الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  0%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 91910
تحميل: 5124


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91910 / تحميل: 5124
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 14

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

رحمته فلا يبقى لتولّي أمرك إلّا الشيطان فتكون وليّاً للشيطان و الشيطان مولاك.

و قد ظهر ممّا تقدم:

أوّلاً: أنّ المراد بالعبادة في قوله:( لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ ) عبادة الطاعة، و لوصف الشيطان - و معناه الشرير - دخلٌ في الحكم.

و ثانياً: وجه تبديل اسم الجلالة من وصف الرحمن في موضعين فإنّ لوصف الرحمة المطلقة دخلاً في الحكمين فإنّ كونه تعالى مصدراً لكلّ رحمة و نعمة هو الموجب لقبح الإصرار على معصيته و المصحّح للنهي عن طاعة من يقيم على عصيانه، و كذا مصدريّته لكلّ رحمة هو الباعث على الخوف من عذابه الّذي يلازم إمساك الرحمة و غشيان النقمة و الشقوة.

و ثالثاً: أنّ المراد بالعذاب هو الخذلان، أو ما هو بمعناه كإمساك الرحمة و ترك الإنسان و نفسه، و ما ذكره بعضهم أنّ المراد به العذاب الاُخروي لا يساعد عليه السياق.

قوله تعالى: ( قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا ) الرغبة عن الشي‏ء نقيض الرغبة فيه كما في المجمع، و الانتهاء: الكفّ عن الفعل بعد النهي، و الرجم: الرمي بالحجارة، و المعروف من معناه القتل برمي الحجارة، و الهجر هو الترك و المفارقة، و المليّ الدهر الطويل.

و في الآية تهديد لإبراهيم بأخزى القتل و أذلّه و هو الرجم الّذي يقتل به المطرودون، و فيها طرد آزر لإبراهيم عن نفسه.

قوله تعالى: ( قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ) الحفيّ على ما ذكره الراغب: البرّ اللطيف و هو الّذي يتتبّع دقائق الحوائج فيحسن و يرفعها واحداً بعد واحد، يقال: حفا يحفو حفي و حفوة، و إحفاء السؤال و الإحفاء فيه: الإلحاح و الإمعان فيه.

قابل إبراهيم (عليه السلام) أباه فيما أساء إليه و هدّده و فيه سلب الأمن عنه من قبله بالسلام الّذي فيه إحسان و إعطاء أمن، و وعده أن يستغفر له ربّه و أن يعتزلهم و ما

٦١

يدعون من دون الله كما أمره أن يهجره مليّا.

أمّا السلام فهو من دأب الكرام قابل به جهالة أبيه إذ هدّده بالرجم و طرده لكلمة حقّ قالها، قال تعالى:( وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ) الفرقان: ٧٢، و قال:( وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) الفرقان: ٦٣، و أمّا ما قيل: إنّه كان سلام توديع و تحيّة مفارقة و هجرة امتثالاً لقوله:( وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا ) ففيه أنّه اعتزله و قومه بعد مدّة غير قصيرة.

و أمّا استغفاره لأبيه و هو مشرك فظاهر قوله:( يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا ) أنّه (عليه السلام) لم يكن وقتئذ قاطعاً بكونه من أولياء الشيطان أي مطبوعاً على قلبه بالشرك جاحداً معانداً للحقّ عدوّاً لله سبحانه و لو كان قاطعاً لم يعبّر بمثل قوله:( إِنِّي أَخافُ ) بل كان يحتمل أن يكون جاهلاً مستضعفاً لو ظهر له الحقّ اتّبعه، و من الممكن أن تشمل الرحمة الإلهيّة لأمثال هؤلاء قال تعالى:( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً ) النساء: ٩٩، فاستعطفه (عليه السلام) بوعد الاستغفار و لم يحتم له المغفرة بل أظهر الرجاء بدليل قوله:( إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ) و قوله تعالى:( إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) الممتحنة: ٤.

و يؤيّد ما ذكر قوله تعالى:( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى‏ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ، وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) التوبة: ١١٤، فتبرّيه بعد تبيّن عداوته دليل على أنّه كان قبل ذلك عند الموعدة يرجو أن يكون غير عدوّ لله مع كونه مشركاً، و ليس ذلك إلّا الجاهل غير المعاند.

و يؤيّد هذا النظر قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ - إلى أن قال -لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ

٦٢

يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) الخ الممتحنة: ٨.

و ممّا قيل في توجيه استغفاره لأبيه و هو مشرك أنّه وعده الاستغفار و استغفر له بمقتضى العقل فإنّ العقل لا يأبى عن تجويزه و إنّما منع منه النقل و لم يثبت يومئذ المنع عنه شرعاً ثمّ لمّا حرّم ذلك في شرعه تبرأ منه.

و فيه: أنّه لا ينطبق على آيات القصّة كما يظهر بالتأمّل فيما قدّمناه.

و منها: أنّ معنى استغفاره كان مشروطاً بتوبته و إيمانه. و هو كما ترى.

و منها: أنّ معنى( سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ) سأدعو الله أن لا يعذّبك في الدنيا. و هو كسابقه تقييد من غير مقيّد.

و منها: أنّه وعد الدعاء بالمسبّب و هو بالاستلزام وعد للدعاء بالسبب فمعنى سأسأل الله أن يغفر لك، سأسأله أن يوفّقك للتوبة و يهديك للإيمان فيغفر لك، و يمكن أن يجعل طلب المغفرة كناية عن طلب توفيق التوبة و الهداية إلى الإيمان.

و هذا و إن كان أعدل الوجوه لكنّه لا يخلو عن بعد لأنّ في الكلام استعطافاً و هو بطلب المغفرة أنسب منه بطلب التوفيق و الهداية، تأمّل فيه.

و نظير دعائه لأبيه دعاؤه لعامّة المشركين في قوله:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) إبراهيم: ٣٦.

قوله تعالى: ( وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى‏ أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا ) وعد باعتزالهم و الابتعاد منهم و من أصنامهم ليخلو بربّه و يخلص الدعاء له رجاء أن لا يكون بسبب دعائه شقيّاً و إنّما أخذ بالرجاء لأنّ هذه الأسباب من الدعاء و التوجّه إلى الله و نحوه ليست بأسباب موجبة عليه تعالى شيئاً بل الإثابة و الإسعاد و نحوه بمجرّد التفضّل منه تعالى. على أنّ الاُمور بخواتمها و لا يعلم الغيب إلّا الله فعلى المؤمن أن يسير بين الخوف و الرجاء.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ

٦٣

وَ يَعْقُوبَ ) إلى آخر الآيتين. لعلّ الاقتصار على ذكر إسحاق لتعلّق الغرض بذكر توالي النبوّة في الشجرة الإسرائيليّة و لذلك عقّب إسحاق بذكر يعقوب فإنّ في نسله جمّاً غفيراً من الأنبياء، و يؤيّد ذلك أيضاً قوله:( وَ كُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا ) .

و قوله:( وَ وَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا ) من الممكن أن يكون المراد به الإمامة كما وقع في قوله:( وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) الأنبياء: ٧٣، أو التأييد بروح القدس كما يشير إليه قوله:( وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ ) الآية: الأنبياء: ٧٣ على ما سيجي‏ء من معناه أو مطلق الولاية الإلهيّة.

و قوله:( وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ) اللسان - على ما ذكروا - هو الذكر بين الناس بالمدح أو الذمّ و إذا اُضيف إلى الصدق فهو الثناء الجميل الّذي لا كذب فيه، و العليّ هو الرفيع و المعنى و جعلنا لهم ثناء جميلاً صادقاً رفيع القدر.

٦٤

( سورة مريم الآيات ٥١ - ٥٧)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا ( ٥١ ) وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ( ٥٢ ) وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ( ٥٣ ) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا ( ٥٤ ) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ( ٥٥ ) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا ( ٥٦ ) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ( ٥٧ )

( بيان)

ذكر جمع آخرين من الأنبياء و شي‏ء من موهبة الرحمة الّتي خصّهم الله بها، و هم موسى و هارون و إسماعيل و إدريس (عليه السلام).

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى‏ إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا ) قد تقدّم معنى المخلص بفتح اللام و أنّه الّذي أخلصه الله لنفسه فلا نصيب لغيره تعالى فيه لا في نفسه و لا في عمله، و هو أعلى مقامات العبوديّة. و تقدّم أيضاً الفرق بين الرسول و النبيّ.

قوله تعالى: ( وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا ) الأيمن: صفة لجانب أي الجانب الأيمن من الطور، و في المجمع النجيّ بمعنى المناجي كالجليس و الضجيع.

و ظاهر أنّ تقريبه (عليه السلام) كان تقريباً معنويّاً و إن كانت هذه الموهبة الإلهيّة في مكان و هو الطور ففيه كان التكليم، و مثاله من الحسّ أن ينادي السيّد

٦٥

العزيز عبده الذليل فيقرّبه من مجلسه حتّى يجعله نجيّاً يناجيه ففيه نيل ما لا سبيل لغيره إليه.

قوله تعالى: ( وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا ) إشارة إلى إجابة ما دعا به موسى عند ما اُوحى إليه لأوّل مرّة في الطور إذ قال:( وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) : طه: ٣٢.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ ) إلى آخر الآيتين. اختلفوا في( إِسْماعِيلَ ) هذا فقال الجمهور هو إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن، و إنّما ذكر وحده و لم يذكر مع إسحاق و يعقوب اعتناء بشأنه، و قيل: هو غيره، و هو إسماعيل بن حزقيل من أنبياء بني إسرائيل، و لو كان هو ابن إبراهيم لذكر مع إسحاق و يعقوب.

و يضعّف ما وجّه به قول الجمهور: إنّه استقلّ بالذكر اعتناء بشأنه، أنّه لو كان كذلك لكان الأنسب ذكره بعد إبراهيم و قبل موسى (عليهم السلام) لا بعد موسى.

قوله تعالى: ( وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ) المراد بأهله خاصّته من عترته و عشيرته و قومه كما هو ظاهر اللفظ، و قيل: المراد بأهله اُمّته و هو قول بلا دليل.

و المراد بكونه عند ربّه مرضيّاً كون نفسه مرضيّة دون عمله كما ربّما فسّره به بعضهم فإنّ إطلاق اللفظ لا يلائم تقييد الرضا بالعمل.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ) إلى آخر الآيتين. قالوا: إنّ إدريس النبيّ كان اسمه اُخنوخ و هو من أجداد نوح (عليهما السلام) على ما ذكر في سفر التكوين من التوراة، و إنّما اشتهر بإدريس لكثرة اشتغاله بالدرس.

و قوله:( وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ) من الممكن أن يستفاد من سياق القصص المسرودة في السورة و هي تعدّ مواهب النبوّة و الولاية و هي مقامات إلهيّة معنويّة أنّ المراد بالمكان العليّ الّذي رفع إليه درجة من درجات القرب إذ لا مزيّة في الارتفاع المادّي

٦٦

و الصعود إلى أقاصي الجوّ البعيدة أينما كان.

و قيل: إنّ المراد بذلك - كما ورد به الحديث - أنّ الله رفعه إلى بعض السماوات و قبضه هناك، و فيه إراءة آية خارقة و قدرة إلهيّة بالغة و كفى بها مزيّة.

( قصّة إسماعيل صادق الوعد)

لم ترد قصّة إسماعيل بن حزقيل النبيّ في القرآن إلّا في هاتين الآيتين على أحد التفسيرين و قد أثنى الله سبحانه عليه بجميل الثناء فعدّه صادق الوعد و آمراً بالمعروف و مرضيّاً عند ربّه، و ذكر أنّه كان رسولاً نبيّاً.

و أمّا الحديث ففي علل الشرائع، بإسناده عن ابن أبي عمير و محمّد بن سنان عمّن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنّ إسماعيل الّذي قال الله عزّوجلّ في كتابه:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا ) لم يكن إسماعيل بن إبراهيم بل كان نبيّاً من الأنبياء بعثه الله عزّوجلّ إلى قومه فأخذوه و سلخوا فروة رأسه و وجهه فأتاه ملك فقال: إنّ الله جلّ جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت فقال: لي اُسوة بما يصنع بالأنبياء (عليهم السلام).

أقول: و روى هذا المعنى أيضاً بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام) و في آخره: يكون لي اُسوة بالحسين (عليه السلام).

و في العيون، بإسناده إلى سليمان الجعفريّ عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: أ تدري لم سمّي إسماعيل صادق الوعد؟ قال: قلت: لا أدري. قال: وعد رجلاً فجلس له حولاً ينتظره.

أقول: و روى هذا المعنى في الكافي، عن ابن أبي عمير عن منصور بن حازم عن أبي عبدالله (عليه السلام)، و رواه أيضاً في المجمع، مرسلاً عنه (عليه السلام).

و في تفسير القمّيّ في قوله:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ ) قال: وعد وعداً فانتظر صاحبه سنة، و هو إسماعيل بن حزقيل.

أقول: وعده (عليه السلام) و هو أن يثبت في مكانه في انتظار صاحبه كان مطلقاً لم يقيّده

٦٧

بساعة أو يوم و نحوه فألزمه مقام الصدق أن يفي به بإطلاقه و يصبّر نفسه في المكان الّذي وعد صاحبه أن يقيم فيه حتّى يرجع إليه.

و صفة الوفاء كسائر الصفات النفسانيّة من الحبّ و الإرادة و العزم و الإيمان و الثقة و التسليم ذات مراتب مختلفة باختلاف العلم و اليقين فكما أنّ من الإيمان ما يجتمع مع أيّ خطيئة و إثم و هو أنزل مراتبه و لا يزال ينمو و يصفو حتّى يخلص من كلّ شرك خفيّ فلا يتعلّق القلب بشي‏ء غير الله و لو بالتفات إلى من دونه و هو أعلى مراتبه كذلك الوفاء بالوعد ذو مراتب فمن مراتبه في المقال مثلاً إقامة ساعة أو ساعتين حتّى تعرض حاجة اُخرى توجب الانصراف إليها و هو الّذي يصدق عليه الوفاء عرفاً، و أعلى منه مرتبة الإقامة بالمكان حتّى يوأس من رجوع الصديق إليه عادة بمجي‏ء اللّيل و نحوه فيقيّد به إطلاق الوعد، و أعلى منه مرتبة الأخذ بإطلاق القول و الإقامة حتّى يرجع و إن طال الزمان فالنفوس القويّة الّتي تراقب قولها و فعلها لا تلقي من القول إلّا ما في وسعها أن تصدّقه بالفعل ثمّ إذا لفظت لم يصرفها عن إتمام الكلمة و إنفاذ العزيمة أيّ صارف.

و في الرواية: أنّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وعد بعض أصحابه بمكّة أن ينتظره عند الكعبة حتّى يرجع إليه فمضى الرجل لشأنه و نسي الأمر فبقي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ثلاثة أيّام هناك ينتظره فاطّلع بعض الناس عليه فأخبر الرجل بذلك فجاء و اعتذر إليه و هذا مقام الصدّيقين لا يقولون إلّا ما يفعلون.

( قصّة إدريس النبيّ (عليه السلام))

١- لم يذكر (عليه السلام) في القرآن إلّا في الآيتين من سورة مريم:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ) الآية ٥٦ - ٥٧ و في قوله:( وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) الأنبياء: ٨٥ - ٨٦.

و في الآيات ثناء منه تعالى عليه جميل فقد عدّه نبيّاً و صدّيقاً و من الصابرين

٦٨

و من الصالحين، و أخبر أنّه رفعه مكاناً عليّاً.

٢- و من الروايات الواردة في قصّته ما عن كتاب كمال الدين و تمام النعمة، بإسناده عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن الباقر (عليه السلام) - و الحديث طويل لخّصناه - أنّه كان بدء نبوّة إدريس (عليه السلام) أنّه كان في زمانه ملك جبّار، و ركب ذات يوم في بعض النزهة فمرّ بأرض خضراء نضرة أعجبته فأحبّ أن يمتلكها و كانت الأرض لعبد مؤمن فأمر بإحضاره و ساومه فيها ليشتريها فلم يبعها و لم يرض به فرجع الملك إلى البلدة و هو مغموم متحيّر في أمره فاستشار امرأة له كان يستشيرها في هامّة الاُمور فأشارت عليه أن يقيم عليه شهوداً أنّه خرج عن دين الملك فيقتله و يملك أرضه ففعل ما أشارت إليه و غصب الأرض.

فأوحى الله إلى إدريس أن يأتي الملك و يقول له عنه: أ ما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلماً حتّى استخلصت أرضه خالصة لك و أحوجت عياله من بعده و أجعتهم؟ أما و عزّتي لأنتقمنّ له منك في الآجل و لأسلبنّ ملكك في العاجل، و لاُخرّبنّ مدينتك و لأذلّنّ عزّك و لأطعمنّ الكلاب لحم امرأتك فقد غرّك يا مبتلى حلمي عنك.

فأتاه إدريس برسالة الله و بلّغه ذلك في ملإ من أصحابه فأخرجه الملك من مجلسه ثمّ أرسل إليه بإشارة من امرأته قوماً يقتلونه، فانتبه لذلك بعض أصحاب إدريس و أشاروا عليه بالخروج و الهجرة فخرج منها ليومه و معه بعض أصحابه ثمّ ناجى ربّه و شكى إليه ما لقيه من الملك في رسالته إليه فأوحى إليه بالخروج من القرية، و أنّه سينفذ في الملك أمره و يصدّق فيه قوله، ثمّ سأل أن لا تمطر السماء على القرية و ما حولها حتّى يسأل ذلك فاُجيب إليه.

فأخبر إدريس بذلك أصحابه من المؤمنين و أمرهم بالخروج منها فخرجوا و تفرّقوا في البلاد و كانوا عشرين رجلاً و شاع خبر وحيه و خروجه بين الناس، و خرج هو متنحّياً إلى كهف في جبل شاهق يعبد الله فيه و يصوم النهار و يأتيه ملك بطعام يفطر به عند كلّ مساء.

٦٩

و أنفذ الله في الملك و امرأته و مدينته ما أوحاه إلى إدريس و ظهر في المدينة جبّار آخر عاص، و أمسكت السماء عنهم أمطارها عشرين سنة حتّى جهدوا و اشتدّت حالهم فلمّا بلغ بهم الجهد ذكر بعضهم لبعض أنّ الّذي لقوه من الجهد و المشقّة إنّما هو لدعاء إدريس عليهم أن لا يمطروا حتّى يسألوه و خروجه من بينهم و هم لا يعلمون أين هو؟ فالرأي أن يرجعوا و يتوبوا إلى الله و يسألوه المطر فهو أرحم بهم منه فاجتمعوا على الدعاء و التضرّع.

فأوحى الله إلى إدريس أنّ القوم عجّوا إليّ بالتوبة و الاستغفار و البكاء و التضرّع و قد رحمتهم و ما يمنعني من أمطارهم إلّا مناظرتك فيما سألتني أن لا اُمطر السماء عليهم حتّى تسألني فاسألني حتّى اُغيثهم، قال إدريس: اللّهمّ إنّي لا أسألك.

فأوحى الله إلى الملك الّذي كان يأتيه بالطعام أن يمسك عنه فأمسك عنه ثلاثة أيّام حتّى بلغ به الجوع: فنادى اللّهمّ حبست عنّي رزقي من قبل أن تقبض روحي فأوحى الله إليه: يا إدريس جزعت أن حبست عنك طعامك ثلاثة أيّام و لم تجزع من جوع أهل قريتك و جهدهم منذ عشرين سنة ثمّ سألتك أن تسألني أن اُمطر عليهم فبخلت و لم تسأل فأدّبتك بالجوع فاهبط من موضعك و اطلب المعاش لنفسك فقد وكلّتك في طلبه إلى حيلتك.

فهبط إدريس إلى قرية هناك و نظر إلى بيت يصعد منه دخان فهجم عليه و إذا عجوز كبيرة ترفق قرصتين لها على مقلاة فسألها أن تطعمه فقد بلغ به جهد الجوع فقالت: يا عبدالله ما تركت لنا دعوة إدريس فضلا نطعمه أحداً - و حلفت أنّها لا تملك غيره شيئاً - فاطلب المعاش من غير أهل هذه القرية، فقال لها: أطعميني ما اُمسك به روحي و تقوم به رجلي حتّى أطلب، قالت: إنّهما قرصتان واحدة لي و الاُخرى لابني فإن أطعمتك قوتي متّ و إن أطعمتك قوت ابني مات و ليس هاهنا فضل، قال: إنّ ابنك صغير يجزيه نصف قرصة فأطعمي كلّا منّا نصفا يكون لنا بلغة فرضيت و فعلت.

فلمّا رأى ابنها إدريس و هو يأكل من قرصته اضطرب حتّى مات، قالت اُمّه: يا عبدالله قتلت ابني جزعاً على قوته فقال: لا تجزعي فأنا اُحييه لك الساعة بإذن

٧٠

الله و أخذ بعضدي الصبيّ و قال: أيّتها الروح الخارجة عن بدنه بأمر الله ارجعي إلى بدنه بإذن الله و أنا إدريس النبيّ، فرجعت روح الغلام إليه.

فلمّا سمعت اُمّه كلام إدريس و قوله: أنا إدريس و نظرت إلى ابنها حيّا قالت: أشهد أنّك إدريس النبيّ و خرجت تنادي بأعلى صوتها في القرية: أبشروا بالفرج فقد دخل إدريس في قريتكم، فمضى إدريس حتّى جلس على موضع مدينة الجبّار الأوّل و قد تبدّلت تلّا من تراب فاجتمع إليه اُناس من أهل قريته و استرحموه و سألوه أن يدعو لهم فيمطروا. قال: لا، حتّى يأتيني جبّاركم هذا و جميع أهل قريتكم مشاة حفاة فيسألوني ذلك.

فبلغ ذلك الجبّار فبعث إلى إدريس أربعين رجلاً و أمرهم أن يأتوا به إليه، فلمّا جاؤه و كلّفوه الذهاب معهم إليه، دعا عليهم فماتوا عن آخرهم، ثمّ أرسل خمسمائة رجل فلمّا أتوه كلّفوه الذهاب و استرحموه فأراهم مصارع أصحابهم و قال: ما أنا بذاهب إليه و لا سائل حتّى يأتيني هو و جميع أهل القرية مشاة حفاة و يسألوني الدعاء للمطر.

فانطلقوا إليه و أخبروه بما قال و سألوه أن يمضي إليه هو و جميع أهل القرية مشاة حفاة و يسألوه أن يسأل الله أن تمطر السماء فأتوه حتّى وقفوا بين يديه خاضعين متذلّلين و سألوه أن يسأل الله أن تمطر السماء عليهم، فعند ذلك دعا إدريس أن تمطر السماء عليهم فأظلّتهم سحابة من السماء و أرعدت و أبرقت و هطلت عليهم من ساعتهم حتّى ظنّوا أنّه الغرق فما رجعوا إلى منازلهم حتّى أهمّتهم أنفسهم من الماء.

و في الكافي، بإسناده عن عبدالله بن أبان عن أبي عبدالله (عليه السلام): في حديث يذكر فيه مسجد السهلة: أ مّا علمت أنّه موضع بيت إدريس النبيّ الّذي كان يخيط فيه.

أقول: و قد شاع بين أهل السير و الآثار أنّه (عليه السلام) أوّل من خطّ بالقلم و أوّل من خاط.

و في تفسير القمّيّ، قال: و سمّي إدريس لكثرة دراسته الكتب.

٧١

أقول: ورد في بعض الروايات: في معنى قوله تعالى في إدريس (عليه السلام):( وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ) أنّ الله غضب على ملك من الملائكة فقطع جناحه و ألقاه في جزيرة من جزائر البحر فبقي هناك ما شاء الله، فلمّا بعث الله إدريس جاءه ذلك الملك و سأله أن يدعو الله أن يرضى عنه و يردّ إليه جناحه، فدعا له إدريس فردّ الله جناحه إليه و رضي عنه.

قال الملك لإدريس: أ لك حاجة؟ قال: نعم اُحبّ أن ترفعني إلى السماء حتّى أنظر إلى ملك الموت فلا عيش لي مع ذكره، فأخذه الملك على جناحه حتّى انتهى به إلى السماء الرابعة فإذا هو بملك الموت يحرّك رأسه تعجّباً، فسلّم عليه إدريس و قال له: ما لك تحرّك رأسك؟ قال: إنّ ربّ العزّة أمرني أن أقبض روحك بين السماء الرابعة و الخامسة. فقلت: يا ربّ كيف يكون هذا و بيني و بينه أربع سماوات و غلظ كلّ سماء مسيرة خمسمائة عام و بين كلّ سماءين مسيرة خمسمائة عام؟ ثمّ قبض روحه بين السماء الرابعة و الخامسة و هو قوله تعالى:( وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ) .

روى الحديث عليّ بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره، عن أبيه عن ابن أبي عمير عمّن حدّثه عن أبي عبدالله (عليه السلام)، و روى ما في معناه في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن عمرو بن عثمان عن مفضّل بن صالح عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) عن النبيّ (صلّي الله وعليه وآله وسلّم).

و الروايتان على ما بهما و خاصّة في الثانية(١) منهما من ضعف السند لا معوّل عليهما لمخالفتهما ظاهر الكتاب لنصّه على عصمة الملائكة و نزاهتهم عن الذنب و الخطيئة.

و روى الثعلبي في العرائس، عن ابن عبّاس و غيره ما ملخّصه: أنّ إدريس سار ذات يوم فأصابه وهج الشمس فقال: إنّي مشيت في الشمس يوماً فتأذّيت فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد! اللّهمّ خفّف عنه ثقلها و احمل عنه حرّها، فاستجاب الله له فأحسّ الملك الّذي يحملها بذلك فسأل الله في ذلك فأخبره بما كان

____________________

(١) لمكان مفضّل بن صالح و كان كذّاباً يضع الحديث.

٧٢

من دعاء إدريس و استجابته فسأله تعالى أن يجمع بينه و بين إدريس و يجعل بينهما خلّة فأذن له.

فكان إدريس يسأله و كان ممّا سأله: أنّك أخبرت أنّك أكرم الملائكة على ملك الموت و أمكنهم عنده فاشفع لي إليه ليؤخّر أجلي حتّى أزداد شكراً و عبادة فقال الملك: لا يؤخّر الله نفساً إذا جاء أجلها. قال: نعم و لكنّه أطيب لنفسي. قال الملك أنا مكلّمه لك، و ما كان يستطيع أن يفعله لأحد من بني آدم فهو فاعله لك.

ثمّ حمله الملك على جناحه و رفعه إلى السماء فوضعه عند مطلع الشمس ثمّ أتى ملك الموت و ذكر له حاجة إدريس و شفع له فقال ملك الموت: ليس ذلك إليّ و لكن إن أحببت أعلمته أجله. قال: نعم فنظر في ديوانه و أخبره باسمه و قال: ما أراه يموت أبداً. فإنّه أجده يموت عند مطلع الشمس! قال: فإنّي أتيتك و قد تركته هناك. قال له: انطلق فلا أراك تجده إلّا ميتا فوالله ما بقي من أجله شي‏ء فرجع الملك إليه فوجده ميتا.

و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن أبي شيبة و ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس عن كعب: إلّا أنّ فيه أنّ النازل على إدريس الملك الّذي كان يرفع إليه عمله و قد كان يرفع له من العمل ما يعدل عمل أهل الأرض في زمانه فأعجبه ذلك فسأل الله أن ينزل إليه فأذن له فنزل إليه و صحبه إلخ و روى ابن أبي حاتم بطريق آخر عن ابن عبّاس هذا الحديث و فيه: أنّ إدريس مات بين جناحي الملك.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر عن عمر مولى غفرة يرفعه إلى النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): أنّ إدريس كان يرفع له وحده من العمل ما يعدل عمل أهل الأرض كلّهم فأعجب ذلك ملك الموت فاستأذن الله في النزول إلى الأرض و صحبته فأذن له فنزل إليه و صحبه فكانا يسيحان في الأرض و يعبدان الله فأعجب إدريس ما رآه من عبادة صاحبه من غير كسل و لا فتور فسأله عن ذلك و أحفى في السؤال حتّى عرّفه ملك الموت نفسه و ذكر له قصّة نزوله و صحبته.

فلمّا عرفه إدريس سأله ثلاث حوائج له: أن يقبض روحه ساعة ثمّ يردّها

٧٣

إليه فاستأذن الله و فعل، و أن يرفعه إلى السماء و يريه النار فاستأذن و فعل، و أن يريه الجنّة فاستأذن و فعل فدخل الجنّة و أكل من ثمارها و شرب من مائها فقال له ملك الموت: اخرج يا نبيّ الله فقد أصبت حاجتك، فامتنع من الخروج و تعلّق بشجرة هناك، و خاصم ملك الموت قائلا: قال الله:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) و قد ذقته، و قال:( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) و قد وردت النار، و قال:( وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ ) و لست أخرج من الجنّة بعد دخولها فأوحى الله إلى ملك الموت خصمك عبدي فاتركه و لا تتعرّض له فبقي في الجنّة.

و رواه في العرائس، عن وهب و في آخره: فهو حيّ هناك فتارة يعبد الله في السماء الرابعة و تارة يتنعّم في الجنّة.

و في مستدرك الحاكم، عن سمرة: كان إدريس أبيض طويلاً ضخم عريض الصدر قليل شعر الجسد كثير شعر الرأس، و كانت إحدى عينيه أعظم من الاُخرى، و كانت في صدره نكتة بيضاء من غير برص فلمّا رأى الله من أهل الأرض ما رأى من جورهم و اعتدائهم في أمر الله، رفعه الله إلى السماء السادسة فهو حيث يقول:( وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ) .

أقول: و لا يرتاب الناقد البصير في أنّ هذه الروايات إسرائيليّات لعبت بها أيدي الوضع، و يدفعها الموازين العلميّة و الاُصول المسلّمة من الدين.

٣- و يسمّى (عليه السلام) بهرمس قال القفطيّ في كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء، في ترجمة إدريس: اختلف الحكماء في مولده و منشأه و عمّن أخذ العلم قبل النبوّة فقالت فرقة: ولد بمصر و سمّوه هرمس الهرامسة، و مولده بمنف، و قالوا: هو باليونانيّة إرميس و عرّب بهرمس، و معنى إرميس عطارد، و قال آخرون: اسمه باليونانيّة طرميس، و هو عند العبرانيّين خنوخ و عرّب أخنوخ، و سمّاه الله عزّوجلّ في كتابه العربيّ المبين إدريس.

و قال هؤلاء: إنّ معلّمه اسمه الغوثاذيمون و قيل: أغثاذيمون المصريّ، و لم يذكروا من كان هذا الرجل؟ إلّا أنّهم قالوا: إنّه أحد الأنبياء اليونانيّين و

٧٤

المصريّين، و سمّوه أيضاً اُورين الثاني و إدريس عندهم اُورين الثالث، و تفسير غوثاذيمون السعيد الجدّ، و قالوا: خرج هرمس من مصر و جاب الأرض كلّها ثمّ عاد إليها و رفعه الله إليه بها، و ذلك بعد اثنين و ثمانين سنة من عمره.

و قالت فرقة اُخرى: إنّ إدريس ولد ببابل و نشأ بها و أنّه أخذ في أوّل عمره بعلم شيث بن آدم و هو جدّ جدّ أبيه لأنّ إدريس ابن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث. قال الشهرستانيّ: إنّ أغثاذيمون هو شيث.

و لمّا كبر إدريس آتاه الله النبوّة فنهى المفسدين من بني آدم عن مخالفتهم شريعة آدم و شيث فأطاعه أقلّهم و خالفه جلّهم فنوى الرحلة عنهم و أمر من أطاعه منهم بذلك فثقل عليهم الرحيل من أوطانهم فقالوا له: و أين نجد إذا رحلنا مثل بابل؟ و بابل بالسريانيّة النهر و كأنّهم عنوا بذلك دجلة و الفرات، فقال: إذا هاجرنا لله رزقنا غيره.

فخرج و خرجوا و ساروا إلى أن وافوا هذا الإقليم الّذي سمّي بابليون فرأوا النيل و رأوا واديا خالياً من ساكن فوقف إدريس على النيل و سبّح الله و قال لجماعته: بابليون، و اختلف في تفسيره فقيل: نهر كبير، و قيل: نهر كنهركم، و قيل: نهر مبارك، و قيل: إنّ يون في السريانيّة مثل أفعل الّتي للمبالغة في كلام العرب و كأنّ معناه نهر أكبر فسمّي الإقليم عند جميع الاُمم بابليون، و سائر فرق الاُمم على ذلك إلّا العرب فإنّهم يسمّونه إقليم مصر نسبة إلى مصر بن حام النازل به بعد الطوفان و الله أعلم بكلّ ذلك.

و أقام إدريس و من معه بمصر يدعو الخلائق إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و طاعة الله عزّوجلّ، و تكلّم الناس في أيّامه باثنين و سبعين لساناً، و علّمه الله عزّوجلّ منطقهم ليعلّم كلّ فرقة منهم بلسانها، و رسم لهم تمدين المدن، و جمع له طالبي العلم بكلّ مدينة فعرّفهم السياسيّة المدنيّة، و قرّر لهم قواعدها فبنت كلّ فرقة من الاُمم مدنا في أرضها، و كانت عدّة المدن الّتي اُنشئت في زمانه مائة مدينة و ثماني و ثمانين مدينة أصغرها الرها و علّمهم العلوم.

٧٥

و هو أوّل من استخرج الحكمة و علم النجوم فإنّ الله عزّوجلّ أفهمه سرّ الفلك و تركيبه و نقط اجتماع الكواكب فيه و أفهمه عدد السنين و الحساب و لولا ذلك لم تصل الخواطر باستقرائها إلى ذلك.

و أقام للاُمم سننا في كلّ إقليم تليق كلّ سنّة بأهلها، و قسم الأرض أربعة أرباع و جعل على كلّ ربع ملكاً يسوس أمر المعمور من ذلك الربع، و تقدّم إلى كلّ ملك بأن يلزم أهل كلّ ربع بشريعة سأذكر بعضها، و أسماء الأربعة الملوك الّذين ملكوا: الأوّل إيلاوس و تفسيره الرحيم، و الثاني أوس، و الثالث سقلبيوس، و الرابع أوس‏ آمون، و قيل: إيلاوس ‏آمون، و قيل: يسيلوخس و هو آمون الملك انتهى موضع الحاجة.

و هذه أحاديث و أنباء تنتهي إلى ما قبل التاريخ لا يعوّل عليها ذاك التعويل غير أنّ بقاء ذكره الحيّ بين الفلاسفة و أهل العلم جيلاً بعد جيل و تعظيمهم له و احترامهم لساحته و إنهاءهم اُصول العلم إليه يكشف عن أنّه من أقدم أئمّة العلم الّذين ساقوا العالم الإنساني إلى ساحة التفكّر الاستدلاليّ و الإمعان في البحث عن المعارف الإلهيّة أو هو أوّلهم (عليه السلام).

٧٦

( سورة مريم الآيات ٥٨ - ٦٣)

أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ( ٥٨ ) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ( ٥٩ ) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ( ٦٠ ) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ( ٦١ ) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ( ٦٢ ) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا ( ٦٣ )

( بيان)

قد تقدّم في الكلام على غرض السورة أنّ الّذي يستفاد من سياقها بيان أنّ عبادته تعالى - و هو دين التوحيد - هو دين أهل السعادة و الرشد من الأنبياء و الأولياء، و أنّ التخلّف عن سبيلهم بإضاعة الصلاة و اتّباع الشهوات اتّباع سبيل الغيّ إلّا من تاب و آمن و عمل صالحاً.

فالآيات و خاصّة الثلاث الاُول منها تتضمّن حاقّ غرض السورة و قد أوردته في صورة الاستنباط من القصص المسرودة فيما تقدّم من الآيات، و هذا ممّا

٧٧

تمتاز به هذه السورة من سائر سور القرآن الطوال فإنّما يشار في سائر السور إلى أغراضها بالتلويح في مفتتح السورة و مختتمها ببراعة الاستهلال و حسن الختام لا في وسطها.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ) إلخ، الإشارة بقوله:( أُولئِكَ ) إلى المذكورين قبل الآية في السورة و هم زكريّا و يحيى و مريم و عيسى و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و موسى و هارون و إسماعيل و إدريس (عليهم السلام).

و قد تقدّمت الإشارة إليه من سياق آيات السورة و أنّ القصص الموردة فيها أمثلة، و أنّ هذه الآية و اللتين بعدها نتيجة مستخرجة منها، و لازم ذلك أن يكون قوله:( أُولئِكَ ) مشيراً إلى أصحاب القصص بأعيانهم مبتدأ، و قوله:( الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) صفة له، و قوله:( إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ ) إلخ، خبراً له فهذا هو الّذي يهدي إليه التدبّر في السياق. و لو اُخذ قوله:( الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) خبراً لقوله:( أُولئِكَ ) فقوله:( إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ ) إلخ، خبر له بعد خبر لكنّه لا يلائم غرض السورة تلك الملاءمة.

و قد أخبر الله سبحانه أنّه أنعم عليهم و أطلق القول فيهم ففيه دلالة على أنّهم قد غشيتهم النعمة الإلهيّة من غير نقمة و هذا هو معنى السعادة فليست السعادة إلّا النعمة من غير نقمة فهؤلاء أهل السعادة و الفلاح بتمام معنى الكلمة و قد أخبر تعالى عنهم أنّهم أصحاب الصراط المستقيم المصون سالكه عن الغضب و الضلال إذ قال:( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ ) الحمد: ٧، و هم في أمن و اهتداء لقوله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) الأنعام: ٨٢، فأصحاب الصراط المستقيم المصونون عن الغضب و الضلال و لم يلبسوا إيمانهم بظلم في أمن من كلّ خطر يهدّد الإنسان تهديداً فهم سعداء في سلوكهم سبيل الحياة الّتي سلكوها و السبيل الّتي سلكوها، هي سبيل السعادة.

و قوله:( مِنَ النَّبِيِّينَ ) من فيه للتبعيض و عديله قوله الآتي:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا ) على ما سيأتي توضيحه. و قد جوّز المفسّرون كون( من) بيانيّة و أنت

٧٨

خبير بأنّ ذلك لا يلائم كون( أُولئِكَ ) مشيرا إلى المذكورين من قبل، لأنّ النبيّين أعمّ، اللّهمّ إلّا أن يكون إشارة إليهم بما هم أمثلة لأهل السعادة و يكون المعنى اُولئك المذكورون و أمثالهم الّذين أنعم الله عليهم هم النبيّون و من هدينا و اجتبينا.

و قوله:( مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ) في معنى الصفة للنبيّين و من فيه للتبعيض أي من النبيّين الّذين هم بعض ذرّيّة آدم، و ليس بياناً للنبيّين لاختلال المعنى بذلك.

و قوله:( وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ) معطوف على قوله:( مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ) و المراد بهم المحمولون في سفينة نوح (عليه السلام) و ذرّيّتهم و قد بارك الله عليهم، و هم من ذرّيّة نوح لقوله تعالى:( وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ ) الصافّات: ٧٧.

و قوله:( وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ ) معطوف كسابقه على قوله:( مِنَ النَّبِيِّينَ ) .

و قد قسم الله تعالى الّذين أنعم عليهم من النبيّين على هذه الطوائف الأربع أعني ذرّيّة آدم و من حمله مع نوح و ذرّيّة إبراهيم و ذرّيّة إسرائيل و قد كان ذكر كلّ سابق يغني عن ذكر لاحقه لكون ذرّيّة إسرائيل من ذرّيّة إبراهيم و الجميع ممّن حمل مع نوح و الجميع من ذرّيّة آدم (عليهم السلام).

و لعلّ الوجه فيه الإشارة إلى نزول نعمة السعادة و بركة النبوّة على نوع الإنسان كرّة بعد كرّة فقد ذكر ذلك في القرآن الكريم في أربعة مواطن لطوائف أربع: أحدها لعامّة بني آدم حيث قال:( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) البقرة: ٣٩.

و الثاني ما في قوله تعالى:( قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى‏ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ ) هود: ٤٨، و الثالث ما في قوله تعالي :( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) الحديد: ٢٦، و الرابع ما في قوله تعالى :( وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ

٧٩

عَلَى الْعالَمِينَ ) الجاثية: ١٦.

فهذه مواعد أربع بتخصيص نوع الإنسان بنعمة النبوّة و موهبة السعادة، و قد اُشير إليها في الآية المبحوث عنها بقوله:( مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ ) ، و قد ذكر في القصص السابقة من كلّ من الذراري الأربع كإدريس من ذرّيّة آدم، و إبراهيم من ذرّيّة من حمل مع نوح، و إسحاق و يعقوب من ذرّيّة إبراهيم، و زكريّا و يحيى و عيسى و موسى و هارون و إسماعيل - على ما استظهرنا - من ذرّيّة إسرائيل.

و قوله:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا ) معطوف على قوله:( مِنَ النَّبِيِّينَ ) و هؤلاء غير النبيّين من الّذين أنعم الله عليهم فإنّ هذه النعمة غير خاصّة بالنبيّين و لا منحصرة فيهم بدليل قوله تعالى:( وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ) النساء: ٦٩ و قد ذكر الله سبحانه بين من قصّ قصّته مريم (عليها السلام) معتنيا بها إذ قال:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ ) و ليست من النبيّين فالمراد بقوله:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا ) غير النبيّين من الصدّيقين و الشهداء و الصالحين لا محالة، و كانت مريم من الصدّيقين لقوله تعالى:( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ) المائدة: ٧٥.

و ممّا تقدّم من مقتضى السياق يظهر فساد قول من جعل( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا ) معطوفاً على قوله:( مِنَ النَّبِيِّينَ ) مع أخذ من للبيان، و أورد عليه بعضهم أيضا بأنّ ظاهر العطف المغايرة فيحتاج إلى أن يقال: المراد ممّن جمعنا له بين النبوّة و الهداية و الاجتباء للكرامة و هو خلاف الظاهر. و فيه منع كون ظاهر العطف المغايرة مصداقاً و إنّما هو المغايرة في الجملة و لو بحسب الوصف و البيان.

و نظيره قول من قال بكونه معطوفاً على قوله:( مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ) و من للتبعيض و قد اتّضح وجه فساده ممّا قدّمناه.

و نظيره قول من قال: إنّ قوله:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا ) استئناف من غير عطف فقد

٨٠