاً كون نفسه مرضيّة دون عمله كما ربّما فسّره به بعضهم فإنّ إطلاق اللفظ لا يلائم تقييد الرضا بالعمل.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ) إلى آخر الآيتين. قالوا: إنّ إدريس النبيّ كان اسمه اُخنوخ و هو من أجداد نوح (عليهما السلام) على ما ذكر في سفر التكوين من التوراة، و إنّما اشتهر بإدريس لكثرة اشتغاله بالدرس.

و قوله:( وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ) من الممكن أن يستفاد من سياق القصص المسرودة في السورة و هي تعدّ مواهب النبوّة و الولاية و هي مقامات إلهيّة معنويّة أنّ المراد بالمكان العليّ الّذي رفع إليه درجة من درجات القرب إذ لا مزيّة في الارتفاع المادّي

٦٦

و الصعود إلى أقاصي الجوّ البعيدة أينما كان.

و قيل: إنّ المراد بذلك - كما ورد به الحديث - أنّ الله رفعه إلى بعض السماوات و قبضه هناك، و فيه إراءة آية خارقة و قدرة إلهيّة بالغة و كفى بها مزيّة.

( قصّة إسماعيل صادق الوعد)

لم ترد قصّة إسماعيل بن حزقيل النبيّ في القرآن إلّا في هاتين الآيتين على أحد التفسيرين و قد أثنى الله سبحانه عليه بجميل الثناء فعدّه صادق الوعد و آمراً بالمعروف و مرضيّاً عند ربّه، و ذكر أنّه كان رسولاً نبيّاً.

و أمّا الحديث ففي علل الشرائع، بإسناده عن ابن أبي عمير و محمّد بن سنان عمّن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنّ إسماعيل الّذي قال الله عزّوجلّ في كتابه:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا ) لم يكن إسماعيل بن إبراهيم بل كان نبيّاً من الأنبياء بعثه الله عزّوجلّ إلى قومه فأخذوه و سلخوا فروة رأسه و وجهه فأتاه ملك فقال: إنّ الله جلّ جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت فقال: لي اُسوة بما يصنع بالأنبياء (عليهم السلام).

أقول: و روى هذا المعنى أيضاً بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام) و في آخره: يكون لي اُسوة بالحسين (عليه السلام).

و في العيون، بإسناده إلى سليمان الجعفريّ عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: أ تدري لم سمّي إسماعيل صادق الوعد؟ قال: قلت: لا أدري. قال: وعد رجلاً فجلس له حولاً ينتظره.

أقول: و روى هذا المعنى في الكافي، عن ابن أبي عمير عن منصور بن حازم عن أبي عبدالله (عليه السلام)، و رواه أيضاً في المجمع، مرسلاً عنه (عليه السلام).

و في تفسير القمّيّ في قوله:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ ) قال: وعد وعداً فانتظر صاحبه سنة، و هو إسماعيل بن حزقيل.

أقول: وعده (عليه السلام) و هو أن يثبت في مكانه في انتظار صاحبه كان مطلقاً لم يقيّده

٦٧

بساعة أو يوم و نحوه فألزمه مقام الصدق أن يفي به بإطلاقه و يصبّر نفسه في المكان الّذي وعد صاحبه أن يقيم فيه حتّى يرجع إليه.

و صفة الوفاء كسائر الصفات النفسانيّة من الحبّ و الإرادة و العزم و الإيمان و الثقة و التسليم ذات مراتب مختلفة باختلاف العلم و اليقين فكما أنّ من الإيمان ما يجتمع مع أيّ خطيئة و إثم و هو أنزل مراتبه و لا يزال ينمو و يصفو حتّى يخلص من كلّ شرك خفيّ فلا يتعلّق القلب بشي‏ء غير الله و لو بالتفات إلى من دونه و هو أعلى مراتبه كذلك الوفاء بالوعد ذو مراتب فمن مراتبه في المقال مثلاً إقامة ساعة أو ساعتين حتّى تعرض حاجة اُخرى توجب الانصراف إليها و هو الّذي يصدق عليه الوفاء عرفاً، و أعلى منه مرتبة الإقامة بالمكان حتّى يوأس من رجوع الصديق إليه عادة بمجي‏ء اللّيل و نحوه فيقيّد به إطلاق الوعد، و أعلى منه مرتبة الأخذ بإطلاق القول و الإقامة حتّى يرجع و إن طال الزمان فالنفوس القويّة الّتي تراقب قولها و فعلها لا تلقي من القول إلّا ما في وسعها أن تصدّقه بالفعل ثمّ إذا لفظت لم يصرفها عن إتمام الكلمة و إنفاذ العزيمة أيّ صارف.

و في الرواية: أنّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وعد بعض أصحابه بمكّة أن ينتظره عند الكعبة حتّى يرجع إليه فمضى الرجل لشأنه و نسي الأمر فبقي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ثلاثة أيّام هناك ينتظره فاطّلع بعض الناس عليه فأخبر الرجل بذلك فجاء و اعتذر إليه و هذا مقام الصدّيقين لا يقولون إلّا ما يفعلون.

( قصّة إدريس النبيّ (عليه السلام))

١- لم يذكر (عليه السلام) في القرآن إلّا في الآيتين من سورة مريم:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ) الآية ٥٦ - ٥٧ و في قوله:( وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) الأنبياء: ٨٥ - ٨٦.

و في الآيات ثناء منه تعالى عليه جميل فقد عدّه نبيّاً و صدّيقاً و من الصابرين

٦٨

و من الصالحين، و أخبر أنّه رفعه مكاناً عليّاً.

٢- و من الروايات الواردة في قصّته ما عن كتاب كمال الدين و تمام النعمة، بإسناده عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن الباقر (عليه السلام) - و الحديث طويل لخّصناه - أنّه كان بدء نبوّة إدريس (عليه السلام) أنّه كان في زمانه ملك جبّار، و ركب ذات يوم في بعض النزهة فمرّ بأرض خضراء نضرة أعجبته فأحبّ أن يمتلكها و كانت الأرض لعبد مؤمن فأمر بإحضاره و ساومه فيها ليشتريها فلم يبعها و لم يرض به فرجع الملك إلى البلدة و هو مغموم متحيّر في أمره فاستشار امرأة له كان يستشيرها في هامّة الاُمور فأشارت عليه أن يقيم عليه شهوداً أنّه خرج عن دين الملك فيقتله و يملك أرضه ففعل ما أشارت إليه و غصب الأرض.

فأوحى الله إلى إدريس أن يأتي الملك و يقول له عنه: أ ما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلماً حتّى استخلصت أرضه خالصة لك و أحوجت عياله من بعده و أجعتهم؟ أما و عزّتي لأنتقمنّ له منك في الآجل و لأسلبنّ ملكك في العاجل، و لاُخرّبنّ مدينتك و لأذلّنّ عزّك و لأطعمنّ الكلاب لحم امرأتك فقد غرّك يا مبتلى حلمي عنك.

فأتاه إدريس برسالة الله و بلّغه ذلك في ملإ من أصحابه فأخرجه الملك من مجلسه ثمّ أرسل إليه بإشارة من امرأته قوماً يقتلونه، فانتبه لذلك بعض أصحاب إدريس و أشاروا عليه بالخروج و الهجرة فخرج منها ليومه و معه بعض أصحابه ثمّ ناجى ربّه و شكى إليه ما لقيه من الملك في رسالته إليه فأوحى إليه بالخروج من القرية، و أنّه سينفذ في الملك أمره و يصدّق فيه قوله، ثمّ سأل أن لا تمطر السماء على القرية و ما حولها حتّى يسأل ذلك فاُجيب إليه.

فأخبر إدريس بذلك أصحابه من المؤمنين و أمرهم بالخروج منها فخرجوا و تفرّقوا في البلاد و كانوا عشرين رجلاً و شاع خبر وحيه و خروجه بين الناس، و خرج هو متنحّياً إلى كهف في جبل شاهق يعبد الله فيه و يصوم النهار و يأتيه ملك بطعام يفطر به عند كلّ مساء.

٦٩

و أنفذ الله في الملك و امرأته و مدينته ما أوحاه إلى إدريس و ظهر في المدينة جبّار آخر عاص، و أمسكت السماء عنهم أمطارها عشرين سنة حتّى جهدوا و اشتدّت حالهم فلمّا بلغ بهم الجهد ذكر بعضهم لبعض أنّ الّذي لقوه من الجهد و المشقّة إنّما هو لدعاء إدريس عليهم أن لا يمطروا حتّى يسألوه و خروجه من بينهم و هم لا يعلمون أين هو؟ فالرأي أن يرجعوا و يتوبوا إلى الله و يسألوه المطر فهو أرحم بهم منه فاجتمعوا على الدعاء و التضرّع.

فأوحى الله إلى إدريس أنّ القوم عجّوا إليّ بالتوبة و الاستغفار و البكاء و التضرّع و قد رحمتهم و ما يمنعني من أمطارهم إلّا مناظرتك فيما سألتني أن لا اُمطر السماء عليهم حتّى تسألني فاسألني حتّى اُغيثهم، قال إدريس: اللّهمّ إنّي لا أسألك.

فأوحى الله إلى الملك الّذي كان يأتيه بالطعام أن يمسك عنه فأمسك عنه ثلاثة أيّام حتّى بلغ به الجوع: فنادى اللّهمّ حبست عنّي رزقي من قبل أن تقبض روحي فأوحى الله إليه: يا إدريس جزعت أن حبست عنك طعامك ثلاثة أيّام و لم تجزع من جوع أهل قريتك و جهدهم منذ عشرين سنة ثمّ سألتك أن تسألني أن اُمطر عليهم فبخلت و لم تسأل فأدّبتك بالجوع فاهبط من موضعك و اطلب المعاش لنفسك فقد وكلّتك في طلبه إلى حيلتك.

فهبط إدريس إلى قرية هناك و نظر إلى بيت يصعد منه دخان فهجم عليه و إذا عجوز كبيرة ترفق قرصتين لها على مقلاة فسألها أن تطعمه فقد بلغ به جهد الجوع فقالت: يا عبدالله ما تركت لنا دعوة إدريس فضلا نطعمه أحداً - و حلفت أنّها لا تملك غيره شيئاً - فاطلب المعاش من غير أهل هذه القرية، فقال لها: أطعميني ما اُمسك به روحي و تقوم به رجلي حتّى أطلب، قالت: إنّهما قرصتان واحدة لي و الاُخرى لابني فإن أطعمتك قوتي متّ و إن أطعمتك قوت ابني مات و ليس هاهنا فضل، قال: إنّ ابنك صغير يجزيه نصف قرصة فأطعمي كلّا منّا نصفا يكون لنا بلغة فرضيت و فعلت.

فلمّا رأى ابنها إدريس و هو يأكل من قرصته اضطرب حتّى مات، قالت اُمّه: يا عبدالله قتلت ابني جزعاً على قوته فقال: لا تجزعي فأنا اُحييه لك الساعة بإذن

٧٠

الله و أخذ بعضدي الصبيّ و قال: أيّتها الروح الخارجة عن بدنه بأمر الله ارجعي إلى بدنه بإذن الله و أنا إدريس النبيّ، فرجعت روح الغلام إليه.

فلمّا سمعت اُمّه كلام إدريس و قوله: أنا إدريس و نظرت إلى ابنها حيّا قالت: أشهد أنّك إدريس النبيّ و خرجت تنادي بأعلى صوتها في القرية: أبشروا بالفرج فقد دخل إدريس في قريتكم، فمضى إدريس حتّى جلس على موضع مدينة الجبّار الأوّل و قد تبدّلت تلّا من تراب فاجتمع إليه اُناس من أهل قريته و استرحموه و سألوه أن يدعو لهم فيمطروا. قال: لا، حتّى يأتيني جبّاركم هذا و جميع أهل قريتكم مشاة حفاة فيسألوني ذلك.

فبلغ ذلك الجبّار فبعث إلى إدريس أربعين رجلاً و أمرهم أن يأتوا به إليه، فلمّا جاؤه و كلّفوه الذهاب معهم إليه، دعا عليهم فماتوا عن آخرهم، ثمّ أرسل خمسمائة رجل فلمّا أتوه كلّفوه الذهاب و استرحموه فأراهم مصارع أصحابهم و قال: ما أنا بذاهب إليه و لا سائل حتّى يأتيني هو و جميع أهل القرية مشاة حفاة و يسألوني الدعاء للمطر.

فانطلقوا إليه و أخبروه بما قال و سألوه أن يمضي إليه هو و جميع أهل القرية مشاة حفاة و يسألوه أن يسأل الله أن تمطر السماء فأتوه حتّى وقفوا بين يديه خاضعين متذلّلين و سألوه أن يسأل الله أن تمطر السماء عليهم، فعند ذلك دعا إدريس أن تمطر السماء عليهم فأظلّتهم سحابة من السماء و أرعدت و أبرقت و هطلت عليهم من ساعتهم حتّى ظنّوا أنّه الغرق فما رجعوا إلى منازلهم حتّى أهمّتهم أنفسهم من الماء.

و في الكافي، بإسناده عن عبدالله بن أبان عن أبي عبدالله (عليه السلام): في حديث يذكر فيه مسجد السهلة: أ مّا علمت أنّه موضع بيت إدريس النبيّ الّذي كان يخيط فيه.

أقول: و قد شاع بين أهل السير و الآثار أنّه (عليه السلام) أوّل من خطّ بالقلم و أوّل من خاط.

و في تفسير القمّيّ، قال: و سمّي إدريس لكثرة دراسته الكتب.

٧١

أقول: ورد في بعض الروايات: في معنى قوله تعالى في إدريس (عليه السلام):( وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ) أنّ الله غضب على ملك من الملائكة فقطع جناحه و ألقاه في جزيرة من جزائر البحر فبقي هناك ما شاء الله، فلمّا بعث الله إدريس جاءه ذلك الملك و سأله أن يدعو الله أن يرضى عنه و يردّ إليه جناحه، فدعا له إدريس فردّ الله جناحه إليه و رضي عنه.

قال الملك لإدريس: أ لك حاجة؟ قال: نعم اُحبّ أن ترفعني إلى السماء حتّى أنظر إلى ملك الموت فلا عيش لي مع ذكره، فأخذه الملك على جناحه حتّى انتهى به إلى السماء الرابعة فإذا هو بملك الموت يحرّك رأسه تعجّباً، فسلّم عليه إدريس و قال له: ما لك تحرّك رأسك؟ قال: إنّ ربّ العزّة أمرني أن أقبض روحك بين السماء الرابعة و الخامسة. فقلت: يا ربّ كيف يكون هذا و بيني و بينه أربع سماوات و غلظ كلّ سماء مسيرة خمسمائة عام و بين كلّ سماءين مسيرة خمسمائة عام؟ ثمّ قبض روحه بين السماء الرابعة و الخامسة و هو قوله تعالى:( وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ) .

روى الحديث عليّ بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره، عن أبيه عن ابن أبي عمير عمّن حدّثه عن أبي عبدالله (عليه السلام)، و روى ما في معناه في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن عمرو بن عثمان عن مفضّل بن صالح عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) عن النبيّ (صلّي الله وعليه وآله وسلّم).

و الروايتان على ما بهما و خاصّة في الثانية(١) منهما من ضعف السند لا معوّل عليهما لمخالفتهما ظاهر الكتاب لنصّه على عصمة الملائكة و نزاهتهم عن الذنب و الخطيئة.

و روى الثعلبي في العرائس، عن ابن عبّاس و غيره ما ملخّصه: أنّ إدريس سار ذات يوم فأصابه وهج الشمس فقال: إنّي مشيت في الشمس يوماً فتأذّيت فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد! اللّهمّ خفّف عنه ثقلها و احمل عنه حرّها، فاستجاب الله له فأحسّ الملك الّذي يحملها بذلك فسأل الله في ذلك فأخبره بما كان

____________________

(١) لمكان مفضّل بن صالح و كان كذّاباً يضع الحديث.

٧٢

من دعاء إدريس و استجابته فسأله تعالى أن يجمع بينه و بين إدريس و يجعل بينهما خلّة فأذن له.

فكان إدريس يسأله و كان ممّا سأله: أنّك أخبرت أنّك أكرم الملائكة على ملك الموت و أمكنهم عنده فاشفع لي إليه ليؤخّر أجلي حتّى أزداد شكراً و عبادة فقال الملك: لا يؤخّر الله نفساً إذا جاء أجلها. قال: نعم و لكنّه أطيب لنفسي. قال الملك أنا مكلّمه لك، و ما كان يستطيع أن يفعله لأحد من بني آدم فهو فاعله لك.

ثمّ حمله الملك على جناحه و رفعه إلى السماء فوضعه عند مطلع الشمس ثمّ أتى ملك الموت و ذكر له حاجة إدريس و شفع له فقال ملك الموت: ليس ذلك إليّ و لكن إن أحببت أعلمته أجله. قال: نعم فنظر في ديوانه و أخبره باسمه و قال: ما أراه يموت أبداً. فإنّه أجده يموت عند مطلع الشمس! قال: فإنّي أتيتك و قد تركته هناك. قال له: انطلق فلا أراك تجده إلّا ميتا فوالله ما بقي من أجله شي‏ء فرجع الملك إليه فوجده ميتا.

و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن أبي شيبة و ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس عن كعب: إلّا أنّ فيه أنّ النازل على إدريس الملك الّذي كان يرفع إليه عمله و قد كان يرفع له من العمل ما يعدل عمل أهل الأرض في زمانه فأعجبه ذلك فسأل الله أن ينزل إليه فأذن له فنزل إليه و صحبه إلخ و روى ابن أبي حاتم بطريق آخر عن ابن عبّاس هذا الحديث و فيه: أنّ إدريس مات بين جناحي الملك.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر عن عمر مولى غفرة يرفعه إلى النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): أنّ إدريس كان يرفع له وحده من العمل ما يعدل عمل أهل الأرض كلّهم فأعجب ذلك ملك الموت فاستأذن الله في النزول إلى الأرض و صحبته فأذن له فنزل إليه و صحبه فكانا يسيحان في الأرض و يعبدان الله فأعجب إدريس ما رآه من عبادة صاحبه من غير كسل و لا فتور فسأله عن ذلك و أحفى في السؤال حتّى عرّفه ملك الموت نفسه و ذكر له قصّة نزوله و صحبته.

فلمّا عرفه إدريس سأله ثلاث حوائج له: أن يقبض روحه ساعة ثمّ يردّها

٧٣

إليه فاستأذن الله و فعل، و أن يرفعه إلى السماء و يريه النار فاستأذن و فعل، و أن يريه الجنّة فاستأذن و فعل فدخل الجنّة و أكل من ثمارها و شرب من مائها فقال له ملك الموت: اخرج يا نبيّ الله فقد أصبت حاجتك، فامتنع من الخروج و تعلّق بشجرة هناك، و خاصم ملك الموت قائلا: قال الله:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) و قد ذقته، و قال:( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) و قد وردت النار، و قال:( وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ ) و لست أخرج من الجنّة بعد دخولها فأوحى الله إلى ملك الموت خصمك عبدي فاتركه و لا تتعرّض له فبقي في الجنّة.

و رواه في العرائس، عن وهب و في آخره: فهو حيّ هناك فتارة يعبد الله في السماء الرابعة و تارة يتنعّم في الجنّة.

و في مستدرك الحاكم، عن سمرة: كان إدريس أبيض طويلاً ضخم عريض الصدر قليل شعر الجسد كثير شعر الرأس، و كانت إحدى عينيه أعظم من الاُخرى، و كانت في صدره نكتة بيضاء من غير برص فلمّا رأى الله من أهل الأرض ما رأى من جورهم و اعتدائهم في أمر الله، رفعه الله إلى السماء السادسة فهو حيث يقول:( وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ) .

أقول: و لا يرتاب الناقد البصير في أنّ هذه الروايات إسرائيليّات لعبت بها أيدي الوضع، و يدفعها الموازين العلميّة و الاُصول المسلّمة من الدين.

٣- و يسمّى (عليه السلام) بهرمس قال القفطيّ في كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء، في ترجمة إدريس: اختلف الحكماء في مولده و منشأه و عمّن أخذ العلم قبل النبوّة فقالت فرقة: ولد بمصر و سمّوه هرمس الهرامسة، و مولده بمنف، و قالوا: هو باليونانيّة إرميس و عرّب بهرمس، و معنى إرميس عطارد، و قال آخرون: اسمه باليونانيّة طرميس، و هو عند العبرانيّين خنوخ و عرّب أخنوخ، و سمّاه الله عزّوجلّ في كتابه العربيّ المبين إدريس.

و قال هؤلاء: إنّ معلّمه اسمه الغوثاذيمون و قيل: أغثاذيمون المصريّ، و لم يذكروا من كان هذا الرجل؟ إلّا أنّهم قالوا: إنّه أحد الأنبياء اليونانيّين و

٧٤

المصريّين، و سمّوه أيضاً اُورين الثاني و إدريس عندهم اُورين الثالث، و تفسير غوثاذيمون السعيد الجدّ، و قالوا: خرج هرمس من مصر و جاب الأرض كلّها ثمّ عاد إليها و رفعه الله إليه بها، و ذلك بعد اثنين و ثمانين سنة من عمره.

و قالت فرقة اُخرى: إنّ إدريس ولد ببابل و نشأ بها و أنّه أخذ في أوّل عمره بعلم شيث بن آدم و هو جدّ جدّ أبيه لأنّ إدريس ابن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث. قال الشهرستانيّ: إنّ أغثاذيمون هو شيث.

و لمّا كبر إدريس آتاه الله النبوّة فنهى المفسدين من بني آدم عن مخالفتهم شريعة آدم و شيث فأطاعه أقلّهم و خالفه جلّهم فنوى الرحلة عنهم و أمر من أطاعه منهم بذلك فثقل عليهم الرحيل من أوطانهم فقالوا له: و أين نجد إذا رحلنا مثل بابل؟ و بابل بالسريانيّة النهر و كأنّهم عنوا بذلك دجلة و الفرات، فقال: إذا هاجرنا لله رزقنا غيره.

فخرج و خرجوا و ساروا إلى أن وافوا هذا الإقليم الّذي سمّي بابليون فرأوا النيل و رأوا واديا خالياً من ساكن فوقف إدريس على النيل و سبّح الله و قال لجماعته: بابليون، و اختلف في تفسيره فقيل: نهر كبير، و قيل: نهر كنهركم، و قيل: نهر مبارك، و قيل: إنّ يون في السريانيّة مثل أفعل الّتي للمبالغة في كلام العرب و كأنّ معناه نهر أكبر فسمّي الإقليم عند جميع الاُمم بابليون، و سائر فرق الاُمم على ذلك إلّا العرب فإنّهم يسمّونه إقليم مصر نسبة إلى مصر بن حام النازل به بعد الطوفان و الله أعلم بكلّ ذلك.

و أقام إدريس و من معه بمصر يدعو الخلائق إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و طاعة الله عزّوجلّ، و تكلّم الناس في أيّامه باثنين و سبعين لساناً، و علّمه الله عزّوجلّ منطقهم ليعلّم كلّ فرقة منهم بلسانها، و رسم لهم تمدين المدن، و جمع له طالبي العلم بكلّ مدينة فعرّفهم السياسيّة المدنيّة، و قرّر لهم قواعدها فبنت كلّ فرقة من الاُمم مدنا في أرضها، و كانت عدّة المدن الّتي اُنشئت في زمانه مائة مدينة و ثماني و ثمانين مدينة أصغرها الرها و علّمهم العلوم.

٧٥

و هو أوّل من استخرج الحكمة و علم النجوم فإنّ الله عزّوجلّ أفهمه سرّ الفلك و تركيبه و نقط اجتماع الكواكب فيه و أفهمه عدد السنين و الحساب و لولا ذلك لم تصل الخواطر باستقرائها إلى ذلك.

و أقام للاُمم سننا في كلّ إقليم تليق كلّ سنّة بأهلها، و قسم الأرض أربعة أرباع و جعل على كلّ ربع ملكاً يسوس أمر المعمور من ذلك الربع، و تقدّم إلى كلّ ملك بأن يلزم أهل كلّ ربع بشريعة سأذكر بعضها، و أسماء الأربعة الملوك الّذين ملكوا: الأوّل إيلاوس و تفسيره الرحيم، و الثاني أوس، و الثالث سقلبيوس، و الرابع أوس‏ آمون، و قيل: إيلاوس ‏آمون، و قيل: يسيلوخس و هو آمون الملك انتهى موضع الحاجة.

و هذه أحاديث و أنباء تنتهي إلى ما قبل التاريخ لا يعوّل عليها ذاك التعويل غير أنّ بقاء ذكره الحيّ بين الفلاسفة و أهل العلم جيلاً بعد جيل و تعظيمهم له و احترامهم لساحته و إنهاءهم اُصول العلم إليه يكشف عن أنّه من أقدم أئمّة العلم الّذين ساقوا العالم الإنساني إلى ساحة التفكّر الاستدلاليّ و الإمعان في البحث عن المعارف الإلهيّة أو هو أوّلهم (عليه السلام).

٧٦

( سورة مريم الآيات ٥٨ - ٦٣)

أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ( ٥٨ ) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ( ٥٩ ) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ( ٦٠ ) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ( ٦١ ) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ( ٦٢ ) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا ( ٦٣ )

( بيان)

قد تقدّم في الكلام على غرض السورة أنّ الّذي يستفاد من سياقها بيان أنّ عبادته تعالى - و هو دين التوحيد - هو دين أهل السعادة و الرشد من الأنبياء و الأولياء، و أنّ التخلّف عن سبيلهم بإضاعة الصلاة و اتّباع الشهوات اتّباع سبيل الغيّ إلّا من تاب و آمن و عمل صالحاً.

فالآيات و خاصّة الثلاث الاُول منها تتضمّن حاقّ غرض السورة و قد أوردته في صورة الاستنباط من القصص المسرودة فيما تقدّم من الآيات، و هذا ممّا

٧٧

تمتاز به هذه السورة من سائر سور القرآن الطوال فإنّما يشار في سائر السور إلى أغراضها بالتلويح في مفتتح السورة و مختتمها ببراعة الاستهلال و حسن الختام لا في وسطها.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ) إلخ، الإشارة بقوله:( أُولئِكَ ) إلى المذكورين قبل الآية في السورة و هم زكريّا و يحيى و مريم و عيسى و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و موسى و هارون و إسماعيل و إدريس (عليهم السلام).

و قد تقدّمت الإشارة إليه من سياق آيات السورة و أنّ القصص الموردة فيها أمثلة، و أنّ هذه الآية و اللتين بعدها نتيجة مستخرجة منها، و لازم ذلك أن يكون قوله:( أُولئِكَ ) مشيراً إلى أصحاب القصص بأعيانهم مبتدأ، و قوله:( الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) صفة له، و قوله:( إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ ) إلخ، خبراً له فهذا هو الّذي يهدي إليه التدبّر في السياق. و لو اُخذ قوله:( الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) خبراً لقوله:( أُولئِكَ ) فقوله:( إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ ) إلخ، خبر له بعد خبر لكنّه لا يلائم غرض السورة تلك الملاءمة.

و قد أخبر الله سبحانه أنّه أنعم عليهم و أطلق القول فيهم ففيه دلالة على أنّهم قد غشيتهم النعمة الإلهيّة من غير نقمة و هذا هو معنى السعادة فليست السعادة إلّا النعمة من غير نقمة فهؤلاء أهل السعادة و الفلاح بتمام معنى الكلمة و قد أخبر تعالى عنهم أنّهم أصحاب الصراط المستقيم المصون سالكه عن الغضب و الضلال إذ قال:( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ ) الحمد: ٧، و هم في أمن و اهتداء لقوله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) الأنعام: ٨٢، فأصحاب الصراط المستقيم المصونون عن الغضب و الضلال و لم يلبسوا إيمانهم بظلم في أمن من كلّ خطر يهدّد الإنسان تهديداً فهم سعداء في سلوكهم سبيل الحياة الّتي سلكوها و السبيل الّتي سلكوها، هي سبيل السعادة.

و قوله:( مِنَ النَّبِيِّينَ ) من فيه للتبعيض و عديله قوله الآتي:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا ) على ما سيأتي توضيحه. و قد جوّز المفسّرون كون( من) بيانيّة و أنت

٧٨

خبير بأنّ ذلك لا يلائم كون( أُولئِكَ ) مشيرا إلى المذكورين من قبل، لأنّ النبيّين أعمّ، اللّهمّ إلّا أن يكون إشارة إليهم بما هم أمثلة لأهل السعادة و يكون المعنى اُولئك المذكورون و أمثالهم الّذين أنعم الله عليهم هم النبيّون و من هدينا و اجتبينا.

و قوله:( مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ) في معنى الصفة للنبيّين و من فيه للتبعيض أي من النبيّين الّذين هم بعض ذرّيّة آدم، و ليس بياناً للنبيّين لاختلال المعنى بذلك.

و قوله:( وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ) معطوف على قوله:( مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ) و المراد بهم المحمولون في سفينة نوح (عليه السلام) و ذرّيّتهم و قد بارك الله عليهم، و هم من ذرّيّة نوح لقوله تعالى:( وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ ) الصافّات: ٧٧.

و قوله:( وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ ) معطوف كسابقه على قوله:( مِنَ النَّبِيِّينَ ) .

و قد قسم الله تعالى الّذين أنعم عليهم من النبيّين على هذه الطوائف الأربع أعني ذرّيّة آدم و من حمله مع نوح و ذرّيّة إبراهيم و ذرّيّة إسرائيل و قد كان ذكر كلّ سابق يغني عن ذكر لاحقه لكون ذرّيّة إسرائيل من ذرّيّة إبراهيم و الجميع ممّن حمل مع نوح و الجميع من ذرّيّة آدم (عليهم السلام).

و لعلّ الوجه فيه الإشارة إلى نزول نعمة السعادة و بركة النبوّة على نوع الإنسان كرّة بعد كرّة فقد ذكر ذلك في القرآن الكريم في أربعة مواطن لطوائف أربع: أحدها لعامّة بني آدم حيث قال:( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) البقرة: ٣٩.

و الثاني ما في قوله تعالى:( قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى‏ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ ) هود: ٤٨، و الثالث ما في قوله تعالي :( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) الحديد: ٢٦، و الرابع ما في قوله تعالى :( وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ

٧٩

عَلَى الْعالَمِينَ ) الجاثية: ١٦.

فهذه مواعد أربع بتخصيص نوع الإنسان بنعمة النبوّة و موهبة السعادة، و قد اُشير إليها في الآية المبحوث عنها بقوله:( مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ ) ، و قد ذكر في القصص السابقة من كلّ من الذراري الأربع كإدريس من ذرّيّة آدم، و إبراهيم من ذرّيّة من حمل مع نوح، و إسحاق و يعقوب من ذرّيّة إبراهيم، و زكريّا و يحيى و عيسى و موسى و هارون و إسماعيل - على ما استظهرنا - من ذرّيّة إسرائيل.

و قوله:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا ) معطوف على قوله:( مِنَ النَّبِيِّينَ ) و هؤلاء غير النبيّين من الّذين أنعم الله عليهم فإنّ هذه النعمة غير خاصّة بالنبيّين و لا منحصرة فيهم بدليل قوله تعالى:( وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ) النساء: ٦٩ و قد ذكر الله سبحانه بين من قصّ قصّته مريم (عليها السلام) معتنيا بها إذ قال:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ ) و ليست من النبيّين فالمراد بقوله:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا ) غير النبيّين من الصدّيقين و الشهداء و الصالحين لا محالة، و كانت مريم من الصدّيقين لقوله تعالى:( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ) المائدة: ٧٥.

و ممّا تقدّم من مقتضى السياق يظهر فساد قول من جعل( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا ) معطوفاً على قوله:( مِنَ النَّبِيِّينَ ) مع أخذ من للبيان، و أورد عليه بعضهم أيضا بأنّ ظاهر العطف المغايرة فيحتاج إلى أن يقال: المراد ممّن جمعنا له بين النبوّة و الهداية و الاجتباء للكرامة و هو خلاف الظاهر. و فيه منع كون ظاهر العطف المغايرة مصداقاً و إنّما هو المغايرة في الجملة و لو بحسب الوصف و البيان.

و نظيره قول من قال بكونه معطوفاً على قوله:( مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ) و من للتبعيض و قد اتّضح وجه فساده ممّا قدّمناه.

و نظيره قول من قال: إنّ قوله:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا ) استئناف من غير عطف فقد

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

اشتمال مراتب القرآن على المقدّرات الحادثة في كلّ عام:

وقال: (المسألة الثامنة) في تفسير مفردات هذه الألفاظ، أمّا قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (1) فقد قيل فيه: إنّه تعالى أنزل كلّية القرآن، يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتُدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبرائيل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، انتهى كلامه.

وقال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: (في تفسير قوله تعالى: ( إنّا أَنْزَلْناهُ ) يعني القرآن، وإن لم يجرِ له ذكر في هذه السورة؛ لأنّ المعنى معلوم، والقرآن كلّه كالسورة الواحدة، وقد قال: ( شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي اُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ ) ، وقال: ( حم وَالْكِتابِ الْمُبينِ إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (2) يريد: في ليلة القدر.

وقال الشعبي: المعنى إنّا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: بل نزل به جبريل عليه‌السلام جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى بيت العزّة، وأملاه جبريل على السَفَرة، ثمّ كان جبريل ينزّله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نُجوماً نُجوماً، وكان بين أوّله وآخره ثلاث وعشرون سنة. قاله ابن عبّاس، وقد تقدّم في سورة البقرة.

وحكى الماوردي عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر، في ليلة مباركة جملة واحدة من عند اللَّه، من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجّمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة، ونجّمه جبريل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرين سنة.

قال ابن العربي: وهذا باطل؛ ليس بين جبريل وبين اللَّه واسطة، ولا بين جبريل

____________________

1) سورة الدخان: 3.

2) سورة الدخان: 1 - 3.

٢٨١

ومحمّد عليهما‌السلام واسطة.

قوله تعالى: ( في لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، قال مجاهد: في ليلة الحكم، ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) ، قال ليلة الحكم. والمعنى ليلة التقدير، سمّيت بذلك لأنّ اللَّه تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة، من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، ويسلّمه إلى مدبّرات الأُمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل عليهم‌السلام .

أُمّ الكتاب في القرآن متضمّنة لتقدير كلّ شي‏ء:

وقال: وعن ابن عبّاس، قال: يكتب من أمّ الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر، وحياة وموت، حتّى الحاجّ. قال عكرمة: يكتب حجّاج بيت اللَّه تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء آبائهم، ما يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم.

وقاله سعيد بن جُبير، وقد مضى في أوّل سورة الدخان هذا المعنى. وعن ابن عبّاس أيضاً: إنّ اللَّه تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلّمها إلى أربابها في ليلة القدر. وقيل: إنّما سمّيت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر، أي شرف ومنزلة) (1) .

ليلة القدر عوض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآلهعليهم‌السلام عن غصب الخلافة:

وقال: (وفي الترمذي عن الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) ، يعني نهراً في الجنّة، ونزلت ( إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ

____________________

1) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن، ج20، ص129 - 130، طبعة القاهرة.

٢٨٢

أَلْفِ شَهْرٍ ) ، يملكها بعدك بنو أُمية. قال القاسم بن الفضل الحدّاني: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً. قال: حديث غريب.

قوله تعالى: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) أي تهبط من كلّ سماء، ومن سدرة المنتهى، ومسكن جبريل على وسطها، فينزلون إلى الأرض ويؤمّنون على دعاء الناس إلى وقت طلوع الفجر، فذاك قوله تعالى ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) .

حقيقة الروح النازل ليلة القدر:

وقال: ( وَالرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) (1) ، أي جبرئيل عليه‌السلام ، وحكى القُشيري: أنّ الروح صنف من الملائكة جُعلوا حفظة على سائرهم، وأنّ الملائكة لا يرونهم كما لا نرى نحن الملائكة. وقال مقاتل: هم أشرف الملائكة وأقربهم من اللَّه تعالى.

وقيل: إنّهم جند من جند اللَّه عزّ وجلّ من غير الملائكة، رواه مجاهد عن ابن عبّاس مرفوعاً، ذكره الماوردي، وحكى القُشيري: قيل هم صنف من خلق اللَّه، يأكلون الطعام، ولهم أيدٍ وأرجل وليسوا ملائكة.

وقيل: (الروح) خلق عظيم يقوم صفّاً، والملائكة كلّهم صفّاً. وقيل: (الروح) الرحمة ينزل بها جبريل عليه‌السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها، دليله: ( يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (2) ، أي بالرحمة، (فِيها) أي في ليلة القدر، ( بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) أي بأمره، ( مِن كُلِّ أَمْرٍ ) (3) أمر بكلّ أمر قدّره اللَّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل.

وقيل عنه: إنّها رُفعت - يعني ليلة القدر - وإنّها إنّما كانت مرّة واحدة.

____________________

1) سورة القدر: 4.

2) سورة النحل: 2.

3) سورة القدر: 5.

٢٨٣

بقاء ليلة القدر في كلّ عام:

وقال: (والصحيح أنّها باقية... والجمهور على أنّها من كلّ عام من رمضان... وقال الفرّاء: لا يقدّر اللَّه في ليلة القدر إلاّ السعادة والنعم، ويقدّر في غيرها البلايا والنقم) (1) .

وقال الطبري في تفسيره، في ذيل سورة البروج: ( فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ، بسنده إلى مجاهد: في لوح، قال: ( فِي أُمِّ الْكِتَابِ ) (2) .

وقال ابن كثير في تفسيره، بعد ما نقل جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، والذي مرّ نقله، قال: (اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأُمم السالفة، أم هي من خصائص هذه الأُمّة؟

فقال الزهري:... وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأُمّة بليلة القدر. وقيل: إنّها كانت في الأُمم الماضين كما هي في أُمّتنا، ثمّ هي باقية إلى يوم القيامة وفي رمضان خاصّة) (3) .

وقال الزمخشري في الكشّاف، بعد ما ذكره جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، في ذيل قوله تعالى: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (4) قال: (وسبب ارتقاء فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من المصالح الدينية التي ذكرها، من تنزّل الملائكة والروح، وفصل كلّ أمر حكيم).

وقال في ذيل قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (5) : أي تتنزّل من أجل كلّ أمر قضاه اللَّه لتلك السنة إلى قابل... وروي عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (من قرأ سورة القدر أُعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيى ليلة القدر)، وذكر في هامش المطبوع: أنّ الحديث أخرجه الثعلبي، والواحدي، وابن مردويه، بسندهم إلى أُبَيّ ابن كعب.

____________________

1) تفسير القرطبي، ج20، ص133 - 137، في تفسير الجامع لأحكام القرآن طبعة القاهرة.

2) جامع البيان، ج30، ص176.

3) تفسير ابن كثير، ج4، ص 568.

4) سورة القدر: 2.

5) سورة القدر: 5.

٢٨٤

ليلة القدر عوض له صلى‌الله‌عليه‌وآله عن غصب بني أُمية خلافته، وتعدد مصادر الحديث لديهم:

وقال الآلوسي في روح المعاني: (ويستدلّ لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي، والحاكم، عن الحسن ابن عليّ (رضي اللَّه تعالى عنهما): (أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أُري بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) (1) ، ونزلت: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (2) .. الحديث). وهو كما قال المزني: حديث منكر، انتهى.

وقد أخرج الجلال هذا الحديث في الدرّ المنثور عن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أيضاً، من رواية يوسف ابن سعد، وذكر فيه: أنّ الترمذي (3) أخرجه وضعّفه، وأنّ الخطيب أخرج عن ابن عبّاس نحوه، وكذا عن ابن نسيب، بلفظٍ: قال نبي اللَّه: (أُريتُ بني أُمية يصعدون منبري، فشقّ ذلك عليّ فأُنزِلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، ففي قول المزني هو منكر تردّد عندي.

وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام ما رواه الكافي بسنده إلى أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (أُري رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامه بني أُمية يصعدون على منبره من بعده ويضلّون الناس عن الصراط القهقري، فأصبح كئيباً حزيناً، قال: فهبط عليه جبرئيل فقال: يا رسول اللَّه مالي أراك كئيباً حزيناً؟ قال: يا جبرئيل إنّي رأيت بني أُمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي، يضلّون الناس عن الصراط القهقري. فقال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً إنّي ما اطّلعت عليه. فعرّج إلى السماء فلم يلبث أن نزل بآي من القرآن يُؤنسه بها، قال: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (4) ، وأُنزل عليه: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) ، جعل اللَّه ليلة القدر لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

1) سورة الكوثر: 1.

2) سورة القدر: 1.

3) سنن الترمذي، ج5، ص444، ح 3350.

4) سورة الشعراء: 205 - 207.

٢٨٥

خيراً من ألف شهر ملك بني أُمية) (1) .

وروى الكُليني، عن علي بن عيسى القمّاط عن عمّه، قال: (سمعت أبا عبد اللَّه يقول: هبط جبرئيل عليه‌السلام على رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسول اللَّه كئيب حزين، فقال: رأيت بني أُمية يصعدون المنابر وينزلون منها. قال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً، ما علمت بشي‏ء من هذا. وصعد جبرئيل إلى السماء، ثمّ أهبطه اللَّه جلّ ذكره بآي من القرآن يعزّيه بها قوله: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (2) .

وأنزل اللَّه جلّ ذكره: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) للقوم، فجعل اللَّه ليلة القدر (لرسوله) خير، من ألف شهر) (3) .

وفي سند الصحيفة السجّادية، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (إنّ أبي حدّثني عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه‌السلام : إنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذته نَعسةٌ وهو على منبره، فرأى في منامه رجالاً ينزون على منبره نزو القردة، يردّون الناس على أعقابهم القهقري، فاستوى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله جالساً والحزن يعرف في وجهه، فأتاه جبرئيل عليه‌السلام بهذه الآية ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ) ، يعني بني أُمية. قال: يا جبرئيل على عهدي يكونون وفي زمني؟

قال: لا، ولكن تدور رحى الإسلام من مُهاجرك فتلبث بذلك عشراً، ثمّ تدور رحى الإسلام على رأس خمسة وثلاثين من مهاجِرَك فتلبث بذلك خمساً، ثمّ لابدّ من رحى

____________________

1) الكافي، ج4، ص159.

2) سورة الشعراء:205 - 206.

3) الكافي، ج8، ص223.

٢٨٦

ضلاله هي قائمة على قطبها ثمّ ملك الفراعنة. قال: وأنزل اللَّه تعالى في ذلك: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) يملكها بنو أُمية. فيها ليلة القدر.

قال: فأَطلع اللَّه عزّ وجلّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ بني أُمية تملك سلطان هذه الأُمّة وملكها طول هذه المدّة، فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها، حتّى يأذن اللَّه تعالى بزوال ملكهم، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت وبغضنا. أخبر اللَّه نبيّه بما يلقي أهل بيت محمّد وأهل مودّتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم) (1) .

وفي تأويل الآيات: (روي عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: قوله عزّ وجلّ: ( خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ ) هو سلطان بني أُمية.

وقال: ليلة من إمام عادل خير من ألف شهر ملك بني أُمية.

وقال: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) أيّ من عند ربّهم على محمّد وآل محمّد، بكلّ أمر سلام) (2) .

وفي تفسير القمّي: بسنده، في معنى سورة: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) فهو القرآن... قوله: ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) .

أقول: تكثر الروايات في غصب الخلافة من بني أُمية، وتأذّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعويضه بليلة القدر، وسيأتي معنى تعويضه بليلة القدر، وتسالم كثير من علماء الجمهور بهذه الروايات، هذا الأمر أحد الأدلّة على أنّ الخلافة في الشريعة الإلهية هي منصب أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فتدبّر تبصُر.

____________________

1) الصحيفة السجّادية الكاملة: 15 - 16.

2) تأويل الآيات، ج2، ص817، ح2.

٢٨٧

حقيقة النازل الذي نزل في ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) : الضمير عند الجمهور للقرآن، وادّعى الإمام فيه إجماع المفسّرين، وكأنّه لم يعتقد بقول من قال منهم برجوعه لجبرئيل عليه‌السلام أو غيره؛ لضعفه. قالوا: وفي التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدّم ذكره تعظيم له، أي تعظيم لِما أنّه يشعر بأنّه لعلوّ شأنه كأنّه حاضر عند كلّ أحد.

جهل الخلق بحقيقة ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (1) : لِما فيه من الدلالة على أنّ علوّها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يُعلم ذلك، ولا يَعلم به إلاّ علاّم الغيوب.

حقيقة نزول القرآن جملة واحدة:

ثمّ ذكر جملة في تعدّد نزول القرآن جملةً واحدةً ونجوماً، وذكر في ضمنها هذه الرواية، عن ابن عبّاس: (أُنزل القرآن جملةً واحدة حتّى وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، ونزل به جبريل عليه‌السلام على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بجواب كلام العباد وأعمالهم)... ثمّ نقل الاختلاف بين المفسّرين عندهم في قوله تعالى: ( أَنْزَلْنَاهُ ) من جهة نزول القرآن جملةً واحدة، فهل تضمّن القرآن النازل جملةً واحدة هذه العبارة أم لا؟ فلابدّ من ارتكاب المجاز في الإسناد؛ لأنّه إخبار عمّا وقع فيما مضى، فكيف يكون هذا اللفظ في ضمنه؟

____________________

1) سورة القدر: 2.

٢٨٨

فذكر قولاً للرازي في حلّ الإشكال، وللقرطبي، وابن كثير، وضعّف قولهم. ونقل عن ابن حجر في شرح البخاري أنّه أُنزل جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، بل حكى بعضهم الإجماع عليه، ثمّ نقل جواباً لحلّ الإشكال عن السيد عيسى الصفوي، ثمّ الاختلاف بين الدَّواني وغيره، وأنّه ألّف رسالة في ذلك، في الجواب عن مسألة الحذر الأصمّ.

ثمّ نقل عن الإتقان قول أبي شامة: فإن قلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) إن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل جملة، فما نزل جملة؟ وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة؟

قلت: لها وجهان:

أحدهما: أن يكون المعنى إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، وقضينا به وقدّرناه في الأزل.

والثاني: أنّ لفظ ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) ماضٍ ومعناه على الاستقبال، أي تنزّله جملة في ليلة القدر. ثمّ ذكر عدم ارتضائه لهذا القول وعدم حسنه.

ثمّ نقل أقوالاً أُخر، ثمّ قال: والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، أو إثباته لدى السَفَرة هناك، أو نحو ذلك ممّا لا يشكل نسبته إلى القرآن.

تقدير الأُمور في ليلة القدر على من تُنزّل؟

وقال في معنى ليلة القدر: إنّها ليلة التقدير، وسبب تسميتها بذلك لتقدير ما يكون في تلك السنة من أُمور. قال: المراد إظهار تقديره ذلك للملائكة عليهم‌السلام المأمورين بالحوادث الكونية. ثمّ نقل عن بعض تفسير ذلك: هاهنا ثلاثة أشياء:

الأوّل: نفس تقدير الأُمور، أي تعيين مقاديرها وأوقاتها، وذلك في الأزل.

٢٨٩

الثاني: إظهار تلك المقادير للملائكة عليهم‌السلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ، وذاك في ليلة النصف من شعبان.

الثالث: إثبات تلك المقادير في نسخ وتسليمها إلى أربابها من المدبّرات، فتدفع نسخة الأرزاق، والنباتات، والأمطار، إلى ميكائيل عليه‌السلام ، ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلى جبرئيل عليه‌السلام ، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل عليه‌السلام ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، وذلك في ليلة القدر.

وقيل: يقدّر في ليلة النصف الآجال والأرزاق، وفي ليلة القدر الأُمور التي فيها الخير والبركة والسلامة. وقيل: يقدّر في هذه ما يتعلّق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين، وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلّم إلى ملك الموت، واللَّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

أقول: إنّ المكتوب في ليلة القدر ويقدّر يُفترض أنّ كتابته وتقديره إنّما يُكتب ويقدّر لتسليمه إلى من يوكّل إليه تدبير الأُمور بإذن اللَّه، كالملائكة الموكّلين، فالتنزّل بكلّ هذه التقديرات والكتابة إلى الأرض إلى من يسلّم؟ ومن هو الذي يطّلع على ذلك من أهل الأرض؟ وما هو التناسب بين نزول ما فيه إعزاز الدين والأُمّة، والحديث النبويّ: (إنّ الإسلام لا يزال عزيزاً إلى اثني عشر خليفة... كلّهم من قريش) (1) ؟

أقوال علماء سنّة الجماعة في عِوَضية الليلة له عن غصب الخلافة:

قال في تفسير ( أَلْفِ شَهْرٍ ) : وقد سمعت إلى ما يدلّ أنّ الألف إشارة إلى مُلك بني أُميّة، وكان على ما قال القاسم بن الفضل: ألف شهر، لا يزيد يوماً ولا ينقص

____________________

1) المعجم الكبير للطبراني، ج2، ص232. ولاحظ: إحقاق الحق، ج13، 1 - 49.

٢٩٠

يوماً، على ما قيل: ثمانين سنة، وهي ألف شهر تقريباً؛ لأنّها ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر، ولا يعكّر على ذلك ملكُهم في جزيرة الأندلس بعد؛ لأنّه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب، ولذا لا يعدّ من مَلَكَ منهم هناك من خلفائهم، وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار.

وطعن القاضي عبد الجبّار في كون الآية إشارة لما ذُكر؛ بأنّ أيام بني أُمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب، فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة إنّها خير من ألف شهر مذمومة:

ألم ترَ أنّ السيف ينقص قدره

إذا قيل إنّ السيف خيرٌ من العصا

وأُجيب: إنّ تلك الأيام كانت عظيمة بحسب السعادات الدنيوية، فلا يبعد أن يقول اللَّه تعالى: أعطيتك ليلة في السعادات الدينية أفضل من تلك في السعادات الدنيوية، فلا تبقى فائدة.

ليلة القدر مع الأنبياء في ما مضى فهي مع من في ما بقي:

الروح النازل في ليلة القدر قناة غيبية كانت مع الأنبياء، فهي مع من بعد النبيّ الخاتم؟ قال: وما أشير إليه من خصائص هذه الأُمّة هو الذي يقتضيه أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول، وصرّح به الهيثمي وغيره.

وقال القسطَلاني: إنّه معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: (يا رسول اللَّه، أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت. قال: بل هي باقية). ثمّ ذكر أنّ عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدّمناه في سبب النزول من رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وآله تقاصر أعمار أُمّته عن أعمار الأُمم، وتعقّبه بقوله هذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان: ابن كثير في تفسيره، وابن حجر في فتح الباري.

٢٩١

وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافاً كثيراً، وتحصّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولاً، كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشتركتا في إخفاء كلّ منهما ليقع الجدّ في طلبهما:

القول الأوّل: إنّها رُفعت أصلاً ورأساً. حكاه المتولّي في التتمّة عن الروافض، والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفية، وكأنّه خطأ منه، والذي حكاه السروجي أنّه قول الشيعة.

أقول: بل الشيعة الإمامية هم المذهب الوحيد على وجه الأرض القائلون ببقاء الاتّصال بين الأرض والسماء، وأنّ هناك سبب متّصل هو الإمام من عِترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن لم يكن هذا الاتّصال وحياً نبويّاً، وهو الذي يتنزّل عليه الروح الأعظم والملائكة كلّ عام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بينما المذاهب الإسلامية كلّها حتّى الزيدية، وإن قالوا باستمرار الإمامة السياسية وعدم حصرها بالأئمّة المنصوص عليهم وأنّ الإمامة هي لكلّ من قام بالثورة على الظلم ولا يشترط فيها العصمة، إلاّ أنّهم قائلون بانقطاع الاتّصال أيضاً بين الغيب والشهادة.

وانقطاع الاتّصال ذهبت إليه اليهود بعد النبيّ موسى عليه‌السلام ، كما ذهبت إليه النصارى بعد النبيّ عيسى عليه‌السلام .

وقال: وقد روى عبد الرزّاق من طريق داود بن أبي عاصم، عن عبد اللَّه بن يخنس: قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر رُفعت، قال: كذّب من قال ذلك. ومن طريق عبد اللَّه بن شُريك قال: ذكر الحجاج ليلة القدر فكأنّه أنكرها، فأراد زر بن حُبيش أن يحصبه فمنعه قومه.

الثاني: إنّها خاصّة بسنة واحدة وقعت في زمن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حكاه الفاكهاني أيضاً.

الثالث: إنّها خاصّة بهذه الأُمّة، ولم تكن في الأُمم قبلهم، جزم به ابن حبيب وغيره من المالكية ونقله الجمهور، وحكاه صاحب العدّة من الشافعية ورجّحه،

٢٩٢

وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال: لا، بل هي باقية.

وعمدتهم قول مالك في الموطأ: بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تقاصر أعمار أمّته عن أعمار الأُمم الماضية، فأعطاه اللَّه ليلة القدر، وهذا يحتمل التأويل، فلا يدفع التصريح في حديث أبي ذر (1) .

ليلة القدر يفصل فيها المقدّرات لأحداث كلّ السنة:

وقال الآلوسي في روح المعاني في تفسير قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (2) : أي من أجل كلّ أمر تعلّق به التقدير في تلك السنة إلى قابل وأظهره سبحانه وتعالى لهم، قاله غير واحد. ف)من(بمعنى اللام التعليلية متعلّقة بتنزّل، وقال أبو حاتم: (من) بمعنى الباء، أي تنزّل بكلّ أمر، فقيل: أي من الخير والبركة، وقيل: من الخير والشرّ وجعلت الباء عليه للسببية.

والظاهر على ما قالوا إنّ المراد بالملائكة المدبّرات؛ إذ غيرهم لا تعلّق له بالأُمور التي تعلّق بها التقدير ليتنزّلوا لأجلها على المعنى السابق، وهو خلاف ما تدلّ عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبّرات (3) .

ليلة القدر يتحقّقها وتتنزّل على من شاء اللَّه تعالى من عباده:

جاء في شرح صحيح مسلم للنووي قوله: (اعلم أنّ ليلة القدر موجودة... وأنّها تُرى ويتحققّها من شاء اللَّه تعالى من بني آدم كلّ سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه الأحاديث... وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تُحصر. وأمّا قول القاضي عيّاض عن المهلّب بن أبي صُفرة: لا يمكن رؤيتها حقيقةً. فغلط فاحش

____________________

1) فتح الباري، ص262 - 263، كتاب فضل ليلة القدر.

2) سورة القدر: 6.

3) روح المعاني، ج30، ص196.

٢٩٣

نبهتُ عليه لئلاّ يُغترّ به) (1) .

وقال في ذيل سورة الدخان، في قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) (2) : أي الكتاب المبين الذي هو القرآن على القول المعوّل عليه في ( لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) هي ليلة القدر، على ما روي عن ابن عبّاس وقتادة.

وفي تحفة المحتاج لابن حَجَر الهيتمي: (ليس لرائيها كَتْمها، ولا ينال فضلها - أي كمالها - إلاّ من أطلعه اللَّه عليها)، انتهى.

والظاهر أنّه عَنى برؤيتها: رؤية ما يحصل به العلم له بها، ممّا خُصّت به من الأنوار، وتنزّل الملائكة عليهم‌السلام ، أي: نحوٍ من الكشف ممّا لا يعرف حقيقته إلاّ أهله، وهو كالنصّ في أنّها يراها من شاء اللَّه تعالى من عباده. ثمّ حكى عن ابن شاهين: إنّه لا يراها أحد من الأوّلين والآخرين إلاّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ قال: وفي بعض الأخبار ما يدلّ على أنّ رؤيتها مناماً وقعت لغيره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففي صحيح مسلم وغيره، عن ابن عمر: (إنّ رجالاً من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرّياً فليتحرَّها في السبع الأواخر) (3) .

وحُكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضاً، وغلّط، ففي شرح صحيح مسلم وابن جُبير ومجاهد وابن زيد والحسن، وعليه أكثر المفسّرين والظواهر معهم.. والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملةً إلى السماء الدنيا من اللوح، فالإنزال المنجّم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا، وروي هذا عن ابن جرير وغيره، وذكر أنّ المحلّ الذي أُنزل فيه من تلك السماء البيت المعمور، وهو

____________________

1) شرح مسلم، ج8، ص66.

2) سورة الدخان: 3.

3) صحيح مسلم، ج3، ص170.

٢٩٤

مسامِت للكعبة، بحيث لو نزل لنزل عليها.

وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنّه قال: أُنزل القرآن جملةً على جبرئيل عليه‌السلام ، وكان جبرئيل عليه‌السلام يجي‏ء به بعدُ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ليلة القدر في سورة الشورى والنزول الأول للقرآن:

وقال في ذيل قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ... ) (1) : وهو ما أُوحي إليه (عليه الصلاة والسلام)، أو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية. وقيل: أي ومثل الإيحاء المشهود لغيرك، أوحينا أبو القاسم إليك. وقيل: أي مثل ذلك الإيحاء المفصّل، أوحينا إليك، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث، سواء فُسّر الوحي بالإلقاء، أم فُسّر بالكلام الشفاهي.

وقد ذُكر أنّه (عليه الصلاة والسلام) قد أُلقي إليه في المنام كما أُلقي إلى إبراهيم عليه‌السلام ، وأُلقي إليه عليه الصلاة والسلام في اليقظة على نحو إلقاء الزبور إلى داود عليه‌السلام . ففي (الكبريت الأحمر) للشعراني، نقلاً عن الباب الثاني من (الفتوحات المكّية): أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أُعطي القرآن مجملاً قبل جبرئيل عليه‌السلام ، من غير تفصيل الآيات والسور. وعن ابن عبّاس تفسير الروح بالنبوّة. وقال الربيع: هو جبرئيل عليه‌السلام .

وعليه، فأوحينا مضمّن معنى أرسلنا، والمعنى: أرسلناه بالوحي إليك؛ لأنّه لا يقال: أوحى الملك بل أرسله.

ونقل الطبرسي عن أبي جعفر، وأبي عبد اللَّه (رضي اللَّه تعالى عنهما): أنّ المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يصعد

____________________

1) سورة الشورى 52: 42.

٢٩٥

إلى السماء. وهذا القول في غاية الغرابة، ولعلّه لا يصحّ عن هذين الإمامين.

وتنوين (روحاً) للتعظيم، أي روحاً عظيماً (1) ... وقال في ذيل قوله تعالى ( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ ) : أي الروح الذي أوحيناه إليك. وقال ابن عطية: الضمير للكتاب، وقيل للإيمان، ورجّح بالقرب، وقيل للكتاب والإيمان ووحّد؛ لأنّ مقصدهما واحد فهو نظير ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ) (2) .

____________________

1) روح المعاني، ج25، ص 80 - 81.

2) سورة التوبة: 62.

٢٩٦

ليلة القدر

في روايات أهل سنّة الخلافة

دوام ليلة القدر في كلّ عام إلى يوم القيامة:

1 - فقد روى عبد الرزّاق الصنعاني في (المصنّف) بسنده، عن مولى معاوية، قال: (قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر قد رُفعت، قال: كذّب من قال كذلك، قلت: فهي كلّ شهر رمضان استقبله؟ قال: نعم... الحديث) (1) ، ورواه عنه بطريق آخر (2) ، ورواه كنز العمّال أيضاً (3) .

2 - وروى عبد الرزّاق الصنعاني في المصنّف بسنده، عن ابن عبّاس، قال: (ليلةٌ في كلّ رمضان يأتي، قال: وحدّثني يزيد بن عبد اللَّه بن الهاد: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سُئِل عن ليلة القدر، فقيل له: كانت مع النبيّين ثمّ رُفعت حين قُبضوا، أو هي في كلّ سنة؟ قال: بل هي في كلّ سنة، بل هي في كلّ سنة) (4) .

3 - وروي عن ابن جرير، قال: (حُدّثت: أنّ شيخاً من أهل المدينة سأل أبا ذر بمنى، فقال: رُفعت ليلة القدر أم هي في كلّ رمضان؟ فقال أبو ذر: سألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت: يا رسول اللَّه رُفعت ليلة القدر؟ قال: بل هي كلّ رمضان) (5) .

4 - وروى ابن أبي شيبة الكوفي في المصنّف في باب ليلة القدر، بسنده إلى ابن

____________________

1) المصنّف، ج3، ص216، ح 5586.

2) المصنّف، ج3، ص255، ح 7707.

3) كنز العمّال، ج3، ص634، ح 24490.

4) المصنّف، ج4، ص255، ح 7708.

5) المصنّف، ج4، ص255، ح 7709، وأخرجه هق، ج4، ص307، والطحاوي، ج2، ص50.

٢٩٧

أبي مرثد عن أبيه، قال: (كنت مع أبي ذر عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: كان أسأل الناس عنها رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا: ليلة القدر كانت تكون على عهد الأنبياء فإذا ذهبوا رُفعت؟ قال: لا ولكن تكون إلى يوم القيامة) (1) .

5 - أخرج السيوطي في الدرّ المنثور: (عن محمّد بن نصر، عن سعيد بن المسيّب أنّه سُئل عن ليلة القدر، أهي شي‏ء كان فذهب، أم هي في كلّ عام؟ فقال: بل هي لأُمّة محمّد ما بقي منهم اثنان) (2) .

أقول: وفي هذه الرواية - وإن كانت مقطوعة - دلالةٌ على أن لو بقي في الأرض رجلٌ واحد لكان الثاني هو الحجّة وخليفة اللَّه في الأرض، الذي تنزّل عليه ليلة القدر بمقادير الأُمور، وأنّ ليلة القدر هي من حقائق وخصائص روح الحجّة في الأرض.

6 - وروى الطبري بسنده عن ربيعة بن كلثوم، قال: (قال رجل للحسن وأنا أسمع: أرأيت ليلة القدر في كلّ رمضان هي؟ قال: نعم، واللَّه الذي لا إله إلاّ هو إنّها لفي كلّ رمضان، وأنّها ليلة القدر، فيها يُفرق كلّ أمر حكيم، فيها يقضي اللَّه كلّ أجل وعمل ورزق إلى مثلها) (3) .

النزول في ليلة القدر وحي للأنبياء، واستمراره بعد الأنبياء:

قال ابن خزيمة في صحيحه (4) : باب ذكر أبواب ليلة القدر، والتأليف بين الأخبار المأثورة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيها ما يحسب كثيراً من حملة العلم، ممّن لا يفهم صناعة العلم، أنّها متهاتِرةٌ متنافية، وليس كذلك هي عندنا بحمد اللَّه ونعمته، بل هي

____________________

1) المصنّف لابن أبي شيبة، ج2، ص394، ح 5، باب 341.

2) الدرّ المنثور، ج6، ص371، في ذيل سورة القدر.

3) جامع البيان، ج25، ص139، ح24000.

4) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

٢٩٨

مختلفة الألفاظ متّفقة المعنى، على ما سأبيّنه إن شاء اللَّه.

قال أيضاً: باب ذكر دوام ليلة القدر في كلّ رمضان إلى قيام الساعة، ونفي انقطاعها بنفي الأنبياء.

7 - وروى بسنده إلى أبي مرثد، قال: (قال: لقينا أبا ذر وهو عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: ما كان أحد بأَسأل لها منّي، قلت: يا رسول اللَّه ليلة القدر أُنزلت على الأنبياء بوحي إليهم فيها ثمّ ترجع؟ فقال: بل هي إلى يوم القيامة.. الحديث) (1) ، ورواه بطريق آخر أيضاً، في باب أنّ ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان (2) .

8 - وروى النسائي، والقسطلاني، والهيثمي، وابن حجر في فتح الباري، وابن كثير في تفسيره حديث أبي ذر - في ليلة القدر - قال: (يا رسول اللَّه أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت؟ قال: بل هي باقية).

9 - وروى أحمد بن محمّد بن سلمة في شرح معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده، إلى مالك ابن مرثد عن أبيه، قال: (سألت أبا ذر فقلت: أسألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ليلة القدر؟ قال: نعم، كنت أسأل الناس عنها، قال عكرمة: يعني أشبع سؤلاً، قلت: يا رسول اللَّه، ليلة القدر أفي رمضان هي أم في غيره؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : في رمضان. قلت: وتكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا رُفعوا رُفعت؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة) (3) .

10 - وفي صحيح ابن حِبان، قال في باب ذكر البيان بأنّ ليلة القدر تكون في العشر الأواخر كلّ سنة إلى أن تقوم الساعة، ثمّ روى بسند متّصل رواية أبي ذر

____________________

1) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

2) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص321.

3) شرح معاني الآثار، ج3، ص85.

٢٩٩

المتقدِّمة واللفظ فيها... (تكون في زمان الأنبياء ينزل عليهم الوحي، فإذا قُبضوا رُفعت؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل هي إلى يوم القيامة) (1) .

وروى البيهقي في فضائل الأوقات رواية أبي ذر المتقدّمة بإسناده (2) ، وقال - قبل تلك الرواية -: وليلة القدر التي ورد القرآن بفضيلتها إلى يوم القيامة وهي في كلّ رمضان... ثمّ نقل الخبر المزبور. وروى الهيثمي في موارد الظمآن رواية أبي ذر بسنده (3) .

11 - وروى أحمد بن محمّد بن سَلمة في معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: (سُئل رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أسمع عن ليلة القدر؟ فقال: في كلّ رمضان). ففي هذا الحديث أنّها في كلّ رمضان، فقال قوم هذا دليل على أنّها تكون في أوّله وفي وسطه، كما قد تكون في آخره. وقد يحتمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (في كلّ رمضان)، هذا المعنى، ويحتمل أنّها في كلّ رمضان إلى يوم القيامة (4) ، ورواه بطرق أخرى غير مرفوعة.

أقول: هذه الروايات عند العامّة مطابقة لما يأتي من الروايات عند أهل البيت عليهم‌السلام ، من عدّة وجوه، أهمّها:

أوّلاً: ليلة القدر كانت من لَدُن آدم عليه‌السلام ، واستمرّت إلى النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي مستمرّة إلى يوم القيامة نزولاً على خلفاء النبيّ الاثني عشر.

وثانياً: إنّ هذا الروح النازل في ليلة القدر هو قناة ارتباط الأنبياء والأوصياء مع الغيب.

وثالثاً: ممّا يدلّل على عموم الخلافة الإلهية: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ

____________________

1) صحيح ابن حِبّان، ج8، ص438.

2) البيهقي، ص 219.

3) موارد الظمآن، ص 231.

4) شرح معاني الحديث، ج3، ص84.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459