الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

الميزان في تفسير القرآن  13%

الميزان في تفسير القرآن  مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96761 / تحميل: 5840
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

تمّ الكلام عند قوله:( إِسْرائِيلَ ) ثمّ ابتدأ فقال: و ممّن هدينا و اجتبينا من الاُمم قوم إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّداً و بكيّاً فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه، و الوجه منسوب إلى أبي مسلم المفسّر.

و فيه أنّه تقدير من غير دليل. على أنّ في ذلك إفساد غرض على ما يشهد به السياق إذ الغرض منها بيان طريقة اُولئك العباد المنعم عليهم و أنّهم كانوا خاضعين لله خاشعين له و أنّ أخلافهم أعرضوا عن طريقتهم و أضاعوا الصلاة و اتّبعوا الشهوات و هذا لا يتأتّى إلّا بكون قوله:( إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ ) إلخ خبراً لقوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) و أخذ قوله:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا ) إلى آخر الآية استئنافاً مقطوعاً عمّا قبله إفساد للغرض المذكور من رأس.

و قوله:( إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا ) السجّد جمع ساجد و البكيّ على فعول جمع باكي و الجملة خبر للّذين في صدر الآية و يحتمل أن يكون الخرور سجّداً و بكيّاً كناية عن كمال الخضوع و الخشوع فإنّ السجدة ممثّل لكمال الخضوع و البكاء لكمال الخشوع و الأنسب على هذا أن يكون المراد بالآيات و تلاوتها ذكر مطلق ما يحكي شأناً من شؤونه تعالى.

و أمّا قول القائل إنّ المراد بتلاوة الآيات قراءة الكتب السماويّة مطلقاً أو خصوص ما يشتمل على عذاب الكفّار و المجرمين، أو أنّ المراد بالسجود الصلاة أو سجدة التلاوة أو أنّ المراد بالبكاء البكاء عند استماع الآيات أو تلاوتها فكما ترى.

فمعنى الآية - و الله أعلم - اُولئك المنعم عليهم الّذين بعضهم من النبيّين من ذرّيّة آدم و ممّن حملنا مع نوح و من ذرّيّة إبراهيم و إسرائيل و بعضهم من أهل الهداية و الاجتباء خاضعون للرحمن خاشعون إذا ذكر عندهم و تليت آياته عليهم.

و لم يقل: كانوا إذا تتلى عليهم إلخ لأنّ العناية في المقام متعلّقه ببيان حال النوع من غير نظر إلى ماضي الزمان و مستقبله بل بتقسيمه إلى سلف صالح و خلف طالح و ثالث تاب و آمن و عمل صالحاً و هو ظاهر.

قوله تعالى: ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ

٨١

يَلْقَوْنَ غَيًّا ) قالوا: الخلف بسكون اللام البدل السيّئ و بفتح اللام ضدّه و ربّما يعكس على ندرة، و ضياع الشي‏ء فساده أو افتقاده بسبب ما كان ينبغي أن يتسلّط عليه يقال: أضاع المال إذا أفسده بسوء تدبيره أو أخرجه من يده بصرفه فيما لا ينبغي صرفه فيه، و الغيّ خلاف الرشد و هو إصابة الواقع و هو قريب المعنى من الضلال خلاف الهدى و هو ركوب الطريق الموصل إلى الغاية المقصودة.

فقوله:( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ) إلخ أي قام مقام اُولئك الّذين أنعم الله عليهم و كانت طريقتهم الخضوع و الخشوع لله تعالى بالتوجّه إليه بالعبادة قوم سوء أضاعوا ما أخذوه منهم من الصلاة و التوجّه العبادي إلى الله سبحانه بالتهاون فيه و الإعراض عنه، و اتّبعوا الشهوات الصارفة لهم عن المجاهدة في الله و التوجّه إليه.

و من هنا يظهر أنّ المراد بإضاعة الصلاة إفسادها بالتهاون فيها و الاستهانة بها حتّى ينتهي إلى أمثال اللعب بها و التغيير فيها و الترك لها بعد الأخذ و القبول فما قيل: إنّ المراد بإضاعة الصلاة تركها ليس بسديد إذ لا يسمّى ترك الشي‏ء من رأس إضاعة له و العناية في الآية متعلّقه بأنّ الدين الإلهيّ انتقل من اُولئك السلف الصالح بعدهم إلى هؤلاء الخلف الطالح فلم يحسنوا الخلافة و أضاعوا ما ورثوه من الصلاة الّتي هي الركن الوحيد في العبوديّة و اتّبعوا الشهوات الصارفة عن الحقّ.

و قوله:( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) أي جزاء غيّهم على ما قيل فهو كقوله:( وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ) .

و من الممكن أن يكون المراد به نفس الغيّ بفرض الغيّ غاية للطريق الّتي يسلكونها و هي طريق إضاعة الصلاة و اتّباع الشهوات فإذ كانوا يسلكون طريقاً غايتها الغيّ فسيلقونه إذا قطعوها إمّا بانكشاف غيّهم لهم يوم القيامة حيث ينكشف لهم الحقائق أو برسوخ الغيّ في قلوبهم و صيرورتهم من أولياء الشيطان كما قال:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) الحجر: ٤٢، و كيف كان فهو استعارة بالكناية لطيفة.

قوله تعالى: ( إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ

٨٢

شَيْئاً ) استثناء من الآية السابقة فهؤلاء الراجعون إلى الله سبحانه ملحقون باُولئك الّذين أنعم الله عليهم و هم معهم لا منهم كما قال تعالى:( وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ) النساء: ٦٩.

و قوله:( فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ) من وضع المسبّب موضع السبب و الأصل فاُولئك يوفّون أجرهم، و الدليل على ذلك قوله بعده:( وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً ) فإنّه من لوازم توفية الأجر لا من لوازم دخول الجنّة.

قوله تعالى: ( جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ) العدن الإقامة ففي تسميتها به إشارة إلى خلودها لداخليها، و الوعد بالغيب هو الوعد بما ليس تحت إدراك الموعود له، و كون الوعد مأتيّا عدم تخلّفه، قال في المجمع: و المفعول هنا بمعنى الفاعل لأنّ ما أتيته فقد أتاك و ما أتاك فقد أتيته يقال: أتيت خمسين سنة و أتت عليّ خمسون سنة، و قيل: إنّ الموعود الجنّة و الجنّة يأتيها المؤمنون انتهى.

قوله تعالى: ( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا ) عدم سمع اللغو من أخصّ صفات الجنّة و قد ذكره الله سبحانه و امتنّ به في مواضع من كلامه و سنفصّل القول فيه إن شاء الله في موضع يناسبه، و استثناء السلام منه استثناء منفصل، و السلام قريب المعنى من الأمن - و قد تقدّم الفرق بينهما - فقولك: أنت منّي في أمن معناه لا تلقى منّي ما يسوؤك، و قولك: سلام منّي عليك معناه كلّ ما تلقاه منّي لا يسوؤك. و إنّما يسمعون السلام من الملائكة و من رفقائهم في الجنّة، قال تعالى حكاية عن الملائكة:( سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ ) الزمر: ٧٣، و قال:( فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ) الواقعة: ٩١.

و قوله:( وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا ) الظاهر أنّ إتيان الرزق بكرة و عشيّاً كناية عن تواليه من غير انقطاع.

قوله تعالى: ( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا ) الإرث

٨٣

و الوراثة هو أن ينتقل مال أو ما يشبهه من شخص إلى آخر بعد ترك الأوّل له بموت أو جلاء أو نحوهما، و إذ كانت الجنّة في معرض العطاء لكلّ إنسان بحسب الوعد الإلهيّ المشروط بالإيمان و العمل الصالح فاختصاص المتّقين بها بعد حرمان غيرهم عنها بإضاعة الصلاة و اتّباع الشهوات وراثة المتّقين، و نظير هذه العناية ما في قوله تعالى:( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ: ) الأنبياء: ١٠٥، و قوله:( وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) الزمر: ٧٤، و الآية كما ترى جمعت بين الإيراث و الأجر.

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا ) الآية، و روي عن عليّ بن الحسين (عليه السلام) أنّه قال: نحن عنينا بها.

أقول: و عن مناقب ابن شهرآشوب، عنه (عليه السلام) مثله‏، و قد اتّضح معنى الحديث بما قدّمناه في تفسير الآية فإنّ المراد بالجملة أهل الهداية و الاجتباء من غير النبيّين و هم (عليهم السلام) منهم كما ذكر الله سبحانه مريم منهم و ليست بنبيّة.

قال في روح المعاني: و روى بعض الإماميّة عن عليّ بن الحسين رضي الله عنهما أنّه قال: نحن عنينا بهؤلاء القوم. و لا يخفى أنّ هذا خلاف الظاهر جدّاً و حال روايات الإماميّة لا يخفى على أرباب التميز. انتهى. و قد تبيّن خطؤه ممّا تقدّم و الّذي أوقعه في ذلك أخذه قوله تعالى:( وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا ) معطوفاً على قوله:( مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ) و قوله:( مِنَ النَّبِيِّينَ ) بيانا لقوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ ) إلخ، فانحصر( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) في النبيّين فاضطرّ إلى القول بأنّ الآية لا تشمل غير النبيّين و هو يرى أنّ الله ذكر فيمن ذكر مريم بنت عمران و ليست بنبيّة.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبّان و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدريّ قال: سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) و تلا هذه الآية:( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ) فقال: يكون خلف من بعد ستّين

٨٤

سنة أضاعوا الصلاة و اتّبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّاً، ثمّ يكون خلف يقرؤن القرآن لا يعدو تراقيهم، و يقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن و منافق و فاجر.

و في المجمع في قوله تعالى:( أَضاعُوا الصَّلاةَ ) و قيل: أضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها من غير أن تركوها أصلاً و هو المرويّ عن أبي عبدالله (عليه السلام).

أقول: و روى في الكافي، ما في معناه بإسناده عن داود بن فرقد عنه (عليه السلام)، و روي ذلك من طرق أهل السنّة عن ابن مسعود و عدّة من التابعين.

و عن جوامع الجامع، و في روح المعاني في قوله:( وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ ) عن عليّ (عليه السلام) من بنى الشديد و ركب المنظور و لبس المشهور.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه من طريق نهشل عن الضحّاك عن ابن عبّاس عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: الغيّ واد في جهنّم.

أقول: و في روايات اُخرى أنّ الغيّ و أثام نهران في جهنّم، و هذا على تقدير صحّة الحديث ليس بتفسير آخر كما زعمه أكثر المفسّرين بل بيان لما سيؤل إليه الغيّ بحسب الجزاء، و نظيره ما ورد أنّ الويل بئر في جهنّم و أنّ طوبى شجرة في الجنّة، إلى غير ذلك من الروايات.

٨٥

( سورة مريم الآيات ٦٤ - ٦٥)

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ( ٦٤ ) رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ( ٦٥ )

( بيان)

الآيتان معترضتان بين آيات السورة و سياقهما يشهد بأنّهما من كلام ملك الوحي بوحي قرآني من الله سبحانه فإنّ النظم نظم قرآنيّ بلا ريب. و بذلك يتأيّد ما ورد بطرق مختلفة من طرق أهل السنّة و رواه في مجمع البيان، أيضاً عن ابن عبّاس: أنّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) استبطأ نزول جبريل فسأله عن ذلك فأجابه بوحي من الله تعالى:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) إلى آخر الآيتين.

و قد تكلّف جمع في بيان اتّصال الآيتين بالآيات السابقة فقال بعضهم: إنّ التقدير: هذا و قال جبريل: و ما نتنزّل إلّا بأمر ربّك إلخ، و قال آخرون: إنّهما متّصلتان بقول جبريل لمريم المنقول سابقاً:( إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا ) الآية، و ذكر قوم أنّ قوله:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) إلى آخر الآية من كلام المتّقين حين يدخلون الجنّة فالتقدير و قال المتّقون و ما نتنزّل الجنّة إلّا بأمر ربّك إلخ و قيل غير ذلك.

و هي جميعاً وجوه ظاهرة السخافة يأباها السياق و لا يقبلها النظم البليغ لا حاجة إلى الاشتغال ببيان وجوه فسادها. و سيأتي في ذيل البحث في الآية الثانية وجه آخر للاتّصال.

٨٦

قوله تعالى: ( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) إلى آخر الآية، التنزّل هو النزول على مهل و تؤدة فإنّ تنزّل مطاوع نزّل يقال: نزّله فتنزّل و النفي و الاستثناء يفيدان الحصر فلا يتنزّل الملائكة إلّا بأمر من الله كما قال:( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) التحريم: ٦.

و قوله:( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ ) يقال: كذا قدّامه و أمامه و بين يديه و المعنى واحد غير أنّ قولنا: بين يديه إنّما يطلق فيما كان بقرب منه و هو مشرف عليه له فيه نوع من التصرّف و التسلّط فظاهر قوله:( ما بَيْنَ أَيْدِينا ) أنّ المراد به ما نشرف عليه ممّا هو مكشوف علينا مشهود لنا: و ظاهر قوله:( وَ ما خَلْفَنا ) بالمقابلة ما هو غائب عنّا مستور علينا.

و على هذا فلو اُريد بقوله:( ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ ) المكان شمل بعض المكان الّذي أمامهم و المكان الّذي هم فيه و جميع المكان الّذي خلفهم و لم يشمل كل مكان، و كذا لو اُريد به الزمان شمل الماضي كلّه و الحال و المستقبل القريب فقط و سياق قوله:( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ ) ، ينادي بالإحاطة و لا يلائم التبعيض.

فالوجه حمل( ما بَيْنَ أَيْدِينا ) على الأعمال و الآثار المتفرّعة على وجودهم الّتي هم قائمون بها متسلّطون عليها، و حمل( ما خَلْفَنا ) على ما هو من أسباب وجودهم ممّا تقدّمهم و تحقّق قبلهم، و حمل( ما بَيْنَ ذلِكَ ) على وجودهم أنفسهم و هو من أبدع التعبير و ألطفه و بذلك تتمّ الإحاطة الإلهيّة بهم من كلّ جهة لرجوع المعنى إلى أنّ الله تعالى هو المالك لوجودنا و ما يتعلّق به وجودنا من قبل و من بعد.

و لقد اختلفت كلماتهم في تفسير هذه الجملة فقيل: المراد بما بين أيدينا ما هو قدّامنا من الزمان المستقبل و بما خلفنا الماضي و بما بين ذلك الحال، و قيل: ما بين أيدينا ما قبل الإيجاد من الزمان. و ما خلفنا ما بعد الموت إلى استمرار الآخرة و ما بين ذلك هو مدّة الحياة و قيل: ما بين الأيدي الدنيا إلى النفخة الاُولى و ما خلفهم هو ما بعد النفخة الثانية و ما بين ذلك ما بين النفختين و هو أربعون سنة، و قيل:

٨٧

ما بين أيديهم الآخرة و ما خلفهم الدنيا، و قيل: ما بين أيديهم ما قبل الخلق و ما خلفهم ما بعد الفناء و ما بين ذلك ما بين الدنيا و الآخرة، و قيل: ما بين أيديهم ما بقي من أمر الدنيا و ما خلفهم ما مضى منه و ما بين ذلك ما هم فيه و قيل: المعنى ابتداء خلقنا و منتهى آجالنا و مدّة حياتنا.

و قيل: ما بين أيديهم السماء و ما خلفهم الأرض و ما بين ذلك ما بينهما، و قيل: بعكس ذلك، و قيل: ما بين أيديهم المكان الّذي ينتقلون إليه و ما خلفهم المكان الّذي ينتقلون منه و ما بين ذلك المكان الّذي هم فيه.

و تشترك الأقوال الثلاثة الأخيرة في أنّ الماءآت عليها مكانيّة كما يشترك السبعة في أنّ الماءآت عليها زمانيّة و هناك قول بكون الآية تعمّ الزمان و المكان فهذه أحد عشر قولاً و لا دليل على شي‏ء منها مع ما فيها من قياس الملك على الإنسان و الوجه ما قدّمناه.

فقوله:( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ ) يفيد إحاطة ملكه تعالى بهم ملكا حقيقيّاً لا يجري فيه تصرّف غيره و لا إرادة من سواه إلّا عن إذن منه و مشيّة و إذ لا معصية للملائكة فلا تفعل فعلاً إلّا عن أمره و من بعد إذنه و لا تريد إلّا ما أراده الله فلا يتنزّل ملك إلّا بأمر ربّه.

و قد تقرّر بهذا البيان أنّ قوله:( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ ) في مقام التعليل لقوله:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) و أنّ قوله:( وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) - و النسيّ فعول من النسيان - من تمام التعليل أي إنّه تعالى لا ينسى شيئاً من ملكه حتّى يختلّ بإهماله أمر التدبير فلا يأمر بالنزول حينما يجب فيه النزول أو يأمر به حينما لا يجب و هكذا و كأنّ هذا هو وجه العدول في الآية عن إثبات العلم أو الذكر إلى نفي النسيان.

و قيل المعنى و ما كان ربّك نسيّاً أي تاركاً لأنبيائه أي ما كان عدم النزول إلّا لعدم الأمر به و لم تكن عن تركه تعالى لك و توديعه إيّاك.

و فيه أنّه و إن وافق ما تقدّم من سبب النزول بوجه لكن يبقى معه التعليل

٨٨

بقوله:( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا ) إلخ، ناقصاً و ينقطع قوله:( رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما ) عمّا تقدّمه كما سيتضّح.

قوله تعالى: ( رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) صدر الآية أعني قوله:( رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما ) تعليل لقوله في الآية السابقة( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا ) إلى آخر الآية أي كيف لا يملك ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك و كيف يكون نسيّاً و هو تعالى ربّ السماوات و الأرض و ما بينهما؟ و ربّ الشي‏ء هو مالكه، المدبّر لأمره، فملكه و عدم نسيانه مقتضى ربوبيّته.

و قوله:( فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ ) تفريع على صدر الآية و المعنى إذا كنّا لا نتنزّل إلّا بأمر ربّك و قد نزّلنا عليك هذا الكلام المتضمّن للدعوة إلى عبادته فالكلام كلامه و الدعوة دعوته فاعبده وحده و اصطبر لعبادته فليس هناك من يسمّى ربّاً غير ربّك حتّى لا تصطبر على عبادة ربّك و تنتقل إلى عبادة ذلك الغير الّذي يسمّى ربّاً فتكتفي بعبادته عن عبادة ربّك أو تشرك به و ربّما قيل: إنّ الجملة تفريع على قوله:( رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أو على قوله:( وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) أي لم ينسك ربّك فاعبده إلخ و الوجهان كما ترى.

و قد بان بهذا التقرير اُمور:

أحدها أنّ قوله:( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) من تمام البيان المقصود بقوله:( فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ ) و هو في مقام التعليل له.

و الثاني أنّ المراد بالسميّ المشارك في الاسم و المراد بالاسم هو الربّ لأنّ مقتضى بيان الآية ثبوت الربوبيّة المطلقة له تعالى على كلّ شي‏ء فهو يقول: هل تعلم من اتّصف بالربوبيّة فسمّي لذلك ربّاً حتّى تعدل عنه إليه فتعبده دونه.

و بذلك يظهر عدم استقامة عامّة ما قيل في معنى السميّ في الآية فقد قيل: إنّ المراد بالسميّ المماثل مجازاً، و قيل: السميّ بمعنى الولد و قيل: هو بمعناه

٨٩

الحقيقيّ غير أنّ المراد بالاسم الّذي لا مشاركة فيه هو ربّ السماوات و الأرض و قيل: هو اسم الجلالة، و قيل: هو الإله، و قيل: هو الرحمن، و قيل: هو الإله الخالق الرازق المحيي المميت القادر على الثواب و العقاب.

و الثالث: أنّ النكتة في إضافة الربّ إلى ضمير الخطاب و تكراره في الآية الاُولى إذ قال: بأمر ربّك و قال: و ما كان ربّك و لم يقل: ربّنا هي التوطئة لما في ذيل الكلام من توحيد الربّ ففي قوله:( رَبِّكَ ) إشارة إلى أنّ ربّنا الّذي نتنزّل عن أمره هو ربّك فالدعوة دعوته فاعبده، و يمكن أن تكون هذه هي النكتة فيما في مفتتح السورة إذ قال:( ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ ) إلخ لأنّ الآيات كما نبّهنا عليه ذات سياق واحد لغرض واحد.

و الرابع: أنّ قوله:( فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ ) مسوق لتوحيد العبادة و ليس أمراً بالعبادة و أمراً بالثبات عليها و إدامتها إلّا من جهة الملازمة فافهم ذلك.

و يمكن أن يستفاد من التفريع أنّه تأكيد للبيان الّذي يتضمّنه السياق السابق على هاتين الآيتين و بذلك يظهر اتّصالهما بالآيات السابقة عليهما من غير أن تؤخذاً معترضتين من كلّ جهة.

فكأنّ ملك الوحي لمّا تنزّل عليه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بالسورة و أوحى إليه الآيات الثلاث و الستّين منها و هي مشتملة على دعوة كاملة إلى الدين الحنيف خاطبه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بأنّه لم يتنزّل و ليس يتنزّل بما تنزّل به من عند نفسه بل عن أمر من ربّه و برسالة من عنده فالكلام كلامه و الدعوة دعوته و هو ربّ النبيّ و ربّ كلّ شي‏ء فليعبده وحده فليس هناك ربّ آخر يعدل عنه إليه فالآيتان ممّا اُوحي إلى ملك الوحي ليلقيه إلى النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) تثبيتاً له و تأكيداً للآيات السابقة.

و هذا نظير أن يرسل ملك رسولاً بكتاب من عنده أو رسالة إلى بعض عمّاله فيأتيه الرسول ثمّ إذا قرأ الكتاب أو أدّى الرسالة قال للعامل: إنّي ما جئتك من عند نفسي بل بأمر من الملك و إشارة منه و الكتاب كتابه و الرسالة قوله و حكمه و هو

٩٠

مليكك و مليك عامّة من في المملكة فاسمع له و أطع و أقم على ذلك فليس هناك مليك غيره حتّى تعدل عنه إليه.

فكلام هذا الرسول تأكيد لكلام الملك و إذا فرض أنّ الملك، هو الّذي أمره أن يعقّب رسالته بهذا الكلام كان الكلام كلاماً للرسول و رسالة أيضاً عن قبل الملك و كلامه.

و غير خفيّ عليك أنّ هذا الوجه أوفق بالآيتين و أوضح انطباقاً عليهما ممّا تذكره روايات سبب النزول على ما فيها من الاختلاف و الوهن.

٩١

( سورة مريم الآيات ٦٦ - ٧٢)

وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ( ٦٦ ) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ( ٦٧ ) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ( ٦٨ ) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَٰنِ عِتِيًّا ( ٦٩ ) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيًّا ( ٧٠ ) وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ( ٧١ ) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ( ٧٢ )

( بيان)

عود إلى ما قبل قوله:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) الآيتين و مضىّ في الحديث السابق و هو كالتذنيب لقوله:( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) بذكر بعض ما تفوّهوا به عن غيّهم و قد خصّ بالذكر قول لهم في المعاد و آخر في النبوّة و آخر في المبدإ.

ففي هذه الآيات أعني قوله:( وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ - إلى قوله -وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) و هي سبع آيات ذكر استبعادهم للبعث و الجواب عنه و ذكر الإشارة إلى ما لقولهم هذا من التبعة و الوبال.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ) إنكار للبعث في صورة الاستبعاد، و هو قول الكفّار من الوثنيّين و من يلحق بهم من منكري الصانع

٩٢

بل ممّا يميل إليه طبع الإنسان قبل الرجوع إلى الدليل، قيل: و لذلك نسب القول إلى الإنسان حينما كان مقتضى طبع الكلام أن يقال: و يقول الكافر، أو: و يقول الّذين كفروا إلخ، و فيه أنّه لا يلائم قوله الآتي:( فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ إلى قوله صِلِيًّا ) .

و ليس ببعيد أن يكون المراد بالإنسان القائل ذلك هو الكافر المنكر للبعث و إنّما عبّر بالإنسان لكونه لا يترقّب منه ذلك و قد جهّزه الله تعالى بالإدراك العقليّ و هو يذكر أنّ الله خلقه من قبل و لم يك شيئاً، فليس من البعيد أن يعيده ثانياً فاستبعاده مستبعد منه، و لذا كرّر لفظ الإنسان حيث أخذ في الجواب قائلاً:( أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً ) أي إنّه إنسان لا ينبغي له أن يستبعد وقوع ما شاهد وقوع مثله و هو غير ناسية.

و لعلّ التعبير بالمضارع في قوله:( وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ ) للإشارة إلى استمرار هذا الاستبعاد بين المنكرين للمعاد و المرتابين فيه.

قوله تعالى: ( أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً ) الاستفهام للتعجيب و الاستبعاد و معنى الآية ظاهر و قد أخذ فيها برفع الاستبعاد بذكر وقوع المثل ليثبت به الإمكان، فالآية نظيرة قوله تعالى في موضع آخر:( وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ - إلى أن قال -أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) يس: ٨١.

فإن قيل: الاحتجاج بوقوع المثل إنّما ينتج إمكان المثل و المطلوب في إثبات المعاد هو رجوع الإنسان بشخصه و عينه لا بمثله فإنّ مثل الشي‏ء غيره، قيل: إنّ هذه الآيات بصدد إثبات رجوع الأجساد و المخلوق منها ثانياً مثل المخلوق أوّلاً و شخصيّة الشخص الإنسانيّ بنفسه لا ببدنه فإذا خلق البدن ثانياً و تعلّقت به النفس كان شخص الإنسان الدنيويّ بعينه و إن كان البدن و هو جزء الإنسان بالقياس إلى البدن الدنيويّ مثلاً لا عيناً و هذا كما أنّ شخصيّة الإنسان و وحدته محفوظة في الدنيا مدى عمره مع

٩٣

تغيّر البدن و تبدّله بتغيّر أجزائه و تبدّلها حالاً بعد حال و البدن في الحال الثاني غيره في الحال الأوّل لكنّ الإنسان باق في الحالين على وحدته الشخصيّة لبقاء نفسه بشخصها.

و إلى هذا يشير قوله تعالى:( وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ - إلى أن قال -قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) الم السجدة: ١١ أي إنّكم مأخوذون من أبدانكم محفوظون لا تضلّون و لا تفتقدون.

قوله تعالى: ( فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) الجثيّ في أصله على فعول جمع جاثي و هو البارك على ركبتيه، و نسب إلى ابن عبّاس أنّه جمع جثوة و هو المجتمع من التراب و الحجارة، و المراد أنّهم يحضرون زمراً و جماعات متراكماً بعضهم على بعض، و هذا المعنى أنسب للسياق.

و ضمير الجمع في( لَنَحْشُرَنَّهُمْ ) و( لَنُحْضِرَنَّهُمْ ) للكفّار، و الآية إلى تمام ثلاث آيات متعرّضة لحالهم يوم القيامة و هو ظاهر و ربّما قيل: إنّ الضميرين للناس أعمّ من المؤمن و الكافر كما أنّ ضمير الخطاب في قوله الآتي:( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) كذلك و فيه أنّ لحن الآيات الثلاث و هو لحن السخط و العذاب يأبى ذلك.

و المراد بقوله:( لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ ) جمعهم خارج القبور مع أوليائهم من الشياطين لأنّهم لعدم إيمانهم غاوون كما قال:( فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) و الشياطين أولياؤهم قال تعالى:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ: ) الحجر: ٤٢، و قال:( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) الأعراف: ٢٧، أو المراد حشرهم مع قرنائهم من الشياطين كما قال:( وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ، وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) الزخرف: ٣٩.

و المعنى: فاُقسم بربّك لنجمعنّهم - يوم القيامة - و أولياءهم أو قرناءهم من الشياطين ثمّ لنحضرنّهم حول جهنّم لإذاقة العذاب و هم باركون على ركبهم من الذلّة أو و هم جماعات و زمرة زمرة.

٩٤

و في قوله:( فَوَ رَبِّكَ ) التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة و لعلّ النكتة فيه ما تقدّم في قوله:( بِأَمْرِ رَبِّكَ ) و نظيره قوله الآتي:( كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً ) .

قوله تعالى: ( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ) النزع هو الاستخراج، و الشيعة الجماعة المتعاونون على أمر أو التابعون لعقيدة و العتيّ على فعول مصدر بمعنى التمرّد في العصيان و الظاهر أنّ قوله:( أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ) جملة استفهاميّة وضع موضع مفعول لننزعنّ للدلالة على العناية بالتعيين و التمييز فهو نظير قوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى‏ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) الإسراء: ٥٧.

و المعنى: ثمّ لنستخرجنّ من كلّ جماعة متشكّلة أشدّهم تمرّداً على الرحمن و هم الرؤساء و أئمّة الضلال، و قيل المعنى لنستخرجنّ الأشدّ ثمّ الأشدّ حتّى يحاط بهم.

و في قوله:( عَلَى الرَّحْمنِ ) التفات و النكتة تلويح أنّ تمرّدهم عظيم لكونه تمرّداً على من شملت رحمته كلّ شي‏ء و هم لم يلقوا منه إلّا الرحمة و التمرّد على من هذا شأنه عظيم.

قوله تعالى: ( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى‏ بِها صِلِيًّا ) الصليّ في الأصل على فعول مصدر يقال صلي النار يصلاها صليا و صليّا إذا قاسى حرّها فالمعنى ثمّ اُقسم لنحن أعلم بمن أولى بالنار مقاساة لحرّها أي إنّ الأمر في دركات عذابهم و مراتب استحقاقهم لا يشتبه علينا.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) الخطاب للناس عامّة مؤمنيهم و كافريهم بدليل قوله في الآية التالية:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) و الضمير في( وارِدُها ) للنار، و ربّما قيل: إنّ الخطاب للكفّار المذكورين في الآيات الثلاث الماضية و في الكلام التفات من الغيبة إلى الحضور و فيه أنّ سياق الآية التالية يأبى ذلك.

و الورود خلاف الصدور و هو قصد الماء على ما يظهر من كتب اللغة قال الراغب

٩٥

في المفردات،: الورود أصله قصد الماء ثمّ يستعمل في غيره يقال: وردت الماء أرده، ورودا فأنا وارد و الماء مورود، و قد أوردت الإبل الماء قال تعالى:( وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ) و الورد الماء المرشّح للورود، و الورد خلاف الصدر، و الورد يوم الحمّى إذا وردت، و استعمل في النار على سبيل الفظاعة قال تعالى:( فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) ( وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) ( إِلى‏ جَهَنَّمَ وِرْداً ) ( أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ) ( ما وَرَدُوها ) و الوارد الّذي يتقدّم القوم فيسقي لهم قال تعالى:( فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ ) أي ساقيهم من الماء المورود انتهى موضع الحاجة.

و إلى ذلك استند من قال من المفسّرين إن الناس إنّما يحضرون النار و يشرفون عليها من غير أن يدخلوها و استدلّوا عليه بقوله تعالى:( وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) القصص: ٢٣، و قوله:( فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى‏ دَلْوَهُ ) يوسف: ١٩، و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏ أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) الأنبياء: ١٠٢.

و فيه أنّ استعماله في مثل قوله:( وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ) و قوله:( فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ ) في الحضور بعلاقة الإشراف لا ينافي استعماله في الدخول على نحو الحقيقة كما ادّعي في آيات اُخرى، و أمّا قوله:( أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) فمن الجائز أن يكون الإبعاد بعد الدخول كما يستظهر من قوله:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ) ، و أن يحجب الله بينهم و بين أن يسمعوا حسيسها إكراماً لهم كما حجب بين إبراهيم و بين حرارة النار إذ قال للنار:( كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى‏ إِبْراهِيمَ ) .

و قال آخرون و لعلّهم أكثر المفسّرين بدلالة الآية على دخولهم النار استناداً إلى مثل قوله تعالى:( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها ) الأنبياء: ٩٩، و قوله في فرعون:( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) هود: ٩٨، و يدلّ عليه قوله في الآية التالية:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) أي نتركهم باركين على ركبهم و إنّما يقال

٩٦

نذر و نترك فيما إذا كان داخلاً مستقرّاً في المحلّ قبل الترك ثمّ اُبقي على ما هو عليه و لعدّة من الروايات الواردة في تفسير الآية.

و هؤلاء بين من يقول بدخول عامّة الناس فيها و من يقول بدخول غير المتّقين مدّعيا أنّ قوله:( مِنْكُمْ ) بمعنى منهم على حدّ قوله:( وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً، إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً ) الدهر: ٢٢، هذا و لكن لا يلائمه سياق قوله:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) الآية.

و فيه أنّ كون الورود في مثل قوله:( لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها ) بمعنى الدخول ممنوع بل الأنسب كونه بمعنى الحضور و الإشراف فإنّه أبلغ كما هو ظاهر و كذا في قوله:( فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) فإنّ شأن فرعون و هو من أئمّة الضلال هو أن يهدي قومه إلى النار و أمّا إدخالهم فيها فليس إليه.

و أمّا قوله:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ) فالآية دالّة على كونهم داخلين فيها بدليل قوله:( نَذَرُ ) لكن دلالتها على كونهم داخلين غير كون قوله:( وارِدُها ) مستعملاً في معنى الدخول و كذا تنجية المتّقين لا تستلزم كونهم داخلين فيها فإنّ التنجية كما تصدق مع إنقاذ من دخل المهلكة تصدق مع إبعاد من أشرف على الهلاك و حضر المهلكة من ذلك.

و أمّا الروايات فإنّما وردت في شرح الواقعة لا في تشخيص ما استعمل فيه لفظ( وارِدُها ) في الآية فالاستدلال بها على كون الورود بمعنى الدخول ساقط.

فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المراد شأنيّة الدخول و المعنى: ما من أحد منكم إلّا من شأنه أن يدخل النار و إنّما ينجو من ينجو بإنجاء الله على حدّ قوله:( وَ لَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى‏ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ) النور: ٢١.

قلت: معناه كون الورود مقتضى طبع الإنسان من جهة أنّ ما يناله من خير و سعادة فمن الله و لا يبقى له من نفسه إلّا الشرّ و الشقاء لكن ينافيه ما في ذيل الآية من قوله:( كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) فإنّه صريح في أنّ هذا الورود بإيراد من الله و بقضائه المحتوم لا باقتضاء من طبع الأشياء.

٩٧

و الحقّ أنّ الورود لا يدلّ على أزيد من الحضور و الإشراف عن قصد - على ما يستفاد من كتب اللّغة - فقوله:( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) إنّما يدلّ على القصد و الحضور و الإشراف، و لا ينافي دلالة قوله في الآية التالية:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) على دخولهم جميعاً أو دخول الظالمين خاصّة فيها بعد ما وردوها.

و قوله:( كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) ضمير كان للورود أو للجملة السابقة باعتبار أنّه حكم، و الحتم و الجزم و القطع بمعنى واحد أي هذا الورود أو الحكم كان واجباً عليه تعالى مقضيّاً في حقّه و إنّما قضى ذلك نفسه على نفسه إذ لا حاكم يحكم عليه.

قوله تعالى: ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) قد تقدّمت الإشارة إلى أنّ قوله:( وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ) يدلّ على كون الظالمين داخلين فيها ثمّ يتركون على ما كانوا عليه، و أمّا تنجية الّذين اتّقوا فلا تدلّ بلفظها على كونهم داخلين إذ التنجية ربّما تحقّقت بدونه اللّهمّ إلّا أن يستظهر ذلك من ورود اللفظين مقترنين في سياق واحد.

و في التعبير بلفظ الظالمين إشارة إلى علّيّة الوصف للحكم.

و معنى الآيتين: ما من أحد منكم - متّق أو ظالم - إلّا و هو سيرد النار كان هذا الإيراد واجباً مقضيّاً على ربّك ثمّ ننجّي الّذين اتّقوا منها و نترك الظالمين فيها لظلمهم باركين على ركبهم.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن مالك الجهنيّ قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ:( أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً ) قال: فقال: لا مقدّراً و لا مكتوباً.

و في المحاسن، بإسناده عن حمران قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن قوله:( أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ ) الآية، قال: لم يكن في كتاب و لا علم.

٩٨

أقول: المراد بالحديثين أنّه لم يكن في كتاب و لا علم من كتب المحو و الإثبات ثمّ أثبته الله حين أراد كونه و أمّا اللوح المحفوظ فلا يعزب عنه شي‏ء بنصّ القرآن.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) قال: قال: على ركبهم.

و فيه، بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله عزّوجلّ:( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) قال: أ ما تسمع الرجل يقول: وردنا بني فلان فهو الورود و لم يدخله.

و في المجمع، عن السدّيّ قال: سألت مرّة الهمدانيّ عن هذه الآية فحدّثني أنّ عبدالله بن مسعود حدّثهم عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: يرد الناس النار ثمّ يصدرون بأعمالهم فأوّلهم كلمع البرق ثمّ كمر الريح ثمّ كحضر الفرس ثمّ كالراكب ثمّ كشدّ الرجل ثمّ كمشيه.

و فيه، و روى أبوصالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد عن أبي سميّة قال: اختلفنا في الورود فقال قوم: لا يدخلها مؤمن و قال آخرون: يدخلونها جميعاً ثم ينجّي الله الّذين اتّقوا فلقيت جابر بن عبدالله فسألته فأومي بإصبعيه إلى اُذنيه و قال: صمّتا إن لم أكن سمعت رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) يقول: الورود الدخول لا يبقى برّ و لا فاجر حتّى يدخلها فتكون على المؤمنين برداً و سلاماً كما كانت على إبراهيم حتّى أنّ للنار - أو قال: لجهنّم - ضجيجاً من بردها ثمّ ينجّي الله الّذين اتّقوا و يذر الظالمين فيها جثيّاً.

أقول: و الرواية من التفسير غير أنّ سندها ضعيف بالجهالة.

و فيه، و روي مرفوعاً عن يعلى بن منبّه عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.

و فيه، و روي عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): أنّه سئل عن المعنى فقال: إنّ الله يجعل النّار كالسمن الجامد و يجمع عليها الخلق ثمّ ينادي المنادي أن خذي أصحابك و ذري أصحابي فو الّذي نفسي بيده لهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها.

٩٩

أقول: و الروايات الأربع الأخيرة رواها في الدرّ المنثور، عن عدّة من أرباب الكتب و الجوامع،، غير أنّه لم يذكر في الرواية الثانية - فيما عندنا من نسخة الدرّ المنثور - قوله: الورود الدخول.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبونعيم في الحلية، عن عروة بن الزبير قال: لمّا أراد ابن رواحة الخروج إلى أرض مؤتة من الشام أتاه المسلمون يودّعونه فبكى فقال: أما و الله ما بي حبّ الدنيا و لا صبابة لكم و لكنّي سمعت رسول الله قرأ هذه الآية( وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) فقد علمت أنّي وارد النار و لا أدري كيف الصدور بعد الورود؟.

و اعلم أنّ ظاهر بعض الروايات السابقة أنّ ورود الناس النار هو جوازهم منها فينطبق على روايات الصراط و فيها أنّه جسر ممدود على النار يؤمر بالعبور عليها البرّ و الفاجر فيجوزه الأبرار و يسقط فيها الفجّار، و عن الصدوق في الاعتقاد، أنّه حمل الآية عليه.

و قال في مجمع البيان: و قيل: إنّ الفائدة في ذلك يعني ورود النار ما روي في بعض الأخبار: أنّ الله تعالى لا يدخل أحداً الجنّة حتّى يطلعه على النار و ما فيها من العذاب ليعلم تمام فضل الله عليه و كمال فضله و إحسانه إليه فيزداد لذلك فرحاً و سروراً بالجنّة و نعيمها، و لا يدخل أحداً النار حتّى يطلعه على الجنّة و ما فيها من أنواع النعيم و الثواب ليكون ذلك زيادة عقوبة له و حسرة على ما فاته من الجنّة و نعيمها. انتهى.

( كلام في معنى وجوب الفعل و جوازه)

( و عدم جوازه على الله سبحانه)

قد تقدّم في الجزء الأوّل من الكتاب في ذيل قوله تعالى:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦ في بحث قرآنيّ تقريباً أنّ له تعالى الملك المطلق على الأشياء بمعنى أنّه يملك كلّ شي‏ء ملكاً مطلقاً غير مقيّد بحال أو زمان أو أيّ شرط مفروض

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الفصل الثالث و الخمسون في الفتن و الشبه و البدع

١٦١

١ في أوّل الباب الثالث من النهج باب المختار

من حكم امير المؤمنينعليه‌السلام و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسائله و الكلام القصير الخارج في ساير أغراضه .

قالعليه‌السلام :

كُنْ فِي اَلْفِتْنَةِ كَابْنِ اَللَّبُونِ لاَ ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ وَ لاَ ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ قول المصنّف : « باب المختار » هو القسم الأخير من كتابه « من حكم أمير المؤمنينعليه‌السلام » اقتصر عليه في ( المصرية ) و زاد ابن أبي الحديد و ابن ميثم : « و مواعظه » و هو الصحيح لأصحية نسختيهما لا سيما الأخير الذي نسخته بخط المصنف .

و لأنّ فيه مواعظ كثيرة و منها في العنوان ( ١٥٠ ) كلامهعليه‌السلام لرجل سأله أن يعظه الذي قال المصنف فيه « و لو لم يكن في هذا الكتاب إلاّ هذا الكلام لكفى به موعظة ناجعة » .

١٦٢

و وصف الشعبي كلامهعليه‌السلام في الحكم و غيرها فقال : تكلّم أمير المؤمنينعليه‌السلام بتسع كلمات ارتجلهن ارتجالا فقأن عيون البلاغة و أيتمن جواهر الحكمة و قطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهن ، ثلاث منهن في الحكمة و ثلاث في المناجاة و ثلاث في الأدب ، أما اللائي في الحكمة فقال : قيمة كلّ امرى‏ء ما يحسنه ، و ما هلك امرؤ عرف قدره ، و المرء مخبوء تحت لسانه .

و أما اللائي في المناجاة فقال : اللّهم كفى بي عزّا أن أكون لك عبدا ، و كفى بي فخرا أن تكون لي ربا ، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب و أما اللائي في الأدب فقال : امنن على من شئت تكن أميره ، و استغن عمّن شئت تكن نظيره و احتج إلى من شئت تكن أسيره(١) .

« و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسألته » ترى أجوبة مسألته في العناوين ( ١٦ ) ( ٣٠ ) ( ٩٤ ) ( ١٢٠ ) ( ١٥٠ ) ( ٢٢٧ ) ( ٢٢٩ ) ( ٢٣٥ ) ( ٢٦٦ ) ( ٢٨٧ ) ( ٢٩٤ ) ( ٣٠٠ ) ( ٣١٨ ) ( ٣٥٦ ) ( ٤٧٠ ) .

« و الكلام القصير » كان حاجب هشام بن عبد الملك يأمر منتجعيه بالإيجاز في الكلام ، فقام أعرابي فقال : إنّ اللَّه تعالى جعل العطاء محبة و المنع مبغضة فلأن نحبك خير من أن نبغضك فأعطاه و أجزل له .

« الخارج في سائر أغراضه » أي باقي مقاصده ، و الأصل في ( الغرض ) الهدف و ( سائر ) يأتي بمعنى الجميع و معنى الباقي ، و الأخير هو المراد هنا .

قوله « كن في الفتنة » الأصل في « الفتنة » قولهم « دينار مفتون » فتن بالنار ، و كلّ شي‏ء ادخل النار فقد فتن ، و قالوا « الناس عبيد الفتانين » أي الدرهم و الدينار .

« كابن اللبون » ابن اللبون : ولد الناقة الذكر إذا دخل في الثالثة ، لأن امّه

____________________

( ١ ) الخصال للصدوق : ١٨٦ .

١٦٣

وضعت غيره فصار لها لبن ، و الانثى بنت اللبون ، و يجمعان بنات اللبون .

« لا ظهر فيركب و لا ضرع فيحلب » نظيره قول حاجب بن زرارة في القعقاع :

ما هو رطب فيعصر و لا يابس فيكسر .

و في المثل : لا تكن حلوا فتزدرد و لا مرّا فتلفظ .

و من الأمثال في الاعتزال قولهم : لا ناقة لي في هذا و لا جمل و قالوا : ان كنت من أهل الفطن فلا تدر حول الفتن .

ثم كما لا ينتفع بابن اللبون لصغره كذلك بالثلب لكبره ، و هو الذي انكسرت أنيابه من شدّة هرمه ، و إنما الانتفاع الكامل بالناب الذي في وسط الشباب ، قال بعضهم :

ألم تر أن الناب يحلب علبة

و يترك ثلب لا ضراب و لا ظهر

قال ابن أبي الحديد : أيام الفتنة هي أيام الخصومة بين رئيسين ضالين يدعوان كلاهما إلى ضلالة ، كفتنة عبد الملك و ابن الزبير و فتنة مروان و الضحاك و فتنة الحجاج و ابن الأشعث ، و أما إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل و صفين(١) .

قلت : إن جانبوا العصبية و أرادوا فهم الحقيقة فأول أيام الفتنة أيام أوّلهم ، ففي ( الطبري ) : قال أبو مويهبة مولى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : بعث إليّ النبي من جوف الليل فقال : يا أبا مويهبة إنّي قد امرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال : السّلام عليكم أهل المقابر ، ليهن لكم ما أصبحتم ممّا أصبح الناس فيه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أوّلها ، الآخرة شرّ من الاولى إلى أن قال ثم انصرف فبدأ

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٨٢ .

١٦٤

بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وجعه الذي قبض فيه(١) .

و في ( بلاغات نساء أحمد بن أبي طاهر البغدادي ) من رجالهم في ذكره خطبة سيّدة نساء العالمين باتفاق فرق المسلمين لما منعها أبو بكر فدك و في الخطبة : فأنقذكم اللَّه برسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد اللتيا و التي ، و بعد ما مني ببهم الرجال و ذؤبان العرب ، كلّما حشوا نارا للحرب أطفأها و نجم قرن للضلال و فغرت فاغرة من المشركين قذف بأخيه في لهواتها ، فلا ينكفي حتى يطأ صماخها بأخمصه و يخمد لهبها بحده ، مكدودا في ذات اللَّه قريبا من رسول اللَّه سيّدا في أولياء اللَّه ، و أنتم في بلهنية و ادعون آمنون ، حتى إذا اختار اللَّه تعالى لنبيه دار أنبيائه ظهرت خلّة النفاق و سمل جلباب الدين و نطق كاظم الغاوين و نبغ خامل الآفلين و هدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم و أطلع الشيطان رأسه من مغرزه صارخا بكم ، فوجدكم لدعائه مستجيبين و للغرة فيه ملاحظين ، فاستنهضكم فوجدكم خفافا و أحمشكم فألفاكم غضابا ، فوسمتم غير أبلكم و أوردتموها غير شربكم ، هذا و العهد قريب و الكلم رحيب و الجراح لما يندمل ، بدارا زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا و إنّ جهنم لمحيطة بالكافرين(٢) .

و روى الإسكافي منهم في نقضه ( عثمانية الجاحظ ) عن أبي رافع قال :

أتيت أبا ذر بالربذة اودّعه ، فلما أردت الانصراف قال لي و لا ناس معي :

ستكون فتنة فاتقوا اللَّه و عليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه ، فإني سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول له : أنت أوّل من آمن بي و أوّل من يصافحني يوم القيامة ، و أنت الصدّيق الأكبر ، و أنت الفاروق الذي تفرّق بين الحق و الباطل ،

____________________

( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ٤٣٢ .

( ٢ ) بلاغات النساء لابن طيفور : ١٣ ١٤ .

١٦٥

و أنت يعسوب المؤمنين و المال يعسوب الكافرين ، و أنت أخي و وزيري و خير من أترك بعدي(١) .

ثم ما قاله ابن أبي الحديد : من فتنة الحجاج و ابن الأشعث خلاف عقيدة أهل نحلته ، فإنّ عندهم كان قيام ابن الأشعث فتنة ، و أمّا الحجاج فكان عامل من بايعه جميع الناس و كان عندهم خليفة حقّا و أميرا للمؤمنين به .

و كذلك قوله « فتنة عبد الملك و ابن الزبير » غير صحيح عند أهل ملته ، فانّه عندهم كان ابتداء ابن الزبير ولي اللَّه و عبد الملك عدوّ اللَّه ، و لما غلب عبد الملك صار هو ولي اللَّه و ابن الزبير عدوّ اللَّه(٢) .

ففي ( كامل المبرد ) : خرج مصعب بن الزبير إلى باجميراء ، ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن و لم يأت المهلب و أصحابه ، فتواقفوا يوما على الخندق ، فناداهم الخوارج : ما تقولون في المصعب ؟ قالوا : إمام هدى قالوا : فما تقولون في عبد الملك ؟ قالوا : ضالّ مضل فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل صعب و إنّ أهل الشام اجتمعوا على عبد الملك ، و ورد عليه كتاب عبد الملك بولايته ، فلما تواقفوا ناداهم الخوارج : ما تقولون في مصعب ؟ قالوا : لا نخبركم قالوا : فما تقولون في عبد الملك ؟ قالوا : إمام هدى قالوا : يا أعداء اللَّه بالأمس ضال مضل و اليوم امام هدى ، يا عبيد الدّنيا عليكم لعنة اللَّه(٣) .

و الخوارج و إن طعنوا عليهم بكون ما عليهم خلاف العقل و خلاف الفطرة التي فطر الناس عليها ، إلاّ أنّه يقال لهم : إنّ ذلك لازم لكم أيضا بموافقة العامة في إمامة صديقهم و صديقه ، فلا يمكن القول بالملزوم و ترك اللازم .

____________________

( ١ ) نقض العثمانية لأبي جعفر الإسكافي : ٢٩٠ ملحقة بالعثمانية .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٨٢ .

( ٣ ) الكامل في الأدب للمبرّد ٣ : ١١٠١ ١١٠٢ .

١٦٦

و أما قوله « إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل و صفين » فأيضا أهل ملّته غير معترفين به ، فهذا ابن عبد البر من أئمتهم قال في سعد بن أبي وقاص الذي لم يشهد الجمل و صفين مع أمير المؤمنينعليه‌السلام :

كان ممّن قعد و لزم بيته في الفتنة و أمر أهله أن لا يخبروه من أخبار الناس بشي‏ء حتى تجتمع الامة على إمام(١) .

و قال في ترجمة ابن فاروقهم : قيل لنافع : ما بال ابن عمر بايع معاوية و لم يبايع عليّا ؟ فقال : كان ابن عمر لا يعطي يدا في فرقة و لا يمنعها من جماعة ، و لم يبايع معاوية حتى اجتمعوا عليه(٢) .

قبّح اللَّه هذا الدين الذي يصير معاوية الذي كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعنه في غير موطن و عدوّ الدين أولى بالإمامة من أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي جعله اللَّه تعالى في كتابه كنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله .( و أنفسنا و أنفسكم . ) (٣) و جعله النبي بمنزلة نفسه في المتواتر منه في قوله للناس : من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه .

لا يقال : انّما قال « من كنت مولاه فعلي مولاه » لا ما قلت قلت : ما ذكرته ان لم يكن لفظه هو معناه ، ألم يكن قال تلك الجملة بعد قوله للناس « ألست بكم أولى من أنفسكم » و قول الناس له « بلى أنت أولى بنا من أنفسنا » فهل يصير معناها غير ما قلناه .

قبّح اللَّه هذا الدين الذي هو خلاف ناموس الإنسانية ، حتى ان الحجاج الذي قال عمر بن عبد العزيز الذي هو أحد خلفائهم : لو أنّ جميع الامم جاءت

____________________

( ١ ) الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر ٢ : ٦٠٩ .

( ٢ ) المصدر نفسه ٣ : ٩٥٣ .

( ٣ ) آل عمران : ٦١ .

١٦٧

يوم القيامة كلّ واحدة منهم بشرارهم و جئناهم بالحجاج لغلبنا جميعهم لم يرضه ، فقال الاسكافي أحد أئمتهم في نقض ( عثمانيته ) : امتنع ابن عمر من بيعة عليعليه‌السلام و طرق على الحجاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك كيلا يبيت تلك الليلة بلا إمام ، زعم لأنّه روي ان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال « من مات و لا إمام له مات ميتة جاهلية »(١) و حتى بلغ من احتقار الحجاج له و استرذاله حاله أن أخرج رجله من الفراش فقال : اصفق بيدك عليها قال و رواه بعضهم و زاد : و لما خرج قال الحجاج : ما أحمق هذا يترك بيعة علي و يأتيني مبايعا في ليله .

٢ الخطبة ( ٩١ ) إِنَّ اَلْفِتَنَ

إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَتٍ وَ يُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ يَحُمْنَ حَوْلَ اَلرِّيَاحِ يُصِبْنَ بَلَداً وَ يُخْطِئْنَ بَلَداً أقول : رواه الثقفي في أول ( غاراته ) باسنادين عن زر بن حبيش عنهعليه‌السلام : الأول عن إسماعيل بن ابان عن عبد الغفار بن القاسم عن المنصور بن عمرو عن ذر و الثاني عن أحمد بن عمران الأنصاري عن أبيه عن أبن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن زر قال : خطب عليعليه‌السلام بالنهروان إلى أن قال فقام إليه رجل آخر فقال لهعليه‌السلام : حدّثنا عن الفتن قال : ان الفتن إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت نبهت ، يشبهن مقبلات و يعرفن مدبرات ، ان الفتن تحوم كالرياح يصبن بلدا و يخطئن اخرى(٢) .

« ان الفتن إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت نبهت » في ( نهاية الجزري ) : التشابه قسمان ، قسم إذا ردّ إلى المحكم يفهم معناه ، و قسم لا سبيل إلى معرفة

____________________

( ١ ) نقض العثمانية : ٣٠١ .

( ٢ ) الغارات للثقفي : ٧ .

١٦٨

حقيقته ، فالمتتبع له متتبع للفتنة ، لأنّه لا يكاد ينتهي إلى شي‏ء تسكن إليه نفسه ، و منه حديث ذكر فيه فتنة « تشبه مقبلة و تبين مدبرة » أي أنّها إذا أقبلت شبهت على القوم و أرتهم أنّهم على الحق حتى يدخلوا فيها و يركبوا منها ما لا يجوز ، فإذا أدبرت بان أمرها فعلم من دخل فيها أنّه كان على الخطأ(١) .

« ينكرن مقبلات و يعرفن مدبرات » قد عرفت أنّ ( غارات الثقفي ) رواه « يشبهن مقبلات و يعرفن مدبرات » .

« يحمن حول الرياح » هكذا في ( المصرية )(٢) ، و الصواب : « حوم الرياح » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية )(٣) ، مع أنّه لا معنى لما في ( المصرية ) ، فالفتن لا يدرن حول الرياح بل يدرن حول الناس دور الرياح ، من قولهم « حام الطائر حول الشي‏ء حوما » أي دار .

« يصبن بلدا و يخطئن اخرى » أي كما أن الرياح الشديدة تصيب بلدا و تخطى‏ء بلدا كذلك الفتن يصبن بلدا فيبتلى الناس بوخامتهن و يخطئن بلدا فيسلمون منها .

٣ الحكمة ( ٧٦ ) و قالعليه‌السلام :

إِنَّ اَلْأُمُورَ إِذَا اِشْتَبَهَتْ اُعْتُبِرَ آخِرُهَا بِأَوَّلِهَا كان العباسيون يدّعون إجراء العدالة إذا ظهروا إلاّ انّه كان حالهم في الآخر معلومة من أوّلها .

____________________

( ١ ) النهاية لابن الأثير للجزري ٢ : ٤٤٢ .

( ٢ ) الطبعة المصرية : ٢٣٤ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٧ : ٤٤ الخطبة ( ١٩٢ ) ، أمّا شرح ابن ميثم ٢ : ٣٨٨ ، بلفظ « حول » ، أما الخطبة ٧٤ بلفظ « حوم » .

١٦٩

و لما بايعت الأوس أبا بكر لئلا يصير الأمر إلى الخزرج و كانت بينهما رقابة من الجاهلية ، قال لهم المنذر بن الحباب : فعلتموها أما و اللَّه لكأني بأبنائكم على أبواب أبنائهم قد وقفوا يسألونهم بأكفّهم و لا يسقون الماء .

و صار كما قال(١) .

٤ الحكمة ( ٩٣ ) و قالعليه‌السلام :

لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ اَلْفِتْنَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ إِلاَّ وَ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَةٍ وَ لَكِنْ مَنِ اِسْتَعَاذَ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ مُضِلاَّتِ اَلْفِتَنِ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ وَ اِعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ١ ٧ ٨ : ٢٨ وَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَخْتَبِرُهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ لِيَتَبَيَّنَ اَلسَّاخِطَ لِرِزْقِهِ وَ اَلرَّاضِيَ بِقِسْمِهِ وَ إِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ لَكِنْ لِتَظْهَرَ اَلْأَفْعَالُ اَلَّتِي بِهَا يُسْتَحَقُّ اَلثَّوَابُ وَ اَلْعِقَابُ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ اَلذُّكُورَ وَ يَكْرَهُ اَلْإِنَاثَ وَ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ تَثْمِيرَ اَلْمَالِ وَ يَكْرَهُ اِنْثِلاَمَ اَلْحَالِ و هذا من غريب ما سمع منه في التفسير « لا يقولن أحدكم اللّهم اني أعوذ بك من الفتنة » قال ابن بابويه في ( توحيده ) :

الفتنة على عشرة أوجه : فوجه الضلال ، و الثاني : الاختبار و هو قوله تعالى .( و فتناك فتونا ) .(٢) ( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون ) (٣) و الثالث : الحجّة و هو قوله تعالى( ثم لم تكن فتنتهم إلاّ أن قالوا

_ ___________________

( ١ ) التوحيد للصدوق : ٣٨٦ .

( ٢ ) طه : ٤٠ .

( ٣ ) العنكبوت : ١ ٢ .

١٧٠

 و اللَّه ربنا ما كنّا مشركين ) (١) و الرابع : الشرك و هو قوله تعالى .( و الفتنة أشدّ من القتل ) .(٢) و الخامس : الكفر و هو قوله تعالى .( ألا في الفتنة سقطوا ) .(٣) و السادس : الإحراق بالنار و هو قوله تعالى( إن الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات ) . .(٤) و السابع : العذاب كقوله تعالى( يوم هم على النار يفتنون ) (٥) ( ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون ) (٦) .( و من يرد اللَّه فتنته فلن تملك له من اللَّه شيئا ) . .(٧) و الثامن : القتل كقوله تعالى .( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) .(٨) ( فما آمن لموسى إلاّ ذريّة من قومه على خوف من فرعون و ملئهم أن يفتنهم ) .(٩) و التاسع : الصدّ كقوله تعالى( و ان كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا اليك ) .(١٠) و العاشر : شدّة المحنة كقوله تعالى .( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) (١١) ، و قد زاد علي بن ابراهيم وجها آخر ، و هو المحبة كقوله تعالى .( انّما أموالكم و أولادكم فتنة ) .(١٢) و عندي أنّه المحنة بالنون لا المحبة بالباء لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله « الولد مجبنة مبخلة »(١٣) .

____________________

( ١ ) الأنعام : ٢٣ .

( ٢ ) البقرة : ١٩١ .

( ٣ ) التوبة : ٤٩ .

( ٤ ) البروج : ١٠ .

( ٥ ) الذاريات : ١٣ .

( ٦ ) الذاريات : ١٤ .

( ٧ ) المائدة : ٤١ .

( ٨ ) النساء : ١٠١ .

( ٩ ) يونس : ٨٣ .

( ١٠ ) الاسراء : ٧٣ .

( ١١ ) يونس : ٨٥ .

( ١٢ ) الأنفال : ٢٨ .

( ١٣ ) بحار الأنوار ١٠٤ : ٩٧ رواية ٦٠ ب ٢ .

١٧١

قلت : و المفهوم من الخليل أن الأصل في معناه الإحراق ، فقال : الفتن الإحراق(١) ، قال تعالى( يوم هم على النار يفتنون ) (٢) ، و ورق فتين أي فضة محرقة و يقال للحرة فتين كأن حجارتها محرقة .

هذا ، و عن الأصمعي لا يقال أفتنته بل فتنته ، ورد عليه بقول أعشى همدان في سعيد بن جبير :

لئن أفتنتني فهي بالأمس أفتنت سعيدا فأمسى قد قلى كلّ مسلم(٣) و عن ام عمرو بنت الأهتم : مررنا بمجلس فيه سعيد بن جبير و نحن جوار و معنا جارية تغني بدف معها و تنشد البيت « لئن أفتنتني . » ، فقال سعيد : كذبتن كذبتن .

« لأنّه ليس أحد إلاّ و هو مشتمل على فتنة » و لو بالمال أو الولد ، و لأنّ سنته تعالى فتن عباده و لن تجد لسنته تبديلا ، قال تعالى( أحسب الناس ان يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون و لقد فتنا الذين من قبلهم فَليعلمنَّ اللَّه الذين صدقوا و ليعلَمَنَّ الكاذبين ) (٤) .

« و لكن من استعاذ فليستعذ باللَّه من مضلاّت الفتن » كما في فتنة بني اسرائيل بالعجل الذي أضلّهم السامري به حتى تركوا هارون و أرادوا قتله .

و كما في فتنة المسلمين بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بمثل فتنة بني اسرائيل بجعل الثاني الأول عجله حتى تركوا خليفة نبيّهم و أرادوا قتله ، و كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم في المتواتر : لتتبعن بني إسرائيل حذوا بحذو حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه .

____________________

( ١ ) العين لأحمد الفراهيدي ٨ : ١٢٧ مادة ( فتن ) .

( ٢ ) الذاريات : ١٣ .

( ٣ ) العين للفراهيدي ٨ : ١٢٨ مادة ( فتن ) .

( ٤ ) العنكبوت : ٢ ٣ .

١٧٢

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) في قصة السقيفة فأخرجوا عليّا فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع فقال : إن أنا لم أفعل فمه ؟ قالوا : إذن و اللَّه الذي لا إله إلاّ هو لضرب عنقك قال : إذن تقتلون عبد اللَّه و أخا رسوله قال عمر : أما عبد اللَّه فنعم و أما أخو رسوله فلا و أبو بكر ساكت لا يتكلّم ، فقال له عمر : ألا تأمر فيه ؟ فقال : لا اكرهه على شي‏ء ما كانت فاطمة إلى جنبه فلحق علي بقبر رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يصيح و يبكي و ينادي : يابن امّ إن القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني إلى آخر ما ذكر(١) .

هذا ، و روى ( توحيد الصدوق ) أنّه تعالى قال : إنّ من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفّه عنه لئلا يدخله عجب فيفسده ، و إنّ منهم لمن لا يصلح ايمانه إلاّ بالفقر و لو أغنيته لأفسده ، و إنّ منهم لمن لا يصلح ايمانه إلاّ بالغنى و لو أفقرته لأفسده ، و ان منهم لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالسقم و لو صححت جسده لأفسده ذلك ، و إنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالصحّة و لو أسقمته لأفسده ، و إنّي ادبر عبادي بعلمي بقلوبهم فإنّي عليم خبير(٢) .

« فإنّ اللَّه سبحانه يقول( و اعلموا أنّما أموالكم و أولادكم فتنة و أن اللَّه عنده أجر عظيم ) (٣) .

« و معنى ذلك أنّه سبحانه » سقطت كلمة « سبحانه » من ( المصرية )(٤) مع وجودها في ( ابن ميثم و ابن أبي الحديد و الخطية )(٥) .

____________________

( ١ ) الخلفاء لابن قتيبة : ١٣ .

( ٢ ) التوحيد للصدوق : ٣٩٨ ح ١ .

( ٣ ) الأنفال : ٢٨ .

( ٤ ) الطبعة المصرية : ٦٧٧ .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٢٤٨ ، و ابن ميثم ٥ : ٢٨٧ .

١٧٣

« يختبرهم » أي : يمتحنهم .

« بالأموال و الأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه » في الأموال .

« و الراضي بقسمه » في الأولاد .

« و إن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم » .( فليعلمن اللَّه الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين ) (١) .

« و لكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب و العقاب » لأن الجزاء على العمل لا مجرّد النيّة و مقتضى الطوية ، و إن كان هو تعالى يثيب على مجردهما تفضلا و لا يؤاخذ على صرفهما تكرّما .

« لأنّ بعضهم يحب الذكور و يكره الاناث » حتى قال تعالى( في مثلهم و إذا بُشّر أحدهم بالانثى ظلّ وجهه مسودّا و هو كظيم يتوارى عن القوم من سوء ما بُشّر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون ) (٢) .

قالوا : و لحب الناس الذكور و كراهتم للإناث و كان الواجب عليهم التسليم لمشيته تعالى شأنه قدّم عز و جل هبة الإناث على الذكور فقال .( يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور ) (٣) .

« و بعضهم يحبّ تثمير المال و يكره انثلام الحال » أي وقوع الخلل فيه ، قال تعالى( و إنّه لحبّ الخير لشديد ) (٤) و فسر الخير هنا بالمال .

و قال تعالى في امتحان عبيده بالمال و الولد و غيرهما( و لنبلونكم بشي‏ء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال و الأنفس و الثمرات

_ ___________________

( ١ ) العنكبوت : ٣ .

( ٢ ) النحل : ٥٨ ٥٩ .

( ٣ ) الشورى : ٤٩ .

( ٤ ) العاديات : ٨ .

١٧٤

 و بشّر الصابرين ) (١) .

« و هذا من غريب ما سمع منه في التفسير » و لو كان قال ما روي عنهعليه‌السلام بدل ما سمع منهعليه‌السلام كان أحسن .

جعله من غريب التفسير لأنّ المتبادر من كون الأموال فتنة أنّ الانسان يطغى أن رآه استغنى ، و أنّ كثيرا من الناس يميل المال بهم إلى الشهوات كما أنّ كثيرا منهم يصعب عليهم إخراج الحقوق التي أوجب اللَّه تعالى عليهم في المال فيهلكون كما ان المتبادر من كون الأولاد فتنة أنّهم يصيرون سببا للتخلّف عن الجهاد ، و البخل عن الزكاة ، و تحصيل المال لهم من غير طريق المشروع لو ضاق عليه المشروع و لموافقة الآباء غالبا أهواء أبنائهم المهوية ، كما اتفق للزبير مع ابنه ، فقالعليه‌السلام : ما زال الزبير منّا حتى نشأ ابنه الميشوم .

و روت العامة في تفسير الآية عن بريدة : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخطب فجاء الحسن و الحسينعليهما‌السلام و عليهما قميصان أحمران يمشيان و يعثران ، فنزل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إليهما فأخذهما و وضعهما في حجره على المنبر و قال : صدق اللَّه تعالى( انّما أموالكم و أولادكم فتنة ) .(٢) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان و يعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي و رفعتهما(٣) .

هذا ، و مما روي عنهعليه‌السلام من غريب التفسير غير ما مرّ أنّهعليه‌السلام قال :

الاستثناء في اليمين متى ما ذكر و لو بعد أربعين صباحا ثم تلا هذه الآية . و اذكر ربّك إذا نسيت .(٤) .

و أنّهعليه‌السلام قال : تستحب المقاربة مع أهله ليلة أول شهر الصيام لقوله

____________________

( ١ ) البقرة : ١٥٥ .

( ٢ ) التغابن : ١٥ .

( ٣ ) سنن الترمذي ٥ : ٦١٦ ح ٣٧٧٤ .

( ٤ ) الكافي ٧ : ٤٤٨ الرواية ٦ ، و الآية ٢٤ من سورة الكهف .

١٧٥

تعالى( اُحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) . .(١) .

٥ في الخطبة ( ١٤٣ ) منها :

وَ مَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ فَاتَّقُوا اَلْبِدَعَ وَ اِلْزَمُوا اَلْمَهْيَعَ إِنَّ عَوَازِمَ اَلْأُمُورِ أَفْضَلُهَا إِنَّ مُحْدَثَاتِهَا شِرَارُهَا « و ما احدثت بدعة إلاّ ترك بها سنة » قال ابن أبي الحديد : البدعة كلّ ما لم يكن في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمنها الحسن كصلاة التراويح و منها القبيح كالمنكرات التي ظهرت أواخر الخلافة العثمانية و إن كانت قد تكلّفت الأعذار عنها(٢) .

قلت : صلاة التراويح أيضا من بدع ، قالعليه‌السلام ترك بها سنة ، و كيف تكون حسنة و كانت تشريعا في قبال الدين ، و إنما التشريع للَّه تعالى( ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون إنّ لكم فيه لما تخيرون ) (٣) .

ما كان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يشرّع شيئا من قبل نفسه إلاّ بوحي منه تعالى إليه ، فكيف كان لعمر الذي أفحمته مرأة في أنفها فطس في حظره جعل الصداق أكثر من خمسمائة درهم بأنّه تعالى قال .( و آتيتم إحداهن قنطاراً ) .(٤) فقال : كل الناس أفقه من عمر .

و روى سليم بن قيس الهلالي في كتابه أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام خطب فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه

____________________

( ١ ) البقرة : ١٨٧ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ٩٤ .

( ٣ ) القلم : ٣٦ ٣٨ .

( ٤ ) النساء : ٢٠ .

١٧٦

ناقضين لعهده مغيّرين لسنّته ، و لو حملت الناس على تركها تفرّق عني جندي حتى أبقى وحدي و قليل من شيعتي ، و اللَّه لقد أمرت أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة و أعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي يا أهل الاسلام لقد غيرت سنّة عمر نهينا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا ، و قد خفت أن يثوروا في ناحية عسكري(١) .

و روى محمد بن علي بن بابويه عن الباقر و الصادقعليهما‌السلام : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان في جماعة بدعة ، و صلاة الضحى بدعة ، ألا و إنّ كلّ بدعة ضلالة و كلّ ضلالة سبيلها إلى النار(٢) .

و روى محمد بن يعقوب الكليني : إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام مر برجل يصلّي الضحى في مسجد الكوفة ، فغمز جنبه بالدرة و قال : نحرت صلاة الأوابين نحرك اللَّه(٣) .

و أما أعمال عثمان و لم قال كالمنكرات التي ظهرت أواخر الخلافة العثمانية كنفيه أبا ذر و ضربه عمارا و نهبه بيت المال لأقاربه و توليته لهم حتى يصلّوا بالناس سكارى و يصلّوا الصبح أربعا و يغنوا في الصلاة و غيرها من نظائرها فشنائع ينكرها الموحد و الملحد و المسلم و الكافر .

و أما ما قاله من تكلّف الأعذار الذي نوريهم ، فالتكلّف لعدم منكرية عداوة أبي جهل مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أقرب إلى العقول منه .

ثم جعلها في عداد البدع كصلاة التراويح في غير محله .

____________________

( ١ ) سليم بن قيس ، لا وجود له في الطبعة النجفية ، لعل المؤلف أخذه من البحار حيث ذكر المجلسي في ٩٦ : ٢٠٣ الرواية ٢١ باب ٢٤ .

( ٢ ) الفقيه للصدوق ٢ : ١٣٧ الرواية ١٩٦٤ باب ٢ .

( ٣ ) الكافي ٣ : ٤٥٢ رواية ٨ .

١٧٧

« فاتقوا البدع » روى ابن بابويه عن الصادقعليه‌السلام : من مشى إلى صاحب بدعة فوقرها فقد مشى في هدم الإسلام(١) .

« و الزموا المهيع » أي الطريق الواسع و هو طريق الاسلام ، قال تعالى( و إنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ) . .(٢) .

« إنّ عوازم الامور أفضلها » قال ابن أبي الحديد : عوازم ما تقادم منها من قولهم « عجوز عوزم » أي مسنّة ، و يجوز أن يكون جمع عازمة بمعنى مفعول أي معزوم عليها ، أي مقطوع معلوم بيقين صحتها ، و الأول أظهر لأن في مقابلته « و ان محدثاتها » و المحدث في مقابلة القدم(٣) .

قلت : بل الظاهر أن « عوازم » محرف « قدائم » جمع قديم للتشابه الخطي بينهما ، لأن العزم في مقابل الرخصة لا المحدث ، يقال عزائم القرآن و رخصه ، ثم جمع العوزم بالعوازم كما قاله غير معلوم .

٦ الخطبة ( ٥٠ ) و من كلام لهعليه‌السلام :

إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ اَلْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَ أَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اَللَّهِ وَ يَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً عَلَى غَيْرِ دِينِ اَللَّهِ فَلَوْ أَنَّ اَلْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ اَلْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى اَلْمُرْتَادِينَ وَ لَوْ أَنَّ اَلْحَقَّ خَلَصَ مِنْ اَلْبَاطِلِ اِنْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ اَلْمُعَانِدِينَ وَ لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَ مِنْ هَذَا

____________________

( ١ ) الفقيه للصدوق ٣ : ٥٧٢ ح ٤٩٥٧ الباب ٢ .

( ٢ ) الأنعام : ١٥٣ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ٩٤ .

١٧٨

ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي اَلشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَ يَنْجُو اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ ٢ ٤ ٢١ : ١٠١ مِنَ اَللَّهِ اَلْحُسْنى‏ ٦ ٦ ٢١ : ١٠١ أقول : رواه الكليني في ( بدع كافيه ) بإسنادين عن عاصم بن حميد عن محمد ابن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : خطب أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال : أيها الناس إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع و أحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب اللَّه ، يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا ، فهنا لك استحوذ الشيطان على أوليائه و نجا الذين سبقت لهم منه الحسنى(١) .

و رواه في ( روضته ) مع زيادات ، فروى عن سليم بن قيس قال : خطب عليعليه‌السلام فقال : إنّما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع و أحكام تبتدع ، يخالف فيها حكم اللَّه ، يتولى فيها رجال رجالا ، إنّ الحق لو خلص لم يكن اختلاف و لو أنّ الباطل خلص لم يخف على ذي حجى ، لكنّه يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان فيجتمعان فيجللان معا ، فهنا لك يستولي الشيطان على أوليائه و نجا الذين سبقت لهم الحسنى ، إنّي سمعت رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :

كيف أنتم إذا لبستكم فتنة تربو فيها الصغير و يهرم فيها الكبير يجري الناس عليها و يتخذونها سنة ، فإذا غيّر منها شي‏ء قيل قد غيّرت السنّة ، و قد أتى الناس منكرا ثم تشتدّ البلية و تسبى الذريّة و تدقهم الفتنة كما تدقّ النار الحطب و كما تدقّ الرحى بثفالها ، و يتفقهون لغير اللَّه و يتعلمون لغير العمل و يطلبون الدنيا بأعمال الآخرة .

ثم أقبل بوجهه و حوله ناس من أهل بيته و خاصته و شيعته فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه ناقضين بعهده مغيّرين لسنّته ، و لو حملت الناس على تركها و حوّلتها إلى مواضعها

____________________

( ١ ) الكافي ١ : ٥٤ رواية ١ و أيضا ٨ : ٥٨ الرواية ٢١ .

١٧٩

و الى ما كانت في عهد رسول اللَّه لتفرّق عني جندي حتى أبقى وحدي أو مع قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي و فرض إمامتي من كتاب اللَّه و سنّة رسوله ، أرأيتم لو أمرت بمقام ابراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول اللَّه و رددت فدك إلى ذريّة فاطمة و رددت صاع رسول اللَّه كما كان و أمضيت قطائع أقطعها النبي لأقوام لم تمض لهم و لم تنفذ و رددت دار جعفر إلى ورثته و هدمتها من المسجد و رددت قضايا من الجور قضي بها و نزعت نساء تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن و استقبلت بهن الحكم ( في الفروج و الأحكام ) و سبيت ذراري بني تغلب و رددت ما قسم من أرض خيبر و محيت دواوين العطاء و أعطيت كما كان النبي يعطي بالسوية و لم أجعلها دولة بين الأغنياء و ألقيت المساحة و سويت بين المناكح و أنفذت خمس الرسول كما أنزل اللَّه عز و جل و فرضه و رددته إلى ما كان عليه و سددت ما فتح من الأبواب و فتحت ما سد منه و حرمت المسح على الخفين و حددت على النبيذ و أمرت باحلال المتعتين و أمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات و ألزمت الناس الجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم و أخرجت من ادخل مع رسول اللَّه في مسجده ممن كان رسول اللَّه أخرجه و أدخلت من اخرج بعد رسول اللَّه و حملت الناس على حكم القرآن ( في ) الطلاق على السنّة و أخذت الصدقات على أصنافها و حدودها و رددت الوضوء و الغسل و الصلاة إلى مواقيتها و شرائعها و حدودها و رددت أهل نجران إلى مواضعهم و رددت سبايا فارس و سائر الامم إلى كتاب اللَّه و سنّة نبيّه ، إذن لتفرّقوا عني ، و اللَّه لقد أمرت الناس ألا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة و أعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : يا أهل الاسلام غيّرت سنّة عمر نهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا ، و لقد خفت أن

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459