الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 453
المشاهدات: 119303
تحميل: 5562


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 119303 / تحميل: 5562
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 15

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و على هذا فلا موجب لحمل العذاب في الدنيا على الحدّ إذ حبّ شيوع الفحشاء ليس ممّا يوجب الحدّ، نعم لو كان اللّام في( الْفاحِشَةُ ) للعهد و المراد بها القذف و كان حبّ الشيوع كناية عن قصّة الشيوع بالإفاضه و التلقّي بالألسن و النقل أمكن حمل العذاب على الحدّ لكنّ السياق لا يساعد عليه.

على أنّ الرمي بمجرّد تحقّقه مرّة موجب للحدّ و لا موجب لتقييده بقصد الشيوع و لا نكتة تستدعي ذلك.

و قوله:( وَ اللهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) تأكيد و إعظام لما فيه من سخط الله و غضبه و إن جهله الناس.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ) تكراراً للامتنان و معناه ظاهر.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ ) تقدّم تفسير الآية في الآية ٢٠٨ من سورة البقرة في الجزء الثاني من الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى‏ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ) إلى آخر الآية. رجوع بعد رجوع إلى الامتنان بالفضل و الرحمة، لا يخلو هذا الاهتمام من تأييد لكون الإفك متعلّق بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ليس إلّا لكرامته على الله سبحانه.

و قد صرّح في هذه المرّة الثالثة بجواب لو لا و هو قوله:( ما زَكى‏ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ) و هذا ممّا يدلّ عليه العقل فإنّ مفيض الخير و السعادة هو الله سبحانه، و التعليم القرآنيّ أيضاً يعطيه كما قال تعالى:( بِيَدِكَ الْخَيْرُ ) آل عمران: ٢٦، و قال:( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ ) النساء: ٧٩.

و قوله:( وَ لكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ اللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) إضراب عمّا تقدّمه فهو تعالى يزكّي من يشاء فالأمر إلى مشيّته، و لا يشاء إلّا تزكية من استعدّ لها و سأله بلسان استعداده ذلك، و إليه يشير قوله:( وَ اللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) أي سميع لسؤال من سأله التزكية عليم بحال من استعدّ لها.

١٠١

قوله تعالى: ( وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى‏ وَ الْمَساكِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) إلخ، الايتلاء التقصير و الترك و الحلف، و كلّ من المعاني الثلاثة لا يخلو من مناسبة، و المعنى لا يقصّر اُولوا الفضل منكم و السعة يعني الأغنياء في إيتاء اُولي القرابة و المساكين و المهاجرين في سبيل الله من مالهم أو لا يترك إيتاءهم أو لا يحلف أن لا يؤتيهم - و ليعفوا عنهم و ليصفحوا ثمّ حرّضهم بقوله:( أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَ اللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

و في الآية - على تقدير نزولها في جملة الآيات و اتّصالها بها - دلالة على أنّ بعض المؤمنين عزم على أن يقطع ما كان يؤتيه بعض أهل الإفك فنهاه الله عن ذلك و حثّه على إدامة الإيتاء كما سيجي‏ء.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) أخذ الصفات الثلاث الإحصان و الغفلة و الإيمان للدلالة على عظم المعصية فإنّ كلّا من الإحصان بمعنى العفّة و الغفلة و الإيمان سبب تامّ في كون الرمي ظلماً و الرامي ظالماً و المرميّة مظلومة فإذا اجتمعت كان الظلم أعظم ثمّ أعظم، و جزاؤه اللعن في الدنيا و الآخرة و العذاب العظيم، و الآية عامّة و إن كان سبب نزولها لو نزلت في جملة آيات الإفك خاصّاً.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الظرف متعلّق بقوله في الآية السابقة:( وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

و المراد بقوله:( بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) كما يقتضيه إطلاقه مطلق الأعمال السيّئة - كما قيل - لا خصوص الرمي بأن تشهد ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم على رميهم فالمراد بالشهادة شهادة الأعضاء على السيّئات و المعاصي بحسب ما يناسبها فما كان منها من قبيل الأقوال كالقذف و الكذب و الغيبة و نحوها شهدت عليه الألسنة، و ما كان منها من قبيل الأفعال كالسرقة و المشي للنميمة و السعاية و غيرهما شهدت عليه بقيّة الأعضاء، و إذ كان معظم المعاصي من الأفعال للأيدي و الأرجل اختصّتا بالذكر.

و بالحقيقة الشاهد على كلّ فعل هو العضو الّذي صدر منه كما يشير إليه

١٠٢

قوله تعالى:( شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) حم السجدة: ٢٠، و قوله:( إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) إسراء: ٣٦، و قوله:( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) يس: ٦٥، و سيأتي الكلام على شهادة الأعضاء يوم القيامة في بحث مستقلّ في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) المراد بالدين الجزاء كما في قوله:( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) الحمد: ٤، و توفية الشي‏ء بذله تامّاً كاملاً، و المعنى: يوم القيامة يؤتيهم الله جزاءهم الحقّ إيتاء تامّاً كاملاً و يعلمون أنّ الله هو الحقّ المبين.

هذا بالنظر إلى اتّصال الآية بما قبلها و وقوعها في سياق ما تقدّمها، و أمّا بالنظر إلى استقلالها في نفسها فمن الممكن أن يراد بالدين ما يرادف الملّة و هو سنّة الحياة، و هو معنى عال يرجع إلى ظهور الحقائق يوم القيامة للإنسان، و يكون أكثر مناسبة لقوله:( وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) .

و الآية من غرر الآيات القرآنيّة تفسّر معنى معرفة الله فإنّ قوله:( وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) ينبئ أنّه تعالى هو الحقّ لا سترة عليه بوجه من الوجوه و لا على تقدير من التقادير فهو من أبده البديهيّات الّتي لا يتعلّق بها جهل لكنّ البديهيّ ربّما يغفل عنه فالعلم به تعالى هو ارتفاع الغفلة عنه الّذي ربّما يعبّر عنه بالعلم، و هذا هو الّذي يبدو لهم يوم القيامة فيعلمون أنّ الله هو الحقّ المبين.

و إلى مثله يشير قوله تعالى:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: ٢٢.

قوله تعالى: ( الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ ) إلخ ذيل الآية( أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ ) دليل على أنّ المراد بالخبيثات و الخبيثين و الطيّبات و الطيّبين نساء و رجال متلبّسون بالخباثة و الطيب فالآية من تمام آيات الإفك متّصلة بها مشاركة لها في سياقها، و هي عامّة

١٠٣

لا مخصّص لها من جهة اللفظ البتّة.

فالمراد بالطيب الّذي يوجب كونهم مبرّءين ممّا يقولون على ما تدلّ عليه الآيات السابقة هو المعنى الّذي يقتضيه تلبّسهم بالإيمان و الإحصان فالمؤمنون و المؤمنات مع الإحصان طيّبون و طيّبات يختصّ كلّ من الفريقين بصاحبه، و هم بحكم الإيمان و الإحصان مصونون مبرّؤن شرعاً من الرمي بغير بيّنة، محكومون من جهة إيمانهم بأنّ لهم مغفرة كما قال تعالى:( وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) الأحقاف: ٣١ و لهم رزق كريم، و هو الحياة الطيّبة في الدنيا و الأجر الحسن في الآخرة كما قال:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل: ٩٧.

و المراد بالخبث في الخبيثين و الخبيثات و هم غير المؤمنين هو الحال المستقذرة الّتي يوجبها لهم تلبّسهم بالكفر و قد خصّت خبيثاتهم بخبيثهم و خبيثوهم بخبيثاتهم بمقتضى المجانسة و المسانخة و ليسوا بمبرّئين عن التلبّس بالفحشاء - نعم هذا ليس حكماً بالتلبّس -.

فظهر بما تقدّم:

أوّلاً: أنّ الآية عامّة بحسب اللفظ تصف المؤمنين و المؤمنات بالطيب و لا ينافي ذلك اختصاص سبب نزولها و انطباقها عليه.

و ثانياً: أنّها تدلّ على كونهم جميعاً محكومين شرعاً بالبراءة عمّا يرمون به ما لم تقم عليه بيّنة.

و ثالثاً: أنّهم محكومون بالمغفرة و الرزق الكريم كلّ ذلك حكم ظاهريّ لكرامتهم على الله بإيمانهم، و الكفّار على خلاف ذلك.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و أحمد و البخاريّ و عبد بن حميد و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقيّ في الشعب عن

١٠٤

عائشة قالت: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أراد أن يخرج إلى سفر أقرع بين أزواجه فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما نزل الحجاب و أنا اُحمل في هودجي و أنزل فيه فسّرنا حتّى إذا فرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غزوته تلك و قفل.

فدنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتّى جاوزت الجيش فلمّا قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار(١) قد انقطع فالتمست عقدي و حبسني ابتغاؤه و أقبل الرهط الّذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الّذي كنت أركب، و هم يحسبون أنّي فيه، و كانت النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهنّ اللحم إنّما تأكل المرأة العلقة(٢) من الطعام فلم يستنكر القوم خفّة الهودج حين رفعوه و كنت جارية حديثة السنّ فبعثوا الجمل فساروا فوجدت عقدي بعد ما استمرّ الجيش فجئت منازلهم و ليس بها داع و لا مجيب فيمّمت منزلي الّذي كنت به فظننت أنّهم سيفقدوني فيرجعون إليّ فبينا أنا جالسة في منزل غلبتني عيني فنمت.

و كان صفوان بن المعطل السلميّ ثمّ الذكرانيّ من وراء الجيش فأدلج(٣) فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني و كان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمّرت وجهي بجلبابي و الله ما كلّمني كلمة واحدة و لا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتّى أناخ راحلته فوطّئ على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتّى أتينا الجيش بعد أن نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك فيّ من هلك.

____________________

(١) ظفار كقطام بلد باليمن قرب صنعاء، و جزع ظفاري منسوب إليها و الجزع الخرز و هو الّذي فيه سواد و بياض.

(٢) العلقة من الطعام ما يمسك به الرمق.

(٣) أدلج القوم: ساروا الليل كلّه أو في آخره.

١٠٥

و كان الّذي تولّى الإفك عبدالله بن اُبيّ بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهراً و الناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا اُشعر بشي‏ء من ذلك، و هو يريبني في وجعي أنّي لا أعرف من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللطف الّذي كنت أرى منه حين اشتكى إنّما يدخل عليّ فيسلّم ثمّ يقول: كيف تيكم؟ ثمّ ينصرف فذاك الّذي يريبني‏ و لا اُشعر بالشرّ حتّى خرجت بعد ما نقهت و خرجت معي اُمّ مسطح قبل المناصع(١) و هي متبرّزنا و كنّا لا نخرج إلّا ليلاً إلى ليل، و ذلك قبل أن نتّخذ الكنف قريباً من بيوتنا و أمرنا أمر العرب الأوّل في التبرّز قبل الغائط فكنّا نتأذّى بالكنف أن نتّخذها عند بيوتنا.

فانطلقت أنا و اُمّ مسطح فأقبلت أنا و اُمّ مسطح قبل بيتي قد أشرعنا(٢) من ثيابنا فعثرت اُمّ مسطح في مرطها(٣) فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلت أ تسبيّن رجلاً شهد بدراً؟ قالت: أي هنتاه(٤) أ و لم تسمعي ما قال؟ قلت: و ما قال: فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضاً على مرضي.

فلمّا رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسلّم ثمّ قال: كيف تيكم؟ فقلت: أ تأذن لي أن آتي أبويّ؟ - قالت: و أنا حينئذ اُريد أن أستيقن الخبر من قبلهما - قالت: فأذن لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجئت لأبويّ فقلت لاُمّي: يا اُمّتاه ما يتحدّث الناس؟ قالت يا بنيّة هوّني عليك فوالله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبّها و لها ضرائر إلّا أكثرن عليها فقلت: سبحان الله و لقد تحدّث الناس بهذا؟ فبكيت تلك اللّيلة حتّى أصبحت لا يرقأ لي دمع و لا أكتحل بنوم ثمّ أصبحت أبكي.

و دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ بن أبي طالب و اُسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله، فأمّا اُسامة فأشار على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالّذي يعلم من

____________________

(١) المناصع: المواضع يتخلّى فيها لبول أو حاجة.

(٢) أي رفعنا ثيابنا.

(٣) المرط - بالكسر - كساء واسع يؤتزر به و ربّما تلقّيه المرأة على رأسها و تتلفع به.

(٤) خطاب للمرأة يقال للرجل يا هناه.

١٠٦

براءة أهله و بالّذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال: يا رسول الله أهلك و لا نعلم إلّا خيراً، و أمّا عليّ بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيّق الله عليك، و النساء سواها كثيرة و إن تسأل الجارية تصدقك، فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت شيئاً يريبك؟ قالت بريرة: لا و الّذي بعثك بالحقّ إن رأيت عليها أمراً أغمضه أكثر من أنّها جارية حديثة السنّ تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله.

فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستعذر يومئذ من عبدالله بن اُبيّ فقال و هو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلّا خيراً، و لقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلّا خيراً و ما كان يدخل على أهلي إلّا معي.

فقام سعد بن معاذ الأنصاريّ فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه و إن كان من إخواننا من بني الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة و هو سيّد الخزرج و كان قبل ذلك رجلاً صالحاً و لكن احتملته الحميّة فقال لسعد: كذبت لعمر الله ما تقتله و لا تقدر على قتله، فقام اُسيد بن حضير و هو ابن عمّ سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لنقتلنّه فإنّك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيّان: الأوس و الخزرج حتّى همّوا أن يقتتلوا و رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخفضهم حتّى سكتوا و سكت.

فبكيت يومي ذلك فلا يرقأ لي دمع و لا أكتحل بنوم فأصبح أبواي عندي و قد بكيت ليلتين و يوماً لا أكتحل بنوم و لا يرقأ لي دمع و أبواي يظنّان أنّ البكاء فالق كبدي.

فبينما هما جالسان عندي و أنا أبكي فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ جلس و لم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل قبلها و قد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشي‏ء، فتشهّد حين جلس ثمّ قال: أمّا بعد يا عائشة إنّه بلغني عنك كذا و كذا فإن

١٠٧

كنت بريئة فسيبرؤك الله، و إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله و توبي إليه فإنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثمّ تاب تاب الله عليه.

فلمّا قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقالته قلص(١) دمعي حتّى ما اُحسّ منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عنّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال: و الله ما أدري ما أقول لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقلت لاُمّي: أجيبي عنّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قالت: و الله ما أدري ما أقول لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقلت و أنا جارية حديثة السنّ لا أقرأ كثيراً من القرآن: إنّي و الله لقد علمت أنّكم سمعتم هذا الحديث حتّى استقرّ في أنفسكم و صدّقتم به فلئن قلت لكم: إنّي بريئة و الله يعلم أنّي بريئة لا تصدّقوني، و لئن اعترفت لكم بأمر و الله يعلم أنّي منه بريئة لتصدّقنّي، و الله لا أجد لي و لكم مثلاً إلّا قول أبي يوسف: فصبر جميل و الله المستعان على ما تصفون.

ثمّ تحوّلت فاضطجعت على فراشي و أنا حينئذ أعلم أنّي بريئة و أنّ الله مبرّئي ببراءتي و لكن و الله ما كنت أظنّ أنّ الله منزل في شأني وحياً يتلى، و لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلّم الله فيّ بأمر يتلى، و لكن كنت أرجو أن يرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رؤيا يبرّئني الله بها.

قالت: فوالله ما رام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجلسه و لا خرج أحد من أهل البيت حتّى اُنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتّى إنّه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق و هو في يوم شات من ثقل القول الّذي اُنزل عليه فلمّا سرى عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سرى عنه و هو يضحك فكان أوّل كلمة تكلّم بها أن قال: أبشري يا عائشة أمّا الله فقد برأك، فقالت اُمّي: قومي إليه، فقلت: و الله لا أقوم إليه و لا أحمد إلّا الله الّذي أنزل براءتي، و أنزل الله:( إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) العشر الآيات كلها.

فلمّا أنزل الله هذا في براءتي قال أبوبكر، و كان ينفق على مسطح بن أثاثة

____________________

(١) قلص: اجتمع و انقبض.

١٠٨

لقرابته منه و فقره: و الله لا اُنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الّذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله:( وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى‏ وَ الْمَساكِينَ - إلى قوله -رَحِيمٌ ) قال أبوبكر: و الله إنّي اُحبّ أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة الّتي كان ينفق عليه، و قال: و الله لا أنزعها منه أبداً.

قالت عائشة: فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال: يا زينب ما ذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي و بصري ما علمت إلّا خيراً، قالت: و هي الّتي كانت تساميني من أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعصمها الله بالورع، و طفقت اُختها حمنة - تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك.

أقول: و الرواية مروية بطرق اُخرى عن عائشة أيضاً و عن عمر و ابن عبّاس و أبي هريرة و أبي اليسر الأنصاريّ و أم رومان أم عائشة و غيرهم و فيها بعض الاختلاف.

و فيها أنّ الّذين جاؤا بالإفك عبد الله بن اُبيّ بن سلول و مسطح بن أثاثة و كان بدريّاً من السابقين الأوّلين من المهاجرين، و حسّان بن ثابت، و حمنة اُخت زينب زوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيها أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعاهم بعد ما نزلت آيات الإفك فحدّهم جميعاً غير أنّه حدّ عبدالله بن اُبيّ حدّين و إنّما حدّه حدّين لأنّه من قذف زوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عليه حدّان.

و في الروايات على تقاربها في سرد القصّة إشكال من وجوه:

أحدها: أنّ المسلّم من سياقها أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في ريب من أمر عائشة بعد تحقّق الإفك كما يدلّ عليه تغيّر حاله بالنسبة إليها في المعاملة باللطف أيّام اشتكائها و بعدها حتّى نزلت الآيات، و يدلّ عليه قولها له حين نزلت الآيات و بشّرها به: بحمد الله لا بحمدك، و في بعض الروايات أنّها قالت لأبيها و قد أرسله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليبشّرها بنزول العذر: بحمد الله لا بحمد صاحبك الّذي أرسلك، تريد به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و في الرواية الاُخرى عنها: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما

١٠٩

وعظها أن تتوب إلى الله إن كان منها شي‏ء و في الباب امرأة جالسة قالت له عائشة: أ ما تستحي من هذه المرأة أن تذكر شيئاً، و من المعلوم أنّ هذا النوع من الخطاب المبنيّ على الإهانة و الإزراء ما كان يصدر عنها لو لا أنّها وجدت النبيّ في ريب من أمرها. كلّ ذلك مضافاً إلى التصريح به في رواية عمر ففيها:( فكان في قلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا قالوا) .

و بالجملة دلالة عامّة الروايات على كون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ريب من أمرها إلى نزول العذر ممّا لا ريب فيه، و هذا ممّا يجلّ عنه مقامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف؟ و هو سبحانه يقول:( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ ) فيوبّخ المؤمنين و المؤمنات على إساءتهم الظنّ و عدم ردّهم ما سمعوه من الإفك فمن لوازم الإيمان حسن الظنّ بالمؤمنين، و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحقّ من يتّصف بذلك و يتحرّز من سوء الظنّ الّذي من الإثم و له مقام النبوّة و العصمة الإلهيّة.

على أنّه تعالى ينصّ في كلامه على اتّصافهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك إذ يقول:( وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) التوبة: ٦١.

على أنّا نقول: إنّ تسرّب الفحشاء إلى أهل النبيّ ينفّر القلوب عنه فمن الواجب أن يطهّر الله سبحانه ساحة أزواج الأنبياء عن لوث الزنا و الفحشاء و إلّا لغت الدعوة و تثبت بهذه الحجّة العقليّة عفّتهنّ واقعاً لا ظاهراً فحسب، و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعرف بهذه الحجّة منّا فكيف جاز له أن يرتاب في أمر أهله برمي من رام أو شيوع من إفك.

و ثانيها: أنّ الّذي تدلّ عليه الروايات أنّ حديث الإفك كان جارياً بين الناس منذ بدأ به أصحاب الإفك إلى أن ختم بحدّهم أكثر من شهر و قد كان حكم القذف مع عدم قيام الشهادة معلوماً و هو جلد القاذف و تبرئة المقذوف شرعاً فما معنى توقّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حدّ أصحاب الإفك هذه المدّة الطويلة و انتظاره الوحي في أمرها حتّى يشيع بين الناس و تتلقّاه الألسن و تسير به الركبان و يتّسع الخرق

١١٠

على الراتق؟ و ما أتى به الوحي من العذر لا يزيد على ما تعيّنه آية القذف من براءة المقذوف حكماً شرعيّاً ظاهريّاً.

فإن قيل: الّذي نزل من العذر براءتها واقعاً و طهارة ذيلها في نفس الأمر و هذا أمر لا تكفي له آية حدّ القاذف، و لعلّ صبرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه المدّة الطويلة إنّما كان لأجله.

قلت: لا دلالة في شي‏ء من هذه الآيات الستّ عشرة على ذلك، و إنّما تثبت بالحجّة العقليّة السابقة الدالّة على طهارة بيوت الأنبياء من لوثة الفحشاء:

أمّا الآيات العشر الاُول الّتي فيها شائبة الاختصاص فأظهرها في الدلالة على براءتها قوله تعالى:( لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ ) و قد استدلّ فيها على كذبهم بعدم إتيانهم بالشهداء، و من الواضح أنّ عدم إقامة الشهادة إنّما هو دليل البراءة الظاهريّة أعني الحكم الشرعيّ بالبراءة دون البراءة الواقعيّة لوضوح عدم الملازمة.

و أمّا الآيات الستّ الأخيرة فقوله:( الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ ) إلخ عامّ من غير مخصّص من جهة اللفظ فالّذي تثبته من البراءة مشترك فيه بين جميع المقذوفين من غير قيام بيّنة من المؤمنين و المؤمنات، و من الواضح أنّ البراءة المناسبة لهذا المعنى هي البراءة الشرعيّة.

و الحقّ أن لا مناص عن هذا الإشكال إلّا بالقول بأنّ آية القذف لم تكن نازلة قبل حديث الإفك و إنّما نزلت بعده، و إنّما كان سبب توقّفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلوّ الواقعة عن حكم الله بعد فكان ينتظر في أمر الإفك الحكم السماويّ.

و من أوضح الدليل عليه ما في الرواية من استعذار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القاذف في المسجد و قول سعد بن معاذ ما قال و مجادلة سعد بن عبادة إيّاه و اختلاف الأوس و الخزرج بمحضر من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و في رواية عمر بعد ما ذكر اختلاف ابن معاذ و ابن عبادة: فقال هذا: يا للأوس و قال هذا: يا للخزرج فاضطربوا بالنعال و الحجارة فتلاطموا، الحديث فلو كانت آية القذف نازلة قبل ذلك و حكم الحدّ معلوماً لم يجب

١١١

سعد بن معاذ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه يعذره منه بالقتل و لقال هو و سائر الناس: يا رسول الله حكم القذف معلوم و يدك مبسوطة.

و ثالثها: أنّها تصرح بكون أصحاب الإفك هم عبدالله بن اُبيّ و مسطحاً و حسّاناً و حمنة ثمّ تذكر أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حدّ عبدالله بن اُبيّ حدّين و كلّا من مسطح و حسّان و حمنة حدّاً واحداً، ثمّ تعلّل حدّي عبدالله بن اُبيّ بأنّ من قذف أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعليّه حدّان، و هذا تناقض صريح فإنّهم جميعاً كانوا قاذفين بلا فرق بينهم.

نعم تذكر الروايات أنّ عبدالله بن اُبيّ كان هو الّذي تولّى كبره منهم لكن لم يقل أحد من الاُمّة إنّ هذا الوصف يوجب حدّين. و لا أنّ المراد بالعذاب العظيم في قوله:( الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ ) هو ثبوت حدّين.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) الآية فإنّ العامّة روت أنّها نزلت في عائشة و ما رميت به في غزوة بني المصطلق من خزاعة و أمّا الخاصّة فإنّهم رووا أنّها نزلت في مارية القبطيّة و ما رمتها به عائشة.

حدّثنا محمّد بن جعفر قال حدّثنا محمّد بن عيسى عن الحسن بن عليّ بن فضّال قال: حدّثني عبدالله بن بكير عن زرارة قال: سمعت أباجعفرعليه‌السلام يقول: لما هلك إبراهيم بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حزن عليه حزناً شديداً فقالت عائشة: ما الّذي يحزنك عليه؟ ما هو إلّا ابن جريح، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاًعليه‌السلام و أمره بقتله.

فذهب عليّعليه‌السلام و معه السيف و كان جريح القبطيّ في حائط فضرب عليّعليه‌السلام باب البستان فأقبل جريح له ليفتح الباب فلمّا رأى عليّاًعليه‌السلام عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعاً و لم يفتح باب البستان فوثب عليّعليه‌السلام على الحائط و نزل إلى البستان و اتّبعه و ولّى جريح مدبّراً فلمّا خشي أن يرهقه(١) صعد في نخلة و صعد عليّعليه‌السلام في أثره فلمّا دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته

____________________

(١) أرهقه: أدركه.

١١٢

فإذا ليس له ما للرجال و لا له ما للنساء.

فانصرف عليّعليه‌السلام إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له: يا رسول الله إذا بعثتني في الأمر أكون كالمسمار المحميّ في الوبر أم اُثبّت؟ قال: لا بل تثبّت. قال: و الّذي بعثك بالحقّ ما له ما للرجال و ما له ما للنساء، فقال: الحمد لله الّذي صرف عنّا السوء أهل البيت.

و فيه، في رواية عبيدالله بن موسى عن أحمد بن راشد عن مروان بن مسلم عن عبدالله بن بكير قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : جعلت فداك كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بقتل القبطيّ و قد علم أنّها كذبت عليه أو لم يعلم؟ و قد دفع الله عن القبطيّ القتل بتثبيت عليّعليه‌السلام فقال: بل كان و الله علم، و لو كان عزيمة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما انصرف عليّعليه‌السلام حتّى يقتله، و لكن إنّما فعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لترجع عن ذنبها فما رجعت و لا اشتدّ عليها قتل رجل مسلم.

أقول: و هناك روايات اُخر تدلّ على مشاركة غيرها معها في هذا الرمي، و جريح هذا كان خادماً خصيّاً لمارية أهداه معها مقوقس عظيم مصر لرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أرسله معها ليخدمها.

و هذه الروايات لا تخلو من نظر:

أمّا أوّلاً: فلأنّ ما فيها من القصّة لا يقبل الانطباق على الآيات و لا سيّما قوله:( إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ ) الآية و قوله:( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ) الآية، و قوله:( تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ) الآية، فمحصّل الآيات أنّه كان هناك جماعة مرتبط بعضهم ببعض يذيعون الحديث ليفضحوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و كان الناس يتداولونه لساناً عن لسان حتّى شاع بينهم و مكثوا على ذلك زماناً و هم لا يراعون حرمة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كرامته من الله، و أين مضمون هذه الروايات من ذلك.

اللّهمّ إلّا أن تكون الروايات قاصرة في شرحها للقصّة.

و أمّا ثانياً: فقد كان مقتضى القصّة و ظهور براءتها إجراء الحدّ و لم يجر،

١١٣

و لا مناص عن هذا الإشكال إلّا بالقول بنزول آية القذف بعد قصّة الإفك بزمان.

و الّذي ينبغي أن يقال بالنظر إلى إشكال الحدّ الوارد على الصنفين من الروايات جميعاً - كما عرفت - أنّ آيات الإفك نزلت قبل آية حدّ القذف، و لم يشرّع بنزول آيات الإفك إلّا براءة المقذوف مع عدم قيام الشهادة و تحريم القذف.

و لو كان حدّ القاذف مشروعاً قبل حديث الإفك لم يكن هناك مجوّز لتأخيره مدّة معتدّاً بها و انتظار الوحي و لا نجا منه قاذف منهم، و لو كان مشروعاً مع نزول آيات الإفك لاُشير فيها إليه، و لا أقلّ باتّصال الآيات بآية القذف، و العارف بأساليب الكلام لا يرتاب في أنّ قوله:( إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ ) الآيات منقطعة عمّا قبلها.

و لو كان على من قذف أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حدّان لاُشير إلى ذلك في خلال آيات الإفك بما فيها من التشديد و اللعن و التهديد بالعذاب على القاذفين.

و يتأكّد الإشكال على تقدير نزول آية القذف مع نزول آيات الإفك فإنّ لازمه أن يقع الابتلاء بحكم الحدّين فينزل حكم الحدّ الواحد.

و في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: من قال في مؤمن ما رأته عيناه و سمعته اُذناه فهو من الّذين قال الله عزّوجلّ:( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ إلى قوله وَ الْآخِرَةِ ) .

أقول: و رواه القمّيّ في تفسيره، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام عنهعليه‌السلام و الصدوق في الأمالي، بإسناده عن ابن أبي عمير عن محمّد بن حمران عنهعليه‌السلام ، و المفيد في الاختصاص، عنهعليه‌السلام مرسلاً.

و فيه، بإسناده عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أذاع فاحشة كان كمبتدئها.

و في المجمع: قيل: إنّ قوله:( وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ ) الآية، نزلت في أبي بكر و مسطح بن أثاثة و كان ابن خالة أبي بكر، و كان من المهاجرين و من جملة البدرييّن و كان فقيراً، و كان أبوبكر يجري عليه و يقوم بنفقته فلمّا

١١٤

خاض في الإفك قطعها و حلف أن لا ينفعه بنفع أبداً فلمّا نزلت الآية عاد أبوبكر إلى ما كان، و قال: و الله إنّي لاُحبّ أن يغفر الله لي، و الله لا أنزعها عنه أبداً: عن ابن عبّاس و عائشة و ابن زيد.

و فيه: و قيل: نزلت في جماعة من الصحابة أقسموا على أن لا يتصدّقوا على رجل تكلّم بشي‏ء من الإفك و لا يواسوهم عن ابن عبّاس و غيره.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عبّاس.

و في تفسير القمّيّ، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى‏ ) و هم قرابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَ الْمَساكِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا ) يقول: يعفو بعضكم عن بعض، و يصفح بعضكم بعضاً فإذا فعلتم كانت رحمة الله لكم، يقول الله عزّوجلّ:( أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَ اللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

و في الكافي، بإسناده عن محمّد بن سالم عن أبي جعفرعليه‌السلام في حديث قال: و نزل بالمدينة:( وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

فبرّأه الله ما كان مقيماً على الفرية من أن يسمّى بالإيمان، قال الله عزّوجلّ:( أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) و جعله من أولياء إبليس قال:( إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ‏ ) و جعله ملعوناً فقال:( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

و ليست تشهد الجوارح على مؤمن إنّما تشهد على من حقّت عليه كلمة العذاب فأمّا المؤمن فيعطى كتابه بيمينه، قال الله عزّوجلّ:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا )

و في المجمع: في قوله تعالى:( الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ

١١٥

وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ ) الآية، قيل في معناه أقوال - إلى أن قال - الثالث‏ الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال و الخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء - عن أبي مسلم و الجبائيّ و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام . قالا: هي مثل قوله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) إلّا أنّ اُناساً همّوا أن يتزوّجوا منهنّ فنهاهم الله عن ذلك و كره ذلك لهم.

و في الخصال، عن عبدالله بن عمر و أبي هريرة قالا: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا طاب قلب المرء طاب جسده، و إذا خبث القلب خبث الجسد.

و في الإحتجاج، عن الحسن بن عليّعليه‌السلام : في حديث له مع معاوية و أصحابه و قد نالوا من عليّعليه‌السلام :( الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ ) هم و الله يا معاوية أنت و أصحابك هؤلاء و شيعتك( وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ ) إلى آخر الآية، هم عليّ بن أبي طالب و أصحابه و شيعته.

١١٦

( سورة النور الآيات ٢٧ - ٣٤)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا  ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ٢٧ ) فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ  وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا  هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ  وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( ٢٨ ) لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ  وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( ٢٩ ) قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ  ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ  إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ( ٣٠ ) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا  وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ  وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ  وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ  وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٣١ ) وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ  إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ  وَاللهُ وَاسِعٌ

١١٧

عَلِيمٌ ( ٣٢ ) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ  وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا  وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ  وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٣٣ ) وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ( ٣٤ )

( بيان)

أحكام و شرائع متناسبة و مناسبة لما تقدّم.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى‏ أَهْلِها ) إلخ، الاُنس بالشي‏ء و إليه الاُلفة و سكون القلب إليه، و الاستيناس طلب ذلك بفعل يؤدّي إليه كالاستيناس لدخول بيت بذكر الله و التنحنح و نحو ذلك ليتنبّه صاحب البيت أنّ هناك من يريد الدخول عليه فيستعد لذلك فربّما كان في حال لا يحبّ أن يراه عليها أحد أو يطّلع عليها مطّلع.

و منه يظهر أنّ مصلحة هذا الحكم هو الستر على عورات الناس و التحفّظ على كرامة الإيمان فإذا استأنس الداخل عند إرادة الدخول على بيت غير بيته فأخبر باستيناسه صاحب البيت بدخوله ثمّ دخل فسلّم عليه فقد أعانه على ستر عورته، و أعطاه الأمن من نفسه.

و يؤدّي الاستمرار على هذه السيرة الجميلة إلى استحكام الاُخوّة و الاُلفة و التعاون العامّ على إظهار الجميل و الستر على القبيح و إليه الإشارة بقوله:( ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) أي لعلّكم بالاستمرار على هذه السيرة تتذكّرون ما يجب

١١٨

عليكم رعايته و إحياؤه من سنّة الأخوّة و تألّف القلوب الّتي تحتها كلّ سعادة اجتماعيّة.

و قيل: إنّ قوله:( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) تعليل لمحذوف و التقدير قيل لكم كذا لعلّكم تتذكّرون مواعظ الله فتعملوا بموجبها، و لا بأس به.

و قيل: إنّ في قوله:( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا ) تقديماً و تأخيراً و الأصل حتّى تسلّموا و تستأنسوا. و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ ) إلخ، أي إن علمتم بعدم وجود أحد فيها - و هو الّذي يملك الإذن - فلا تدخلوها حتّى يؤذن لكم من قبل من يملك الإذن، و ليس المراد به أن يتطّلع على البيت و ينظر فيه فإن لم ير فيه أحداً كفّ عن الدخول فإنّ السياق يشهد على أنّ المنع في الحقيقة عن النظر و الاطّلاع على عورات الناس.

و هذه الآية تبيّن حكم دخول بيت الغير و ليس فيه من يملك الإذن، و الآية السابقة تبيّن حكم الدخول و فيه من يملك الإذن و لا يمنع، و أمّا دخوله و فيه من يملك الإذن و يمنع و لا يأذن فيه فيبيّن حكمه قوله تعالى:( وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى‏ لَكُمْ وَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) .

قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ ) إلخ، ظاهر السياق كون قوله:( فِيها مَتاعٌ لَكُمْ ) صفة بعد صفة لقوله:( بُيُوتاً ) لا جملة مستأنفة معلّلة لقوله:( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ) ، و الظاهر أنّ المتاع بمعنى الاستمتاع.

ففيه تجويز الدخول في بيوت معدّة لأنواع الاستمتاع و هي غير مسكونة بالطبع كالخانات و الحمّامات و الأرحية و نحوها فإنّ كونها موضوعة للاستمتاع إذن عامّ في دخولها.

و ربّما قيل: إنّ المراد بالمتاع المعنى الاسميّ و هو الأثاث و الأشياء الموضوعة للبيع و الشري كما في بيوت التجارة و الحوانيت فإنّها مأذونة في دخولها إذنا عامّاً

١١٩

و لا يخلو من بعد لقصور اللفظ.

قوله تعالى: ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى‏ لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ) الغضّ إطباق الجفن، على الجفن و الأبصار جمع بصر و هو العضو الناظر، و من هنا يظهر أنّ( مِنْ ) في( مِنْ أَبْصارِهِمْ ) لابتداء الغاية لا مزيدة و لا للجنس و لا للتبعيض كما قال بكلّ قائل، و المعنى يأتوا بالغضّ آخذاً من أبصارهم.

فقوله:( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ) لما كان( يَغُضُّوا ) مترتّباً على قوله:( قُلْ ) ترتّب جواب الشرط عليه دلّ ذلك على كون القول بمعنى الأمر و المعنى مرهم يغضّوا من أبصارهم و التقدير مرهم بالغضّ إنّك إن تأمرهم به يغضّوا، و الآية أمر بغضّ الأبصار و إن شئت فقل: نهي عن النظر إلى ما لا يحلّ النظر إليه من الأجنبيّ و الأجنبيّة لمكان الإطلاق.

و قوله:( وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) أي و مرهم يحفظوا فروجهم، و الفرجة و الفرج الشقّ بين الشيئين، و كنّى به عن السوأة، و على ذلك جرى استعمال القرآن الملي‏ء أدباً و خلقاً ثمّ كثر استعماله فيها حتّى صار كالنصّ كما ذكره الراغب.

و المقابلة بين قوله:( يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ) و( يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) يعطي أنّ المراد بحفظ الفروج سترها عن النظر لا حفظها عن الزنا و اللواطة كما قيل، و قد ورد في الرواية عن الصادقعليه‌السلام : أنّ كلّ آية في القرآن في حفظ الفروج فهي من الزنا إلّا هذه الآية فهي من النظر.

و على هذا يمكن أن تتقيّد اُولى الجملتين بثانيتهما و يكون مدلول الآية هو النهي عن النظر إلى الفروج و الأمر بسترها.

ثمّ أشار إلى وجه المصلحة في الحكم و حثّهم على المراقبة في جنبه بقوله:( ذلِكَ أَزْكى‏ لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ ) إلخ، الكلام في قوله:( وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ) نظير ما مرّ في قوله:( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا

١٢٠