الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 453
المشاهدات: 119358
تحميل: 5562


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 119358 / تحميل: 5562
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 15

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) فلا يجوز لهنّ النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه و يجب عليهنّ ستر العورة عن الأجنبيّ و الأجنبيّة.

و أمّا قوله:( وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها ) فالإبداء الإظهار، و المراد بزينتهنّ مواضع الزينة لأنّ نفس ما يتزيّن به كالقرط و السوار لا يحرم إبداؤها فالمراد بإبداء الزينة إبداء مواضعها من البدن.

و قد استثنى الله سبحانه منها ما ظهر، و قد وردت الرواية أنّ المراد بما ظهر منها الوجه و الكفّان و القدمان كما سيجي‏ء إن شاء الله.

و قوله:( وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى‏ جُيُوبِهِنَّ ) الخمر بضمّتين جمع خمار و هو ما تغطيّ به المرأة رأسها و ينسدل على صدرها، و الجيوب جمع جيب بالفتح فالسكون و هو معروف و المراد بالجيوب الصدور، و المعنى و ليلقين بأطراف مقانعهنّ على صدورهنّ ليسترنها بها.

و قوله:( وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ - إلى قوله -أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ ) البعولة هم أزواجهنّ، و الطوائف السبع الاُخر محارمهنّ من جهة النسب و السبب، و أجداد البعولة حكمهم حكم آبائهم و أبناء أبناء البعولة حكمهم حكم الأبناء.

و قوله:( أَوْ نِسائِهِنَّ ) في الإضافة إشارة إلى أنّ المراد بهنّ المؤمنات من النساء فلا يجوز لهنّ التجرّد لغيرهنّ من النساء و قد وردت به الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

و قوله:( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ) إطلاقه يشمل العبيد و الإماء، و قد وردت به الرواية كما سيأتي إن شاء الله، و هذا من موارد استعمال( ما ) في اُولي العقل.

و قوله:( أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ ) الإربة هي الحاجة، و المراد به الشهوة الّتي تحوج إلى الازدواج، و( مِنَ الرِّجالِ ) بيان للتابعين، و المراد بهم كما تفسّره الروايات البله المولّى عليهم من الرجال و لا شهوة لهم.

و قوله:( أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى‏ عَوْراتِ النِّساءِ ) أي جماعة الأطفال - و اللّام للاستغراق - الّذين لم يقووا و لم يظهروا - من الظهور بمعنى الغلبة - على

١٢١

اُمور يسوء التصريح بها من النساء، و هو - كما قيل - كناية عن البلوغ.

و قوله:( وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ) ذلك بتصوّت أسباب الزينة كالخلخال و العقد و القرط و السوار.

و قوله:( وَ تُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) المراد بالتوبة - على ما يعطيه السياق - الرجوع إليه تعالى بامتثال أوامره و الانتهاء عن نواهيه و بالجملة اتّباع سبيله.

قوله تعالى: ( وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى‏ مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ ) الإنكاح التزويج، و الأيامى جمع أيّم بفتح الهمزة و كسر الياء المشدّدة و هو الذكر الّذي لا اُنثى معه و الاُنثى الّتي لا ذكر معها و قد يقال في المرأة أيّمة، و المراد بالصالحين الصالحون للتزويج لا الصالحون في الأعمال.

و قوله:( إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) وعد جميل بالغنى و سعة الرزق و قد أكّده بقوله:( وَ اللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) و الرزق يتبع صلاحية المرزوق بمشيّة من الله سبحانه، و سيوافيك إن شاء الله في تفسير قوله تعالى:( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ) الذاريات: ٢٣ كلام في معنى سعة الرزق.

قوله تعالى: ( وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) الاستعفاف و التعفّف قريباً المعنى، و المراد بعدم وجدان النكاح عدم القدرة على المهر و النفقة، و معنى الآية الأمر بالتعفّف لمن لا يقدر على النكاح و التحرّز عن الوقوع في الزنا حتّى يغنيه الله من فضله.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ) إلخ المراد بالكتاب المكاتبة، و ابتغاء المكاتبة أن يسأل العبد مولاه أن يكاتبه على إيتائه المولى مالا على أن يعتقه، و في الآية أمر للموالي بإجابتهم إن علموا فيهم خيراً و هو كناية عن إحراز صلاحيتهم لذلك.

و قوله:( وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ ) إشارة إلى إيتائهم مال المكاتبة من الزكاة المفروضة فسهم من سهام الزكاة لهم، كما قال تعالى:( وَ فِي الرِّقابِ )

١٢٢

التوبة: ٦٠ أو إسقاط شي‏ء من مال المكاتبة.

و في هذه الآية و الآيات السابقة مباحث فقهيّة جمّة ينبغي أن يراجع فيها كتب الفقه.

قوله تعالى: ( وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ) الفتيات الإماء و الولائد، و البغاء الزنا و هو مفاعلة من البغي، و التحصّن التعفّف و الازدواج و ابتغاء عرض الحياة الدنيا طلب المال، و المعنى ظاهر.

و إنّما اشترط النهي عن الإكراه بإرادة التحصّن لأنّ الإكراه لا يتحقّق في من لا يريد التحصّن، ثمّ وعدهنّ المغفرة على تقدير الإكراه بقوله:( وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) و معناه ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) المثل الصفة و من الممكن أن يكون قوله:( وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا ) إلخ، حالاً من فاعل قوله:( تُوبُوا ) في الآية السابقة أو استينافاً و المعنى و اُقسم لقد أنزلنا إليكم آيات تبيّن لكم من معارف الدين ما تفلحون به، و صفة من السابقين أخيارهم و أشرارهم يتميّز بها لكم ما ينبغي أن تأخذوا به ممّا ينبغي لكم أن تجتنبوا، و موعظة للمتّقين منكم.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبدالله عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى‏ أَهْلِها ) قال: الاستيناس وقع النعل و التسليم.

أقول: و رواه الصدوق في معاني الأخبار، عن محمّد بن الحسن مرفوعاً عن عبدالرحمن عنهعليه‌السلام .

و في المجمع، عن أبي أيّوب الأنصاريّ قال: قلنا: يا رسول الله ما الاستيناس؟ قال يتكلّم الرجل بالتسبيحة و التحميدة و التكبيرة و يتنحنح على أهل البيت.

١٢٣

و عن سهل بن سعد قال: اطّلع رجل في حجرة من حجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و معه مدرى(١) يحكّ رأسه: لو أعلم أنّك تنظر لطعنت به في عينيك إنّما الاستيذان من النظر.

و روي: أنّ رجلاً قال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أستأذن على اُمّي؟ فقال: نعم. قال‏ إنّها ليس لها خادم غيري أ فأستأذن عليها كلّما دخلت؟ قال: أ تحبّ أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا، قال: فاستأذن عليها.

و روي: أنّ رجلاً استأذن على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتنحنح فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لامرأة يقال لها: روضة: قومي إلى هذا فعلّميه و قولي له: قل السلام عليكم أ أدخل؟ فسمعها الرجل فقالها فقال: ادخل.

أقول: و روي في الدرّ المنثور، عن جمع من أصحاب الجوامع الرواية الاُولى عن أبي أيّوب، و الثانية عن سهل بن سعد و الرابعة عن عمرو بن سعد الثقفيّ.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن الاستيذان في البيوت فقال: من دخلت عينه قبل أن يستأذن و يسلّم فقد عصى الله و لا إذن له.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ ) قال: معناه و إن لم تجدوا فيها أحداً يأذن لكم فلا تدخلوها حتّى يؤذن لكم.

و فيه،: في قوله تعالى:( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ ) قال الصادقعليه‌السلام : هي الحمّامات و الخانات و الأرحية تدخلها بغير إذن.

و في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في حديث يذكر فيه ما فرض الله على الجوارح. قال: و فرض على البصر أن لا ينظر إلى ما

____________________

(١) المشط.

١٢٤

حرّم الله عليه، و أن يعرض عمّا نهى الله عنه ممّا لا يحلّ له و هو عمله و هو من الإيمان.

فقال تبارك و تعالى:( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم و أن ينظر المرء إلى فرج أخيه و يحفظ فرجه أن ينظر إليه، و قال:( وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ) من أن تنظر إحداهنّ إلى فرج اُختها و تحفظ فرجها من أن ينظر إليه.

و قال: كلّ شي‏ء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلّا هذه الآية فهو من النظر.

أقول: و روى القمّيّ في تفسيره، ذيل الحديث عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عنهعليه‌السلام ، و روي مثله عن أبي العالية و ابن زيد.

و في الكافي، بإسناده عن سعد الإسكاف عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: استقبل شابّ من الأنصار امرأة بالمدينة و كان النساء يتقنّعن خلف آذانهنّ فنظر إليها و هي مقبلة فلمّا جازت نظر إليها و دخل في زقاق قد سمّاه ببني فلان، و جعل ينظر خلفها، و اعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشّق وجهه فلمّا مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه و صدره فقال: و الله لآتينّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لاُخبرنّه.

قال: فأتاه فلمّا رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له: ما هذا؟ فأخبره فهبط جبرئيل بهذه الآية( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى‏ لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ) .

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب مثله‏، و ظاهر الحديث أنّ المراد بالأمر بالغضّ في الآية النهي عن مطلق النظر إلى الأجنبيّة، كما أنّ ظاهر بعض الروايات السابقة أنّه نهي عن النظر إلى فرج الغير خاصّة.

و فيه، بإسناده عن مروك بن عبيد عن بعض أصحابنا عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قلت له: ما يحلّ أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرماً؟ قال: الوجه و الكفّان

١٢٥

و القدمان.

أقول: و رواه في الخصال، عن بعض أصحابنا عنهعليه‌السلام و لفظه: الوجه و الكفّين و القدمين.

و في قرب الإسناد، للحميريّ عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن الرجل ما يصلح له أن ينظر إليه من المرأة الّتي لا تحلّ له؟ قال: الوجه و الكفّ و موضع السوار.

و في الكافي، بإسناده عن عبّاد بن صهيب قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: لا بأس بالنظر إلى رؤس أهل تهامة و الأعراب و أهل السواد و العلوج لأنّهم(١) إذا نهوا لا ينتهون.

قال: و المجنونة و المغلوبة على عقلها، و لا بأس بالنظر إلى شعرها و جسدها ما لم يتعمّد ذلك.

أقول: كأنّهعليه‌السلام يريد بقوله: ما لم يتعمّد ذلك، الريبة.

و في الخصال و قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأميرالمؤمنينعليه‌السلام : يا عليّ أوّل نظرة لك و الثانية عليك لا لك‏.

أقول: و روي مثله في الدرّ المنثور، عن عدّة من أصحاب الجوامع عن بريدة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لفظه: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ: لا تتبع النظرة النظرة فإنّ لك الاُولى و ليست لك الآخرة.

و في جوامع الجامع، عن اُمّ سلمة قالت: كنت عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عنده ميمونة فأقبل ابن اُمّ مكتوم و ذلك بعد أن أمرنا بالحجاب فقال: احتجبا، فقلنا: يا رسول الله أ ليس أعمى لا يبصرنا؟ فقال: أ فعمياوان أنتما؟ أ لستما تبصرانه؟

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن أبي داود و الترمذيّ و النسائيّ و البيهقيّ عنها.

و في الفقيه، و روى حفص بن البختريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: لا ينبغي

____________________

(١) رعاية التذكير لاعتبار الأهل و القوم في مرجع الضمير، و كان الظاهر أن يقال: لأنهنّ إذا نهين لا ينتهين.

١٢٦

للمرأة أن تنكشف بين يدي اليهوديّة و النصرانيّة فإنّهنّ يصفن ذلك لأزواجهنّ.

و في المجمع: في قوله تعالى:( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ) و قيل: معناه العبيد و الإماء و روي ذلك عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

و في الكافي، بإسناده عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله قال: سألته عن( غير ) اُولي الإربة من الرجال. قال: الأحمق المولّى عليه الّذي لا يأتي النساء.

و فيه، بإسناده عن محمّد بن جعفر عن أبيه عن آبائهعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء ظنّه بالله عزّوجلّ إنّ الله يقول:( إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) .

أقول: و في المعاني السابقة روايات كثيرة جدّاً عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام من أرادها فليراجع كتب الحديث.

و في الفقيه، روى العلاء عن محمّد بن مسلم عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ) قال: الخير أن يشهد أن لا إله إلّا الله و أنّ محمّداً رسول الله، و يكون بيده عمل يكتسب به أو يكون له حرفة.

أقول: و في معناه روايات اُخر.

و في الكافي، بإسناده عن العلاء بن فضيل عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: في قوله عزّوجلّ:( فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ ) قال: تضع عنه من نجومه الّتي لم تكن تريد أن تنقصه، و لا تزيد فوق ما في نفسك. فقلت: كم؟ فقال: وضع أبوجعفرعليه‌السلام عن مملوك ألفاً من ستّة آلاف.

أقول: و روي في مجمع البيان، و كذا في الدرّ المنثور، عن عليّعليه‌السلام ربع المال، و المستفاد من ظواهر الأخبار عدم تعيّن مقدار معيّن ذي نسبة.

و قد تقدّمت في ذيل قوله:( وَ فِي الرِّقابِ ) التوبة: ٦٠ الجزء التاسع من الكتاب رواية العيّاشيّ أنّ المكاتب يؤتى من سهم الرقاب من الزكاة.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ) ، قال: كانت العرب و قريش يشترون الإماء و يضعون عليهنّ الضريبة

١٢٧

الثقيلة و يقولون: اذهبن و ازنين و اكتسبن فنهاهم الله عن ذلك فقال:( وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ - إلى قوله -غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي لا يؤاخذهنّ الله تعالى بذلك إذا اُكرهن عليه.

و في المجمع: في قوله تعالى:( لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) قيل: إنّ عبدالله بن اُبيّ كانت له ستّ جوار يكرههنّ على الكسب بالزنا، فلمّا نزل تحريم الزنا أتين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكون إليه فنزلت الآية.

أقول: أمّا أنّه كان له من الجواري من يكرههنّ على الزنا فقد وردت فيه روايات رواها في الدرّ المنثور، كما روى هذه الرواية، و أمّا كون ذلك بعد نزول تحريم الزنا فيضعّفه أنّ الزنا لم يحرّم في المدينة بل في مكّة قبل الهجرة بل كانت حرمته من ضروريّات الإسلام منذ ظهرت الدعوة الحقّة، و قد تقدّم في تفسير سورة الأنعام أنّ حرمة الفواحش و منها الزنا من الأحكام العامّة الّتي لا تختصّ بشريعة دون شريعة.

١٢٨

( سورة النور الآيات ٣٥ - ٤٦)

اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ  الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ  الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ  نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ  يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ  وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ  وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٣٥ ) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ( ٣٦ ) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ  يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ( ٣٧ ) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ  وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( ٣٨ ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ  وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( ٣٩ ) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ  ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا  وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ( ٤٠ ) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ  كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ  وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ( ٤١ ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَإِلَى اللهِ

١٢٩

الْمَصِيرُ ( ٤٢ ) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ  يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ( ٤٣ ) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ ( ٤٤ ) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ  فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ  يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ  إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٤٥ ) لَّقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ  وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٤٦ )

( بيان)

تتضمّن الآيات مقايسة بين المؤمنين بحقيقة الإيمان و الكفّار، تميّز المؤمنين منهم بأنّ المؤمنين مهديّون بأعمالهم الصالحة إلى نور من ربّهم يفيدهم معرفة الله سبحانه و يسلك بهم إلى أحسن الجزاء و الفضل من الله تعالى يوم ينكشف عن قلوبهم و أبصارهم الغطاء، و الكفّار لا تسلك بهم أعمالهم إلّا إلى سراب لا حقيقة له، و هم في ظلمات بعضها فوق بعض و لم يجعل الله لهم نوراً فما لهم من نور.

و قد بيّن سبحانه هذه الحقيقة بأنّ له تعالى نوراً عامّاً تستنير به السماوات و الأرض فتظهر به في الوجود بعد ما لم تكن ظاهرة فيه، فمن البيّن أنّ ظهور شي‏ء بشي‏ء يستدعي كون المظهر ظاهراً بنفسه و الظاهر بذاته المظهر لغيره هو النور فهو تعالى نور يظهر السماوات و الأرض بإشراقه عليها كما أنّ الأنوار الحسّيّة تظهر الأجسام الكثيفة للحسّ بإشراقها عليها غير أنّ ظهور الأشياء بالنور الإلهيّ عين وجودها و ظهور الأجسام الكثيفة بالأنوار الحسّيّة غير أصل وجودها.

و نوراً خاصّاً يستنير به المؤمنون و يهتدون إليه بأعمالهم الصالحة و هو نور

١٣٠

المعرفة الّذي سيستنير به قلوبهم و أبصارهم يوم تتقلّب فيه القلوب و الأبصار فيهتدون به إلى سعادتهم الخالدة فيشاهدون فيه شهود عيان ما كان في غيب عنهم في الدنيا، و مثل تعالى هذا النور بمصباح في زجاجة في مشكاة يشتعل من زيت في نهاية الصفاء فتتلألأ الزجاجة كأنّها كوكب درّيّ فتزيد نوراً على نور، و المصباح موضوع في بيوت العبادة الّتي يسبح الله فيها رجال من المؤمنين لا تلهيهم عن ذكر ربّهم و عبادته تجارة و لا بيع.

فهذه صفة ما أكرم الله به المؤمنين من نور معرفته المتعقّب للسعادة الخالدة، و حرّمه على الكافرين و تركهم في ظلمات لا يبصرون، فخصّ من اشتغل بربّه و أعرض عن عرض الحياة الدنيا بنور من عنده، و الله يفعل ما يشاء له الملك و إليه المصير يحكم بما أراد ينزّل الودق و البرد من سحاب واحد، و يقلّب الليل و النهار، و يجعل من الحيوان من يمشي على بطنه و من يمشي على رجلين و من يمشي على أربع و قد خلق الكلّ من ماء.

و الآيات غير فاقدة للاتّصال بما قبلها لما أنّ بيان الأحكام و الشرائع فيما تقدّم انتهى إلى مثل قوله:( وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) و البيان إظهار لحقائق المعارف فهو تنوير إلهيّ.

على أنّ الآيات قرآن و قد سمّى سبحانه القرآن في مواضع من كلامه نوراً كقوله:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ) النساء: ١٧٤.

قوله تعالى: ( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلى آخر الآية. المشكاة على ما ذكره الراغب و غيره: كوّة غير نافذة و هي ما يتّخذ في جدار البيت من الكوّ لوضع بعض الأثاث كالمصباح و غيره عليه و هو غير الفانوس.

و الدرّيّ: من الكواكب العظيم الكثير النور، و هو معدود في السماء، و الإيقاد: الإشعال، و الزيت: الدهن المتّخذ من الزيتون.

و قوله:( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) النور معروف و هو الّذي يظهر به الأجسام الكثيفة لأبصارنا فالأشياء ظاهرة به و هو ظاهر مكشوف لنا بنفس ذاته فهو

١٣١

الظاهر بذاته المظهر لغيره من المحسوسات للبصر. هذا أوّل ما وضع عليه لفظ النور ثمّ عمّم لكلّ ما ينكشف به شي‏ء من المحسوسات على نحو الاستعارة أو الحقيقة الثانية فعدّ كلّ من الحواسّ نوراً أو ذا نور يظهر به محسوساته كالسمع و الشمّ و الذوق و اللمس.

ثمّ عمّم لغير المحسوس فعد العقل نوراً يظهر به المعقولات كلّ ذلك بتحليل معنى النور المبصر إلى الظاهر بذاته المظهر لغيره.

و إذ كان وجود الشي‏ء هو الّذي يظهر به نفسه لغيره من الأشياء كان مصداقاً تامّاً للنور، ثمّ لما كانت الأشياء الممكنة الوجود إنّما هي موجودة بإيجاد الله تعالى كان هو المصداق الأتمّ للنور فهناك وجود و نور يتّصف به الأشياء و هو وجودها و نورها المستعار المأخوذ منه تعالى و وجود و نور قائم بذاته يوجد و يستنير به الأشياء.

فهو سبحانه نور يظهر به السماوات و الأرض، و هذا هو المراد بقوله:( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) حيث اُضيف النور إلى السماوات و الأرض ثمّ حمل على اسم الجلالة، و على هذا ينبغي أن يحمل قول من قال: إنّ المعنى الله منوّر السماوات و الأرض، و عمدة الغرض منه أن ليس المراد بالنور النور المستعار القائم بها و هو الوجود الّذي يحمل عليها تعالى الله عن ذلك و تقدّس.

و من ذلك يستفاد أنّه تعالى غير مجهول لشي‏ء من الأشياء إذ ظهور كلّ شي‏ء لنفسه أو لغيره إنّما هو عن إظهاره تعالى فهو الظاهر بذاته له قبله، و إلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى بعد آيتين:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ ) إذ لا معنى للتسبيح و العلم به و بالصلاة مع الجهل بمن يصلّون له و يسبّحونه فهو نظير قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) إسراء: ٤٤، و سيوافيك البحث عنه إن شاء الله.

فقد تحصّل أنّ المراد بالنور في قوله:( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) نوره تعالى من حيث يشرق منه النور العامّ الّذي يستنير به كلّ شي‏ء و هو مساو لوجود كلّ شي‏ء و ظهوره في نفسه و لغيره و هي الرحمة العامّة.

١٣٢

و قوله:( مَثَلُ نُورِهِ ) يصف تعالى نوره، و إضافة النور إلى الضمير الراجع إليه تعالى - و ظاهره الإضافة اللّاميّة - دليل على أنّ المراد ليس هو وصف النور الّذي هو الله بل النور المستعار الّذي يفيضه، و ليس هو النور العامّ المستعار الّذي يظهر به كلّ شي‏ء و هو الوجود الّذي يستفيضه منه الأشياء و تتّصف، به و الدليل عليه قوله بعد تتميم المثل:( يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ) إذ لو كان هو النور العامّ لم يختصّ به شي‏ء دون شي‏ء بل هو نوره الخاصّ بالمؤمنين بحقيقة الإيمان على ما يفيده الكلام.

و قد نسب تعالى في سائر كلامه إلى نفسه نوراً كما في قوله:( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللهُ مُتِمُّ نُورِهِ ) الصفّ: ٨، و قوله:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) الأنعام: ١٢٢ و قوله:( يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ) الحديد: ٢٨، و قوله:( أَ فَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى‏ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ) الزمر: ٢٢، و هذا هو النور الّذي يجعله الله لعباده المؤمنين يستضيؤن به في طريقهم إلى ربّهم و هو نور الإيمان و المعرفة.

و ليس المراد به القرآن كما قاله بعضهم فإنّ الآية تصف حال عامّة المؤمنين قبل نزول القرآن و بعده. على أنّ هذا النور وصف لهم يتّصفون به كما يشير إليه قوله:( لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ ) الحديد: ١٩ و قوله:( يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا ) التحريم: ٨، و القرآن ليس وصفاً لهم و إن لوحظ باعتبار ما يكشف عنه من المعارف رجع إلى ما قلناه.

و قوله:( كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ ) المشبّه به مجموع ما ذكر من قوله مشكاة فيها مصباح المصباح إلخ لا مجرّد المشكاة و إلّا فسد المعنى، و هذا كثير في تمثيلات القرآن.

و قوله:( الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ) تشبيه الزجاجة بالكوكب الدرّيّ من جهة ازدياد لمعان نور المصباح و شروقه بتركيب الزجاجة على المصباح فتزيد الشعلة بذلك سكوناً من غير اضطراب بتموّج الأهوية و ضرب الرياح فهي كالكوكب

١٣٣

الدرّيّ في تلألؤ نورها و ثبات شروقها.

و قوله:( يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي‏ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ) خبر بعد خبر للمصباح أي المصباح يشتعل آخذاً اشتعاله من شجرة مباركة زيتونة أي إنّه يشتعل من دهن زيت مأخوذ منها، و المراد بكون الشجرة لا شرقيّة و لا غربيّة أنّها ليست نابتة في الجانب الشرقيّ و لا في الجانب الغربيّ حتّى تقع الشمس عليها في أحد طرفي النهار و يفي‏ء الظلّ عليها في الطرف الآخر فلا تنضج ثمرتها فلا يصفو الدهن المأخوذ منها فلا تجود الإضاءة بل هي ضاحية تأخذ من الشمس حظّها طول النهار فيجود دهنها لكمال نضج ثمرتها.

و الدليل على هذا المعنى قوله:( يَكادُ زَيْتُها يُضِي‏ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ) فإنّ ظاهر السياق أنّ المراد به صفاء الدهن و كمال استعداده للاشتعال و أنّ ذلك متفرّع على الوصفين: لا شرقيّة و لا غربيّة.

و أمّا قول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ ) أنّها ليست من شجر الدنيا حتّى تنبت إمّا في شرق أو في غرب، و كذا قول آخرين: إنّ المراد أنّها ليست من شجر شرق المعمورة و لا من شجر غربها بل من شجر الشام الواقع بين الشرق و الغرب و زيته أفضل الزيت فغير مفهوم من السياق.

و قوله:( نُورٌ عَلى‏ نُورٍ ) خبر لمبتدإ محذوف و هو ضمير راجع إلى نور الزجاجة المفهوم من السياق، و المعنى نور الزجاجة المذكور نور عظيم على نور كذلك أي في كمال التلمّع.

و المراد من كون النور على النور قيل: هو تضاعف النور لا تعدّده فليس المراد به أنّه نور معيّن أو غير معيّن فوق نور آخر مثله، و لا أنّه مجموع نورين اثنين فقط بل أنّه نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه و هذا التعبير شائع في الكلام.

و هذا معنى لا يخلو من جودة و إن كان إرادة التعدّد أيضاً لا تخلو من لطف و دقّة فإنّ للنور الشارق من المصباح نسبة إليه بالأصالة و الحقيقة و نسبة إلى الزجاجة الّتي عليه بالاستعارة و المجاز، و يتغاير النور بتغاير النسبتين و يتعدّد بتعدّدهما

١٣٤

و إن لم يكن بحسب الحقيقة إلّا للمصباح و الزجاجة صفر الكفّ منه فللزجاجة بالنظر إلى تعدّد النسب نور غير نور المصباح و هو قائم به و مستمدّ منه.

و هذا الاعتبار جار بعينه في الممثّل له فإنّ نور الإيمان و المعرفة نور مستعار مشرق على قلوب المؤمنين مقتبس من نوره تعالى قائم به مستمدّ منه.

فقد تحصّل أنّ الممثّل له هو نور الله المشرق على قلوب المؤمنين و المثل هو المشبّه به النور المشرق من زجاجة على مصباح موقد من زيت جيّد صاف و هو موضوع في مشكاة فإنّ نور المصباح المشرق من الزجاجة و المشكاة تجمعه و تعكسه على المستنيرين به يشرق عليهم في نهاية القوّة و الجودة.

فأخذ المشكاة للدلالة على اجتماع النور في بطن المشكاة و انعكاسه إلى جوّ البيت، و اعتبار كون الدهن من شجرة زيتونة لا شرقيّة و لا غربيّة للدلالة على صفاء الدهن و جودته المؤثّر في صفاء النور المشرق عن اشتعاله و جودة الضياء على ما يدلّ عليه كون زيته يكاد يضي‏ء و لو لم تمسسه نار، و اعتبار كون النور على النور للدلالة على تضاعف النور أو كون الزجاجة مستمدّة من نور المصباح في إنارتها.

و قوله:( يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ) استئناف يعلّل به اختصاص المؤمنين بنور الإيمان و المعرفة و حرمان غيرهم، فمن المعلوم من السياق أنّ المراد بقوله:( مَنْ يَشاءُ ) القوم الّذين ذكرهم بقوله بعد:( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ) إلخ، فالمراد بمن يشاء المؤمنون بوصف كمال إيمانهم.

و المعنى: أنّ الله إنّما هدى المتلبّسين بكمال الإيمان إلى نوره دون المتلبّسين بالكفر - الّذين سيذكرهم بعد - لمجرّد مشيّته، و ليس المعنى أنّ الله يهدي بعض الأفراد إلى نوره دون بعض بمشيّته ذلك حتّى يحتاج في تتميمه إلى القول بأنّه إنّما يشاء الهداية إذا استعدّ المحلّ إلى الهداية بحسن السريرة، و السيرة و ذلك ممّا يختصّ به أهل الإيمان دون أهل الكفر فافهمه.

و الدليل على ذلك ما سيأتي من قوله:( وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلى آخر الآيات بالبيان الآتي إن شاء الله.

١٣٥

و قوله:( وَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ) إشارة إلى أنّ المثل المضروب تحته طور من العلم، و إنّما اختير المثل لكونه أسهل الطرق لتبيين الحقائق و الدقائق و يشترك فيه العالم و العامّيّ فيأخذ منه كلّ ما قسم له، قال تعالى:( وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) العنكبوت: ٤٣.

قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) الإذن في الشي‏ء هو إعلام ارتفاع المانع عن فعله، و المراد بالرفع رفع القدر و المنزلة و هو التعظيم، و إذ كانت العظمة و العلوّ لله تعالى لا يشاركه في ذلك غيره إلّا أن ينتسب إليه، و بمقدار ما ينتسب إليه فالإذن منه تعالى في أن ترفع هذه البيوت إنّما هو لانتساب ما منها إليه.

و بذلك يظهر أنّ السبب لرفعها هو ما عطف عليه من ذكر اسمه فيها، و السياق يدلّ على الاستمرار أو التهيّؤ له فيعود المعنى إلى مثل قولنا:( أن يذكر فيها اسمه فيرتفع قدرها بذلك) .

و قوله:( فِي بُيُوتٍ ) متعلّق بقوله في الآية السابقة:( كَمِشْكاةٍ ) أو قوله:( يَهْدِي اللهُ ) إلخ، و المال واحد، و من المتيقّن من هذه البيوت المساجد فإنّها معدّة لذكر اسمه فيها ممحّضة لذلك، و قد قال تعالى:( وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً ) الحجّ: ٤٠.

قوله تعالى: ( يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ رِجالٌ ) إلى آخر الآية. تسبيحه تعالى تنزيهه عن كلّ ما لا يليق بساحة قدسه، و الغدوّ جمع غداة و هو الصبح و الآصال جمع أصيل و هو العصر، و الإلهاء صرف الإنسان عمّا يعنيه و يهمّه، و التجارة على ما قاله الراغب: التصرّف في رأس المال طلباً للربح. قال: و ليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ. و البيع على ما قال: إعطاء المثمن و أخذ الثمن، و قلب الشي‏ء على ما ذكره صرف الشي‏ء من وجه إلى وجه، و التقليب مبالغة فيه و التقلب قبوله فتقلّب القلوب و الأبصار تحوّل منها من وجه من الإدراك إلى وجه آخر.

١٣٦

و قوله:( يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) صفة لبيوت أو استئناف لبيان قوله:( وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) ، و كون التسبيح بالغدوّ و الآصال كناية عن استمرارهم فيه لا أنّ التسبيح مقصور في الوقتين لا يسبّح له في غيرهما.

و الاكتفاء بالتسبيح من غير ذكر التحميد معه لأنّه تعالى معلوم بجميع صفاته الكماليّة لا سترة عليه إذ المفروض أنّه نور و النور هو الظاهر بذاته المظهر لغيره و إنّما يحتاج خلوص المعرفة إلى نفي النقائص عنه و تنزيهه عمّا لا يليق به فإذا تمّ التسبيح لم يبق معه غيره و تمّت المعرفة ثمّ إذا تمّت المعرفة وقع الثناء و الحمد و بالجملة التوصيف بصفات الكمال موقعه بعد حصول المعرفة كما قال تعالى:( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: ١٦٠، فنزّهه عمّا يصفونه به إلّا ما وصفه به من أخلصهم لنفسه من عباده، و قد تقدّم في تفسير سورة الحمد كلام في معنى حمده تعالى.

و ببيان آخر حمده تعالى و هو ثناؤه بصفة الكمال مساوي لحصول نور المعرفة و تسبيحه و هو التنزيه بنفي ما لا يليق به عنه مقدّمة لحصوله، و الآية في مقام بيان خصالهم الّتي تستدعي هدايتهم إلى نوره فلا جرم اقتصر فيها بذكر ما هي المقدّمة و هو التسبيح، فافهم ذلك.

و قوله:( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ ) التجارة إذا قوبلت بالبيع كان المفهوم منها بحسب العرف الاستمرار في الاكتساب بالبيع و الشراء و البيع هو العمل الاكتسابي الدفعيّ فالفرق بينهما هو الفرق بين الدفعة و الاستمرار فمعنى نفي البيع بعد نفي التجارة مع كونه منفيّاً بنفيها الدلالة على أنّهم لا يلهون عن ربّهم في مكاسبهم دائماً و لا في وقت من الأوقات، و بعبارة اُخرى لا تنسيهم ربّهم تجارة مستمرة و لا بيع ما من البيوع الّتي يوقعونها مدّة تجارتهم.

و قيل: الوجه في نفي البيع بعد نفي الهاء التجارة أنّ الربح في البيع ناجز بالفعل بخلاف التجارة الّتي هي الحرفة، فعدم الهاء التجارة لا يستلزم عدم الهاء البيع الرابح بالفعل، و لذلك نفى البيع ثانياً بعد نفي الهاء التجارة و لذلك كرّرت لفظة

١٣٧

( لا ) لتذكير النفي و تأكيده، و هو وجه حسن.

و قوله:( عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ ) الإقام هو الإقامة بحذف التاء تخفيفاً.

و المراد بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة الإتيان بجميع الأعمال الصالحة الّتي كلّف الله تعالى عباده بإتيانها في حياتهم الدنيا، و إقامة الصلاة ممثّلة لإتيان ما للعبد من وظائف العبوديّة مع الله سبحانه، و إيتاء الزكاة ممثّل لوظائفه مع الخلق و ذلك لكون كلّ منها ركناً في بابه.

و المقابلة بين ذكر الله و بين إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و هما - و خاصّة الصلاة - من ذكر الله يعطي أن يكون المراد بذكر الله الذكر القلبيّ الّذي يقابل النسيان و الغفلة و هو ذكر علميّ كما أنّ أمثال الصلاة و الزكاة ذكر عمليّ.

فالمقابلة المذكورة تعطي أنّ المراد بقوله:( عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ ) أنّهم لا يشتغلون بشي‏ء عن ذكرهم المستمرّ بقلوبهم لربّهم و ذكرهم الموقّت بأعمالهم من الصلاة و الزكاة، و عند ذلك يظهر حسن التقابل بين التجارة و البيع و بين ذكر الله و إقام الصلاة إلخ، لرجوع المعنى إلى أنّهم لا يلهيهم مله مستمرّ و لا موقّت عن الذكر المستمرّ و الموقّت، فافهم ذلك.

و قوله:( يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ ) هذا هو يوم القيامة، و المراد بالقلوب و الأبصار ما يعمّ قلوب المؤمنين و الكافرين و أبصارهم لكون القلوب و الأبصار جمعاً محلّى باللّام و هو يفيد العموم.

و أمّا تقلّب القلوب و الأبصار فالآيات الواصفة لشأن يوم القيامة تدلّ على أنّه بظهور حقيقة الأمر و انكشاف الغطاء كما قال تعالى:( فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: ٢٢، و قال:( وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ) الزمر: ٤٧، إلى غير ذلك من الآيات.

فتنصرف القلوب و الأبصار يومئذ عن المشاهدة و الرؤية الدنيويّة الشاغلة عن الله الساترة للحقّ و الحقيقة إلى سنخ آخر من المشاهدة و الرؤية و هو الرؤية بنور

١٣٨

الإيمان و المعرفة فيتبصّر المؤمن بنور ربّه و هو نور الإيمان و المعرفة فينظر إلى كرامة الله، و يعمى الكافر و لا يجد إلّا ما يسوؤه قال تعالى:( وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها ،) الزمر: ٦٩ و قال:( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى‏ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ ) الحديد: ١٢، و قال:( وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى‏ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) الإسراء: ٧٢، و قال:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) القيامة: ٢٣ و قال:( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) المطفّفين: ١٥.

و قد تبيّن بما مرّ:

أوّلاً: وجه اختصاص هذه الصفة أعني تقلّب القلوب و الأبصار من بين أوصاف يوم القيامة بالذكر و ذلك أنّ الكلام مسوق لبيان ما يتوسّل به إلى هدايته تعالى إلى نوره و هو نور الإيمان و المعرفة الّذي يستضاء به يوم القيامة و يبصّر به.

و ثانياً: أنّ المراد بالقلوب و الأبصار النفوس و بصائرها.

و ثالثاً: أنّ توصيف اليوم بقوله:( تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ ) لبيان سبب الخوف فهم إنّما يخافون اليوم لما فيه من تقلّب القلوب و الأبصار، و إنّما يخافون هذا التقلّب لما في أحد شقيّه من الحرمان من نور الله و النظر إلى كرامته و هو الشقاء الدائم و العذاب الخالد و في الحقيقة يخافون أنفسهم.

قوله تعالى: ( لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) الظاهر أنّ لام( لِيَجْزِيَهُمُ ) للغاية، و الّذي ذكره الله في خلال الكلام هو أعمالهم الصالحة و الأجر الجميل على كلّ صالح ممّا ينصّ عليه كلامه تعالى فقوله: إنّه يجزيهم أحسن ما عملوا معناه أنّه يجزيهم بإزاء عملهم في كلّ باب جزاء أحسن عمل في ذلك الباب، و مرجع ذلك إلى أنّه تعالى يزكّي أعمالهم فلا يناقش فيها بالمؤاخذة في جهات توجب نقصها و انحطاط قدرها فيعدّ الحسن منها أحسن.

و يؤيّد هذا المعنى قوله في ذيل الآية:( وَ اللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) فإنّ ظاهره عدم المداقّة في حساب الحسنات بالإغماض عن جهات نقصها فيلحق

١٣٩

الحسن بالأحسن.

و قوله:( وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) الفضل العطاء، و هذا نصّ في أنّه تعالى يعطيهم من فضله ما ليس بإزاء أعمالهم الصالحة، و أوضح منه قوله تعالى في موضع آخر:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) ق: ٣٥، حيث إنّ ظاهره أنّ هذا المزيد الموعود أمر وراء ما تتعلّق به مشيّتهم.

و قد دلّ كلامه سبحانه أنّ أجرهم أنّ لهم ما يشاؤن قال تعالى:( أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ ) الزمر: ٣٤، و قال:( أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَ مَصِيراً لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ ) الفرقان: ١٦، و قال:( لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ ) النحل: ٣١.

فهذا المزيد الّذي هو وراء جزاء الأعمال أمر أعلى و أعظم من أن تتعلّق به مشيّة الإنسان أو يوصل إليه سعيه، و هذا أعجب ما يعده القرآن المؤمنين و يبشّرهم به فأجد التدبّر فيه.

و قوله:( وَ اللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) استئناف مآله تعليل الجملتين السابقتين بالمشيّة نظير قوله فيما تقدّم:( يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ) على ما مرّ بيانه.

و محصّله أنّهم عملوا صالحاً و كان لهم من الأجر ما يعادل عملهم كما هو ظاهر قوله:( وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ ) النحل: ١١١، و ما في معناه من الآيات لكنّه تعالى يجزيهم لكلّ عمل من أعمالهم جزاء أحسن عمل يؤتى به في بابه من غير أن يداقّ في الحساب فهذه موهبة ثمّ يرزقهم أمراً هو أعلى و أرفع من أن تتعلّق به مشيّتهم و هذه أيضاً موهبة و رزق بغير حساب، و الرزق من الله موهبة محضة من غير أن يملك المرزوقون منه شيئاً أو يستحقّوه عليه تعالى فله تعالى أن يخصّ منه ما يشاء لمن يشاء.

غير أنّه تعالى وعدهم الرزق و أقسم على إنجازه في قوله:( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ) الذاريات: ٢٣، فملّكهم الاستحقاق لأصله و هو الّذي يجزيهم به على قدر أعمالهم و أمّا الزائد عليه فلم يملّكهم ذلك فله أن يختصّ به من يشاء فلا يعلّل ذلك إلّا بمشيّة و للكلام تتمّة ستوافيك إن شاء الله في بحث مستقلّ.

١٤٠