الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124147 / تحميل: 6113
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً ) إلى آخر الآية. السراب هو ما يلمع في المفازة كالماء و لا حقيقة له، و القيع و القاع هو المستوي من الأرض و مفرداهما القيعة و القاعة كالتينة و التمرة، و الظمآن هو العطشان.

لما ذكر سبحانه المؤمنين و وصفهم بأنّهم ذاكرون له في بيوت معظّمة لا تلهيهم عنه تجارة و لا بيع، و أنّ الله الّذي هو نور السماوات و الأرض يهديهم بذلك إلى نوره فيكرمهم بنور معرفته قابل ذلك بذكر الّذين كفروا فوصف أعمالهم تارة بأنّها لا حقيقة لها كسراب بقيعة فلا غاية لها تنتهي إليها، و تارة بأنّها كظلمات بعضها فوق بعض لا نور معها و هي حاجزة عن النور، و هذه الآية هي الّتي تتضمّن الوصف الأوّل.

فقوله:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ) شبّه أعمالهم - و هي الّتي يأتون بها من قرابين و أذكار و غيرهما من عباداتهم يتقرّبون بها إلى آلهتهم - بسراب بقيعة يحسبه الإنسان ماء و لا حقيقة له يترتّب عليها ما يترتّب على الماء من رفع العطش و غير ذلك.

و إنّما قيل: يحسبه الظمآن ماء مع أنّ السراب يتراءى ماء لكلّ راء لأنّ المطلوب بيان سيره إليه و لا يسير إليه إلّا الظمآن يدفعه إليه ما به من ظمإ، و لذلك رتّب عليه قوله:( حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ) ، كأنّه قيل: كسراب بقيعة يتخيّله الظمآن ماء فيسير إليه و يقبل نحوه ليرتوي و يرفع عطشه به، و لا يزال يسير حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً.

و التعبير بقوله:( جاءَهُ ) دون أن يقال: بلغه أو وصل إليه أو انتهى إليه و نحوها للإيماء إلى أنّ هناك من يريد مجيئه و ينتظره انتظاراً و هو الله سبحانه، و لذلك أردفه بقوله:( وَ وَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ ) فأفاد أنّ هؤلاء يريدون بأعمالهم الظفر بأمر تبعثهم نحوه فطرتهم و جبلّتهم و هو السعادة الّتي يريدها كلّ إنسان

١٤١

بفطرته و جبلّته لكنّ أعمالهم لا توصلهم إليه، و لا أنّ الآلهة الّتي يبتغون بأعمالهم جزاء حسناً منهم لهم حقيقة بل الّذي ينتهي إليه أعمالهم و يحيط هو بها و يجزيهم هو الله سبحانه فيوفّيهم حسابهم، و توفية الحساب كناية عن الجزاء بما يستوجبه حساب الأعمال و إيصال ما يستحقّه صاحب الأعمال.

ففي الآية تشبيه أعمالهم بالسراب، و تشبيههم بالظمآن الّذي يريد الماء و عنده عذب الماء لكنّه يعرض عنه و لا يصغي إلى مولاه الّذي ينصحه و يدعوه إلى شربه بل يحسب السراب ماء فيسير إليه و يقبل نحوه، و تشبيه مصيرهم إلى الله سبحانه بحلول الآجال و عند ذلك تمام الأعمال بالظمآن السائر إلى السراب إذا جاءه و عنده مولاه الّذي كان ينصحه و يدعوه إلى شرب الماء.

فهؤلاء قوم ألهوا عن ذكر ربّهم و الأعمال الصالحة الهادية إلى نوره و فيه سعادتهم و حسبوا أنّ سعادتهم عند غيره من الآلهة الّذين يدعونهم و الأعمال المقرّبة إليهم و فيها سعادتهم فأكبّوا على تلك الأعمال السرابيّة و استوفوا ما يمكنهم أن يأتوا بها مدّة أعمارهم حتّى حلّت آجالهم و شارفوا الدار الآخرة فلم يجدوا شيئاً ممّا يؤمّلونه من أعمالهم و لا أثراً من اُلوهيّة آلهتهم فوفّاهم الله حسابهم و الله سريع الحساب.

و قوله:( وَ اللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ ) إنّما هو لإحاطة علمه بالقليل و الكثير و الحقير و الخطير و الدقيق و الجليل و المتقدّم و المتأخّر على حدّ سواء.

و اعلم أنّ الآية و إن كان ظاهرها بيان حال الكفّار من أهل الملل و خاصّة المشركين من الوثنيّين لكنّ البيان جار في غيرهم من منكري الصانع فإنّ الإنسان كائناً من كان يرى لنفسه سعادة في الحياة و لا يرتاب أنّ الوسيلة إلى نيلها أعماله الّتي يأتي بها فإن كان ممّن يقول بالصانع و يراه المؤثّر في سعادته بوجه من الوجوه توسّل بأعماله إلى تحصيل رضاه و الفوز بالسعادة الّتي يقدّرها له، و إن كان ممّن ينكره و ينهي التأثير إلى غيره توسّل بأعماله إلى توجيه ما يقول به من المؤثّر كالدهر و الطبيعة و المادّة نحو سعادة حياته الدنيا الّتي لا يقول بما وراءها.

١٤٢

فهؤلاء يرون المؤثّر الّذي بيده سعادة حياتهم غيره تعالى و لا مؤثّر غيره و يرون مساعيهم الدنيويّة موصلة لهم إلى سعادتهم و ليست إلّا سراباً لا حقيقة له و لا يزالون يسعون حتّى إذا تمّ ما قدّر لهم من الأعمال بحلول ما سمّي لهم من الآجال لم يجدوا عندها شيئاً و عاينوا أنّ ما كانوا يتمنّون منها لم يكن إلّا طائف خيال أو حلم نائم، و عند ذلك يوفّيهم الله حسابهم و الله سريع الحساب.

قوله تعالى: ( أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ) تشبيه ثان لأعمالهم يظهر به أنّها حجب متراكمة على قلوبهم تحجبهم عن نور المعرفة، و قد تكرّر في كلامه تعالى أنّهم في الظلمات كقوله:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ ) البقرة: ٢٥٧، و قوله:( كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) الأنعام: ١٢٢، و قوله:( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) المطفّفين: ١٥.

و قوله:( أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ) معطوف على( كَسَرابٍ ) في الآية السابقة، و البحر اللّجّيّ هو البحر المتردّد أمواجه منسوب إلى لجّة البحر و هي تردّد أمواجه، و المعنى: أعمالهم كظلمات كائنة في بحر لجّيّ.

و قوله:( يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ) صفة البحر جي‏ء بها لتقرير الظلمات المفروضة فيه فصفته أنّه يغشاه و يحيط به موج كائن من فوقه موج آخر كائن من فوقه سحاب يحجبنه جميعاً من الاستضاءة بأضواء الشمس و القمر و النجوم.

و قوله:( ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ) تقرير لبيان أنّ المراد بالظلمات المفروضة الظلمات المتراكمة بعضها على بعض دون المتفرّقة، و قد أكّد ذلك بقوله:( إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها ) فإنّ أقرب ما يشاهده الإنسان منه هو نفسه و هو أقدر على رؤية يده منه على سائر أعضائه لأنّه يقرّبها تجاه باصرته كيفما أراد فإذا أخرج يده و لم يكد يراها كانت الظلمة بالغة.

فهؤلاء و هم سائرون إلى الله و صائرون إليه من جهة أعمالهم كراكب بحر

١٤٣

لجّيّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب في ظلمات متراكمة كأشدّ ما يكون و لا نور هناك يستضي‏ء به فيهتدي إلى ساحل النجاة.

و قوله:( وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ ) نفي للنور عنهم بأنّ الله لم يجعله لهم، كيف لا؟ و جاعل النور هو الله الّذي هو نور كلّ شي‏ء، فإذا لم يجعل لشي‏ء نوراً لم يكن له نوراً إذ لا جاعل غيره تعالى.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ ) إلى آخر الآية، لما ذكر سبحانه أنّه نور تستنير به السماوات و الأرض و أنّه يختصّ بمزيد نوره المؤمنين من عباده و الّذين كفروا لا نصيب لهم من ذلك شرع يحتجّ على ذلك بما في هذه الآية و الآيات الأربع التالية لها.

فكونه تعالى نور السماوات و الأرض يدلّ عليه أنّ ما في السماوات و الأرض موجود بوجود ليس من عنده و لا من عند شي‏ء ممّا فيهما لكونه مثله في الفاقة، فوجود ما فيهما من موجود من الله الّذي ينتهي إليه الحاجات.

فوجود كلّ شي‏ء ممّا فيهما كما يظهر به نفس الوجود يدلّ على من يظهره بما أفاض عليه من الوجود فهو نور يستنير به الشي‏ء و يدلّ على منوّره بما أشرق عليه من النور و أنّ هناك نوراً يستنير به كلّ شي‏ء فكلّ شي‏ء ممّا فيهما يدلّ على أنّ وراءه شيئاً منزّها من الظلمة الّتي غشيته، و الفاقة الّتي لزمته، و النقص الّذي لا ينفكّ عنه، و هذا هو تسبيح ما في السماوات و الأرض له سبحانه، و لازمه نفي الاستقلال عن كلّ من سواه و سلب أيّ إله و ربّ يدبّر الأمر دونه تعالى.

و إلى ذلك يشير قوله:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ ) و به يحتجّ تعالى على كونه نور السماوات و الأرض لأنّ النور هو ما يظهر به الشي‏ء المستنير ثمّ يدلّ بظهوره على مظهره، و هو تعالى يظهر و يوجد بإظهاره و إيجاده الأشياء ثمّ يدلّ على ظهوره و وجوده.

و تزيد الآية بالإشارة إلى لطائف يكمل بها البيان:

منها: اختصاصها من في السماوات و الأرض و الطير صافّات و هم العقلاء و بعض

١٤٤

ذوات الروح بالذكر مع عموم التسبيح لغيرهم لقوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) .

و لعلّ ذلك من باب اختيار اُمور من أعاجيب الخلقة للذكر فإنّ ظهور الموجود العاقل الّذي يدلّ عليه لفظ( مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) من عجيب أمر الخلقة الّذي يدهش لبّ ذي اللبّ، كما أنّ صفيف الطير الصافّات في الجوّ من أعجب ما يرى من أعمال الحيوان ذي الشعور و أبدعه.

و يظهر من بعضهم أنّ المراد بقوله:( مَنْ فِي السَّماواتِ ) إلخ، جميع الأشياء و إنّما عبّر بلفظ اُولي العقل لكون التسبيح المنسوب إليها من شؤون اُولي العقل أو للتنبيه على قوّة تلك الدلالة و وضوح تلك الإشارة تنزيلاً للسان الحال منزلة المقال.

و فيه أنّه لا يلائم إسناد العلم إليها في قوله بعد:( كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ ) .

و منها: تصدير الكلام بقوله:( أَ لَمْ تَرَ ) و فيه دلالة على ظهور تسبيحهم و وضوح دلالتهم على التنزيه بحيث لا يرتاب فيه ذو ريب فكثيراً مّا يعبّر عن العلم الجازم بالرؤية كما في قوله تعالى:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ) إبراهيم: ١٩، و الخطاب فيه عامّ لكلّ ذي عقل و إن كان خاصّاً بحسب اللفظ.

و من الممكن أن يكون خطاباً خاصّاً بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد كان أراه الله تسبيح من في السماوات و الأرض و الطير صافّات فيما أراه من ملكوت السماوات و الأرض و ليس ببدع منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد أرى الناس تسبيح الحصاة في كفّه كما وردت به الأخبار المعتبرة.

و منها: أنّ الآية تعمّم العلم لكلّ ما ذكر ممّن في السماوات و الأرض و الطير، و قد تقدّم بعض البحث عنه في تفسير قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) الإسراء: ٤٤، و ستجي‏ء تتمّة الكلام فيه في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله.

١٤٥

و قول بعضهم: إنّ الضمير في قوله:( قَدْ عَلِمَ ) راجع إليه تعالى، يدفعه عدم ملائمته للسياق و خاصّة لقوله بعده:( وَ اللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ ) و نظيره قول آخرين: إنّ إسناد العلم إلى مجموع ما تقدّم من المجاز بتنزيل غير العالم منزلة العالم لقوّة دلالته على تسبيحه و تنزيهه.

و منها: تخصيصها التسبيح بالذكر مع أنّ الأشياء تشير إلى صفات كماله تعالى و هو التحميد كما تسبّحه على ما يدلّ عليه البرهان و يؤيّده قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) و لعلّ الوجه فيه كون الآيات مسوقة للتوحيد و نفي الشركاء و ذلك بالتنزيه أمسّ فإنّ من يدعو من دون الله إلهاً آخر أو يركن إلى غيره نوعاً من الركون إنّما يكفر بإثبات خصوصيّة وجود ذلك الشي‏ء للإله تعالى فنفيه إنّما يتأتّى بالتنزيه دون التحميد فافهمه.

و أمّا قوله:( كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ ) فصلاته دعاؤه و الدعاء توجيه من الداعي للمدعوّ إلى حاجته ففيه دلالة على حاجة عند الداعي المدعوّ في غنى عنها فهو أقرب إلى الدلالة على التنزيه منه على الثناء و التحميد.

و منها: أنّ الآية تنسب التسبيح و العلم به إلى من في السماوات و الأرض فيعمّ المؤمن و الكافر، و يظهر بذلك أنّ هناك نورين: نور عامّ يعمّ الأشياء و المؤمن و الكافر فيه سواء، و إلى ذلك تشير آيات كآية الذرّ:( وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏ شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ) الأعراف: ١٧٢، و قوله:( فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: ٢٢ إلى غير ذلك، و نور خاصّ و هو الّذي تذكره الآيات و يختصّ بأوليائه من المؤمنين.

فالنور الّذي ينوّر تعالى به خلقه كالرحمة الّتي يرحمهم بها قسمان: عامّ و خاصّ و قد قال تعالى:( وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) الأعراف: ١٥٦، و قوله:( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ) الجاثية: ٣٠، و قد جمع بينهما في قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً ) الحديد: ٢٨، و ما ذكر فيه من النور هو النور على نور بحذاء

١٤٦

الثاني من كفلي الرحمة.

و قوله:( وَ اللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ ) و من فعلهم تسبيحهم له سبحانه، و هذا التسبيح و إن كان في بعض المراحل هو نفس وجودهم لكن صدق اسم التسبيح يجوز أن يعدّ فعلاً لهم بهذه العناية.

و في ذكر علمه تعالى بما يفعلون عقيب ذكر تسبيحهم ترغيب للمؤمنين و شكر لهم بأنّ ربّهم يعلم ذلك منهم و سيجزيهم جزاء حسناً، و إيذان بتمام الحجّة على الكافرين، فإنّ من مراتب علمه تعالى كتب الأعمال و الكتاب المبين الّتي تثبت فيها أعمالهم فيثبت فيها تسبيحهم بوجودهم ثمّ إنكارهم بألسنتهم.

قوله تعالى: ( وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ) سياق الآية و قد وقعت بين قوله:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ ) إلخ، و هو احتجاج على شمول نوره العامّ لكلّ شي‏ء، و بين قوله:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي ) إلخ، و ما يتعقّبه و هو احتجاج على اختصاص النور الخاصّ، يعطي أنّها كالمتوسّط بين القبيلين أعني بين الأمرين يحتجّ بها على كليهما، فملكه تعالى لكلّ شي‏ء و كونه مصيراً لها هو دليل على تعميمه نوره العامّ و تخصيصه نوره الخاصّ يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

فقوله:( وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) يخصّ الملك و يقصره فيه تعالى فله أن يفعل ما يشاء و يحكم بما يريد لا يسأل عمّا يفعل و هم يسألون، و لازم قصر الملك فيه كونه هو المصير لكلّ شي‏ء، و إذ كان لا مليك إلّا هو و إليه مرجع كلّ شي‏ء و مصيره فله أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

و من هنا يظهر أنّ المراد - و الله أعلم - بقوله:( وَ إِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ) مرجعيّته تعالى في الاُمور دون المعاد نظير قوله:( أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) الشورى: ٥٣.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) إلى آخر الآية. الإزجاء هو الدفع، و الركام المتراكم بعضه على بعض، و الودق هو المطر، و الخلال جمع الخلل و هو الفرجة بين الشيئين.

و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعنوان أنّه سامع فيشمل كلّ سامع، و المعنى: أ لم

١٤٧

تر أنت و كلّ من يرى أنّ الله يدفع بالرياح سحاباً متفرّقاً ثمّ يؤلّف بينه ثمّ يجعله متراكماً بعضه على بعض فترى المطر يخرج من خلله و فرجه فينزل على الأرض.

و قوله:( وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ ) السماء جهة العلو، و قوله:( مِنْ جِبالٍ فِيها ) بيان للسماء، و الجبال جمع جبل و هو معروف، و قوله:( مِنْ بَرَدٍ ) بيان للجبال، و البرد قطعات الجمد النازل من السماء، و كونه جبالاً فيها كناية عن كثرته و تراكمه، و السنا بالقصر الضوء.

و الكلام معطوف على قوله:( يُزْجِي ) ، و المعنى: أ لم تر أنّ الله ينزّل من السماء من البرد المتراكم فيها كالجبال فيصيب به من يشاء فيفسد المزارع و البساتين و ربّما قتل النفوس و المواشي و يصرفه عمّن يشاء فلا يتضرّرون به يقرب ضوء برقه من أن يذهب بالأبصار.

و الآية - على ما يعطيه السياق - مسوقة لتعليل ما تقدّم من اختصاصه المؤمنين بنوره، و المعنى: أنّ الأمر في ذلك إلى مشيّته تعالى كما ترى أنّه إذا شاء نزّل من السماء مطراً فيه منافع الناس لنفوسهم و مواشيهم و مزارعهم و بساتينهم، و إذا شاء نزل برداً فيصيب به من يشاء و يصرفه عمّن يشاء.

قوله تعالى: ( يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ ) بيان آخر لرجوع الأمر إلى مشيّته تعالى فقط. و تقليب الليل و النهار تصريفهما بتبديل أحدهما من الآخر، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ أَرْبَعٍ ) بيان آخر لرجوع الأمر إلى مشيّته تعالى محضاً حيث يخلق كلّ دابّة من ماء ثمّ تختلف حالهم في المشي فمنهم من يمشي على بطنه كالحيّات و الديدان، و منهم من يمشي على رجلين كالأناسيّ و الطيور و منهم من يمشي على أربع كالبهائم و السباع، و اقتصر سبحانه على هذه الأنواع

١٤٨

الثلاثة - و فيهم غير ذلك - إيجازاً لحصول الغرض بهذا المقدار.

و قوله:( يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ ) تعليل لما تقدّم من اختلاف الدوابّ، مع وحدة المادّة الّتي خلقت منها يبيّن أنّ الأمر إلى مشيّة الله محضاً فله أن يعمّم فيضاً من فيوضه على جميع خلقه كالنور العامّ، و الرحمة العامّة و له أن يختصّ بفيض من فيوضه بعضاً من خلقه دون بعض كالنور الخاصّ و الرحمة الخاصّة.

و قوله:( إِنَّ اللهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) تعليل لقوله:( يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ ) فإنّ إطلاق القدرة على كلّ شي‏ء يستوجب أن لا يتوقّف شي‏ء من الأشياء في كينونته على أمر وراء مشيّته و إلّا كانت قدرته عليه مشروطة بحصول ذلك الأمر و هذا خلف.

و هذا باب من التوحيد دقيق سيتّضح بعض الاتّضاح إن شاء الله بما في البحث الآتي.

( بحث فلسفي)

( في معنى علّيّته تعالى للأشياء)

إنّا لا نشكّ في أنّ ما نجده من الموجودات الممكنة معلولة منتهية إلى الواجب تعالى و إنّ كثيراً منها - و خاصّة في الماديّات - تتوقّف في وجودها على شروط لا تحقّق لها بدونها كالإنسان الّذي هو ابن فإنّ لوجوده توقّفاً على وجود الوالدين و على شرائط اُخرى كثيرة زمانيّة و مكانيّة، و إذ كان من الضروريّ كون كلّ ممّا يتوقّف عليه جزءً من علّته التامّة كان الواجب تعالى على هذا جزء علّته التامّة لا علّة تامّة وحدها.

نعم هو بالنسبة إلى مجموع العالم علّة تامّة إذ لا يتوقّف على شي‏ء غيره و كذا الصادر الأوّل الّذي تتبعه بقيّة أجزاء المجموع، و أمّا سائر أجزاء العالم فإنّه تعالى جزء علّته التامّة ضرورة توقّفه على ما هو قبله من العلل و ما هو معه من الشرائط و المعدّات.

هذا إذا اعتبرنا كلّ واحد من الأجزاء بحياله ثمّ نسبنا وحده إلى الواجب تعالى.

و هاهنا نظر آخر أدقّ و هو أنّ الارتباط الوجوديّ الّذي لا سبيل إلى إنكاره

١٤٩

بين كلّ شي‏ء و بين علله الممكنة و شروطه و معدّاته يقضي بنوع من الاتّحاد و الاتّصال بينها فالواحد من الأجزاء ليس مطلقاً منفصلاً بل هو في وجوده المتعيّن مقيّد بجميع ما يرتبط به متّصل الهويّة بغيرها.

فالإنسان الابن الّذي كنّا نعتبره في المثال المتقدّم بالنظر السابق موجوداً مستقلّاً مطلقاً فنجده متوقّفاً على علل و شروط كثيرة و الواجب تعالى أحدها يعود بحسب هذه النظرة هويّة مقيّدة بجميع ما كان يعتبر توقّفه عليه من العلل و الشرائط غير الواجب تعالى فحقيقة زيد مثلاً هو الإنسان ابن فلان و فلانة المتولّد في زمان كذا و مكان كذا المتقدّم عليه كذا و كذا المقارن لوجوده كذا و كذا من الممكنات.

فهذه هو حقيقة زيد مثلاً و من الضروريّ أنّ ما حقيقته ذلك لا تتوقّف على شي‏ء غير الواجب فالواجب هو علّته التامّة الّتي لا توقّف له على غيره، و لا حاجة له إلى غير مشيّته، و قدرته تعالى بالنسبة إليه مطلقة غير مشروطة و لا مقيّدة، و هو قوله تعالى:( يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) .

قوله تعالى: ( لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ اللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يريد آية النور و ما يتلوها المبيّنة لصفة نوره تعالى و الصراط المستقيم سبيله الّتي لا سبيل للغضب و الضلال إلى من اهتدى إليها كما قال:( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ ) الحمد: ٧، و قد تقدّم الكلام فيه في تفسير سورة الحمد.

و تذييل الآية بقوله:( وَ اللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) هو الموجب لعدم تقييد قوله:( لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ ) بلفظة إليكم بخلاف قوله قبل آيات:( لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) .

إذ لو قيل: لقد أنزلنا إليكم آيات مبيّنات و الله يهدي. تبادر إلى الذهن أنّ البيان اللفظيّ هداية إلى الصراط المستقيم و أنّ المخاطبين عامّة مهديّون إلى الصراط المستقيم و فيهم المنافق و الّذين في قلوبهم مرض و الله العالم.

١٥٠

( بحث روائي)

في التوحيد، بإسناده عن العبّاس بن هلال قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) فقال: هاد لأهل السماوات و هاد لأهل الأرض.

و في رواية البرقيّ: هدى من في السماوات و هدى من في الأرض.

أقول: إذا كان المراد بالهداية الهداية الخاصّة و هي الهداية إلى السعادة الدينيّة كان من التفسير بمرتبة من المعنى، و إن كان المراد بها الهداية العامّة و هي إيصال كلّ شي‏ء إلى كماله انطبق على ما تقدّم.

و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن جرير قال: سألتني امرأة أن اُدخلها على أبي عبداللهعليه‌السلام فاستأذنت لها فأذن لها فدخلت و معها مولاة لها فقالت له: يا أباعبدالله قول الله:( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ ) ما عنى بهذا؟ فقال لها: أيّتها المرأة إنّ الله لم يضرب الأمثال للشجر إنّما ضرب الأمثال لبني آدم.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمّد عن أبيهعليهما‌السلام : في هذه الآية( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) قال: بدأ بنور نفسه( مَثَلُ نُورِهِ ) مثل هداه في قلب المؤمن( كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ) و المصباح جوف المؤمن و القنديل قلبه، و المصباح النور الّذي جعله الله في قلبه.

( يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ ) قال: الشجرة المؤمن( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ ) قال: على سواد الجبل لا غربيّة أي لا شرق لها، و لا شرقيّة أي لا غرب لها إذا طلعت الشمس طلعت عليها و إذا غربت غربت عليها( يَكادُ زَيْتُها يُضِي‏ءُ ) يكاد النور الّذي في قلبه يضي‏ء و إن لم يتكلّم.

( نُورٌ عَلى‏ نُورٍ ) فريضة على فريضة، و سنّة على سنّة( يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ) يهدي الله لفرائضه و سننه من يشاء( وَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ ) فهذا مثل ضربه الله للمؤمن.

١٥١

ثمّ قال: فالمؤمن يتقلّب في خمسة من النور: مدخله نور، و مخرجه نور، و علمه نور، و كلامه نور، و مصيره يوم القيامة إلى الجنّة نور. قلت لجعفرعليه‌السلام : إنّهم يقولون: مثل نور الربّ. قال: سبحان الله ليس لله مثل، قال الله:( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ ) .

أقول: الحديث يؤيّد ما تقدّم في تفسير الآية، و قد اكتفىعليه‌السلام في تفسير بعض فقرات الآية بذكر بعض المصاديق كالّذي ذكره في ذيل قوله:( يَكادُ زَيْتُها يُضِي‏ءُ ) و قوله:( نُورٌ عَلى‏ نُورٍ ) .

و أمّا قوله:( سبحان الله ليس لله مثل ) فإنّما ينفي به أن يكون المثل مثلاً للنور الّذي هو اسمه تعالى المحمول عليه فكونه مثلاً له تعالى يؤدّي إلى الحلول أو الانقلاب تعالى عن ذلك بل هو مثل لنوره المفاض على السماوات و الأرض، و أمّا الضمير في قوله:( مَثَلُ نُورِهِ ) فلا ضير في رجوعه إليه تعالى مع الاحتفاظ على المعنى الصحيح.

و في التوحيد، و قد روي عن الصادقعليه‌السلام : أنّه سئل عن قول الله عزّوجلّ:( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ) فقال: هو مثل ضربه الله لنا فالنبيّ و الأئمّة صلوات الله عليهم من دلالات الله و آياته الّتي يهتدى بها إلى التوحيد و مصالح الدين و شرائع الإسلام و السنن و الفرائض، و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

أقول: الرواية من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق و هو من أفضل المصاديق و هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الطاهرون من أهل بيتهعليهم‌السلام و إلّا فالآية تعمّ بظاهرها غيرهم من الأنبياءعليهم‌السلام و الأوصياء و الأولياء.

نعم ليست الآية بعامّة لجميع المؤمنين لأخذها في وصفهم صفات لا تعمّ الجميع كقوله:( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ) إلخ.

و قد وردت عدّة من الأخبار من طرق الشيعة في تطبيق مفردات الآية على

١٥٢

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أهل بيتهعليهم‌السلام و هي من التطبيق دون التفسير، و من الدليل على ذلك اختلافها في نحو التطبيق‏ كرواية الكلينيّ في روضة الكافي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام و فيها: أنّ المشكاة قلب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و المصباح النور الّذي فيه العلم، و الزجاجة عليّ أو قلبه، و الشجرة المباركة الزيتونة الّتي لا شرقيّة و لا غربيّة إبراهيمعليه‌السلام ما كان يهوديّاً و لا نصرانيّاً، و قوله:( يَكادُ زَيْتُها يُضِي‏ءُ ) إلخ، يكاد أولادهم أن يتكلّموا بالنبوّة و إن لم ينزل عليهم ملك.

و ما رواه في التوحيد، بإسناده إلى عيسى بن راشد عن الباقرعليه‌السلام و فيه: أنّ المشكاة نور العلم في صدر النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسّلم)، و الزجاجة صدر عليّ( يَكادُ زَيْتُها يُضِي‏ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ) يكاد العالم من آل محمّد يتكلّم بالعلم قبل أن يسأل( نُورٌ عَلى‏ نُورٍ ) إمام مؤيّد بنور العلم و الحكمة في إثر الإمام من آل محمّد.

و ما في الكافي، بإسناده عن صالح بن سهل الهمدانيّ عن الصادقعليه‌السلام و فيه: أنّ المشكاة فاطمةعليها‌السلام ، و المصباح الحسنعليه‌السلام ، و الزجاجة الحسينعليه‌السلام ، و الشجرة المباركة إبراهيمعليه‌السلام ، و( لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ ) ما كان يهوديّاً و لا نصرانيّاً، و( نُورٌ عَلى‏ نُورٍ ) إمام بعد إمام، و( يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ) يهدي الله للأئمّةعليهم‌السلام من يشاء.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله:( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ ) قال: قلب إبراهيم لا يهوديّ و لا نصرانيّ.

أقول: و هو من قبيل ذكر بعض المصاديق، و قد ورد مثله من طرق الشيعة عن بعض أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كما تقدّم.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك و بريدة قالا: قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: بيوت الأنبياء. فقام إليه أبوبكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها لبيت عليّ و فاطمة؟ قال: نعم من أفاضلها.

١٥٣

أقول: و رواه في المجمع، عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرسلاً، و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره بإسناده‏ عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام و لفظه: قال: هي بيوت الأنبياء و بيت عليّعليه‌السلام منها. و هو على أيّ حال من قبيل ذكر بعض المصاديق على ما تقدّم.

و في نهج البلاغة من كلام لهعليه‌السلام عند تلاوته( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ) و إنّ للذكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلاً فلم يشغلهم تجارة و لا بيع عنه يقطعون به أيّام الحياة، و يهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين، و يأمرون بالقسط و يأتمرون به و ينهون عن المنكر و ينتهون عنه.

كأنّما قطعوا الدنيا إلى الآخرة و هم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك فكأنّما اطّلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه، و حقّقت القيامة عليهم عذابها فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتّى كأنّهم يرون ما لا يرى الناس و يسمعون ما لا يسمعون.

و في المجمع في قوله تعالى:( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ ) و روي عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام : أنّهم قوم إذا حضرت الصلاة تركوا التجارة و انطلقوا إلى الصلاة و هم أعظم أجراً ممّن لم يتّجر.

أقول: أي لم يتّجر و اشتغل بذكر الله كما في روايات اُخر.

و في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه و غيره عن أبي هريرة و أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله تعالى:( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ) قال: هم الّذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله.

أقول: كأنّ الرواية غير تامّة و تمامها فيما روي عن ابن عبّاس قال: كانوا رجالاً يبتغون من فضل الله يشترون و يبيعون فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما بأيديهم و قاموا إلى المسجد فصلّوا.

و في المجمع في قوله تعالى:( وَ اللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ ) و سئل أميرالمؤمنينعليه‌السلام : كيف يحاسبهم في حالة واحدة؟ فقال: كما يرزقهم في حالة واحدة.

و في روضة الكافي، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبدالله عن أبيه عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله عزّوجلّ جعل السحاب

١٥٤

غرابيل المطر هي تذيب البرد حتّى يصير ماء لكي لا يضرّ شيئاً يصيبه، و الّذي ترون فيه من البرد و الصواعق نقمة من الله عزّوجلّ يصيب بها من يشاء من عباده.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ أَرْبَعٍ ) قال: على رجلين الناس، و على بطنه الحيّات، و على أربع البهائم، و قال أبوعبداللهعليه‌السلام : و منهم من يمشي على أكثر من ذلك.

١٥٥

( سورة النور الآيات ٤٧ - ٥٧)

وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ  وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( ٤٧ ) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ( ٤٨ ) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ( ٤٩ ) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ  بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٥٠ ) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا  وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٥١ ) وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٥٢ ) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ  قُل لَّا تُقْسِمُوا  طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ  إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ٥٣ ) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ  فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ  وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا  وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( ٥٤ ) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا  يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا  وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٥٥ ) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ٥٦ ) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ  وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ  وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ٥٧ )

١٥٦

( بيان)

تتضمّن الآيات افتراض طاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أنّها لا تفارق طاعة الله تعالى، و وجوب الرجوع إلى حكمه و قضائه و أنّ الإعراض عنه آية النفاق، و تختتم بوعد جميل للصالحين من المؤمنين و إيعاد للكافرين.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ) إلخ، بيان حال بعض المنافقين حيث أظهروا الإيمان و الطاعة أوّلاً ثمّ تولّوا ثانياً فالإيمان بالله هو العقد على توحيده و ما شرع من الدين، و الإيمان بالرسول هو العقد على كونه رسولاً مبعوثاً من عند ربّه أمره أمره و نهيه نهيه و حكمه حكمه من غير أن يكون له من الأمر شي‏ء، و طاعة الله هي تطبيق العمل بما شرعه، و طاعة الرسول الايتمار و الانتهاء عند أمره و نهيه و قبول ما حكم به و قضى عليه.

فالإيمان بالله و طاعته موردهما نفس الدين و التشرّع به، و الإيمان بالرسول و طاعته موردهما ما أخبر به الرسول من الدين بما أنّه يخبر به و ما حكم به و قضى عليه في المنازعات و الانقياد له في ذلك كلّه.

فبين الإيمانين و الطاعتين فرق ما من حيث سعة المورد و ضيقه، و يشير إلى ذلك ما في العبارة من نوع من التفصيل حيث قيل:( آمَنَّا بِاللهِ وَ بِالرَّسُولِ ) فاُشير إلى تعدّد الإيمان و الطاعة و لم يقل: آمنّا بالله و الرسول بحذف الباء، و الإيمانان مع ذلك متلازمان لا ينفكّ أحدهما عن الآخر، قال تعالى:( وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَ رُسُلِهِ ) النساء: ١٥٠.

فقوله:( وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ) أي عقدنا القلوب على دين الله و تشرّعنا به و على أنّ الرسول لا يخبر إلّا بالحقّ و لا يحكم إلّا بالحقّ.

و قوله:( ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ) أي ثمّ يعرض طائفة من هؤلاء القائلين:( آمَنَّا بِاللهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ) عن مقتضى قولهم من بعد ما قالوا ذلك.

و قوله:( وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) أي ليس اُولئك القائلون بالمؤمنين، و المشار

١٥٧

إليه باسم الإشارة القائلون جميعاً لا خصوص الفريق المتولّين على ما يعطيه السياق لأنّ الكلام مسوق لذمّ الجميع.

قوله تعالى: ( وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ) يشهد سياق الآية أنّ الآيات إنّما نزلت في بعض من المنافقين دعوا إلى حكم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منازعة وقعت بينه و بين غيره فأبى الرجوع إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و في ذلك نزلت الآيات.

و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما كان يحكم بينهم بحكم الله على ما أراه الله كما قال تعالى:( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ ) النساء: ١٠٥. فللحكم نسبة إليه بالمباشرة و نسبة إلى الله سبحانه من حيث كان الحكم في ضوء شريعته و بنصبه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحكم و القضاء.

و بذلك يظهر أنّ المراد بالدعوة إلى الله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى المتابعة لما يقتضيه شرعه تعالى في مورد النزاع، و بالدعوة إلى رسوله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى متابعة ما يقضى عليه بالمباشرة، و أنّ الظاهر أنّ ضمير( لِيَحْكُمَ ) للرسول، و إنّما اُفرد الفاعل و لم يثنّ إشارة إلى أنّ حكم الرسول حكمه تعالى.

و الآية بالنسبة إلى الآية السابقة كالخاصّ بالنسبة إلى العامّ فهي تقصّ إعراضنا معيّناً منهم و الإعراض المذكور في الآية السابقة منهم إعراض مطلق.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ) الإذعان الانقياد، و ظاهر السياق و خاصّة قوله:( يَأْتُوا إِلَيْهِ ) أنّ المراد بالحقّ حكم الرسول بدعوى أنّه حقّ لا ينفكّ عنه، و المعنى و إن يكن الحقّ الّذي هو حكم الرسول لهم لا عليهم يأتوا إلى حكمه منقادين فليسوا بمعرضين عنه إلّا لكونه عليهم لا لهم، و لازم ذلك أنّهم يتّبعون الهوى و لا يريدون اتّباع الحقّ.

قوله تعالى: ( أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ ) إلى آخر الآية. الحيف الجور.

و ظاهر سياق الآيات أنّ المراد بمرض القلوب ضعف الإيمان كما في قوله

١٥٨

تعالى:( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) الأحزاب: ٣٢، و قوله:( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ) الأحزاب: ٦٠، و غير ذلك من الآيات.

و أمّا كون المراد بمرض القلوب النفاق كما فسّر به فيدفعه قوله في صدر الآيات:( وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) فإنّه حكم بنفاقهم، و لا معنى مع إثبات النفاق للاستفهام عن النفاق ثمّ الإضراب عنه بقوله:( بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

و قوله:( أَمِ ارْتابُوا ) ظاهر إطلاق الارتياب و هو الشكّ أن يكون المراد هو شكّهم في دينهم بعد الإيمان دون الشكّ في صلاحية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحكم أو عدله و نحو ذلك لكونها بحسب الطبع محتاجة إلى بيان بنصب قرينة.

و قوله:( أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ) أي أم يعرضون عن ذلك لأنّهم يخافون أن يجور الله عليهم و رسوله لكون الشريعة الإلهيّة الّتي يتّبعها حكم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبنيّة على الجور و إماتة الحقوق الحقّة، أو لكون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يراعي الحقّ في قضائه.

و قوله:( بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) إضراب عن الترديد السابق بشقوقه الثلاثة و ذلك أنّ سبب إعراضهم لو كان مرض قلوبهم أو ارتيابهم لم يأتوا إليه مذعنين على تقدير كون الحقّ لهم بل كانوا يعرضون كان الحقّ لهم أو عليهم، و أمّا الخوف من أن يحيف الله عليهم و رسوله فلا موجب له فالله بري‏ء من الحيف و رسوله فليس إعراضهم عن إجابة الدعوة إلى حكم الله و رسوله إلّا لكونهم حقّ عليهم أنّهم ظالمون.

و الظاهر أنّ المراد بالظلم التعدّي عن طور الإيمان مع الإقرار به قولاً كما قال آنفاً:( وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) أو خصوص التعدّي إلى الحقوق غير الماليّة، و لو كان المراد مطلق الظلم لم يصحّ الإضراب عن الشقوق الثلاثة السابقة إليه لأنّها من مطلق الظلم و يدلّ عليه أيضاً الآية التالية.

و قد بان بما تقدّم أنّ الترديد في أسباب الإعراض على تقدير عدم النفاق بين الاُمور الثلاثة حاصر و الأقسام متغايرة فإنّ محصّل المعنى أنّهم منافقون غير

١٥٩

مؤمنين إذ لو لم يكونوا كذلك كان إعراضهم إمّا لضعف إيمانهم و إمّا لزواله بالارتياب و إمّا للخوف من غير سبب يوجبه فإنّ الخوف من الرجوع إلى حكم الحاكم إنّما يكون إذا احتمل حيفه في حكمه و ميله عن الحقّ إلى الباطل و لا يحتمل ذلك في حكم الله و رسوله.

و قد طال البحث في كلامهم عمّا في الآية من الترديد و الإضراب و لعلّ فيما ذكرناه كفاية، و من أراد أزيد من ذلك فليراجع المطوّلات.

قوله تعالى: ( إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ) إلى آخر الآية سياق قوله:( إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ ) و قد اُخذ فيه( كانَ ) و وصف الإيمان في( الْمُؤْمِنِينَ ) يدلّ على أنّ ذلك من مقتضيات طبيعة الإيمان فإنّ مقتضى الإيمان بالله و رسوله و عقد القلب على اتّباع ما حكم به الله و رسوله التلبية للدعوة إلى حكم الله و رسوله دون الردّ.

و على هذا فالمراد بقوله:( إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ) دعوة بعض الناس ممّن ينازعهم كدعوة بعض المتنازعين المتخاصمين الآخر إلى التحاكم إلى الله و رسوله ليحكم بينهم، و يدلّ عليه تصدير الجملة بلفظة( إِذا ) و لو كان المراد به دعوة الله و رسوله بمعنى إيجاب رجوع المؤمنين في منازعاتهم إلى حكم الله و رسوله كان ذلك حكماً مؤبّداً لا حاجة فيه إلى التقييد بالزمان.

و بذلك يظهر ضعف ما قيل: إنّ فاعل( دُعُوا ) المحذوف هو الله و رسوله، و المعنى: إذا دعاهم الله و رسوله. نعم مرجع الدعوة بآخره إلى دعوة الله و رسوله.

و كيف كان تقصر الآية قول المؤمنين على تقدير الدعوة إلى حكم الله و رسوله في قولهم: سمعنا و أطعنا و هو سمع و طاعة للدعوة الإلهيّة سواء فرض الداعي هو أحد المتنازعين للآخر أو فرض الداعي هو الله و رسوله أو كان المراد هو السمع و الطاعة لحكم الله و رسوله و إن كان بعيداً.

و انحصار قول المؤمنين عند الدعوة في( سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ) يوجب كون الردّ للدعوة ليس من قول المؤمنين فيكون تعدّياً عن طور الإيمان، كما يفيده قوله:

١٦٠

( بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) على ما تقدّم، فتكون الآية في مقام التعليل للإضراب في ذيل الآية السابقة.

و قد ختمت الآية بقوله:( وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) و فيه قصر الفلاح فيهم لا قصرهم في الفلاح.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ) ورود الآية في سياق الآيات السابقة و انضمامها إلى سابقتها يعطي أنّها في مقام التعليل - كالكبرى الكلّيّة - للآية السابقة حيث حكمت بفلاح من أجاب الدعوة إلى حكم الله و رسوله بالسمع و الطاعة بقيد الإيمان كأنّه قيل: إنّما أفلح من أجاب إلى حكم الله و رسوله و هو مؤمن لأنّه مطيع لله و لرسوله و هو مؤمن حقّاً في باطنه خشية الله و في ظاهره تقواه و من يطع الله و رسوله فيما قضي عليه و يخش الله و يتّقه فاُولئك هم الفائزون، و الفوز هو الفلاح.

و تشمل الآية الداعي إلى حكم الله و رسوله من المتنازعين كما يشمل المدعوّ منهما إذا أجاب بالسمع و الطاعة ففيها زيادةً على تعليل حكم الآية السابقة تعميم الوعد الحسن للداعي و المدعوّ جميعاً.

قوله تعالى: ( وَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ) إلى آخر الآية الجهد الطاقة، و التقدير في قوله:( أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ‏ ) أقسموا بالله مبلغ جهدهم في أيمانهم و المراد أقسموا بأغلظ أيمانهم.

و الظاهر أنّ المراد بقوله:( لَيَخْرُجُنَ) الخروج إلى الجهاد على ما وقع في عدّة من الآيات كقوله:( وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا ) التوبة: ٤٧.

و قوله:( قُلْ لا تُقْسِمُوا ) نهي عن الإقسام، و قوله:( طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ) خبر لمبتدإ محذوف هو الضمير الراجع إلى الخروج و الجملة في مقام التعليل للنهي عن الإقسام و لذا جي‏ء بالفصل، و قوله:( إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ‏ ) من تمام التعليل.

و معنى الآية: و أقسموا بالله بأغلظ أيمانهم لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد

١٦١

ليخرجنّ قل لهم: لا تقسموا فالخروج إلى الجهاد طاعة معروفة من الدين - و هو واجب لا حاجة إلى إيجابه بيمين مغلّظ - و إن تكونوا تقسمون لأجل أن ترضوا الله و رسوله بذلك فالله خبير بما تعملون لا يغرّه إغلاظكم في الإيمان.

و قيل: المراد بالخروج خروجهم من ديارهم و أموالهم لو حكم الرسول بذلك، و قوله:( طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ) مبتدأ لخبر محذوف، و التقدير: طاعة معروفة للنبيّ خير من إقسامكم، و معنى الآية: و أقسموا بالله بأغلظ الأيمان لئن أمرتهم و حكمت عليهم في منازعاتهم بالخروج من ديارهم و أموالهم ليخرجنّ منها قل لهم: لا تقسموا لأنّ طاعة حسنة منكم للنبيّ خير من إقسامكم بالله و الله خبير بما تعملون.

و فيه أنّ هذا المعنى و إن كان يؤكّد اتّصال الآية بما قبلها بخلاف المعنى السابق لكنّه لا يلائم التصريح السابق بردّهم الدعوة إلى الله و رسوله ليحكم بينهم لأنّهم إذ كانوا تولّوا و أعرضوا عن حكم الله و رسوله لم يكن يسعهم أن يقسموا للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لئن أمرهم في حكمه بالخروج من ديارهم و أموالهم ليخرجنّ و هو ظاهر، اللّهمّ إلّا أن يكون المقسمون فريقاً آخر منهم غير الرادّين للدعوة المعرضين عن الحكم، و حينئذ كان حمل( لَيَخْرُجُنَ) على هذا المعنى لا دليل يدلّ عليه.

قوله تعالى: ( قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ ) إلى آخر الآية، أمر بطاعة الله فيما أنزل من الدين، و أمر بطاعة الرسول فيما يأتيهم به من ربّهم و يأمرهم به في أمر دينهم و دنياهم، و تصدير الكلام بقوله:( قُلْ ) إشارة إلى أنّ الطاعة جميعا لله، و قد أكّده بقوله:( وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) دون أن يقول: و أطيعوني لأنّ طاعة الرسول بما هو طاعة الرسول طاعة المرسل، و بذلك تتمّ الحجّة.

و لذلك عقّب الكلام:

أوّلاً بقوله:( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ ) أي فإن تتولّوا و تعرضوا عن طاعة الرسول لم يضرّ ذلك الرسول فإنّما عليه ما حمّل من التكليف و لا يمسّكم منه شي‏ء و عليكم ما حمّلتم من التكليف و لا يمسّه منه شي‏ء فإنّ

١٦٢

الطاعة جميعاً لله سبحانه.

و ثانياً بقوله:( وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ) أي و إن كان لكلّ منكم و منه ما حمّل لكن إن تطيعوا الرسول تهتدوا لأنّ ما يجي‏ء به إليكم و ما يأمركم به من الله و بأمره و الطاعة لله و فيه الهداية.

و ثالثاً بقوله:( وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) و هو بمنزلة التعليل لما تقدّمه أي إنّ ما حمّله الرسول من التكليف هو التبليغ فحسب فلا بأس عليه إن خالفتم ما بلّغ و إذ كان رسولاً لم يحتمل إلّا التبليغ فطاعته طاعة من أرسله و في طاعة من أرسله و هو الله سبحانه اهتداؤكم.

قوله تعالى: ( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) إلى آخر الآية.

ظاهر وقوع الآية موقعها أنّها نزلت في ذيل الآيات السابقة من السورة و هي مدنيّة و لم تنزل بمكّة قبل الهجرة على ما يؤيّد سياقها و خاصّة ذيلها.

فالآية - على هذا - وعد جميل للّذين آمنوا و عملوا الصالحات أنّ الله تعالى سيجعل لهم مجتمعاً صالحاً يخصّ بهم فيستخلفهم في الأرض و يمكّن لهم دينهم و يبدلهم من بعد خوفهم أمنا لا يخافون كيد منافق و لا صدّ كافر يعبدونه لا يشركون به شيئاً.

فقوله:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) من فيه تبعيضيّة لا بيانيّة و الخطاب لعامّة المسلمين و فيهم المنافق و المؤمن و في المؤمنين منهم من يعمل الصالحات و من لا يعمل الصالحات و الوعد خاصّ بالّذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات محضاً.

و قوله:( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) إن كان المراد بالاستخلاف إعطاء الخلافة الإلهيّة كما ورد في آدم و داود و سليمانعليهم‌السلام قال تعالى:( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) البقرة: ٣٠ و قال:( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ) ص: ٢٦ و قال:( وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ) النمل: ١٦ فالمراد

١٦٣

بالّذين من قبلهم خلفاء الله من أنبيائه و أوليائه و لا يخلو من بعد كما سيأتي.

و إن كان المراد به إيراث الأرض و تسليط قوم عليها بعد قوم كما قال:( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) الأعراف: ١٢٨ و قال:( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) الأنبياء: ١٠٥ فالمراد بالّذين من قبلهم المؤمنون من اُمم الأنبياء الماضين الّذين أهلك الله الكافرين و الفاسقين منهم و نجّى الخلّص من مؤمنيهم كقوم نوح و هود و صالح و شعيب كما أخبر عن جمعهم في قوله تعالى:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى‏ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَ خافَ وَعِيدِ ) إبراهيم ١٤ فهؤلاء الّذين أخلصوا لله فنجّاهم فعقدوا مجتمعاً صالحاً و عاشوا فيه حتّى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم.

و أمّا قول من قال: إنّ المراد بالّذين استخلفوا من قبلهم بنو إسرائيل لما أهلك الله فرعون و جنوده فأورثهم أرض مصر و الشام و مكّنهم فيها كما قال تعالى فيهم:( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ) القصص: ٦.

ففيه أنّ المجتمع الإسرائيلي المنعقد بعد نجاتهم من فرعون و جنوده لم يصف من الكفر و النفاق و الفسق و لم يخلص للّذين آمنوا و عملوا الصالحات و لا حيناً على ما ينصّ عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة و لا وجه لتشبيه استخلاف الّذين آمنوا و عملوا الصالحات باستخلافهم و فيهم الكافر و المنافق و الطالح و الصالح.

و لو كان المراد تشبيه أصل استخلافهم بأصل استخلاف الّذين من قبلهم - و هم بنوإسرائيل - كيفما كان لم يحتج إلى إشخاص المجتمع الإسرائيليّ للتشبيه به و في زمن نزول الآية و قبل ذلك اُمم أشدّ قوّة و أكثر جمعاً منهم كالروم و الفرس و كلدة و غيرهم و قد قال تعالى في عاد الاُولى و ثمود:( إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ) الأعراف: ٦٩ و قال:( إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ ) الأعراف: ٧٤ و قد خاطب بذلك الكفّار من هذه الاُمّة فقال:( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ

١٦٤

الْأَرْضِ ) الأنعام: ١٦٥ و قال:( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) فاطر: ٣٩.

فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون التشبيه ببني إسرائيل ثمّ يؤدّى حقّ هذا المجتمع الصالح بما يعقّبه من قوله:( وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ) إلى آخر الوعد؟

قلت: نعم و لكن لا موجب حينئذ لاختصاص استخلاف بني إسرائيل لأن يشبّه به و أن يكون المراد بالّذين من قبلهم بني إسرائيل فقط كما تقدّم.

و قوله:( وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ ) تمكين الشي‏ء إقراره في مكان و هو كناية عن ثبات الشي‏ء من غير زوال و اضطراب و تزلزل بحيث يؤثّر أثره من غير مانع و لا حاجز فتمكّن الدين هو كونه معمولاً به في المجتمع من غير كفر به و استهانة بأمره و مأخوذاً باُصول معارفه من غير اختلاف و تخاصم و قد حكم الله سبحانه في مواضع من كلامه أنّ الاختلاف في الدين من بغي المختلفين كقوله:( وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) البقرة: ٢١٣.

و المراد بدينهم الّذي ارتضى لهم دين الإسلام و أضاف الدين إليهم تشريفاً لهم و لكونه من مقتضى فطرتهم.

و قوله:( وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ) هو كقوله:( وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ ) عطف على قوله:( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ) و أصل المعنى و ليبدّلنّ خوفهم أمناً فنسبة التبديل إليهم إمّا على المجاز العقليّ أو على حذف مضاف يدلّ عليه قوله:( مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ ) و التقدير و ليبدّلنّ خوفهم أو كون( أَمْناً ) بمعنى آمين.

و المراد بالخوف على أيّ حال ما كان يقاسيه المؤمنون في صدر الإسلام من الكفّار و المنافقين.

و قوله:( يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) الأوفق بالسياق أن يكون حالاً من ضمير( وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ ) أي و ليبدّلنّ خوفهم أمناً في حال يعبدونني لا يشركون بي شيئاً.

و الالتفات في الكلام من الغيبة إلى التكلّم و تأكيد( يَعْبُدُونَنِي ) بقوله:

١٦٥

( لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) و وقوع النكرة - شيئاً - في سياق النفي الدالّ على نفي الشرك على الإطلاق كلّ ذلك يقضي بأنّ المراد عبادتهم لله عبادة خالصة لا يداخلها شرك جليّ أو خفيّ و بالجملة يبدّل الله مجتمعهم مجتمعاً آمناً لا يعبد فيه إلّا الله و لا يتّخذ فيه ربّ غيره.

و قوله:( وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) ظاهر السياق كون( ذلِكَ ) إشارة إلى الموعود و الأنسب على ذلك كون( كَفَرَ ) من الكفران مقابل الشكر و المعنى و من كفر و لم يشكر الله بعد تحقّق هذا الوعد بالكفر أو النفاق أو سائر المعاصي الموبقة فاُولئك هم الفاسقون الكاملون في الفسق و هو الخروج عن زيّ العبوديّة.

و قد اشتدّ الخلاف بين المفسّرين في الآية.

فقيل إنّها واردة في أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد أنجز الله وعده لهم باستخلافهم في الأرض و تمكين دينهم و تبديل خوفهم أمناً بما أعزّ الإسلام بعد رحلة النبيّ في أيّام الخلفاء الراشدين و المراد باستخلافهم استخلاف الخلفاء الأربعة بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الثلاثة الُول منهم و نسبة الاستخلاف إلى جميعهم مع اختصاصه ببعضهم و هم الأربعة أو الثلاثة من قبيل نسبة أمر البعض إلى الكلّ كقولهم: قتل بنو فلان و إنّما قتل بعضهم.

و قيل: هي عامّة لاُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المراد باستخلافهم و تمكين دينهم و تبديل خوفهم أمناً إيراثهم الأرض كما أورثها الله الاُمم الّذين كانوا قبلهم أو استخلاف الخلفاء بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - على اختلاف التقرير - و تمكين الإسلام و انهزام أعداء الدين و قد أنجز الله وعده بما نصر الإسلام و المسلمين بعد الرحلة ففتحوا الأمصار و سخّروا الأقطار.

و على القولين الآية من ملاحم القرآن حيث أخبر بأمر قبل أوان تحقّقه و لم يكن‏ مرجوّا ذلك يومئذ.

و قيل: إنّها في المهديّ الموعودعليه‌السلام الّذي تواترت الأخبار على أنّه سيظهر

١٦٦

فيملأ الأرض قسطاً و عدلاً كما ملئت ظلماً و جوراً و إنّ المراد بالّذين آمنوا و عملوا الصالحات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الأئمّة من أهل بيتهعليهم‌السلام .

و الّذي يعطيه سياق الآية الكريمة على ما تقدّم من البحث بالتحرّز عن المسامحات الّتي ربّما يرتكبها المفسّرون في تفسير الآيات هو أنّ الوعد لبعض الاُمّة لا لجميعها و لا لأشخاص خاصّة منهم و هم الّذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات فالآية نصّ في ذلك و لا قرينة من لفظ أو عقل يدلّ على كونهم هم الصحابة أو النبيّ و أئمّة أهل البيت عليهم الصلاة و السلام و لا على أنّ المراد بالّذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات جميع الاُمّة و إنّما صرف الوعد إلى طائفة خاصّة منهم تشريفاً لهم أو لمزيد العناية بهم فهذا كلّه تحكّم من غير وجه.

و المراد باستخلافهم في الأرض كما استخلف الّذين من قبلهم عقد مجتمع مؤمن صالح منهم يرثون الأرض كما ورثها الّذين من قبلهم من الاُمم الماضين اُولي القوّة و الشوكة و هذا الاستخلاف قائم بمجتمعهم الصالح من دون أن يختصّ به أشخاص منهم كما كان كذلك في الّذين من قبلهم و أمّا إرادة الخلافة الإلهيّة بمعنى الولاية على المجتمع كما كان لداود و سليمان و يوسفعليهم‌السلام و هي السلطنة الإلهيّة فمن المستبعد أن يعبّر عن أنبيائه الكرام بلفظ( الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) و قد وقعت هذه اللفظة أو ما بمعناها في أكثر من خمسين موضعاً من كلامه تعالى و لم يقصد و لا في واحد منها الأنبياء الماضون مع كثرة ورود ذكرهم في القرآن نعم ذكرهم الله بلفظ( رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ) أو( رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي ) أو نحوهما بالإضافة إلى الضمير الراجع إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و المراد بتمكين دينهم الّذي ارتضى لهم كما مرّ ثبات الدين على ساقه بحيث لا يزلزله اختلافهم في اُصوله و لا مساهلتهم في إجراء أحكامه و العمل بفروعه و خلوص المجتمع من وصمة النفاق فيه.

و المراد من تبديل خوفهم أمناً انبساط الأمن و السلام على مجتمعهم بحيث لا يخافون عدوّاً في داخل مجتمعهم أو خارجه متجاهراً أو مستخفياً على دينهم

١٦٧

أو دنياهم.

و قول بعضهم: إنّ المراد الخوف من العدوّ الخارج من مجتمعهم كما كان المسلمون يخافون الكفّار و المشركين القاصدين إطفاء نور الله و إبطال الدعوة.

تحكّم مدفوع بإطلاق اللفظ من غير قرينة معيّنة للمدّعي على أنّ الآية في مقام الامتنان و أيّ امتنان على قوم لا عدوّ يقصدهم من خارج و قد أحاط بمجتمعهم الفساد و عمّته البليّة لا أمن لهم في نفس و لا عرض و لا مال الحرّيّة فيه للقدرة الحاكمة و السبق فيه للفئة الباغية.

و المراد بكونهم يعبدون الله لا يشركون به شيئاً ما يعطيه حقيقة معنى اللفظ و هو عموم إخلاص العبادة و انهدام بنيان كلّ كرامة إلّا كرامة التقوى.

و المتحصّل من ذلك كلّه أنّ الله سبحانه يعد الّذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات أن سيجعل لهم مجتمعاً صالحاً خالصاً من وصمة الكفر و النفاق و الفسق يرث الأرض لا يحكم في عقائد أفراده عامّة و لا أعمالهم إلّا الدين الحقّ يعيشون آمنين من غير خوف من عدوّ داخل أو خارج، أحراراً من كيد الكائدين و ظلم الظالمين و تحكّم المتحكّمين.

و هذا المجتمع الطيّب الطاهر على ما له من صفات الفضيلة و القداسة لم يتحقّق و لم ينعقد منذ بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يومنا هذا، و إن انطبق فلينطبق على زمن ظهور المهديّعليه‌السلام على ما ورد من صفته في الأخبار المتواترة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام لكن على أن يكون الخطاب للمجتمع الصالح لا لهعليه‌السلام وحده.

فإن قلت: ما معنى الوعد حينئذ للّذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات و ليس المهديّعليه‌السلام أحد المخاطبين حين النزول و لا واحد من أهل زمان ظهوره بينهم؟

قلت: فيه خلط بين الخطابات الفرديّة و الاجتماعيّة أعني الخطاب المتوجّه إلى أشخاص القوم بما هم أشخاص بأعيانهم و الخطاب المتوجّه إليهم بما هم قوم على نعت كذا فالأوّل لا يتعدّى إلى غير أشخاصهم و لا ما تضمّنه من وعد أو وعيد أو غير ذلك يسري إلى غيرهم و الثاني يتعدّى إلى كلّ من اتّصف بما ذكر فيه من الوصف

١٦٨

و يسري إليه ما تضمّنه من الحكم، و خطاب الآية من القبيل الثاني على ما تقدّم.

و من هذا القبيل أغلب الخطابات القرآنيّة المتوجّهة إلى المؤمنين و الكفّار، و منه الخطابات الذامّة لأهل الكتاب و خاصّة اليهود بما فعله أسلافهم و للمشركين بما صنعه آباؤهم.

و من هذا القبيل خاصّة ما ذكر من الوعد في قوله تعالى:( فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ) الإسراء: ٧ فإنّ الموعودين لم يعيشوا إلى زمن إنجاز هذا الوعد، و نظيره الوعد المذكور في قول ذي القرنين على ما حكاه الله:( فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) الكهف: ٩٨، و كذا وعده تعالى الناس بقيام الساعة و انطواء بساط الحياة الدنيا بنفخ الصور كما قال:( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ) الأعراف: ١٨٧، فوعد الصالحين من المؤمنين بعنوان أنّهم مؤمنون صالحون بوعد لا يدركه أشخاص زمان النزول بأعيانهم و لما يوجد أشخاص المجتمع الّذي يدرك إنجاز الوعد ممّا لا ضير فيه البتّة.

فالحقّ أنّ الآية إن اُعطيت حقّ معناها لم تنطبق إلّا على المجتمع الموعود الّذي سينعقد بظهور المهديّعليه‌السلام و إن سومح في تفسير مفرداتها و جملها و كان المراد باستخلاف الّذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات استخلاف الاُمّة بنوع من التغليب و نحوه، و بتمكين دينهم الّذي ارتضاه لهم كونهم معروفين في الدنيا بالاُمّة المسلمة و عدّهم الإسلام ديناً لهم و إن تفرّقوا فيه ثلاثاً و سبعين فرقة يكفّر بعضهم بعضاً و يستبيح بعضهم دماء بعض و أعراضهم و أموالهم، و بتبديل خوفهم أمناً يعبدون الله و لا يشركون به شيئاً عزّة الاُمّة و شوكتها في الدنيا و انبساطها على معظم المعمورة و ظواهر ما يأتون به من صلاة و صوم و حجّ و إن ارتحل الأمن من بينهم أنفسهم و ودّعهم الحقّ و الحقيقة، فالوجه أنّ الموعود بهذا الوعد الاُمّة، و المراد باستخلافهم ما رزقهم الله من العزّة و الشوكة بعد الهجرة إلى ما بعد الرحلة و لا موجب لقصر ذلك في زمن الخلفاء الراشدين بل يجري فيما بعد ذلك إلى زمن انحطاط الخلافة الإسلاميّة.

١٦٩

و أمّا تطبيق الآية على خلافة الخلفاء الراشدين أو الثلاثة الاُول أو خصوص عليّعليه‌السلام فلا سبيل إليه البتّة.

قوله تعالى: ( وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) مناسبة مضمون الآية لما سيقت لبيانه الآيات السابقة تعطي أنّها من تمامها.

فقوله:( وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ ) أمر في الحقيقة بطاعته تعالى فيما شرعه لعباده، و تخصيص الصلاة و الزكاة بالذكر لكونهما ركنين في التكاليف الراجعة إلى الله تعالى و إلى الخلق، و قوله:( وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) إنفاذ لولايتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القضاء و الحكومة.

و قوله:( لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) تعليل للأمر بما في المأمور به من المصلحة، و المعنى - على ما يعطيه السياق -: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فإنّ في هاتين الطاعتين رجاء أن تشملكم الرحمة الإلهيّة فينجز لكم وعده أو يعجّل لكم إنجازه فإنّ ارتفاع النفاق من بين المسلمين و عموم الصلاح و الاتّفاق على كلمة الحقّ مفتاح انعقاد مجتمع صالح يدرّ عليهم بكلّ خير.

قوله تعالى: ( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ لَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) من تمام الآيات السابقة، و فيها تأكيد ما مرّ من وعد الاستخلاف في الأرض و تمكين الدين و تبديل الخوف أمناً.

يخاطب تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الوعد - بخطاب مؤكّد - أن لا يظنّ أنّ الكفّار معجزون لله في الأرض فيمنعونه بما عندهم من القوّة و الشوكة من أن ينجز وعده، و هذا في الحقيقة بشرى خاصّة بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أكرم به اُمّته و أنّ أعداءه سينهزمون و يغلبون و لذلك خصّه بالخطاب على طريق الالتفات.

و لكون النهي المذكور في معنى أنّ الكفّار سينتهون عن معارضة الدين و أهله عطف عليه قوله:( وَ مَأْواهُمُ النَّارُ ) إلخ، كأنّه قيل: هم مقهورون في الدنيا و مسكنهم النار في الآخرة و بئس المصير.

١٧٠

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى:( وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ ) الآيات قيل: نزلت الآيات في رجل من المنافقين كان بينه و بين رجل من اليهود حكومة فدعاه اليهوديّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و دعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف.

و حكى البلخيّ أنّه كانت بين عليّ و عثمان منازعة في أرض اشتراها من عليّ فخرجت فيها أحجار و أراد ردّها بالعيب فلم يأخذها فقال: بيني و بينك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال الحكم بن أبي العاص: إن حاكمته إلى ابن عمّه يحكم له فلا تحاكمه إليه فنزلت الآيات، و هو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام أو قريب منه.

أقول: و في تفسير روح المعاني، عن الضحّاك أنّ النزاع كان بين عليّ و المغيرة بن وائل و ذكر قريباً من القصّة.

و في المجمع في قوله تعالى:( إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ ) الآية: وروي عن أبي جعفر: أنّ المعنيّ بالآية أميرالمؤمنينعليهما‌السلام .

و في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ ) الآية أخرج ابن جرير و ابن قانع و الطبراني عن علقمة بن وائل الحضرميّ عن سلمة بن يزيد الجهنيّ قال: قلت: يا رسول الله أ رأيت إن كان علينا اُمراء من بعدك يأخذونا بالحقّ الّذي علينا و يمنعونا الحقّ الّذي جعله الله لنا نقاتلهم و نبغضهم؟ فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليهم ما حمّلوا و عليكم ما حمّلتم.

أقول: و في معناه بعض روايات اُخر مرويّة فيه لكن ينبغي أن لا يرتاب في أنّ الإسلام بما فيه من روح إحياء الحقّ و إماتة الباطل يأبى عن إجازة ولاية الظلمة المتظاهرين بالظلم و إباحة السكوت و تحمّل الضيم و الاضطهاد قبال الطغاة و الفجرة لمن يجد إلى إصلاح الأمر سبيلاً و قد اتّضح بالأبحاث الاجتماعيّة اليوم أنّ استبداد الولاة برأيهم و اتّباعهم لأهوائهم في تحكّماتهم أعظم خطراً و أخبث أثراً من إثارة الفتن و إقامة الحروب في سبيل إلجائهم إلى الحقّ و العدل.

١٧١

و في المجمع في قوله تعالى:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ) الآية: و اختلف في الآية و المرويّ عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّها في المهديّ من آل محمّد.

قال: و روى العيّاشيّ بإسناده عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام : أنّه قرأ الآية و قال: هم و الله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يدي رجل منّا و هو مهديّ هذه الاُمّة، و هو الّذي قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يأتي رجل من عترتي اسمه اسمي يملاُ الأرض عدلاً و قسطاً كما ملئت ظلماً و جوراً - و روي مثل ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: و بذلك وردت الأخبار عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، و قد تقدّم بيان انطباق الآية على ذلك.

و قال في المجمع، بعد نقل الرواية: فعلى هذا يكون المراد بالّذين آمنوا و عملوا الصالحات النبيّ و أهل بيته عليهم الصلاة و السلام انتهى. و قد عرفت أنّ المراد به عامّ و الرواية لا تدلّ على أزيد من ذلك حيث قالعليه‌السلام : هم و الله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يدي رجل منّا الحديث.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن البراء في قوله:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ) الآية قال: فينا نزلت و نحن في خوف شديد.

أقول: ظاهره أنّ المراد بالّذين آمنوا الصحابة و قد عرفت أنّ الآية لا دلالة فيها عليه بوجه بل الدلالة على خلافه.

و فيه، أخرج ابن المنذر و الطبرانيّ في الأوسط و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل و الضياء في المختارة عن اُبيّ بن كعب قال: لما قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أصحابه المدينة و آوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلّا في السلاح و لا يصبحون إلّا فيه فقالوا: أ ترون أنّا نعيش حتّى نبيت آمنين مطمئنّين لا نخاف إلّا الله فنزلت:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) الآية.

أقول: هو لا يدلّ على أزيد من سبب النزول و أمّا أنّ المراد بالّذين آمنوا

١٧٢

من هم؟ و أنّ الله متى أنجز أو ينجز هذا الوعد؟ فلا تعرّض له به.

و نظيرته روايته الاُخرى: لما نزلت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) الآية قال: بشّر هذه الاُمّة بالسناء و الرفعة و الدين و النصر و التمكين في الأرض فمن عمل منكم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب.

فإنّ تبشير الاُمّة بالاستخلاف لا يستلزم كون المراد بالّذين آمنوا في الآية جميع الاُمّة أو خصوص الصحابة أو نفراً معدوداً منهم.

و في نهج البلاغة في كلام له لعمر لما استشاره لانطلاقه لقتال أهل فارس حين تجمّعوا للحرب قالعليه‌السلام : إنّ هذا الأمر لم يكن نصره و لا خذلانه بكثرة و لا بقلّة، و هو دين الله الّذي أظهره، و جنده الّذي أعزّه و أيّده حتّى بلغ ما بلغ و طلع حيث طلع، و نحن على موعود من الله تعالى حيث قال عزّ اسمه: وعد الله الّذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض و ليمكّننّ لهم دينهم الّذي ارتضى لهم و ليبدّلنّهم من بعد خوفهم أمناً.

و الله تعالى منجز وعده و ناصر جنده، و مكان القيّم في الإسلام مكان النظام من الخرز فإن انقطع النظام تفرّق و ربّ متفرّق لم يجتمع، و العرب اليوم و إن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع فكن قطباً و استدر الرحى بالعرب، و أصلهم دونك نار الحرب فإنّك إن شخصت من هذه الأرض تنقّضت عليك العرب من أطرافها و أقطارها حتّى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك ممّا بين يديك، و كان قد آن للأعاجم أن ينظروا إليك غدا يقولون: هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك و طمعهم فيك.

فأمّا ما ذكرت من عددهم فإنّا لم نقاتل فيما مضى بالكثرة و إنّما كنّا نقاتل بالنصر و المعونة.

أقول: و قد استدلّ به في روح المعاني، على ما ارتضاه من كون المراد بالاستخلاف في الآية ظهور الإسلام و ارتفاع قدره في زمن الخلفاء الراشدين و هو بمعزل عن

١٧٣

ذلك بل دليل على خلافه، فإنّ ظاهر كلامه أنّ الوعد الإلهيّ لم يتمّ أمر إنجازه بعد و أنّهم يومئذ في طريقه حيث يقول: و الله منجز وعده، و أنّ الدين لم يمكّن بعد و لا الخوف بدّل أمناً و كيف لا؟ و هم بين خوفين خوف من تنقّض العرب من داخل و خوف من مهاجمة الأعداء من خارج.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي الشعثاء قال: كنت جالساً مع حذيفة و ابن مسعود فقال حذيفة ذهب النفاق إنّما كان النفاق على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و إنّما هو اليوم الكفر بعد الإيمان فضحك ابن مسعود ثمّ قال: بم تقول؟ قال: بهذه الآية( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) إلى آخر الآية.

أقول: ليت شعري أين ذهب منافقو عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ و شواهد الكتاب العزيز و التاريخ تدلّ على أنّهم ما كانوا بأقلّ من ثلث أهل المدينة و معظمهم بها أصدقوا الإسلام يوم رحلتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم تغيّرت آراؤهم في تربّصهم الدوائر و تقليبهم الاُمور؟

١٧٤

( سورة النور الآيات ٥٨ - ٦٤)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ  مِّن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ  ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ  لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ  طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ  كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ  وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٥٨ ) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ  كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ  وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٥٩ ) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ  وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ  وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٦٠ ) لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ  لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا  فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً  كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ٦١ ) إِنَّمَا

١٧٥

الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ  إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ  فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ  إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٦٢ ) لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا  قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا  فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٦٣ ) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا  وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٦٤ )

( بيان)

بقيّة الأحكام المذكورة في السورة و تختتم السورة بآخر الآيات و فيها إشارة إلى أنّ الله سبحانه إنّما يشرّع ما يشرّع بعلمه و سيظهر و سينكشف لهم حقيقته حين يرجعون إليه.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) إلى آخر الآية. وضع الثياب خلعها و هو كناية عن كونهم على حال ربّما لا يحبّون أن يراهم عليها الأجنبيّ. و الظهيرة وقت الظهر، و العورة السوأة سمّيت بها لما يلحق الإنسان من انكشافها من العار و كأنّ المراد بها في الآية ما ينبغي ستره.

فقوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلخ، تعقيب لقوله سابقاً:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا ) إلخ، القاضي بتوقّف دخول البيت على الإذن و هو كالاستثناء من عمومه في العبيد و الأطفال بأنّه يكفيهم الاستيذان ثلاث مرّات في اليوم.

و قوله:( لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) أي مروهم أن يستأذنوكم للدخول، و ظاهر الّذين ملكت أيمانكم العبيد دون الإماء و إن كان اللفظ لا يأبى

١٧٦

عن العموم بعناية التغليب، و به وردت الرواية كما سيجي‏ء.

و قوله:( وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ) يعني المميّزين من الأطفال قبل البلوغ، و الدليل على تقيّدهم بالتمييز قوله بعد:( ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ ) .

و قوله:( ثَلاثَ مَرَّاتٍ ) أي كلّ يوم بدليل تفصيله بقوله:( مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ - أي وقت الظهر -وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ) ، و قد أشار إلى وجه الحكم بقوله:( ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ ) أي الأوقات الثلاثة ثلاث عورات لكم لا ينبغي بالطبع أن يطّلع عليكم فيها غيركم.

و قوله:( لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ ) أي لا مانع لكم من أن لا تأمروهم بالاستيذان و لا لهم من أن لا يستأذنوكم في غير هذه الأوقات، و قد أشار إلى جهة نفي الجناح بقوله:( طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) أي هم كثير الطوف عليكم بعضكم يطوف على بعض للخدمة فالاستيذان كلّما دخل حرج عادة فليكتفوا فيه بالعورات الثلاث.

ثمّ قال:( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ ) أي أحكام دينه الّتي هي آيات دالّة عليه( وَ اللهُ عَلِيمٌ ) يعلم أحوالكم و ما تستدعيه من الحكم( حَكِيمٌ ) يراعي مصالحكم في أحكامه.

قوله تعالى: ( وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا ) إلخ، بيان أنّ حكم الاستيذان ثلاث مرّات في الأطفال مغيّى بالبلوغ فإذا بلغ الأطفال منكم الحلم بأن بلغوا فليستأذنوا كما استأذن الّذين من قبلهم و هم البالغون من الرجال و النساء الأحرار( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

قوله تعالى: ( وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً ) إلى آخر الآية. القواعد جمع قاعدة و هي المرأة الّتي قعدت عن النكاح فلا ترجوه لعدم الرغبة في مباشرتها لكبرها، فقوله:( اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً ) وصف توضيحيّ، و قيل: هي الّتي يئست من الحيض، و الوصف احترازيّ.

و في المجمع: التبرّج إظهار المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره، و أصله

١٧٧

الظهور و منه البرج البناء العالي لظهوره.

و الآية في معنى الاستثناء من عموم حكم الحجاب، و المعنى: و الكبائر المسنّة من النساء فلا بأس عليهنّ أن لا يحتجبن حال كونهنّ غير متبرّجات بزينة.

و قوله:( وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ) كناية عن الاحتجاب أي الاحتجاب خير لهنّ من وضع الثياب، و قوله:( وَ اللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) تعليل لما شرع بالاسمين أي هو تعالى سميع يسمع ما يسألنه بفطرتهنّ عليم يعلم ما يحتجن إليه من الأحكام.

قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى‏ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ - إلى قوله -أَوْ صَدِيقِكُمْ ) ظاهر الآية أنّ فيها جعل حقّ للمؤمنين أن يأكلوا من بيوت قراباتهم أو الّتي ائتمنوا عليها أو بيوت أصدقائهم فهم مأذونون في أن يأكلوا منها بمقدار حاجتهم من غير إسراف و إفساد.

فقوله:( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى‏ حَرَجٌ - إلى قوله -وَ لا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ ) في عطف( عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ ) على ما تقدّمه دلالة على أنّ عدّ المذكورين ليس لاختصاص الحقّ بهم بل لكونهم أرباب عاهات يشكل عليهم أن يكتسبوا الرزق بعمل أنفسهم أحياناً و إلّا فلا فرق بين الأعمى و الأعرج و المريض و غيرهم في ذلك.

و قوله:( مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ ) إلخ، في عدّ( بُيُوتِكُمْ ) مع بيوت الأقرباء و غيرهم إشارة إلى نفي الفرق في هذا الدين المبنيّ على كون المؤمنين بعضهم أولياء بعض بين بيوتهم أنفسهم و بيوت أقربائهم و ما ملكوا مفاتحه و بيوت أصدقائهم.

على أنّ( بُيُوتِكُمْ ) يشمل بيت الابن و الزوج كما وردت به الرواية، و قوله:( أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ ) المفاتح جمع مفتح و هو المخزن، و المعنى: أو البيت الّذي ملكتم أي تسلّطتم على مخازنه الّتي فيها الرزق كما يكون الرجل قيّماً على بيت أو وكيلاً أو سلّم إليه مفتاحه.

و قوله:( أَوْ صَدِيقِكُمْ ) معطوف على ما تقدّمه بتقدير بيت على ما يعلم من

١٧٨

سياقه، و التقدير أو بيت صديقكم.

قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً ) الأشتات جمع شتّ و هو مصدر بمعنى التفرّق استعمل بمعنى المتفرّق مبالغة ثمّ جمع أو صفة بمعنى المتفرّق كالحقّ، و المعنى لا إثم عليكم أن تأكلوا مجتمعين و بعضكم مع بعض أو متفرّقين، و الآية عامّة و إن كان نزولها لسبب خاصّ كما روي.

و للمفسّرين في هذا الفصل من الآية و في الفصل الّذي قبلها اختلافات شديدة رأينا الصفح عن إيرادها و الغور في البحث عنها أولى، و ما أوردناه من المعنى في الفصلين هو الّذي يعطيه سياقهما.

قوله تعالى: ( فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً ) إلخ، لما تقدّم ذكر البيوت فرع عليه ذكر أدب الدخول فيها فقال:( فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً ) .

فقوله:( فَسَلِّمُوا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ ) المراد فسلّموا على من كان فيها من أهلها و قد بدّل من قوله:( عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ ) للدلالة على أنّ بعضهم من بعض فإنّ الجميع إنسان و قد خلقهم الله من ذكر و اُنثى على أنّهم مؤمنون و الإيمان يجمعهم و يوحّدهم أقوى من الرحم و أيّ شي‏ء آخر.

و ليس ببعيد أن يكون المراد بقوله:( فَسَلِّمُوا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ ) أن يسلّم الداخل على أهل البيت و يردّوا السلام عليه.

و قوله:( تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً ) أي حال كون السلام تحيّة من عند الله شرّعها الله و أنزل حكمها ليحيّي بها المسلمون و هو مبارك ذو خير كثير باق و طيّب يلائم النفس فإنّ حقيقة هذه التحيّة بسط الأمن و السلامة على المسلّم عليه و هو أطيب أمر يشترك فيه المجتمعان.

ثمّ ختم سبحانه الآية بقوله:( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ ) و قد مرّ تفسيره( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) أي تعلموا معالم دينكم فتعملوا بها كما قيل.

قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ

١٧٩

عَلى‏ أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ) ذكر قوله:( الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ ) بياناً للمؤمنين على ظهور معناه للدلالة على اتّصافهم بحقيقة المعنى أي إنّما المؤمنون الّذين آمنوا بالله و رسوله بحقيقة الإيمان و أيقنوا بتوحّده تعالى و اطمأنّت نفوسهم و تعلّقت قلوبهم برسوله.

و لذلك عقّبه بقوله:( وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى‏ أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ) و الأمر الجامع هو الّذي يجمع الناس للتدبّر في أطرافه و التشاور و العزم عليه كالحرب و نحوها.

و المعنى: و إذا كانوا مع الرسول بالاجتماع عنده على أمر من الاُمور العامّة لم يذهبوا و لم ينصرفوا من عند الرسول حتّى يستأذنوه للذهاب.

و لذلك أيضاً عقّبه بقوله:( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ رَسُولِهِ ) و هو بمنزلة عكس صدر الآية للدلالة على الملازمة و عدم الانفكاك.

و قوله:( فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ) تخيير منه تعالى لرسوله في أن يأذن لمن شاء و لا يأذن لمن لم يشأ.

و قوله:( وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أمر له بالاستغفار لهم تطييباً لنفوسهم و رحمة بهم.

قوله تعالى: ( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ) إلى آخر الآية، دعاء الرسول هو دعوته الناس إلى أمر من الاُمور كدعوتهم إلى الإيمان و العمل الصالح، و دعوتهم ليشاورهم في أمر جامع، و دعوتهم إلى الصلاة جامعة، و أمرهم بشي‏ء في أمر دنياهم أو اُخراهم فكلّ ذلك دعاء و دعوة منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و يشهد بهذا المعنى قوله ذيلاً:( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً ) و ما يتلوه من تهديد مخالفي أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما لا يخفى. و هو أنسب لسياق الآية السابقة فإنّها تمدح الّذين يلبّون دعوته و يحضرون عنده و لا يفارقونه حتّى يستأذنوه و هذه تذمّ و تهدّد الّذين يدعوهم فيتسلّلون عنه لواذا غير مهتمّين بدعائه و لا معتنين.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453