الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 123885 / تحميل: 6081
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

( سورة المؤمنون مكّيّة و هي مائة و ثماني عشرة آية)

( سورة المؤمنون الآيات ١ - ١١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( ١ ) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ( ٢ ) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ( ٣ ) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ( ٤ ) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ( ٥ ) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ( ٦ ) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ( ٧ ) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ( ٨ ) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( ٩ ) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ( ١٠ ) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ١١ )

( بيان‏)

في السورة دعوة إلى الإيمان بالله و اليوم الآخر و تمييز المؤمنين من الكفّار بذكر ما لهؤلاء من جميل صفات العبوديّة و ما لاُولئك من رذائل الأخلاق و سفاسف الأعمال، و تعقيب ذلك بالتبشير و الإنذار، و قد تضمّن الإنذار ذكر عذاب الآخرة و ما غشي الاُمم المكذّبين للدعوة الحقّة من عذاب الاستئصال في مسير الدعوة آخذاً من زمن نوح إلى زمن المسيح عيسى بن مريمعليهم‌السلام .

و السورة مكّيّة، و سياق آياتها يشهد بذلك.

قوله تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) قال الراغب: الفلح - بالفتح فالسكون -

٢

الشقّ، و قيل: الحديد بالحديد يفلح أي يشقّ، و الفلاح الظفر و إدراك بغية و ذلك ضربان: دنيويّ و اُخرويّ، فالدنيويّ الظفر بالسعادات الّتي تطيب بها الحياة الدنيا و هو البقاء و الغنى و العزّ، و الاُخرويّ أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، و غنى بلا فقر، و عزّ بلا ذلّ، و علم بلا جهل، و لذلك قيل: لا عيش إلّا عيش الآخرة. انتهى ملخّصا. فتسمية الظفر بالسعادة فلاحاً بعناية أنّ فيه شقّاً للمانع و كشفا عن وجه المطلوب.

و الإيمان هو الإذعان و التصديق بشي‏ء بالالتزام بلوازمه، فالإيمان بالله في عرف القرآن التصديق بوحدانيّته و رسله و اليوم الآخر و بما جاءت به رسله مع الاتّباع في الجملة، و لذا نجد القرآن كلّما ذكر المؤمنين بوصف جميل أو أجر جزيل شفّع الإيمان بالعمل الصالح كقوله:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ) النحل: ٩٧ و قوله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى‏ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ ) الرعد: ٢٩، إلى غير ذلك من الآيات و هي كثيرة جدّاً.

و ليس مجرّد الاعتقاد بشي‏ء إيماناً به حتّى مع عدم الالتزام بلوازمه و آثاره فإنّ الإيمان علم بالشي‏ء مع السكون و الاطمئنان إليه و لا ينفكّ السكون إلى الشي‏ء من الالتزام بلوازمه لكنّ العلم ربّما ينفك من السكون و الالتزام ككثير من المعتادين بالأعمال الشنيعة أو المضرّة فإنّهم يعترفون بشناعة عملهم أو ضرره لكنّهم لا يتركونها معتذرين بالاعتياد و قد قال تعالى:( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) النمل: ١٤.

و الإيمان و إن جاز أن يجتمع مع العصيان عن بعض لوازمه في الجملة لصارف من الصوارف النفسانيّة يصرف عنه لكنّه لا يتخلّف عن لوازمه بالجملة.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) الخشوع تأثّر خاصّ من المقهور قبال القاهر بحيث ينقطع عن غيره بالتوجّه إليه و الظاهر أنّه من صفات القلب ثمّ ينسب إلى الجوارح أو غيرها بنوع من العناية كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - على ما روي - فيمن يعبث بلحيته في الصلاة: أمّا إنّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه‏، و قوله تعالى:( وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ ) طه: ١٠٨.

٣

و الخشوع بهذا المعنى جامع لجميع المعاني الّتي فسّر بها الخشوع في الآية، كقول بعضهم: هو الخوف و سكون الجوارح، و قول آخرين: غضّ البصر و خفض الجناح، أو تنكيس الرأس، أو عدم الالتفات يميناً و شمالاً، أو إعظام المقام و جمع الاهتمام، أو التذلّل إلى غير ذلك.

و هذه الآية إلى تمام ثماني آيات تذكر من أوصاف المؤمنين ما يلازم كون وصف الإيمان حيّاً فعّالاً يترتّب عليه آثاره المطلوبة منه ليترتّب عليه الغرض المطلوب منه و هو الفلاح فإنّ الصلاة توجّه ممّن ليس له إلّا الفقر و الذلّة إلى ساحة العظمة و الكبرياء و منبع العزّة و البهاء و لازمه أن يتأثّر الإنسان الشاعر بالمقام فيستغرق في الذلّة و الهوان و ينتزع قلبه عن كلّ ما يلهوه و يشغله عمّا يهمّه و يواجهه، فلو كان إيمانه إيماناً صادقاً جعل همّه حين التوجّه إلى ربّه همّاً واحداً و شغله الاشتغال به عن الالتفات إلى غيره فما ذا يفعل الفقير المحض إذا لقي غني لا يقدّر بقدر؟ و الذليل إذا واجه عزّة مطلقة لا يشوبها ذلّة و هوان؟

و هذا معنى‏ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث حارثة بن النعمان المرويّ في الكافي، و غيره: إنّ لكلّ حقّ حقيقة و لكلّ صواب نوراً. الحديث.

( كلام في معنى تأثير الإيمان‏)

الدين - كما تقدّم مراراً - السنّة الاجتماعيّة الّتي يسير بها الإنسان في حياته الدنيويّة الاجتماعيّة، و السنن الاجتماعيّة متعلّقة بالعمل مبنيّاً على أساس الاعتقاد في حقيقة الكون و الإنسان الّذي هو جزء من أجزائه، و من هنا ما نرى أنّ السنن الاجتماعيّة تختلف باختلاف الاعتقادات فيما ذكر.

فمن يثبت للكون ربّاً يبتدئ منه و سيعود إليه و للإنسان حياة باقية لا تبطل بموت و لا فناء يسير في الحياة سيرة يراعي في الأعمال الجارية فيها سعادة الحياة الباقية و التنعّم في الدار الآخرة الخالدة.

و من يثبت له إلهاً أو آلهة تدبّر الأمر بالرضا و السخط من غير معاد إليه يعيش

٤

عيشة نظمها على أساس التقرّب من الآلهة و إرضائها للفوز بأمتعة الحياة و الظفر بما يشتهيه من نعم الدنيا.

و من لا يهتمّ بأمر الربوبيّة و لا يرى للإنسان حياة خالدة كالمادّيّين و من يحذو حذوهم يبني سنّة الحياة و القوانين الموضوعة الجارية في مجتمعة على أساس التمتّع من الحياة الدنيا المحدودة بالموت.

فالدين سنّة عمليّة مبنيّة على الاعتقاد في أمر الكون و الإنسان بما أنّه جزء من أجزائه، و ليس هذا الاعتقاد هو العلم النظريّ المتعلّق بالكون و الإنسان فإنّ العلم النظريّ لا يستتبع بنفسه عملاً و إن توقّف عليه العمل بل هو العلم بوجوب الجري على ما يقتضيه هذا النظر و إن شئت فقل: الحكم بوجوب اتّباع المعلوم النظريّ و الالتزام به و هو العلم العمليّ كقولنا: يجب أن يعبد الإنسان الإله تعالى و يراعي في أعماله ما يسعد به في الدنيا و الآخرة معاً.

و معلوم أنّ الدعوة الدينيّة متعلّقة بالدين الّذي هو السنّة العمليّة المبنيّة على الاعتقاد، فالإيمان الّذي يتعلّق به الدعوة هو الالتزام بما يقتضيه الاعتقاد الحقّ في الله سبحانه و رسله و اليوم الآخر و ما جاءت به رسله و هو علم عمليّ.

و العلوم العمليّة تشتدّ و تضعف حسب قوّة الدواعي و ضعفها فإنّا لسنا نعمل عملاً قطّ إلّا طمعاً في خير أو نفع أو خوفاً من شرّ أو ضرر، و ربّما رأينا وجوب فعل لداع يدعو إليه ثمّ صرفنا عنه داع آخر أقوى منه و آثر، كمن يرى وجوب أكل الغذاء لرفع ما به من جوع فيصرفه عن ذلك علمه بأنّه مضرّ له مناف لصحّته، فبالحقيقة يقيّد الداعي المانع بما معه من العلم إطلاق العلم الّذي مع الداعي الممنوع كأنّه يقول مثلاً: إنّ التغذّي لرفع الجوع ليس يجب مطلقاً بل إنّما يجب إذا لم يكن مضرّاً بالبدن مضادّاً لصحّته.

و من هنا يظهر أنّ الإيمان بالله إنّما يؤثّر أثره من الأعمال الصالحة و الصفات الجميلة النفسانيّة كالخشية و الخشوع و الإخلاص و نحوها إذا لم تغلبه الدواعي الباطلة و التسويلات الشيطانيّة، و بعبارة اُخرى إذا لم يكن إيماناً مقيّداً بحال دون

٥

حال كما قال تعالى:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى‏ حَرْفٍ ) الحجّ: ٦١.

فالمؤمن إنّما يكون مؤمناً على الإطلاق إذا جرت أعماله على حاقّ ما يقتضيه إيمانه من الخشوع في عبادته و الإعراض عن اللغو و نحوه.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) اللغو من الفعل هو ما لا فائدة فيه و يختلف باختلاف الاُمور الّتي تعود عليها الفائدة فربّ فعل هو لغو بالنسبة إلى أمر و هو بعينه مفيد مجد بالنسبة إلى أمر آخر.

فاللغو من الأفعال في نظر الدين الأعمال المباحة الّتي لا ينتفع بها في الآخرة أو في الدنيا بحيث ينتهي أيضاً إلى الآخرة كالأكل و الشرب بداعي شهوة التغذّي اللّذين يتفرّع عليهما التقوي على طاعة الله و عبادته، فإذا كان الفعل لا ينتفع به في آخرة و لا في دنيا تنتهي بنحو إلى آخرة فهو اللغو و بنظر أدقّ هو ما عدا الواجبات و المستحبّات من الأفعال.

و لم يصف سبحانه المؤمنين بترك اللغو مطلقاً فإنّ الإنسان في معرض العثرة و مزلّة الخطيئة و قد عفا عن السيّئات إذا اجتنبت الكبائر كما قال:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً ) النساء: ٣١.

بل وصفهم بالإعراض عن اللغو دون مطلق تركه و الإعراض يقتضي أمراً بالفعل يدعو إلى الاشتغال به فيتركه الإنسان صارفاً وجهه عنه إلى غيره لعدم اعتداده به و اعتنائه بشأنه، و لازمه ترفّع النفس عن الأعمال الخسيسة و اعتلاؤها عن الاشتغال بما ينافي الشرف و الكرامة و تعلّقها بعظائم الاُمور و جلائل المقاصد.

و من حقّ الإيمان أن يدعو إلى ذلك فإنّ فيه تعلّقاً بساحة العظمة و الكبرياء و منبع العزّة و المجد و البهاء و المتّصف به لا يهتمّ إلّا بحياة سعيدة أبديّة خالدة فلا يشتغل إلّا بما يستعظمه الحقّ و لا يستعظم ما يهتمّ به سفلة الناس و جهلتهم،( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ) ،( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) .

و من هنا يظهر أنّ وصفهم بالإعراض عن اللغو كناية عن علوّ همّتهم و كرامة نفوسهم.

٦

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ ) ذكر الزكاة مع الصلاة قرينة على كون المراد بها الإنفاق الماليّ دون الزكاة بمعنى تطهير النفس بإزالة رذائل الأخلاق عنها و لعلّ المراد بالزكاة المعنى المصدريّ و هو تطهير المال بالإنفاق منه دون المقدار المخرج من الم فإنّ السورة مكّيّة و تشريع الزكاة المعهودة في الإسلام إنّما كان بالمدينة ثمّ صار لفظ الزكاة علما بالغلبة للمقدار المعيّن المخرج من المال.

و بهذا يستصحّ تعلّق( لِلزَّكاةِ ) بقوله:( فاعِلُونَ ) و المعنى: الّذين هم فاعلون للإنفاق الماليّ و أمّا لو كان المراد بالزكاة نفس المال المخرج لم يصحّ تعلّقه به إذ المال المخرج ليس فعلاً متعلّقاً بفاعل، و لذا قدّر بعض من حمل الزكاة على هذا المعنى لفظ التأدية فكان التقدير عنده و الّذين هم لتأدية الزكاة فاعلون، و لذا أيضاً فسّر بعضهم الزكاة بتطهير النفس عن الأخلاق الرذيلة فراراً من تعلّق( لِلزَّكاةِ ) بقوله:( فاعِلُونَ ) .

و في التعبير بقوله:( لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ ) دون أن يقول: للزكاة مؤدّون أو ما يؤدّي معناه دلالة على عنايتهم بها كقول القائل: إنّي شارب لمن أمره بشرب الماء فإذا أراد أن يفيد عنايته به قال: إنّي فاعل.

و من حقّ الإيمان بالله أن يدعو إلى هذا الإنفاق الماليّ فإنّ الإنسان لا ينال كمال سعادته إلّا في مجتمع سعيد ينال فيه كلّ ذي حقّ حقّه و لا سعادة لمجتمع إلّا مع تقارب الطبقات في التمتّع من مزايا الحياة و أمتعة العيش، و الإنفاق الماليّ على الفقراء و المساكين من أقوى ما يدرك به هذه البغية.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ) إلى آخر الآيات الثلاث، الفروج جمع فرج و هو - على ما قيل - ما يسوء ذكره من الرجال و النساء، و حفظ الفروج كناية عن الاجتناب عن المواقعة سواء كانت زنا أو لواطاً أو بإتيان البهائم و غير ذلك.

و قوله:( إِلَّا عَلى‏ أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) استثناء من حفظ الفروج، و الأزواج الحلائل من النساء، و ما ملكت أيمانهم الجواري المملوكة فإنّهم غير ملومين في مسّ الأزواج الحلائل و الجواري المملوكة.

٧

و قوله:( فَمَنِ ابْتَغى‏ وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) تفريع على ما تقدّم من الاستثناء و المستثنى منه أي إذا كان مقتضى الإيمان حفظ الفروج مطلقاً إلّا عن طائفتين من النساء هما الأزواج و ما ملكت أيمانهم، فمن طلب وراء ذلك أي مسّ غير الطائفتين فاُولئك هم المتجاوزون عن الحدّ الّذي حدّه الله تعالى لهم.

و قد تقدّم كلام ما فيما يستعقبه الزنا من فساد النوع في ذيل قوله:( وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى‏ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا ) إسراء: ٣٢ في الجزء الثالث عشر من الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ ) الأمانة مصدر في الأصل و ربّما اُريد به ما ائتمن عليه من مال و نحوه، و هو المراد في الآية، و لعلّ جمعه للدلالة على أقسام الأمانات الدائرة بين الناس، و ربّما قيل بعموم الأمانات لكلّ تكليف إلهيّ اؤتمن عليه الإنسان و ما اؤتمن عليه من أعضائه و جوارحه و قواه أن يستعملها فيما فيه رضي الله و ما ائتمنه عليه الناس من الأموال و غيرها، و لا يخلو من بعد بالنظر إلى ظاهر اللفظ و إن كان صحيحاً من جهة تحليل المعنى و تعميمه.

و العهد بحسب عرف الشرع ما التزم به بصيغة العهد شقيق النذر و اليمين، و يمكن أن يراد به مطلق التكليف المتوجّه إلى المؤمن فإنّ الله سبحانه سمّى إيمان المؤمن به عهداً و ميثاقاً منه على ما توجّه إليه من تكاليفه تعالى بقوله:( أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ) البقرة: ١٠٠، و قوله:( وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ ) الأحزاب: ١٥، و لعلّ إرادة هذا المعنى هو السبب في إفراد العهد لأنّ جميع التكاليف يجمعها عهد واحد بإيمان واحد.

و الرعاية الحفظ، و قد قيل: إنّ أصل الرعي حفظ الحيوان إمّا بغذائه الحافظ لحياته أو بذبّ العدوّ عنه ثمّ استعمل في الحفظ مطلقاً. انتهى. و لعلّ العكس أقرب إلى الاعتبار.

و بالجملة الآية تصف المؤمنين بحفظ الأمانات من أن تخان و العهد من أن ينقض، و من حقّ الإيمان أن يدعو إلى ذلك فإنّ في إيمانه معنى السكون و الاستقرار و الاطمئنان فإذا آمن أحد في أمانة أودعها عنده أو عهد عاهده و قطع على ذلك

٨

استقرّ عليه و لم يتزلزل بخيانة أو نقض.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ ) جمع الصلاة و تعليق المحافظة عليه دليل على أنّ المراد المحافظة على العدد فهم يحافظون على أن لا يفوتهم شي‏ء من الصلوات المفروضة و يراقبونها دائماً و من حقّ إيمانهم أن يدعوهم إلى ذلك.

و لذلك جمعت الصلاة ههنا و اُفردت في قوله:( فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) لأنّ الخشوع في جنس الصلاة على حدّ سواء فلا موجب لجمعها.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) الفردوس أعلى الجنان، و قد تقدّم معناها و شي‏ء من وصفها في ذيل قوله تعالى:( كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ) الكهف: ١٠٧.

و قوله:( الَّذِينَ يَرِثُونَ ) إلخ، بيان لقوله:( الْوارِثُونَ ) و وراثتهم الفردوس هو بقاؤها لهم بعد ما كانت في معرض أن يشاركهم فيها غيرهم أو يملكها دونهم لكنّهم زالوا عنها فانتقلت إليهم، و قد ورد في الروايات أنّ لكلّ إنسان منزلاً في الجنّة و منزلاً في النار فإذا مات و دخل النار ورث أهل الجنّة منزله، و ستوافيك إن شاء الله في بحث روائيّ.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ و قوله:( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) قال: غضّك بصرك في صلاتك و إقبالك عليها.

أقول: و قد تقدّم أنّه من لوازم الخشوع فهو تعريف بلازم المعنى، و نظيره ما رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من أصحاب الجوامع عن عليّعليه‌السلام : أن لا تلتفت في صلاتك.

و في الكافي، بإسناده عن مسمع بن عبدالملك عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق.

أقول: و روي في الدرّ المنثور، عن عدّة من أصحاب الجوامع عن أبي الدرداء

٩

عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما في معناه و لفظه: استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قيل له: و ما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعاً و القلب ليس بخاشع‏.

و في المجمع في الآية روي أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته فقال: أمّا إنّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه.

و فيه، روي: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يرفع بصره إلى السماء في صلاته فلمّا نزلت الآية طأطأ رأسه و رمى ببصره إلى الأرض.

أقول: و رواهما في الدرّ المنثور، عن جمع من أصحاب الكتب عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . و في معنى الخشوع روايات اُخر كثيرة.

و في إرشاد المفيد، في كلام لأمير المؤمنينعليه‌السلام : كلّ قول ليس فيه لله ذكر فهو لغو.

و في المجمع في قوله:( وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) و روي عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: أن يتقوّل الرجل عليك بالباطل أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه لله و في رواية اُخرى أنّه الغناء و الملاهي.

أقول: ما في روايتي المجمع، من قبيل ذكر بعض المصاديق و ما في رواية الإرشاد، من التعميم بالتحليل‏

و في الخصال، عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : تحلّ الفروج بثلاثة وجوه: نكاح بميراث و نكاح بلا ميراث و نكاح بملك يمين‏.

و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن أبي سارة قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عنها يعني المتعة فقال لي: حلال فلا تتزوّج إلّا عفيفة إنّ الله عزّوجلّ يقول:( وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ) فلا تضع فرجك حيث لا تأمن على درهمك.

أقول: و فيه تعميم لمعنى حفظ الفروج بحيث يشمل ترك نكاح غير العفيفة.

و الروايتان كما ترى تعدّان المتعة نكاحاً و ازدواجاً و الأمر على ذلك فيما لا يحصى من روايات أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و على ذلك مبني فقههم.

و الأمر على ذلك في عرف القرآن و في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ذلك أنّه ليس وراء

١٠

ملك اليمين إلّا نوعان: نكاح على الزوجيّة و زنا و قد حرّم الله الزنا و أكّد في تحريمه في آيات كثيرة في السور المكّيّة و المدنيّة كسورتي الفرقان و الإسراء و هما مكّيّتان و سورتي النور و الممتحنة و هما مدنيّتان.

ثمّ سمّاه سفاحاً و حرّمه في سورتي النساء و المائدة ثمّ سمّاه فحشاء و منع عنه و ذمّه في سور الأعراف و العنكبوت و يوسف و هي مكّيّة و في سور النحل و البقرة و النور و هي أو الأخيرتان مدنيّتان.

ثمّ سمّاه فاحشة و نهى عنها في سور الأعراف و الأنعام و الإسراء و النمل و العنكبوت و الشورى و النجم و هي مكّيّة و في سور النساء و النور و الأحزاب و الطلاق و هي مدنيّة.

و نهى عنه أيضاً بالتكنية في آية المؤمنون:( فَمَنِ ابْتَغى‏ وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) و نظيره في سورة المعارج و كان من المعروف في أوّل البعثة من أمر الإسلام أنّه يحرّم الخمر و الزنا(١) .

فلو لم يكن التمتّع ازدواجاً و المتمتّع بها زوجاً مشمولة لقوله:( إِلَّا عَلى‏ أَزْواجِهِمْ ) لكان زنا و من المعلوم بالضرورة أنّ التمتّع كان معمولاً به في مكّة قبل الهجرة في الجملة و كذا في المدينة بعد الهجرة في الجملة و لازم ذلك أن يكون زنا أباحه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لضرورة اقتضته لو أغمضنا عن قوله تعالى:( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) النساء: ٢٤ و لازم ذلك أن تكون آية سورة المؤمنون( إِلَّا عَلى‏ أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ - إلى قوله -العادُونَ ) ، ناسخة لإباحة التمتّع السابقة ثمّ يكون تحليل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو تحليل آية سورة النساء ذلك ناسخاً لجميع الآيات المكّيّة الناهية عن الزنا و بعض المدنيّات ممّا نزلت قبل التحليل، و خاصّة على قول من يقول: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلّله ثمّ حرّمه مرّة(٢) بعد مرّة فإنّ لازمه نسخ

____________________

(١) على ما رواه ابن هشام في السيرة و قد أوردنا الرواية في بحث روائي في ذيل قوله تعالى:( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِـرُ ) الآية من سورة المائدة ج ٦ ص ١٤٦ من الكتاب.

(٢) و قد أوردنا الروايات الدالّة على ذلك في البحث الروائي الموضوع في ذيل قوله تعالى:( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) الآية النساء: ٢٤ ج ٤ ص ٣٠٨.

١١

الآيات الناهية عن الزنا ثمّ إحكامها ثمّ نسخها ثمّ إحكامها مرّات و لم يقل أحد من المسلمين بكونها منسوخة فضلاً عن النسخ بعد النسخ و هل هذا إلّا لعب بكلام الله تجلّ عنه ساحة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

على أنّ الآيات الناهية عن الزنا آبية بسياقها و ما فيه من التعليل آب عن النسخ و كيف يعقل أن يسمّي الله سبحانه فعلاً من الأفعال فاحشة فحشاء و سبيل سوء و يخبر أنّ من يفعله يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة و يخلد فيه مهانا ثمّ يجيز ارتكابه ثمّ يمنع ثمّ يجيز.

على أنّ أصل نسخ القرآن بالحديث لا معنى له(١) .

على أنّ عدّة من المرتكبين لنكاح المتعة في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا من معاريف الصحابة و هم على ما هم عليه من حفظ ظواهر الأحكام فكيف استجازوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفحشاء؟ و كيف لم يستخبثوه؟ و كيف رضوا بالعار و الشنار و قد تمتّع زبير من‏ أسماء بنت أبي بكر فولدت له عبد الله بن زبير و أخاه عروة بن زبير و ورثاه بعد قتله و هم جميعاً من الصحابة.

على أنّ الروايات الدالّة على نهي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المتعة متهافتة، و ما تسلّموا عليه من قول عمر بن الخطّاب حينما نهى أيّام خلافته عن المتعة و ما ورد عنه حول القصّة يكذّب هذه الروايات و يدفع حديث النسخ. و قد مرّ شطر من الكلام في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى:( وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) النساء: ٢٤.

و من لطيف الدلالة على كون المتعة نكاحا غير سفاح اقتران جملة( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ ) إلخ بقوله قبله متّصلاً به( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) .

فقد تبيّن بما ذكرنا أنّ المتعة في الشرع و في عرف القرآن نكاح و زوجيّة لا زنا و سفاح سواء قلنا بكونها منسوخة بعد بكتاب أو سنّة كما عليه معظم أهل السنّة

____________________

(١) و قد بين ذلك في علم الاُصول بما لا مزيد عليه.

١٢

أو لم نقل كما عليه الشيعة تبعا لأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

فالنكاح ينقسم إلى نوعين: نكاح دائم له أحكامه من العدد و الإرث و الإحصان و النفقة و الفراش و العدّة و غير ذلك. و نكاح موقّت مبنيّ على التسهيل له من أحكام النكاح الدائم اختصاص المرأة بالرجل و لحقوق الأولاد و العدّة.

و بذلك يظهر فساد ما ذكره جمع منهم أنّ المتعة ليست بزوجيّة و لو كانت زوجيّة لجرت فيها أحكامها من العدد و الميراث و النفقة و الإحصان و غير ذلك و ذلك أنّ الزوجيّة تتقسّم إلى دائمة لها أحكامها و موقّتة مبنيّة على التسهيل يجري فيها بعض تلك الأحكام كما تقدّم.

و الإشكال بأنّ تشريع الازدواج إنّما هو للتناسل بدوام الزوجيّة و الغرض من المتعة مجرّد دفع الشهوة بصبّ الماء و سفحه فهي سفاح و ليست بنكاح.

فيه أنّ التوسّل إلى النسل حكمة لا علّة يدور مدارها التشريع و إلّا لم يجز نكاح العاقر و اليائسة و الصبيّ و الصبيّة.

على أنّ المتعة لا تنافي الاستيلاد و من الشاهد على ذلك عبدالله و عروة ابنا زبير اُولدا له من أسماء بنت أبي بكر من المتعة.

و كذا الإشكال بأنّ المتعة تجعل المرأة ملعبة يلعب بها الرجل كالكرة الدائرة بين الصوالج ذكره صاحب المنار و غيره.

فيه أنّ هذا يرد أوّل ما يرد على الشارع فإنّ من الضروريّ أنّ المتعة كانت دائرة في صدر الإسلام برهة من الزمان فما أجاب به الشارع كان هو جوابنا.

و ثانياً أنّ جميع ما يقصد بالمتعة من لذّة أو دفع شهوة أو استيلاد أو استئناس أو غير ذلك مشتركة بين الرجل و المرأة فلا معنى لجعلها ملعبة له دون العكس إلّا أن يكابر مكابر.

و للكلام تتمّة ستوافيك في بحث مستقلّ إن شاء الله تعالى.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه عن ابن أبي مليكة قال: سألت عائشة عن متعة النساء قالت: بيني و بينكم كتاب الله و

١٣

قرأت( وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى‏ أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) فمن ابتغى وراء ما زوّجه الله أو ملّكه فقد عدا.

أقول: و روي نظيره عن القاسم بن محمّد، و قد تبيّن بما قدّمنا أنّ المتمتّع بها زوج و أنّ الآية تجيزها على خلاف ما في الرواية.

و في تفسير القمّيّ:( فَمَنِ ابْتَغى‏ وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) قال: من جاوز ذلك.

و فيه:( وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ ) قال: على أوقاتها و حدودها.

و في الكافي، بإسناده عن الفضيل بن يسار قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ ) قال هي الفريضة قلت:( الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) قال: هي النافلة.

و في المجمع، روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: ما منكم من أحد إلّا له منزلان: منزل في الجنّة و منزل في النار فإن مات و دخل النار ورث أهل الجنّة منزله.

أقول: و روى مثله القمّيّ في تفسيره بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في حديث مفصّل و تقدّم نظيره في قوله تعالى:( وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ ) مريم: ٣٩ في الجزء السابق من الكتاب.

( بحث حقوقي اجتماعي)

لا ريب أنّ الّذي يدعو الإنسان و يبعثه نحو الاستنان بالسنن الاجتماعيّة أو وضع القوانين الجارية في المجتمع البشريّ تنبّهه لحوائج الحياة و توسّله بوضعها و العمل بها إلى رفعها.

و كلّما كانت الحاجة أبسط و إلى الطبيعة الساذجة أقرب كان التوسّل إلى رفعها أوجب و الإهمال في دفعها أدهى و أضرّ فما الحاجة إلى أصل التغذّي و الحياة تدور معه كالحاجة إلى التنعّم بألوان الطعام و أنواع الفواكه و هكذا.

و من الحوائج الأوّليّة الإنسانيّة حاجة كلّ من صنفيه: الذكور و الإناث

١٤

إلى الآخرين بالنكاح و المباشرة، و لا ريب أنّ المطلوب بالنظر إلى الصنع و الإيجاد بذلك بقاء النسل و قد جهّز الإنسان بغريزة شهوة النكاح للتوسّل به إلى ذلك.

و لذلك نجد المجتمعات الإنسانيّة الّتي نشاهدها أو نسمع بأخبارها مستنّة بسنّة الازدواج و تكوين البيت، و على ذلك كانت منذ أقدم عهودها فلم يضمن بقاء النسل إلّا الازدواج.

و لا يدفع هذا الّذي ذكرنا أنّ المدنيّة الحديثة وضعت سنّة الازدواج على أصل الاشتراك في الحياة دون أصل التناسل أو إرضاء الغريزة فإنّ هذا البناء على كونه بناء محدثا غير طبيعيّ لم يبعث حتّى الآن شيئاً من المجتمعات المستنّة بها على شيوع هذه الشركة الحيويّة بين الرجال أنفسهم أو النساء أنفسهنّ و ليس إلّا لمباينته ما تبعث إليه الطبيعة الإنسانيّة.

و بالجملة الازدواج سنّة طبيعيّة لم تزل و لا تزال دائرة في المجتمعات البشريّة و لا يزاحم هذه السنّة الطبيعيّة في مسيرها إلّا عمل الزنا الّذي هو أقوى مانع من تكوّن البيوت و تحمّل كلفة الازدواج و حمل أثقاله بانصراف غريزة الشهوة إليه المستلزم لانهدام البيت و انقطاع النسل.

و لذا كانت المجتمعات الدينيّة أو الطبيعة الساذجة تستشنعها و تعدّها فاحشة منكرة و تتوسّل إلى المنع عنه بأيّ وسيلة ممكنة، و المجتمعات المتمدّنة الحديثة و إن لم تسدّ سبيله بالجملة و لم تمنع عنه ذلك المنع لكنّها مع ذلك لا تستحسنه لما ترى من مضادّته العميقة لتكوّن البيوت و ازدياد النفوس و بقاء النسل، و تحتال إلى تقليله بلطائف الحيل و تروّج سنّة الازدواج و تدعو إلى تكثير الأولاد بجعل الجوائز و ترفيع الدرجات و غير ذلك من المشوّقات.

غير أنّه على الرغم من كون سنّة الازدواج الدائم سنّة قانونيّة متّبعة في جميع المجتمعات الإنسانيّة في العالم و تحريض الدول عليها و احتيالها لتضعيف أمر الزنا و صرف الناس لا سيّما الشبّان و الفتيات عنه لا يزال يوجد في جميع البلاد صغيرتها و كبيرتها معاهد لهذا العمل الهادم لبنية المجتمع علنيّة أو سرّيّة على اختلاف السنن

١٥

الجارية فيها.

و هذا أوضح حجّة على أنّ سنّة الازدواج الدائم لا تفي برفع هذه الحاجة الحيويّة للنوع، و أنّ الإنسانيّة بعد في حاجة إلى تتميم نقيصتها هذه، و أنّ من الواجب على من بيده زمام التقنين أن يتوسّع في أمر الازدواج.

و لذلك شفّع شارع الإسلام سنّة الازدواج الدائم بسنّة الازدواج الموقّت تسهيلاً للأمر و شرط فيه شروطاً ترتفع بها محاذير الزنا من اختلاط المياه و اختلال الأنساب و المواريث و انهدام البيوت و انقطاع النسل و عدم لحوق الأولاد و هي اختصاص المرأة بالرجل و العدّة إذا افترقا و لحوق الأولاد ثمّ لها ما اشترطت على زوجها و ليس فيه على الرجل شي‏ء من كلفة الازدواج الدائم و مشقّته.

و لعمر الحقّ إنّها لمن مفاخر الإسلام في شريعته السهلة السمحة نظير الطلاق و تعدّد الزوجات و كثير من قوانينه و لكن ما تغني الآيات و النذر عن قوم لا يسمعون يقول القائل: لئن أزني أحبّ إلي من أن أتمتّع أو اُمتّع.

١٦

( سورة المؤمنون الآيات ١٢ - ٢٢)

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ( ١٢ ) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ( ١٣ ) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ  فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( ١٤ ) ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ ( ١٥ ) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ( ١٦ ) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ( ١٧ ) وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ  وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ( ١٨ ) فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( ١٩ ) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ ( ٢٠ ) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً  نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( ٢١ ) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ( ٢٢ )

( بيان)

لما ذكر سبحانه فلاح المؤمنين بما عندهم من الأوصاف الجميلة عقّبه بشرح خلقهم و خلق ما أنعم عليهم من النعم مقروناً بتدبير أمرهم تدبيراً مخلوطاً بالخلق لينكشف به أنّه هو ربّ للإنسان و لكلّ شي‏ء الواجب أن يعبد وحده لا شريك له.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ) قال في المجمع:

١٧

السلالة اسم لما يسلّ من الشي‏ء كالكساحة اسم لما يكسح انتهى. و ظاهر السياق أنّ المراد بالإنسان هو النوع فيشمل آدم و من دونه و يكون المراد بالخلق الخلق الابتدائيّ الّذي خلق به آدم من الطين ثمّ جعل النسل من النطفة، و تكون الآية و ما بعدها في معنى قوله:( وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) الم السجدة: ٨.

و يؤيّده قوله بعد:( ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً ) إذ لو كان المراد بالإنسان ابن آدم فحسب و كان المراد بخلقه من طين انتهاء النطفة إلى الطين لكان الظاهر أن يقال: ثمّ خلقناه نطفة كما قيل:( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ) إلخ.

و بذلك يظهر أنّ قول بعضهم: إنّ المراد بالإنسان جنس بني آدم، و كذا القول بأنّ المراد به آدمعليه‌السلام غير سديد.

و أصل الخلق - كما قيل - التقدير يقال: خلقت الثوب إذا قسته لتقطع منه شيئاً من اللباس فالمعنى و لقد قدّرنا الإنسان أوّلاً من سلالة من أجزاء الأرض المخلوطة بالماء.

قوله تعالى: ( ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ) النطفة القليل من الماء و ربّما يطلق على مطلق الماء و القرار مصدر اُريد به المقرّ مبالغة و المراد به الرحم الّتي تستقرّ فيها النطفة، و المكين المتمكّن وصفت به الرحم لتمكّنها في حفظ النطفة من الضيعة و الفساد أو لكون النطفة مستقرّة متمكّنة فيها.

و المعنى ثمّ جعلنا الإنسان نطفة في مستقرّ متمكّن هي الرحم كما خلقناه أوّلاً من سلالة من طين أي بدّلنا طريق خلقه من هذا إلى ذاك.

قوله تعالى: ( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً - إلى قوله -فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ) تقدّم بيان مفردات الآية في الآية ٥ من سورة الحجّ في الجزء السابق من الكتاب و في قوله:( فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ) استعارة بالكناية لطيفة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) الإنشاء - كما ذكره الراغب - إيجاد الشي‏ء و تربيته كما أنّ النش‏ء و النشأة إحداثه و تربيته كما يقال للشابّ

١٨

الحديث السنّ ناشئ.

و قد غير السياق من الخلق إلى الإنشاء فقال:( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) دون أن يقال: ثمّ خلقناه إلخ، للدلالة على حدوث أمر حديث ما كان يتضمّنه و لا يقارنه ما تقدّمه من مادّة فإنّ العلقة مثلاً و إن خالفت النطفة في أوصافها و خواصّها من لون و طعم و غير ذلك إلّا أنّ في النطفة مكان كلّ من هذه الأوصاف و الخواصّ ما يجانسه و إن لم يماثله كالبياض مكان الحمرة و هما جميعاً لون بخلاف ما أنشأه الله أخيراً و هو الإنسان الّذي له حياة و علم و قدرة فإنّ ما له من جوهر الذات و هو الّذي نحكي عنه بأنا لم يسبق من سنخه في المراحل السابقة أعني النطفة و العلقة و المضغة و العظام المكسوّة لحما شي‏ء، و لا سبق فيها شي‏ء يناظر ما له من الخواصّ و الأوصاف كالحياة و القدرة و العلم فهو منشأ حادث مسبوق بالعدم.

و الضمير في( أَنْشَأْناهُ ) - على ما يعطيه السياق - للإنسان المخلوق عظاماً مكسوّة باللحم فهو الّذي اُنشئ و اُحدث خلقاً آخر أي بدّل و هو مادّة ميتة جاهلة عاجزة موجوداً ذا حياة و علم و قدرة، فقد كان مادّة لها صفاتها و خواصّها ثمّ برز و هو يغاير سابقته في الذات و الصفات و الخواصّ، فهو تلك المادّة السابقة فإنّها الّتي صارت إنساناً، و ليس بها إذ لا يشاركها في ذات و لا صفات، و إنّما له نوع اتّحاد معها و تعلّق بها يستعملها في سبيل مقاصدها استعمال ذي الآلة للآلة كالكاتب للقلم.

و هذا هو الّذي يستفاد من مثل قوله:( وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) الم السجدة: ١١، فالمتوفّى و المأخوذ عند الموت هو الإنسان، و المتلاشي الضالّ في الأرض هو البدن و ليس به.

و قد اختلف العطف في مفردات الآية بالفاء و ثمّ، و قد قيل في وجهه أنّ ما عطف بثمّ له بينونة كاملة مع ما عطف عليه كما في قوله:( ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً ) ( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ) ،( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) ، و ما لم يكن بتلك البينونة و البعد عطف بالفاء كقوله:( فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ) .

١٩

قوله تعالى: ( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) قال الراغب: أصل البرك - بالفتح فالسكون - صدر البعير. قال: و برك البعير ألقى ركبه و اعتبر منه معنى اللزوم. قال: و سمّي محبس الماء بركة - بالكسر فالسكون - و البركة ثبوت الخير الإلهيّ في الشي‏ء قال تعالى:( لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ) و سمّي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة و المبارك ما فيه ذلك الخير.

قال: و لما كان الخير الإلهيّ يصدر من حيث لا يحسّ و على وجه لا يحصى و لا يحصر قيل لكلّ ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك و فيه بركة. انتهى.

فالتبارك منه تعالى اختصاص بالخير الكثير الّذي يجود به و يفيضه على خلقه و قد تقدّم أنّ الخلق في أصله بمعنى التقدير فهذا الخير الكثير كلّه في تقديره و هو إيجاد الأشياء و تركيب أجزائها بحيث تتناسب فيما بين أنفسها و تناسب ما وراءها و من ذلك ينتشر الخير الكثير.

و وصفه تعالى بأحسن الخالقين يدلّ على عدم اختصاص الخلق به و هو كذلك لما تقدّم أنّ معناه التقدير و قياس الشي‏ء من الشي‏ء لا يختصّ به تعالى، و في كلامه تعالى من الخلق المنسوب إلى غيره قوله:( وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) المائدة: ١١٠ و قوله:( وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً ) العنكبوت: ١٧.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ) بيان لتمام التدبير الإلهيّ و أنّ الموت من المراحل الّتي من الواجب أن يقطعها الإنسان في مسير التقدير، و أنّه حقّ كما تقدّم في قوله تعالى:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) الأنبياء: ٣٥.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ ) و هذا تمام التدبير و هو أعني البعث آخر مرحلة في مسير الإنسان إذا حلّ بها لزمها و لا يزال قاطنا بها.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ ) ، المراد بالطرائق السبع بقرينة قوله:( فَوْقَكُمْ ) السماوات السبع و قد سمّاها طرائق - جمع طريقة - و هي السبيل المطروقة لأنّها ممرّ الأمر النازل من عنده تعالى إلى

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

غير أنّ حاجته المبرمة إلى الاجتماع و التعاون اضطرّه إلى قبول الاشتراك مع سائر أفراد نوعه في الانتفاع بالمنافع المحصّلة من الأشياء بأعمالهم المشتركة فهو و سائر الأفراد من نوعه يكونون لذلك مجتمعاً يختصّ كلّ جزء من أجزائه و كلّ طرف من أطرافه بعمل أو أعمال ثمّ ينتفع المجموع بالمجموع، و إن شئت فقل: ثمّ تقسّم نتائج الأعمال بينهم فيتمتّع كلّ واحد منهم بذلك على مقدار زنته الاجتماعيّة، و لذلك نرى أنّ الفرد من الإنسان و هو اجتماعيّ كلّما قوي و اشتدّ أبطل المدنيّة الطبعيّة و أخذ يستخدم الناس بالغلبة، و يتملّك رقابهم، و يحكم في نفوسهم و أعراضهم و أموالهم بما يقترحه.

و لأجل ذلك إذا تأمّلت تأمّلاً حرّاً في سنّتهم في استعباد الإنسان وجدت أنّهم لا يعتبرون تملّك الإنسان ما دام داخلاً في المجتمع و جزءً من أجزائه بل إمّا أن يكون الإنسان المملوك محكوماً بالخروج عن المجتمع كالعدوّ المحارب الّذي لا همّ له إلّا أن يهلك الحرث و النسل و يمحي الإنسان باسمه و رسمه فهو خارج عن مجتمع عدوّه، و له أن يهلكه بالإفناء و يتملّك منه ما يشاء لأنّ الحرمة مرفوعة، و مثله الأب بالنسبة إلى صغار أولاده و التابعين لنفسه فإنّه يرى أنّهم من توابعه في المجتمع من غير أن يكافئوه أو يماثلوه أو يوازنوه فله أن يتصرّف فيهم حتّى بالقتل و البيع و غيرهما.

و إمّا أن يكون الإنسان المالك ذا خصيصة تدعوه إلى أن يعتقد أنّه فوق المجتمع من غير أن يعادلهم في وزن أو يشاركهم في نفع بل له نفوذ الحكم، و التمتّع بصفوة ما يختار، و التصرّف في نفوسهم حتّى بالملك و الاستعباد.

فقد تبيّن أنّ الأصل الأساسيّ الّذي كان يبني عليه الإنسان سنّة الاستعباد و الاسترقاق هو حقّ الاختصاص و التملّك المطلق الّذي يعتقده الإنسان لنفسه، و أنّ الإنسان لا يستثني عنه أحداً إلّا مشاركيه في مجتمعة الإنسانيّ ممّن يعادله في الزنة الاجتماعيّة و يتحصّن منه في حصن التعاون و التعاضد، و أمّا الباقون فلا مانع عنده من تملّكهم و استعبادهم.

و عمدتهم في ذلك طوائف ثلاث: العدوّ المحارب، و الأولاد الضعفاء بالنسبة إلى

٣٦١

آبائهم و كذا النساء بالنسبة إلى أوليائهنّ، و المغلوب المستذلّ بالنسبة إلى الغالب المتعزّز.

٣- سير الاستعباد في التاريخ: سنّة الاستعباد و إن كانت مجهولة من حيث تاريخ شيوعها في المجتمع الإنسانيّ غير أنّ الأشبه أن يكون أرقّاء مأخوذين في أوّل الأمر بالقتال و التغلّب ثمّ يلحق به الأولاد و النساء، و لذلك نعثر في تاريخ الاُمم القويّة الحربيّة من القصص و الحكايات و كذا القوانين و الأحكام المربوطة بالاسترقاق بالسبي على ما لا يوجد في غيرهم.

و قد كان دائراً بين الاُمم المتمدّنة القديمة كالهند و اليونان و الرومان و إيران، و بين الملّيّين كاليهود و النصارى على ما يستفاد من التوراة و الإنجيل حتّى ظهر الإسلام فأنفذ أصله مع تضييق في دائرته و إصلاح لأحكامه المقرّرة، ثمّ آل الأمر إلى أن قرّر مؤتمر بروسل إلغاء الاستعباد قبل سبعين سنة تقريباً.

قال( فردينان توتل) في معجمه(١) لأعلام الشرق و الغرب: كان الرقّ شائعاً عند الأقدمين، و كان الرقيق يؤخذ من أسرى و سبايا الحرب و من الشعوب المغلوبة، كان للرقّ نظام معروف عند اليهود و اليونان و الرومان و العرب في الجاهليّة و الإسلام.

و قد اُلغي نظام الرقّ تدريجاً: في الهند سنة (١٨٤٣) و في المستعمرات الإفرنسيّة سنة (١٨٤٨) و في الولايات المتّحدة بعد حرب الانفصال سنة (١٨٦٥) و في البرازيل سنة (١٨٨٨) إلى أن اتّخذ مؤتمر بروسل قراراً بإلغاء الاستعباد سنة (١٨٩٠) غير أنّه لا يزال موجوداً فعلاً بين بعض القبائل في آفريقيا و آسيا.

و مبدأ إلغاء الرقّ هو تساوي البشر بالحقوق و الواجبات، انتهى.

٤- ما الّذي رآه الإسلام في ذلك؟ قسّم الإسلام الاستعباد بحسب أسبابه، و قد تقدّم أنّ عمدتها كانت ثلاثة: الحرب، و التغلّب و الولاية كالاُبوّة و نحوها فألغى سببين من الثلاثة من أصله و هما التغلّب و الولاية.

فاعتبر احترام الناس شرعاً سواءً من ملك و رعيّة و حاكم و محكوم و أمير و جنديّ‏

____________________

(١) ص ٢١٩.

٣٦٢

و مخدوم و خادم بإلغاء الامتيازات و الاختصاصات الحيويّة، و التسوية بين الأفراد في حرمة نفوسهم و أعراضهم و أموالهم، و الاعتناء بشعورهم و إرادتهم - و هو الاختيار التامّ في حدود الحقوق المحترمة - و أعمالهم و ما اكتسبوه و هو تسلّطهم على أموالهم و منافع وجودهم من الأفعال فليس لوالي الأمر في الإسلام إلّا الولاية على الناس في إجراء الحدود و الأحكام و في أطراف المصالح العامّة العائدة إلى المجتمع الدينيّ، و أمّا ما تشتهيه نفسه و ما يستحبّه لحياته الفرديّة فهو كأحد الناس لا يختصّ من بينهم بخصيصة، و لا ينفذ أمره في الكثير ممّا يهواه لنفسه و لا في القليل، و يرتفع بذلك الاسترقاق التغلّبيّ بارتفاع موضوعه.

و عدّل ولاية الآباء لأبنائهم فلهم حقّ الحضانة و الحفظ و عليهم حقّ التربية و التعليم و حفظ أموالهم ما داموا محجورين بالصغر فإذا بلغوا بالرشد فهم و آباؤهم سواء في الحقوق الاجتماعيّة الدينيّة، و هم أحرار في حياتهم، لهم الخيرة فيما رضوا لأنفسهم.

نعم اُكّدت التوصية لآبائهم عليهم بالإحسان و مراعاة حرمة التربية، قال تعالى:( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى‏ وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى‏ أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ) لقمان: ١٥ و قال تعالى:( وَ قَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ) الإسراء: ٢٤ و قد عدّ في الشرع الإسلاميّ عقوقهما من المعاصي الكبيرة الموبقة.

و أمّا النساء فقد وضع لهنّ من المكانة في المجتمع و اعتبر لهنّ من الزنة الاجتماعيّة ما لا يجوز عند العقل السليم التخطّي عنه و لو بخطوة، فصرن بذلك أحد شقّي المجتمع الإنسانيّ و قد كنّ في الدنيا محرومات من ذلك، و اُعطين زمام الازدواج و المال و قد كنّ محرومات أو غير مستقلّات في ذلك.

و شاركن الرجال في اُمور و اختصصن عنهم باُمور و اختصّ الرجال باُمور كلّ ذلك عن مراعاة تامّة لقوام وجودهنّ و تركيب بناهنّ، ثمّ سهّل عليهنّ في اُمور شقّ فيها على

٣٦٣

الرجال كأمر النفقة و حضور معارك القتال و نحو ذلك.

و قد تقدّم الكلام في ذلك كلّه تفصيلاً في أواخر سورة البقرة في الجزء الثاني من الكتاب، و في أوائل سورة النساء في الجزء الرابع منه، و تبيّن هناك أنّ النساء مختصّات في الإسلام من مزيد الإرفاق بالنسبة إلى الرجال بما لا يوجد نحوه في سائر السنن الاجتماعيّة قديمها و حديثها.

قال تعالى:( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) النساء: ٣١ و قال تعالى:( فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) البقرة: ٢٣٤ و قال تعالى:( وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) البقرة: ٢٢٨ و قال:( أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) آل عمران: ١٩٥ ثمّ جمع الجميع في بيان واحد فقال:( لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) البقرة: ٢٨٦ و قال:( وَ لا تَكْسِبُ كلّ نَفْسٍ إلّا عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏ ) الأنعام: ١٦٤ إلى غير ذلك من الآيات المطلقة الّتي تأخذ الفرد من الإنسان جزءً تامّاً كاملاً من المجتمع، و يعطيه من الاستقلال الفرديّ ما ينفصل به عن أيّ فرد آخر في نتائج أعماله من خير أو شرّ أو نفع أو ضرّ من غير أن يستثني صغيراً أو كبيراً أو ذكراً أو اُنثى.

ثمّ سوّى بينهم جميعاً في العزّة و الكرامة ثمّ ألغى كلّ عزّة و كرامة إلّا الكرامة الدينيّة المكتسبة بالتقوى و العمل فقال:( لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) المنافقون: ٨ و قال:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣.

و قد أبقى الإسلام السبب الثالث من الأسباب الثلاثة للاستعباد أعني الحرب، و هو أن يسبي الكافر المحارب لله و رسوله و المؤمنين، و أمّا اقتتال المؤمنين بعضهم مع بعض فلا سبي فيه و لا استعباد بل يقاتل الباغي من الطائفتين حتّى ينقاد لأمر الله قال تعالى:( وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‏ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) الحجرات: ١٠.

٣٦٤

و ذلك أنّ العدوّ المحارب الّذي لا همّ له إلّا أن يفني الإنسانيّة و يهلك الحرث و النسل لا ترتاب الفطرة الإنسانيّة أدنى ريب في أنّه يجب أن لا يعدّ جزءً من المجتمع الإنسانيّ الّذي له التمتّع بمزايا الحياة و التنعّم بحقوق الاجتماع، و أنّه يجب دفعه بالإفناء فما دونه، و على ذلك جرت سنّة بني آدم منذ عمّروا في الأرض إلى يومنا هذا و على ذلك ستجري.

و الإسلام لما وضع بنية المجتمع - المجتمع الدينيّ - على أساس التوحيد و حكومة الدين الإسلاميّ ألغى جزئيّة كلّ مستنكف عن التوحيد و حكومة الدين من المجتمع الإنسانيّ إلّا مع ذمّة أو عهد فكان الخارج عن الدين و حكومته و عهده خارجاً عن المجتمع الإنسانيّ لا يعامل معه إلّا معاملة غير الإنسان الّذي للإنسان أن يحرمه عن أيّ نعمة يتمتّع بها الإنسان في حياته، و يدفعه بتطهير الأرض من رجس استكباره و إفساده فهو مسلوب الحرمة عن نفسه و عمله و نتائج أيّ مسعى من مساعيه، فللجيش الإسلاميّ أن يتّخذ أسرى و يستعبد عند الغلبة.

٥- ما هو السبيل إلى الاستعباد في الإسلام؟ يتأهّب المسلمون على من يلونهم من الكفّار فيتمّون عليهم الحجّة و يدعونهم إلى كلمة الحقّ بالحكمة و الموعظة و المجادلة بالّتي هي أحسن فإن أجابوا فإخوان في الدين لهم ما للمسلمين و عليهم ما عليهم و إن أبوا إلّا الردّ فإن كانوا أهل كتاب و قبلوا الجزية تركوا و هم على ذمّتهم، و إن أخذوا عهداً كانوا أهل كتاب أم لا وفي بعهدهم، و إن لم يكن شي‏ء من ذلك اُوذنوا على سواء و قوتلوا.

يقتل منهم من شهر سيفاً و دخل المعركة و لا يقتل منهم من ألقى السلم، و لا يقتل منهم المستضعفون من الرجال و النساء و الولدان، و لا يبيّتون و لا يغتالون، و لا يقطع عنهم الماء، و لا يعذّبون و لا يمثّل بهم فيقاتلون حتّى لا تكون فتنة و يكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلّا على الظالمين.

فإذا غلبوهم و وضعت الحرب أوزارها فما تسلّط عليه المسلمون من نفوسهم و أموالهم فهو لهم و قد اشتمل تاريخ حروب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و مغازيه على صحائف غرّ متلمّعة مملوءة من السيرة العادلة الجميلة فيها لطائف الفتوّة و المروّة، و طرائف البرّ و الإحسان.

٣٦٥

٦- ما هي سيرة الإسلام في العبيد و الإماء؟ إذا استقرّت العبوديّة على من استقرّت عليه صار ملك يمين، منافع عمله لغيره و نفقته على مولاه.

و قد وصّى الإسلام أن يعامل المولى مع عبده معاملة الواحد من أهله و هو منهم فيساويهم في لوازم الحياة و حوائجها، و قد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤاكل عبيده و خدمه و يجالسهم، و لا يؤثّر نفسه عليهم في مأكل و لا ملبس و نحوهما.

و أن لا يشقّ عليهم و لا يعذّبوا و لا يسبّوا و لا يظلموا، و اُجيز أن يتزوّجوا فيما بينهم بإذن أهلهم، و أن يتزوّج بهم الأحرار، و أن يشاركوهم في الشهادات، و يساهموهم في الأعمال حال الرقّ و بعد الانعتاق.

و قد بلغ من إرفاق الإسلام في حقّهم أن شاركوا الأحرار في عامّة الاُمور، و قد قلّد جمع منهم الولاية و الإمارة و قيادة الجيش على ما يضبطه تاريخ صدر الإسلام، و يوجد بين الصحابة الكبار عدّة من الموالي كسلمان و بلال و غيرهما.

و هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعتق جاريته صفيّة بنت حيّ بن أخطب و تزوّج بها، و تزوّج جويريّة بنت الحارث بعد وقعة بني المصطلق و قد كانت بين سباياهم، و كانوا مأتي بيت بالنساء و الذراري، و صار ذلك سبباً لانعتاق الجميع، و قد مرّ إجمال القصّة في الجزء الرابع من الكتاب.

و من الضروريّ من سيرة الإسلام أنّه يقدّم العبد المتّقي على المولى الحرّ الفاسق، و إنّه يبيح للعبد أن يتملّك المال و يتمتّع بعامّة مزايا الحياة بإذن من أهله هذا إجمال من صنيع الإسلام فيهم.

ثمّ أكّد الوصيّة و ندب أجمل الندب إلى تحرير رقبتهم، و إخراجهم من ظرف الاستعباد إلى جوّ الحرّيّة و لا يزال يقلّ بذلك عددهم و يتبدّل جمعهم موالي و أحراراً لوجه الله، و لم يقنع بذلك دون أن جعل تحرير الرقبة أحد خصال الكفّارات مثل كفّارة القتل و كفّارة الإفطار، و أجاز لهم الاشتراط و الكتابة و التدبير، كلّ ذلك عناية بهم و قصداً إلى تخليصهم و إلحاقاً لهم بالمجتمع الإنسانيّ الصالح إلحاقاً تامّاً يقطع دابر الاستذلال.

٣٦٦

٧- محصّل البحث في الفصول السابقة: تحصل ممّا مرّ اُمور ثلاث:

الأوّل: أنّ الإسلام لم يأل جهداً في إلغاء أسباب الاستعباد و تقليلها و تضعيفها حتّى وقف على واحد منها لا محيص عن اعتباره بحكم الفطرة القاطع و هو جواز استعباد كلّ إنسان محارب للدين مضادّ للمجتمع الإنسانيّ غير خاضع للحقّ بوجه من وجوه الخضوع.

الثاني: أنّه استعمل جميع الوسائل الممكنة في إكرامهم - العبيد و الإماء - و تقريب شؤونهم الحيويّة من حياة أجزاء المجتمع الحرّة حتّى صاروا كأحدهم و إن لم يصيروا أحدهم، و لم يبق عليهم إلّا حجاب واحد رقيق، و هو أنّ الزائد من أعمالهم على واجب حياتهم حياة متوسّطة لمواليهم لا لهم، و إن شئت فقل: لا فاصل في الحقيقة بين الحرّ و العبد في الإسلام إلّا إذن المولى في العبد.

الثالث: أنّه احتال بكلّ حيلة مؤثّرة إلى إلحاق صنف المماليك إلى مجتمع الأحرار بالترغيب و التحريص في موارد، و بالفرض و الإيجاب في اُخرى كالكفّارات، و بالتسويغ و الإنفاذ في مثل الاشتراط و التدبير و الكتابة.

٨- سير الاستعباد في التاريخ‏: ذكروا(١) أنّ الاستعباد ظهر أوّل ما ظهر بالسبي و الأسر، و كانت القبائل قبل ذلك إذا غلبت في حروبها و مقاتلها و أخذت سبايا قتلتهم عن آخرهم ثمّ رأوا أن يتركوهم أحياءً و يتملّكوهم كسائر الغنائم الحربيّة لا لينتفعوا بأعمالهم بل إحساناً في حقّهم و حفظاً للنوع و احتراماً للقوانين الأخلاقيّة الّتي ظهرت فيهم بالترقّي في صراط المدنيّة شيئاً بعد شي‏ء.

و إنّما ظهرت هذه السنّة بين القبائل بعد ما ارتحلت عنهم طريقة الارتزاق لاصطياد إذ لم تكن لهم فيها من السعة ما يسوّغ لهم الإنفاق على العبيد و الإماء حتّى انتقلوا إلى عيشة النزول و الارتحال و تمكّنوا من ذلك.

و بشيوع الاستعباد بين القبائل و الاُمم على أيّ وتيرة كانت تحوّلت حياة الإنسان الاجتماعيّة بظهور جهات من الانتظام و الانضباط في المجتمعات أوّلاً و تقسيم الأعمال ثانياً.

____________________

(١) مأخوذ من ١- دائرة المعارف: المذهب و الأخلاق تأليف جان هيسينيك طبعة بريطانية، ٢- مجمل التاريخ تأليف ه. ج. ولز طبعة بريطانية، ٣- روح القوانين تأليف مونيسكيو طبعة طهران.

٣٦٧

و لم يكن الاستعباد إذ كان دائراً في الدنيا على وتيرة واحدة في أقطار المعمورة فلم يستنّ في بعض المناطق أصلاً كاُوستراليا و آسيا المركزيّة و سيبريا و أميركا الشماليّة و إسكيمو و بعض المناطق بإفريقيا بشمال النيل و جنوب رامبيز.

و بالعكس كان رائجاً في جزيرة العرب و إفريقيا الوحشيّة و اُوروبه و أميركا الجنوبيّة و كان دائراً بين اليهود، و في التوراة دعاء العبيد إلى طاعة مواليهم، و كذا بين النصارى و في كتاب بولس إلى فيلمن أنّ إفسيموس كان عبداً شارداً ردّه بولس إلى سيّده.

و كانت اليهود أرفق الناس بعبيدهم، و من الشواهد على ذلك أنّا لم نعثر لهم من شواهق الأبنية على ما يشبه الأهرام المعمولة بمصر و الأبنية الآشوريّة التاريخيّة فإنّها كانت من أعمال العبيد الشاقّة، و كانت الروم و اليونان أكثر الاُمم تشديداً على العبيد.

و قد ذاع في الروم الشرقيّ بعد قسطنطين فكر التحرير حتّى لغى الرقّ فيها في القرن ١٣ الميلاديّ، و بقي في الروم الغربيّ على شكل آخر و هو أنّهم كانوا يبيعون و يشترون المزارع بزرّاعها - و كانت الزراعة من مشاغل العبيد - لكن لغت بينهم الأعمال الإجباريّة.

و كان الاستعباد دائراً في معظم ممالك اُوروبه إلى سنة ١٧٧٢ الميلاديّة و قد انعقدت قبل ذلك بحين معاهدة بين الدولتين إنجلترا و إسبانيا على أن يجبي الإنجليز إليهم كلّ سنة أربعة آلاف و ثمان مائة نسمة من رقيق إفريقيا إلى ثلاثين سنة ليبيعهم منهم قبال مبالغ خطيرة يأخذها منهم.

و قد ثارت الأفكار العامّة سنة ١٧٦١ على الرقّ و الاستعباد بينهم، و أقدم الطوائف الّتي قامت عليه منهم طائفة( لرزان) (١) المذهبيّة، و لم يزالوا على ذلك حتّى وضعت مادّة قانونيّة سنة ١٧٧٢ أنّ كلّ من دخل أرض بريطانيا فهو حرّ.

و قد ظهر سنة ١٧٨٨ بعد بحث دقيق أنّ إنجلترا يعامل كلّ سنة مأتي ألف نسمة رقيقاً، و كان الّذين يجلبون منهم من إفريقيا إلى أميركا وحدها مائة ألف.

و لم يزل حتّى ألغي الاستعباد في بريطانيا سنة ١٨٣٣ و أدّت الدولة إلى كمبانيّات

____________________

(١). Quaker

٣٦٨

النخس عشرين ميليوناً ليرة أثمان من حرّرته من رقيقهم العبيد و الإماء، و انعتق في هذه الواقعة فيها (٧٧٠٣٨٠) نسمة.

و لغي الاستعباد في أميركا سنة ١٨٦٢ بعد مجاهدات شديدة تحمّلتها أهالي أميركا و قد كان شمال هذه المملكة و جنوبها مختلفين في أخذ الرقيق: أمّا أميركا الشماليّة فإنّما كانت تأخذ العبيد و الإماء للتجمّل فحسب، و أمّا الجنوبيّة فكان معظم الأشغال فيها شغل الزراعة و الحرث، و كانوا في حاجة شديدة إلى كثرة الأيدي العمّالة فكانوا يأخذون الأرقّاء استثماراً بأعمالهم، و لذلك كانوا يتحرّجون من قبول التحرير العامّ.

و لم يزل الاستعباد يلغى في مملكة بعد مملكة حتّى انعقد قرار بروسل سنة (١٨٩٠) الميلاديّة على إلغاء سنّة الاستعباد، و أمضاها الدول و اُجريت في الممالك، و لغت العبوديّة في الدنيا، و انعتقت بذلك الملايين من النسمات، انتهى ما ذكروه ملخّصاً.

و أنت تجد بثاقب نظرك أنّ هذه المجاهدة الطويلة و المشاجرة ثمّ ما وضع من قوانين الإلغاء و اُنفذ من الحكم كلّ ذلك إنّما كان يدور حول الاسترقاق من طريق الولاية أو التغلّب كما يشهد به أنّ جلّ الأرقّاء أو كلّهم كانوا يجلبون من نواحي إفريقيا المعمول فيها ذلك، و أمّا الاسترقاق من طريق السبي الحربيّ الّذي أنفذ الإسلام فلم يكن مورداً للبحث قطّ.

٩- نظرة في بنائهم: هذه الحرّيّة الفطريّة الّتي نسمّيها بالحرّيّة الموهوبة للإنسان (و لسنا ندري ما هو السبب الّذي يسلبها عن سائر أنواع الحيوان و هي تماثل الإنسان في الشعور النفسانيّ و الإرادة الباعثة؟ غير أن نقول إنّ الإنسان هو الّذي يسلبها ذلك لينتفع بها) لا تتفرّع على أصل إلّا على أنّ الإنسان مجهّز بشعور باطنيّ يميّز له ما يلتذّ به و ما يتألّم به ثمّ بإرادة تبعثه إلى جذب ما يلذّه و دفع ما يؤلمه فكان له أن يختار لنفسه ما يشاء.

و لم يتقيّد الشعور الإنسانيّ بأن يتعلّق بشي‏ء و لا يتعلّق بآخر كأن لا يشعر الإنسان الضعيف المستذلّ بما يشعر به الإنسان القويّ المتعزّز، و لا تحدّدت الإرادة الإنسانيّة بحدّ يمنعها عن التعلّق ببعض ما يستحبّه أو يجبرها على التعلّق بما تعلّقت به إرادة غيره لتنطلق لنفع

٣٦٩

غيره و تنسى نفسها، فالإنسان الضعيف المغلوب يريد لنفسه نظائر جميع ما يريده الإنسان الّذي غلبه و قهره لنفسه، و لا رابطة طبيعيّة بين إرادة الضعيف و إرادة القويّ تجبر إرادة الضعيف على أن لا تتعلّق بما تعلّقت به إرادة القويّ، أو تفنى في إرادة القويّ فتعود الإرادتان إرادة واحدة تجري لنفع القويّ، أو تتّبع الإرادة اتّباعاً يسلبها الاستقلال.

و إذ كان كذلك و كان من حقّ قوانين الحياة أن تبتني على أساس البنية الطبيعيّة كان من الواجب أن يعيش الإنسان حرّاً في نفسه و حرّاً في عمله، و من هذا الثدي يرتضع إلغاء الاستعباد.

لكن ينبغي لنا أن نتأمّل هذه الحرّيّة الموهوبة للإنسان هل هي في المجتمع الإنسانيّ على إطلاقها منذ ولدت و عاشت في البنى الإنسانيّة؟.

فلم يزل النوع الإنسانيّ - فيما نعلم - يعيش في حال الاجتماع و لا يسعه بحسب جهازه الوجوديّ إلّا ذلك، و من المحال أن يدوم مجتمع في حال الاجتماع و لو حيناً مّا إلّا مع سنّة مشتركة بين أفراد المجتمع سواء كانت سنّة عادلة تعقّليّة أو سنّة جائرة أو مجازفة أو بأيّ وصف اتّصفت، و هذه السنّة كيفما كانت تحدّد الحرّيّة الفرديّة.

على أنّ الإنسان لا يتأتّى له أن يعيش إلّا مع تصرّف مّا في المادّة يضمن له البقاء و لا يتأتّى له ذلك إلّا بأن يختصّ بما يتصرّف فيه نوعاً من الاختصاص الّذي نسمّيه بالملك - أعمّ من الحقّ و الملك المصطلح عليه - فالّذي يلبسه هذا حين يلبس لا يسع لذاك أن يلبسه و الّذي يأكله فرد أو يشربه أو يشغله بالتمكّن فيه لا يمكن لغيره أن يستقلّ به، و ليس ذلك إلّا تحديداً لغير المتصرّف في إطلاق إرادته، و تقييداً لحرّيّته.

و لم يزل الاختلاف يلازم هذا النوع منذ سكن الأرض فلم يمض على هؤلاء الأفراد المنتشرة في رحب الأرض يوم إلّا و تطلع فيه الشمس على اختلافات، و تغيب عن اختلافات تسير بهم إلى فناء نفوس و ضيعة أعراض و انتهاب أموال، و لو كان الإنسان يرى لنفسه - أي للإنسانيّة - حرّيّة مطلقة لم يكن لهذه الاختلافات بينهم أثر.

و سنّة المجازاة و المؤاخذة لم تزل دائرة معمولة بين المجتمعات المتنوّعة مدنيّة كانت

٣٧٠

أو همجيّة، و لا معنى للمجازاة إلّا أن يملك المجتمع من الإنسان المجرم بعض ما وهبه له الخلقة من النعم، و أن يسلب عنه بعض الحرّيّة فلو لا أنّ المجتمع أو من بيده الأمر في المجتمع يملك من المجرم القاتل المحكوم بالقصاص حياته لما وسعه أن يسلبها عنه، و لو لا أنّ الآثم المأخوذ بإثمه المؤاخذ بأنواع التعذيب و النكاية كالقطع و الضرب و الحبس و غيره ذلك يملك الحكم و الإجراء منه ما يسلبه من شؤون الحياة أو الراحة أو السلطة الماليّة لما صحّ ذلك، و كيف يصحّ منع الجائر المتعدّي أن يجور و يتعدّى و لا الذبّ عن حريم نفس أو عرض أو مال إلّا مع سلب بعض حرّيّة المتغلّب الممنوع؟.

و بالجملة فممّا لا يشكّ فيه ذو مسكة أنّ بقاء الحرّيّة الإنسانيّة على إطلاقها في المجتمع الإنسانيّ و لو لحظة يوجب اختلال النظام الاجتماعيّ من وقته فهذا الاجتماع الّذي هو أيضاً فطريّ للإنسان و لا يعيش بدونه هو يقيّد إطلاق الحرّيّة الفطريّة الّتي وهبته للإنسان إرادته و شعوره الغريزيّان فلا يتأتّى لمجتمع إنسانيّ أن يعيش إلّا مع تقييد ما لإطلاق الحرّيّة كما لا يتأتّى له أن يعيش مع بطلان الحرّيّة من أصلها، و لم يزل المجتمع الإنسانيّ يحفظ بين الحدّين هذه الحرّيّة الّتي يخيّل لنا من كثرة التبليغات الغربيّة أنّهم هم الّذين خلقوا اسمها بعد ما اخترعوا معناها، و حفظوها على إطلاقها.

فهذا الاجتماع الفطريّ هو الّذي يقيّد تلك الحرّيّة الفطريّة و يحدّدها على حدّ تقييد القوى الطبيعيّة البدنيّة و غير البدنيّة بعضها بعضاً فيقف البعض عن الفعل اعتناءً بشأن بعض آخر يزامله كقوّة الإبصار الّتي هي مبدأ للإبصار على الإطلاق تفعل فعلها حتّى تكلّ لامسة العين أو تتعب القوّة المفكّرة فتقف الباصرة عن فعلها تقيّداً بفعل مزاملها، و الذائقة تلتذّ بالتقام الغذاء اللذيذ و ازدراده و بلعه حتّى تكلّ عضلات الفكّ فتقيّد الذائقة فتكفّ عن مشتهاها.

فالاجتماع الفطريّ لا يتمّ للإنسان إلّا بأن يجود ببعض حرّيّته في العمل و استرساله في التمتّع.

١٠- ما مقدار التحديد: و أمّا المقدار الّذي تحدّد به الحرّيّة الموهوبة من قبل الاجتماع الفطريّ و يتقيّد به إطلاقها الفطريّ فهو يختلف باختلاف المجتمعات الإنسانيّة

٣٧١

بحسب كثرة القوانين الدائرة المعتبرة في المجتمع و قلّتها فإنّ المقيّد للحرّيّة بعد أصل الاجتماع إنّما هو القانون المجرى بين الناس فكلّما زادت القوانين و دقّت في رقوب أعمالهم زاد الحرمان من الحرّيّة و الاسترسال و كلّما نقصت نقص.

لكنّ الّذي لا مناص عنه في أيّ اجتماع لأيّ مجتمع فرض، و الواجب الّذي ليس في وسع الإنسان الاجتماعيّ أن يستهين به و يتساهل في أمره: هو حفظ وجود الاجتماع و كونه إذ لا حياة للإنسان دونه، و حفظ السنن الدائرة و القوانين الجارية فيه من النقص و الانتقاض، و لذلك لست تجد مجتمعاً من المجتمعات البشريّة إلّا و فيه جهة دفاعيّة تذبّ عن النفوس و الذراري و تقيهم من الفناء و الهلاك، و وليّ يلي أمرهم و يحفظ السنّة الجارية و العادات الدائرة المحترمة بينهم من الانتقاض ببسط الأمن الاجتماعيّ، و سياسة المتعدّي الجائر، و الموجود من التاريخ يصدّق ذلك أيضاً.

و إذا كان كذلك فأوّل حقّ مشروع للمجتمع في شريعة الفطرة أن يسلب الحرّيّة عن عدوّ المجتمع في أصل اجتماعه، و إن شئت فقل: أن يملك من عدوّه المبيد لحياته المفسد لحرثه و نسله نفسه و عمله و يذهب بحرّيّة إرادته بما يشاء من قتل فما دونه، و أن يسلب عن عدوّ السنّة و القانون حرّيّة العمل و الاسترسال في النقض، و يملك منه ما يفقده بالمجازاة من نفس أو مال أو غيرهما.

و كيف يسع الإنسان - حتّى الإنسان الفرد - أن يذعن بحرّيّة عدوّ لا لحياة مجتمعة يحترم فيؤاخيه و يشاركه و يمتزج به، و لا عن إبادة مجتمعة و إفنائه يغمض فيتركهم و شأنهم؟ و هل الجمع بين العناية الفطريّة بالاجتماع و بين ترك هذا العدوّ و حرّيّته في العمل إلّا جمعاً بين المتناقضين صريحاً و سفهاً أو جنوناً؟.

فتبيّن ممّا مرّ أوّلاً: أنّ البناء على إطلاق حرّيّة الإنسان أمر مخالف لصريح الحقّ الفطريّ المشروع للإنسان الّذي هو من أوّل الحقوق الفطريّة المشروعة.

و ثانياً: أنّ حقّ الاستعباد الّذي اعتبره الإسلام هو المطابق لشريعة الفطرة، و هو أن يستعبد أعداء الدين الحقّ المحاربين للمجتمع الإسلاميّ فيسلب عنهم حرّيّة العمل، و يجلبوا إلى داخل المجتمع الدينيّ و يكلّفوا بأن يعيشوا في زيّ العبوديّة حتّى يتربّوا

٣٧٢

بالتربية الصالحة الدينيّة، و ينعتقوا تدريجاً، و يلتحقوا بالمجتمع الحرّ سالمين غانمين، و لوليّ الأمر أن يشتريهم و يعتقهم عن آخرهم إن رأى صلاح المجتمع الدينيّ في ذلك، أو يسلك في ذلك طريقاً آخر لا ينتسخ بذلك الأحكام الإلهيّة.

١١- إلى م آل أمر الإلغاء؟: أجرت الدول المعظّمة قرار مؤتمر بروسل و منعوا بيع الرقيق أشدّ المنع و انعتقت الإماء و العبيد فلا يصطفّون اليوم في دكاك النخّاسين و لا يساقون سوق الأغنام، و تبع ذلك أن انتسخ اتّخاذ الخصيان، و لا يكاد يوجد اليوم من هؤلاء و اُولئك و لو نماذج قليلة إلّا ما ربّما يذكر من أمر الأقوام الهمجيّة.

لكنّ هذا المقدار أعني ارتفاع اسم الاستعباد و الاسترقاق من الألسنة و غيبة المسمّين بهذا الاسم عن الأنظار هل يقنع الباحث الناقد في هذه المسألة؟ أ و ليس يسأل أنّ هذه المسألة هل هي مسألة لفظيّة يجزي فيها المنع من أن يذكر الاسم، و يكفي في إجرائها أن يسمّى العبد حرّاً و إن سلب منافع عمله و تبع غيره في إرادته، أو أنّ المسألة معنويّة يراعى فيها حال المعنى بحسب حقيقته و آثاره الخارجيّة؟.

فهاتيك الحرب العالميّة الثانية لم يمض عليها إلّا بضع عشرة سنة حمّلت الدول الفاتحة على عدوّها المغلوب التسليم بلا شرط ثمّ احتلّوا بلادهم، و أخذوا ملايين من أموالهم، و تحكّموا على نفوسهم و ذراريهم، و نقلوا الملايين من اُسراهم إلى داخل مملكتهم يستعملونهم فيما شاؤا و كيف شاؤا، و الأمر يجري على ذلك حتّى اليوم.

فليت شعري هل للاستعباد مصداق ليس به و إن منع من إطلاق لفظه؟ و هل له معنى إلّا سلب إطلاق الحرّيّة، و تملّك الإرادة و العمل، و إنفاذ القويّ المتعزّز حكمه في الضعيف المستذلّ كيف شاء و أراد عدلاً أو ظلماً؟.

فيا لله العجب يسمّي حكم الإسلام بنظير الحكم على أصلح وجه يمكن استعباداً و لا يسمّى حكمهم بذلك، و الإسلام يأخذ فيه بأسهل الوجوه و أخفّها و هم يأخذون بأشقّها و أعنفها، فقد رأينا محبّتهم و صداقتهم حينما احتلّوا بلادنا تحت عنوان المحبّة و الحماية و الوقاية، فكيف حال من استعلوا عليه بالعداوة و النكاية؟.

و من هنا يظهر أنّ قرار الإلغاء لم يكن إلّا لعباً سياسيّاً هو في الحقيقة أخذ في

٣٧٣

صورة الردّ، أمّا الاستعباد عن حرب و قتال فقد أنفذه الإسلام و أنفذوه عملاً و إن منعوا عن التلفّظ باسمه لساناً، و أمّا الاستعباد من طريق بيع الآباء أبناءهم الّذي منعوه فقد كان الإسلام منعه من قبل، و أمّا الاستعباد من طريق الغلبة و السلطة الحكميّة فقد منعه الإسلام من قبل، و أمّا هؤلاء فقد أجمعوا على منعه لكن هل توقّف المنع في مرحلة اللفظ كنظيره أو تعدّاها إلى مرحلة المعنى و وافقه العمل؟!.

يمكنك أن تستخرج الجواب لهذا السؤال بإمرار النظر في تاريخ الاستعمارات الاُروبيّة في آسيا و إفريقيا و أميركا، و الفجائع الّتي ارتكبوها، و الدماء و الأعراض و الأموال الّتي أهرقوها و استباحوها و نهبوها، و التحكّمات الّتي أتوا بها و ليس بالواحد و المائة و الألف.

ليس يلزمك أن تسلك هذا السبيل على بعدها - إن كان بعيداً - فقد يجزيك أن تتأمّل أخبار ما يقاسيه أهل الجزائر من فرنسا منذ سنين من إبادة النفوس و تخريب البلاد و التشديد على أهله، و ما تلقاه الممالك العربيّة من الإنجليز، و ما يتحمّله السودان و الحمر في أميركا، و الاُوروبة الشرقيّة من الجمهوريّات الاشتراكيّة، و ما نكابده نحن من أيدي هؤلاء و اُولئك، كلّ ذلك في لفظه نصح و إشفاق، و في معناه استعباد و استرقاق!.

فظهر من جميع ما مرّ أنّهم أخذوا في مرحلة العمل بما شرعه الإسلام من إباحة و سلب إطلاق الحرّيّة عند وجود سببها الفطريّ الّذي هو حرب من يريد هدم المجتمع و إهلاك الإنسانيّة، و هو حكم مشروع في شريعة الفطرة له أصل واقعيّ لا يتغيّر و هو حاجة الإنسانيّة في بقائها إلى دفع ما يطاردها وجوداً و يناقضها بقاءً ثمّ أصل اجتماعيّ عقلائيّ لا يتبدّل متفرّع على أصله الواقعيّ و هو وجوب حفظ المجتمع الإنسانيّ عن الانعدام و الانهدام.

فهذا هو الّذي راموه في عملهم و أخذوه معنى و أنكروه اسماً غير أنّهم تعدّوا هذا القسم المشروع إلى غيره غير المشروع و هو الاستعباد بسبب الغلبة و السلطة فلا يزالون يستعبدون الاُلوف و الملايين قبل حديث الإلغاء و بعده، و يبيعون و يشترون و يهبون و يعيرون إلّا أنّهم لا يسمّون ذلك استعباداً، و إنّما يسمّى استعماراً أو استملاكاً أو قيمومة أو حماية

٣٧٤

أو عناية و إعانة أو غير ذلك من الألفاظ الّتي لا يراد بشي‏ء منها إلّا أن يكون سترة على معنى الاستعباد، و كلّما خلق أو خرق شي‏ء منها رمي به و جي‏ء بآخر.

و لم يبق ممّا نسخه قرار بروسل و لا يزال يقرع به أسماع الدنيا و أهلها و يتباهى به الدول المتمدّنة الّذين هم رواد المدنيّة الراقية، و بأيديهم راية الحرّيّة الإنسانيّة إلّا الاستعباد من طريق بيع الأبناء و البنات و الإخصاء و لا فائدة هامّة فيه تعود إليهم مع كونه أشبه بالمسألة الفرديّة منه بالمسألة الاجتماعيّة، و نسخه مع ذلك حجّة لفظيّة تبليغيّة بأيديهم كسائر حججهم الّتي لا تعدو مقام اللّفظ و تؤثّر أثر المعنى.

نعم يبقى هناك محلّ بحث آخر و هو أنّ الإسلام يبدأ في غنائمه الحربيّة من رقيق أو مال غير الأرض المفتوحة عنوة بالأفراد من مجتمعة فيقسّمها بينهم ثمّ ينتهي إلى الدولة على ما سير به في صدر الإسلام و هؤلاء يحفظون الاستفادة منها حقّاً موقوفاً على الدولة، و هذه مسألة اُخرى غير مسألة أصل الاسترقاق لعلّنا نوفّق لاستقصاء البحث عنها فيما سيأتي إن شاء الله من الكلام في آيات الزكاة و الخمس و الله المستعان.

و بعد ذلك كلّه نعود إلى كلمة صاحب معجم الأعلام المنقولة سابقاً:( مبدأ إلغاء الرقّ هو تساوي البشر في الحقوق و الواجبات) فما معنى تساوي البشر في الحقوق إلخ، فإن اُريد به تساويهم في استحقاق ما لهم من الحقوق الواجبة مراعاتها و إن كانت نفس تلك الحقوق مختلفة غير متساوية البتّة كاختلاف الرئيس و المرؤس و الحاكم و المحكوم و الآمر و المأمور و المطيع للقانون و المتخلّف عنه و العادل و الظالم من جهة اختلافهم في الزنة الاجتماعيّة.

فهو كذلك لكنّه لا يستلزم التسوية بين من هو جزء شريف نافع في المجتمع و بين من ليس في صلاحيته أن ينضمّ إلى المجتمع و لا كرامة، و إنّما هو كالسمّ المهلك الّذي أينما حلّ أبطل الحياة فإنّ من الحكم الفطريّ الصريح أن يفرّق بينهما بإعطاء الحرّيّة الكاملة للأوّل، و سلبها عن الثاني فلا حقّ للعدوّ على عدوّه فيما يعاديه، و لا واجب للذئب في ذمّة الغنم و لا للأسد على فريسته.

و إن اُريد به أنّ الإنسانيّة لما كانت مشتركة بين أفراد الإنسان و كان في قوّة

٣٧٥

الفرد من الإنسان كائناً من كان أن يرقى في المدنيّة و ينال من السعادة ما يناله الآخر كان من حقّ الإنسانيّة على المجتمع الراقي أن يجود بالحرّيّة على كلّ إنسان و يربّيه حتّى يلحق المجتمع الصالح.

فلذلك حقّ لكن ربّما كان من شرائط التربية أن يسلب المربّي حرّيّة الإرادة و العمل حيناً حتّى تتمّ التربية، و يتبصّر النفس المربّاة في استعمال إرادتها، و تتنعّم بنعمة حرّيّتها كما يعالج المريض بما يسوؤه و يربّى الصغير بما يتحرّج منه، و هذا هو الّذي يراه الإسلام من سلب حرّيّة الإرادة و العمل عن الاُمّة الكافرة المحاربة، و اجتلابهم إلى داخل المجتمع الدينيّ، و تربيتهم فيها، و تخليصهم تدريجاً إلى ساحة الحرّيّة فإنّ السلوك سلوك اجتماعيّ ينبغي أن ينظر إليه و إلى نتيجته و أثره بنظر عامّ كلّيّ، و ليس بأمر فرديّ ينظر إليه بنظر فرديّ جزئيّ، ثمّ من العجب أنّ هؤلاء أيضاً يجرون عملاً بما جرت عليه السيرة الإسلاميّة و إن خالفوه في التسمية و حسن النيّة كما تقدّم بيانه.

و إن اُريد به أنّ من حقّ الحرّيّة الإنسانيّة أن تطّرد في الجميع و يخلّى بين كلّ إنسان و إرادته المطلقة.

فمن الواضح الّذي لا مرية فيه أنّ ذلك غير جائز التسليم و لا ميسور العمل على إطلاقه و خاصّة في الخصم المحارب و هو المورد الوحيد الّذي يعتني به الإسلام في سلب إطلاق الحرّيّة.

ثمّ لو كان هذا حقّاً لم يكن فيه فرق بين الواحد و الاثنين و بين الجماعة فما بالهم يسلّمون للواحد من الحرّيّة القانونيّة حتّى مثل( الانتحار) و للاثنين مثل( دئل) و لا يسلّمون لطائفة مساكين من أبناء نوعهم أن ينعزلوا في ملجأ أو مغارات و يشتغلوا بأنفسهم و يأكلوا رزق ربّهم و يسلكوا سبيل حياتهم؟.

بقي هنا شي‏ء و هو أنّه ربّما قال القائل: ما بال الإسلام لم يشرّع للرقيق تملّك المال حتّى يستعين به على حوائجه الضروريّة من غير أن يكون كلّاً على مولاه؟ و ما باله لم يحدّد الرقّ بالإسلام حتّى ينعتق العبد بالإسلام و ينمحي عنه لوث المحروميّة اللازمة له و لأعقابه إلى يوم القيامة.

٣٧٦

لكن ينبغي أن يتنبّه هذا القائل إلى أنّ الحكم باستقرار الرقّ و الحرمان من تملّك المال إنّما ظهوره و وقوعه بحسب نظر التشريع في أوّل زمان الاستيلاء عليه، و حكم الفطرة عليهم - و هم الأعداء المحاربون - بجواز سلب الحرّيّة إنّما هو لإبطال كيدهم و سلب قوّتهم على المقاومة لهدم الاجتماع الدينيّ الصالح، و لا قوّة و لا قدرة إلّا بالملك فإذا لم يملكوا عملاً و لا نتاج عمل لم يقووا على المخاصمة و المحاربة.

نعم أجاز الإسلام لهم أن يتملّكوا في الجملة بتمليك الموالي، و هذا ملك في طول ملك، و ليس فيه محذور الاستقلال بالتصرّف.

و أمّا تحديد رقّهم بالإيمان فهو أمر يبطل السياسة الدينيّة في حفظ بيضة الإسلام و إقامة المجتمع الدينيّ على ساقه و بسط التربية الدينيّة على هؤلاء المحاربين المستعلى عليهم بالعدّة و القوّة، و لو لا ذلك لدخلوا في ظاهر الدين بمجرّد أن استقرّت عليهم سيطرة الدين، و ضربت عليهم بذلّة العبوديّة فحفظوا بذلك عدّتهم و قوّتهم ثمّ عادوا لما نهوا عنه.

و ليرجع في ذلك إلى السنّة الجارية بين الاُمم و الأقوام من يومنا هذا إلى أقدم العهود الّتي يستطاع العثور فيها على تاريخ الإنسانيّة فالاُمّتان أو القبيلتان إذا تحاربتا و تقاتلتا ثمّ غلبت إحداهما الاُخرى و استعلت عليها فإنّها ترى من حقّها المشروع لها في الحرب أن تضع في عدوّها السيف حتّى يسلّم لها الأمر تسليماً مطلقاً من غير شرط.

و ليست ترضى من التسليم بمجرّد أن تضع الاُمّة المقاتلة المغلوبة أسلحتها على الأرض فتتركهم و ما يريدون بل بالتسليم لأمر الاُمّة الغالبة، و الخضوع التامّ لما تحكم فيهم، و ترى لهم أو عليهم، و تتصرّف في نفوسهم و أموالهم.

و من سفه الرأي أن تقيّد هذه السيطرة بقيد يفسد أثر هذا التسليم المطلق، و يبطل حكمه، و يمهّد الطريق للعدوّ في الرجوع إلى كيده و مكره، و يجدّد له رجاء العود إلى ما بدأ، و كيف يسوغ للاُمّة الغالبة ذلك و قد فدت عن استقلال مجتمعها المقدّس عندها بالنفوس و الأموال؟ و هل ذلك إلّا ظلماً لنفسها و استهانة بأعزّ ما عندها، و تبذيراً للدماء و الأموال و المساعي؟.

٣٧٧

و ليس لمعترض أن يعترض على اُمّة غالبة غلبت بتضحية النفوس و الأموال فضربت على عدوّها بالذلّة و المسكنة، و حفظهم على حالة الرقّ: بأنّ رجالهم قاتلوا و قتلوا و أفسدوا فأخذوا بالأسر و جوزوا بسلب الحرّيّة على ما يبيحه الحقّ المشروع للمحارب على محاربه فما ذنب الأصاغر من الذراري المتولّدين بعد ذلك، و لم يحملوا سلاحاً، و لا سلّوا سيفاً، و لا دخلوا معركة؟ و ذلك أنّهم ضحايا آبائهم.

بعد ذلك كلّه لا ينبغي أن ينسى أنّ للحكومة الإسلاميّة أن يحتال في انعتاق الرقيق بشراء و عتق و نحو ذلك إذا أحرزت أنّ الأصلح بحال المجتمع الإسلاميّ ذلك و الله أعلم.

( كلام في المجازاة و العفو في فصول)

١- ما معنى الجزاء؟: لا يخلو أيّ مجتمع من المجتمعات من تكاليف اجتماعيّة على أجزائه أن يحترموها فلا همّ للمجتمع إلّا أن يوافق بين أعمال الأفراد و يقرّب بعضها من بعض، و يربط جانباً منها بجانب حتّى تأتلف و تجتمع و ترفع بآثارها و نتائجها حوائج الأفراد بمقدار ما يستحقّه كلّ واحد بعمله و سعيه.

و هذه التكاليف لما كانت متعلّقة باُمور اختياريّة يسع الإنسان أخذها و تركها، و هي بعينها لا تتمّ إلّا مع سلب ما لحرّيّة الإنسان في إرادته و عمله لم يمتنع أن يتخلّف عنها أو عن بعضها الإنسان المتمائل بطبعه إلى الاسترسال و إطلاق الحرّيّة.

و التنبّه إلى هذا النقص في التكاليف و الفتور في بني القوانين هو الّذي بعث الإنسان الاجتماعيّ على أن يتمّم نقصها و يحكم فتورها بأمر آخر، و هو أن يضمّ إلى مخالفتها و التخلّف عنها اُموراً يكرهها الإنسان المكلّف فيدعوه ذلك إلى طاعة التكليف الّذي يكلّف به حذراً من أن يحلّ به ما يكرهه و يتضرّر به.

و هذا هو جزاء السيّئة، و هو حقّ للمجتمع أو لوليّ الأمر على المتخلّف العاصي، و له نظير في جانب طاعة التكاليف فمن الممكن أن يوضع للمطيع الممتثل بإزاء عمله بالتكليف

٣٧٨

أمر يؤثره و يحبّه ليكون ذلك داعياً يدعوه إلى إتيان الواجب أو المطلوب مطلقاً من التكاليف، و هو حقّ للمكلّف المطيع على المجتمع أو لوليّ الأمر، و هذا هو جزاء الحسنة، و ربّما يسمّى جزاء السيّئة عقاباً و جزاء الحسنة ثواباً.

و على هذه الوتيرة يجري حكم الشريعة الإلهيّة قال تعالى:( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) يونس: ٢٦ و قال تعالى:( وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ) يونس: ٢٧ و قال:( وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) الشورى: ٤٠.

و للعقاب و الثواب عرض عريض آخذاً من الاستكراه و الاستحسان و الذمّ و المدح إلى آخر ما يتعلّق به القدرة من الشرّ و الخير و يرتبطان في ذلك بعوامل مختلفة من خصوصيّات الفعل و الفاعل و ولي التكليف و مقدار الضرر و النفع العائدين إلى المجتمع، و لعلّه يجمع الجميع أنّ العمل كلّما زاد الاهتمام بأمره زاد عقاباً في صورة المعصية و ثواباً في صورة الطاعة.

و يعتبر بين العمل و بين جزائه - كيف كان - نوع من المماثلة و المسانخة و لو تقريباً، و على ذلك يجري كلامه تعالى أيضاً كما هو ظاهر أمثال قوله تعالى:( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) النجم: ٣١ و أوضح منه قوله تعالى و قد حكاه عن صحف إبراهيم و موسىعليهما‌السلام :( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏، وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى‏، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) النجم: ٤١.

و هذا فيما شرعه الله في أمر القصاص أظهر، قال تعالى:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى‏ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى‏ بِالْأُنْثى‏ ) البقرة: ١٧٨ و قال:( الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللهَ ) البقرة: ١٩٤.

و لازم هذه المماثلة و المسانخة أن يعود العقاب أو الثواب إلى نفس العامل بمثل ما عمل بمعنى أنّه إذا عصى حكماً اجتماعيّاً مثلاً فإنّما تمتّع لنفسه بما يضرّ المجتمع أي بما يفسد تمتّعاً من تمتّعات المجتمع فينقص من تمتّعاته في نفسه ما يعادل ذلك من نفسه أو بدنه أو ماله أو جاهه أو نحو ذلك ممّا يعود بوجه إليه.

٣٧٩

و هذا هو الّذي أومأنا إليه في البحث عن معنى الاستعباد أنّ المجتمع أو من يلي أمره يملك من المجرم نفسه أو شأناً من شؤون نفسه يعادل الجرم الّذي اجترمه و نقيصة الضرر الّذي أوقعه على المجتمع فيعاقب بذلك أي يتصرّف المجتمع أو وليّ الأمر استناداً إلى هذا الملك - و هو الحقّ - في حياة المجرم أو شأن من شؤون حياته، و يسلب حرّيّته في ذلك.

فلو قتل نفساً مثلاً بغير نفس أو فساد في الأرض في المجتمع الإسلاميّ ملك وليّ الأمر من المجرم نفسه حيث نقصهم نفساً محترمة، و حدّه الّذي هو القتل تصرّف في نفسه عن الملك الّذي ملّكه، و لو سرق ما يبلغ ربع دينار من حرز فقد أضرّ بالمجتمع بهتك ستر من أستار الأمن العامّ الّذي أسدلته يد الشريعة و حفظته يد الأمانة، و حدّها الّذي هو القطع ليس حقيقته إلّا أنّ وليّ الأمر ملك من السارق بإزاء ما أتى به شأناً من شؤون حياته و هو الشأن الّذي تشتمل عليه اليد فيتصرّف فيه بسلب ما له من الحرّيّة و وسيلتها من هذه الجهة، و قس على ذلك أنواع الجزاء في الشرائع و السنن المختلفة.

فيتبيّن من هنا أنّ الاجرام و المعصية الاجتماعيّة يستجلب نوعاً من الرقّ و العبوديّة، و لذلك كان العبد أظهر مصاديق المؤاخذة و العقاب قال تعالى:( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ) المائدة: ١١٨.

و لهذا المعنى مظاهر متفرّقة في سائر الشرائع و السنن المختلفة قال الله تعالى في قصّة يوسفعليه‌السلام إذ جعل السقاية في رحل أخيه ليأخذه إليه:( قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ‏ - أي في إنكاركم سرقة صواع الملك -قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ - أي نجزي السارق باسترقاقه -فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ - إلى أن قال -قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ - و هذا هو التبديل و نوع من الفدية -قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ ) يوسف: ٧٩.

( هل يعدّ المطيع عبداً للمطاع ‏)

و ربّما كان يؤخذ القاتل أسيراً مملوكاً، و ربّما كان يفدي بواحدة من نسائه و حرمه كبنته و اُخته إلى غير ذلك، و سنّة الفدية بالتزويج كانت مرسومة إلى هذه الأيّام بين

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453