الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124176 / تحميل: 6115
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الحركات الرجعيّة

1

7

الجهميّة

قد عرفت أنّ المتّهمين بالقدرية كانوا دعاة الحرّية، لا نُفاة القضاء والقدر، بل كانوا قائلين بأنّه سبحانه تبارك وتعالى قدّر وقضى، ومع ذلك، لم يسلب الاختيار عن الإنسان، فخيّره بين الإيمان والكفر، بين الخير والشّر، فلو قدّر الخير فلعلم منه بأنّه يختار الخير عن اختيار، أو قدّر الشر فلعلم منه أنّ الفاعل يختار الشر كذلك، وهو نفس صميم الإسلام ولبّه، قال سبحانه: ( فَمَن شَاءَ فَلْيُوْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكُفُرْ ) (1) .

لكن ظهرت في القرن الثاني والثالث حركات رجعيّة استهدفت أركان الإسلام والعودة بالأُمّة إلى الأفكار الجاهلية الّتي سادت قبل الإسلام، من القول بالجبر والتجسيم، وإليك أبرز ممثّلي هذه الحركات الرجعية.

____________________

(1) الكهف: 29.

٨١

الجهميّة:

إنّ سمات الجهميّة، هي: القول بالجبر والتعطيل، أسّسها جهم بن صفوان السمرقندي (المتوفّى 128هـ).

قال الذهبي: جهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي الضال المبتدع، رأس الجهميّة في زمان صغار التابعين، وما علِمْته روى شيئاً، لكنّه زرع شرّاً عظيماً.

وقال المقريزي: الجهميّة،أتباع جهم بن صفوان الترمذي، مولى راسب، وقُتل في آخر دولة بني أُميّة، وتتلخّص عقائده في الأُمور التالية:

1 - ينفي الصفات الإلهيّة كلّها، ويقول: لا يجوز أن يوصف الباري بصفة يوصف بها خَلْقه.

2 - إنّ الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالقدرة ولا بالاستطاعة.

3 - إنّ الجنّة والنّار يفنيان، وتنقطع حركات أهلهما.

4 - إنّ من عرف الله ولم ينطق بالإيمان لم يكفر؛ لأنّ العلم لا يزول بالصمت، وهو مؤمن مع ذلك.

وقد كفّره المعتزلة في نفي الاستطاعة، وكفّره أهل السنّة بنفي الصفات وخلق القرآن ونفي الرؤية.

5 - وانفرد بجواز الخروج على السلطان الجائر.

6 - وزعم أنّ علم الله حادث لا بصفة يوصف بها غيره. (1)

____________________

(1). الخطط المقريزيّة: 3/349، ولاحظ: ص351.

٨٢

أقول: الظاهر أنّ قاعدة مذهبه أمران:

الأوّل: الجبر ونفي الاستطاعة، فجهم بن صفوان رأس الجبر وأساسه، ويُطْلق على أتباعه الجبريّة الخالصة، في مقابل غير الخالص منها.

الثاني: تعطيل ذاته سبحانه، عن التوصيف بصفات الجلال والجمال، ومن هنا نجمت المعطّلة.

وأمّا غير هذين الأمرين فمشكوك جداً.

التطورات الّتي مرّ بها مفهوم الجهمي:

لمّا كان نفي الصفات عن الله والقول بخلق القرآن ونفي الرؤية ممّا نسب إلى منهج الجهم، صار لفظ الجهمي رمزاً لكلِّ من قال بأحد هذه الأُمور، وإن كان غير قائل بالجبر ونفي القدر؛ ولأجل ذلك ربّما تطلق الجهميّة ويراد بها المعتزلة أو القدريّة، يقول أحد بن حنبل:

والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله ووقف، ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق، فهو أخبث من الأوّل، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهمي، ومن لم يكفّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم. (1)

____________________

(1) السنّة: 49.

٨٣

الحركات الرجعيّة

2

8

المجسّمة

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد، والبرهان عن التفكير، ألحق أضراراً جسيمة بالمجتمع الإسلامي، حيث ظهرت فيه حركات هدّامة ترمي إلى تقويض الأُسس الدينية والأخلاقيّة.

ومن تلك الحركات المجسّمة؛ الّتي رفع لواءها مقاتل بن سليمان المجسم (1) (المتوفّى عام 150هـ)، ونشر أقاصيص الأحبار والرهبان في القرن الثالث، فهو وجهم بن صفوان، مع تشاطرهما في دفع الأُمّة الإسلامية إلى حافة الجاهلية،على طرفي نقيض في مسألة التنزيه والتشبيه.

____________________

(1) مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي بالولاء، البلخي، أبو الحسن، من المفسرين، أصله من بلخ، انتقل إلى البصرة ودخل بغداد وحدّث بها، وتوفّي بالبصرة، كان متروك الحديث، من كتبه (التفسير الكبير)، و(نوادر التفسير)، و(الرّد على القدريّة)، و(متشابه القرآن)، و(الناسخ والمنسوخ)، و(القراءات)، و(الوجوه والنظائر)، [الأعلام: 7/281].

٨٤

أمّا صفوان، فقد بالغ في التنزيه حتّى عطّل وصف ذاته بالصفات.

وأمّا مقاتل، فقد أفرط في التشبيه فصار مجسّماً، وقد نقل المفسرون آراء مقاتل في كتب التفاسير.

فليعرف القارئ مكانه في الوثاقة وتنزيه الربّ عن صفات الخلق.

قال ابن حبّان: كان يأخذ من اليهود والنصارى - في علم القرآن - الّذي يوافق كتبهم، وكان يشبّه الربّ بالمخلوقات، وكان يكذب في الحديث.

وقال أبو حنيفة: أفرط جهم في نفي التشبيه، حتّى قال إنّه تعالى ليس بشيء، وأفرط مقاتل في الإثبات حتى جعله مثل خلقه. (1)

____________________

(1) لاحظ: ميزان الاعتدال، 4/173. وراجع تاريخ بغداد، 13/166.

٨٥

الحركات الرجعية

3

9

الكرّاميّة

وهذه الفرقة منسوبة إلى محمد بن كرام السجستاني (المتوفّى عام 255هـ) شيخ الكرامية.

قال الذهبي: ساقط الحديث على بدعته، أكَثَر عن أحمد الجويباري، ومحمد بن تميم السعدي؛ وكانا كذّابين.

وقال ابن حبّان: خذل، حتّى التقط من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها... وجعل الإيمان قولاً بلا معرفة.

وقال ابن حزم: قال ابن كرام: الإيمان قول باللسان، وإن اعتقد الكفر بقلبه، فهو مؤمن. ومن بِدَع الكرّاميّة قولهم في المعبود تعالى إنّه جسم لا كالأجسام، وقد سقت أخبار ابن كرّام في تاريخي الكبير، وله أتباع ومؤيّدون، وقد سجن في نيسابور لأجل بدعته ثمانية أعوام، ثُمَّ أُخرج وسار

٨٦

إلى بيت المقدس، ومات بالشام سنة 255هـ. (1)

إنّ للكرّامية نظريات في موضوعات أُخر، ذكرها البغدادي، وقد بلغت جُرأتهم في باب النبوّة حتّى قال بعضهم: إنّ النبي أخطأ في تبليغ قوله[ تعالى]: ( وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرَى ) ، حتّى قال بعده: (تلك الغرانيق العلى، وان شفاعتها لترتجى). (2)

مع أنّ قصة الغرانيق أُقصوصة ابتدعها قوم من أهل الضلالة، وقد أوضحنا حالها في كتابنا (سيد المرسلين (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم».

ونكتفي بهذا النزر في بيان عقائدهم، وكلّها وليد إقصاء العقل والمنطق عن ساحة العقائد، والاكتفاء بالروايات مع ما فيها من أباطيل وترّهات وضعها الأعداء واختلقتها الأهواء، فهي من أسوأ الحركات الرجعيّة الظاهرة في أواسط القرن الثالث.

____________________

(1) ميزان الاعتدال: 4/21.

(2) الفرق بين الفِرق: 222.

٨٧

الحركات الرّجعيّة

4

10

الظاهرية

وهذا المذهب منسوب إلى داود بن علي الأصفهاني الظاهري (200 - 270هـ).

وقد أسّس مذهباً في الفروع، فالمصدر الأصلي في الفقه عنده هو النصوص، بلا رأي في حكم من أحكام الشرع، فهم يأخذون بالنصوص وحدها، فإذا لم يكن بالنص، أخذوا بالإباحة الأصليّة.

ما هو السبب لظهور هذا المذهب؟

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد يستلزم طرده عن ساحة الفقه بوجه أولى، لأنّ أساسه هو التعبُّد بالنصوص، وعدم الإفتاء بشيء لا يوجد له أصل في الكتاب والسنّة، لكن الجمود على حرفيّة النصوص شيء، والتعبّد بالنصوص وعدم الإفتاء في مورد لا يوجد فيه أصل ودلالة في المصدرين الرئيسيّين شيء آخر،

٨٨

فالظاهرية على الأوّل، والفقهاء على الثاني، ولأجل إيضاح الحال نأتي بمثالين:

1 - إنّ الشكّل الأوّل من الأشكال الأربعة ضروري الإنتاج، من غير فرق بين الأُمور التكوينيّة أو الأحكام الشرعيّة؛ فكما أنّ الحكم بحدوث العالم نتيجة حتمية لقولنا: العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث، فهكذا الحكم بحرمة كلّ مسكر، نتيجة قطعيّة لقولنا: الفقاع مسكر، وكل مسكر حرام، فالفقاع حرام؛ لكنّ الظاهري يقبل المقدّمتين، ولكن لا يفتي بالنتيجة؛ بحجة أنّها غير مذكورة في النصوص.

2 - ما يسمّيه الفقهاء بلحن الخطاب، وإن كان شيئاً غير مذكور في نفس الخطاب، لكنّه من اللوازم البيّنة له، بحيث يتبادر إلى الذّهن من سماعه، فإذا خاطبنا سبحانه بقوله: ( فَلَا تَقُل لَهُمَا أُفٍ ) (1) ، يتوجّه الذهن إلى حرمة ضربهما وشتمهما بطريق أولى، ولكن الفقيه الظاهري يأبى عن الأخذ به بحجّة كونه غير منصوص.

قال سبحانه: ( قُل لِلّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنّتُ الْأَوّلِينَ ) (2) .

فالموضوع للحكم (مغفرة ما سلف عند الانتهاء)؛ وإن كان هو الكافر، لكن الذهن السليم يتبادر إلى فهم شيء آخر، لازم لهذا الحكم بالضرورة، وهو تعميم الحكم إلى المسلم أيضاً بوجه آكد، ولكنّ الظاهري يتركه؛ بحجة أنّه غير مذكور في النص.

____________________

(1) الإسراء: 23.

(2) الأنفال: 38.

٨٩

وهذا النوع من الجمود يجعل النصوص غير كافلة لاستخراج الفروع الكثيرة، وتصبح الشريعة ناقصة من حيث التشريع والتقنين، وغير صالحة لجميع الأجيال والعصور، وفاقدة للمرونة اللازمة الّتي عليها أساس خاتميّة نبوّة نبيّناً محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وكتابه وسنّته.

ثمَّ إنّ الاكتفاء بظاهر الشريعة؛ وأخذ الأحكام من ظواهر النصوص؛ له تفسيران: أحدهما صحيح جداً، والآخر باطل، فإن أُريد منه نفي الظنون؛ الّتي لم يدلّ على صحة الاحتجاج بها دليل، فهو نفس نص الكتاب العزيز، قال سبحانه: ( قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (1) ، فالشيعة الإماميّة، وبفضل النصوص الوافرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) المتّصلة اسنادها إلى الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، استطاعت أن تستخرج أحكام الحوادث والموضوعات الكثيرة منها، وامتنعت عن العمل بالقياس والاستحسان وغيرهما من الأدلّة الظنية؛ الّتي لم يقم الدليل القطعي على صحّة الاحتجاج بها، بل قام الدليل على حرمة العمل على بعضها، كالقياس، وقد ورد في نصوص أئمتهم (عليهم السلام): «إنّ السنّة إذا قيست مُحق الدين» (2) .

وإن أُريد بها لوازم الخطاب؛ أي ما يكون في نظر العقلاء، كالمذكور أخذاً بقولهم: (الكناية أبلغ من التصريح)، ويكون التفكيك بينهما أمراً غير صحيح، فليس ذلك عملاً بغير المنصوص. نعم ليس عملاً بالظاهر الحرفي، ولكنّه عمل بها بما يفهمه المخاطبون بها.

____________________

(1) يونس: 59.

(2) الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.

٩٠

أُفول نجمه:

إنّ هذا المذهب لأجل حرفيته قد أفل نجمه بسرعة.

نعم قد تبعه فقيه آخر باسم ابن حزم (384 - 458هـ)، وأعاد هذا المذهب إلى الساحة، وألّف حوله كتباً ورسائل، وخدمه بالتآليف التالية:

1 - الإحكام في أُصول الأحكام: بيّن فيه أُصول المذهب الظاهري.

2 - النُّبَذ: وهو خلاصة ذلك الكتاب.

3 - المحلّى: وهو كتاب كبير نشر في عشرة أجزاء، جمع أحاديث الأحكام وفقه علماء الأمصار، طبع في بيروت بتحقيق أحمد محمد شاكر، وله آراء شاذة - كبطلان الاجتهاد في استخراج الأحكام الفقهية، وجواز مس المصحف للمجنب، وقاتل الإمام عليّ كان مجتهداً - ذكرناها في موسوعتنا. (1)

وقد ذكرنا هذا المذهب، مع أنّه فقهي؛ لأجل اشتراكه مع ما سبق في الرجعيّة، وإقصاء العقل عن ساحة الاجتهاد الفقهي.

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 3/141 - 146.

٩١

11

المعتزلة

المعتزلة بين المدارس الكلاميّة المختلفة؛ مدرسة فكريّة عقليّة أعطت للعقل القسط الأوفر، ومن المؤسف أنّ هوى العصبية، بل يد الخيانة، لعبت بكثير من مخلّفاتهم الفكريّة، فأطاحت به فأضاعتها بالخرق والتمزيق، فلم يبق فيما بأيدينا من آثارهم إلاّ الشيء القليل، وأكثرها يرجع إلى كتب عبد الجبار المعتزلي (المتوفّى عام 415هـ)، ولأجل ذلك فقد اعتمد في تحرير هذا المذهب غير واحد من الباحثين على كتب خصومهم كالأشاعرة، ومن المعلوم أنّ الاعتماد على كتاب الخصم لا يُورث يقيناً.

وقد اهتمّ المستشرقون في العصور الأخيرة بدراسة مذهب الاعتزال، ولقد أُعجبوا بمنهج الاعتزال في حرّية الإنسان وأفعاله، وصار ذلك سبباً لرجوع المعتزلة إلى الساحة من قبل المفكّرين الإسلاميّين، ولذلك نُشرت في هذه الآونة الأخيرة كتباً حول المعتزلة.

ومؤسّس المذهب هو واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري، نقل الشهرستاني أنّه دخل شخص على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين!، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم تُخرج به

٩٢

عن الملّة، وهم وعيديّة الخوارج، وجماعة يُرجئون أصحاب الكبائر، ويقولون لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأُمّة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟

فتفكّر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب، قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثُمّ قام واعتزل إلى اسطوانة المسجد؛ يقرّر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل، فسمّي هو وأصحابه: معتزلة. (1)

سائر ألقاب المعتزلة:

إنّ للمعتزلة ألقاباً أُخر:

1 - العدليّة: لقولهم بعدل الله سبحانه وحكمته.

2 - الموحّدة: لقولهم لا قديم مع الله، وينفون قدم القرآن.

3 - أهل الحق: لأنّهم يعتبرون أنفسهم أهل الحق.

4 - القدريّة: يُعبَّر عن المعتزلة في الكتب الكلاميّة بالقدريّة، والمعتزلة يطلقونها على خصومهم، وذلك لما رُوي عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «أنّ القدريّة مجوس هذه الأُمّة». فلو قلنا بأنّ القدريّة منسوبة إلى القدر؛ عِدْل القضاء، فتنطبق على

____________________

(1) الملل والنحل: 1/62.

٩٣

خُصَماء المعتزلة؛ القائلين بالقدر السالب للاختيار. ولو قلنا بأنّها منسوبة إلى القدرة؛ أي القائلين بتأثير قدرة الإنسان في فعله واختياره وتمكّنه في إيجاده، فتنطبق - على زعم الخُصَماء - على المعتزلة؛ لقولهم بتأثير قدرة الإنسان في فعله. وقد طال الكلام بين المتكلّمين في تفسير الحديث وذِكْر كلِّ طائفة وجهاً لانطباقه على خصمها. (1)

5 - الثنويّة: ولعلّ وجهه ما يتراءى من بعضهم من نسبة الخير إلى الله والشر إلى العبد.

6 - الوعيدية: لقولهم إنّ الله صادق في وعده، كما هو صادق في وعيده، وإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ بعد التوبة، فلو مات بدونها يكون معذّباً قطعاً ويخلَّد في النار.

7 - المعطّلة: لتعطيل ذاته سبحانه عن الصفات الذاتية، ولكن هذا اللقب أُلصق بالجهميّة، وأمّا المعتزلة فلهم في الصفات مذهبان:

أ - القول بالنيابة، أي خلو الذات عن الصفات، ولكن تنوب الذّات مكان الصفات في الآثار المطلوبة منها، وقد اشتهر قولهم: (خُذ الغايات واترك المبادئ)، وهذا مخالف لكتاب الله والسنّة والعقل. فإنّ النقل يدلّ بوضوح على اتّصافه سبحانه بالصفات الكماليّة، وأمّا العقل، فحدِّث عنه ولا حرج؛ لأنّ الكمال يساوق الوجود، وكلّما كان الوجود أعلى وأشرف، تكون الكمالات فيه آكد.

____________________

(1) كشف المراد: 195، شرح المقاصد للتفتازاني: 2/143.

٩٤

ب - عينيّة الصفات مع الذّات واشتمالها على حقائقها، من دون أن يكون ذات وصفة، بل الذّات بلغت في الكمال إلى درجة صار نفس العلم قدرة.

8 - الجهميّة، وهذا اللّقب منحه أحمد بن حنبل لهم، فكل ما يقول: قالت الجهميّة، أو يصف القائل بأنّه جهميّ؛ يُريد به المعتزلة، لِمَا وجد من موافقتهم الجهميّة في بعض المسائل.

9 - المفنية.

10 - اللّفظيّة.

وهذان اللّقبان ذكرهما المقريزي وقال: إنّهم يوصفون بالمفنية، لما نسب إلى أبي الهذيل من فناء حركات أهل الجنة والنار؛ واللفظية لقولهم: ألفاظ القرآن مخلوقة. (1)

الأُصول الخمسة عند المعتزلة:

اشتهرت المعتزلة بأُصول خمسة، فمن دان بها فهو معتزلي، ومن نقص منها أو زاد عليها فليس منهم، وتلك الأُصول المرتبة حسب أهميتها عبارة عن: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فمن دان بها، ثُمَّ خالف بقية المعتزلة في تفاصيلها، لم يخرج بذلك عنهم.

وإليك تفصيل هذه الأُصول بنحو موجز:

____________________

(1) الخطط المقريزيّة: 4/169.

٩٥

إيعاز إلى الأُصول الخمسة

وقبل كلّ شيء نطرح هذه الأُصول على وجه الإجمال، حتّى يُعلم ماذا يريد منها المعتزلة، ثُمَّ نأخذ بشرحها واحداً بعد احد؛ فنقول:

1 - التوحيد: ويراد منه العلم بأنّ الله واحد، لا يشاركه غيره فيما يستحقُّ من الصفات نفياً وإثباتاً على الحدّ الّذي يستحقّه. والتوحيد عندهم رمز لتنزيهه سبحانه عن شوائب الإمكان ووهم المثليّة وغيرهما ممّا يجب تنزيه ساحته عنه، كالتجسيم والتشبيه وإمكان الرؤية وطروء الحوادث عليه. غير أنّ المهمّ في هذا الأصل؛ هو الوقوف على كيفيّة جريان صفاته عليه سبحانه، ونفي الرؤية، وغيرهما يقع في الدّرجة الثانية من الأهمية في هذا الأصل؛ لأنّ كثيراً منها لم يختلف المسلمون فيه، إلاّ القليل منهم.

2 - العدل: إذا قيل إنّه تعالى عادل، فالمراد أنّ أفعاله كلّها حسنة، وأنّه لا يفعل القبيح، وأنّه لا يَخِلّ بما هو واجب عليه. وعلى ضوء هذا: لا يكذب في خبره، ولا يجور في حكمه، ولا يعذِّب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، ولا يُظهر المعجزة على أيدي الكذّابين، ولا يكلِّف العباد وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، بل يُقْدِرهم على ما كلّفهم، ويعلِّمهم صفة ما كلّفهم، ويدلّهم على ذلك، ويبيّن لهم ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى‏ مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ ) (1) ، وأنّه إذا كلّف المكلّف وأتى بما كلّف على الوجه الّذي كُلِّف، فإنّه يثيبه لا محالة، وأنّه سبحانه إذا آلم وأسقم، فإنّما فعله لصلاحه ومنافعه، وإلاّ كان مخلاًّ بواجب...

3 - الوعد والوعيد: والمراد منه أنّ الله وعد المطيعين بالثواب، وتوعّد

____________________

(1) الأنفال: 42.

٩٦

العصاة بالعقاب، وأنّه يفعل ما وعد به وتوعّد عليه لا محالة. ولا يجوز الخُلف، لأنّه يستلزم الكذب. فإذا أخبر عن الفعل، ثُمَّ تركه، يكون كذباً. ولو أخبر عن العزم، فبما أنّه محال عليه، كان معناه الإخبار عن نفس الفعل، فيكون الخُلف كذباً. وعلى ضوء هذا الأصل، حكموا بتخليد مرتكب الكبائر في النار؛ إذا مات بلا توبة.

4 - المنزلة بين المنزلتين: وتلقّب بمسألة الأسماء والأحكام؛ وهي أنّ صاحب الكبيرة ليس بكافر كما عليه الخوارج، ولا منافق كما عليه الحسن البصري، ولا مؤمن كما عليه بعضهم، بل فاسق لا يحكم عليه بالكفر ولا بالإيمان.

5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والمعروف: كلّ فعل عرف فاعله حسنه أو دلّ عليه، والمنكر: كلّ فعل عرف فاعله قبحه أو دلّ عليه. ولا خلاف بين المسلمين في وجوبهما؛ إنّما الخلاف في أنّه هل يُعلم عقلاً أو لا يُعلم إلاّ سمعاً؟، ذهب أبو عليّ (المتوفّى 303هـ) إلى أنّه يُعلم عقلاً وسمعاً، وأبو هاشم (المتوفّى 321هـ) إلى أنّه يُعلم سمعاً، ولوجوبه شروط تُذكر في محلّها، ومنها أن لا يؤدّي إلى مضرّة في ماله أو نفسه، إلاّ أن يكون في تحمّله لتلك المذلّة إعزاز للدّين.

قال القاضي: وعلى هذا يحمل ما كان من الحسين بن عليّ (عليهما السّلام)؛ لِمَا كان في صبره على ما صبر، إعزاز لدين الله عزّ وجلّ، ولهذا نباهي به سائر الأُمم، فنقول: لم يبق من ولْد الرّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلاّ سبط واحد، فلم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى قتل دون ذلك. (1)

____________________

(1) الأُصول الخمسة: 142، نقلاً عن، بحوث في الملل والنحل: 3/254 - 255.

٩٧

سبب الاقتصار على هذه الأُصول الخمسة:

هناك سؤال يطرح نفسه، وهو:

لماذا اقتصروا على هذه الأُصول، مع أنّ أمر النبوّة والمعاد أولى بأن يُعدَّ من الأُصول؟

وقد ذكروا في وجه ذلك أُموراً لا يُعتمد عليها، والحق أن يقال: إنّ الأُصول الخمسة الّتي يتبنّاها المعتزلة، مؤلّفة من أُمور تعدُّ من أُصول الدين كالتوحيد والعدل على وجه، ومن أُصول كلاميّة أنتجوها من البحث والنقاش، وأقحموها في الأُصول لغاية ردِّ الفرق المخالفة؛ الّتي لا توافقهم في هذه المسائل الكلامية.

وعند ذلك يستنتج القارئ أنّ ما اتّخذته المعتزلة من الأُصول، وجعلته في صدر آرائها، ليست إلاّ آراء كلاميّة لهذه الفرقة، تظاهروا بها للردّ على المجبّرة والمشبّهة والمرجئة والإماميّة وغيرهم من الفرق، على نحو لو لا تلكم الفِرَق لما سمعت من هذه الأُصول ذكراً.

أئمة المعتزلة:

المراد بأئمتهم؛ مشايخهم الكبار؛ الّذين نضج المذهب بأفكارهم وآرائهم، ووصل إلى القمة في الكمال.

نعم، في مقابل أئمة المذهب، أعلامهم الّذين كان لهم دور في تبيين هذا المنهج من دون أن يتركوا أثراً يستحق الذكر في الأُصول الخمسة، وها نحن نذكر من الطائفيتن نماذج:

٩٨

1. واصل بن عطاء (80 - 131هـ):

أبو حذيفة واصل بن عطاء، مؤسّس الاعتزال، المعروف بالغزّال، يقول ابن خلّكان: كان واصل أحد الأعاجيب، وذلك أنّه كان ألثغ، قبيح اللثغة في الرّاء، فكان يُخلِّص كلامه من الرّاء ولا يُفطن لذلك، لاقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه، ففي ذلك يقول أبو الطروق؛ يمدحه بإطالة الخطب واجتنابه الراء على كثرة تردّدها في الكلام، حتّى كأنّها ليست فيه.

عـليم بـإبدال الحروف وقامع

لـكلّ خطيب يغلب الحقَّ باطلُه

وقال الآخر:

ويـجعل البرّ قمحاً في تصرّفه

وخالف الرّاء حتّى احتال للشعر

ولـم يطق مطراً والقول يعجله

فـعاذ بالغيث اشفاقاً من المطر

من آرائه ومصنّفاته:

إنّ واصل هو أوّل من أظهر المنزلة بين المنزلتين؛ لأنّ الناس كانوا في أسماء أهل الكبائر من أهل الصلاة على أقوال: كانت الخوارج تسمّيهم بالكفر والشرك، والمرجئة تسمّيهم بالإيمان، وكان الحسن وأصحابه يسمّونهم بالنفاق.

مؤلّفاته:

ذكر ابن النديم في (الفهرست)، وتبعه ابن خلّكان: إنّ لواصل التصانيف التالية:

٩٩

1 - كتاب أصناف المرجئة.

2 - كتاب التوبة.

3 - كتاب المنزلة المنزلتين.

4 - كتاب خطبه الّتي أخرج منها الرّاء.

5 - كتاب معاني القرآن.

6 - كتاب الخُطب في التوحيد والعدل.

ومن المحتمل أنّه قام بجمع خطب الإمام عليّ (عليه السّلام) في التوحيد والعدل فأفرده تأليفاً.

7 - كتاب ما جرى بينه وبين عمرو بن عبيد.

8 - كتاب السبيل إلى معرفة الحق.

9 - كتاب في الدعوة.

10 - كتاب طبقات أهل العلم والجهل. (1)

2. عمرو بن عبيد (80 - 143هـ):

وهو الإمام الثاني للمعتزلة بعد واصل بن عطاء، وكان من أعضاء حلقة الحسن البصري، مثل واصل، لكن التحق به بعد مناظرة جرت بينهما في مرتكب الكبيرة.

روى ابن المرتضى، عن الجاحظ، أنّه قال: صلَّى عمرو أربعين عاماً صلاة

____________________

(1) فهرست ابن النديم: 203، الفن الأوّل من المقالة الخامسة.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً ) إلى آخر الآية. السراب هو ما يلمع في المفازة كالماء و لا حقيقة له، و القيع و القاع هو المستوي من الأرض و مفرداهما القيعة و القاعة كالتينة و التمرة، و الظمآن هو العطشان.

لما ذكر سبحانه المؤمنين و وصفهم بأنّهم ذاكرون له في بيوت معظّمة لا تلهيهم عنه تجارة و لا بيع، و أنّ الله الّذي هو نور السماوات و الأرض يهديهم بذلك إلى نوره فيكرمهم بنور معرفته قابل ذلك بذكر الّذين كفروا فوصف أعمالهم تارة بأنّها لا حقيقة لها كسراب بقيعة فلا غاية لها تنتهي إليها، و تارة بأنّها كظلمات بعضها فوق بعض لا نور معها و هي حاجزة عن النور، و هذه الآية هي الّتي تتضمّن الوصف الأوّل.

فقوله:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ) شبّه أعمالهم - و هي الّتي يأتون بها من قرابين و أذكار و غيرهما من عباداتهم يتقرّبون بها إلى آلهتهم - بسراب بقيعة يحسبه الإنسان ماء و لا حقيقة له يترتّب عليها ما يترتّب على الماء من رفع العطش و غير ذلك.

و إنّما قيل: يحسبه الظمآن ماء مع أنّ السراب يتراءى ماء لكلّ راء لأنّ المطلوب بيان سيره إليه و لا يسير إليه إلّا الظمآن يدفعه إليه ما به من ظمإ، و لذلك رتّب عليه قوله:( حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ) ، كأنّه قيل: كسراب بقيعة يتخيّله الظمآن ماء فيسير إليه و يقبل نحوه ليرتوي و يرفع عطشه به، و لا يزال يسير حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً.

و التعبير بقوله:( جاءَهُ ) دون أن يقال: بلغه أو وصل إليه أو انتهى إليه و نحوها للإيماء إلى أنّ هناك من يريد مجيئه و ينتظره انتظاراً و هو الله سبحانه، و لذلك أردفه بقوله:( وَ وَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ ) فأفاد أنّ هؤلاء يريدون بأعمالهم الظفر بأمر تبعثهم نحوه فطرتهم و جبلّتهم و هو السعادة الّتي يريدها كلّ إنسان

١٤١

بفطرته و جبلّته لكنّ أعمالهم لا توصلهم إليه، و لا أنّ الآلهة الّتي يبتغون بأعمالهم جزاء حسناً منهم لهم حقيقة بل الّذي ينتهي إليه أعمالهم و يحيط هو بها و يجزيهم هو الله سبحانه فيوفّيهم حسابهم، و توفية الحساب كناية عن الجزاء بما يستوجبه حساب الأعمال و إيصال ما يستحقّه صاحب الأعمال.

ففي الآية تشبيه أعمالهم بالسراب، و تشبيههم بالظمآن الّذي يريد الماء و عنده عذب الماء لكنّه يعرض عنه و لا يصغي إلى مولاه الّذي ينصحه و يدعوه إلى شربه بل يحسب السراب ماء فيسير إليه و يقبل نحوه، و تشبيه مصيرهم إلى الله سبحانه بحلول الآجال و عند ذلك تمام الأعمال بالظمآن السائر إلى السراب إذا جاءه و عنده مولاه الّذي كان ينصحه و يدعوه إلى شرب الماء.

فهؤلاء قوم ألهوا عن ذكر ربّهم و الأعمال الصالحة الهادية إلى نوره و فيه سعادتهم و حسبوا أنّ سعادتهم عند غيره من الآلهة الّذين يدعونهم و الأعمال المقرّبة إليهم و فيها سعادتهم فأكبّوا على تلك الأعمال السرابيّة و استوفوا ما يمكنهم أن يأتوا بها مدّة أعمارهم حتّى حلّت آجالهم و شارفوا الدار الآخرة فلم يجدوا شيئاً ممّا يؤمّلونه من أعمالهم و لا أثراً من اُلوهيّة آلهتهم فوفّاهم الله حسابهم و الله سريع الحساب.

و قوله:( وَ اللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ ) إنّما هو لإحاطة علمه بالقليل و الكثير و الحقير و الخطير و الدقيق و الجليل و المتقدّم و المتأخّر على حدّ سواء.

و اعلم أنّ الآية و إن كان ظاهرها بيان حال الكفّار من أهل الملل و خاصّة المشركين من الوثنيّين لكنّ البيان جار في غيرهم من منكري الصانع فإنّ الإنسان كائناً من كان يرى لنفسه سعادة في الحياة و لا يرتاب أنّ الوسيلة إلى نيلها أعماله الّتي يأتي بها فإن كان ممّن يقول بالصانع و يراه المؤثّر في سعادته بوجه من الوجوه توسّل بأعماله إلى تحصيل رضاه و الفوز بالسعادة الّتي يقدّرها له، و إن كان ممّن ينكره و ينهي التأثير إلى غيره توسّل بأعماله إلى توجيه ما يقول به من المؤثّر كالدهر و الطبيعة و المادّة نحو سعادة حياته الدنيا الّتي لا يقول بما وراءها.

١٤٢

فهؤلاء يرون المؤثّر الّذي بيده سعادة حياتهم غيره تعالى و لا مؤثّر غيره و يرون مساعيهم الدنيويّة موصلة لهم إلى سعادتهم و ليست إلّا سراباً لا حقيقة له و لا يزالون يسعون حتّى إذا تمّ ما قدّر لهم من الأعمال بحلول ما سمّي لهم من الآجال لم يجدوا عندها شيئاً و عاينوا أنّ ما كانوا يتمنّون منها لم يكن إلّا طائف خيال أو حلم نائم، و عند ذلك يوفّيهم الله حسابهم و الله سريع الحساب.

قوله تعالى: ( أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ) تشبيه ثان لأعمالهم يظهر به أنّها حجب متراكمة على قلوبهم تحجبهم عن نور المعرفة، و قد تكرّر في كلامه تعالى أنّهم في الظلمات كقوله:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ ) البقرة: ٢٥٧، و قوله:( كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) الأنعام: ١٢٢، و قوله:( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) المطفّفين: ١٥.

و قوله:( أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ) معطوف على( كَسَرابٍ ) في الآية السابقة، و البحر اللّجّيّ هو البحر المتردّد أمواجه منسوب إلى لجّة البحر و هي تردّد أمواجه، و المعنى: أعمالهم كظلمات كائنة في بحر لجّيّ.

و قوله:( يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ) صفة البحر جي‏ء بها لتقرير الظلمات المفروضة فيه فصفته أنّه يغشاه و يحيط به موج كائن من فوقه موج آخر كائن من فوقه سحاب يحجبنه جميعاً من الاستضاءة بأضواء الشمس و القمر و النجوم.

و قوله:( ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ) تقرير لبيان أنّ المراد بالظلمات المفروضة الظلمات المتراكمة بعضها على بعض دون المتفرّقة، و قد أكّد ذلك بقوله:( إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها ) فإنّ أقرب ما يشاهده الإنسان منه هو نفسه و هو أقدر على رؤية يده منه على سائر أعضائه لأنّه يقرّبها تجاه باصرته كيفما أراد فإذا أخرج يده و لم يكد يراها كانت الظلمة بالغة.

فهؤلاء و هم سائرون إلى الله و صائرون إليه من جهة أعمالهم كراكب بحر

١٤٣

لجّيّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب في ظلمات متراكمة كأشدّ ما يكون و لا نور هناك يستضي‏ء به فيهتدي إلى ساحل النجاة.

و قوله:( وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ ) نفي للنور عنهم بأنّ الله لم يجعله لهم، كيف لا؟ و جاعل النور هو الله الّذي هو نور كلّ شي‏ء، فإذا لم يجعل لشي‏ء نوراً لم يكن له نوراً إذ لا جاعل غيره تعالى.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ ) إلى آخر الآية، لما ذكر سبحانه أنّه نور تستنير به السماوات و الأرض و أنّه يختصّ بمزيد نوره المؤمنين من عباده و الّذين كفروا لا نصيب لهم من ذلك شرع يحتجّ على ذلك بما في هذه الآية و الآيات الأربع التالية لها.

فكونه تعالى نور السماوات و الأرض يدلّ عليه أنّ ما في السماوات و الأرض موجود بوجود ليس من عنده و لا من عند شي‏ء ممّا فيهما لكونه مثله في الفاقة، فوجود ما فيهما من موجود من الله الّذي ينتهي إليه الحاجات.

فوجود كلّ شي‏ء ممّا فيهما كما يظهر به نفس الوجود يدلّ على من يظهره بما أفاض عليه من الوجود فهو نور يستنير به الشي‏ء و يدلّ على منوّره بما أشرق عليه من النور و أنّ هناك نوراً يستنير به كلّ شي‏ء فكلّ شي‏ء ممّا فيهما يدلّ على أنّ وراءه شيئاً منزّها من الظلمة الّتي غشيته، و الفاقة الّتي لزمته، و النقص الّذي لا ينفكّ عنه، و هذا هو تسبيح ما في السماوات و الأرض له سبحانه، و لازمه نفي الاستقلال عن كلّ من سواه و سلب أيّ إله و ربّ يدبّر الأمر دونه تعالى.

و إلى ذلك يشير قوله:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ ) و به يحتجّ تعالى على كونه نور السماوات و الأرض لأنّ النور هو ما يظهر به الشي‏ء المستنير ثمّ يدلّ بظهوره على مظهره، و هو تعالى يظهر و يوجد بإظهاره و إيجاده الأشياء ثمّ يدلّ على ظهوره و وجوده.

و تزيد الآية بالإشارة إلى لطائف يكمل بها البيان:

منها: اختصاصها من في السماوات و الأرض و الطير صافّات و هم العقلاء و بعض

١٤٤

ذوات الروح بالذكر مع عموم التسبيح لغيرهم لقوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) .

و لعلّ ذلك من باب اختيار اُمور من أعاجيب الخلقة للذكر فإنّ ظهور الموجود العاقل الّذي يدلّ عليه لفظ( مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) من عجيب أمر الخلقة الّذي يدهش لبّ ذي اللبّ، كما أنّ صفيف الطير الصافّات في الجوّ من أعجب ما يرى من أعمال الحيوان ذي الشعور و أبدعه.

و يظهر من بعضهم أنّ المراد بقوله:( مَنْ فِي السَّماواتِ ) إلخ، جميع الأشياء و إنّما عبّر بلفظ اُولي العقل لكون التسبيح المنسوب إليها من شؤون اُولي العقل أو للتنبيه على قوّة تلك الدلالة و وضوح تلك الإشارة تنزيلاً للسان الحال منزلة المقال.

و فيه أنّه لا يلائم إسناد العلم إليها في قوله بعد:( كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ ) .

و منها: تصدير الكلام بقوله:( أَ لَمْ تَرَ ) و فيه دلالة على ظهور تسبيحهم و وضوح دلالتهم على التنزيه بحيث لا يرتاب فيه ذو ريب فكثيراً مّا يعبّر عن العلم الجازم بالرؤية كما في قوله تعالى:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ) إبراهيم: ١٩، و الخطاب فيه عامّ لكلّ ذي عقل و إن كان خاصّاً بحسب اللفظ.

و من الممكن أن يكون خطاباً خاصّاً بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد كان أراه الله تسبيح من في السماوات و الأرض و الطير صافّات فيما أراه من ملكوت السماوات و الأرض و ليس ببدع منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد أرى الناس تسبيح الحصاة في كفّه كما وردت به الأخبار المعتبرة.

و منها: أنّ الآية تعمّم العلم لكلّ ما ذكر ممّن في السماوات و الأرض و الطير، و قد تقدّم بعض البحث عنه في تفسير قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) الإسراء: ٤٤، و ستجي‏ء تتمّة الكلام فيه في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله.

١٤٥

و قول بعضهم: إنّ الضمير في قوله:( قَدْ عَلِمَ ) راجع إليه تعالى، يدفعه عدم ملائمته للسياق و خاصّة لقوله بعده:( وَ اللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ ) و نظيره قول آخرين: إنّ إسناد العلم إلى مجموع ما تقدّم من المجاز بتنزيل غير العالم منزلة العالم لقوّة دلالته على تسبيحه و تنزيهه.

و منها: تخصيصها التسبيح بالذكر مع أنّ الأشياء تشير إلى صفات كماله تعالى و هو التحميد كما تسبّحه على ما يدلّ عليه البرهان و يؤيّده قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) و لعلّ الوجه فيه كون الآيات مسوقة للتوحيد و نفي الشركاء و ذلك بالتنزيه أمسّ فإنّ من يدعو من دون الله إلهاً آخر أو يركن إلى غيره نوعاً من الركون إنّما يكفر بإثبات خصوصيّة وجود ذلك الشي‏ء للإله تعالى فنفيه إنّما يتأتّى بالتنزيه دون التحميد فافهمه.

و أمّا قوله:( كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ ) فصلاته دعاؤه و الدعاء توجيه من الداعي للمدعوّ إلى حاجته ففيه دلالة على حاجة عند الداعي المدعوّ في غنى عنها فهو أقرب إلى الدلالة على التنزيه منه على الثناء و التحميد.

و منها: أنّ الآية تنسب التسبيح و العلم به إلى من في السماوات و الأرض فيعمّ المؤمن و الكافر، و يظهر بذلك أنّ هناك نورين: نور عامّ يعمّ الأشياء و المؤمن و الكافر فيه سواء، و إلى ذلك تشير آيات كآية الذرّ:( وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏ شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ) الأعراف: ١٧٢، و قوله:( فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: ٢٢ إلى غير ذلك، و نور خاصّ و هو الّذي تذكره الآيات و يختصّ بأوليائه من المؤمنين.

فالنور الّذي ينوّر تعالى به خلقه كالرحمة الّتي يرحمهم بها قسمان: عامّ و خاصّ و قد قال تعالى:( وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) الأعراف: ١٥٦، و قوله:( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ) الجاثية: ٣٠، و قد جمع بينهما في قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً ) الحديد: ٢٨، و ما ذكر فيه من النور هو النور على نور بحذاء

١٤٦

الثاني من كفلي الرحمة.

و قوله:( وَ اللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ ) و من فعلهم تسبيحهم له سبحانه، و هذا التسبيح و إن كان في بعض المراحل هو نفس وجودهم لكن صدق اسم التسبيح يجوز أن يعدّ فعلاً لهم بهذه العناية.

و في ذكر علمه تعالى بما يفعلون عقيب ذكر تسبيحهم ترغيب للمؤمنين و شكر لهم بأنّ ربّهم يعلم ذلك منهم و سيجزيهم جزاء حسناً، و إيذان بتمام الحجّة على الكافرين، فإنّ من مراتب علمه تعالى كتب الأعمال و الكتاب المبين الّتي تثبت فيها أعمالهم فيثبت فيها تسبيحهم بوجودهم ثمّ إنكارهم بألسنتهم.

قوله تعالى: ( وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ) سياق الآية و قد وقعت بين قوله:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ ) إلخ، و هو احتجاج على شمول نوره العامّ لكلّ شي‏ء، و بين قوله:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي ) إلخ، و ما يتعقّبه و هو احتجاج على اختصاص النور الخاصّ، يعطي أنّها كالمتوسّط بين القبيلين أعني بين الأمرين يحتجّ بها على كليهما، فملكه تعالى لكلّ شي‏ء و كونه مصيراً لها هو دليل على تعميمه نوره العامّ و تخصيصه نوره الخاصّ يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

فقوله:( وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) يخصّ الملك و يقصره فيه تعالى فله أن يفعل ما يشاء و يحكم بما يريد لا يسأل عمّا يفعل و هم يسألون، و لازم قصر الملك فيه كونه هو المصير لكلّ شي‏ء، و إذ كان لا مليك إلّا هو و إليه مرجع كلّ شي‏ء و مصيره فله أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

و من هنا يظهر أنّ المراد - و الله أعلم - بقوله:( وَ إِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ) مرجعيّته تعالى في الاُمور دون المعاد نظير قوله:( أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) الشورى: ٥٣.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) إلى آخر الآية. الإزجاء هو الدفع، و الركام المتراكم بعضه على بعض، و الودق هو المطر، و الخلال جمع الخلل و هو الفرجة بين الشيئين.

و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعنوان أنّه سامع فيشمل كلّ سامع، و المعنى: أ لم

١٤٧

تر أنت و كلّ من يرى أنّ الله يدفع بالرياح سحاباً متفرّقاً ثمّ يؤلّف بينه ثمّ يجعله متراكماً بعضه على بعض فترى المطر يخرج من خلله و فرجه فينزل على الأرض.

و قوله:( وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ ) السماء جهة العلو، و قوله:( مِنْ جِبالٍ فِيها ) بيان للسماء، و الجبال جمع جبل و هو معروف، و قوله:( مِنْ بَرَدٍ ) بيان للجبال، و البرد قطعات الجمد النازل من السماء، و كونه جبالاً فيها كناية عن كثرته و تراكمه، و السنا بالقصر الضوء.

و الكلام معطوف على قوله:( يُزْجِي ) ، و المعنى: أ لم تر أنّ الله ينزّل من السماء من البرد المتراكم فيها كالجبال فيصيب به من يشاء فيفسد المزارع و البساتين و ربّما قتل النفوس و المواشي و يصرفه عمّن يشاء فلا يتضرّرون به يقرب ضوء برقه من أن يذهب بالأبصار.

و الآية - على ما يعطيه السياق - مسوقة لتعليل ما تقدّم من اختصاصه المؤمنين بنوره، و المعنى: أنّ الأمر في ذلك إلى مشيّته تعالى كما ترى أنّه إذا شاء نزّل من السماء مطراً فيه منافع الناس لنفوسهم و مواشيهم و مزارعهم و بساتينهم، و إذا شاء نزل برداً فيصيب به من يشاء و يصرفه عمّن يشاء.

قوله تعالى: ( يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ ) بيان آخر لرجوع الأمر إلى مشيّته تعالى فقط. و تقليب الليل و النهار تصريفهما بتبديل أحدهما من الآخر، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ أَرْبَعٍ ) بيان آخر لرجوع الأمر إلى مشيّته تعالى محضاً حيث يخلق كلّ دابّة من ماء ثمّ تختلف حالهم في المشي فمنهم من يمشي على بطنه كالحيّات و الديدان، و منهم من يمشي على رجلين كالأناسيّ و الطيور و منهم من يمشي على أربع كالبهائم و السباع، و اقتصر سبحانه على هذه الأنواع

١٤٨

الثلاثة - و فيهم غير ذلك - إيجازاً لحصول الغرض بهذا المقدار.

و قوله:( يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ ) تعليل لما تقدّم من اختلاف الدوابّ، مع وحدة المادّة الّتي خلقت منها يبيّن أنّ الأمر إلى مشيّة الله محضاً فله أن يعمّم فيضاً من فيوضه على جميع خلقه كالنور العامّ، و الرحمة العامّة و له أن يختصّ بفيض من فيوضه بعضاً من خلقه دون بعض كالنور الخاصّ و الرحمة الخاصّة.

و قوله:( إِنَّ اللهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) تعليل لقوله:( يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ ) فإنّ إطلاق القدرة على كلّ شي‏ء يستوجب أن لا يتوقّف شي‏ء من الأشياء في كينونته على أمر وراء مشيّته و إلّا كانت قدرته عليه مشروطة بحصول ذلك الأمر و هذا خلف.

و هذا باب من التوحيد دقيق سيتّضح بعض الاتّضاح إن شاء الله بما في البحث الآتي.

( بحث فلسفي)

( في معنى علّيّته تعالى للأشياء)

إنّا لا نشكّ في أنّ ما نجده من الموجودات الممكنة معلولة منتهية إلى الواجب تعالى و إنّ كثيراً منها - و خاصّة في الماديّات - تتوقّف في وجودها على شروط لا تحقّق لها بدونها كالإنسان الّذي هو ابن فإنّ لوجوده توقّفاً على وجود الوالدين و على شرائط اُخرى كثيرة زمانيّة و مكانيّة، و إذ كان من الضروريّ كون كلّ ممّا يتوقّف عليه جزءً من علّته التامّة كان الواجب تعالى على هذا جزء علّته التامّة لا علّة تامّة وحدها.

نعم هو بالنسبة إلى مجموع العالم علّة تامّة إذ لا يتوقّف على شي‏ء غيره و كذا الصادر الأوّل الّذي تتبعه بقيّة أجزاء المجموع، و أمّا سائر أجزاء العالم فإنّه تعالى جزء علّته التامّة ضرورة توقّفه على ما هو قبله من العلل و ما هو معه من الشرائط و المعدّات.

هذا إذا اعتبرنا كلّ واحد من الأجزاء بحياله ثمّ نسبنا وحده إلى الواجب تعالى.

و هاهنا نظر آخر أدقّ و هو أنّ الارتباط الوجوديّ الّذي لا سبيل إلى إنكاره

١٤٩

بين كلّ شي‏ء و بين علله الممكنة و شروطه و معدّاته يقضي بنوع من الاتّحاد و الاتّصال بينها فالواحد من الأجزاء ليس مطلقاً منفصلاً بل هو في وجوده المتعيّن مقيّد بجميع ما يرتبط به متّصل الهويّة بغيرها.

فالإنسان الابن الّذي كنّا نعتبره في المثال المتقدّم بالنظر السابق موجوداً مستقلّاً مطلقاً فنجده متوقّفاً على علل و شروط كثيرة و الواجب تعالى أحدها يعود بحسب هذه النظرة هويّة مقيّدة بجميع ما كان يعتبر توقّفه عليه من العلل و الشرائط غير الواجب تعالى فحقيقة زيد مثلاً هو الإنسان ابن فلان و فلانة المتولّد في زمان كذا و مكان كذا المتقدّم عليه كذا و كذا المقارن لوجوده كذا و كذا من الممكنات.

فهذه هو حقيقة زيد مثلاً و من الضروريّ أنّ ما حقيقته ذلك لا تتوقّف على شي‏ء غير الواجب فالواجب هو علّته التامّة الّتي لا توقّف له على غيره، و لا حاجة له إلى غير مشيّته، و قدرته تعالى بالنسبة إليه مطلقة غير مشروطة و لا مقيّدة، و هو قوله تعالى:( يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) .

قوله تعالى: ( لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ اللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يريد آية النور و ما يتلوها المبيّنة لصفة نوره تعالى و الصراط المستقيم سبيله الّتي لا سبيل للغضب و الضلال إلى من اهتدى إليها كما قال:( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ ) الحمد: ٧، و قد تقدّم الكلام فيه في تفسير سورة الحمد.

و تذييل الآية بقوله:( وَ اللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) هو الموجب لعدم تقييد قوله:( لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ ) بلفظة إليكم بخلاف قوله قبل آيات:( لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) .

إذ لو قيل: لقد أنزلنا إليكم آيات مبيّنات و الله يهدي. تبادر إلى الذهن أنّ البيان اللفظيّ هداية إلى الصراط المستقيم و أنّ المخاطبين عامّة مهديّون إلى الصراط المستقيم و فيهم المنافق و الّذين في قلوبهم مرض و الله العالم.

١٥٠

( بحث روائي)

في التوحيد، بإسناده عن العبّاس بن هلال قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) فقال: هاد لأهل السماوات و هاد لأهل الأرض.

و في رواية البرقيّ: هدى من في السماوات و هدى من في الأرض.

أقول: إذا كان المراد بالهداية الهداية الخاصّة و هي الهداية إلى السعادة الدينيّة كان من التفسير بمرتبة من المعنى، و إن كان المراد بها الهداية العامّة و هي إيصال كلّ شي‏ء إلى كماله انطبق على ما تقدّم.

و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن جرير قال: سألتني امرأة أن اُدخلها على أبي عبداللهعليه‌السلام فاستأذنت لها فأذن لها فدخلت و معها مولاة لها فقالت له: يا أباعبدالله قول الله:( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ ) ما عنى بهذا؟ فقال لها: أيّتها المرأة إنّ الله لم يضرب الأمثال للشجر إنّما ضرب الأمثال لبني آدم.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمّد عن أبيهعليهما‌السلام : في هذه الآية( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) قال: بدأ بنور نفسه( مَثَلُ نُورِهِ ) مثل هداه في قلب المؤمن( كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ) و المصباح جوف المؤمن و القنديل قلبه، و المصباح النور الّذي جعله الله في قلبه.

( يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ ) قال: الشجرة المؤمن( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ ) قال: على سواد الجبل لا غربيّة أي لا شرق لها، و لا شرقيّة أي لا غرب لها إذا طلعت الشمس طلعت عليها و إذا غربت غربت عليها( يَكادُ زَيْتُها يُضِي‏ءُ ) يكاد النور الّذي في قلبه يضي‏ء و إن لم يتكلّم.

( نُورٌ عَلى‏ نُورٍ ) فريضة على فريضة، و سنّة على سنّة( يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ) يهدي الله لفرائضه و سننه من يشاء( وَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ ) فهذا مثل ضربه الله للمؤمن.

١٥١

ثمّ قال: فالمؤمن يتقلّب في خمسة من النور: مدخله نور، و مخرجه نور، و علمه نور، و كلامه نور، و مصيره يوم القيامة إلى الجنّة نور. قلت لجعفرعليه‌السلام : إنّهم يقولون: مثل نور الربّ. قال: سبحان الله ليس لله مثل، قال الله:( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ ) .

أقول: الحديث يؤيّد ما تقدّم في تفسير الآية، و قد اكتفىعليه‌السلام في تفسير بعض فقرات الآية بذكر بعض المصاديق كالّذي ذكره في ذيل قوله:( يَكادُ زَيْتُها يُضِي‏ءُ ) و قوله:( نُورٌ عَلى‏ نُورٍ ) .

و أمّا قوله:( سبحان الله ليس لله مثل ) فإنّما ينفي به أن يكون المثل مثلاً للنور الّذي هو اسمه تعالى المحمول عليه فكونه مثلاً له تعالى يؤدّي إلى الحلول أو الانقلاب تعالى عن ذلك بل هو مثل لنوره المفاض على السماوات و الأرض، و أمّا الضمير في قوله:( مَثَلُ نُورِهِ ) فلا ضير في رجوعه إليه تعالى مع الاحتفاظ على المعنى الصحيح.

و في التوحيد، و قد روي عن الصادقعليه‌السلام : أنّه سئل عن قول الله عزّوجلّ:( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ) فقال: هو مثل ضربه الله لنا فالنبيّ و الأئمّة صلوات الله عليهم من دلالات الله و آياته الّتي يهتدى بها إلى التوحيد و مصالح الدين و شرائع الإسلام و السنن و الفرائض، و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

أقول: الرواية من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق و هو من أفضل المصاديق و هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الطاهرون من أهل بيتهعليهم‌السلام و إلّا فالآية تعمّ بظاهرها غيرهم من الأنبياءعليهم‌السلام و الأوصياء و الأولياء.

نعم ليست الآية بعامّة لجميع المؤمنين لأخذها في وصفهم صفات لا تعمّ الجميع كقوله:( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ) إلخ.

و قد وردت عدّة من الأخبار من طرق الشيعة في تطبيق مفردات الآية على

١٥٢

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أهل بيتهعليهم‌السلام و هي من التطبيق دون التفسير، و من الدليل على ذلك اختلافها في نحو التطبيق‏ كرواية الكلينيّ في روضة الكافي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام و فيها: أنّ المشكاة قلب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و المصباح النور الّذي فيه العلم، و الزجاجة عليّ أو قلبه، و الشجرة المباركة الزيتونة الّتي لا شرقيّة و لا غربيّة إبراهيمعليه‌السلام ما كان يهوديّاً و لا نصرانيّاً، و قوله:( يَكادُ زَيْتُها يُضِي‏ءُ ) إلخ، يكاد أولادهم أن يتكلّموا بالنبوّة و إن لم ينزل عليهم ملك.

و ما رواه في التوحيد، بإسناده إلى عيسى بن راشد عن الباقرعليه‌السلام و فيه: أنّ المشكاة نور العلم في صدر النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسّلم)، و الزجاجة صدر عليّ( يَكادُ زَيْتُها يُضِي‏ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ) يكاد العالم من آل محمّد يتكلّم بالعلم قبل أن يسأل( نُورٌ عَلى‏ نُورٍ ) إمام مؤيّد بنور العلم و الحكمة في إثر الإمام من آل محمّد.

و ما في الكافي، بإسناده عن صالح بن سهل الهمدانيّ عن الصادقعليه‌السلام و فيه: أنّ المشكاة فاطمةعليها‌السلام ، و المصباح الحسنعليه‌السلام ، و الزجاجة الحسينعليه‌السلام ، و الشجرة المباركة إبراهيمعليه‌السلام ، و( لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ ) ما كان يهوديّاً و لا نصرانيّاً، و( نُورٌ عَلى‏ نُورٍ ) إمام بعد إمام، و( يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ) يهدي الله للأئمّةعليهم‌السلام من يشاء.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله:( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ ) قال: قلب إبراهيم لا يهوديّ و لا نصرانيّ.

أقول: و هو من قبيل ذكر بعض المصاديق، و قد ورد مثله من طرق الشيعة عن بعض أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كما تقدّم.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك و بريدة قالا: قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: بيوت الأنبياء. فقام إليه أبوبكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها لبيت عليّ و فاطمة؟ قال: نعم من أفاضلها.

١٥٣

أقول: و رواه في المجمع، عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرسلاً، و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره بإسناده‏ عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام و لفظه: قال: هي بيوت الأنبياء و بيت عليّعليه‌السلام منها. و هو على أيّ حال من قبيل ذكر بعض المصاديق على ما تقدّم.

و في نهج البلاغة من كلام لهعليه‌السلام عند تلاوته( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ) و إنّ للذكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلاً فلم يشغلهم تجارة و لا بيع عنه يقطعون به أيّام الحياة، و يهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين، و يأمرون بالقسط و يأتمرون به و ينهون عن المنكر و ينتهون عنه.

كأنّما قطعوا الدنيا إلى الآخرة و هم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك فكأنّما اطّلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه، و حقّقت القيامة عليهم عذابها فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتّى كأنّهم يرون ما لا يرى الناس و يسمعون ما لا يسمعون.

و في المجمع في قوله تعالى:( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ ) و روي عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام : أنّهم قوم إذا حضرت الصلاة تركوا التجارة و انطلقوا إلى الصلاة و هم أعظم أجراً ممّن لم يتّجر.

أقول: أي لم يتّجر و اشتغل بذكر الله كما في روايات اُخر.

و في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه و غيره عن أبي هريرة و أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله تعالى:( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ) قال: هم الّذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله.

أقول: كأنّ الرواية غير تامّة و تمامها فيما روي عن ابن عبّاس قال: كانوا رجالاً يبتغون من فضل الله يشترون و يبيعون فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما بأيديهم و قاموا إلى المسجد فصلّوا.

و في المجمع في قوله تعالى:( وَ اللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ ) و سئل أميرالمؤمنينعليه‌السلام : كيف يحاسبهم في حالة واحدة؟ فقال: كما يرزقهم في حالة واحدة.

و في روضة الكافي، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبدالله عن أبيه عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله عزّوجلّ جعل السحاب

١٥٤

غرابيل المطر هي تذيب البرد حتّى يصير ماء لكي لا يضرّ شيئاً يصيبه، و الّذي ترون فيه من البرد و الصواعق نقمة من الله عزّوجلّ يصيب بها من يشاء من عباده.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ أَرْبَعٍ ) قال: على رجلين الناس، و على بطنه الحيّات، و على أربع البهائم، و قال أبوعبداللهعليه‌السلام : و منهم من يمشي على أكثر من ذلك.

١٥٥

( سورة النور الآيات ٤٧ - ٥٧)

وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ  وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( ٤٧ ) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ( ٤٨ ) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ( ٤٩ ) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ  بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٥٠ ) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا  وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٥١ ) وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٥٢ ) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ  قُل لَّا تُقْسِمُوا  طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ  إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ٥٣ ) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ  فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ  وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا  وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( ٥٤ ) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا  يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا  وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٥٥ ) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ٥٦ ) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ  وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ  وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ٥٧ )

١٥٦

( بيان)

تتضمّن الآيات افتراض طاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أنّها لا تفارق طاعة الله تعالى، و وجوب الرجوع إلى حكمه و قضائه و أنّ الإعراض عنه آية النفاق، و تختتم بوعد جميل للصالحين من المؤمنين و إيعاد للكافرين.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ) إلخ، بيان حال بعض المنافقين حيث أظهروا الإيمان و الطاعة أوّلاً ثمّ تولّوا ثانياً فالإيمان بالله هو العقد على توحيده و ما شرع من الدين، و الإيمان بالرسول هو العقد على كونه رسولاً مبعوثاً من عند ربّه أمره أمره و نهيه نهيه و حكمه حكمه من غير أن يكون له من الأمر شي‏ء، و طاعة الله هي تطبيق العمل بما شرعه، و طاعة الرسول الايتمار و الانتهاء عند أمره و نهيه و قبول ما حكم به و قضى عليه.

فالإيمان بالله و طاعته موردهما نفس الدين و التشرّع به، و الإيمان بالرسول و طاعته موردهما ما أخبر به الرسول من الدين بما أنّه يخبر به و ما حكم به و قضى عليه في المنازعات و الانقياد له في ذلك كلّه.

فبين الإيمانين و الطاعتين فرق ما من حيث سعة المورد و ضيقه، و يشير إلى ذلك ما في العبارة من نوع من التفصيل حيث قيل:( آمَنَّا بِاللهِ وَ بِالرَّسُولِ ) فاُشير إلى تعدّد الإيمان و الطاعة و لم يقل: آمنّا بالله و الرسول بحذف الباء، و الإيمانان مع ذلك متلازمان لا ينفكّ أحدهما عن الآخر، قال تعالى:( وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَ رُسُلِهِ ) النساء: ١٥٠.

فقوله:( وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ) أي عقدنا القلوب على دين الله و تشرّعنا به و على أنّ الرسول لا يخبر إلّا بالحقّ و لا يحكم إلّا بالحقّ.

و قوله:( ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ) أي ثمّ يعرض طائفة من هؤلاء القائلين:( آمَنَّا بِاللهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ) عن مقتضى قولهم من بعد ما قالوا ذلك.

و قوله:( وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) أي ليس اُولئك القائلون بالمؤمنين، و المشار

١٥٧

إليه باسم الإشارة القائلون جميعاً لا خصوص الفريق المتولّين على ما يعطيه السياق لأنّ الكلام مسوق لذمّ الجميع.

قوله تعالى: ( وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ) يشهد سياق الآية أنّ الآيات إنّما نزلت في بعض من المنافقين دعوا إلى حكم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منازعة وقعت بينه و بين غيره فأبى الرجوع إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و في ذلك نزلت الآيات.

و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما كان يحكم بينهم بحكم الله على ما أراه الله كما قال تعالى:( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ ) النساء: ١٠٥. فللحكم نسبة إليه بالمباشرة و نسبة إلى الله سبحانه من حيث كان الحكم في ضوء شريعته و بنصبه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحكم و القضاء.

و بذلك يظهر أنّ المراد بالدعوة إلى الله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى المتابعة لما يقتضيه شرعه تعالى في مورد النزاع، و بالدعوة إلى رسوله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى متابعة ما يقضى عليه بالمباشرة، و أنّ الظاهر أنّ ضمير( لِيَحْكُمَ ) للرسول، و إنّما اُفرد الفاعل و لم يثنّ إشارة إلى أنّ حكم الرسول حكمه تعالى.

و الآية بالنسبة إلى الآية السابقة كالخاصّ بالنسبة إلى العامّ فهي تقصّ إعراضنا معيّناً منهم و الإعراض المذكور في الآية السابقة منهم إعراض مطلق.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ) الإذعان الانقياد، و ظاهر السياق و خاصّة قوله:( يَأْتُوا إِلَيْهِ ) أنّ المراد بالحقّ حكم الرسول بدعوى أنّه حقّ لا ينفكّ عنه، و المعنى و إن يكن الحقّ الّذي هو حكم الرسول لهم لا عليهم يأتوا إلى حكمه منقادين فليسوا بمعرضين عنه إلّا لكونه عليهم لا لهم، و لازم ذلك أنّهم يتّبعون الهوى و لا يريدون اتّباع الحقّ.

قوله تعالى: ( أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ ) إلى آخر الآية. الحيف الجور.

و ظاهر سياق الآيات أنّ المراد بمرض القلوب ضعف الإيمان كما في قوله

١٥٨

تعالى:( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) الأحزاب: ٣٢، و قوله:( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ) الأحزاب: ٦٠، و غير ذلك من الآيات.

و أمّا كون المراد بمرض القلوب النفاق كما فسّر به فيدفعه قوله في صدر الآيات:( وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) فإنّه حكم بنفاقهم، و لا معنى مع إثبات النفاق للاستفهام عن النفاق ثمّ الإضراب عنه بقوله:( بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

و قوله:( أَمِ ارْتابُوا ) ظاهر إطلاق الارتياب و هو الشكّ أن يكون المراد هو شكّهم في دينهم بعد الإيمان دون الشكّ في صلاحية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحكم أو عدله و نحو ذلك لكونها بحسب الطبع محتاجة إلى بيان بنصب قرينة.

و قوله:( أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ) أي أم يعرضون عن ذلك لأنّهم يخافون أن يجور الله عليهم و رسوله لكون الشريعة الإلهيّة الّتي يتّبعها حكم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبنيّة على الجور و إماتة الحقوق الحقّة، أو لكون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يراعي الحقّ في قضائه.

و قوله:( بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) إضراب عن الترديد السابق بشقوقه الثلاثة و ذلك أنّ سبب إعراضهم لو كان مرض قلوبهم أو ارتيابهم لم يأتوا إليه مذعنين على تقدير كون الحقّ لهم بل كانوا يعرضون كان الحقّ لهم أو عليهم، و أمّا الخوف من أن يحيف الله عليهم و رسوله فلا موجب له فالله بري‏ء من الحيف و رسوله فليس إعراضهم عن إجابة الدعوة إلى حكم الله و رسوله إلّا لكونهم حقّ عليهم أنّهم ظالمون.

و الظاهر أنّ المراد بالظلم التعدّي عن طور الإيمان مع الإقرار به قولاً كما قال آنفاً:( وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) أو خصوص التعدّي إلى الحقوق غير الماليّة، و لو كان المراد مطلق الظلم لم يصحّ الإضراب عن الشقوق الثلاثة السابقة إليه لأنّها من مطلق الظلم و يدلّ عليه أيضاً الآية التالية.

و قد بان بما تقدّم أنّ الترديد في أسباب الإعراض على تقدير عدم النفاق بين الاُمور الثلاثة حاصر و الأقسام متغايرة فإنّ محصّل المعنى أنّهم منافقون غير

١٥٩

مؤمنين إذ لو لم يكونوا كذلك كان إعراضهم إمّا لضعف إيمانهم و إمّا لزواله بالارتياب و إمّا للخوف من غير سبب يوجبه فإنّ الخوف من الرجوع إلى حكم الحاكم إنّما يكون إذا احتمل حيفه في حكمه و ميله عن الحقّ إلى الباطل و لا يحتمل ذلك في حكم الله و رسوله.

و قد طال البحث في كلامهم عمّا في الآية من الترديد و الإضراب و لعلّ فيما ذكرناه كفاية، و من أراد أزيد من ذلك فليراجع المطوّلات.

قوله تعالى: ( إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ) إلى آخر الآية سياق قوله:( إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ ) و قد اُخذ فيه( كانَ ) و وصف الإيمان في( الْمُؤْمِنِينَ ) يدلّ على أنّ ذلك من مقتضيات طبيعة الإيمان فإنّ مقتضى الإيمان بالله و رسوله و عقد القلب على اتّباع ما حكم به الله و رسوله التلبية للدعوة إلى حكم الله و رسوله دون الردّ.

و على هذا فالمراد بقوله:( إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ) دعوة بعض الناس ممّن ينازعهم كدعوة بعض المتنازعين المتخاصمين الآخر إلى التحاكم إلى الله و رسوله ليحكم بينهم، و يدلّ عليه تصدير الجملة بلفظة( إِذا ) و لو كان المراد به دعوة الله و رسوله بمعنى إيجاب رجوع المؤمنين في منازعاتهم إلى حكم الله و رسوله كان ذلك حكماً مؤبّداً لا حاجة فيه إلى التقييد بالزمان.

و بذلك يظهر ضعف ما قيل: إنّ فاعل( دُعُوا ) المحذوف هو الله و رسوله، و المعنى: إذا دعاهم الله و رسوله. نعم مرجع الدعوة بآخره إلى دعوة الله و رسوله.

و كيف كان تقصر الآية قول المؤمنين على تقدير الدعوة إلى حكم الله و رسوله في قولهم: سمعنا و أطعنا و هو سمع و طاعة للدعوة الإلهيّة سواء فرض الداعي هو أحد المتنازعين للآخر أو فرض الداعي هو الله و رسوله أو كان المراد هو السمع و الطاعة لحكم الله و رسوله و إن كان بعيداً.

و انحصار قول المؤمنين عند الدعوة في( سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ) يوجب كون الردّ للدعوة ليس من قول المؤمنين فيكون تعدّياً عن طور الإيمان، كما يفيده قوله:

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453